العدة في أصول الفقه

باب الأخبار (1)
حقيقة الخبر: ما دخله الصدق أو الكذب، كقوله: رأيت زيداً، وضربت عمراً، يحتمل أن يكون صادقاً، ويحتمل أن يكون كاذباً.
وقد يدخل في معنى الخبر ما ليس بخبر، كالإيماء والإشارة، مثل أن يقال ": أَمَر بك العسكر"؟، فيومىء برأسه، أو يشير بيده "لا"، أو"نعم"، فيحتمل الصدق أو الكذب، وليس بخبر؛ لأن حقيقة الخبر ما كان لفظاً أو نطقاً.
وليس يعرف كون الخبر صدقاً أو كذباً من نفس الأخبار، وإنما يعلم بدليل غيره أنه صدق أو كذب، لا نفس الأخبار، فلهذا المعنى جاء الطلب والاستخبار والتمني خارجاً من هذا الحد لكونهما مما لا يصح فيهما الصدق أو الكذب.
ولا يجوز أن يقال: حد الخبر: ما صح أن يدخله الصدق فقط؛ لأن
__________
(1) راجع هذا الباب في "المسودة" ص (232-314)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (106/ب-131/أ)، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/236-331)، و"شرح الكوكب المنير" ص (210-224)، (246-318) من الملحق.

(3/839)


الإخبار عن الحال خبر، وإن لم يجرِ فيه الصدق.
ولا يحد بأنه: ما صح فيه الكذب فقط؛ لأن الخبر عن الواجب خبر، وان لم يدخله الكذب.
ولا يجمع أيضاً بين الأمرين لامتناع جوازهما في أخبار الله تعالى وأخبار رسوله، وإن كان [123/أ] خبر صدق لا يجوز أن يكون إلا على صفة واحدة.
ومن الناس من قال: هذا الحد على ما كانت تعرفة العرب من الأخبار، ولا يدخل في ذلك أخبار الله تعالى وأخبار رسوله صلى الله عليه [وسلم].
مسألة (1)
للخبر صيغة تدل بمجردها على كونه خبراً كالأمر، ولا يفتقر إلى قرينة يكون بها خبراً، وهو قول القائل: قام زيد، وزيد قام، وضرب زيد، وزيد ضارب.
وقالت المعتزلة: لا صيغة له، وإنما يدل اللفظ عليه بقرينة، وهو قصد المخبر إلى الإخبار، كقولهم في الأمر (2).
وقالت الأشعرية: الخبر نوع من الكلام، وهو معنى قائم في النفس يعبر عنه بعبارة تدل تلك العبارة على الخبر لا بنفسها، كما قالوا في الأمر والنهي، والكلام في هذه كالكلام في تلك المسألة (3).
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (232)، و"شرح الكوكب المنير" ص (248-249) من الملحق.
(2) انظر: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري (2/541-542).
(3) سبق للمؤلف الكلام على هذه المسألة ص (214).

(3/840)


دليلنا:
ما ذكرنا، وهو أن ما احتمل الصدق والكذب خبر، وما لم يحتمل فليس بخبر، فدل على أن الخبر إنما كان خبراً لما وضع له من كونه محتملاً للأمرين، كما قلنا في الأمر، لما كان استدعاء الفعل ممن هو دونه، دل على أن الأمر إنما يكون أمراً لكونه استدعاء.
مسألة (1)
العلم يقع من جهة الأخبار المتواترة، مع اختلاف في صفة التواتر كما يقع من جهة المشاهدات. وهذا ظاهر على أصلنا؛ لأنه أثبت العلم بأخبار الصفات. وهو قول كافة أهل العلم.
وحكي عن بعض الأوائل -وقيل هم السمنية (2)، وقيل: هم البراهمة (3)- أنه لا يقع العلم بشيء من الأخبار، وإنما يقع العلم بالمحسوسات والمشاهدات.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (233)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (107/أ-108/أ)، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/244-247)، و"شرح الكوكب المنير" ص (258) من الملحق.
(2) السمنية فرقة ضالة، ظهرت قبل الاسلام، قالت بتناسخ الأرواح، كما قالت بقدم العالم، وزعموا أن النظر والاستدلال باطل، والمعلومات لا تدرك إلا من جهة الحس.
انظر: "الفرق بين الفرق" ص (270)، و"الغلو والفرق الغالية" للدكتور عبد الله السامرائي ص (129).
(3) البراهمة: فرقة ضالة، ظهرت في الهند، تنسب إلى رجل يقال له: "براهم"، كان يقول بنفي النبوات، وأن وقوعها أمر مستحيل في حكم العقل؛ لأن الرسول إما أن يأتي بأمر معقول. أو بأمر غير معقول فإن كان الأول فقد كفانا فيه العقل، =

(3/841)


دليلنا:
أنا نجد نفوسنا عالمة بالبلدان النائية "كمكة" و"البصرة" و"الصين" وغير ذلك من البلاد والسير الماضية كأيام بني أمية وبني العباس، كما نجدها عالمة بالمشاهدات والمحسوسات. ومنكر هذا كمنكر علم المشاهدات من السوفسطائية (1)، ولا طريق له غير الخبر.
فإن قيل: لو كان العلم بالخبر جارياً مجرى العلم بالمشاهدات، لم يحتج في ذلك إلى تكرار الخبر وتواتره، كما لا يحتاج إلى تكرار المشاهدات والمحسوسات، ولما احتيج في ذلك إلى التواتر، دل على أن العلم لا يقع به.
قيل: إنما اختلفا من هذا الوجه؛ لأن العلم بالمشاهدات من كمال العقل، إذ لا يصح أن يكون كامل العقل يشاهد (2) الشيء ولا بعلمه، وليس كذلك العلم بالأخبار؛ لأن الله تعالى أجرى العادة في العلم به عند
__________
= فلا حاجة لنا إلى الرسول. وإن كان الثاني، فلا يمكن قبوله، لأنه خروج بالانسانية إلى حيز البهيمية وقد انقسموا إلى فرق، ذكر الشهرستاني منهم ثلاث فرق، هي: أصحاب "البددة"، وأصحاب "الفكرة"، وأصحاب "التناسخ".
انظر: "الملل والنحل" للشهرستاني (2/250-255).
(1) السفسطة: كما يقول الجرجاني في كتابه "التعريفات" ص (63) : (قياس مركب من الوهميات، والغرض منه تغليط الخصم واسكاته).
والسفسطائية -كما يقول ابن حزم في كتابه "الفصل" (1/7)- "هم مبطلو الحقائق"، وهم ثلاث فرق في ذلك: فرقة نفت الحقائق جملة، وفرقة شكت فيها، وفرقة فصلت، فقالت: "هي حق عند من هي عنده حق، وهي باطل عند من هي عنده باطل".
وقد ناقشهم ابن حزم في كتابه السابق ذكره ص (8-9).
(2) في الأصل: (فيشاهد).

(3/842)


التواتر [123/ب] فكان وقوع العلم به تابعاً للعادة.
يبين صحة هذا أن الله تعالى قد أجرى العادة ممن يدرس الشيء ليحفظه إذا كرر الدرس، وكذلك أجرى العادة في السكر عند تكرار الشرب.
واحتج المخالف:
بأنه لو كان خبر التواتر يوجب العلم ويقطع العذر لوجب أن لا تنكر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنكم تعلمونه بنقل تواتر، فلما لم تثبتوا نبوته قطعاً بطل أن يكون التواتر موجباً للعلم.
والجواب: أنه إنما لم تثبت نبوته قطعاً؛ لأنها لم تثبت ضرورة، وإنما عرفت بالاستدلال القوي، وهو الآيات والمعجزات على يده، ونقل إلينا ذلك نقلاً، فلذلك (1) لم تثبت ضرورة، لا لمعنى يعود إلى الأخبار.
وجواب آخر أجود من هذا وهو: أن ردهم للخبر لا يدل على أن العلم لم يقع به، بدليل أنهم شاهدوا معجزاته وعاينوها وردوها، ومعلوم أن العلم يقع بالمشاهدات، ومع هذا فقد ردوها، وكذلك الخبر عنه.
واحتج: بأن اليهود تخبر بأن موسى عليه السلام قال: شريعته مؤبدة، وهم عدد كثير وجم غفير، ولا يقع العلم بخبرهم، والنصارى تخبر بقتل المسيح عليه السلام وصلبه، ولا يقع العلم بخبرهم.
والجواب: أن النصارى عدد يسير أخبروا بمشاهدة قتله، وكانوا قد شبه لهم. ويجب أن يكون أولهم وآخرهم ووسطهم سواء في النقل، والعدد الكثير إذا رووا عن عدد قليل، فإن العلم لا يقع بصحة المخبر عنه.
وأما خبر اليهود فكذلك أيضأ؛ لأن "بُخْتنصّر" (2) قتلهم، فلم
__________
(1) في الأصل: (فلما).
(2) "بختنصر" رجل من العجم، يقال: إن اسمه "بخترشه"، كان في خدمة الملك =

(3/843)


يكن خبرهم عمن يثبت بنقله التواتر.
[و] قد قيل: إن "ابن الرواندي" (1) لقنهم ذلك بأصبهان، ولا يعرف ذلك إلا من جهته.
والدليل عليه: أنهم لم يقولوا هذا لعيسى ولا لمحمد عليهما السلام، فلو كان صحيحاً لوجب من طريق العادة أن يكون ذلك أولى ما يقولونه لهما، ويقصدون بذلك تكذيبهما.
وجواب آخر وهو: أن اليهود لم تكن مجمعة على هذا الخبر، بدلالة أن جماعة منهم آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك النصارى.
ولأن النصارى كانوا يختلفون -وإلى وقتنا هذا- في قتل المسيح، واليهود اختلفوا في آية الرجم.
واحتج: بأنه إذا جاز عليهم الصدق مع كثرتهم، جاز عليهم الكذب أيضاً، وما الفرق بينهما؟
والجواب: أن الصدق له سبب يدعو إلى الإخبار به، وهو علم كل واحد منهم بما شاهده (2) وأدركه، وليس للكذب سبب، وإنما يكذب الكاذب لغرض يخصه [124/أ]، وأغراض العدد الكثير لا تتفق، وخواطرهم لا تتسق إلا بجامع يجمعها وحامل يحملها على ذلك من رغبة أو رهبة، ولهذا
__________
= "لهراسب"، ثم في خدمة ابنه "بشتاسب"، ثم في خدمة "بهمن"، وأن "بهمن" هذا وجهه إلى بيت المقدس لإجلاء اليهود عنها، فسار إليهم، وانتصر عليهم، بعد أن أنزل بهم الهزيمة الساحقة.
وهناك حكايات أخرى عنه، ساقها الطبري في "تاريخه" (1/535-565)، فارجع اليه، إن شئت.
(1) هو: أحمد بن يحيى بن الرواندي، وقد سبقت ترجمته ص (777).
(1) في الأصل: (يشاهده).

(3/844)


إذا دخل غريب "بغداد"، واستدل على "جامع المنصور"، ولم يجز أن يقع من العدد الكثير أن يدلوه على "بِيعة"، ويجوز أن يتفق هذا من عدد يسير، ويجوز أن يتفق العدد الكثير على أن يدلوه على المسئول عنه، وَيصدقوا فيه، فدل على الفرق بينهما.
واحتج: بأنه لا يخلو إما أن يقع العلم بخبر الأول أو الأخير، ولا يجوز وقوعه بالأول ولا بالأخير؛ لأنه آحاد، فدل على أنه لا يصح أن يقع العلم بالخبر بوجه.
والجواب: أن العلم يقع بخبر جميعهم؛ لأن الله تعالى أجرى العادة بحصول العلم عند اجتماعهم، ولهذا إذا شككنا فيه مشكك لم نشك، وفي خبر الواحد نشك فقط، فسقط ما قالوه.
مسألة (1)
والعلم الواقع بالأخبار المتواترة ليس من شرطه
أن يجمع الناس كلهم على التصديق به
وهذا ظاهر على أصلنا؛ لأن أحمد رحمه الله أثبت أخبار الصفات، وهي موجبة للعلم مع اختلاف الناس في قبولها.
خلافاً لليهود في قولهم: من شرط وقوع العلم به أن لا يكون في الناس من يكذبه (2).
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (233).
(2) في الأصل: (يكذبها).

(3/845)


دليلنا:
أنه لو كان من شرط (1) العلم به اجتماع الناس على تصديقه، لم يجز وقوع العلم بخبر على وجه من الوجوه، إذ يستحيل من الواحد أن يلْق جميع الناس ويسير إليهم أو يسيروا إليه (2)، ولما أجمعنا على صحة العلم بخبر التواتر، دل على فساد قولهم.
فإن قيل: لا يعتبر العلم بتصديق جميع الناس، وإنما يعتبر أن لا يعلم فيهم من يكذب المخبرين.
قيل: إذا جاز أن يعلم صحة المخبر عنه مع تجويز أن يكون في الناس من يكذبه، لم يكن من شرط (3) وقوع العلم بصحته اجتماع الكافة على التصديق.
فإن قيل: إذا لم أعلم أن فيهم مكذباً علمت أنه لا مكذب فيهم، إذ لو كان فيهم ذلك لكذب المخبرين، وكان تكذيبه حينئذ ينقل إلينا؛ لأن العادة جارية بأن مثل هذا لا يترك نقله.
قيل: إذا كانت العادة جارية أن مثل هذا لا يترك نقله، فالعادة أيضاً جارية أن الجماعة الكثيرة التي لا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب، إذا أخبرت بشيء وقع العلم بخبرهم، ولا فرق بين من منع ذلك وبين من منع ترك نقل تكذيب من يُكذب المخبرين.
وأيضاً: فإنا نجد أنفسنا ساكنة إلى العلم ببعض البلدان [124/ب] التي أخبرنا بها، وإن كنا نعلم أن في الناس من لم يسمع بذلك ولم يخطر على باله،
__________
(1) في الأصل: (شرطه).
(2) في الأصل: (يصير) بالصاد في الموضعين.
(3) في الأصل: (شرطه).

(3/846)


فضلاً عن أن يصدق به، فلو كان تصديق جميع الناس شرطاً في وقوع العلم بخبر المخبر، لم يصح وقوع العلم لنا بما ذكرنا وفي علمنا بوجود ذلك دليل على فساد ما ذهبوا إليه.
واحتج المخالف:
بأن المسلمين كلهم كالنفس الواحدة، ولا يجوز وقوع العلم بنقلهم معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنها تكون شاهدة لنفسها.
والجواب: أن هذا المعنى قائم في اليهود؛ لأنهم كالنفس الواحدة، فيلزمهم أن لا يثبتوا معجزات موسى عليه السلام بنقلهم لها.
فإن قيل: إنما صح وقوع العلم بمعجزات موسى عليه السلام، لأن المسلمين والنصارى قد شهدوا بصحتها. وأما اليهود فلم يشهدوا بصحة معجزات محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلهذا لم يجز وقوع العلم بنقلها.
قيل (1) : المسلمون والنصارى عند اليهود كفار، فكيف تصح شهادتهم؟! بل وجود شهادتهم عند اليهود كعدمها.
مسألة (2)
العلم الواقع بالأخبار المتواترة معلوم من جهة
الضرورة لا من جهة الاكتساب والاستدلال
وهو قول أكثر أهل العلم.
وحكي عن البلخي وغيره من المعتزلة: أن العلم يقع به اكتساباً، ولا يقع اضطراراً.
__________
(1) في الأصل: (فصل)، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه؛ لأن ما بعد ذلك جواب عن الاعتراض السابق.
(2) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (234)، و"التمهيد في أصول الفقه" =

(3/847)


دليلنا:
أنه لو لم يكن معلوماً ضرورة لأدى إلى الشك في النبوات، وهذا لا يجوز.
ولا يلزم على هذا معرفة الله تعالى أنها استدلال. ولا يفضي ذلك إلى الشك؛ لأنه لا طريق إلى معرفة القديم من طريق الإحاطة والإدراك، وليس كذلك المحدثات، لان الإحاطة والإدراك يصدق (1) عليها.
ويبين هذا أن ما جعل طريقاً إلى معرفة الضرورات يتطرق على المحدثات، وهو الحواس الخمس، ولا يتطرق ذلك على القديم.
ولأن هذا النوع من العلم علم بمحدث لا يمكن دفعه عن النفس ولا الشك منه ولا الارتياب، فثبت أنه معلوم ضرورة كالمشاهدات، ولو كان مكتسباً لدخل فيه الشك إذا شكك فيه والريبة.
وإنما شرطنا في الدليل: علم بمحدَث، لئلا يدخل عليه معرفة الله تعالى، لأنها معلومة على وجه لا يمكن الارتياب والشك فيه، وهي من جهة الكسب؛ لأن ذلك علم بقديم لا بمحدث.
ودليل آخر وهو: أنه لو كان معلوماً من جهة الاستدلال [125/أ] والكسب لم يقع إلا لمن هو من أهل التأويل والنظر، فلما وقع ذلك لمن ليس من أهل التأويل والنظر كالصبيان وغيرهم، ثبت أنه معلوم من جهة الضرورة.
__________
= الورقة (108/أ-ب)، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/247-250)، و"شرح الكوكب المنير" ص (258-259) من الملحق.
(1) في الأصل: (يتصدق).

(3/848)


واحتج المخالف:
بأنه لما حسنت المطالبة بالدلالة على أن خبر التواتر يوجب العلم.
وحسنت إقامة الدلالة عليه علمنا أن العلم الواقع عنده اكتساب، وليس هو بضرورة.
والجواب: أن هذا باطل بالعلم بالمشاهدات، فإن السوفسطائية تطالبنا بالدليل على صحة ذلك؛ لأن ذلك عندهم ظن وحسبان، ومع هذا فقد أجمعنا نحن ومخالفينا على حصول العلم الضروري في ذلك مع حسن الدليل عليه، كذلك فيما حصل من جهة الخبر المتواتر.
واحتج: بأنه لا يقع العلم بخبرهم إلا على صفات تصحبهم يستدل بها على صدقهم، فدل على أنه من جهة الاستدلال، يدل على ذلك أن العلم بحدث الأجسام، لما وقع لأجل الصفات التي عليها الأجسام من اجتماع وافتراق وحركة وسكون كان العلم بها مكتسباً.
والجواب: أن العلم بصدقهم لا يفتقر إلى اعتبار صفاتهم ولا يستدل بذلك على صدقهم، بل نعلم صدقهم، ولهذا يخالف حدوث الأجسام، فإن العلم لا يقع به إلا بعد النظر والاستدلال باختلاف صفات معانيها.
واحتج: بأن العلم الواقع بأخبار الله وأخبار رسوله استدلالا غير ضرورة، كذلك خبر غيرهما.
والجواب: أنا عرفنا الله بأنه واحد صادق بالاستدلال، وإذا ورد الخبر من عنده قطعنا على صدقه استدلالا، وكذلك أخبار رسوله عليه السلام، لأن ثبوت نبوته من حيث الاستدلال وجبت بظهور المعجزات.

(3/849)


مسألة (1)
خبر التواتر لا يولد العلم فينا، وإنما العلم الواقع عنده من فعل الله تعالى، يفعله عند الإخبار بالعادة التي أجراها بذلك، وهو قادر على أن يفعل فينا ذلك مع عدم الإخبار، وهو بمنزلة إجرائه تعالى العادة بخلق الولد عند الوطء، وإن كان قادراً على خلقه مع عدم الوطء، هذا بناءً على إبطال القول بالتولد.
ومن الناس من يقول: إن العلم بذلك يولد فينا عند خبر المخبرين.
دليلنا:
أن هذا العلم لو كان متولداً من (2) الخبر، لوجب أن يكون المخبر الأخير هو الذي ولد خبره فينا العلم؛ لأن العلم حصل عند خبره، ولو كان كذلك لوجب أن يكون خبره يوقع لنا العلم به ابتداءً؛ لأنه هو الموجب للعلم، فوجب أن يكون موجباً [125/ب] لذلك في جميع الأحوال كما أن خبر الجماعة الذي يحصل بهم التواتر، لما أوجب العلم كان موجباً لذلك على كل حال، وفي علمنا بأن خبر الأخير لو وقع ابتداء لم يوجب العلم، علمنا أنه لا يولد العلم على وجه من الوجوه.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الخبر الأخير مولداً للعلم فينا على شرط تقدم الأخبار الأخر له، كما أن الاعتماد يولد اصطكاكاً في المحلين على شرط وجود الصلابة فيهما. والنظر مولد للعلم على شرط أن يكون الناظر عالماً بالدليل. وإذا كان كذلك لم يكن في امتناع وقوع العلم بالخبر الأخير لو انفرد ما يمنع أن يكون مولداً لعلم، إذا تقدمته أخبار أخر.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (235)، و"شرح الكوكب المنير" ص (259) من الملحق.
(2) في الأصل: (في).

(3/850)


قيل: الشيء إنما جعل شرطاً في غيره، إذا كان متعلقاً به أو محدداً لصفة فيه، ألا ترى أن صلابة المحلين لما كانت شرطاً في كون الاعتماد مولداً للاصطكاك، كانت موجبه لتجدد صفة بمحل الاعتماد، وكذلك كون الناظر عالماً بالدليل، لما كان شرطاً في كون نظره مولداً للعلم، كان موجباً لتجدد صفة له، وإذا كان كذلك لم يكن لكل واحد من الأخبار تعلق بالآخر، ولم يتجدد صفة للخبر الأخير بتقدم الأخبار الأخر له، لم يجز أن يكون تقديم غيره من الأخبار شرطاً في توليده العلم.
ولأن الخبر من صفات الحي كالعلم والإرادة والإدراك، ثم ثبت أن تلك الصفات لاتولد شيئاً؛ لأن العلم لا يولد المعلوم، والإرادة لا تولد المراد، والإدراك لا يولد المدرك، بل المعلوم والمراد والمدرك خلق الله تعالى، كذلك الخبر يجب أن لا يولد شيئاً.
ولأن الأكل والشرب والعلاج وجبر الكسر يطلب به حصول غيره، وهو الشبع والري وزوال المرض، ومع ذلك فهو غير مولد، كذلك الخبر.
واحتج المخالف:
بأن العلم بخبر التواتر، لو كان تابعاً للعادة لأجل فعل الله تعالى، لوجب أن تختلف العادة في ذلك، فيقع العلم بخبر الجماعة التي يصح بهم التواتر، ولا يقع بخبر جماعة مثلها، كما أن خلق الولد عند الوطء لما كان من فعل الله تعالى لما أجرى به العادة، جاز أن تختلف فيه العادة، فيخلق الولد عند وطء واحد، ولا يخلق عند وطء آخر، وفي بطلان اختلاف العادات في وقوع العلم بالأخبار دليل على أن العلم فيها ليس من فعل الله تعالى، وإنما هو توليد.
والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون العلم بالشيء واقعا من فعل الله تعالى، وإن لم تختلف العادة فيه، ألا ترى أنا نعلم أن وجود هذه الأجسام

(3/851)


التي نشاهدها ضرورة، لأن العلم [126/أ] بوجودها من كمال العقل، ويكون هذا العلم من فعل الله تعالى فينا، وإن لم تختلف العادة فيه، كذلك لا ننكر أن يكون وقوع العلم بمخبر الخبر المتواتر يجري على طريقة واحدة ويكون مع ذلك من فعل الله تعالى.
واحتج: بأنه لما كان العلم يحصل بوجود الخبر علمنا أنه مولد له.
والجواب: أن الشبع والري يحصلان (1) بالأكل والشرب، وليس هما مولدين لهما (2).
مسألة (3)
لا يجوز على الجماعة العظيمة كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته.
وزعمت الإمامية (4) أن ذلك قد يجوز على الجماعة لداع يدعو إليه، وعلى هذا بنوا كلامهم في ترك نقل النص [في علي رضي الله عنه] (5).
__________
(1) في الأصل: (يحصل).
(2) في الأصل: (ليس هو مولداً له).
(3) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (235)، و"التمهيد" الورقة (109/أ-ب)، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/258-259)، و"شرح الكوكب المنير" ص (261-262) من الملحق.
(4) الإمامية: فرقة تقول بأن الإمامة لعلي رضي الله عنه نصاً، ولا يجوز أن تخرج عن أولاده من بعده، فهي منصب إلهي لهم. وجعلوا التصديق بذلك ركناً من أركان الإيمان.
وقد افترقوا إلى فرق كثيرة، لا زال بعضها موجوداً في عصرنا الحاضر.
انظر: "الفرق بين الفرق" ص (53) وما بعدها، و"اللباب" (1/83)، و"التعريفات" للجرجاني ص (21) و"الغلو والفرق الغالية" ص (82-112).
(5) الزيادة من "المسودة" ص (235).

(3/852)


والدليل على فساد هذا القول:
أن كتمان ما يحتاج إلى نقله يجري في القبح مجرى الإخبار عنه بخلاف ما هو به، فلما لم يجز على الجماعة التي يصح بهم التواتر أن يخبروا عن (1) الشيء بخلاف ما هو مع علمهم بحاله، كذلك لايجوز أن يجتمعوا على كتمان ما يحتاج إلى معرفته.
يبين صحة هذا أن رجلاً لو دخل بغداد يسأل كل من يلقاه عن جامع المنصور، لم يجز أن يكتموه كلهم ذلك، كما لا يجوز أن يخبروا عنه بالكذب، وكذلك لو حدث في الجامع يوم الجمعة وقت الخطبة حادثة عظيمة هائلة، لم يجز أن يترك جميع من حضرها نقلها، كما لا يجوز أن يخبر جميعهم عنها بالكذب مع علمهم بأنه كذب.
فإن قيل: أليس قد تركت الصحابة نقل شرائع الأنبياء المتقدمين، وإن لم يجز أن يتواطؤوا (2) على الكذب، فما أنكرتم مثله ها هنا.
قيل: إنما تركت نقل ما ذكرت لبعد عهده، ولفقد ما يدعو الى نقله، فأما ما قرب عهده، ووجد الداعي الى نقله، فغير جائز أن يجتمعوا على ترك نقله.
يبين صحة هذا: أن شريعة موسى عليه السلام لما لم تكن متباعدة العهد، وكان هناك ما يدعو إلى نقلها -وهو بقاء تمسك قوم بها- نقلت. وكذلك شريعة عيسى عليه السلام، ولم تنقل شريعة غيرهما من الأنبياء مثل هود ويونس وأمثالم عليهم السلام؛ لما لم يبقَ من يتدين بها، وكانت منسوخة.
فإن قيل: النصارى لم ينقلوا كلام المسيح في المهد، ونقلوا إحياءه
__________
(1) في الأصل: (على).
(2) في الأصل: (يواطوا).

(3/853)


الموتى وإبراءه الأكمه والأبرص مع الحاجة إلى معرفة ذلك وإن كان عهده غير متباعد، فبان بهذا: أن قرب العهد وبعده لا تأثير له في باب النقل.
قيل: إنما لم ينقلوا كلام المسيح في المهد؛ لأنه قد كان ذلك قبل ظهور أمره، وكان إحياؤه [126/ب] الموتى وإبراؤه (1) الأكمه والأبرص بعد ظهوره، فلهذا نقلوا ذلك.
وقد يقوى نقل الشيء لأجل ظهوره، ويترك لأجل خفائه، ألا ترى أن اليهود قد نقلت ما كان ظاهراً من معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم -، مثل إتيانه بالقرآن وتحدي العرب به، ولم ينقلوا ما لم يكن في ظهور ذلك من معجزاته؟
وكذلك قد اختلف نقل سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في باب الظهور والخفاء، فلم يجرِ جميعها على طريقة واحدة، ألا ترى أن كثيراً من السنن تذهب على العالم، وإن لم يذهب عليهم ما ظهر منها واشتهر؟
فإن قيل: فما أنكرتم أن يكون الصحابة تركت نقل ما يحتاج إليه لداع دعاهم إلى ذلك من تقية أو خوف فتنة أو نحو ذلك.
قيل: كل من يجوز عليه ترك نقل ما يحتاج إليه لما ذكرت، فإنه يجوز عليه الإخبار عن الشيء بالكذب لأجل هذه العلة بعينها، فلما لم يجز هذا على الصحابة رضي الله عنهم، كذلك لا يجوز عليهم ترك نقل ما يحتاج إلى نقله.
فإن قيل: أليس قد تركوا نقل المسح إلا وقت وقوع الخلاف فيه، وتركوا نقل القِران والإفرَاد حتى اختلفوا فيه، وكذلك الرجم، ونظائر ذلك كثير؟.
__________
(1) في الأصل: (ابراء).

(3/854)


قيل: أما المسح، فإنهم لم يتركوا نقله، بل نقلوه نقلاً مستقصاً، إلا أن من لم ينقله، لم ينقله؛ لأنه جعل القرآن أولى منه، وهكذا القول في الرجم.
فأما القِران والإفراد: فإنه قد كان علمهم المناسك (1)، فلم يحتاجوا إلى نقله، وإنما اختلفوا في نقله؛ لأن من شاهده وقت التلبية يلبي بالعمرة مع الحج نقل القِران، ومن شاهده يلي بالحج من غير ذكر العمرة نقل الإفراد، على حسب ما بينا في المناسك من مسائل الخلاف (2)، فقد صح بذلك فساد ما تعلقوا به في ذلك.
مسألة (3)
ولا يعتبر في التواتر عدد محصور، وإنما يعتبر ما يقع به العلم على حسب ما جرت به العادة أن النفس تسكن إليه، لا يتأتى منهم التواطؤ على
__________
(1) في الأصل: (بالمناسك).
(2) هذا الكتاب يسمى: التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة، وجد منه المجلد الرابع من نسخة كتبت سنة (870 هـ)، ويبتدىء بكتاب الحج، ويثنى بكتاب البيوع. على أنه لم يكمل كتاب البيوع في هذا المجلد، ويقع هذا المجلد في (597) صفحة من القطع الكبير، كل صفحة يقع فيها (25) سطراً، وفي كل سطر (16) كلمة تقريباً. والمخطوطة في دار الكتب المصرية رقم (140) فقه حنبلي. وقد صورت في معهد المخطوطات بالجامعة العربية على ميكروفيلم رقم (18) اختلاف الفقهاء.
وقد فصلنا الكلام فيه في القسم الدراسي، عند كلامنا عن مؤلفات أبي يعلى.
(3) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (235)، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (108/ب-109/أ)، و"روضة الناظر" وشرحها "نزهة الخاطر" (1/255-257)، و"شرح الكوكب المنير" ص (262) من الملحق.

(3/855)


الكذب، إما لكثرتهم أو لدينهم وصلاحهم؛ لأنه لا دليل على عددهم من طريق العقل ولا من طريق الشرع، ولكنا نعلم أنه يجب أن يكونوا أكثر من أربعة؛ لأن خبر الأربعة لو جاز أن يكون موجباً للعلم لوجب أن يكون خبر كل أربعة كل موجباً ولو كان هكذا لوجب إذا شهد أربعة على رجل بالزنا، أن يعلم الحاكم صدقهم ضرورة، ويكون ما ورد به الشرع من السؤال عن عدالتهم باطلاً، وإذا كان ذلك صحيحاً دل على أن خبر الأربعة لا يوجب العلم بصدق مُخبرِهم.
فإن قيل: لا يمتنع [127/أ] أن الله تعالى لم يفعل ذلك عند شهادة الشهود لضرر من المصلحة، وفعل ذلك عند الخبر الذي ليس بشهادة.
قيل: لا فرق بين الخبر الواقع على وجه الشهادة، وبين الواقع على غيرها، بدليل: أن الجماعة التي يقع لنا العلم بخبرهم، لا فرق بين أن يشهدوا عند الحاكم بحق، وبين أن يكون خبرهم بغير شهادة في وقوع العلم بخبرهم، كذلك فيمن دونهم.
وقد حكي عن قوم: أن العلم يقع بخبر اثنين.
وعن آخرين: يقع بخبر أربعة.
وعن آخرين: يقع بخمسة فصاعداً (1).
وعن آخرين: يقع باثني عشر؛ اعتباراً بعدد النقباء.
__________
(1) من حَد وقوع العلم باثنين، اعتبر نصاب الشهادة.
ومن حده بأربعة، اعتبر أعلى نصاب الشهادة، كما في إثبات الحدود.
ومن حده بخمسة اعتبر الزيادة على أعلى عدد في الشهود.
وهناك من حده بعشرين، لقوله تعالى: (إنْ يكن منْكمْ عشرونَ صَابرُونَ).
انظر: "التمهيد في أصول الفقه" الورقة (108/ب).

(3/856)


وعن آخرين: يقع بسبعين؛ اعتباراً بعدد أصحاب موسى عليه السلام.
وعن آخرين: يقع بثلاثمائة وكسر، اعتباراً بعدد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر.
وهذا غير صحيح، لأن الاعتبار بمن يقع العلم بخبرهم، وليس يختص ذلك بعدد دون عدد؛ لأن العدد الكثير قد يتواطئوا على الكذب، ولا يقع العلم بخبرهم، بل يقع بخبر أقل منهم، إذا لم يتواطئوا على ذلك، فلم يجز أن يشترط في ذلك عدد محصور.
والمواضع التي ذكروها إنما اتفق حصول ذلك العدد، لا أنه اشترط العلم بخبرهم.
مسألة (1)
يجوز ورود التعبد بأخبار الآحاد من طريق العقل ومن الناس من يمنع منه.
دليلنا:
أنه لا يمتنع أن تكون المصلحة لنا في العمل بما يخبرنا به الواحد، وإن جاز أن يكون غير صادق، ألا ترى أن من خَوّفنا سلوك طريق نربد سلوكه، فإن الواجب علينا: أن نقبل منه، وأن نتوقف فيما أردنا من سلوك ذلك الطريق، وإن جاز أن يكون كاذباً في خبره، وإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً أن يتعبدنا الله تعالى بقبول خبر الواحد في باب الديانات.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (238)، و"التمهيد" الورقة (109/ب-110/ب). و"روضة الناظر" وشرحها "نزهة الخاطر" (1/264- 265)، و"شرح الكوكب المنير" ص (267) من الملحق.

(3/857)


فإن قيل: فيلزمكم على هذا: أن تجيزوا ورود التعبد بالعمل لما يخبر به الواحد، وإن كان فاسقاً، كما يجب علينا قبول خبر الفاسق إذا خَوفنا من سلوك بعض الطرق.
قيل: العقل لا يمنع من ذلك، وإنما نرجع في المنع منه إلى السمع.
وأيضاً: فإن الله تعالى قد تعبد الحاكم بقبول قول الشهود للعمل به، وإن جاز أن يكونوا غير صادقين.
وكذلك تعبد الله المستفتى بالعمل على قول المفتي، مع جواز كونه كاذباً فيما يفتي به، كذلك لا يمتنع أيضاً: أن يتعبد الله تعالى بالعمل بما يخبر به الواحد مع جواز كونه غير صادق.
فإن قيل: فيلزمكم أن تجيزوا ورود التعبد بصدق النبي، وإن لم يكن معه ما يدل على صدقه من الإعلام بالمعجزة، وأن تجيزوا [127/ب] العمل بخبر الواحد في إثبات القرآن وأصول الدين.
قيل: أما العمل بخبر النبي، فإنما لم يجب ما لم يكن معه ما يدل على صدقه؛ لأن العمل بخبر الواحد، إنما يجب علينا إذا ورد السمع بذلك، فما لم تقم الحجة بأصل الشريعة فإنا لا نعلم أنا قد تعبدنا بالعمل بخبر الواحد في الشرعيات، فإذا كان كذلك، كانت الحجة إنما تقوم بأصل الشريعة، إذا أقام الله تعالى الإعلام بالمعجزة على من تعبدنا على لسانه، ليدلنا بذلك على صدقه، ويؤمننا من غلطه فيما هو الحجة فيه، لم يجز لنا القبول منه، ما لم يعلم صدقه، وليست هذه حال خبر الواحد؛ لأن تجويزنا لكذبه لا يمنع من أن يلزمنا العمل به من جهة النبي، بأن يوجب علينا العمل بما يخبرنا الواحد.
وأما خبر الواحد في إثبات القرآن، فإنه لا يمتنع أن يتعبد بقبول خبره فيه، فيدل على ما تضمنه من الحلال والحرام، ولا يقطع على أنه من القرآن، وإنما منع الشرع منه.

(3/858)


مسألة (1)
يجب العمل بخبر الواحد، إذا كان على الصفة التي يجوز معها قبول خبره.
نص عليه رحمه الله في مواضع:
فقال في رواية أبي الحارث: إذا كان الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحيحاً ونقله الثقات، فهو سنة، ويجب العمل به على من عقله وبلغه، ولا يلتفت إلى غيره من رأي ولا قياس.
وقال أيضاً رحمه الله في رواية أبي الحارث في موضع آخر: إذا جاء خبر الواحد، وكان إسناده صحيحاً وجب العمل به، ثم قال: أليس قصة القبلة حين حولت، أتاهم الخبر وهم يصلون، فتحولوا نحو الكعبة.
وخبر الخمر أهراقوها، ولم ينتظروا غيره؟
وقال أيضاً رحمه الله في رواية الفضل بن زياد: خبر الواحد صحيح، إذا كان إسناده صحيحاً، وذكر قصة القبلة حين حولت، وقصة الخمر لما حرمت.
وقال أيضاً رحمه الله في رواية إبراهيم بن الحارث: إن قوماً دفعوا خبر الواحد: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل قول ذي اليدين (2) حتى سأل غيره (3).
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (238)، و"التمهيد" الورقة (110/ب- 114/أ) و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/268-279)، و"شرح الكوكب المنير" ص (267-270) من الملحق.
(2) ذو اليدين، حجازي من بني سليم، يقال له: "الخرباق". صحابي وليس هو ذا الشمالين كما زعم. وهو الذي كلم النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سها في الصلاة.
عاش ذو اليدين حتى روى عنه بعض متأخري التابعين.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (2/475)، و"الاصابة" القسم الثاني ص (420) طبعة دار نهضة مصر.
(3) هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في =

(3/859)


وليس هذا حجة، ذو اليدين جاء إلى يقين النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيله، فلم يقبل منه، وهذا جاءه خبر لم يكن عنده خلافه. فلم يقبله.
وقال أيضاً رحمه الله في رواية الميموني: من الناس من يحتج في رد خبر الواحد: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقنع بقول ذي اليدين، وليس هذا شبيه ذاك، ذو اليدين أخبر بخلاف يقينه (1)، ونحن ليس عندنا علم نرده، وإنما هو علم يأتينا به.
ونحو هذا قال في رواية أحمد بن الحسين (2) الترمذي (3).
__________
= كتاب الصلاة، باب من لم يتشهد في سجدتي السهو (1/82).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له (1/403).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء الرجل يسلم في الركعتين من الظهر والعصر (2/247).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب السهو في السجدتين (1/231).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب السهو، باب ما يفعل من سلم من ركعتين ناسياً وتكلم (3/17).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب فيمن سلم من اثنتين أو ثلاثاً ساهياً (1/383).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب سجدتي السهو من الزيادة (1/290).
وأخرجه عنه الطيالسي في "مسنده" في كتاب الصلاة، باب من سلم من ركعتين (1/110).
(1) الضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) في طبقات الحنابلة: (الحسن) مكبراً.
(3) أبو الحسن من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه المسائل الفقهية والأحاديث النبوية.
له ترجمة في "طبقات الحنابلة" (1/37).

(3/860)


وبهذا قال [128/أ] جمهور الفقهاء والمتكلمين.
وقال قوم من أهل البدعة: لا يجوز العمل به، ولا يجوز ورود التعبد به.
وقال القاشاني (1) وأبو بكر بن داود: لا يجوز العمل به من طريق الشرع، وكان يجوز ورود التعبد به.
وقال الجبائي: لا يقبل في الشرعيات أقل من اثنين.
دليلنا:
قوله تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُل فِرْقَة منْهُمْ طَائفَة ليَتَفقهُوا فِي الدين وَليُنذرُوا قَومَهُمْ إذَاً رَجعوا إلَيْهَمْ لًعَلهُمْ يَحْذرُونَ) (2).َ
وقوله: (فَلَوْلاَ) معناه: فهلا نفروا.
وقوله: (فِرْقَة) معناه جماعة، أقلها ثلاثة.
وقيل: قد يقع هذا الاسم على واحد بدليل قوله تعالى: (وَإنْ طَائِفَتَان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اْقتَتَلُوا فَأصْلحُوا بَينَهُمَا...) (3)، إلى قوله. (بَيْنَ أخَوَيكُم)، وقوله. (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (4)، قيل أقلها واحد.
__________
(1) هو: محمد بن إسحاق أبو بكر القاشاني، بالمثلثة، أو القاساني، بالمهملة. كان ظاهرياً، ثم صار شافعياً. له مؤلفات، منها: "كتاب الرد على داود في إبطال القياس"، و"كتاب الفتيا الكبير".
له ترجمة في: "الفهرست" ص (300) طبعة المكتبة التجارية.
(2) (122) سورة التوبة.
(3) (9) سورة الحجرات.
(4) (2) سورة النور.

(3/861)


وقال محمد بن كعب (1) في قوله: (إن نعْفُ عَنْ طَائفَة منكُمْ) (2)، كان هذا رجلاً واحداً (3).
وقوله: (مِنْهُم) يعني من المسلمين.
وقوله: (طَائِفَة) معناه: جماعة، أقلها واحد.
وإذا ثبت هذا فمن الآية دليلان:
أحدهما: قوله: (لِيُنْذرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِم) فلولا أن الإنذار قد يقع بالآحاد ما حثّ عليه ولا أمر به.
والثاني: قوله: (لَعَلّهُمْ يَحْذرُونَ) فلو لا أن خبر الواحد يوجب العمل لما وقع به الحذر.
فإن قيل: الآية تقتضي وجوب الإنذار، وليس فيها وجوب الرجوع إلى قول المنذر، بل يجوز أن يرجع المنذر إلى أمر آخر، وليس من حيث وجب الإنذار وجب الرجوع إليه، فإنه يجب على الإمام أن يخبر غيره بمعرفة الله تعالى ووحدانيته، ولا يجب على المخبر الرجوع إلى قوله، بل يرجع إلى دليل آخر. ولهذا نظائر.
__________
(1) هو: محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظي أبو حمزة، وقيل: أبو عبد الله.
أحد العلماء بالتفسير مع الثقة والتقى والورع. روى عن المغيرة بن شعبة ومعاوية وابن عباس وخلق، وعنه محمد بن المنكدر وموسى بن عبيدة وابن عجلان وآخرون. مات سنة (118) وقيل: غير ذلك.
له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (9/422)، و"الخلاصة" ص (357) طبعة بولاق.
(2) (66) سورة التوبة.
تفسير "محمد بن كعب" لهذه الآية، ذكره الطبري بسنده في "تفسيره" (10/173) طبعة الحلبي.

(3/862)


قيل: في الإية تحذير من المخالفة بقوله: (لعَلّهمْ يحْذرُونَ) والتحذير لا يكون إلا في الأمر الواجب. وعلى أن الظاهر يقتضي وجوب الرجوع إلى قول المنذر حيث أمر هو بالإنذار، وإلا بطل فائدة الأمر بذلك، وإنما لم يلزم الرجوع إلى ما ذكروه من الأخبار عن معرفة الله سبحانه وما أشبه ذلك، لقيام (1) دليل عليه، وهو: أنه يجب العلم بتلك الأشياء ومعرفتها قطعاً.
فإن قيل: المراد بالآية: أنهم يرجعون إلى قومهم فيفتونهم ويؤخذ بقولهم في الفتيا.
قيل: الآية عامة في الأمرين معاً. وعلى أن الإنذار في الظاهر إنما يعتبر به عن الإخبار عن الشيء دون الفتيا.
فإن قيل: الحذر هو: أن ينظر ويعمل بما دل عليه الدليل.
قيل: الطائفة إذا قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من لم يفعل كذا أحرق [128/ب] بالنار، أو من فعل كذا أحرق بالنار، كان الحذر منه بالقبول والعمل بما أخبره، ومن لم يقبله ولم يعمل بذلك، لم يكن حاذراً ما أنذر به.
ويدل عليه قوله تعالى: (إنْ جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنبأِ فَتبينوا أَن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهالةِ) (2) فدل على أن العدل إذا جاء بنبأ، لا نتبين ولا نتثبت فيه، من طريق دليل الخطاب، فلو كانا سواءً لم يكن لتخصيصه بالفاسق بالتثبت معنى.
ويدل عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث لتبليغ شرعه وأحكامه إلى النواحي والقبائل والبلاد آحاداً، فبعث أبا بكر أميراً على الحاج، وبعث
__________
(1) في الأصل: (لقوام).
(2) (6) سورة الحجرات.

(3/863)


عمر ساعياً على الصدقة، وبعث عليا قاضياً إلى اليمن، وبعث. معاذاً جابياً للصدقات إلى اليمن، وبعث عتاب بن أسيد (1) إلى مكة والياً، وبعث مصعب بن عمير (2) إلى المدينة، وأمر منادياً بتحريم الخمر، وتحريم صيام أيام منى، وغير ذلك مما يكثر نقله، فلو لا أن خبر الواحد يوجب العمل ما بعث إليهم ما لا يجب العمل عليهم بقوله.
وكذلك أيضاً بعث الكتب، فكتب إلى كسرى كتاباً، وكتب إلى قيصر كتاباً، وبعث به مع واحد، فدل على ما قلناه.
فإن قيل: هذه أخبار آحاد، فلا يحتج بها في إثبات خبر الواحد.
قيل: وإن كانت آحاداً في اللفظ فهي متواترة في المعنى بمجموعها؛ لأن الأمة تلقتها بالقبول، وتطابقت على العمل بها.
فإن قيل: فما ينكر أن يكون قد تقدم علمهم بالأحكام، كما قلتم: إنه يقدم علمهم بوجوب العمل بأخبار الآحاد.
__________
(1) هو: عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس أبو عبد الرحمن القرشي الأموي. أسلم يوم فتح "مكة"، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على "مكة" عام الفتح ولم يزل أميراً عليها. حتى وفاته سنة (13 هـ)، في اليوم الذي مات فيه أبو بكر، رضي الله عن الجميع.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1023)، و"الإصابة" القسم الرابع ص (429) طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (257)، طبعة بولاق.
(2) هو: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف أبو عبد الله، القرشي العبدري. من السابقين إلى الإسلام. ومن أول من هاجر إلى الحبشة. بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قبل الهجرة، يقرىء أهلها القرآن، ويعلمهم دينهم. شهد بدراً، وكان حامل الراية. وشهد أحداً، حاملاً الراية، وفيها استشهد.
له ترجمة قي: "الاستيعاب" (4/1473)، و"الإصابة" القسم السادس ص (123)، طبعة دار نهضة مصر.

(3/864)


قيل: الأحكام لم يوجد فيها الخبر المتواتر، ولو وجد ذلك لعلمناه، كما علمنا سائر ما تواتر به الخبر.
وأما وجوب العمل بها: فقد كان يتواتر به الخبر، وعلم (1) المسلمون والكفار ذلك من فعله وقوله، كما علمناه.
فإن قيل: أليس قد كان يبعث الدعا [ة] إلى الإيمان بالله وبالرسول وهذا لم يكن معلوماً من جهة الداعي. فما ينكر ذلك للأحكام.
قيل: وجوب ذلك عندنا بالشرع دون العقل، ولا فرق بينهما، وعند المخالف: وجوبه من طريق العقل، فبعث من ينبههم على ما في عقولهم، وليس كذلك سائر الأحكام؛ فإنه لا طريق لهم إليها إلا من جهة خبر من بعثه إليهم.
وأيضاً: فإن الصحابة أجمعت على العمل بخبر الواحد، لأنا نعلم أن بعضهم كان يقبل من بعض، ولا يطالبه بالتواتر والاستفاضة، وهذا معلوم من أحوالهم ضرورة.
فروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عمل بخبر المغيرة (2) ومحمد
__________
(1) في الأصل: (وعلمه).
(2) هو: المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي، أبو، عبد الله، وقيل: أبو عيسى. أسلم عام الخندق. أحد دهاة العرب المشهورين. ولاه عمر البصرة، ثم عزله عنها وولاه الكوفة، وأقره عثمان عليها، ثم عزله. ولما تم الأمر لمعاوية أعاده والياً عليها. ومات بها سنة (50 هـ).
له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1445)، و"الإصابة" القسم السادس ص (197)، طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (385)، طبعة بولاق.

(3/865)


ابن مَسْلَمة (1) في ميراث الجدة (2).
وعمل عمر رضي الله عنه بخبر عبد الرحمن بن عوف (3) [129/أ] في أخذ الجزية من المجوس.
وعمل بخبر حَمل في مالك بن النابغة في غرة عبد أو أمة في الجنين، وقال: كدنا أن نقضي فيه برأينا.
وعمل بخبر الضحاك بن سفيان في توريث النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة أشْيَم الضبابى من دية زوجها.
وقال عبد الله بن عمر: كنا نخابر أربعين سنة، فلا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع بن خديج، فتركناها لقول رافع.
__________
(1) هو: محمد بن مسلمة بن سلمة بن خالد الأنصاري الحارثي، أبو عبد الرحمن.
وقيل: أبو عبد الله - صحابي. شهد بدراً والمشاهد كلها. استخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة في بعض غزواته. اعتزل الفتنة. مات بالمدينة سنة (43 هـ) وله سبع وسبعون سنة تقريباً.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1377)، و"الإصابة" القسم السادس ص (33)، طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (359)، طبعة بولاق.
(2) هذا الحديث سيأتي تخريجه ص (870)، فقد ذكره المؤلف بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أطعمها السدس).
(3) هو: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن الحارث القرشي الزهري، أبو محمد. جمع بين الهجرتين، هجرة الحبشة، وهجرة المدينة. شهد بدراً والمشاهد كلها. أحد العشرة المبشرين بالجنة. وأحد الستة الذين جعل عمر المشورة فيهم. مات بالمدينة ودفن بالبقيع، وصلى عليه عثمان، ذلك سنة (31 هـ). عن عمر يناهز الخامسة والسبعين.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (2/844)، و"الإصابة" القسم الرابع ص (346) طبعة دار نهضة مصر. و"الخلاصة" ص (232)، طبعة بولاق.

(3/866)


وعمل عثمان رضي الله عنه بخبر فريعة بنت مالك (1) في سكنى المتوفى عنها [زوجها] (2).
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: ما حدثني أحد بحديث إلا
__________
(1) هي: فُرَيْعَة بنت مالك بن سنان الخدرية؟ ويقال لها: الفارعة. وهي أخت أبي سعيد الخدري، وهي التي أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تمكث في بيتها، حتى يبلغ الكتاب أجله. وقد عمل عثمان بما روت.
لها ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1903)، و"الإصابة" (8/166).
(2) حديث فريعة - رضي الله عنها - هذا أخرجه عنها الترمذي في كتاب الطلاق باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها (3/499)، ولفظه: (.. أنها -أي فريعة- جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدْرة، وأن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا، حتى إذا كان بطرف القدوم -موضع حول المدينة- لحقهم فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله صلي الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يترك لي مسكناً يملكه، ولا نفقة. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". فالت: فانصرفت، حتى إذا كنت في الحجرة، أو في المسجد، ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمر بي، فنوديت له، فقال: "كيف قلت"؟ قالت: فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، قال: "أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله".
قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً.
قالت: فلما كان عثمان، أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته، فاتبعه، وقضى به.
ثم قال الترمذي في الحديث: (حديث حسن صحيح).
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الطلاق، باب في المتوفى عنها تنتقل (1/536).
وأخرجه عنها النسائي فيه، باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل (6/165).
وأخرجه عنها ابن ماجه فيه، باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها (1/654).
وأخرجه عنها الدارمي فيه، باب خروج المتوفى عنها زوجها (2/90).
وأخرجه عنها الإمام الشافعي في كتاب النفقات، باب اعتداد المتوفى عنها في بيت زوجها... (2/409).

(3/867)


استحلفته إلا أبا بكر، وصدق أبو بكر (1).
ورجع ابن عباس عن قوله : إنما (2) الربا في النسيئة (3)، بخبر أبي سعيد الخدري (4).
__________
(1) كلام علي - رضي الله عنه - هذا قاله ضمن حديث رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الأستغفار (1/349)، ولفظه: (كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً، نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، قال: وحدثني أبو بكر، وصَدَق أبو بكر، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وما من عبد يذنب ذنباً، فيحسن الطهور، ثم يقوم، فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله، إلاَ غَفَر الله له"، ثم قرأ هذه الآية: "وَالَذيِنَ إذَا فَعَلُوا فَاحشَةً، أوْ ظَلموا أَنفُسَهم، ذَكَرُوا اللهَ...").
وأخرجه عنه ابن ماجه في كَتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في أن الصلاة كفارة (1/446)، ولفظه قريب من لفظ أبي داود.
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (1/2)، ولفظه قريب من لفظ أبي داود. وسنده حسن، وصححه ابن حبان (2454).
(2) في الأصل: (لهما).
(3) قصة رجوع ابن عباس رضي الله عنهما عن حصره الربا في ربا النسيئة، أوردها البيهقي في سننه الكبرى بسنده، وذلك في كتاب البيوع، باب ما يستدل به على رجوع من قال من الصدر الأول: "لا ربا إلا في النسيئة" عن قوله ونزوعه عنه (5/281-282).
(4) حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - هذا أخرجه مسلم عنه في كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً (3/1211)، ولفظه: (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبرّ بالبرّ، والشعير بالشعير، والتّمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء").
وأخرجه عنه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالفضة (3/92).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/9).

(3/868)


وعملوا بخبر عائشة في التقاء الختانين.
وعمل زيد بن ثابت برواية امرأة من الأنصار: أن الحائض تنفر بلا وداع (1).
ورجيع أهل قباء إلى خبر الواحد في تحويل القبلة.
وكذلك رجع جماعة في إراقة الخمر إلى خبر الواحد.
ومثل هذا كثير، يطول شرحه، فدل على إجماعهم.
فإن قيل: طريق ذلك كله من طريق الآحاد، فلا يجوز إثبات خبر الواحد بمثله.
__________
(1) قصة رجوع زيد بن ثابت رضي الله عنه في ذلك، أخرجها البخاري في كتاب الحج، باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت (2/210) بسنده إلى عكرمة قال: إن أهل المدينة سألوا ابن عباس رضي الله عنهما عن امرأة طافت، ثم حاضت، قال لهم: تنفر، قالوا: لا نأخذ بقولك وندع قول زيد، قال: إذا قدمتم المدينة، فسلوا، فقدموا المدينة فسألوا، فكان فيمن سألوا أم سليم، فذكرت حديث صفية.
وقد ذكر البخاري حديث صفية قبل هذا، وذلك أنها حاضت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أحابستنا هي"؟ قالوا: إنها قد أفاضت.
قال: "فلا إذاً".
وأخرج ذلك: مسلم في كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض (2/963). بسنده إلى طاوس، قال: كنت مع ابن عباس، إذ قال زيد بن ثابت: تفتى أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ فقال له ابن عباس: أما لا، فسل فلانة الأنصارية هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قاد: فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك، وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت.
وأخرج ذلك أيضاً: البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الحج، باب ترك الحائض الوداع (5/163-164)، وساق كلاً من لفظ البخاري ومسلم.

(3/869)


قيل: هذا متواتر من طريق المعنى، وقد بيناه.
وعلى أنه مع كثرته، لا يجوز أن يكون جميعه باطلاً، كما لا يجوز أن يقال: جميع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجوز أن يكون خطأ، وكما لا يجوز أن يقال: إن الجماعة الكثيرة من المسلمين لا يجوز أن يكون جميعهم كَذَبَة في خبرهم، مع اعتقادهم الإسلام.
فإن قيل: يجوز أن يكون حكموا بهذه الأخبار مع سبب قارنها أوجب العلم بصدقها.
قيل: لم يرد غير الأخبار ورجوعهم إليها، فدل على أنه كان سببها.
ولأنه لا يجوز أن ينقل الخبر ويترك السبب الذي لأجله حكموا به.
وعلى أن ابن عمر قال: فتركناها لقول رافع.
وقال عمر: لو لم نسمع هذا؛ لقضينا برأينا. فدل على أن القضاء بالخبر حصل.
فإن قيل: فقد روي عنهم: أنهم ردوا خبر الواحد ولم يقبلوه حتى انضاف إلى المخبر غيره.
فروي عن أبي بكر في قصة الجدة: فيكم من سمع من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] شيئأ، فأخبره المغيرة بن شعبة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطعمها السدس) (1) فقال أبو بكر: من يشهد معك؟ فقال: محمد بن مسلمة: أنا، فلما كملا شاهدين عمل بقولهما.
__________
(1) هذا الحديث أخرجه أبو داود في كتاب الفرائض، باب في الجدة (2/109-110). وأخرجه الترمذي في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة (4/419-420).
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة (2/909-910).

(3/870)


وعن عمر أن أبا موسى (1) استأذن عليه ثلاثاً، فلم يؤذن له، فانصرف، فراسله عمر فقال: لم انصرفت؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثاً، فلم يؤذن له، فلينصرف) (2)، فقال: من يشهد لك؟ فمضى أبو موسى [128/ب] إلى الأنصار، فقالوا: نبعث معك بأصغرنا أبي سعيد الخدري فمضى، فسمع عمر منهما.
__________
(1) هو: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر الأشعري أبو موسى.
أسلم بمكة قديماً، ثم رجع إلى قومه، ثم قدم في جماعهَ من الأشعريين على النبي صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر. ولاه النبي صلى الله عليه وسلم اليمن ثم ولاه عمر البصرة، ثم عزله عنها عثمان بعد أن وليها صدراً من خلافته، ولكن عثمان ولاه الكوفة. فظل والياً عليها حتى عزله علي. مات بالكوفة، وقيل بمكة سنة (44 هـ).
له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/979)، و (4/1762)، و"الاصابة" القسم الرابع ص (211)، طبعة دار نهضة مصر.
(2) قصة استئذان أبي موسى الأشعري على عمر رضي الله عنهما وما جرى فيها، رواها أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، أخرجها عنه البخاري في كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثاً (8/67).
وأخرجها عنه مسلم في كتاب الآداب، باب الاستئذان (3/1694).
وأخرجها عنه أبو داود في كتاب الأدب، باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان؟ (2/637).
وأخرجها عنه الترمذي في كتاب الاستئذان، باب ما جاء في الاستئذان ثلاثة (5/53).
وأخرجها عنه ابن ماجه في كتاب الأدب، باب الاستئذان (2/1221).
وأخرجها عنه الدارمي في كتاب الاستئذان، باب الاستئذان ثلاثاً (2/187).

(3/871)


وعن علي أنه كان ما يسمع الخبر حتى يستحلف عليه (1).
فثبت: أنهم ما قبلوا خبر الواحد بانفراده.
قيل: يحتمل أن يكونوا فعلوا ذلك احتياطاً، ولهذا روي عن عمر أنه لما فعل ذلك قال: خفت أن يجترأ على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فكأنه احتاط، فأما أن يكون فعله على الوجوب فلا.
وكذلك ما كان عَلِيّ يفعله من اليمين، كان على طريق الاحتياط، ولهذا قبل قول أبي بكر بغير يمين. ولأن من لا يقبل خبر الواحد، لا يقبله مع اليمين أيضاً.
وأيضاً: فقد ثبت الرجوع إلى قول المفتي وشهادة الشهود، وإن لم يكن ذلك أمراً مقطوعاً عليه، وإنما يحكم به من جهة غلبة الظن والاستدلال، كذلك الرجوع إلى قول المخبر، فإنه في معنى ذلك، بل الرجوع إلى المخبر أولى، فإن المفتي يخبر عن اجتهاد، والمخبر يخبر عن مشاهدة وسماع، فحاله أقوى من حال المفتي، فكان بالقبول أولى.
ولأنه لو لم يقبل إلا المتواتر أفضى إلى بطلان العمارات وخراب الدنيا، لتشاغلهم بالنقل عنها، وإذا قلنا: يتشاغلون بالعمارات، حفظوا الدنيا، وضيعوا الشريعة، فلا بد من ترك أحدهما، فحفظنا المعاش بتشاغلهم بها، وحفظنا السنة بقبول خبر الواحد، فكان حفظهما معاً أولى من تعطيل أحدهما.
وهذا كالشهادات لا بد للناس منها، فلو لم يقبل في الشهادات غير المتواتر أفضي إلى تشاغل الناس بحفظ ذلك وخراب الدنيا، وإذا قبلنا شهادة
__________
(1) هذا الأثر عن علي، رضي الله عنه، سبق تخريجه ص (868) بلفظ: (ما حدثني أحد بحديث، إلا استحلفته، إلا أبا بكر، وصدق أبو بكر).

(3/872)


الآحاد حفظنا الحقوق والدنيا معاً، فكان حفظهما أولى من تضييع أحدهما، كذلك الأخبار.
فإن قيل: قولكم: لا بد من قبول خبر الواحد، غير مُسَلم، فإن منه ألف بدٍ، وذلك أن العمل في أحكامنا على ما ثبت قطعاً، وهو القرآن وخبر المتواتر، وما لم نجده فيهما بنيناه على الأصل في العقل.
قيل: فعلكم هذا ترك للشريعة.
وعلى أن في الأحكام ما لا يعرف بالعقل ولا بالعمل على ما كان في الأصل، كالدية على العاقلة، ونحو هذا، فبطل أن لا يعمل على خبر الواحد.
ولأن خبر الواحد لو كان مما لا يوجب العمل، لوجب أن ينكر على من يحفظه ويكتبه ويدونه؛ لأنه لا فائدة فيه، كمن كتب ما لا يفهم، ويحفظ ما لا ينفع، فإن كل واحد ينكر عليه ويسفهه، فلما [لم] نجد أحداً من سلف هذه الأمة وغيرهم أنكر هذا، ثبت أنهم إنما أقروا عليه لهذه الفائدة التي ذكرنا.
فإن قيل: فالناس ينقلون اللغة ويكتبونها، ولا يستفاد منها حكم.
[130/أ] قيل: لا ينقل إلا لفائدة، وهو يتأدب بها ويعرف، وكذلك الخبر لا فائدة في نقله غير العمل بموجبه والمصير إلى حكمه.
ويختص من اعتبر رواية اثنين بأنه خبر عن حكم شرعي، فوجب أن لا يعتبر في العدد قياساً على الفتيا، وما لا يشثرط في قبول قول المفتي لا يشترط في قبول [قول] النبي، أصله: الذكورية والحرية والنسب.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (1)، وقوله
__________
(1) (36) سورة الإسراء.

(3/873)


تعالى: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (1).
والجواب: أن وجوب العمل به معلوم؛ لأن الدليل على وجوب العمل بخبر الواحد موجب للعلم قاطع للعذر، كما يقول المخالف في حكم الحاكم بالشاهدين، وغير ذلك مما ذكرته من (2) نظائره.
وجواب آخر وهو: أن هذا ينقلب عليهم في إبطالهم القول بخبر الواحد، فإنهم حكموا بذلك، وهو غير معلوم عندهم.
واحتج: بقوله تعالى: (إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي منَ الْحَقِّ شَيْئاً) (3).
والجواب: أن المراد به الظن الذي لا دليل على العمل به (4)، مع أنه ينقلب عليهم في ترك القول بخبر الواحد.
واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل خبر ذي اليدين حتى انضاف إليه غيره.
والجواب: أن من لم يقبل خبر الواحد لم يقبل خبر الاثنين أيضاً، فلا حجة له في ذلك.
على أنا نقول بظاهر الخبر، ولا يقبل في مثل ذلك أقل من اثنين؛ لأن قول المأمومين، الواحد منهم ليس بأقوى من ظنه، فلم ينصرف عن ظنه بقوله.
__________
(1) (169) سورة البقرة.
(2) كلمة (من) مكررة في الأصل.
(3) (28) سورة النجم.
(4) العبارة في الأصل هكذا: (أن المراد به الذي لا دليل على العمل به الظن)، وما أثبتناه هو الصواب.

(3/874)


فأما إن سبّح به اثنان، كان قولهما أولى من ظنه، وليس كذلك أخبار الديانات؛ لأنه ليس عنده ما يخالف خبره، فلهذا وجب قبوله.
واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتصر في الإشهاد على عقوده على (1) اثنين، فدل على أن الواحد غير مقبول.
والجواب: أنه لم يشهد على عقوده النساء والعبيد، ولم يدل ذلك على امتناع قبول خبرهم.
واحتج: بأنه لا يقبل قول من ادعى أنه نبي إلا بحجة توجب العلم.
والجواب: أنه إنما لم يقبل قوله؛ لأنه لا دليل معه على وجوب قبول قوله والعمل به، وليس كذلك خبر الواحد في الأحكام، فإن عليه دليلاً يوجب قبول قوله والعمل به.
واحتج: بأنه لا يقبل في أصول الديانات، كذلك في فروعها.
والجواب: أن هذا يبطل بشهادة الشاهدين، وبقول المفتي يقبل في فروع الدين، وإن لم يقبل في أصوله.
[130/ب] وعلى أنه يعمل بخبر الواحد في كل حكم لا دليل عليه يوجب العلم ويقطع العذر.
وأما الحكم الذي عليه دليل موجب للعلم، فلا يعمل فيه بخبر الواحد لأنه إذا أمكن الوصول إليه من طريق العلم، لم يجز من طريق الظن، وليس كذلك في هذه الأحكام الشرعية، فإنه لا طريق إليها من جهة العلم، ففرض علينا الحكم بخبر العدل الذي ظاهره الصدق، كما يقول المخالف في الحكم بالشهاة والفتيا، ولأن ذلك يتضمن نقل ملة إلى أمة (2)، فاحتاج إلى معرفة ذلك قطعاً.
__________
(1) في الأصل: (من).
(2) في الأصل: (ملة).

(3/875)


واحتج: بأن طريق العمل به هو الشرع، وقد طلبنا الشرع، فلم نجد.
والجواب: أنه يجوز عليك الخطأ في طلبه والعدول عن طريقه.
واحتج: بأن الأصول قد تهذبت وتجهزت، فلا يترك اليقين بالشك.
والجواب: أنه باطل بالشهادات، فإن الأصل: أن الحق في الذمة، وإذا شهد اثنان على أصل القضاء والإبراء، تركنا اليقين لغالب الظن.
وباطل بالفتيا؛ فإن الإنسان على يقين من عقد النكاح، وفي شك من وقوع الفرقة، ومع هذا ترك اليقين بقول المفتي.
واحتج: بأنه لما لم يجز تقليد العالِم للعالِم؛ لأنه لا يقطع بصحته، كذلك لا يجب الرجوع إلى خبر الواحد.
والجواب: أنه إنما لم يقلده؛ لأن معه آلة يتوصل بها إلى الحكم، فلم يرجع إليه فيه، وليس كذلك الخبر؛ لأن المخبر ليس معه من آلة الحكم ما مع المخبر، فلهذا قبل قوله فيه [ولا يمنع] (1) هذا أن يقلد العامي العالِم، فإنه جائز؛ لأنه ليس معه آلة يقع له العلم بها.
واحتج: بأن في إيجاب العمل به ما يفضي إلى ترك العمل به؛ لأن الأخبار في الشريعة كثيرة، لا تحصى، ولا يأتي عليها حصر، وفيها الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفسر، فإذا أوجبنا عليه العمل بخبر الواحد، لزمه أن يستوفي كل ما ورد منها؛ لأنه قد يكون فيما لم يبلغه ناسخ ما بلغه.
ولأن العمل به يفضي إلى التوقف في عمومات القرآن؛ لأنا نخص عموم القرآن به، ونرد (2) به الظاهر عن ظاهره، فإذا لزم هذا، لزم
__________
(1) ما بين القوسين بياض في الأصل.
(2) في الأصل: (ونريد به).

(3/876)


البحث عن الأخبار؛ لئلا يكون هناك ما يخص به هذا العموم، والإحاطة به.
والجواب: أن المفتي لا يصح منه الفتيا، حتى يكون من أهل الاجتهاد، بأن يعرف جمل الشريعة: الكتاب والسنة، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، والمجمل والمفسر، كل هذا يعلمه، ويبني بعض الكلام على بعض، ولكن فيما انتهى إليه وعرفه، [131/أ] فأما فيما لم يتصل به، ولا يعرفه، فلا يلزمه التوقف فيما بلغه، لجواز أن يكون هناك مالم يبلغه، ألا ترى أن الحاكم إذا شهد عنده بالقتل اثنان، قضى بشهادتهما، وهو يجوز أن يكونا فاسقين، وأن يكون القول ساقطاً عن المشهود عليه، كذلك ها هنا.
واحتج من قال: لا يقبل الخبر، حتى ينقله اثنان:
بأنه لما لم تقبل الشهادة إلا من اثنين، كذلاث الخبر، يجب أن يكون مثله.
والجواب: أن الشهادة قد تقبل من واحد في رؤية الهلال، وفي شهادة القابلة.
وعلى أن هذا موجب أن لا يقبل الخبر فيما يوجب الحد إلا من أربعة، كما لا يقبل في الزنا أقل من أربعة.
وعلى أن الشهادة مؤكدة بما لم يؤكد به الخبر، وهو أنها لا تسمع حتى يبحث عن حال الشهود، ويقبل الخبر ممن ظاهره العدالة، من غير بحث عنه.
ويقبل خبر العنعنة، وهو قول الراوي عن فلان كذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشهادة العنعنة لا تقبل حتى ينقل اللفظ، فيقول: أشهدني فلان على شهادته بكذا، واللفظ يعتبر في الشهادة دون الخبر.

(3/877)


وتقبل فيه النساء، ولا تقبل في كثير من الشهادات، فكانت الشهادات أقوى، فاعتبر فيها العدد، ولم يعتبر في الخبر، وإنما كان كذلك؛ لأن حكم الخبر يستوي فيه المخبِر والمخبَر، والشهادة لا يستوي فيها الشاهد والمشهود له، فلهذا قبلنا الواحد في هلال رمضان؛ لأنه يستوي فيه الشاهد والمشهود له، فبان الفرق بينهما.
مسألة (1)
ما يعم فرضه يقبل فيه خبر الواحد
كما روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) (2).
__________
(1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (239).
(2) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - هذا أخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في التسمية على الوضوء (1/23).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التسمية في الوضوء (1/140).
وأخرجه عنه الحاكم في كتاب الطهارة، باب التسمية عند الوضوء (1/146)، وقال فيه: (هذا حديث صحيح الإسناد، وقد احتج مسلم بيعقوب بن أبي سلمة الماجشون، واسم أبي سلمة: دينار، ولم يخرجاه).
وقد تعقبه الذهبي بقوله: (صوابه: حدثنا يعقوب بن سلمة الليثي عن أبيه عن أبي هريرة.. وإسناده فيه لين).
وتعقبه ابن حجر في كتابه: "تلخيص الحبير" (1/72) بقوله: (.. ورواه الحاكم من هذا الوجه فقال: يعقوب بن أبي سلمة، وادعى أنه الماجشون، وصححه لذلك، والصواب: أنه الليثي، قال البخاري: لا يعرف له سماع من أبيه، ولا لأبيه من أبي هريرة. وأبوه ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: "ربما =

(3/878)


وكما روي في رفع اليدين في الركوع (1)، وما يضارع ذلك من الأخبار.
__________
= أخطأ"، وهذه عبارة عن ضعفه، فإنه قليل الحديث جداً، ولم يرو عنه سوى ولده، فإذا كان يخطىء مع قلة ما روى، فكيف يوصف بكونه ثقة) ؟
ثم نقل ابن حجر عن ابن الصلاح قوله: "انقلب إسناده على الحاكم، فلا يحتج لثبوته، بتخريجه له". كما نقل عن ابن دقيق قوله: "لو سلم للحاكم أنه يعقوب ابن أبي سلمة الماجشون، واسم أبي سلمة: دينار، فيحتاج إلى معرفة أبي سلمة، وليس له ذكر في شيء من كتب الرجال، فلا يكون أيضاً صحيحاً".
وأخرجه عن أبي هريرة الدارقطني في كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء (1/71) ولفظه: (ما توضأ من لم يذكر اسم الله، وما صلى من لم يتوضأ، وما آمن بي من لم يحبني، وما أحبني من لم يحب الأنصار).
وأخرجه عنه البيهقي في "سننه الكبرى"، في كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء (1/44)، وقال فيه: (وهذا الحديث لا يعرف من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة إلا من هذا الوجه، وكان أيوب بن النجار (أحد رواة الحديث) يقول: لم أسمع من يحيى بن أبي كثير (أحد رواة الحديث) إلا حديثاً واحداً، وهو: حديث التقى آدم وموسى، ذكره يحيى بن معين فيما رواه عنه ابن أبي مريم، فكان حديثه هذا منقطعاً والله أعلم).
والحديث له شواهد أوردها الزيلعي في "نصب الراية" (1/3-5)، وكذلك "تلخيص الحبير" كما سبق الإشارة إلى ذلك، فارجع إليهما إن شئت.
(1) هذا اشارة إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما. أخرجه عنه البخاري في كتاب الأذان، باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع (1/177-178) ولفظه: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة رفع يديه، حتى تكونا حذو منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع، ويقول: "سمع الله لمن حمده" ولا يفعل ذلك في السجود").
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع (1/292).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة (1/166). =

(3/879)


وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يقبل فيه خبر الواحد (1).
دليلنا:
أن الصحابة اختلفوا في وجوب الغسل بالتقاء الختانين من غير إنزال وهذا مما يعم فرضه، فأرسلوا إلى عائشة يسألونها، فقالت: (إذ التقى الختانان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاغتسلنا)، فصاروا إلى ما روت.
وكذلك ميراث الجدة، مما يعم فرضه، أثبتوه بخبر الواحد؛ لأن الجدة جاءت أبا بكر، فقال: لا أجد لك في كتاب الله شيئاً. فروى له المغيرة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطعمها السدس) وتابعه محمد بن مسلمة، فعمل
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في رفع اليدين عند الركوع (2/35).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب السهو، باب رفع اليدين للقيام إلى الركعتين الأخريين حذو المنكب (3/4).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب رفع اليدين إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع (1/279).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب في رفع اليدين في الركوع والسجود (1/229).
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب ذكر التكبير ورفع اليدين عند الافتتاح والركوع والرفع منه (1/287-288).
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب تكبيرة الإحرام ودعاء الافتتاح ورفع اليدين عند التكبير (1/70-71).
وأخرجه عنه الطحاوي في "كتابه" شرح معاني الآثار، في كتاب الصلاة، باب التكبير للركوع والتكبير للسجود والرفع منه (1/222).
(1) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/112)، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/128).

(3/880)


به أبو بكر. وغير ذلك.
ولأن خبر الواحد مما قد دل دليل قاطع على ثبوته والعمل به، [131/ب] يجري مجرى الآية المقطوع على وجوب الرجوع إليها.
ولأن خبر الواحد أصل القياس، فإنه منه يستنبط ويتفرع، فإذا جاز إثبات هذه الأحكام بالقياس مع ضعفه، كان جواز ذلك بخبر الواحد أولى.
ولأنه خبر عدل فيما يتعلق بالشرع، مما لا طريق فيه للعلم، ولا يعارضه مثله، فوجب العمل به قياساً على ما لا يعم فرضه.
واحتج المخالف:
بأن ما يعم فرضه سائر المكلفين، لا بدّ من توقيف من النبي [صلى الله عليه وسلم] للكافة على حكمه؛ لأنه غير جائز ترك تعريف ما لا يعرف إلا من جهته، ومتى وقف الكافة عليه، فإن نقله يكون عاماً مستفيضاً، فإذا رواه الآحاد علمنا أنه غير صحيح في الأصل أو منسوخ.
والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن ما يعم فرضه، ليس من شرطه توقيف من النبي [صلى الله عليه وسلم] لهم، بل يجوز أن يتعبد في ذلك بالظن، ورجوع العامة إلى اجتهاد أهل العلم [فيـ] لقى حكمه إلقاء خاصاً، فلا يظهره، ويكون من بلغه خبره يلزمه حكمه، ومن لم يبلغه خبره مأموراً بالاجتهاد، وطلب ذلك الحكم من جهة الخبر.
وجواب آخر، وهو: أنا لو سلمنا ذلك، فإن النقل لا يجب أن يكون على حسب البيان؛ فإن الصحابة كانت دواعيهم مختلفة، وكان بعضهم لا يرى الرواية، وكان يؤثر الاشتغال بالجهاد على الرواية.

(3/881)


وقال السائب بن يزيد (1) : صحبت سعد بن أبي وقاص زماناً، فما سمعت منه حديثاً، إلا أني سمعته ذات يوم يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
(لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق، والخليطان: ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي) (2).
__________
(1) هو: السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة بن الأسود بن أخت النمر الكندي، وقيل: أزدي، وقيل: غير ذلك. صحابي ابن صحابي ولد سنة اثنتين من الهجرة. وحج به أبوه مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. كان من عمال عمر على سوق المدينة. مات بالمدينة سنة (86 هـ)، وقيل: سنة (91 هـ)، وقيل غير ذلك.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (2/576)، و"الإصابة" القسم الثالث ص (26)، طبعة دار نهضة مصر، و"خلاصة تذهيب الكمال" (132) طبعة بولاق.
(2) هذا الحديث أخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الزكاة، باب صدقة الخلطاء (4/106).
وأخرجه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب تفسير الخليطين (2/104).
وهذا الحديث غير صحيح، وآفته من "ابن لهيعة"، فإنه تفرد بهذا الحديث.
وقد قال البيهقي: "أجمع أصحاب الحديث على ضعف ابن لهيعة وترك الاحتجاج بما ينفرد به". وقال ابن أبي حاتم في كتابه "العلل" (1/219) : سألت أبي عن هذا الحديث، فقال: "هذا حديث باطل عندي، ولا أعلم أحدا رواه غير ابن لهيعة. قال أبي: ويروى من كلام سعد فقط".
ونال ابن معين: "هذا الحديث باطل، وإنما هو من قول يحيى بن سعيد، هكذا حدث به الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد من قوله".
راجع في هذا: "تلخيص الحبير"، كتاب الزكاة، باب صدقة الخلطاء (2/155).
قلت: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "... ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية...)، وهو جزء من حديث أنس الطويل. أخرجه البخاري وأحمد =

(3/882)


ويبين صحة هذا: أنه بين الحجة، بياناً عاماً، ونقل من جهة الآحاد، واختلف الناقلون له فيه.
وكذلك رجم ماعز، وأشياء كثيرة من هذا الجنس.
واحتج: بأن عموم فرضه للكافة، يقتضي ظهور فعله فيهم، وما يظهر فعله في الكافة، لا يقبل فيه خبر الأفراد، ألا ترى أنه لا يقبل خبر الأفراد في حدوث فتنة عظيمة في الجامع يوم الجمعة وقت صعود الخطيب المنبر؟ لأن ما هذا حاله يشترك فيه الجماعات، ولهذا لم يقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر ذي اليدين، حين أخبره بالسهو في صلاته، حتى أخبره معه جماعة؛ لأنه أخبر بأمر ظهر للجماعة، فلم يقبل فيه خبره.
والجواب: [132/أ] أنا قد، بينّا: أن عموم فرضه لا يقتضي ظهور فعله فيهم.
وقولهم: إن ما يظهر فعله لا يقبل فيه الأفراد، كالفتنة في يوم الجمعة، لا يشبه (1) أخبار الديانات؛ لأن العادة في مثل ذلك: أنه إذا جرى مثل ذلك، سارع الناس الى روايته، والهمم والطباع مجبولة على ذلك فإذا انفرد به الواحد لم يقبل (2)، وليس كذلك أخبار الديانات؛ لأنه ليس العادة أن يتطابق الكل على نقله، بل قد بينّا: أن أحوال الصحابة في ذلك مختلفة، فمنهم من كان لا يتشاغل بذلك.
واحتج: بأنكم قلتم: إن قول الرافضة (3) -: إن علي بن أبي طالب
__________
= وأبو داود والنسائي كما حكى ذلك المجد في كتابه: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (311-313) وابن الديبع في كتابه: "تيسير الوصول" (2/58-60).
(1) في الأصل: (ولا يشبه).
(2) في الأصل: (تقبل) بالتاء المثناة.
(3) الرافضة: فرقة كانت مع "زيد بن علي" رحمه الله، وكانت تقول بإمامته. =

(3/883)


رضي الله عنه منصوص على إمامته بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطل؛ لأنه لو كان كذلك، لوجب أن ينقل نقلاً مستفيضاً، كذلك ها هنا.
والجواب: أنا أنكرناه؛ لأن عندهم أنه من فرض كل واحد أن يعلمه ومثله لا ينقل خاصاً، وليس كذلك ما يعم فرضه، فإنا كلفنا الحكم فيه بالظن، فافترقا.
واحتج: بأن قبول خبر الواحد في مثل هذا الحكم يفضي إلى التوقف في أحكام الكتاب، لجواز أن يكون نسخت، ولم ينقل نسخها.
والجواب: أن النسخ لا يجري هذا المجرى؛ لأنه رفع حكم وإسقاط، فإذا كان ذلك الحكم ثابتاً من جهة الاستفاضة، فلا يجوز أن ينقل إسقاطه (1) من جهة الآحاد، وهذا إثبات حكم مبتدأ، فيجوز ذلك بالأمر المقطوع عليه والمظنون.
واحتج: بأنه، لما لم يجز إثبات القرآن بخبر الواحد، لأنه ما يعم فرضه، كذلك في هذا الحكم.
والجواب: أن القرآن قد أخذ علينا معرفته قطعاً ويقيناً، فلا يجوز
__________
= وقد طلبوا منه التبرؤ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فامتنع، فرفضوه، وتفرقوا عنه.
وقيل: إن الذي سماهم بذلك "المغيرة بن سعيد" ؛ لأنه زعم أن أبا جعفر أوصى له، لكن بعضهم لم يسمع منه وتركه، فسماهم "رافضة".
وقبل: إن هذا الاسم قد توسع فيه، حتى أصبح يطلق على كل من يغالي في حب آل البيت، وعلى هذا فهم فرق شتى، وطوائف كثيرة.
راجع: "الفرق بين الفرق" ص (21)، وهامشه للشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، و"كتاب الزينة" القسم الثالث منه لأبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي ص (270) مطبوع مع كتاب: "الغلو والفرق الغالية".
(1) في الأصل: (إسقاط).

(3/884)


إثباته بخبر الواحد المظنون، وهذا الحكم طريقه غلبة الظن، فجاز إثباته بأمر مظنون، وقد أثبتنا قرآناً من جهة الحكم بخبر واحد، نحو قراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، وغير ذلك.
مسألة (1)
ما تعم البلوى به يقبل فيه خبر الواحد
مثل ما روي من الوضوء في مس الذكر (2) ومس المرأة (3)، وما يجري هذا المجرى.
وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يقبل فيه خبر الواحد (4).
دليلنا:
ما نقدم في المسألة التي قبلها.
ولأن شروط البيوع والأنكحة وما يعرض في الصلاة والوضوء من الخارج من غير السبيلين، والمشي مع الجنازة، وبيع رباع مكة وإجارتها، ووجوب الوتر ونحوه، أثبته المخالف بخبر الواحد، وهو مما يعم به البلوى.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (238)، و"التمهيد" الورقة (115/ب-116/أ)، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/327-328)، و"شرح الكوكب المنير" ص (268) من الملحق.
(2) حديث الوضوء من مس الذكر قد سلف تخريجه ص (832).
(3) الوضوء من مس المرأة قد سلف تخريجه ص (328).
(2) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/112)، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/128).

(3/885)


[32/ب] وذهب المخالف إلى ما حكيناه عنه في المسألة التي قبلها، وقد أجبنا عنه.
مسألة (1)
يقبل خبر الواحد في إثبات الحدود.
وقد أثبت أحمد رحمه الله اجتماع الجلد والرجم على الزاني المحصن بخبر عبادة (2). وأثبت النفي والجلد على الزاني البكر بخبر العسيف (3)، وغير ذلك.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (239)، و"التمهيد" الورقة (116/أ)، (2) و"روضه الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/338).
(2) حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا) الحديث، قد سبق تخريجه ص (814).
(3) حديث العسيف رواه أبو هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أخرجه عنهما البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جواز فالصلح مردود (3/228)، وقصة العسيف معروفة، فلا داعي لسردها.
وأخرجه عنهما مسلم في كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا (3/1324).
وأخرجه عنهما أبو داود في كتاب الحدود، باب في المرأة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها من جهينة (2/463).
وأخرجه عنهما، وعن شبل جميعاً الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم على الثيب (4/39).
وأخرجه عنهما النسائي في كتاب آداب القضاة، باب صون النساء عن مجلس الحكم (8/211).
وأخرجه عنهما وعن شبل جميعاً ابن ماجه في كتاب الحدود، باب حد الزنا (2/852). =

(3/886)


وهو قول أصحاب الشافعي (1).
واختلف أصحاب أبي حنيفة:
فحكى أبو سفيان عن أبي يوسف (2) : أنه يقبل. وهو اختيار أبي بكر الرازي.
وحكى عن الكرخي: أنه لا يقبل فيه، ولا فيما يسقط بالشبهة (3).
دليلنا:
أنه خبر عدل فيما يتعلق بالشرع مما لا طريق فيه للعلم، ولا يعارضه مثله، فوجب العمل به، قياساً على غير الحدود.
__________
= وأخرجه عنهم الدارمي في كتاب الحدود، باب الاعتراف بالزنا (2/98).
وأخرجه عن أبي هريرة وزيد بن خالد الإمام الشافعي في كتاب الحدود باب رجم الزاني المحصن وجلد البكر وتغريبه (2/284).
وأخرجه الطيالسي عن زيد بن خالد في كتاب الحدود، باب قصة العسيف (1/298).
(1) راجع في هذا: "المنخول" للغزالي ص (253)، و"شرح الجلال على جمع الجوامع" مع "حاشية البناني" (2/131)، و"الإحكام" للآمدي (2/106).
(2) هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي، أبو يوسف. من أكبر أصحاب الإمام أبي حنيفة. تولى القضاء للمهدي وابنيه. وهو أول من لقب بقاضي القضاة. توفي ببغداد سنة (182هـ).
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" (14/242)، و"تاج التراجم في طبقات الحنفية" ص (81)، و"شذرات الذهب" (1/298)، و"طبقات الفقهاء" لطاش كبرى زادة ص (15)، و"النجوم الزاهرة" (2/107)، وقد ألف فيه الأستاذ محمود مطلوب كتاباً سماه: "أبو يوسف حياته وآثاره وآراؤه الفقهية" تحدث فيه عن الجوانب المختلفة في شخصية أبي يوسف.
(3) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/88)، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/136).

(3/887)


ولأن خبر الواحد يوجب غلبة الظن، كما أن شهادة الشاهدين توجب غلبة الظن، ثم ثبت أن الحد يجب بشهادتهم، فالخبر كذلك.
يبين صحة هذا: أن الحكم بالشهادة ثابت من طريق موجب للعلم وهو الإجماع ونص القرآن وخبر الواحد، كذلك الحكم به ثابت من طريق موجب للعلم، وهو الإجماع والقرآن.
واحتج المخالف:
بأن الحدود موضوعة في الأصل على أن الشبهة تسقطها، وخبر الواحد لا يوجب العلم، وإنما يوجب غلبة الظن، فيصير ذلك بمنزلة حصول شبهة، فيمتنع من ثبوته.
والجواب: أن هذا يوجب أن لا يحكم بالحد بشهادة الشهود؛ لأن العلم لا يحصل مع شهادتهم، وقد أجمعنا على ثبوته بقولهم، فبطل ما ذكروه.
مسألة (1)
خبر الواحد مقدم على القياس
وهذا ظاهر على أصله، فإنه أخذ بحديث الأقرع (2) : (لا يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة) (3)، وترك القياس فيه.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (239)، و"التمهيد" الورقة (116/أ-117/أ)، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/328-331).
(2) هو: الحكم بن عمرو الغفاري صحابي. ولاه زياد على البصرة، ثم عزله عنها وولاه بعض أعمال خراسان. مات سنة (50 هـ) قيل: بالبصرة وقيل: بخراسان.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/356)، و"الإصابة" القسم الثاني ص (107) طبعة دار نهضة مصر.
(3) هذا الحديث أخرجه عن الحكم بن عمرو الغفاري، وهو الأقرع أبو داود في =

(3/888)


وكذلك إيجاب غسل اليدين عند القيام من النوم، وخالف بين نوم اللّيل ونوم النهار.
وكذلك القرعة بين العبيد، قدم الخبر على القياس؛ لأن القياس يمنع جمع عتق في ستة إلى اثنين، وغير ذلك.
وهو قول أصحاب الشافعي (1).
وقال أصحاب أبي حنيفة: إن خالف الأصول أو معنى الأصول لم يحتج به، ويقبل إذا خالف قياس الأصول (2).
وحكي عن مالك: أن القياس أولى من خبر الواحد.
دليلنا على أنه مقدم على القياس:
إجماع الصحابة، روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه
__________
= كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك - أي عن الوضوء فضل وضوء المرأة (1/19).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في كراهية فضل طهور المرأة (1/92-93)، وقال فيه : "حديث حسن".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب النهي عن فضل وضوء المرأة (1/146).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك (1/132).
(1) راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي (3/107)، و"اللمع في أصول الفقه" ص (41).
(2) هذا النقل غير محرر، فإن صاحب "تيسير التحرير" (3/116) ذكر أن الإمام أبا حنيفة يقول بتقديم خبر الآحاد على القياس مطلقاً.
أما السرخسي فيقول في "أصوله" (1/341) : (وما خالف القياس، فإن تلقته الأمة بالقبول فهو معمول به، وإلا فالقياس الصحيح شرعاً مقدم على روايته فيما ينسد باب الرأي فيه..).

(3/889)


ترك القياس بخبر حمل بن مالك بن النابغة في غرة الجنين.
وكان يفاضل بين ديات [133/أ] الأصابع، ويقسمها على قدر منافعها، فلما روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (في كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل) (1) رجع عنه إلى الخبر، وكان بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، فلم ينكر ذلك منكر، ولم يخالفه فيه مخالف، فدل على أنه إجماع عنهم.
وأيضاً: لو كان القياس والقول الخاص مسموعين من النبي - صلى الله عليه وسلم -،
__________
(1) هذا الحديث، وقصة رجوع عمر رضي الله عنه عن رأيه، أخرجهما البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الديات، باب الأصابع كلها سواء (8/93) بسنده إلى سعيد بن المسيب قال: قضى عمر رضي الله عنه في الأصابع، في الإبهام بثلاث عشر، وفي التي تليها باثنتي عشر وفي الوسطى بعشر، وفي التي تليها بتسع، وفي الخنصر بست، حتى وجد كتاب عند آل عمرو بن حزم يذكرون أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما هنالك من الأصابع "عشر، عشر".
قال سعيد: فصارت الأصابع إلى عشر، عشر.
وحديث عمر بن حزم رضي الله عنه أخرجه النسائي في كتاب القسامة، باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له (8/51) وذكر له إسنادين قال عقب السند الأول: "خالفه محمد بن بكار بن بلال". وقال عقب السند الثاني: "وهذا أشبه بالصواب والله أعلم. وسليمان بن أرقم [أحد رواة السند الثاني] متروك الحديث. وقد روى هذا الحديث يونس عن الزهري مرسلاً.
ثم ساق بعد ذلك الرواية المرسلة.
وفي الباب عند أبي موسى الأشعري عند أبي داود برقم (4557) والنسائي (8/56) وابن ماجة برقم (2654). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عند أبي داود برقم (4566،4563،4562) وسنده حسن.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" في كتاب الزكاة، باب زكاة الذهب (1/395-397)، وصححه، وقال: "هو قاعدة من قواعد الاسلام".

(3/890)


لوجب تقديم القول الخاص.
مثاله: أن يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا زنت الأمة جلدت خمسين لرقها، وإذا زنى العبد جلد مائة، فيكون نصه على العبد أولى من القياس.
وكذلك إذا كان كل واحد منهما مجتهداً فيه، وجب أن يكون الخاص أولى من القياس.
وأيضا: فإن القياس يفتقر إلى الاجتهاد في موضعين: أحدهما: في ثبوت العلة في الأصل. والثاني: في الحكم في الفرع؛ لأن من الناس من قال: إذا ثبتت العلة في الأصل لا يجب الحكم بها في الفرع، إلا أن يحصل الأمر بالقياس، والاجتهاد في خبر الواحد في ثبوت صدق الراوي، فإذا ثبت صدقه من طريق يوجب الظن، وجب المصير إليه، ولم يبق موضع آخر يحتاج إلى اجتهاد فيه؛ ولأن طريق ثبوت صدقه في الظاهر أجل من طريق ثبوت العلة؛ لأنه يدل عليه عادته في الزمان الطويل في اتباع الطاعات وتحرز الصدق وتجنب الإثم، فدل هذه العادة على أنه مختار للصدق فيما حدث به، فيكون أولى من طريق العلة.
وأيضاً: فإن الخبر أصل بنفسه، وليس بمقيس على غيره، كما أن الأصول المنصوص عليها والمتفق على حكمها، أصول بأنفسها، غير مقيسة على أغيارها، فإذا كان كذلك، كان (1) موجب الأصل المجمع عليه أقوى من موجب القياس، كذلك موجب خبر الواحد، يكون أقوى من موجب القياس. وليس لهم أن يقولوا: إن العلم وقع لنا بموجب تلك الأصول؛ لأنه لا معتبر بوقوع العلم فيما ذكر؛ لأن موجب العقل في باب الإبا حة ونحوها يدفعه القياس وخبر الواحد، وإن كان موجب
__________
(1) في الأصل: (وكان).

(3/891)


العقل ثابتاً من جهة توجب العلم.
وأيضا: فإن الخبر مما يؤدي إلى العلم، إذا أكثر من يخبر به، والقياس لا يؤدي إلى العلم، وإن كثرت وجوه الشبه فيه، فكان ما يؤدي إلى العلم أقوى مما لا يؤدي إلى ذلك.
واحتج المخالف:
بأن القياس يتعلق [133/ب] بفعله، وهو استدلاله على صحة العلة في الأصل، وصدق الراوي في خبره مغيب عنه، غير متعلق بفعله وثقته، فما هو متعلق بفعله أكثر تنبيهاً مما هو متعلق بغيره، فوجب أن يكون أولى.
والجواب: أن هذا يبطل بعلم الحاكم، فإنه أكثر تنبيهاً من قول الشهود. وعندنا وعند مالك: لا يحكم بعلمه، ويحكم بشهادة الشهود، على أنهما سواء؛ لأنه يستدل على صدق الراوي بما يعلمه من أفعاله الدالة على صدقه، كما أن القياس يستدل [به] على أن صاحب الشريعة حكم في الأصل لمعنى من المعاني، وقصده يكون ثبوت قصد صاحب الشريعة بالنظر في الأمارات الدالة عليه، كثبوت صدق الراوي، ولا فرق بينهما.
واحتج: بأن خبر الواحد يجوز فيه مما يمنع العمل به أربعة أوجه، وهي: كونه منسوخاً، وكونه كذباً، وكون المخبر به فاسقاً، وكونه خطأً، والقياس لا يجوز فيه ما يمنع العمل به، إلا وجه واحد، وهو كونه خطأً.
والجواب: أن ما يوجب فساد الشيء، لا يعتبر فيه بالقلة والكثرة، ألا ترى أن كون الراوي مغفلاً، لما كان مانعاً من قبول خبره، لم يختلف فيه وجود الفسق مع الغفلة وعدم الفسق معها، وإن كان أحد الوجهين أقوى في باب الفسق من الآخر، فإذا كان [كذلك] لم يجز أن يرجح القياس على

(3/892)


الخبر لوجود كثرة وجوه الخطأ في الخبر، وقلتها في القياس، وليس هذا بمنزلة ما اعتبرناه من كثرة وجوه الشبه في القياس، أنها توجب ترجيحه على ما قلتّ وجوه الشبه فيه لأن ما يوجب صحة الشيء وثباته، فإنه يقوى بكثرة وجوه الإثبات، ألا ترى أن كثرة الرواة يقوى بها الخبر، ويحصل له بها المزية على ما قلَّت رواته، لما كانا موجبين للثبات والصحة، وإن لم يرجع أحد الخبرين على الآخر في باب الفساد، لكثرة وجوه الفساد.
وجواب آخر وهو: أنه لو كان على الاعتبار بما ذكره، لوجب أن يكون خبر الواحد أولى من القياس المستنبط من الخبر؛ لأنه قد اجتمع فيه خمسة أوجه من جواز ما يمنع العمل به، أربعة منها ما ذكره المخالف في الخبر، والوجه الخامس ما ذكره في القياس، فقد بَانَ بهذا: أن ما اعتبره يؤدي إلى كون الخبر أولى من القياس على القضية التي صار إليها.
واحتج: بأن القياس لا يصح فيه معنى الحقيقة والمجاز والاحتمال، ويصح ذلك في الخبر.
والجواب: أن هذا كله موجود في نص القرآن والسنة المقطوع [134/أ] بها.
واحتج: بأنه يجوز أن يقع الإجماع على موجب القياس، ولا يمنع أن يجمعوا على العمل بخبر الواحد؛ لأن إجماعهم على العمل بموجب الخبر يخرجه عن كونه خبر واحد، ويجعله في حيز التواتر عندكم، لأنهم لا يجمعون إلا على ما قامت به الحجة في الأصل، وعلموا مخبره، وإن ضعف نقله.
والجواب: أن الإجماع إنما يحصل على الحكم الثابت بالقياس، ولا يحصل الإجماع على القياس نفسه، فكيف يكون ذلك موجباً له، إن صح القياس على خبر الواحد؟

(3/893)


فصل
وأما أصحاب أبي حنيفة فإن قالوا: يرد خبر الواحد إذا خالف الأصول التي هي نص الكتاب ونص السنة المتواترة والإجماع، فنحن نوافق على ذلك، إلا أنهم يقولون هذا في المصراة والتفليس والقرعة، وليس فيها شيء من ذلك.
فإن قالوا: يرد إذا خالف قياس الأصول ومعناها. وقولهم بمنزلة قول أصحاب مالك. وقد بينا فساد ذلك.
على أن هذا ليس بمذهب أبي حنيفة (1)؛ لأنه قال: إذا أكل ناسياً لم يفطر، وكان القياس أن يفطر، ولكن ترك القياس بخبر أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الله أطعمك وسقاك) (2).
وأوجب الوضوء من نبيذ التمر بخبر عبد الله بن مسعود (3)، وخالف
__________
(1) سبق أن نقلنا عن كتاب "تيسير التحرير" (3/116)، أن الإمام أبا حنيفة يقول بتقديم خبر الآحاد على القياس تقديماً مطلقاً.
(2) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - هذ أخرجه عنه البخاري في كتاب الصوم باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً (3/38).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصيام، باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر(2/809).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في الصائم يأكل أو يشرب ناسياً (3/91).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصيام، باب من أكل ناسياً (1/559).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصيام، باب ما جاء في من أفطر ناسياً (1/535).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصيام، باب فيمن أكل ناسياً (1/346).
(3) الذي يروى فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بالنبيذ، وقد سبق تخريجه.

(3/894)


معنى الأصول.
وكذلك انتقاض الوضوء بالقهقهة في الصلاة (1).
__________
(1) خبر القهقهة، الذي يشير إليه المؤلف، رواه أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - أخرجه عنه الطبراني، كما ذكر ذلك الزيلعي في نصب الراية (1/47)، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/246)، ولفظه: (... بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، إذ دخل رجل، فتردى في حفرة كانت في المسجد -وكان في بصره ضرر- فضحك كثير من القوم، وهم في الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء، ويعيد الصلاة).
وهذا الحديث في إسناده ثلاثة رواة متكلم فيهم:
أولهم: "محمد بن عبد الملك الدقيقي"، وثقه النسائي والدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال أبو داود: لم يكن بمحكم العقل.
وقال الهيثمي في تعليقه على الحديث: (.. وفيه محمد بن عبد الملك الدقيقي، وبقية رجاله موثقون).
راجع في ترجمته: "تهذيب التهذيب" (9/317)، و"الميزان" (3/632). ثانيهم: "محمد بن موسى بن أبي نعيم الواسطي" قال أبو حاتم: "صدوق".
وقال ابن معين: "كذاب خبيث". وقال مرة أخرى: "ليس بشيء". وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه تفرد به".
راجع ترجمته في: "المغني في الضعفاء" (2/637)، و"الميزان" (4/49).
ثالثهم: "هشام بن حسان الفردوسي البصري". إمام مشهور. ثقة، الا أن يحيى ابن سعيد يضعفه. وفي حديثه عن الحسن وعطاء مقال. وصفه ابن المديني وأبو حاتم بالتدليس.
انظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ" (1/163)، و"تهذيب التهذيب" (11/34)، و"الخلاصة" ص (351)، و"طبقات الحفاظ" ص (71)، و"طبقات =

(3/895)


وكذلك القسامة حكموا فيها بخلاف القياس بما ذكروه (1) من الأثر.
وعلى أن الخبر الوارد في بعض الأصول، لا يكون إلا مخالفاً للأصول.
ولأن خبر الواحد أصل كغيره من الأصول، فلئن جاز أن تترك الأصول، جاز أن تترك الأصول له، لمساواتها.
فإن قالوا: ما خالف الأصول: أن يكون نفس ما ورد به الخبر موجوداً في الأصول، ومعناه فيه، ولا حكم له، مثل: ترك استعمال القرعة في الحرية في حر وعبد، في أن تنقل الحرية من أحدهما إلى الآخر، لمعنى أن الحرية لا يلحقها الفسخ.
وما خالف قياس الأصول: أن يكون ما ورد به الأثر غير موجود مثله في الأصول، ومن جنسه، ولا حكم له، مثل: نبيذ التمر المطبوخ، الذي ورد الخبر فيه، أو القهقهة في الصلاة، على ما ورد فيه الأثر، غير موجب للوضوء. وإنما يقيس مخالفنا على نبيذ الزبيب، أو يقيس القهقهة على غيرها من المعاني، التي لا تؤثر في الطهارة خارج الصلاة، فيرد به الأمر، فيكون الخبر مقدما عليه.
__________
= المدلسين" لابن حجر الورقة (16/أ)، و"المغني في الضعفاء" (2/709)، و"ميزان الاعتدال" (4/295).
وقد أخرج هذا الحديث الدارقطني في "سننه" في كتاب الطهارة، باب أحاديث القهقهة في الصلاة وعللها (1/161-175)، عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه، وعن أنس، وعن أبي هريرة، وعن عمران بن حصين، وعن جابر رضي الله عنهم، وفي كل حديث مقال يقدح في صحة الحديث، ولولا خوف الإطالة، لتكلمت عن علل كل حديث على انفراد.
ولكن من أراد الاطلاع على ذلك، فلير جع إلى "سنن الدارقطني" في الموضع السابق، وإلى "نصب الراية" (1/48-53).
(1) في الأصل: (ذكره).

(3/896)


والوجواب: أنه لا فرق بينهما، وذلك أن خبر القرعة، وخبر [134/ب] المصراة وخبر المفلس، خالف قياس الأصول على ما قالوه، كما خالف خبر النبيذ والقهقهة لقياس الأصول. فأما أن يكون أحدهما مخالفا للأصول فلا؛ لأن الأصول هي: الكتاب والسنة والاجماع، وليس واحد منهما يعارض أحد هذه الأخبار، فلا فرق بينهما.
وقد نص أحمد رحمه الله على أن الحديث إذا عارض الأصول سقط.
فقال في رواية يوسف بن موسى (1) في الخبر الواحد: "نستعمله إذا صح الخبر، ولم يخالفه غيره".
فقد نص على استعماله بشرط أن لا يخالفه غيره، فدل على أنه إذا خالفه غيره لم يستعمل، وليس هاهنا ما يطرح له الخبر سوى الأصول الثلاثة، فأما القياس فهو مقدم عليه.
وكذلك قال في رواية أبي الحارث: إذا جاء الحديث الصحيح الإسناد، يقال: هو سنة، إذا لم يكن له شيء يدفعه أو يخالفه.
وكذلك قال في رواية عبد الله: يقال له: سنة، إذا لم يكن له مضاد يخالفه، ولم يكن شيء يدفعه.
__________
(1) في "طبقات الحنابلة" (1/420-421) شخصان بهذا الاسم.
أحدهما: يوسف بن موسى العطار الحربي.
والآخر: يوسف بن موسى بن راشد، أبو يعقوب القطان الكوفي.
وكلاهما من أصحاب الإمام أحمد، وممن نقلوا عنه بعض المسائل الفقهية والحديثية.
لم يذكر للأول تاريخ وفاة. أما الثاني فقد مات سنة (253هـ).

(3/897)


مسألة (1)
خبر الواحد لا يوجب العلم الضروري
وقد رأيت في كتاب معاني الحديث جمع أبي بكر الأثرم بخط أبي حفص العُكْبَري (2) رواية أبي حفص عمر بن بدر (3) قال: الأقراء الذي يذهب إليه أحمد بن حنبل رحمه الله: أنه إذا طعنت في الحيضة الثالثة، فقد برىء منها وبرئت منه.
وقال: إذا جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح، فيه حكم أو فرض، عملت بالحكم والفرض، وأَدَنْتُ الله تعالى به، ولا أشهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك. فقد صرح القول بأنه لا يقطع به.
ورأيت في كتاب "الرسالة" (4) لأحمد رحمه الله رواية أبي العباس
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (240).
(2) هو: عمر بن محمد بن رجاء أبو حفص العكبري. حنبلي من الطبقة الثانية. كان موصوفاً بالعبادة والصلاح والكره الشديد للرافضة. حدث عن عبد الله بن الإمام أحمد، كما حدث عن قيس بن إبراهيم الطوابيقي وموسى بن حمدون العكبري.
مات سنة (339).
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (2/56)، و"مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي ص (514).
(3) هو: عمر بن بدر بن عبد الله أبو حفص المغازلي. سمع من ابن بشار ومن عمر القافلائي بعض المسائل حدث عنه ابن شاقلا وأبو حفص البرمكي وغيرهما. له اختيارات في المذهب الحنبلي، كما له بعض المصنفات.
انظر ترجمته في: "طبقات الحنابلة" (2/128).
(4) يحتمل أن تكون هذه الرسالة هي الكتاب المسمى "السنة" للإمام أحمد رحمه الله تعالى، لأنني وجدت النص المشار إليه موجوداً بنصه فيها، إلى قوله: (... ونصدقه، ونعلم أنه كما جاء، ولا ننص الشهادة) ص (46) الجزء الأول من =

(3/898)


حمد بن جعفر بن يعقوب الفارسي (1) عنه بخط أحمد بن سعيد الشيحي (2) وسماعه فقال: "ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبيرة (3) أتاها، إلا أن يكون ذلك في حديث، كما جاء على ما [روي]، (4)، نصدقه (5)، ونعلم (6) أنه كما جاء ولا ننص الشهادة، ولا نشهد على أحد أنه في الجنة بصالح عمله ولا بخير أتاه، إلا أن يكون في ذلك حديث، كما جاء، على ما روي، ولاننص الشهادة".
وقوله: "ولا ننص الشهادة"، معناه عندي: -والله أعلم- لا يقطع على ذلك.
وقد نقل أبو بكر المروزي قال: قلت لأبي عبد الله: ها هنا إنسان يقول: إن الخبر يوجب عملاً، ولا يوجب علماً فعابه، وقال: ما أدري ما هذا؟!.
وظاهر هذا أنه سوّى فيه العلم والعمل.
__________
= شذرات البلاتين، جمع محمد حامد الفقي، المطبوع في مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة، سنة 1375هـ-1956م.
(1) الاصطخري. من أصحاب الإمام أحمد، الذين نقلوا عنه مسائل شتى في الفقه والعقيدة. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/24).
(2) أبو العباس الشامي. حدث عن عبد المنعم بن غليون. وأكثر من مصاحبة عمر البرمكي. كان ثقة مع دين وصلاح. مات ببغداد سنة (406هـ)، ودفن بباب حرب.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (2/179).
(3) في كتاب "السنة" ص (46): (ولا بكبيرة).
(4) الزيادة من كتاب "السنة" ص (46).
(5) في كتاب "السنة" ص (46): (نصدق به).
(6) في الأصل: (يعلم) بالمثناة التحتية، والتصويب من "كتاب السنة" ص (46).

(3/899)


وقال في رواية حنبل في أحاديث الرؤية: نؤمن بها، ونعلم أنها حق.
فقطع على العلم بها.
وذهب إلى ظاهر هذا الكلام جماعة من [135/أ]، أصحابنا، وقالوا: خبر الواحد إن كان شرعاً أوجب العلم. وهذا عندي: محمول على وجه صحيح من كلام أحمد رحمه الله، وأنه يوجب العلم من طريق الاستدلال، لا من جهة الضرورة.
والاستدلال يوجب العلم من أربعة أوجه:
أحدها: أن تتلقاه الأمة بالقبول، فدل ذلك على أنه حق؛ لأن الأمة لا تجتمع على الخطأ، ولأن قبول الأمة يدل على أن الحجة قد قامت عندهم بصحته؛ لأن عادة خبر الواحد الذي لم تقم الحجة به، لا (1) تجتمع الأمة على قبوله، وإنما يقبله قوم ويرده قوم، كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت" (2).
__________
(1) في الأصل: (ولا) والواو هنا لا محل لها؛ لعدم استقامة المعنى بوجودها.
(2) هذا الحديث أخرجه عن عائشة رضي الله عنها البخاري في كتاب الحج باب الطيب عند الإحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم.. (2/160).
وأخرجه مسلم عنها فيه، باب الطيب للمحرم عند الإحرام (2/846).
وأخرجه عنها أبو داود فيه، باب الطيب عند الإحرام (1/405).
وأخرجه عنها الترمذي فيه، باب ما جاء في الطيب عند الإحلال قبل الزيارة (3/250).
وأخرجه عنها النسائي فيه، باب إباحة الطيب عند الإحرام (5/105).
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب المناسك، باب الطيب عند الإحرام (2/976).
وأخرجه عنها الدارمي في كتاب مناسك الحج، باب الطيب عند الإحرام (1/364).

(3/900)


والثاني: أن يخبر الواحد، ويدعي على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمعه منه، فلا ينكره، فيدل على أنه حق، فيصدق؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على الكذب.
الثالث: أن يخبر النبي [صلى الله عليه وسلم]، وهو واحد، فيقطع بصدقه؛ لأن الدليل قد دل على عصمته وصدق لهجته صلى الله عليه [وسلم].
الرابع: أن يخبر الواحد، ويدعي على عدد كثير أنهم سمعوه منه، فلا ينكر منهم أحد، فيدل على أنه صدق؛ لأنه لو كان كذباً، لم تتفق دواعيهم على السكوت عن تكذيبه؛ لأن الله تعالى خالف بين الطباع وبَايَن بين الهمم.
والعلم الواقع عن ذلك كله مكتسب؛ لأنه واقع عن نظر واستدلال.
وقال إبراهيم النظام (1): خبر الواحد يجوز أن يوجب العلم الضروري إذا قارنه أمارة (2).
دليلنا:
أن خبر الواحد لو كان موجباً للعلم؛ لأوجبه على أي صفة وجد، من المسلم والكافر، والعدل والفاسق، والحر والعبد، والصغير والكبير، كما أن خبر المتواتر لما أوجب العلم، لم يختلف باختلاف صفات المخبرين، بل استوى في ذلك الكفار والمسلمون، والصغار والكبار، والعدول والفساق، فلما ثبت أن خبر الكافر والفاسق والصغير غير موجب
__________
(1) هو: إبراهيم بن سيار بن هاني النظام أبو إسحاق البصري المعتزلي. ابن أخت أبي الهذيل العلاف. له آراء شاذة عرف بها، وتبعه فيها ناس، فسموا بالنظامية. كان ذكياً فصيحاً قيل: انه كان لا يكتب ولا يقرأ.
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (6/67)، و"فضل الاعتزال" و"طبقات المعتزلة" ص (264)، و"اللباب" (3/316)، و"النجرم الزاهرة" (2/234).
(2) هكذا نقل عنه أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد في أصول الفقه" (2/566).

(3/901)


للعلم، دل أن هذا من النوع الذي لا يوجب العلم.
ولأنه لو كان موجباً للعلم لكان الأنبياء إذا أخبروا ببعثهم وقع العلم بما يخبرون به، واستغنوا عن إظهار المعجزات والأدلة على صدقهم، ولكان لا يحتاج في الشهادات إلى عدد، بل كان الشاهد الواحد إذا أخبر الحاكم بشيء، وقع للحاكم علم ذلك ومعرفته، ولكان المدعي على غيره عند الحاكم حقاً أن يصدقه؛ لأن العلم يقع بقوله، وفي كون الأمر بخلاف ذلك دليل (1) على أن خبر الواحد لا يوجب العلم.
فإن قيل: إنما لم يوجب العلم ها هنا [135/ب]؛ لأنه ليس من الشرعيات وإنما نقول: إنه يوجب العلم فيما كان شرعاً لنا.
قيل: فالشهادة شرع، لأن على الشاهد أن يشهد بما عنده، قال الله تعالى: (وَلاَ تَكْتُمُوا الشهَادَةَ) (2)، وعلى المشهود عنده: العمل بذلك، ومع هذا شهادة الشاهدين لا توجب العلم.
وأيضاً: لو كان خبر الواحد يوجب العلم، لوجب أن لا يشكك نفسه عنده، كما لا يشككها عند خبر التواتر، فلما ثبت أنه يشكك نفسه عنده، ويجوز عليه الصدق والكذب، ثبت أنه لا يوجب العلم.
ولأنه لو كان يوجب العلم لوجب أن لا ينكر عليه قريش حين أخبرهم: أن الله تعالى قد أسرى به إلى بيت المقدس في ليلة واحدة، وأنه عرج به إلى السماء؛ لأن العلم قد وقع لهم بما أخبرهم به، فلما أنكروا عليه، وردوا قوله، حتى أتى أبو بكر فأخبروه بما يقول، فقال لهم: إن كان قد قال هذا، فقد صدق. ثبت: أن خبر الواحد لا يوجب العلم.
والمعتزلة: تنكر حديث المعراج، وتقول: إنه منام، ولو كان على ما
__________
(1) في الاصل: (دليلاً).
(2) (283) سورة البقرة.

(3/902)


قالوه، لما أنكروا عليه أنه رأى في المنام هذا، ولأن (1) كل أحد يرى في منامه أعظم من هذا، فلما أنكروا عليه، ثبت: أنه إنما قال لهم ذلك في اليقظة.
وأيضاً: فإن الواحد يجوز أن يكذب لغرض له أو شهوة، أو يخطىء.
فيخبر به، وهذا التجوز يمنع وقوع العلم بصدقه؛ لأنه لا يجتمع التجويز لكذبه [لغرض]، أو شهوة، والقطع على صدقه.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بهِ عِلْمٌ) (2)، دل على أنه لا يقفو ما ليس بعلم، فلما ثبت أنه يقفو خبر الواحد، ثبت أنه متعلق بما هو علم.
وهكذا قال: (إلا منْ شَهِدَ بالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (3) ومعلوم أن الله تعالى تعبدنا بنقل خبر الواحد، وتعبدنا بالعمل به إذا ورد، فلما لزم نقله، ولزم العمل به، ثبت: أنه أوجب العلم.
والجواب عن الآية أن التعلق بها من دليل الخطاب، وهذا لا يوجب العلم، على أنا نحملها على العلم الظاهر، أو على مسائل الأصول بدليل ما ذكرنا.
وأما قولهم: لما أوجب على السامع نقله، وعلى المنقول إليه العمل به، ثبت أنه يوجب العلم، فهو باطل بالشهادة، فإنها على هذا الوصف، ومع هذا فلا توجب العلم.
واحتج: بأن الشريعة محفوظة بقوله تعالى: (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
__________
(1) في الأصل: (وأن).
(2) (36) سورة الإسراء.
(3) (86) سورة الزخرف.

(3/903)


الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (1)، وهذا يمنع من دخول الكذب والسهو فيها.
والجواب: أن هذا إشارة إلى القرآن، وذلك مقطوع على صحته.
فأما غيره من الأخبار الشرعية فلا، يدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كذب عليّ متعمداً، فليتبوأ مقعده [136/أ] من النار) (2)، فلولا خوفه من دخول الكذب، لم يتوعد عليه.
واحتج: بما روي عن علي أنه قال: "ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته، إلا أبا بكر، وصدق أبو بكر" (3). فقد قَطعَ على صدقه وهو واحد.
والجواب: أن الخبر حجة على هذا القائل؛ لأن عنده أن أبا بكر
__________
(1) (9) سورة الحجر.
(2) هذا الحديث قد تعددت طرقه حتى بلغ حد التواتر، وقد أخرجه البخاري في عدة مواضع، منها ما أخرجه في كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم (1/37-38).
وأخرجه مسلم في عدة مواضع أيضاً، منها ما أخرجه في كتاب الإيمان، باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/9-10).
وأخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب التشديد في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (2/287).
وأخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في تعظيم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (5/35-36).
وأخرجه ابن ماجه في مقدمة "سننه"، باب التغليظ في تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/13-14).
وأخرجه الدارمي في مقدمة "سننه"، باب اتقاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والتثبت فيه (1/66-68).
(3) مضى تخريج هذا الحديث عن على رضي الله عنه ص (868).

(3/904)


وسائر الصحابة سواء في قبول قولهم، وقد أخبر أنه كان يستحلفه، فلو كان العلم يقع به لقول الواحد، لم يستحلفه.
وأما قوله: "وصدق أبو بكر"، فإنما فرق بينه وبين غيره؛ لأن جنبته أقوى؛ لأن صدقه منصوص عليه، فإنه سمي صديقاً.
واحتج النظام: بأنه قد يخبر الرجل بموت أمه وأبيه أو بعض أهله فيقع العلم بصدقه. وقد تخبر القابلة بولادة امرأته، فيقع له العلم بصدقها.
وقد يخبر الإنسان بموت زيد، وهناك أسباب تقتضي مثل ذلك، مثل رؤية المغتسل والجنازة على باب الدار، فيقع العام بذلك، كما يقع بخبر الجماعة الكثيرة (1).
والجواب: أنا لا نسلم ذلك؛ لأنه قد يخبر الواحد بذلك على سبيل اللّعب والمجون والمبايعة على عوض، وقد وجد ذلك بالبصرة وبخوارزم (2) مع بعض الحكام، وفعله رجل باليمن، لدفع أذية السلطان.
وكذلك الولادة مثل ذلك؛ لأن المرأة قد تستعير الولد وتلتقطه وتدعيه، رغبةً في الزوج وفي ماله، يبين صحة هذا: أنه لو شككنا فيه مشكك، وقفنا في ذلك.
واحتج: بأنه لو لم يقع العلم بخبر الواحد، لم يقع العلم به وإن انظم إليه غيره من الجماعة الكثيرة؛ لأن ما يجوز على الأول من الغلط والكذب
__________
(1) دليل أبي إسحاق النظام هذا، ذكره أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد" (2/566) باختصار.
(2) "خوارزم" اسم لناحية كبيرة، قصبتها الجرجانية، وهي ولاية عظيمة، متصلة القرى، كثيرة العمارة، تقدر مساحتها بثمانين فرسخاً في مثلها. وقد فتحها المسلمون بقيادة قتيبة بن مسلم الباهلي.
انظر: "اللباب" (1/466)، و"مراصد الاطلاع" (1/487).

(3/905)


والسهو، يجوز على الثاني والثالث والرابع، ولما حصل العلم بانضمام الجماعة، وجب أن يحصل العلم به.
والجواب: أن الخبر إذا تكرر قويَ في قلوبنا وغلب في ظنوننا صدق المخبرين به، فحينئذ وقع العلم به، وهذا معدوم في الخبر الواحد.
وجواب آخر وهو: أنه لا يمتنع أن لا يوجبه حال الانفراد، ويوجبه حال الاجتماع، كالشهادة، ولا يقبل شهادة كل واحد من الشاهدين حال الانفراد، ويقبل حال الاجتماع، وكذلك الشاهد واليمين.
مسألة
الخبر المرسل حجة ويجب العمل به (1)
وصورته: أن يترك الراوي رجلاً في الوسط، مثل أن يروي التابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يروى تابعي التابعي عن صحابي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهكذا إذا ذَكَر المروى [عنه]، ولكنه ذِكْر لا يعرف به، [136/ب] وهو أن يقول: أخبرني الثقة عن فلان، أو أخبرني رجل من بني فلان عن فلان، في إحدى الروايتين.
نص عليه رحمه الله في رواية الأثرم قال: إذا قال الرجل من التابعين: حدثني رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمه، فالحديث صحيح. قيل له: فإن قال يرفع الحديث فهو عن النبي [صلى الله عليه وسلم]، قال: فأي شيء؟!.
ونقل الميموني أيضاً: كان يعجب أبو عبد الله رضي الله عنه ممن يكتب
__________
(1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (250)، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/323-326).

(3/906)


الإسناد ويَدع المنقطع، وقال: ربما كان المنقطع أقوى إسناداً، قد يكون الإسناد متصلاً، وهو ضعيف، فيكون المنقطع أقوى إسناداً منه، وهو يوقفه، وقد كتبه على أنه متصل.
وقال في رواية الفضل بن زياد: مرسلات سعيد في المسيّب أصح المرسلات، ومرسلات إبراهيم (1) لا بأس بها، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح (2)؛ فإنهما يأخذان عن كلٍ.
__________
(1) هو: إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي أبو عمران. أحد أعلام التابعين. رأى جماعة من الصحابة، ولم يصح له سماع منهم. فكان يرسل عن بعضهم. قال الذهبي في الميزان: "استقر الأمر على أن إبراهيم حجة. وأنه إذا أرسل عن ابن مسعود وغيره فليس بحجة" مات بالكوفة سنة (96هـ) وله من العمر تسع وأربعون سنة.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/73)، و"تهذيب التهذيب" (1/177)، و"شذرات الذهب" (1/111)، و"طبقات الحفاظ" ص (29)، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/29)، و"اللباب" (3/220)، و"ميزان الاعتدال" (1/74).
(2) هو: عطاء بن أبي رباح أسلم أبو محمد القرشي بالولاء، المكي. أحد أعلام التابعين. كان مفتي مكة ومحدثها. سمع من عائشة وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. وعنه أبو حنيفة والأوزاعي وابن إسحاق. ولد في خلافة عمر على الأرجح. ومات بمكة المكرمة سنة (114هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/98)، و"تهذيب التهذيب" (7/199)، و"شذرات الذهب" (1/147)، و"طبقات الحفاظ" ص (39)، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/513)، و"ميزان الاعتدال" (3/70)، و"النجوم الزاهرة" (1/273).

(3/907)


وقال في رواية عبد الله: آخذ بحديث ابن جريج عن ابن أبي مُلَيْكة (1) وعمرو بن دينار (2) عن النبي [صلى الله عليه وسلم] في العبد الآبق إذا جيء به دينار (3).
__________
(1) هو: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُلَيكَة، واسم أبي مليكة: زهير بن عبد الله أبو بكر، أو أبو محمد القرشي التيمي، المكي. روى عن عائشة وأم سلمة وابن عباس وغيرهم. وعنه ابنه يحيى وعطاء وغيرها. كان قاضي مكة لعبد الله بن الزبير، كما كان إمام الحرم المكي وشيخه ومؤذنه. مات سنة (117هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/101)، و"تهذيب التهذيب" (5/306)، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (174)، و"شذرات الذهب" (1/153)، و"طبقات الحفاظ" ص (41)، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/430)، و"النجوم الزاهرة" (1/276).
(2) هو: عمرو بن دينار أبو محمد، الجمحي بالولاء، المكي. أحد التابعين روى عن العبادلة وخلق، وعنه السفيانان والحمادان وغيرهم. كان ثقة ثبتاً، قال فيه الذهبي في الميزان: "أما عمرو بن دينار الجمحي، عالم الحجاز، فحجة، وما قيل عنه من التشيع فباطل". مات بمكة سنة (126هـ).
له ترجمة في: "خلاصة تذهيب الكمال" ص (288) طبعة بولاق، و"شذرات الذهب" (1/171)، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/600)، و"ميزان الاعتدال" (3/260).
(3) هذا الحديث المرسل أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" في باب الجعل في الآبق (8/207-208) قال: (أخبرنا معمر عن عمرو بن دينار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قضى في الآبق يوجد في الحرم بعشرة دراهم).
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، كما نقل ذلك الزيلعي في كتابه "نصب الراية" (3/471)، واللفظ الذي ذكره الزيلعي هو: (قضى في العبد الآبق يؤخذ خارج الحرم بدينار أو عشرة دراهم).

(3/908)


وبهذا قال الكرخي من أصحاب أبي حنيفة (1)، ومالك (2) والمعتزلة (3).
وفيه رواية أخرى: ليس بحجة إلا مرسل الصحابة.
أومأ إليه في رواية إسحاق بن إبراهيم، وقد سئل عن حديث عن النبي [صلى الله عليه وسلم] مرسل برجال ثَبَت، أحبُّ، إليك، أو حديث عن الصحابة متصل برجال ثَبَت؟ فقال: عن الصحابة أعجب إليّ.
وهذا يدل من قوله على أنه ليس بحجة، إذ لو كان حجة، لم يقدم عليه قول الصحابي؛ لأن من جعله حجة قدمه على قول الصحابي.
وقال مهنا: سألت أحمد رحمه الله عن حديث ثوبان (4): (أطيعوا قريشاً ما استقاموا لكم) (5)، قال: ليس بصحيح، سالم بن أبي الجعد (6) لم يلقَ ثوبان.
__________
(1) راجع رأي الحنفية في هذا الموضوع في: "تيسير التحرير" (3/102)، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/147).
(2) راجع رأي الإمام مالك هنا في: "شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص (379).
(3) انظر تفصيل القول عند المعتزلة في الحديث المرسل في كتاب "المعتمد" لأبي الحسين البصري (2/628).
(4) هو: ثوبان بن بجدد، أبو عبد الله، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه.
روى عنه جبير بن نفير الحضرمي، وأبو إدريس الخولاني وخلق.
خرج بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام، فنزل "الرملة" ثم انتقل إلى "حمص"، وبها مات سنة (54هـ).
له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/218)، و"الإصابة" القسم الأول ص (413) طبعة دار نهضة مصر.
(5) هذا الحديث أخرجه الطبراني في "الصغير" و"الأوسط" حكى ذلك الهيثمي في كتابه "مجمع الزوائد" (5/195)، وقال بعد ذلك: (ورجال الصغير ثقات).
(6) هو: سالم بن أبي الجعد رافع، الأشجعي بالولاء، الكوفي. روى عن ثوبان =

(3/909)


فقد حكم ببطلان الحديث، لأجل أنه مرسل. وبهذا قال الشافعي.
وجه الرواية الأولى:
قوله تعالى: (وَليُنْذرُوا قَوْمَهمْ إذَا رَجَعُوا إليْهِمْ) (1)، ولم يفرق بين من أنذر بمرسل أو بمسند.
ولأن من عادة التابعين إرسال الأخبار، من ذلك ما روي عن الأعمش (2) أنه قال: قلت لإبراهيم: إذا حدثتني فأسند، فقال: إذا قلت لك: حدثني فلان عن عبد الله، فهو الذي حدثني، وإذا قلت لك: قال عبد الله، فقد حدثني جماعة عنه.
وروي ذلك عن الحسن وسعيد بن المسيب والشعبي (3)، وإذا كان
__________
= وعلي بن أبي طالب وخلق. وعنه قتادة وعمرو بن دينار والأعمش وغيرهم.
وثقه ابن معين والنسائي وأبو زرعة وابن سعد، وذكره ابن حبان في "الثقات".
مات سنة (100هـ).
له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (3/432)، و"التاريخ الصغير" (1/211)، و"جامع التحصيل" للحافظ العلائي ص (391)، رسالة "ماجستير" تحقيق الدكتور عمر حسن عثمان.
(1) (122) سورة التوبة.
(2) هو: سليمان بن مهران، أبو محمد، الأعمش، الكاهلي بالولاء، الكوفي، أحد العلماء المشهورين. روى عن عكرمة وإبراهيم النخعي وأبي عمرو، الشيباني وغيرهم. وعنه شعبة والسفيانان وغيرهم. مات سنة (148هـ).
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (9/3)، و"تذكرة الحفاظ" (1/154)، و"الخلاصة" ص (131)، و"شذرات الذهب" (1/220)، و"طبقات القراء" للذهبي (1/88)، و"العبر" (1/209)، و"غاية النهاية" (1/315)، و"ميزان الاعتدال" (2/224).
(3) هو: عامر بن شراحيل أبو عمرو الشعبي الكوفي من أعلام التابعين. روى عن أبي هريرة وابن عباس وعائشة وغيرهم. وعنه الأعمش وأشعث بن سوار وأبو =

(3/910)


معروفاً من عاداتهم، فلو كان عندهم أنها غير مقبولة، كانوا قد ضيعوا سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الفعل، وهذا لا يجوز.
ولأن المرسِل للخبر مثبت لعدالة راويه من وجهين:
أحدهها: أنه لا يجوز [137/أ] أن يحدثه، ويكتم اسمه، ثم يحدث به غيره، فيلزمه قبوله.
والثاني: أنه لو أرسل عن غير ثقة، كان قد قطع على رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، بقول من هو كذاب عنده، وهذا فعل ممنوع منه وإذا كان ذلك تعديلاً له، لم يعتبر جواز أن يجرحه غيره لو ظهر اسمه، يدلل عليه: أن من زكاه الحاكم، فله أن يقضي بشهادته، ولا يراعي جواز جرحه أن لو نادى في البلد باسمه، أو كاتب به إلى البلدان التي تقرب منه، فَبانَ أن تعديله، موجب قبول خبره، ولهذا جعل أحمد رحمه الله رواية العدل عن غيره تعديلاً للغير، فقال في كتاب العلل للأثر [م]: إذا روى عبد الرحمن (1) عن رجل، فروايته عنه حجة.
__________
= حنيفة وغيرهم. ولد لست سنين مضت من خلافة عمر. ومات سنة (103هـ)، أو سنة (104هـ)، أو سنة (107هـ).
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (12/229)، و"تذكرة الحفاظ" (1/79)، و"تهذيب التهذيب" (5/65)، و"شذرات الذهب" (1/126)، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/350)، و"اللباب" (2/21)، و"النجوم الزاهرة" (1/253).
(1) المراد به: عبد الرحمن بن مهدي، كما يأتي التصريح بذلك ص (934) وهو: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان أبو سعيد البصري اللؤلؤي الحافظ الثقة. روى عن شعبة ومالك والسفيانين وغيرهم. وعنه الإمام أحمد وإسحاق وابن المدينى وآخرون. قال فيه ابن المديني: "كان أعلم الناس". مات بالبصرة سنة (198)، وله من العمر ثلاث وستون سنة. =

(3/911)


وقال أيضاً في رواية أبي زرعة الدمشقي (1): مالك بن أنس إذا روي، يعني عن رجل لا يعرف، فهو حجة.
فإن قيل: هذا لا يدل على عدالته، كما لم يدل شاهدي الفرع على [عدالة] شاهدي الأصل.
قيل: الفرق بين الشهادة والخبر باقٍ (2).
فإن قيل: يحتمل أن يعرف جرحه غيره، فوجب تسميته؛ ليقف عليه.
قيل: فيجب أن يلزم الحاكم تسمية الشاهدين الذين حكم بهما، لهذا المعنى، ولأن حاكماً لو حكم بشهادة شاهدين لم يسمهما، لم يجز لأحد أن يعترض على حكمه؛ لأجل تركه تسمية الشهود، وكان أمرهم محمولاً على الجواز والعدالة في الشهادة، فلأن يكون كذلك فيما طريقه الاخبار أولى؛ لأن الأمر فيها أوسع.
ولأن مرسل الصحابي مقبول، وكل معنى منع من قبول مرسل التابعين
__________
= له ترجمة في: "البداية والنهاية" (10/244)، و"تاريخ بغداد" (10/240)، و"تذكرة الحفاظ"، (1/129)، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (199)، و"شذرات الذهب" (1/355)، و"النجوم الزاهرة" (2/159).
(1) هو: عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان النصري أبو زرعة الدمشقي.
شيخ الشام في عصره. ثقة حافظ. روى عن أحمد بن حنبل وأبي نعيم وأبي مسهر وغيرهم. وعنه أبو داود والطبراني والطحاوي وغيرهم مات بدمشق سنة (281 هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (2/624)، و"تهذيب التهذيب" (6/236)، و"شذرات الذهب" (2/177)، و"طبقات الحنابلة" (1/205)، و"طبقات الحفاظ" ص (266)، و"النجوم الزاهرة" (3/87).
(2) في الأصل: (باقي).

(3/912)


فهو مأخوذ في مرسل الصحابة، وقد ثبت أن الصحابي أو التابعي لو قال: أخبرني بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال كذا، فهو بمنزلة المسند، وكذلك إذا قال التابعي: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يجب أن يكون مثله.
وقد قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: إذا قال رجل من التابعين: حدثني رجل من أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فالحديث صحيح؟ قال: نعم.
فإن قيل: الصحابي معلوم عدالته، بأن الله تعالى عدله وزكاه وأخبر عن إيمانه، ورضي عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه.
قيل: قد شهد النبي [صلى الله عليه وسلم] للتابعين، كما شهد للصحابة فقال: (خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) (1)، وليس من شرط قبول الخبر أن يكون ممن يقطع على عدالته، وإنما تعتبر عدالته في الظاهر، وهذا المعنى موجود في التابعين ومن بعدهم، فيجب أن يتساووا في النقل.
وأيضاً: فإن الشافعي قد قال: إن كان الظاهر من حال المرسِل الثقة من التابعين، أن ما يرسله مسنداً عند غيره، قُبِل منه.
وهذا لا معنى له [137/ب] لأن القبول منه: إن كان لأجل إسناد
__________
(1) هذا الحديث رواه عمران بن حصين رضى الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في أول كتاب فضائل الصحابة (5/2).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم (4/1964).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الفن، باب ما جاء في القرن الثالث (4/500).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب السنة، باب في فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (2/518).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر (7/17).

(3/913)


غيره فالمرجع إلى المسند، وما سماه مرسلاً، فليس بمرسل في الحقيقة.
وإن كان يقول: إن إسناد غيره يوجب قبول مرسَله، مع جواز أن يكون مرسلاً، فهو قول بعيد، إذا كان يمنع قبولَ المراسيل، ويلزمه أن لا يعتبر ظاهر أمره مع الجواز، كما لا يعتبر ظاهر تعديله مع جواز أن يكون غير عدل.
وقال أيضاً: المرسَل مقبول، فيمن وجد أكثر مراسيله أصول في الأسانيد.
وهذا أيضاً ليس بشيء؛ لأن وجود ذلك في أكثر مراسيله، لا يمنع أن يكون قد أرسل، فالواجب: أن يعتبر ذلك في كل خبر بعينه.
وقال أيضاً: المراسيل تقبل، إذا عمل بها بعض الصحابة.
وهذ ليس بشيء؛ لجواز أن يكون القائل قد سمعه بنفسه، أو يكون من مذهبه قبول المراسيل.
وقال أيضاً: المرسل يعمل به إذا أفتى به عوام العلماء.
وهذا أيضاً ليس بشيء؛ لأنه أراد جميع الأمة، وأن إجماعها على قبول المرسل، لا ركون مع اختلافهم في حكمه، وإنما الواجب: أن يكون بعضهم قبله؛ لصحة المراسيل عنده، والباقون، لأنه مسند عندهم، فيخرج أن يكون مرسلاً في الحقيقة.
فإن أرادوا (1) به أكثر العلماء، فإن خلاف الواحد معتدّ به، فلم يجز أن يستدل به على صحة قبول الخبر.
ولأنه قد قال في مراسيل ابن المسيب: إنها مقبولة، لأنه وجد مراسيله مسانيد، وهذا صحيح فيما قد وقف على أنه مسند، فأما ما لم يوقف على
__________
(1) الأولى الخطاب بالإفراد، لأن الكلام لا زال مع الإمام الشافعي رحمه الله.

(3/914)


حاله، فلا يجوز أن يحكم به؛ لأنه وجد إسناداً لغيره، وكان التجويز فيه موجوداً، ولا يجوز أن يقال: إنه خص مرسل ابن المسيب؛ لأنه لا يرسل إلا عن ثقة؛ لأن هذا الاعتقاد في حسن الظن بابن المسيب معتبر في غيره.
فإن قيل: ما ذكرتموه، إنما أراد به الشافعي قوته في الترجيح، لا إثبات الحكم به.
قيل: الترجيح لا يجوز بما لا يثبت به حكم، فإن كان يريد إثبات الحكم بالمرسل الذي قاربه قياس أو قول صحابي، فالحكم عنده للقياس لا للاستدلال.
واحتج المخالف:
بأن هذا خبر عمن شرطت عدالته في في قبوله، والعدالة مجهولة، فلم يجز قبوله والعلم به، قياساً على شاهدي [الفرع] إذا لم يسميا شاهدي الأصل.
والجواب: أنا لا نسلم أن العدالة مجهولة؛ لما بينا: أن رواية العدل عنه تدل (1) على عدالته.
ثم الفرق بين الخبر والشهادة من وجوه:
أحدها: أن الشهادة على الشهادة تفتقر إلى الاسترعاء، وهو أن يقول شاهد (2) الأصل لشاهدي الفرع: اشهدا على شهادتي [138/أ] فلما افتقرت إلى الاسترعاء، افتقرت إلى تسمية الأصل، وليس كذلك الإخبار؛ لأنه لا يفتقر إلى استرعاء، بل إذا سمع منه حديثاً، جاز نقلة والعمل عليه، وإن لم يقل: اسمع مني.
__________
(1) في الأصل: (يدل).
(2) في الأصل: (اشهدا) بالتثنية.

(3/915)


ولأن المشهود على شهادته يكون كالمحكوم عليه، ألا ترى أن من الفقهاء من يوجب عليه الضمان، ولما لم يجب الحكم على من ليس بمعين، لم يجز قبول شهادة شهود الفرع، حتى يذكروا أسماء شهود الأصل، ولما كان هذا المعنى معدوماً في الخبر، وأنه لا تعلق للخبر الثاني بالأول، لم يجز أن يحمل الخبر على الشهادة.
ولأن الشهادة أكدت باعتبار العدد والحرية والذكورية، وأن يكون ذاكراً لما شهد به، فجاز أن تعتبر تسمية شهود الأصل؛ لتأكيد الأمر فيها، والخبر بخلاف ذلك.
ولأنه لو قال نفسان من التابعين: أشهدنا اثنان من الصحابة على شهادتهما، لم يجز حتى يعيناهما، وفي الخبر يجوز عند الجميع، فدل على الفرق بينهما.
فإن قيل: أليس مع افتراقهما من هذه الوجوه قد تساويا في اعتبار العدالة في كل واحد منهما؟
قيل: فالعدالة موجودة مع الإرسال من الوجه الذي بينّا، وهو أن إرسال التابعي له، تزكيه له.
وعلى أن تساويهما في العدالة لم يمنع افراقهما من الوجوه التي ذكرناها، فدل على أن الشهادة آكد. وإنما كان حكم الشهادة آكد من الخبر من الوجوه التي ذكرناها: أن الشهادة حكم على الغير، فالتهمة تلحق، والخبر يشترك فيه المخبِر والمُخْبَر، فالتهمه لا تلحق.
واحتج: بأن الجهل بعين الراوي أكثر من الجهل بصفته؛ لأن من جهلت عينه، جهلت عينه وصفته، ثم ثبت: أنه لو كان معروف العين مجهول الصفة، مثل أن يقول: أخبرني فلان، ولا أعرف أثقة هو أم غير ثقة؟ لم يقبل خبره، فبأن لا يقبل خبره، إذا لم يذكره أصلاً أولى.

(3/916)


والجواب: أنا لا نسلم أن صفته مجهولة؛ لأن رواية العدل عن رجل تعديل له؛ لما بينا، وهو أنه لا يجوز في حقه أن يروى عن فاسق.
وقد قيل: إنه إذا كان فلان معروفا بالإسلام، فإنه يقبل خبره؛ لأن ظاهر أمره العدالة وترك مواقعة المحظور، وجواز أن كون فَعَل ما يوجب جرحاً في شهادته غير معلوم، فلم يكن في معرفة عدالته أكثر من عدم العلم بجرحه.
فإن قيل: تقبل شهادته، وإن لم يبحث عن عدالته للمعنى الذي ذكرت.
قيل: تقبل شهادته في إحدى الروايتين، فعلى هذا لا فرق، ولا نقبلها في الأخرى احتياطاً للشهادة، كما احتطنا لها من الوجوه التي ذكرنا.
واحتج: [138/ب] بأن الخبر ضربان: آحاد وتواتر، ثم ثبت أن الراوي لو روى حديثاً، وذكر أنه من أخبار التواتر، لم يقبل قوله: إنه متواتر، حتى يعرف أنه متواتر، كذلك إذا قال: أخبرني الثقة أن لا يقبل خبره، حتى تعلم ثقته؛ لجواز أن لا يكون ثقة عند المخبر.
والجواب: أن الخبر المتواتر ما استوى طرفاه ووسطه في عدد يقع العلم بخبرهم، وتسكن النفس إليهم في العادة، وهذا لا يؤخذ بقول الواحد: هذا متواتر، وليس كذلك أخبار الآحاد، فإن طريقها يقبل العدل عن العدل، وهذا موجود ها هنا.
فصل (1)
إذا ثبت أن المرسل حجة، فلا فرق بين مرسل عصرنا ومن تقدم.
هذا ظاهر كلام أحمد في رواية الميموني؛ لأنه قال: ربّما كان
__________
(1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (251).

(3/917)


المنقطع أقوى إسناداً من المتصل، ولم يفرق (1).
وحكي عن عيسى بن أبان أنه قال: ومن أرسل من أهل عصرنا حديثاً، فإن كان من الأئمة الذين حمل عنهم أهل العلم، فإن مرسَله مقبول، كما يقبل مسنَده، ومن حمل الناس عنه المسنَد دون المرسَل، فإن مرسَله موقوف (2).
وقال أبو سفيان: مذهب أصحابنا: مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين مقبولة.
وحكي عن الكرخي: أنه لم يفرق بين أهل سائر الأعصار (3). وهو اختيار الجرجاني.
__________
(1) تعقبه الشيخ ابن تيمية في "المسودة" ص (251) بقوله: (قلت: ما ذكره القاضي وابن عقيل أن مرسل أهل عصرنا مقبول كغيره، ليس مذهب أحمد، فإنا نجزم أنه لم يكن يحتج بمراسيل محدثي وقته وعلمائهم، بل يطالبهم بالإسناد. نعم المجتهدون في الحديث الذين يعرفون صحيحه وضعيفه، إذا قال أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، واحتج بذلك، فهذا نعم، كتعليق البخاري المجزوم به.
وبحث القاضي يدل على أنه: أراد بالمرسل من أهل عصرنا ما أرسله عن واحد، فهذا قريب بخلاف ما أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن سقوط واحد أو اثنين، ليس كسقوط عشرة، وحجته لا تتناول إلا ما سقط منه واحد، فإنه قال: المرسل إذا كان ثقة، فظاهره أن الذي أرسل عنه عدل، وهذا المعنى موجود في أهل الأعصار).
(2) نقل ذلك عنه أبو بكر السرخسي في "أصوله" (1/363)، والكمال ابن الهمام في "تحريره" (3/102) مطبوع مع شرحه "تيسير التحرير"، وابن عبد الشكور في كتابه "مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/174).
(3) نقل ذلك عن الكرخي أبو بكر السرخسي في "أصوله": (1/363).

(3/918)


دليلنا:
أن المرسِل إذا كان ثقة، فظاهره أن الذي أرسل عنه عدل، وهذا المعنى موجود في أهل الأعصار.
ولأن الناقل إذا ثبتت عدالته، فهو كالعدل من العصر الأول في قبول خبره، فيجب أن يكون فيما يرسله كذلك.
ولأنه لا معنى لاعتبار حمل الناس عنه؛ لأن توقفهم في النقل عنه إن كان بمعنى يعود إلى عدالته، فإن مرسَله ومسنَده واحد، وإن كان بمعنى ركود إلى إرسال الخبر، فإن وقوف من لا يرى نقل المراسيل فيه، لا يوجب التوقف فيمن يرى ذلك، كالشافعي.
واحتج المخالف:
بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثنى على القرون الثلاثة، فحالتهم أوكد ممن بعدهم (1)، فقد قال: (إن الكذب يفشو فيهم) (2)، فوجب التوقف في مرسله، إلا أن ينضم إليه نقل أهل العصر له.
والجواب: أن ثناءه على التابعين وتابعيهم، لم يوجب لهم القطع،
__________
(1) في الأصل: (من بعدهم).
(2) هذا جزء من حديث رواه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في كتاب الشهادات، باب منه، أي: مما جاء في شهادة الزور (4/549)، ولفظه: (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشوا الكذب، حتى يشهد الرجل، ولا يستشهد، ويحلف الرجل، ولا يستحلف").
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأحكام، باب كراهية الشهادة لمن لم يستشهد (2/791).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (1/18).

(3/919)


ولم ينفِ عنهم في تجويز الفسق، بخلاف الصحابة، ومع هذا فقد جاز قبولُ إرسالهم بَعد التهم في الظاهر، كذلك من بعدهم؛ لأن الخبر إنما يعتبر فيه العدالة في الظاهر. [139/أ]
فصل
فيه كلام الإمام أحمد رحمه الله في ترجيح المراسيل بعضها على بعض.
نقلته من كتاب "العلل" للخلال من الجزء الحادي والسبعين منه، فقال في رواية أبي الحارث: مرسلات سعيد بن المسيب صحاح، لا يرى أصح من مرسلاته، فأما الحسن وعطاء، فليس بذلك، هو أضعف المرسلات (1)، كأنهما كانا يأخذان من كلٍ.
وقال في رواية الفضل بن زياد [أما] مرسلات عطاء، ففيها شيء (2).
وأما ابن سيرين فما أحسن كل مخرجه أيضاً. ومرسلات سعيد بن المسيب أصح.
المرسلات، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها. وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح، كأنهما كانا يأخذان من كل.
وقال في رواية مهنا وقد سأله عن مرسلات سعيد بن جبير أحب إليك أم مرسلات عطاء؟ قال: مرسلات سعيد بن جبير أقرب، وهي أحب إلىّ من مرسلات عطاء.
وسأله عن مرسلات سعيد بن جبير أحب إليك أم مرسلات مجاهد (3)؟
__________
(1) في الأصل: (المراسلات).
(2) في الأصل: (ففيه شيء).
(3) هو: مجاهد بن جبر، أبو الحجاج، المكي، المخزومي بالولاء، أحد أئمة التفسير روى عن أبي هريرة وجابر وأم سلمة وغيرهم، رضي الله عنهم، =

(3/920)


فقال: مرسلات سعيد.
وسأله عن مرسلات مجاهد أحب إليك أم مرسلات عطاء؟ فقال: مرسلات مجاهد، لأن عطاء روى عمن هو دونه، ومجاهد لم يرو عمن هو دونه.
وقال في رواية أبي الحارث: مرسلات عطاء فيها شيء.
وقال في رواية مهنا وقد سأله عن مرسلات طاوس أحب إليك أو مرسلات أبي إسحاق (1)؟ قال: مرسلات طاوس.
وسأله عن مرسلات إسماعيل بن أبي خالد (2) أحب إليك أم مرسلات
__________
= وروى عنه قتادة وعطاء وعكرمة وخلق. ولد سنة (21 هـ)، ومات بمكة سنة (102 هـ) أو(103 هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/92)، و"تهذيب التهذيب" (10/42)، و"الخلاصة" ص (315)، و"شذرات الذهب" (1/125)، و"العبر" (1/125)، و"غاية النهاية" (2/41)، و"ميزان الاعتدال" (3/435).
(1) هو: عمرو بن عبد الله بن عبيد، أبو إسحاق السبيعي، الهمداني الكوفي. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان رضي الله عنه. روى عن علي بن أبي طالب والمغيرة ابن شعبة رضي الله عنهما كما روى عن خلق آخرين. وروى عنه قتادة والأعمش والثوري وغيرهم. مات سنة (108 هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/114)، و"تهذيب التهذيب" (8/63)، و"الخلاصة" ص (246)، و"شذرات الذهب" (1/174)، و"طبقات الحفاظ" ص (43).
(2) أبو عبد الله البجلي، الأحمسي بالولاء، الكوفي، الحافظ. سمع من ابن أبي أوفى وأبي جحيفة وطارق بن شهاب وآخرين. وحدث عنه شعبة والسفيانان ويحيى القطان وغيرهم. مات سنة (146 هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/153)، و"تهذيب التهذيب" (1/291)، و"الخلاصة" ص (28)، و"طبقات الحفاظ" ص (66)، و"العبر" (1/203).

(3/921)


عمرو بن دينار؟ فقال: إسماعيل بن أبي خالد لا يبالي (1) عمن حدث، عن أشعث بن سوار (2) وعن مجاهد، وعمرو، بن دينار لا يروي إلا عن ثقة، مرسلات عمرو أحب إليّ.
وسأله أيما أحب إليك، إبراهيم عن علي، أو مجاهد عن علي؟ قال: إبراهيم عن علي؛ لأن هذا كان مقيماً، وكان مجاهد إنما تقع إليهم الأخبار إلى الكوفة.
وقال في رواية أبي الحارث وقد سأله عن مرسلات النخعي، قال: ما أصلحها ليس بها بأس، أصلح من مرسلات الحسن.
وسأله مهنا: لم كرهت مرسلات الأعمش؟ قال: كان الأعمش لا يبالي عمن حدث. قيل له: فإن له رجلاً ضعيفا (3) غير إسماعيل بن مسلم (4) ويزيد الرَّقاشي (5)؟ قال: نعم، كان يحدث عن عتاب بن إبراهيم.
__________
(1) في الأصل: (لا يبال).
(2) الكندي التوابيتي، الأفرق، الأثرم الثقفي بالولاء، الكوفي. روى عن الحسن البصري والشعبي وعكرمة وخلق. وعنه أبو إسحاق السبيعي وشعبة وخلق. وهو راوٍ ضعيف. وقد أخرج له مسلم متابعة. مات سنة (136 هـ).
له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (1/352)، و"الخلاصة" ص (38) بولاق، و"المغني في الضعفاء" (1/91).
(3) في الأصل: (رجل ضعيف).
(4) أبو إسحاق، المكي، البصري. روى عن الشعبي والزهري وقتادة وغيرهم.
وعنه الأعمش والسفيانان وغيرهم. وهو راوٍ ضعيف عندهم، حتى قال النسائي فيه: "متروك".
له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (1/331)، و"الخلاصة" ص (36) بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/87)، و"ميزان الاعتدال" (1/248).
(5) هو: يزيد بن أبان أبو عمرو الرقاشي البصري. روى عن أنس والحسن وغيرهما. =

(3/922)


وسأله أيضاً عن مرسلات الأعمش، وسليمان النخعي (1)، ويحيى ابن أبي كثير (2)؟ قال: مرسلات يحيى بن أبي كثير أحب إليّ.
وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم وقد سأله عن مراسيل يحيى بن أبي كثير؟ فقال: لا تعجبني؛ لأنه يروي عن رجال صغار ضعاف.
وقال في رواية أبي طالب [139/ب]، وقد سأله عن رجل ما قال الحسن: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، وجدناه من حديث أبي هريرة وعائشة ُوسَمُرة (3)، قال. صدق.
__________
= وعنه حماد بن سلمة ومعتمر بن سليمان وجماعة. وهو راوٍ ضعيف. قال فيه النسائي: "متروك". وقال أحمد: "منكر الحديث". وقال ابن عدي: "أرجو أنه لا بأس به".
له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (11/311)، و"الخلاصة" ص (430)، بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/747)، و"ميزان الاعتدال" (4/418).
(1) هو: سليمان بن عمرو، أبو داود النخعي. قال أحمد: "كان يضع الحديث"، وقال البخاري: "متروك".
له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (1/282)، و"ميزان الاعتدال" (2/216).
(2) هو: يحيى بن أبي كثير صالح بن المتوكل، أبو نصر اليمامي، الطائي بالولاء.
روي عن أنس وعكرمة وغيرهم. وعنه ابنه عبد الله والأوزاعي وغيرهما. قال فيه أحمد: "من أثبت الناس، إنما يعد مع الزهري ويحيى بن سعيد" مات سنة (129 هـ).
له ترجمة في: "البداية والنهاية" (10/34)، و"تذكرة الحفاظ" (1/128)، و"تهذيب التهذيب" (11/268)، و"الخلاصة" ص (367)، و"طبقات الحفاظ" ص (51)، و"العبر" (1/169).
(3) هو: سمرة بن جندب بن هلال بن جريج، أبو عبد الرحمن، الفزاري صحابي جليل. كان من الحفاظ المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم. روى عنه الحسن والشعبي وغيرهما. نزل "البصرة"، وبها مات، سنة (58 هـ).

(3/923)


وقال في رواية مُهَنَّا، وقد سأله: هل شيء يجيء عن الحسن؟ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هو صحيح، ما نكاد نجدها إلا صحيحة.
وقال في رواية أبي الحارث: مرسلات ابن سيرين صحاح حسنة المخرج.
وقال في رواية مُهَنَّا. وقد سأله عن مرسلات سفيان (1)، فقال: كان سفيان لا يبالي عمن روي.
وسأله عن مرسلات مالك بن أنس، قال: هي أحب إليّ.
فصل
ولا يقبل الخبر حتى في تجتمع في ناقله شرائط خمس:
أحدها: أن يكون عاقلاً، ليعرف ما ينقل، ويميّز خبر الرسول [صلى الله عليه وسلم] وخبر غيره.
__________
= له ترجمة في: "الاستيعاب" (2/653)، و"الإصابة" القسم الثالث ص (178) طبعة دار نهضة مصر، و"تهذيب التهذيب" (4/236)، و"الخلاصة" ص (156) طبعة بولاق.
(1) هو: سفيان بن سعيد بن مسروق، أبو عبد الله، الثوري، الكوفي. روى عن أبيه وجعفر الصادق وأيوب وخلق. وعنه ابن المبارك ويحيى القطان وغيرهما.
قال فيه شعبة: "أمير المؤمنين في الحديث". ولد سنة (97 هـ)، ومات بالبصرة سنة (161 هـ).
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" (1579)، و"تذكرة الحفاظ" (1/203)، و"تهذيب التهذيب" (4/111)، و"الخلاصة" ص (123)، و"شذرات الذهب" (1/250)، و"طبقات المفسرين" للداودي (1/186)، و"غاية النهاية" (1/308).

(3/924)


والثاني: أن يكون عدلاً في الظاهر؛ لقوله تعالى: (إنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بنبَإ فَتَبَينوا أن تُصيبوا قَوْماً بجهَالَة) (1) الآية، إذا لم يكن عدلاً، لا يؤمن أن يكذب فيما ينقل؛ لأن من ارتكب الفاحشة ارتكب أن يكذب فيما ينقله.
وقَد قال أحمد رحمه الله في رواية أحمد بن الحسين (2): لا يكتب الحديث عمن يسكر.
وقال في رواية إبراهيم وسندي (3)، واللفظ لسندي، في الرجل يعرف بالكذب في الشيء، يحدث به القوم، فليس نعرف منه الكذب في الرواية: كيف يؤمن هذا على الرواية، أن يكذب فيها، إذا عرف منه الكذب في شيء؟!.
وإذا ثبت: أن العدالة شرط، فإن كل من أتي بكبيرة، فهو فاسق، حتى يتوب. وكل من أتي بصغيرة، ليس بفاسق، ومن تتابعت منه الصغائر، وكثرت، رد خبره وشهادته.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي الصقر (4) في الصلاة خلف آكل الربا: إن كان أكثر طعامه الربا، لم تصل خلفه. فاعتبر الكثرة في ذلك؛
__________
(1) (6) سورة الحجرات.
(2) الترمذي، وقد سبقت ترجمته.
(3) أبو بكر. الخواتيمي، البغدادي. من أصحاب الإمام أحمد، وممن نقل عنه مسائل صالحة.
له ترجمة في: "الإنصاف" (12/286)، و"طبقات الحنابلة" (1/170).
(4) هو: يحيى بن يزداد، أبو الصقر، أحد أصحاب الإمام أحمد. نقل عن الإمام أحمد جزءاً، فيه مسائل حسان، في الحِمَى والمساقاة والمزارعة والصيد واللقطة، وغير ذلك.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/409).

(3/925)


لأنا لو لم نقبل إلا من محّض الطاعة، لم يقبل أحد؛ لأن أحداً لا يمحض الطاعات، حتى لا يشق بها المعصية. يدل عليه قوله تعالى: (وعَصَى آدَمُ رَبهُ فَغَوَى) (1)، وأراد بالغي: وضع الشيء في غير موضعه. قال تعالى -في قصة داود-: (أنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفر رَبهُ وَخَر رَاكِعاً وَأَنَابَ) (2)، فأخطأ، وتاب الله عليه.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من أحد إلا عصى أو هَم بمعصيه إلا يحيى بن زكريا) (3)، فثبت: أن الأنبياء لم يسلموا من الخطأ والمعاصي، ولو قبلنا كل عاص، لم نرد أحداً، وقد أمرنا برد الفاسق، وإنفاذ العدل، فلم يكن بد من تفصيل بينهما، فكان الفصل بينهما ما ذكرنا.
فأما من ثبت كذبه، فإنه يرد خبره وشهادته، وإن لم يتكرر ذلك منه.
__________
(1) (121) سورة طه.
(2) (24) سورة ص.
(3) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً. أخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (4/2292) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، وتمام الحديث عنده: (... وما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى، عليه السلام).
وقد ذكره ابن كثير في "تفسيره" في تفسير سورة "مريم" (3/114) ثم قال: (... وهذا أيضاً ضعيف، لأن "علي بن زيد بن جدعان" له منكرات كثيرة).
وذكر الهيثمي في كتابه "مجمع الزوائد" (8/209)، واقتصر على لفظ المؤلف، مع اختلاف بسيط، ثم قال: (... رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، وزاد: "فإنه لم يهم بها، ولم يعملها" والطبراني وفيه "علي بن زيد"، وضعفه الجمهور، وقد وثق، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح".
وقد خالف الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- الجمهور - فوثق "علي بن زيد" في تعليقه على "المسند" (4/2292).
وانظر "الدر المنثور" (4/262).

(3/926)


وهذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية علي بن سعيد (1) في الرجل يكذب كذبةً واحدةً: لا يكون في موضع العدالة، الكذب شديد.
وكذلك نقل ابن منصور: أنه قال لأبي عبد الله [140/أ]: متى يترك حديثه؟ قال: إذا كان الغالب عليه الخطأ، قال له: الكذب من قليل وكثير؟ قال: نعم.
ونقل أحمد بن أبي عبيدة (2) عنه في الرجل يكذب، فقال: إن كثر كذبه، لم تصل خلفه.
وظاهر هذا: أنه لا يخرج من العدالة بكذبة واحدة.
وهذا على ظاهره فيما سئل عنه من صحة إمامته [أما] في الخبر والشهادة فلا؛ لأن الحاجة في الخبر إلى صدق المخبِر ومن ظهر منه ذلك أولى بالردّ ممن جعلت (3) أمارة رده المعاصي، التى يسمى بها فاسقاً.
ويدل عليه ما روى إبراهيم الحربي في كتاب النهي عن الكذب بإسناده عن موسى الجندي قال: رد النبي [صلى الله عليه وسلم] شهادة رجل في كذبة كذبها.
وبإسناده عن يحيى بن سالم (4) قال: اطلع رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، من وافد
__________
(1) النسوي، تقدمت ترجمته.
(2) هو: أحمد بن أبي عبدة -هكذا بالتكبير- أبو جعفر الهمداني. من أصحاب الإمام أحمد الذين أخذوا عنه، وماتوا قبله. قال فيه الإمام أحمد: "ما عبر هذا الجسر أنصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من أحمد بن أبي عبدة". قال الخلال: يعني: جسر النهروان.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/84).
(3) في الأصل: (جمعت).
(4) الكوفي. يروى عن إسرائيل. قال الدارقطني: "ضعيف". =

(3/927)


قوم على كذبة فقال له: (لولا سخاء فيك، ومدحك الله عليه؛ لشردتك من وافد قوم).
ولقد نقلة له أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد الحلبي (1) قال: سألت أحمد بن حنبل رحمه الله عن محدث كَذَب في حديث واحد، ثم تاب ورجع، قال: توبته فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يكتب عنه حديث أبداً (2).
وسألت قاضي القضاة أبا عبد الله الدامغاني (3) [عن ذلك] فقال: يقبل حديثه المردود وغيره، بخلاف الشهادة، إذا ردت، ثم تاب، لم يقبل
__________
= ونقل ابن حجر في "اللسان" أن ابن حبان ذكر في كتابه "الثقات" رجلاً آخر بهذا الاسم، يروى عن ابن عمر، وعنه روى الأعمش وفطر بن خليفة.
وقد ظهر لابن حجر أن الأخير غير الأول، وعلل ذلك بقوله: (فإن ليحيى ابن سالم الراوي عن إسرائيل ذكرا في ترجمة أشعث بن عمر بن الحسن بن صالح بن حي، وهو متأخر الطبقة عمن يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما).
انظر ترجمته في "لسان الميزان" (6/257)، و"ميزان الاعتدال" (4/377).
(1) من أصحاب الإمام أحمد، سمع منه ومن عبيد الله بن عمرو الرقي. كانت عنده مسائل كبار، يغرب بها على أصحاب أحمد.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/197).
(2) هذه الرواية ذكرها ابن أبي يعلى في "طبقاته" (1/198) عند ترجمته لعبد الله بن أحمد الحلبي.
(3) هو: محمد بن علي بن محمد بن الحسين أبو عبد الله الدامغاني. ولد سنة (398 هـ) كان حنفي المذهب. تفقه على القدوري، وسمع من الصوري وجماعة. ولِيَ القضاء ببغداد سنة (447هـ)، واستمر فيه ثلاثين سنة. مات ببغداد سنة (478هـ).
له ترجمة في: "الجواهر المضيئة" (2/96)، و"شذرات الذهب" (4/362)، و"المنتظم" (9/22).

(3/928)


في تلك الشهادة خاصة، قال: لأن هناك حكماً (1) من جهة الحاكم بردها، فلا يقبل؛ لأن فيه نقضاً للحاكم، ورد الخبر ممن روى له ليس بحكم؛ لأنه ليس بحاكم.
وسألت أبا بكر الشامي (2) [عنه] فقال: لا يقبل خبره فيما ردّ، ويقبل في غيره اعتباراً بالشهادة.
دليلنا:
أن من أقدم على الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، استدل على زندقته؛ لأنه لا يقدم علي ذلك -مع ما فيه من الوعيد- إلا زنديق، وتوبة الزنديق غير مقبولة في ظاهر الحكم على الرواية المشهورة أحمد.
ويفارق هذا الشهادة؛ لأن الكذب لا يدل على ذلك؛ لأنه يجوز أن يحمله علي ذلك الرغبة في الرشوة وقضاء الحق، فلهذا قبلت شهادته فيما لم يرد.
وكذلك إذا رد خبره بغير الكذب في الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه [وسلم]، أنه لا يدل على زندقته؛ لأنه يحتمل فعل تلك الأشياء المحظورة رغبة في إزالتها وحصول الأغراض.
__________
(1) في الأصل: (حكم).
(2) هو: محمد بن المظفر بن بكران أبو بكر الحموي الشامي، كان شافعي المذهب.
ولد بحماة سنة (405هـ). رحل إلى بغداد، وبها تفقه على أبي الطبيب الطبري.
وسمع من ابن بشران وابن غيلان وغيرهما.
تولى القضاء ببغداد سنة (478هـ)، وقد اشتهر بالعدل والزهد والورع. مات سنة (488هـ).
له ترجمة في: "شذرات الذهب" (3/391)، و"طبقات الشافعية" لابن السبكي (4/202)، و"العبر" (3/322)، و"المنتظم" (9/94).

(3/929)


وقد روى أبو إسحاق في تعاليقه عن أبي بكر النقاش (1) عن محمد بن سعيد (2) عن محمد بن سهل بن عسكر (3) سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: "إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون: هذا حديث غريب أو فائدة، فاعلم أنه خطأ، وإذا سمعتهم يقولون: هذا حديث لاشيء، فاعلم أنه صحيح".
أما قوله: إذا قالوا: "غريب أو فائدة"، فاعلم أنه خطأ، فذلك لأنهم لا يستغربون إلا الحديث الشاذ، الذي بمشهور، ولا رواه أئمة أصحاب الحديث، وما هذا سبيله يجوز عليه [140/ب] الغلط والسهو.
وقوله: "إذا سمعتهم يقولون: هذا حديث لا شيء، فاعلم أنه صحيح"، فذلك لأنهم يقولون هذا في الحديث المشهور، الذي تواتر طريقه، وعرف لفظه، فيقولون: لاشيء، يعني أنه ما أفادنا شيئاً؛ لاشتهاره
__________
(1) هو: محمد بن الحسن بن محمد بن زياد، أبو بكر النقاش، الموصلي. كان مقرئاً، عالماً بحروف القراءات، حافظاً للتفسير، سافر في طلب العلم إلى كثير من البلدان.
روى عن إسحاق بن سنين الختلي وأبي مسلم الكجي غيرهم. وعنه الدارقطني وابن شاهين وابن رزقويه وغيرهم قال فيه الخطيب البغدادي: (وفي أحاديثه مناكير بأسانيد مشهورة) مات سنة (351هـ).
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (2/201)، و"المنتظم" (7/14).
(2) هو: محمد بن سعيد، أبو بكر الحربي، المعروف بابن الضرير. كان زاهداً، ورعاً، ثقة. روى عن ابن رزقويه. مات سنة (351).
له ترجمة في: "المنتظم" (7/15).
(3) هو: محمد بن سهل بن عسكر بن عمارة، أبو بكر البخاري. حدث عن عبد الرزاق وغيره. وكان من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه بعض المسائل.
وروى عنه إبراهيم الحربي والبغوي وابن صاعد وغيرهم. قال ابن الجوزي فيه: "كان ثقة" مات سنة (351هـ).
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/298)، و"المنتظم" (7/15).

(3/930)


وتكرره ومعرفتنا له، وما هذا سبيله ينتفي عنه السهو والغلط، فيحكم بصحته.
فصل
ولا يقبل الجرح إلا مفسراً
وليس قول أصحاب الحديث: "فلان ضعيف"، و"فلان ليس بشيء" مما يوجب جرحه ورد خبره (1).
وهذا ظاهر كلام أحمد (2) رحمه الله في رواية المروذي؛ لأنه قال له عن يحيى بن معين (3): سألته عن الصائم يحتجم، فقال: لا شيء عليه، ليس يثبت فيها خبر (4)، فقال أبو عبد الله: هذا كلام مجازفة. فلم يقبل مجرد الجرح من يحيى.
__________
(1) من أول هذا الفصل إلى هنا، نقله الخطيب البغدادي بنصه في كتابه "الكفاية" ص (179) ونسبه إلى القاضي أبي الطيب الطبري.
(2) وهذا القول هو الذي ذهب إليه الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده، مثل البخاري ومسلم وغيرهما، هكذا قال الخطيب البغدادي في "المرجع السابق"، واختاره، وصرح بأنه هو الصواب.
(3) أبو زكريا، المري بالولاء، البغدادي. من حفاظ الحديث ونقاده، سمع هشيماً وابن المبارك وإسماعيل بن مجالد وغيرهم. وعنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم. ولد سنة (158هـ) ومات بالمدينة سنة (233هـ).
له ترجمة في: "التاريخ الكبير" (8/307)، و"التاريخ الصغير" (2/362)، و"تذكرة الحفاظ" (2/429)، و"الخلاصة" ص (368)، و"طبقات الحفاظ" ص (185)، و"العبر" (1/415).
(4) لم يذكر المؤلف الراوي الذي جاء في الخبر، والذي جرحه ابن معين بدون تفسير، كما لم يذكر لفظ الخبر، حتى يمكن البحث في سنده. =

(3/931)


وكذلك نقل مُهَنّا عنه قلت لأحمد: حديث خديجة (1): كان أبو[ها]، ما يرغب أن يزوجه (2)، فقال أحمد رحمه الله: الحديث معروف سمعته من غير واحد، قلت: إن الناس ينكرون هذا، قال: ليس هو منكر. فلم يقبل مجرد إنكارهم.
__________
= وإذا أردت الوقوف علي الأحاديث التي وردت في أن الحجامة تفسد الصوم، والأحاديث التي وردت في عدم فساده بها، إذا أردت ذلك فارجع إلى "تلخيص الحبير" (2/191-194).
(1) هي: أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى القرشية الأسدية.
زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم أولاده، عدا إبراهيم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبها. ويثني عليها دائماً ماتت بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين.
لها ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1817)، و"الإصابة" القسم السابع ص (600) طبعة دار نهضة مصر.
(2) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما. أخرجه عنه الإمام أحمد في: "مسنده" (1/312)، من طريق أبي كامل، عن حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس فيما يحسب حماد: (.. ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة، وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه فصنعت طعاماً وشراباً، فدعت أباها وزمراً من قريش، فطعموا، وشربوا، حتى ثملوا، فقالت خديجة لأبيها: إن محمد بن عبد الله يخطبني، فزوجني إياه، فزوجها إياه، فخلعته وألبسته حلة، وكذلك كانوا يفعلون بالآباء، فلما سرى عنه سكره، نظر، فإذا هو مخلق، وعليه حلة، فقال: ما شأني؟ ما هذا؟!. قالت زوجتني محمد بن عبد الله، قال: أنا أزوج يتيم أبي طالب؟! لا، لعمري، فقالت خديجة: أما تستحي؟ تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخبر الناس أنك كنت سكران، فلم تزل به حتى رضي).
بعد أن ذكره الهيثمي في كتابه "مجمع الزوائد" (9/220) باللفظ المذكور قال: (رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد والطبراني رجال الصحيح).
وذكر ابن عبد البر في كتابه: "الاستيعاب" (4/1817) أن الذي زوجها هو عمها: "عمرو بن أسد بن عبد العزى بن قصي". ولم يذكر غير هذا القول. =

(3/932)


ونقل عنه المروذي ما يدل على أنه يقبل، فقال: قريء على أبي عبد الله رحمه الله: حديث عائشة كانت تلبي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمه لك) (1) فقال أبو عبد الله: كان فيه: و"الملك لا شريك لك"، فتركته؛ لأن الناس خالفونا، وقوله: تركت روايته، لأجل ترك الناس، وإن لم يظهر العلة.
وجه الأول:
أن الناس اختلفوا فيما يفسق به، ولا بد من ذكر سببه؛ لينظر هل هو فسق أم لا، وعلى هذا لو شهد رجلان: أن هذا الماء نجس، لم تقبل شهادتهما، حتى يُبَيِّنا سبب النجاسة؛ لأن الناس اختلفوا فيما ينجس به الماء (2).
ووجه الثاني:
أن المعاني التي في يختلف في تأثيرها في الخبر معروفة (3)، فالواجب حمل أمر المزكي على الصحة، وأنه لا يحمل (4) للقاضي ما يعلم أنه لو فسره، لم يؤثر عنده.
إذا تقرر هذا، فإن صرح عدلان بما يوجب الجرح، ثبت الجرح.
__________
= قلت: ولعله الصواب؛ لأن أباها قد مات قبل ذلك، كما في "طبقات ابن سعد" (8/16)؛ ولأن النفس غير مرتاحة لما جاء في حديث أحمد من تزويج أبيها لها، على تلك الصفة. والله أعلم.
(1) هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب التلبية.. (2/162).
وأخرجه أحمد في "مسنده" (6/32).
وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" في كتاب الحج، باب ما جاء في التلبية.. (1/211).
(2) من قوله: (أن الناس اختلفوا فيما يفسق به...) إلى هنا نقله الخطيب البغدادي بنصه في كتابه "الكفاية" ص (179)، ونسبه إلى القاضي أبي الطيب الطبري.
(3) في الأصل: (معروف).
(4) بدون إعجام في الأصل.

(3/933)


فإن صرح أحدهما بما يوجب الجرح، ثبت الجرح أيضاً، وهذا قياس قوله في التعديل: إنه يثبت بقول الواحد، على ما نذكره.
والوجه فيه: أن العدد ليس بشرط في قبول الخبر، فلم يكن شرطاً في جرح الراوي، ويخالف الشهادة؛ لأن العدد شرط في قبول الشهادة والحكم بها، فلهذا لم يقبل جرح الواحد.
فأما تعديل الواحد فيقبل، كما يقبل جرحه.
قال في روارية الأثرم: إذا روى الحديث عبد الرحمن بن مهدي عن رجل، فهو حجة، وهذا يدل على أن رواية العدل عن غيره تعديل له، ويدل أيضاً على: أن تعديل الواحد مقبول.
وكذلك نقل أبو زُرعة قال سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: مالك (1) بن أنس إذا روي عن رجل لا يعرف [141/أ] فهو حجة.
وقد نقل مُهنَّا عنه ما يدل على أن رواية العدل [لا] تكون تعديلاً، ويجب السؤال عنه، فقال سألت أحمد رحمه الله عن رباح بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب (2)؟ فقال: مدني،
__________
(1) في الأصل: (لمالك).
(2) لم أجد أحداً بهذا الاسم، وإنما الذي وجدته هو:
أ- رباح بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب العدوي. روى عن سهيل بن أبي صالح وغيره. وعنه هشام بن يوسف. قال فيه أحمد والدارقطني: "منكر الحديث". وقال ابن حبان: "لا يجوز الاحتجاج بما تفرَّد به".
له ترجمة في: "التاريخ الصغير" (2/147)، و"التاريخ الكبير" (3/316)، و"ميزان الاعتدال" (2/37).
ب- عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي. روى عن أبيه وعبد الله بن عامر بن ربيعة وغيرهما. وعنه شعبة ومالك. ضعفه يحيى ومالك والنسائي. وقال ابن حبان: "كثير الوهم، فاحش الخطأ"، وقال أبو حاتم =

(3/934)


روى عنه عبد الرزاق (1). قلت: كيف هو؟ قال: ضعيف. وظاهر هذا أنه لم يجعل رواية العدل تعديلاً.
وهو قول أصحاب الشافعي.
فالدلالة على أن تعديل الواحد مقبول:
لأنه يقبل جرحه من الوجه الذي ذكرنا، فقبل تعديله.
وقد نَقل إسماعيل بن سعيد قال: قلت لأحمد: تعديل الرجل الواحد، إذا كان مشهوراً: بالصلاح؟ قال: يقبل ذلك. ذكرها الخلال في كتاب "الشهادات".
فظاهر هذا: [أن] تعديل الواحد للشاهد مقبول.
والدلالة على أن روايته تعديل له:
__________
= وأبو زرعة: "منكر الحديث". وقال الدارقطني: "يترك".
له ترجمة في: "التاريخ الصغير" (1/316)، و"التاريخ الكبير" (6/484)، و"ميزان الاعتدال" (2/353).
وبناءً على ما سبق يظهر: أن اسم "عاصم" الذي أورده المؤلف زائد، لا محل له.
أو أن اسم "رباح" محرف عن اسم "عاصم"، والله أعلم.
(1) هو: عبد الرزاق بن همام بن نافع، أبو بكر، الحِمْيَري بالولاء، الصنعاني أحد أئمة الإسلام. روى عن ابن جريج ومعمر والسفيانين والأوزاعي ومالك وغيرهم. وعنه أحمد وإسحاق وابن المديني وغيرهم. وهو ثقة، وكان يتشيع.
وفي حديثه بعد أن كف بصره بعد المائتين مقال مات سنة (211هـ).
له ترجمة في: "البداية والنهاية" (10/265)، و"التاريخ الصغير" (2/320)، و"تذكرة الحفاظ" (1/364)، و"تهذيب التهذيب" (6/310)، و"الخلاصة" ص (201): و"شذرات الذهب" (1/272)، و"ميزان الاعتدال" (2/209)، و"النجوم الزاهرة" (2/202).

(3/935)


ما تقدم في مسألة خبر المرسل، وهو: أنه لا يجوز أن يحدث عن فاسق لمن لا يعرفه، ويكتم ذلك، فيلزمه قبوله.
ولأنه لو روي عن غير ثقة كان قد قطع على رسول الله صلى الله عليه [وسلم]، بقول من هو كذاب عنده، وهذا ممنوع منه.
والوجه لمن قال: لا يكون تعديلاً:
بأنه يجوز أن يروي عمن لا يعرف عدالته، وإذا لم يحرم ذلك، لم تكن روايته تعديلاً، اللهم إلا أن يروي عنه ويعدّله بقوله أو بعمل [لا] يحرم فيكون تعديلاً.
فصل
ولا يقبل خبر من لم تعرف عدالته وإن عوف إسلامه وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الفضل بن زياد، وقد سأله عن أبي حميد يروي عن مشايخ لا يعرفهم، وأهل البلد يثنون عليهم؟ فقال: إذا
أثنوا عليهم، قبل ذلك منهم، هم أعرف بهم.
وظاهر هذا: أنه لا يقبل خبره إذا لم تعرف عدالته؛ لأنه اعتبر تعديل أهل البلد لهم.
وحكي عن أبي حنيفة: أنه يقبل خبر من لم تعرف عدالته، إذا عرف إسلامه.
دليلنا:
أن كل خبر لم يقبل من الفاسق، كان من شرطه معرفة عدالة المخبِر، كالشهادة، ولا يلزم عليه الخبر المرسل أنه مقبول، وإن لم تعرف عدالته؛ لأنه غير مجهول العدالة، لما بينا: أن رواية العدل عن غيره

(3/936)


تعديل له؛ لأنه لا يجوز أن يرويَ عن فاسق.
والذي روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة الأعرابي في رؤية الهلال لما علم إسلامه بقوله: "أشهد أن لا إله إلا الله" (1) وذلك لأنه يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم -، عرف من حال الشاهد أنه عدل ثقة، فلذلك حكم بشهادته.
وليس من شرطه معرفة العدالة الباطنة؛ لأن اعتبارها يشق. ويفارق الشهادة؛ لأن اعتبارها لا يشق؛ لأن لها معتبراً، وهو الحاكم، والاعتبار إليه، وليس كل من سمع الحديث حاكماً.
__________
(1) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما. أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في الصوم بالشهادة (3/65-66)، ولفظه: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني رأيت الهلال، قال: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟ أتشهد أن محمداً رسول الله؟" قال: نعم. قال: "يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غداً").
ثم قال الترمذي بعد ذلك: (حديث ابن عباس فيه اختلاف. وروى سفيان الثوري وغيره عن سماك عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وأكثر أصحاب سماك رووا عن سماك عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً).
وأخرجه أبو داود في كتاب الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان (1/547)، عن ابن عباس مسنداً.
كما أخرجه عن عكرمة مرسلاً. ثم قال بعد ذلك: (رواه جماعة عن سماك عن عكرمة مرسلاً...). ولفظه قريب من لفظ الترمذي.
وأخرجه النسائي عن ابن عباس رضي الله عنه مسنداً، في كتاب الصيام، باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان (4/106-107)، كما أخرجه عن عكرمة مرسلاً، ولفظه قريب من لفظ الترمذي.
وأخرجه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنه مسنداً، في كتاب الصيام، باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال (1/529).

(3/937)


فصل (1)
[141/ب] وقد أطلق أحمد رحمه الله القول بالأخذ بالحديث الضعيف.
فقال مهَنّا (2): قال أحمد: الناس كلهم أكْفاء إلا الحائك والحجام والكساح (3)، فقيل له: تأخذ بحديث (كل الناس أكْفاء إلا حائكاً (4) أو حجاما) (5) وأنت تضعفة؟ فقال: إنما نضعف إسناده، لكن العمل عليه.
__________
(1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (273)، فإنه نقل هذا الفصل بالنص، مع اختلاف طفيف.
(2) في الأصل: (بهذا)، والتصويب من "المسودة" ص (273).
(3) الكسح: الكنس، والكساح الكناس، ولعله المقصود هنا.
راجع مادة: (كسح) في "تهذيب اللغة"، و"القاموس" و"اللسان".
(4) في الأصل: (إلا حائك أو حجام).
(5) هذا الحديث رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أخرجه عنه البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب النكاح، باب اعتبار الصنعة في الكفاءة (7/134-135) بلفظ: (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل والموالي أكفاء لبعض قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، إلا حائك أو حجام).
ثم قال البيهقي بعد ذلك: (هذا منقطع بين شجاع وابن جريح حيث لم يسمع شجاع بعض أصحابه).
وذكر له بعد ذلك طرقاً أخرى، حكم عليها كلها بالضعف.
وقال ابن أبي حاتم في كتابه: "العلل" (1/412): (سألت أبي عنه.. فقال: هذا كذب لا أصل له). ونقل عن أبيه (1/421) قوله: (باطل، أنا نهيت ابن أبي شريح أن يحدث به).
ونقل عن أبيه مرة ثالثة (1/424) قوله: (.. هذا حديث منكر، رواه هشام الرازي، وزاد في الحديث "إلا حائك أو حجام أو دباغ" قال: فخرج عليه الدباغون، واجتمعوا، حتى أن بعض الناس حسّن الحديث، وقال: إنما معنى =

(3/938)


وكذلك قال في رواية ابن مُشَيْش (1) وقد سأله: عمن تحل له الصدقة وإلى أي شيء يذهب في هذا؟ فقال: إلى حديث، حكيم بن جبير (2)، فقلت: وحكيم بن جبير (3) ثَبَت عندك في الحديث (4)؟ قال: ليس هو عندي ثَبَتاً في الحديث.
__________
= هذا: "أو دباب"، إنما أراد هؤلاء الذين يتخذون الدباب)..
وقال الدارقطني في هذا الحديث: لا يصح.
وقال ابن عبد البر: هذا منكر موضوع.
وقد تكلم الزيلعي عن هذا الحديث في كتابه: "نصب الراية" (3/197)، كما تكلم عنه ابن حجر في كتابه: "تلخيص الحبير" (3/164) فارجع إليهما إن شئت.
(1) هو: محمد بن موسى بن مشيش البغدادي. من أصحاب الإمام أحمد المقدمين عنده. كان جاراً للإمام أحمد، ومكرماً لديه. نقل عنه كثيراً من المسائل.
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (3/240)، و"طبقات الحنابلة" (1/323)، و"مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي ص (511)، و"المنهج الأحمد" (1/246).
(2) حديث "حكيم بن جبير" هذا ذكره الذهبي في كتابه: "ميزان الاعتدال" (1/584)، عند كلامه عن "حكيم" المذكور، ولفظه: (لا تحل الصدقة لمن عنده خمسون درهماً).
(3) في الأصل: (حبير) بالحاء المهملة، وهو خطأ.
(4) روى حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير وأبي جحيفة وغيرهما. وعنه شعبة وزائدة وغيرهما. قال فيه أحمد: "ضعيف منكر الحديث" وقال النسائي: "ليس بالقوي" وقال الدارقطني: "متروك" وقال الجوزجاني: "كذاب" وقال فيه الذهبي: "فيه رفض، ضعفه غير واحد، ومشاه بعضهم، وحسن أمره، وهو مقل".
له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (1/186)، و"ميزان الاعتدال" (1/583).

(3/939)


وكذلك قال مُهَنّا: سألت أحمد رحمه الله: عن حديث مَعْمَر عن الزهري عن سالم (1) عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن غيلان (2) أسلم وعنده عشر نسوة (3)، قال: ليس بصحيح، والعمل عليه، كان عبد الرزاق يقول: عن مَعْمر عن الزهري مرسلاً.
__________
(1) هو: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عمر، أو أبو عبد الله، المدني.
أحد الفقهاء السبعة. روى عن أبيه وأبي هريرة وعائشة وغيرهم. وعنه ابنه أبو بكر وحنظلة بن أبي سفيان وغيرهما. مات سنة (106هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/88)، و"تهذيب التهذيب" (3/436)، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (111)، و"شذرات الذهب" (1/133)، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/301) و"النجوم الزاهرة" (1/256).
(2) هو: غيلان بن سلمة بن شرحبيل الثقفي. أسلم بعد فتح الطائف. ولم يهاجر.
كان مقدماً في قومه، كما كان شاعراً محسناً. توفي في آخر خلافة عمر رضي الله عنه.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1256)، و"الإصابة" القسم الخامس ص (330).
(3) هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنه؛ أخرجه عنه الترمذي في كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة (3/426) ولفظه: (أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم، وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخير أربعاً منهن).
ثم قال الترمذي بعد ذلك: (والعمل على حديث غيلان بن سلمة عند أصحابنا..).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، (1/628).
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب النكاح، باب أنكحة الكفار وإقرارهم عليها.. (2/349).
وأخرجه عنه الحاكم في "المستدرك"، في كتاب النكاح، باب قصة إسلام غيلان الثقفي، وتخييره، لأربع من النساء (2/193). =

(3/940)


[و] معنى قول أحمد: "ضعيف": على طريقة أصحاب الحديث؛ لأنهم يضعفون بما لا يوجب تضعيفه عند الفقهاء، كالإرسال والتدليس والتفرد بزيادة في حديث لم يروها الجماعة، وهذا موجود في كتبهم: تفرد به فلان وحده، فقوله: "هو ضعيف"، على هذا الوجه وقوله: "والعمل عليه" معناه: على طريقة الفقهاء.
وقد ذكر أحمد رحمه الله جماعة ممن يروي عنه مع ضعفه. فقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: قد يحتاج أن يحدث الرجل عن الضعفاء مثل عمرو ابن مرزوق (1)، وعمرو بن حكام (2)، ومحمد بن معاوية (3) وعلي بن
__________
= وأخرجه عنه البيهقي في "سننه الكبرى"، في كتاب النكاح، باب عدد ما يحل من الحرائر والإماء (7/149).
قال ابن عبد البر في هذا الحديث: "طرقه كلها معلولة".
لمزيد من الاطلاع على ما في هذا الحديث من الكلام، راجع: "تلخيص الحبير" (3/168).
(1) هو: عمرو بن مرزوق الباهلي أبو عثمان البصري. روى عن عكرمة بن عمار وشعبة وغيرهما. وعنه البخاري مقروناً بغيره، وأبو داود وغيرهما. وثقه أبو حاتم ويحيى، ونقل عن أحمد توثيقه، مع أن المؤلف نقل عنه تضعيفه.
كان يحيى بن سعيد لا يرضاه.
وكان ابن المديني يقول: "اتركوا حديث العمرين"، يعني عمرو بن مرزوق، وعمرو بن حكام. مات سنة (224هـ).
له ترجمة في: "خلاصة تذهيب الكمال" ص (293) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/489)، و"ميزان الاعتدال" (3/287).
(2) عمرو بن حكَام؛ روى عن شعبة. قال البخاري فيه: "ليس بالقوي عندهم".
ضعفه ابن المديني. وقال أحمد: "ترك حديثه".
له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (2/482)، و"ميزان الاعتدال" (3/254).
(3) في كتاب المغني في "الضعفاء" (2/634) ثلاثة بهذا الاسم: =

(3/941)


الجعد (1)، وإسحاق بن أبي إسرائيل (2)، ولا يعجبني أن يحدث عن بعضهم.
وقال أيضاً في رواية ابن القاسم (3) في ابن لهيعة (4): ما كان حديثه
__________
= الأول: محمد بن معاوية النيسابوري.
الثاني: محمد بن معاوية عن جويرية بن أسماء.
الثالث: محمد بن معاوية أبو جعفر الأنماطي.
وكذلك الشأن في كتاب: "ميزان الاعتدال" (4/44-45)، ولم أتوصل إلى معرفة المقصود منهم ها هنا.
(1) هو: علي بن الجعد أبو الحسن الجوهري، الهاشمي بالولاء البغدادي، روى عن الثوري وشعبة وابن أبي ذئب. وعنه البخاري وأبو داود ومسلم في غير الصحيح. وثقه ابن معين وقال أبو حاتم فيه: "متقن". وقال النسائى: "صدوق".
وقال فيه مسلم: "ثقة، لكنه جهمي". وكان أحمد لا يكتب عمن أجاب في الفتنة، ولذلك لم يمكن ابنه عبد الله من الكتابة عن ابن الجعد هذا. مات سنة (230هـ).
له ترجمة في: "الخلاصة" ص (272) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/444)، و"ميزان الاعتدال" (3/116).
(2) هو: إسحاق بن أبي إسرائيل إبراهيم أبو يعقوب المروزي. روى عن شريك وحماد بن زيد وغيرهما. وعنه أبو داود والبغوي وغيرهما. وثقه يحيى بن معين والدارقطني. كان قليل العقل. وكان يقف في القرآن. مات سنة (246 هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (2/484)، و"تهذيب التهذيب" (1/223)، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (27) طبعة بولاق، و"ميزان الاعتدال" (1/182).
(3) هو: أحمد بن القاسم. من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه المسائل. كما كان من أصحاب أبي عبيد القاسم بن سلام.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/55).
(4) هو: عبد الله بن لَهيعَة بن عقبة أبو عبد الرحمن الحضرمى المصري الفقيه. =

(3/942)


بذلك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، أنا قد أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع حديث غيره يشده، لا أنه حجة إذا انفرد.
وقال في رواية المروزي: كنت لا أكتب حديثه -يعني جابر الجعفي (1)- ثم كتبته أعتبر به.
فقال له مُهَنّا: لم تكتب عن أبي بكر بن أبي مريم (2)، وهو
__________
= روى عن عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار وغيرهما. وعنه الثوري والأوزاعي وشعبة وغيرهم. قال فيه أحمد: "احترقت كتبه، وهو صحيح الكتاب، ومن كتب عنه قديماً فسماعه صحيح". وقال فيه مرة: "ما كان محدث مصر إلا ابن لهيعة". وقال ابن معين: "لي بذاك". وقال مسلم: "تركه وكيع ويحيى القطان وابن مهدي".
ولد سنة (97هـ)، ومات سنة (174هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/237)، و"تهذيب التهذيب" (5/373)، و"خلاصه تذهيب الكمال" ص (179)، و"شذرات الذهب" (1/283)، و"المغني في الضعفاء" (1/352).
(1) هو: جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي الكوفي الشيعي. روى عن عامر بن واثلة والشعبي وأبي الطفيل وخلق. وعنه شعبة والسفيانان وخلق. وثقه الثوري.
وقال شعبة: "صدوق" قال النسائي: "متروك" وقال أبو داود: "ليس بالقوي في حديثه". وقال يحيى: "لا يكتب حديثه، ولا كرامة" وكذبه أبو حنيفة والجوزجاني. مات سنة (128هـ).
له ترجمة في: "تنزيه الشريعة المرفوعة" (1/44)، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (59) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (1/126)، و"ميزان الاعتدال" (1/379).
(2) هو: أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الحمصي: اختلف في اسمه، فقيل: بكير. وقيل: عبد السلام. وقيل: عمرو. وقيل: عامر. روى عن مكحول وخالد بن معدان. وعنه إسماعيل بن عياش وبقية. قال فيه الجوزجاني: "هو متماسك" وقال ابن عدي: "أحاديثه صالحة، ولا يحتج به". وقد ضعفه =

(3/943)


ضعيف؟ قال: أعرفه.
والوجه في الرواية عن الضعفاء: أن فيه فائدة، وهو أن يكون الحديث قد روي من طريق صحيح. فيكون برواية الضعيف ترجيحاً، أو ينفرد الضعيف بالرواية، فيعلم ضعفة؛ لأنه لم يرد إلا من الطريق الضعيف فلا يقبل.
فصل
في بيان الكبائر من المعاصي
فروى أبو بكر بإسناده في كتابه عن عبيد بن عمير (1) عن أبيه (2) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الكبائر تسع: الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة، وقذف المحصنة، والزنا، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين المسلمين، والإلحاد بالبيت الحرام) (3).
__________
= أحمد وابن معين وابن حبان وغيرهم. مات سنة (156هـ).
له ترجمة في: "خلاصة تذهيب الكمال" ص (444) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/774)، و"ميزان الاعتدال" (4/497).
(1) هو: عبيد بن عمير بن قتادة أبو عاصم الليثي المكي. ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. روى عن عمر وعائشة وعلى غيرهم. وعنه مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وآخرون. وثقه أبو زُرعة وابن معين مات سنة (64هـ) على ما قيل.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/50)، و"تهذيب التهذيب" (6/71)، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (216)، و"طبقات الحفاظ" ص (14)، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/496).
(2) هو: عمير بن قتادة بن سعد الليثي الكوفي. صحابي، سكن مكة. لم يرو عنه غير ابنه عبيد. له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1219)، و"الإصابة" القسم الرابع ص (724) طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (297) طبعة بولاق.
(3) هذا الحديث أخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الإيمان، باب الكبائر تسع =

(3/944)


وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن (1) عن [142/أ] أبي هريرة قال [قال] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الكبائر سبع: أولهن الإشراك بالله عز وجل، وقتل النفس بغير حق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بداراً أن يكبروا، وفرار (2) من الزحف، وزنا بالمحصنات، وانقلاب إلى الأعراب بعد
__________
= (1/59) عن عميرة بن قتادة رضي الله عنه، وعقب عليه بقوله: (وقد احتجا برواة هذا الحديث غير عبد الحميد بن سنان، فأما عمير بن قتادة، فإنه صحابي، وابنه عبيد، متفق على إخراجه والاحتجاج به).
وقال الحافظ المنذري في كتابه: الترغيب والترهيب (2/509) بعد أن أورد هذا الحديث: (رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن).
وأخرجه النسائي في كتاب تحريم الدم، باب ذكر الكبائر (2/82)، ولفظه: (.. أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: "هن سبع أعظمهن: إشراك بالله، وقتل النفس بغير حق، وفرار يوم الزحف". ثم قال النسائي بعد ذلك: (مختصر).
ومدار الحديث على: "عبد الحميد بن سنان". وثقه ابن حبان.
وقال الذهبي في الميزان: (عداده في التابعين، لا يعرف، وقد وثقه بعضهم).
وقال البخاري: فيه نظر.
وقد روى عنه يحيى بن أبي كثير.
انظر ترجمته في: "الخلاصة" ص (222) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (1/369)، و"ميزان الاعتدال" (2/541).
(1) هو: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني. اسمه كنيته وقيل: اسمه: عبد الله. روى عن أبيه وأبي هريرة وأسامة بن زيد وخلق. وعنه الأعرج والشعبي والزهري وآخرون. كان مع علمه بالحديث فقيهاً. مات سنة (94هـ) وله اثنان وسبعون سنة.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/63)، و"تهذيب التهذيب" (12/115)، و"الخلاصة" ص (388)، و"شذرات الذهب" (1/105)، و"طبقات الحفاظ" ص (23).
(2) في الاصل: (فراراً) بالنصب.

(3/945)


الهجرة) (1)، ويجب أن يكون من جملتها السرقة؛ لأن القطع أعظم من الجلد في الزنا، وكذلك شرب الخمر.
وقد حَدّ أحمد رحمه الله الكبائر: بما يوجب حداً في الدنيا ووعيداً في الآخرة، فقال في رواية جعفر بن محمد (2): سمعت سفيان بن عيينة يقول في قوله تعالى: (إلا اللمَمَ) (3) قال: ما بين حدود الدنيا والآخرة.
قال أبو عبد الله: حدود الدنيا مثل السرِق والزنا، وعد أشياء، وحد الآخرة: مايحد في الآخرة، واللمم: الذي بينهما.
قال أبو بكر في تفسيره لقوله تعالى: (إنْ تَجْتنبوا كبائر مَا تنهون) (4)، قد روي أنها سبع.
__________
(1) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - هذا أخرجه البزار، ولفظه قريب من لفظ المؤلف، إلا أنه ذكر: (قذف المحصنات) بدل: (زنا بالمحصنات).
راجع: "الترغيب والترهيب" (2/505).
وأخرجه الطبراني في معجمه الأوسط عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ولفظه كلفظ البزار مع اختلاف طفيف.
انظر: الفتح الكبير (2/338).
وأصل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في صحيح البخاري، في كتاب المحاربين، باب رمي المحصنات (8/218)، ولفظه: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات).
(2) يوجد كثير بهذا الاسم في "طبقات الحنابلة" (1/123-127)، وكلهم من أصحاب الإمام أحمد الذين تنلمذوا عليه، ونقلوا عنه، ولم أتوصل إلى معرفة المراد منهم.
(3) (33) سورة النجم.
(4) (31) سورة النساء.

(3/946)


وروى عبد الله بن أنيس الجهني (1) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن من الكبائر: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس) (2)، قال: فما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه [وسلم] الشرك بالله. وعقوق الوالدين، وقتل النفس المحرم قتلها، وقول الزور، وقد يدخل في قتل النفس المحرمة: قتل الرجل ولده، من أجل أنه يطعم معه، والفرار من الزحف، والزنا بحليله الجار.
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (هي سبع)، يكون معنى قوله: (سبع) على التفصيل، ويكون معنى قوله في الخبر الذي روي عنه أنه قال: (وهي الإشراك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقول الزور) (3) على الإجمال، إذا كان قوله: (وقول الزور) يحمل (4) على معان شتى، وإن جمع ذلك قول الزور، فأما أبو بكرة (5) ومن جلد معه، فلا يرد خبرهم؛ لأنهم جاؤوا مجيء
__________
(1) أبو يحيى المدني. صحابي. كان حليفاً لبني سلمة من الأنصار، شهد أحداً وما بعدها. مات بالشام سنة (54هـ).
له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/869)، و"الإصابة" (4/37).
(2) هذا الحديث أخرجه الترمذي في كتاب التفسير، باب: ومن سورة النساء (5/236)، وقال فيه: "حديث حسن غريب".
(3) هذا الحديث رواه أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب الديات، باب: قول الله تعالى: (ومن أحياها): (9/4).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها (1/91).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب التفسير، باب: ومن سورة النساء (5/235).
وأخرجه عنه النسائى في كتاب القسامة، باب تأويل قول الله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً...) (8/57).
(4) في الأصل: (يحتمل).
(5) هو: نفيع بن مسروح، وقيل: نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو، أبو بكرة الثقفي. صحابي. أسلم يوم الطائف. كان كثير العبادة. أحد الثلاثة الذين شهدوا =

(3/947)


الشهادة، وليس بصريح في القذف، وقد اختلفوا في وجوب الحد، ويسوغ فيه الاجتهاد، ولا ترد الشهادة بما يسوغ فيه الاجتهاد.
ولأن نقصان العدد معنى من جهه غيره، فلا يكون سبباً في رد شهادته.
عدنا إلى ذكر الشرائط التي يقبل معها الخبر، وقد ذكرنا منها شرطين أحدهما العقل والثاني العدالة.
الثالث: أن لا يكون مبتدعاً يدعو إلى بدعة.
لأنه إذا دعى إلى بدعة، لا يؤمن أن يضع لما يدعو إليه حديثاً يوافقه.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الأثرم، وقد ذكر له: أن فلاناً أمر (1) بالكَتْب عن سعد العَوْفي (2)، فاستعظم ذلك، وقال: جهمي، ذاك امتحن فأجاب قبل أن يكون ترهيب.
وقال في رواية أبي داود: احتملوا من المرجئة الحديث، ويكتب عن القدري، إذا لم يكن داعية.
الرابع: [142/ب] أن يكون ضابطاً لما ينقله.
لأنه متى لم يضبط، غيَّر اللفظ والمعنى.
__________
= على المغيرة بن شعبة، فجلدهم عمر. مات أبو بكرة بالبصرة سنة (51هـ).
له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1614)، و"الإصابة" القسم السادس ص (467)، طبعة دار نهضة مصر.
(1) في الأصل: (أمين)، وهو خطأ، والتصويب من "المسودة" ص (264).
(2) هو: سعد بن محمد بن الحسن بن عطية بن سعد العوفي. ضعيف روى عن أبيه وعمه الحسن وفليح. وعنه ابنه محمد وابن أبي الدنيا وغيرهم. قال فيه الإمام أحمد: "جهمي..."، كما قال: "ولم يكن هذا أيضاً ممن يستأهل أن يكتب عنه، ولا كان موضعاً لذاك". =

(3/948)


وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروذي: لا ينبغي للرجل إذا لم يعرف الحديث أن يحدث به، ثم قد صار الحديث يحدث به من لا يعرفه.
وقال في الكبير لا يعرف الحديث ولا يعقل: إذا كتب، فلا بأس أن يرويه.
الخامس: أن يكون بالغاً:
لأن من لم يبلغ لا رغبة له في الصدق، ولا حذر عليه في الكذب؛ لأنه لا عقاب عليه، فحاله دون حال الفاسق؛ لأن الفاسق قد يرجو ثواباً، ويتجنب ذنوباً يخشى العقاب عليها، ولا يقبل خبر الفاسق، فالصبي أولى.
ولأنا لما نقبل إقراره على نفسه، لم نقبله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فأما تحمله الخبر، إذا كان عاقلا مميزاً، ورواه بعد، بلوغه، فجائز لإجماع السلف على عملهم بخبر ابن عباس، وابن الزبير (1)، والنعمان بن بشير (2)، وغيرهم من أحداث الصحابة.
__________
= له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (9/126)، و"لسان الميزان" (3/18).
(1) هو: عبد الله بن الزبير بن العوام أبو بكر القرشي الأسدي. من صغار الصحابة.
ولد سنة اثنتين من الهجرة. وقيل: في السنة الأولى. بويع بالخلافة بعد موت معاوية ابن يزيد، سنة (64هـ) أو سنة (65هـ)، وظل كذلك حتى قتل وصلب سنة (73هـ)، وله من العمر (72) سنة.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/905)، و"الإصابة" القسم الرابع ص (89) طبعة دار نهضة مصر، و"شذرات الذهب" (1/79).
(2) هو: النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري الخزرجي، ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثمان سنين تولى إمرة الكوفة لمعاوية ستة أشهر. ثم تولى له إمرة حمص، ولابنه يزيد من بعده. ولما مات يزيد تبع ابن الزبير. فخالفه أهل حمص، وقتلوه سنة (64هـ). =

(3/949)


ولأنه، لما جاز أن يتحمل الشهادة قبل بلوغه، ويؤديها بعد بلوغه، مع ضيق الشهادة، فأولى أن يتحمل الخبر ويؤديه بعد بلوغه، مع سعة الخبر.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية إبراهيم بن الحارث، والمروذي وحنبل: يصح سماع الصغير إذا عَقَل وضبَطَ.
وقد روى البخاري (1) في صحيحه عن محمد بن يوسف (2) عن أبي مِسْهَر (3)
__________
= له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1496)، و"الإصابة" القسم السادس ص (440) طبعة دار نهضة مصر، و"شذرات الذهب" (1/72).
(1) هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم أبو عبد الله البخاري الجعفي بالولاء الحافظ المتقن. طبقت شهرته الآفاق. روى عن أحمد وابن المديني وخلق. وعنه مسلم والترمذي وخلق. له كتب منها: "الجامع الصحيح" و"التاريخ الكبير". مات سنة (256هـ).
له ترجمة في: "البداية والنهاية" (11/24)، و"تذكرة الحفاظ" (2/555)، و"تاريخ بغداد" (2/4)، و"تهذيب التهذيب" (9/47)، و"شذرات الذهب" (2/134).
(2) هو: محمد بن يوسف بن واقد الفريابي الضبي بالولاء، أبو عبد الله روى عن السفيانين والاوزاعي وغيرهم. وعنه البخاري وأحمد وغيرهما. مات سنة (212هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/376)، و"شذرات الذهب" (2/28)، و"طبقات الحفاظ" ص (159).
(3) هو: عبد الأعلى بن مسهر بن عبد الأعلى، أبو مسهر الغساني الدمشقي روى عن إسماعيل بن عياش ومالك وغيرهما. وعنه الذهلي وأبو زرعة وغيرهما. حبسه المأمون في بغداد وظل في محبسه حتى مات سنة (218هـ).
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (11/72)، و"تذكرة الحفاظ" (1/381)، و"شذرات الذهب" (2/44)، و"طبقات الحفاظ" ص (163).

(3/950)


عن محمد بن حرب (1) عن الزبيدي (2) عن الزهري عن محمود بن الربيع (3) قال: (عَقَلْت من النبي - صلى الله عليه وسلم - مَجّةً مَجّهَا في فيَّ، وأنا ابن خمس سنين) (4)، وهذا يدل على أن ابن خمس يعقل ويضبط، فيصح سماعه.
فأما الذكورية: فلا تعتبر؛ لأن النساء نقلن الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولا تعتبر الحرية؛ لأن الحديث موضوع على حسن الظن بالراوي، لأنه يروي ما يشترك فيه المخبِر والمخبَر.
__________
(1) في الاصل: (جرير)، والصواب: ما أثبتناه، والتصويب من "صحيح البخاري": (1/29)، و"الاستيعاب" (3/1378) في ترجمة محمود بن الربيع رضي الله عنه.
وهو: محمد بن حرب أبو عبد الله الحمصي الخولاني، المعروف بالأبرش كان قاضي دمشق. وكان حافظاً مكثراً. روى عن الأوزاعي وابن جريج وآخرين.
وعنه أبو مسهر وحيوة بن شريح. مات سنة (194هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/310)، و"شذرات الذهب" (1/341)، و"طبقات الحفاظ" ص (128)، و"النجوم الزاهرة" (2/146).
(2) هو: محمد بن الوليد بن عامر أبو الهذيل الزبيدي الحمصي. الحافظ المتقن. روى عن الزهري ونافع وآخرين. وعنه محمد بن حرب والأوزاعي وغيرهما. مات سنة (146هـ) وله سبعون سنة.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/162)، و"تهذيب التهذيب" (9/503)، و"طبقات الحفاظ" ص (71).
(3) هو: محمود بن الربيع بن سراقة أبو نعيم، وقيل: أبو محمد الخزرجي الأنصاري.
من صغار الصحابة. معدود في أهل المدينة. أكثر روايته عن الصحابة. روى عنه ابن شهاب ورجاء بن حيوة. مات سنة (97هـ) وله ثلاث وتسعون سنة.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1378)، و"الإصابة" (6/66).
(4) هذا الحديث أخرجه البخاري بالسند المذكور في كتاب العلم، باب متى يصح سماع الصغير؟ (1/29).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب المج في الإناء (1/216).

(3/951)


ولا يعتبر فيه البصر، لأن الشهادة مع تأكدها، يصح تحملها وأداؤها من الضرير على أصلنا، فأولى أن يصح الخبر مع سعته.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية عبد الله في سماع الضرير البصير: إذا كان يحفظ من المحدث فلا بأس، وإذا لم يكن يحفظ فلا، وقال: الأمي بهذه المثابة إلا ما حفظ من الحديث.
[حكم الرواية عن أصحاب الرأي]
قال أحمد رحمه الله في رواية أصحاب الرأي: لا يروى عنهم الحديث (1).
وهذا محمول على أهل الرأي من المتكلمين، كالقدرية ونحوهم (2).
[حكم الرواية عن الجندي]
وقال في رواية المروذي وقد سأله: يكتب عن الرجل، إذا كان جندياً؟ فقال: أما نحن فلا نكتب عنهم.
وكذلك قال في رواية إبراهيم بن الحارث: إذا كان الرجل في الجند، لم أكتب عنه.
وهذا محمول على طريق الورع؛ لأن الجندي لا يتجنب المحرمات في الغالب.
__________
(1) كلام الإمام أحمد هذا من رواية ابنه عبد الله، كما في "المسودة" ص (265).
(2) تعقبه في "المسودة" ص (265-266) بقوله: (قلت: ليس كذلك بل نصوصه في ذلك كثيرة، وهو ما ذكرته في المبتدع أنه نوع من الهجرة، فإنه قد صرح بتوثيق بعض من ترك الرواية عنه كأبي يوسف ونحوه، ولذلك لم يرو لهم في الأمهات كالصحيحين).

(3/952)


[حكم الرواية عمن أجاب في المحنة]
وقال في رواية محمود بن غيلان (1): [لا] أحب أن أحدث عمن أجاب، يعني في [143/أ] المحنة (2).
وقال في رواية حجاج الشاعر (3): أما أنا فلا أكتب عمن أجاب في المحنه.
وهذا على ظاهره؛ لأن من أجاب من غير إكراه كان مختاراً للبدعة.
[حكم الرواية عمن يبيع العِينَة أو يأخذ الأجرة على الحديث]
وقال في رواية سَنَدي الخَواتيمي: لا يعجبني أن يكتب الحديث عن معينٍ (4). يعني يبيع هذه العينة.
__________
(1) أبو أحمد المروزي. من أصحاب الإمام أحمد. سمع من الفضل بن موسى السيناني وسفيان بن عيينة. وعنه البخاري ومسلم وغيرهما. مات سنة (239هـ)، وقيل: سنة (249هـ).
له ترجمة في: "شذرات الذهب" (2/92). و"طبقات الحنابلة" (1/340).
(2) هذه الرواية ذكرها ابن أبي يعلى في "طبقاته" (1/340) في ترجمة محمود بن غيلان.
(3) هو: حجاج بن يوسف بن حجاج أبو محمد الثقفي، المعروف بابن الشاعر البغدادي مولداً ونشأةً. روى عن الإمام أحمد وعبد الرزاق وغيرهما. وعنه مسلم وأبو داود وغيرهما. مات سنة (259هـ).
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (8/240)، و"تذكرة الحفاظ" (2/559)، و"شذرات الذهب" (2/139)، و"طبقات الحفاظ" ص (244)، و"طبقات الحنابلة" (1/148).
(4) في الأصل: (معن).

(3/953)


وقد قال في رواية حُبَيش (1) وسلمة بن شبيب (2): لا نكتب عن هؤلاء الذين يأخذون الدراهم على الحديث ويحدثون، ولا كرامة.
وهذا على طريق الورع؛ لأن بيع العينة، وأخذ الأجرة على رواية الحديث، مما يسوغ فيه الاجتهاد، وما يسوغ فيه الاجتهاد لم يفسق فاعله.
[التدليس]
فأما التدليس (3) فإنه يكره (4)، ولكن لا يمنع من قبول الخبر.
__________
(1) هو: حبيش بن سندي. من كبار أصحاب الإمام أحمد. يقال: إنه كتب عن الإمام أحمد نحواً من عشرين ألف حديث.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/146).
وهناك شخص آخر بهذا الاسم في "طبقات الحنابلة" (1/147) هذا الشخص هو: حبيش بن مبشر بن أحمد الثقفي، الطوسي الأصل. من أصحاب الإمام أحمد. مات سنة (258هـ).
والذي يظهر لي أن المقصود هو الأول؛ لأنه أشهر، وكثير الرواية عن الإمام، ولأن الأخير يذكر باسم: حبيش بن مبشر. والله أعلم.
(2) النيسابوري. من أصحاب الإمام أحمد. ذكره أبو بكر الخلال، وقال فيه: رفيع القدر، حدث عن شيوخنا الأجلاء.
له ترجمة في: "الإنصاف" (12/286). و"طبقات الحنابلة" (1/269).
(3) أصل مادة (د ل س) تدل -كما يقول ابن فارس-: "على ستر وظلمة"، "فالدلس": يأتي بمعنى "الظلمة"، ويأتي بمعنى: "اختلاط الظلمة بالنور".
وسميت الصفة المعروفة لدى المحدثين بهذا الاسم لاشتراكهما في الخفاء كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر في كتابه "نخبة الفكر" و"شرحها" ص (77) مطبوع مع لفظ الدرر.
وراجع في ذلك أيضاً: "المصباح المنير" (1/305)، و"معجم مقاييس اللغة" (1/296) مادة (دلس).
(4) ليس ذلك على إطلاقه، كما سيأتي بيان ذلك في ص (955-957).

(3/954)


وصورته: أن ينقل عمن لم يسمع منه، يوهم أنه قد سمع منه، مثل أن يكون عاصر الزهري، ولم يسمع منه، لكنه سمع عن رجل عنه، فأتي بلفظ يوهم أنه سمعه من الزهري بلا واسطة، فيقول: روى الزهري أو قال الزهري: عروة (1)، أو عن عروة، فكل من سمع هذا يذهب إلى أنه سمعه من الزهري بلا واسطة (2)
__________
(1) هو: عروة بن الزبير في العوام أبو عبد الله الأسدي المدني. أحد الفقهاء السبعة.
روى عن أمه وخالته عائشة وأبي هريرة وغيرهم، وعنه أولاده عثمان وعبد الله وهشام ويحيى وخلائق. كان بحراً في العلم. ولد سنة (23هـ)، وقيل سنة (29هـ) ومات سنة (91هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/62)، و"تهذيب التهذيب" (7/180)، و"الخلاصة" ص (224)، و"شذرات الذهب" (1/103)، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/511)، و"النجوم الزاهرة" (1/228).
(2) أشار المؤلف بهذه الصورة إلى تدليس الإسناد، وقد ذكر الشيخ مصطفى أمين التازي في كتابه "مقاصد الحديث" (2/177-184) أربع صور لتدليس الإسناد هي:
الأولي: "أن يروي الراوي عمن لقيه وسمع منه حديثاً لم يسمعه منه بصيغه توهم السماع منه مسقطاً في الحقيقة شيخه الذي أخذ الحديث مباشرة عنه"، وهذه الصورة كما يقول الشيخ متفق على تسميتها بتدليس الإسناد.
الثانية: "أن يروي الراوي عمن لقيه ولم يسمع منه حديثاً بصيغة توهم السماع منه مسقطاً في الحقيقة شيخه الذي أخذ الحديث مباشرة عنه" وهذه الصورة ذكر الشيخ فيها قولين، أحدهما: تدليس إسناد، وثانيها: إرسال خفي.
الثالثة: "أن يروي الراوي عمن عاصره، ولم يلقه حديثاً لم يسمعه منه بصيغة توهم السماع منه مسقطاً في الحقيقة شيخه الذي أخذ الحديث مباشرة عنه"، والخلاف فيها كالتي قبلها.
الرابعة: "أن يروي الراوي عمن لم يعاصره حديثاً لم يسمعه منه بصيغة توهم السماع منه مسقطاً في الحقيقة شيخه الذي أخذ الحديث مباشرة عنه"، والخلاف فيها كالخلاف في الصورتين السابقتين. =

(3/955)


وكذلك إذا سمع الخبر من رجل معروف بعلامة مشهورة، فعدل عنها إلى غيرها من أسمائه، مثل أن يكون مشهوراً بكنية، فيروي عنه باسمه، أو كان مشهوراً باسمه، فيروي عنه بالكنية، حتى لا يعلم من الرجل (1)؟.
__________
= ويلتحق بتدليس الإسناد: تدليس القطع وهو -كما يقول الشيخ التازي في المرجع السابق (2/186)-: "أن يسقط الراوي أداة الرواية مقتصراً على اسم الشيخ الذي لم يسمع الحديث منه مباشرة.. أو أن يسقط الراوي اسم الشيخ الذي سمع الحديث منه مباشرة مقتصراً على ذكر أداة الرواية".
ويلتحق به أيضاً: تدليس العطف، وهو كما يقول الشيخ التازي في المرجع السابق (2/87): "أن يصرح الراوي بالتحديث عن شيخ له، ويعطف عليه شيخاً آخر له، لم يسمع ذلك المروي منه".
كما يلحق به تدليس التسوية، وهو -كما يقول الشيخ التازي أيضاً في المرجع السابق-: "أن يروي الراوي عن شيخه الثقة حديثة سمعه منه، ورواه ذلك الثقة عن ضعيف أو أكثر، وقد رواه ذلك الضعيف عن ثقة آخر، فيجعله الراوي من رواية شيخه الثقة عن الثقة الآخر بلفظ يوهم السماع منه مسقطاً ما بينهما من ضعيف أو ضعفاء".
من العرض هذا للتدليس: وأقسامه، يتبين لنا أنه على مراتب، أشدها مؤاخذة تدليس التسوية، وبخاصة إذا أسقط الراوي الضعيف أو الضعفاء من السند، وهو يعتقد أن من أسقطه غير ثقة، بحيث لو صرح بمن أسقطه لرد الحديث، فهذا عندي حرام ويمنع من قبول الخبر، ويجرح به الراوي. والله أعلم.
(1) أشار المؤلف بهذه الصورة إلى تدليس الشيوخ، وهو: -كما يقول الشيخ التازي في "المرجع السابق" (2/185)-: "أن يذكر الراوي شيخه الذي سمع منه أو من فوقه من الشيوخ بما لا يعرف به عند أهل الحديث بأن يسميه، أو يكنيه، أو ينسبه، أو يصفه بما ليس مشهوراً به، كيلا تسهل معرفته عند غيره".
فهذا النوع من التدليس يختلف في الحكم باختلاف السبب الحامل على التدليس، وأشدها جرماً الذي يدلس عن شيخه أو من فوقه من الشيوخ، بقصد قبول الحديث، وهو يعلم أن المدلس فيه غير ثقة، بحيث لو صرح بما يعرف به المدلس =

(3/956)


فكل هذا مكروه، نص عليه في رواية حرب فقال: أكره التدليس، وأقل شيء فيه: أنه يتزين للناس (1)، أو يتزيد (2) شك حرب.
وكذلك نقل الميموني عنه: لا يعجبني التدليس، هو من الريبة.
وكذلك نقل مهنا عنه: التدليس عيب.
وإنما كان مكروهاً؛ لأنه يوهم أنه كان سمع منه، وما كان سمع، ولأنه يفعل ذلك كراهيه التواضع في الحديث أوله (3)، ومن كره التواضع في الحديث فقد أساء، وهذا معنى قول أحمد رحمه الله: "يتزين".
[حكم الحديث المدلس]
وإذا ثبت أنه مكروه، فإنه لا يمنع من قبول الخبر، نَص عليه في رواية مُهَنّا وقيل له: كان شعبة (4) يقول: التدليس كذب، فقال أحمد رحمه الله: لا، قد دلس قوم نحن نروي عنهم.
__________
= فيه، لرد الحديث، فهذا عندي حرام، ويمنع من قبول الخبر، ويجرح به الراوي، والله أعلم.
(1) في الأصل: (يرى الناس)، والتصويب من "المسودة" ص (277)، وعليه يدل كلام المؤلف فيما بعد.
(2) في الأصل: (يزيد)، والتصويب من "المسودة" ص (677).
(3) هكذا في الأصل.
(4) هو: شعبة بن الحجاج بن الورد أبو بسطام العتكي الأزدي بالولاء. أحد أئمة الحديث المشهورين. سمع قتادة وابن أبي كثير ومعاوية بن قرة وآخرين. وعنه سفيان الثوري والأعمش وابن المبارك وخلائق. ولد سنة (82هـ)، ومات سنة (160هـ).
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (9/255)، و"تذكرة الحفاظ" (1/193)، =

(3/957)


وقال عبد الله: سمعت أبي وذكر يعني عمر بن علي بن مقدم (1) فأثنى عليه خيراً، وقال: كان يدلّس.
وذهب قوم من أصحاب الحديث: إلى أنه لا يقبل خبره؛ لأنه يروي عمن لم يسمع، فهو كما لو قال: قال الزهري، وما سمع منه.
وهذا غلط؛ لأنه ما كذب فيما نقل، بل كان ما قاله صدقاً في الباطن، إلا أنه أوهم [في خبره و] (2) من أوهم في خبره لم يرد خبره، كمن قيل له: حججت؟ فقال: لا مرة ولا مرتين، يوهم أنه حج أكثر، وحقيقته أنه ما حج أصلاً، فلا يكون كذباً.
ويفارق هذا إذا حدث عمن لم يسمع منه، فقال: حدثني؛ لأنه كذب فيما قال، ومن كذب في الحديث سقط حديثه، فلهذا لم يسمع [143/ب] حديثه.
وقال محمد بن مخلد: حدثنا حمدان بن علي الورّاق (3) قال: سمعت
__________
= و"تهذيب الأسماء واللغات" (1/244)، والخلاصة ص (140)، و"شذرات الذهب" (1/247).
(1) هو: عمر بن علي بن عطاء المقدمي أبو جعفر البصري الثقفي بالولاء. روى عن إسماعيل بن أبي خالد وهشام بن عروة وغيرهما. وعنه أحمد بن حنبل وسليمان بن حرب وآخرون. أثني عليه أحمد وقال: كان يدلس كما اتهمه بالتدليس ابن معين والدارقطني وغيرهما. مات سنة (190هـ).
انظر ترجمته في: "التقريب" (2/61)، و"تهذيب التهذيب" (7/485)، و"تذكرة الحفاظ" (1/292)، و"الخلاصة" ص (242)، و"طبقات الحفاظ" ص (122)، و"الكاشف" للذهبي (2/319)، و"المغني في الضعفاء" (2/471)، و"ميزان الاعتدال" (3/214).
(2) ما بين القوسين المعقوفين من "المسودة" ص (277).
(3) هو: محمد بن علي بن عبد الله بن مهران أبو جعفر الوراق. المعروف بحمدان. =

(3/958)


أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: كان حجاج بن أرطاة (1) يقول لهم: لا تقولوا من حدثك؟ ولكن من أخبرك؟ قولوا: من ذكره يا أبا (2) أرطاة.
فصل
فإن روي العدل عن العدل خبراً، ثم نسي (3) المروي عنه الخبر، فأنكره، لم يجب اطراح الخبر، ووجب العمل به في إحدى الروايتين.
وهو قول أصحاب الشافعي (4).
__________
= أصله من جرجان، ونشأ ببغداد. سمع أبا نعيم ومعلى بن أسد والإمام أحمد وغيرهم. روى عنه عبد الله البغوي وأبو بكر الخلال وغيرهما. قال فيه الخلال: رفيع القدر كان عنده عن أبي عبد الله مسائل حسان.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/308).
(1) أبو أرطاة النخعي الكوفي. قاضي البصرة. سمع من الشعبي وعطاء وعكرمة وغيرهم. وعنه سفيان وشعبة وحماد بن زيد وغيرهم. قال فيه أبو حاتم: "صدوق، يدلس عن ضعفاء". وقال ابن معين: "صدوق ليس بالقوي".
مات سنة (147هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/186)، و"تقريب التهذيب" (1/152)، و"تهذيب التهذيب" (2/196)، و"التاريخ الصغير" ص (257)، و"الكاشف" للذهبي (1/205)، و"المغني في الضعفاء" (1/149)، و"ميزان الاعتدال" (1/458).
(2) في الأصل: (بابا) بالموحدة التحتية فيهما.
(3) في الأصل: (بين)، والتصويب من "المسودة" ص (278).
(4) الإنكار في هذا المقام على قسمين:
الأول: أن يكون الإنكار مصحوباً بالتكذيب من الأصل للفرع، ففي هذه الحالة يرد الخبر بالاتفاق. لأن كلاً منهما مكذب للآخر. =

(3/959)


وفيه رواية أخرى: يرد الخبر، ولا يجوز العمل به.
وقد نَصّ أحمد رحمه الله على الروايتين في إنكار الزهري روايته حديث عائشة في الولي (1)، فقال في رواية الأثرم، فيما ذكره في كتاب "العلل": قلت لأبي عبد الله: يضعف الحديث عندك بمثل هذا: إن حدث الرجل الثقة بالحديث عن الرجل، فيسأل عنه فينكره ولا يعرفة؟ فقال: لا، ما يضعف عندي بهذا، فقلت: مثل حديث الولي، ومثل حديث اليمين مع الشاهد، فقال: قد كان مَعْمَر يروي عن ابنه عن نفسه عن عبد الله بن عمر.
وكذلك نقل الميموني عنه لما ذكر له حديث الزهري وما قاله، فقال: كان ابن عيينة يحدث بأشياء (2)، ثم قال: ليس من حديثي ولا أعرفه، وقد (3) يحدث الرجل ثم ينسى.
وكذلك نقل أبو طالب عنه أنه قال: يجوز أن يكون الزهري حدث به ثم نسيه، فقد نص على قبوله (4).
ونقل عنه خلاف هذا، فقال أبو الجود (5): قلت لأبي عبد الله: أيما امرأة زُوجت بغير ولي؟ فقال: لا أحسبه صحيحاً؛ لأن إسماعيل قال:
__________
= الثاني: أن يكون الإنكار منشأه النسيان والتوقف، فهذا الذي وقع فيه الخلاف.
راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي (2/96).
(1) هو حديث: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها، فنكاحها باطل)، وقد سبق تخريجه ص (471).
(2) الأصل: بما شاء والتصحيح من المسودة ص (278).
(3) في المسودة ص (278): (قد) بدون واو.
(4) في الأصل: (قوله)، والتصويب من "المسودة" ص (278).
(5) في "المسودة" ص (278): (أبو الحارث).

(3/960)


[قال] (1) ابن جريج: لقيت الزهري وسألته [عنه] (2)؟ فقال: لا أعرفه.
وكذلك نقل حرب عنه: أنه سئل عن حديث الولي، فقال: لا يصح؛ لأن الزهري سئل عنه فأنكره.
فالدلالة على وجوب العمل به:
أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن (3) روي عن سهيل بن أبي صالح (4) عن أبيه (5) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه قضى باليمين مع الشاهد) (6)، ثم
__________
(1) ما ركن القوسين المعقوفين زيادة من "المسودة" ص (278).
(2) ما بين القوسين المعقوفين زيادة من "المسودة" ص (278).
(3) اسم أبيه: فروخ، وكنيته: أبو عبد الرحمن المدني. مولى آل المنكدر: المعروف بربيعة الرأي. أحد التابعين. ثقة مشهور. روى عن أنس بن مالك والأعرج ومكحول وآخرين. وعنه السفيانان وشعبة وخلق. كان أحد المفتين بالمدينة.
مات سنة (136هـ)، بالمدينة، وقيل: بالأنبار.
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" (8/420)، و"تذكرة الحفاظ" (1/157)، و"تهذيب الأسماء واللغات" (1/189)، و"الخلاصة" ص (99)، و"شذرات الذهب" (1/194)، و"طبقات الحفاظ" ص (68)، و"ميزان الاعتدال" (2/44).
(4) هو: سهيل بن أبي صالح ذكوان السمان أبو يزيد المدني. اختلف فيه، فوثقه بعضهم، وضعفه بعضهم. روى عن أبيه وسعيد بن المسيب وغيرهما. وعنه ربيعة الرأي وشعبة ومالك وآخرون. مات في خلافة المنصور.
له ترجمة في: "الخلاصة" ص (158)، طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (1/289)، و"ميزان الاعتدال" (2/243).
(5) هو: ذكوان أبو صالح السمان المدني. ثقة. روى عن أبي هريرة وأبي الدرداء وعائشة وخلق. وعنه بنوه سهيل وعبد الله وصالح والأعمش وآخرون. مات سنة (101هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/89)، و"الخلاصة" ص (112)، طبعة بولاق، و"طبقات الحفاظ" ص (33).
(6) سبق تخريجه ص (815).

(3/961)


نسيه سهيل، فكان يقول: حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويروي هكذا، ولا ينكره أحد من التابعين، ولا يخالفه مخالف منهم، فدل على جوازه.
ولأن المروي عنه غير عالم ببطلان روايتة، والراوي عنده ثقة، فوجب تصديقه والعمل بخبره، كما يجب على سائر الناس، إذا لم ينس المروي عنه، فيكون المروي عنه في هذه الحالة بمنزلة سائر الناس.
ولأن النسيان الطاريء عليه لم يقدح في عدالته حال روايته، ولا أثر فيها، فلم يوجب رد خبره، وإن خرج عن كونه ذاكراً له، كما لو طرأ عليه جنون أو مرض.
واحتج المخالف:
بأنه لو شهد شاهدان على شهادة شاهدين، فقال شاهدا الأصل: لا نذكر ولا نحفظه، لم يجز للحاكم أن [144/أ] يحكم بشهادتهما. وكذلك الخبر.
وكذلك الحاكم إذا ادعى رجل أنه قضي له بحق على فلان، ولم يذكر القاضي، فأحضر المدعي بينه على حكمه، لم يرجع إليها، كذلك ها هنا.
والجواب: أنا لا نسلم هذا في القاضي، بل نقول: يرجع.
وأما شهود الفرع، فإنما لم تسمع شهادتهم؛ لما ذكرنا من أن الشهادة أغلظ حكماً، وأضيق طريقاً من الخبر، وقد بينته فيما مضى.
واحتج: بما روي أن عماراً (1) قال لعمر بن الخطاب في باب جواز
__________
(1) هو: عمار بن ياسر بن مالك أبو اليقظان العنسي المخزومي بالولاء صحابي جليل. شهد بدراً والمشاهد كلها، كما شهد اليمامة، وفيها قطعت أذنه. مات مقتولاً في موقعة صفين سنة (37هـ) وله من العمر نيف وتسعون سنة. =

(3/962)


التيمم للجنب: أما تذكر أنا كنا في الإبل، فأجْنَبْت، فَتمَعّكْت بالتراب، ثم سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إنما يكفيك أن تضرب بيديك) (1) فلم يقبل عمر من عمار، مع كونه عدلاً ثقة.
والجواب: أن عمر قبل قول الهرمزان أنه أمنه، لما شهد له بذلك أنس وغيره (2).
نقل من كتاب "الإيمان" تصنيف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قال عبد الله: سمع أبي يقول: سمعت حماداً (3) يقول: عمير بن
__________
= له ترجمة في: الاستيعاب (3/1135)، و"الإصابة" القسم الرابع ص (575)، طبعة دار نهضة مصر. و"الخلاصة" ص (279)، طبعة بولاق، و"شذرات الذهب" (1/45).
(1) حديث عمار رضي الله عنه، أخرجه عنه البخاري في كتاب التيمم، باب التيمم ضربة (1/91-92).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحيض، باب التيمم (1/280-281).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التيمم (1/268).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التيمم ضربة واحدة (1/188).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب تيمم الجنب (1/139). وراجع في هذا الحديث أيضاً: "تيسير الوصول" (2/324)، و"ذخائر المواريث" (3/34)، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (77).
(2) قصة تأمين عمر للهرمزان، وشهادة أنس بذلك أوردها ابن كثير في كتابه: "البداية والنهاية" (7/85-86) طبعة مكتبة المعارف، بيروت والنصر بالرياض.
(3) هو: حماد بن زيد بن درهم أبو إسماعيل الأزدي الجهضمي البصري. أحد الأئمة المشهورين. روى عن ثابت البناني ومحمد بن سيرين وغيرهما. وعنه الثوري وابن عيينة، وخلائق. ولد سنة (98هـ)، ومات بالبصرة سنة (179هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/228)، و"تهذيب الأسماء" (1/167)، =

(3/963)


يزيد (1) ليس فيه عن أبيه، فقلت: إنك حدثتتي عن أبيه عن جده، فقال: أحسب أنه عن أبيه، وهذا يدل على أنه رجع إلى رواية أبيه عنه.
وجملة ما ذكرناه مما رد به الخبر، فهو لأجل المخبِر، وهو أن ينقله ثقة عن ثقة، فإنه يرد بأحد خمسه أشياء:
أحدها: أن يخالف موجبات العقول، كقوله: إن الله خلق نفسه.
الثاني: أن يخالف نص كتاب الله أو سنة متواترة، فإنه يرد؛ لأنه دليل مقطوع به، فلا يعارضه ما هو غير مقطوع به.
الثالث: أن يكون بخلاف الإجماع؛ لأن الإجماع دليل مقطوع [به]؛ ولأنه إذا خالف الإجماع كان دليلاً على نسخه؛ لأنه لو كان ثابتاً لما خرج عن الأمة.
الرابع: أن يروي ما يجب على الكافة علمه، مثل أن يروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد إلى أبي بكر أو إلى عثمان أو إلى علي، فإذا انفرد الواحد بنقل مثل هذا كان مردوداً.
__________
= و"الخلاصة" ص (87)، و"شذرات الذهب" (1/292)، و"طبقات الحفاظ" ص (96).
(1) في الأصل: (عمير بن حبيب)، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه؛ لأن عمير ابن حبيب صحابي، ممن بايع تحت الشجرة، كما في: "الاستيعاب" (3/1213)، و"التاريخ الكبير" (3/531 ق 2). و"الجرح والتعديل" (3/375).
وأما حفيده فهو: عمير بن يزيد بن عمير بن حبيب أبو جعفر الخطمي. روى عن أسعد بن سهل وابن المسيب، وعنه هشام الدستوائي وشعبة. حكى الدارمي عن ابن معين توثيقه.
له ترجمة في: "التاريخ الكبير" و"الجرح والتعديل"، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في ترجمة جده، و"الخلاصة" ص (297)، طبعة بولاق.

(3/964)


فإن قيل: أليس ما يعمّ به البلوى يفتقر إليه كل أحد، ومع هذا يثبت بخبر الواحد؟
قيل: كل أحد مفتقر إلى العمل به، لا إلى علمه، فلهذا ثبت بخبر الواحد، وليس كذلك ثبوت الخلافة والعهد إلى واحد؛ لأن على كل واحد أن يعرفه ويعلمه نطقاً، فلهذا لم يثبت بخبر الواحد.
الخامس: أن ينفرد بما جرت العادة في نقلة بالتواتر، مثل أن ينفرد بنقل أن الخطيب سقط يوم الجمعة من المنبر، فالعادة جرت بأن الواحد لا ينفرد بنقله، فإذا انفرد هو به عَلِمْناه بخلاف العادة، فرددناه.
وهذا في العلل التي رد لها خبر الواحد.
فأما الأسباب الموهمة التي لا يرد لأجلها خبر الواحد:
منها: أن تلحقه غفلة في وقت، فإن خبره لا يرد؛ لأن [144/ب] أحداً لا ينفك عن أن تلحقه غفلة (1) في وقت، بل إن روى خبراً في حال غفلته، لم يثبت خبره.
وقد قال عبد الله: قلت لأبي: إن بشر بن عمر (2) زعم أنه سأل مالكاً عن صالح مولى التّوْأَمة (3)، فقال: ليس بثقة. قال أبي: مالك أدرك
__________
(1) في الأصل: (عقله).
(2) هو: بشر بن عمر بن الحكم بن عقبة، أبو محمد الزهراني البصري. ثقة صدوق.
روى عن مالك وشعبة وحماد بن سلمة وغيرهم. وعنه إسحاق بن راهويه والذهلي وعباس العنبري وغيرهم. مات سنة (206هـ) أو (207هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/337)، و"تهذيب التهذيب" (1/455)، و"الخلاصة" ص (42)، و"طبقات الحفاظ" ص (141).
(3) هو: صالح بن نبهان مولى التوأمة، وهي ابنة أمية بن خلف. روى عن أبي هريرة وابن عباس وغيرهما. وعنه ابن أبي ذئب والثوري وغيرهما. وثقه =

(3/965)


صالحاً وقد اختلط، وهو كبير، ما أعلم به بأساً، من سمع منه قديماً، قد روى عنه أكابر أهل المدينة، نقلت ذلك من كتاب أبي بشر محمد بن أحمد الدُّولابي (1).
ومنها: أن يضطرب بعض حديثه، فلا يرد خبره؛ لأن كل أحد لا يقدر علي ضبط ما سمعه كله، بل يكون ببعضه أضبط من بعض.
ومنها: أن ينفرد (2) بنقل حديث واحد، لا يروي غيره، فلا يرد حديثه، لجواز، أن ينفرد به عن كل واحد، كأنه حدثت له حادثة، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابه عنها.
ومنها: أن لا تعرف له مجالسه مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يرد خبره؛ لأنه قد يجالسه، فلا، يعرف ذلك منه، وقد يأخذ الحديث عنه من غير مجالسة.
ومنها: أن يروي حديثاً، وفعل رسول الله صلى الله عليه [وسلم] يخالفه، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لاَ يَنْكح المحرم ولا يُنْكح) (3) ثم يروي عنه ابن عباس: أنه
__________
= ابن معين وغيره. وقال ابن عدي: لا بأس برواية القدماء عنه. وقال مالك ويحيى القطان ليس بثقة. وقال الذهبي: صدوق، لكنه عُمّر واختلط. مات سنة (125هـ).
انظر ترجمته في: "الخلاصة" ص (172)، طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (1/305)، و"ميزان الاعتدال" (2/302).
(1) هو: محمد بن أحمد بن سعيد بن مسلمة أبو بشر الدولابي الأنصاري الرازي.
مختلف في توثيقه، روى عن بندار وهارون بن سعيد الأيلي وغيرهما. وعنه ابن عدي والطبراني وغيرهما. مات سنة (224هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (2/759)، و"شذرات الذهب" (2/260)، و"طبقات الحفاظ" ص (319هـ) و"ميزان الاعتدال" (3/459).
(2) في الأصل: (يرد).
(3) سبق تخريجه ص (438).

(3/966)


نكح ميمونة، وهو محرم (1)؛ فلا يرد به خبره، لأن النبي [صلى الله عليه وسلم]، قد يفعل ما هو خاص له دون أمته، فلا يستدل به على رد خبره.
ومنها: أن يروي حديثاً يخالفه فيه أكثر الصحابة، فلا يرد لذلك، لجواز أن يخفي عليهم ما عرفه، فيكون الحق معه دونهم.
ومنها: أن يكون معروفاً باللقب، وقد اختلف اسمه، كالحذا (2)
__________
(1) حديث ابن عباس - رضي الله عنه - هذا أخرجه عنه البخاري في كتاب الحج، باب تزويج المحرم (3/18).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهية خطبته (2/1031).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في الرخصة في ذلك (3/192).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الحج، باب الرخصة في النكاح للمحرم (5/150).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب المحرم يتزوج (1/632).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب مناسك الحج، باب في تزويج المحرم (1/368).
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الحج، باب في نكاح المحرم (1/213).
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الحج، باب ما جاء في نكاح المحرم وانكاحه (2/19).
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار"، في كتاب مناسك الحج، باب نكاح المحرم (2/269).
راجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (387).
و"نصب الراية" (3/171-172).
(2) وهو: خالد بن مهران الحذاء أبو المنازل البصري. ثقة مشهور. روى عن الحسن البصري وابن سيرين وآخرين. وعنه شعبة وابن المبارك وغيرهما. مات سنة (141هـ). =

(3/967)


ونحو ذلك، فلا يرد خبره؛ لأنه متفق عليه، وإنما وقع الاختلاف فيما لا يكون به كل مجهولاً.
ومنها: أن ينسى بعض حديثه، فذُكِّر فعاد إليه، فلا يرد حديثه لذلك؛ لأن الإنسان قد ينسى الشيء، ثم إذا ذُكر تذكر، بلى إن روى حديثاً، لا أصل له، وقال: نقلته على بصيرة مني بذلك، فهو مردود الحديث لأنه قد أخبر عن نفسه بالكذب على رسول الله [صلى الله عليه وسلم].
فإن روى حديثاً، لا أصل له، وقال: سهوت فيه، أو أخطأت، قبل خبره؛ لأنه قد يجوز عليه السهو والغلط.
وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية حرب: في الرجل إذا سها في الإسناد، فأخطأ فيه، ولا يتعمد ذلك: أرجو أن لا يكون به بأس.
مسألة (1)
[رواية الحديث بالمعنى]
والمستحب رواية الحديث بألفاظه، فإن نقله على المعنى، وأبدل اللفظ بغيره بما يقوم مقامه، من غير شبهة ولا لبس على سامعه، جاز، إذا كان عارفاً بالمعنى، كالحسن ونحوه، مثل أن يقول بدل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صبوا
__________
= له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/149)، و"الخلاصة" ص (88)، و"شذرات الذهب" (1/210)، و"طبقات الحفاظ" ص (64)، و"ميزان الاعتدال" (1/642).
(1) راجع هذه المسألة في "المسودة" ص (281). فإنه نقل كثيراً عن المؤلف في هذه المسألة، وراجع أيضاً: "روضة الناطر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/318-323).

(3/968)


عليه ذنوباً من ماء) (1): أريقوا عليه ذنوباً (2) من ماء.
وقد نصّ أحمد رحمه الله على هذا في رواية حرب والميموني والفضل ابن زياد [145/أ] وأبي الحارث ومُهَنّا، كل عنه: تجوز الرواية على المعنى وقال: ما زال الحفاظ يحدثون بالمعنى.
وحكي عن ابن سيرين وجماعة من السلف: أنه يجب نقل اللفظ على صورته، وحكاه أبو سفيان عن أبي بكر الرازي.
دليلنا:
ما حدثنا أبو محمد الخلال (3) بإسناده عن ابن مسعود قال: سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنك تحدثناً حديثاً، لا نقدر أن نسوقه، كما نسمعه، فقال: (إذا أصاب أحدكم المعنى فليحدث) (4)، وهذا نص.
__________
(1) هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء باب صب الماء على البول في المسجد (1/63).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض (1/275).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الأرض يصيبها البول (1/90).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الأرض يصيبها البول كيف تغسل (1/17).
(2) في "المسودة" ص (282): (دلواً من ماء)، وهو الأولى.
(3) هو: الحسن بن محمد بن الحسن بن علي أبو محمد الخلال ولد سنة (352هـ).
ثقة. سمع القطيعي وابن المظفر وغيرهما. ومنه القاضي أبو يعلى والخطيب البغدادي. مات ببغداد في شهر جمادى الأولى من عام (439هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (3/1109)، و"شذرات الذهب" (3/262)، و"طبقات الحفاظ" ص (426)، و"العبر" (3/189) و"المنتظم" (8/132).
(4) هذا الحديث أخرجه الخطيب البغدادي في كتابه: "الكفاية في علم الرواية" ص (302).

(3/969)


ورأيت بخط عتيق: أنبأنا مسند (1) عن مكحول (2) قال: دخلنا على واثلة بن الأسقع (3) فقلنا: حدثنا حديثاً ليس فيه تقديم وتأخير، فغضب، وقال: لا بأس إذا قدمت أو أخرت، إذا أصبت المعنى (4).
ولأن المقصود من السنة حكمها دون له لفظها، فإذا أتى بمعناها جاز الإخلال باللفظ، فلو سمع إقرار رجل بالفارسية جاز له أن ينقل إقراره إلى الحاكم بالعرب، وكذلك المترجم بالمعنى.
__________
(1) لم أجده. وإنما وجدت أن الذي، رواه عن مكحول هو: العلاء بن الحارث.
أنظر: المراجع الآتية في تخريج الأثر.
(2) هو: مكحول بن أبي مسلم شهراب بن شاذل أبو عبد الله الدمشقي. المحدث الفقيه. روى عن واثلة وأنس وثوبان وغيرهم. وعنه الزهري وأبو حنيفة وحميد الطويل وخلق. مات سنة (112هـ).
أنظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ" (1/107)، و"تهذيب التهذيب" (10/289)، و"الخلاصة" ص (311)، و"شذرات الذهب" (1/146)، و"طبقات الحفاظ" ص (43)، و"النجوم الزاهرة" (1/272).
(3) هو: واثلة بن الأسقع بن عبد العزى الليثي أبو الأسقع، وقيل: أبو محمد.
أسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يتجهز لغزوة تبوك. وكان من أهل الصفة.
نزل البصرة على ما قيل، ثم سكن الشام، وشهد المغازي بدمشق وحمص.
مات ببيت المقدس، وقيل: بدمشق سنة خمس أو ست وثمانين هجرية، وله من العمر ثمان وتسعون سنة.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1563)، و"الإصابة" القسم السادس ص (591) طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (419)، طبعة بولاق.
(4) هذا الأثر أخرجه الخطيب البغدادي في كتابه: "الكفاية" ص (308) وأخرجه الرامهرمزي في كتابه "المحدث الفاصل" ص (533) وأخرجه ابن عبد البر في كتابه: "جامع بيان العلم وفضله" (1/94-96)، وأخرجه الدارمي في مقدمة "سننه" باب من رخص في الحديث إذا أصاب المعنى (1/79).
ويلاحظ: أن هناك اختلافاً في ألفاظ الأثر. ولكن المعنى واحد.

(3/970)


فإن قيل: إنما جاز ذلك؛ لأن الحاكم يمكنه أن يتثبت ذلك، ويتعرف ما نقله إليه الشاهد والمترجم [و] لا يمكن ذلك في خبر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قيل: فيجب أن يخبر الرواة على المعنى في خبرهم (1) للنبي [صلى الله عليه وسلم]؛ لأنه يتوصل إلى معرفة ذلك، وعندك لا يجوز.
وأيضاً: لما كان نقل الحديث من غير النبي [صلى الله عليه وسلم] بلفظ آخر، كذلك في الرواية عن النبي [صلى الله عليه وسلم]، ألا ترى أنهما اتفقا في منع الروية على وجه لا يأمن المخبر أن يكون كاذباً فيه؟
فإن قيل: الكذب على النبي [صلى الله عليه وسلم] يعظم ما لا يعظم على غيره.
قيل: إن اختلفا من هذا الوجه، فلم يختلفا في قبح الكذب عليهما، واختلافهما في عظم المأثم لا يوجب اختلافهما في الجواز، كما أن المعصية الصغيرة والكبيرة لا يختلفان في المنع، وإن اختلفا فيما يستحق عليهما من العقاب.
واحتج المخالف:
بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (رحم الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها، وأدّاها كما سمعها) (2).
__________
(1) في الأصل: (خبره).
(2) هذا الحديث صحيح رواه جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم. فرواه زيد بن ثابت أخرجه عنه أبو داود في كتاب العلم، باب فضل نشر العلم (2/289).
وأخرجه عنه ابن ماجه في مقدمة "سننه" باب من بلغ علماً (1/84-86)، كما أخرجه عن جماعة من الصحابة بطرق متعددة.
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (5/33-34)، وقال: "حديث حسن" كما أخرجه عن ابن مسعود، وقال: "حديث حسن صحيح".

(3/971)


والجواب: أن المقصود به الاستحباب.
واحتج: بأنه لما كان لفظ القرآن والأذان في التشهد شرطاً، كذلك لفظ الحديث.
والجواب: أن القرآن لفظه مقصود لما فيه من الإعجاز، ولما يستحق في قراءته من الثواب، فكذلك لم يجز الإخلال به، وكذلك الأذان، القصدُ منه الإعلام. [و] إذا أخلّ بلفظه، لم يحصل المقصود وإن قاسوا عليه، إذا لم يكن الراوي ضابطاً، فالمعنى فيه أنه ربما غير الحكم. [145/ب].
فصل (1)
نقلت من خط أبي حفص البرمكي (2) تعليقاً مما كان على مسائل صالح
__________
= وأخرجه عنه الرامهرمزي في كتاب "المحدث الفاصل" ص (164)، كما أخرجه من طرق ابن مسعود وأبي سعيد وابن عباس رضي الله عنهم (164-166).
وأخرجه ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله باب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لمستمع العلم وحافظه ومبلغه (1/46-50)، كما أخرجه من طرق عن زيد بن ثابت وابن مسعود وأبي بكرة وجبير بن مطعم وأنس بن مالك رضى الله عنهم.
ويلاحظ: أن الحديث في جميع طرقه ورد بلفظ: (نضر) بدل لفظ (رحم)، التي أتى بها المؤلف.
وراجع في الحديث أيضاً: "تيسير الوصول" (3/5-6)، و"ذخائر المواريث" (1/215)، و"مجمع الزوائد" (1/137).
(1) راجع هذا الفصل في "المسودة" ص (282).
(2) هو: عمر بن أحمد بن إبراهيم أبو حفص البرمكي. كان ذا عبادة وزهد كما كان من الفقهاء المشهورين. حدث عن ابن الصواف والخطبي وغيرهما. صحب =

(3/972)


سمعت عمر المغازلي (1) يقول: قال أحمد بن حنبل: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]. وقال النبي [صلى الله عليه وسلم] واحد، فألزمه بعض أصحابنا حديث البَرَاء ابن عازب (2): (ورسولك الذي أرسلت، قال: لا، ونبيك الذي أرسلت) (3) قال: هذا لا يلزم؛ لأنه كان نبياً ثم أرسل، فقال: "ونبيك الذي أرسلت"، ولم يقل: "وبرسولك الذي أرسلت"، لأنه لا تكون رسالة بعد رسالة، وإنما أراد رسالة بعد نبوة، فقد [أجاز] (4) عمر بن
__________
= أبا بكر عبد العزيز غلام الخلال وعمر بن بدر المغازلي، مات ببغداد في شهر جمادى الأولى سنة (387هـ).
انظر ترجمته في: "طبقات الحنابلة" (2/153).
(1) هو: عمر بن بدر أبو حفص المغازلي، سبقت ترجمته ص (898).
(2) هو: البراء بن عازب بن حارث بن عدي أبو عمارة الأنصاري الحارثي الخزرجي صحابي، أول غزوة شهدها هي غزوة الخندق. كان يحارب في صف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبعد ذلك نزل الكوفة، ومات بها سنة إحدى أو اثنتين وسبعين هجرية.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/155)، و"الإصابة" القسم الأول ص (278)، طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (46)، طبعة بولاق.
(3) حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - هذا أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء، باب فضل من بات على وضوء (1/68).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع (4/2081).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول عند النوم (2/606).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه (5/468).
وراجع في هذا الحديث أيضاً: "تيسير الوصول" (2/18)، و"ذخائر المواريث" (1/98)، و"المحدث الفاصل" ص (531)، و"الكفاية في علوم الرواية" ص (306).
(4) في الأصل: (ن).

(3/973)


بدر (1): أن التابعي إذا سمع رجلاً، من أصحاب النبي صلى الله عليه [وسلم] يقول: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وروي عنه قال: قال النبي [صلى الله عليه وسلم]، أو سمعه يقول: قال النبي [صلى الله عليه وسلم]، فقال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، أن ذلك جائز؛ لأن القصد من الرواية أن يعلم أن هذا الخبر مرفوع عن النبي [صلى الله عليه وسلم]، وهذا المعنى يحصل بكل واحد من اللفظين، والرسول والنبي في هذا المعنى واحد.
ويبين صحة جواز رواية الخبر على المعنى، وهذا موجود ها هنا، وقد أجاب (2) عمر بن بدر عن الحديث المروي عن النبي [صلى الله عليه وسلم]، (آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت) وأنه لا يجعل مكان نبيك رسولك؛ لأن المعنى يختلف، وذلك أن الرسالة تطرأ على النبوة، ولا تطرأ رسالة على رسالة، فلهذا لم يجعل موضع النبي: الرسول.
مسألة (3)
إذا وجد سماعه في كتاب، ولم يذكر أنه سمعه، جاز روايته.
أومأ إليه الإمام أحمد رحمه الله في مواضع:
فقال في روارية مُهَنّا: إذا كان يحفظ الشيء، وفي الكتاب شيء فالكتاب أحب إليّ.
فقد اعتبر ما في الكتاب، وإن كان حفظ غيره.
وكذلك في رواية الحسين بن حسان في الرجل يكون له السماع مع الرجل، فلا بأس أن يأخذه بعد سنين، إذا عرف الخط.
وكذلك نقل الحسين بن محمد بن الحارث عنه: إذا عرف خطه فلا
__________
(1) هو عمر بن بدر، أبو حفص المغازلي، وقد سبقت ترجمته ص (898).
(2) في الأصل: (أجاز).
(3) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (279).

(3/974)


يشهد عليه إلا ما يحفظه، إلا أن يكون منسوخاً عنده في حرزه، فكأنه إذا كان عنده مكتوباً في حرزه، شهد به وإن لم يحفظه، ثم قال: كتاب العلم أيسر (1)، يعني يشهد عليه، قيل له (2): إذا أعار (3) كتاب العلم، فقال: [لا] بدّ من أن يفعل ذلك، إذا أعاره من يثق به، قيل له: فإن لم يثق به: كل ذاك أرجو أن لا يحدث فيه، فإن الزيادة في الحديث ليس تكاد تخفي، وكأنه رأى ذلك أوسع من الشهادة.
وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد (4).
وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يرويه، إذا لم يذكر سماعه.
دليلنا:
[146/أ]: أن الأخبار مبني أمرها على حسن الظن والمسامحة ومراعاة الظاهر من الحال، ألا ترى أنه لا يشترط فيها العدالة في الباطن ويقبل فيها قول العبيد والنساء وحديث العنعنة، والظاهر من حال السماع الموجود الصحة، فجاز العمل عليه.
__________
(1) في الأصل: (أليس) والتصويب من "المسودة" ص (280).
(2) في الأصل: (قيل به).
(3) في الأصل: (إذا غاب) والتصويب من "المسودة" ص (280).
(4) هو: محمد بن الحسن بن فرقد، أبو عبد الله الشيباني. صاحب الإمام أبي حنيفة.
روى عن الإمام مالك بن أنس. لَينه النسائي من قِبَل حفظه. وقال فيه الذهبي: وكان من بحور العلم والفقه، قوياً في مالك. له كتب كثيرة، منها: "الجامع الكبير"، و"الجامع الصغير" و"السير الكبير" و"السير الصغير".
مات بالري. سنة (187هـ) وله من العمر ثمان وخمسون سنة.
له ترجمة في: "الجواهر المضيئة" (2/42)، و"شذرات الذهب" (1/321)، و"المغني في الضعفاء" (2/567)، و"ميزان الاعتدال" (3/513).

(3/975)


وأيضاً: رجوع الصحابة إلى كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - والعمل عليها من أدل الدليل على الرجوع إلى الخط والكتاب.
واحتج المخالف:
بأنه، لما لم يجز أن يؤديَ الشهادة معتمداً على خطه من غير ذكره، كذلك الحديث، والمعنى فيه: أن الشاهد يحتاج إلى ذكر المشهود به، كما أن المخبر يحتاج إلى ذكر المخبر به.
والجواب: أن الشهادة مبنى أمرها على التأكيد والتغليظ، فكذلك إذا وجد خطه، ولم يذكر، لم يشهد به. على أن الحسين بن محمد بن الحارث نقل عنه: أنه أجاز الشهادة، إذا عرف الخط، ولم يخرج عن يده، ولكن المذهب المشهور عنه: أنه لا يجوز، لما بينّا.
واحتج: بأن الإخبار بما لا نأمن المخبر. أن يكون كاذباً فيه، يجري مجرى الإخبار بالكذب في القبح، فإذا لم يذكر أنه سمعه يحدث به، لم نأمن أن يكون كاذباً، وجب أن لا يجوز أن يحدث به، كما لا يجوز له ذلك لو علم أنه كاذب فيه.
والجواب: أن هذا يوجب أن لا يجوز خبر الضرير فيما سمع؛ لأنه لا يأمن أن يكون كاذباً فيه؛ لأن الصوت قد يشبه الصوت، فيخبر عن رجل لم يسمع منه، وأنه شبه له صوته، وكذلك السماع من وراء حجاب، وقد أجازوا رواية الضرير، كذلك ها هنا، وقد نص أحمد رحمه الله على جواز رواية الضرير، وحكيناه فيما تقدم.
فإن قيل: هناك يمكنه أن يشترط ما يأمنان الكذب فيه، بأن يخبرا عن ظنهما، فلا يقطعان على ما يحدثان به عن فلان.
قيل: فاشترط مثل هذا في مسألتنا.

(3/976)


فصل
في كيفية رواية الحديث بعد سماعه
إذا قرأ المحدث عليه، قال: سمعته، وحدثني، وأخبرني، وقرأ عليّ؛ لأنه قد أخبره وحدثه وسمع منه وقرأ عليه، ولا فرق بين أن يقول له بعد ذلك: إروه عني، أو لا يقول.
وكذلك إن أملى عليه المحدث، فالحكم فيه على ما مضى، ويزيد أملى عليّ.
وقد نصّ على هذا رحمه الله فيما رأيته في آخر جزء فيه السنة لحرب، فقال: حدثه عبد الله بن أحمد بن معدان قال: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر، فقيل له: يا أبا عبد الله إن عبد الرزاق كان لا يقول: حدثنا، فقال [146/ب] أحمد: حدثنا وأخبرنا عندنا واحد، إن كان سماعاً من الشيخ.
وإن قرأ هو على المحدث فلم يسمع، أو قرأ عليه فأقرَّ به، قال: قُرِئ على فلان أو قَرأتُ علي فلان، ولا يجوز أن يقول: سمعتُ فلاناً، ولا أملى عليّ.
وهل يجوز أن يقول: حدثني وأخبرني أو لا؟ فيه روايتان:
إحدهما: لا يجوز، نص عليه في رواية إسحاق بن إبراهيم قال: سألته، وأنا أقرأ عليه شيئاً من الأحاديث أقول: حدثني أحمد؟ فقال: إن قال، فما أرى به بأساً: ولكن يقول: قرأت عليه، أحب إليّ، أريد به الصدق. فقد نصّ على جوازه، واختار أن يحكي الحال كما جرت.
وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي.

(3/977)


وفيه رواية أخرى: لا يجوز أن يقول: أخبرني ولا حدثني، ولكن يقول قُرِئ عليه، أو قَرأتُ عليه، نصّ عليه رحمه الله في رواية حنبل: وقيل له: سأل عوف الحسن فقال له: أقرأ عليك فأقول: حدثنا الحسن؟ قال: نعم، قال حنبل: سألت أحمد عن ذلك، فقال: لا، ولكن يقول: قَرأتُ. وبهذا قال بعضهم.
ولا فرق بين أن يقول: هو كما قرأته عليك؟ فيقر به، وبين أن يقول: أرويه عنك؟ فيقول: أروه عني وأنه على الخلاف الذي حكينا.
وذكر أبو إسحاق (1) في تعاليقه في كتاب "العلل": سمعت أبا محمد عبد الخالق بن الحسن بن محمد بن نصر السقطي (2) يقول: سألت ابن منيع (3) فيما يقرأه على الناس، ويقرأ عليه، فقال لى: سألت أحمد ابن حنبل عما سألتني عنه، فقال لي: إذا قرأ عليك، فقل: حدثنا، وإذا قرئ عليه [فقل]: حدثنا، فلان قراءةً عليه.
وظاهر هذا يقتضي جواز القول فيما قُرِئ عليه، لكن بشرط أن يقرر قراءةً عليه.
__________
(1) هو: إبراهيم بن أحمد بن عمر بن شاقلا، وقد سبقت ترجمته.
(2) سمع الباغندي. روى عنه ابن رزقويه. قال ابن الجوزي. (وكان ثقة، أحد الشهود المعدلين، وكان البرقاني يثني عليه ويوثقه). مات سنة (356هـ).
له ترجمة في: "شذرات الذهب" (3/19)، و"المنتظم" (7/40).
(3) هو: أحمد بن منيع بن عبد الرحمن، أبو جعفر الأصم، المروزي. سمع عبد العزيز بن أبي حازم، وهشيم بن بشير وسفيان بن عيينة وغيرهم ومنه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم. وثقه النسائي. مات سنة (244هـ)، وعمره ثمان وثمانون سنة.
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (5/160)، و"شذرات الذهب" (2/105)، و"طبقات الحنابلة" (1/76).

(3/978)


وذكر أبو عبد الله محمد بن مخلد بن حفص العطار في جزء صنفه في الإجازة والمناولة والقراءة فقال: حدثنا سليمان بن الأشعث أبو داود قال: سمعت أحمد -يعني ابن محمد حنبل- يقول: أرجو أن يكون العرض لا بأس به، يعني قراءة الحديث على المحدث، قيل لأحمد: فكيف يعجبك أن يقول؟ قال: يعجبني أن يقول كما يفعل: إن قَرأَ يقول: قرأتُ (1).
قال: وسمعت أبا داود وسليمان بن الأشعث يقول: قلت لأحمد يعني ابن حنبل: كأن "أخبرنا" أسهل من "حدثنا"؟ قال: نعم، "حدثنا" شديد (2).
فإذا قلت: أيجوز أن يقول: أنبأنا وحدثنا؟ فتوجيهه أن إقراره بما قرىء عليه جواب عن الاستفهام، والجواب في الاستفهام "بنعم"، يقوم مقام خبره به، ألا ترى أن الحاكم إذا سأل المدعى عليه عن دعوي المدعي: هل عليك الحق الذي ادعاه عليك؟ فقال المدعى عليه: نعم، جاز للقاضي أن [147/أ] يقول: أقرَّ فلان عندي بكذا، فيكون قوله: "نعم" مقام إقراره بالحق الذي ادعى عليه.
وكذلك إن قرأ الشاهد الكتاب على المشهود عليه، ثم قال له: أشهد عليك بما في هذا الكتاب؟ فقال المشهود عليه: نعم، جاز للشاهد أن يقول: أشهدني فلان على نفسه بكذا، فإذا كان كذلك، وثبت أن يكون قول المقروء عليه الحديث: نعم، بمنزلة إخباره (3) بما قرىء عليه وحدث به.
__________
(1) هذه الرواية موجودة بنصها في: "مسائل الإمام أحمد"، رواية أبي داود ص (281-282).
(2) هذه الرواية موجودة بنصها في: "مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود ص (282).
(3) في الأصل (إخبار).

(3/979)


ورأيت بخط أبي حفص البرمكي تعليقاً على ظهر جزء، فيه "الرد على من انتحل غير مذهب أصحاب الحديث"، قال عبد العزيز: فقال: قراءتك على العالم، وقراءة العالم عليك سواء.
واحتج من قال لا يجوز ذلك:
بأن قول حدثني وأخبرني، ينبغي أن يكون المقروء عليه قد فعل الحديث والإخبار، وإذا لم يوجد منه ذلك، لم يجز للقارئ أن يقول: حدثني وأخبرني.
والجواب: أنا قد بينا أن قوله: "نعم" بمنزلة فعله الإخبار والحديث في الأصول.
واحتج: بأن جوابه في الاستئذان لأن يحدث عنه بنعم، أمر له بالحديث عنه، والأمر لا يكون خبراً عن المأمور به.
والجواب: أنه لا فرق عند هذا القائل بين أن يكون جوابه في الرواية عنه، وبين أن يكون جواباً في الاستفهام عن صحة ما قرىء عليه.
وقد بينا أن الجواب في الاستفهام بنعم، يقوم مقام الخبر به، إذا ثبت في أحد الموضعين أنه خبر وليس بأمر، ثبت في الموضع الآخر، لأن أحداً ما فرق بينهما.
فإن قرأ عليه وهو ساكت لم يقرّ به، فالظاهر أنه إقرار؛ لأن سكوته مع سماع القراءة رضى منه بما قرأه وأمضاه، فجاز أن يقول: أخبرني وحدثني، كما لو أقر به، والأحوط أن يقول له: هو كما قرأته عليك، أو قرئ عليك؟ فإذا قال: نعم، حَدّث به عنه.
فإن قال المحدث: أخبرنا فلان فهل يجوز للمستمع أن يروي عنه فيقول: قال حدثنا فلان، فيجعل مكان أخبرنا حدثنا، ومكان حدثنا أخبرنا؟ فيه روايتان:

(3/980)


إحداهما: لا يجوز؛ لأنه يحكي عنه خلاف اللفظ الذي سمعه منه.
وقد نصّ على هذا في رواية حنبل فقال: إذا قال الشيخ: حدثنا قلت حدثنا، تتبع لفظ الشيخ، إنما هو خبر، ولا تقول لأخبرنا: حدثنا، ولا لحدثنا: أخبرنا، على لفظ الشيخ.
وفيه رواية أخرى: يجوز؛ لأن المعنى فيهما واحد؛ لأن المحدث له هو مخبر له في التحقيق، وكذلك المخبر هو محدث في الحقيقة.
وقد نصّ على هذا فيما حدثنا به أبو محمد الحسن بن محمد (1) قال: سمعت محمد بن رزق قال: سمعت جعفر بن هارون النحوي يقول: سمعت عبد الله بن أحمد الكسائي قال: سمعت أحمد بن [147/ب] عبد الجبار (2) يقول: سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: حدثنا وأخبرنا واحد.
وهو اختيار أبي بكر الخلال؛ لأنه لما ذكر رواية حدثنا في المنع، قال: قد سهل أبو عبد الله في هذا المعنى على جواز رواية الحديث علي المعني.
فإن قال له: قد أجزت لك أن تروي هذا الحديث عني، أو ما صح عندك من حديثي، جاز أن يقول: أجاز لي فلان، وأَخبرني فلان إجازة فيما صح عنده من سماعه، ولا يقول: حدثني ولا أخبرني مطلقاً؛ لأنه لم يخبره؛ وإنما أجازه إجازة.
وكذلك إذا ناوله كتاباً فيه حديث، وقال له: قد أجزت لك أن
__________
(1) الخلال. شيخ للقاضي أبي يعلي، وقد سبقت ترجمته ص (969).
(2) هو: أحمد بن عبد الجبار، أبو بكر التيمي، العطاردي. الكوفي. سمع ابن عياش وابن ادريس وغيرهما. حدث ببغداد، وكان يروي مغازي ابن إسحاق. وثقه ابن حبان. مات بالكوفة سنة (272هـ). له ترجمة في: "الأعلام" (1/140) و"تذكرة الحفاظ" (2/582)، و"شذرات الذهب" (2/162).

(3/981)


تؤدي عني ما فيه من الحديث، جاز أن يقول: ناولني فلان، أو أخبرني فلان مناولةً.
وكذلك إذا كتب إليه بحديث جاز أن يقول: كتب إلي فلان، أو أخبرني فلان مكاتبةً.
وقد نصّ أحمد رحمه الله على هذا فقال في رواية المروذي: إذا أعطيتك كتابي، وقلت لك: اروه عني، وهو من حديثى، فلا تبال سمعته أو لم تسمعه.
وقال أبو بكر الخلال (1): أخبرني أبو المثنى العنبري أن أبا داود حدثهم: أن أبا عبد الله قال: لم أسمع من أبي توبة (2) شيئاً (3)، [وإنما] كتب إليّ بأحاديث.
__________
(1) هو: أحمد بن محمد بن هارون أبو بكر الخلال البغدادي الحنبلي، أحد الذين عنوا بمذهب الإمام أحمد جمعاً وترتيباً. سمع الحسن بن عرفة وسعدان بن نصر وغيرهما. حدث عنه غلامه أبو بكر عبد العزيز ومحمد بن الظفر وغيرهما.
ألف كتاب: "السنة"، و"العلل" و"الجامع". مات ببغداد شهر ربيع الآخر من سنة (311هـ).
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" (5/112)، و"تذكرة الحفاظ" (3/785)، و"شذرات الذهب" (2/261)، و"طبقات الحفاظ" ص (329)، و"طبقات الحنابلة" (2/12)، و"المنتظم" (6/174).
(2) هو: الربيع بن نافع أبو توبة الحلبي الطرسوسي. ثقة حجة. روى عن ابن عيينة وابن المبارك وغيرهما. وعنه أبو داود والدارمي وأبو حاتم وغيرهم. مات سنة (241هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (2/472)، و"الخلاصة" ص (115).
طبعة بولاق، و"شذرات الذهب" (2/99)، و"طبقات الحفاظ" ص (205).
(3) في الأصل: (شيء).

(3/982)


قال أبو بكر الخلال: وكان محمد بن عوف الحمصي (1) يحدثنا كثيراً، فيكثر فيما نسمع منه من المسند خاصةً، فيقول: أخبرني أبو ثور (2) في كتابه إليّ.
وقال عبد الله: رأيت عبد الرحمن المتطبب (3) جاء الى أبي، فقال: يا أبا عبد الله أخبرني هاذين الكتابين، فقال له: ضعهما، فأخذهما أبي، فعارض بهما حرفاً حرفاً، فلما جاء دفعهما اليه، وقال: قد أجزت لك هذه بهذا.
وبهذا قال أصحاب الشافعي.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف -فيما حكاه أبو سفيان عنهما-: لا
__________
(1) هو: محمد بن عوف بن سنان أبو جعفر الطائي الحمصي. من أصحاب الإمام أحمد. قال فيه أبو بكر الخلال: حافظ إمام في زمانه، معروف بالتقدم في العلم والمعرفة على أصحابه، روى عن الإمام أحمد وأبي المغيرة وغيرهما. وعنه أبو بكر الخلال، والإمام أحمد فيما قيل.
انظر ترجمته في: "طبقات الحنابلة" (1/310).
(2) هو: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان أبو ثور الكلبي البغدادي. أحد الفقهاء المشهورين. ثقة مأمون. سمع وكيعاً وابن عيينة وغيرهما. ومنه أبو داود ومسلم وغيرهما. مات سنة (240هـ).
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (6/65)، و"تذكرة الحفاظ" (2/512)، و"تهذيب التهذيب" (1/118)، و"شذرات الذهب" (2/93)، و"طبقات الحفاظ" ص (223)، و"ميزان الاعتدال" (1/29)، و"النجوم الزاهرة" (2/301).
(3) أبو الفضل، وقيل: أبو عبد الله البغدادي. من أصحاب الإمام أحمد الذين تفقهوا عليه، و"نقلوا عنه المسائل". ذكره الخلال فقال: "عنده مسائل حسان عن أبي عبد الله. وكان يأنس به أحمد بن حنبل".
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/208).

(3/983)


تجوز الرواية بالإجازة والمناولة والمكاتبة، سواء قال حدثني به إجازةً أو مناولةً أو مكاتبةً، أو لم يقل ذلك.
وحكى أبو سفيان عن أبي بكر الرازي أنه قال: إن قال الراوي لرجل: قد أجزت لك أن تروي عني جميع ما في هذا الكتاب، فاروه عني، فإن كانا عَلِمَا ما فيه جاز له أن يروي عنه، فيقول: حدثني فلان، وأخبرني فلان، كما أن رجلاً لو كتب صكّاً، والشهود يرونه، ثم قال لهم: اشهدوا علىّ بجميع ما في هذا الكتاب، جاز لهم إقامة الشهادة عليه بما فيه.
وأما إذا لم يعلم الراوي ولا السامع ما فيه، فإن الذي يجب على مذهبنا: لا يجوز له أن يقول: أخبرني فلان، كما قالوا في الصك، إذا أشهدهم وهم لا يعلمون ما فيه لم تصح الشهادة، وكذلك إذا قال له: قد أجزت لك ما يصح عندك من صك فيه إقراري، فاشهد به علىّ، لم يصح.
قال: وإن علم المكتوب إليه أن هذا كتاب فلان إليه، جاز له أن يقول: أخبرني [148/أ] فلان، يعني الكاتب، ولا يقول حدثنا.
دليلنا على جواز الرواية في الإجازة والمناولة والمكاتبة على الوجه الذي ذكرنا:
أنه ليس فيه أكثر من أنه لم يوجد من المحدث فعل الحديث، وهذا لا يمنع الرواية عنه، كما لو قرئ عليه الحديث فأقر به، فإنه لم يوجد منه فعل الحديث، ومع هذا فإنه تصح الرواية عنه، كذلك ها هنا.
فإن قيل: هناك وجد منه ما هو في حكم الحديث، وهو إقراره به.
قيل: إقراره به ليس من فعل الحديث من جهته، وإنما هو إقراره بأنه سماعه، وهذا المعنى موجود ها هنا.
ولأن أمر الأخبار مبنى، على حسن الظن والظاهر، ولهذا قبل فيها

(3/984)


العبيد والنساء وقول الواحد، والظاهر من حال الخط أنه صحيح لا يشتبه [فيه]، فجازت الرواية به.
واحتج المخالف:
بأنه لم يوجد من المحدث فعل الحديث، ولا ما هو في حكم الحديث؛ لأنه لم يحدث به، ولا قرئ عليه، فلم يجز أن يقول: حدثني ولا أخبرني.
والجواب: أنه يبطل به، إذا قرئ عليه، فأقرَّ به.
واحتج: بأن الشهادة على الشهادة لا تقبل في مثل هذا؛ لأنه لو كتب شاهدان إلى شاهدين: اشهدا على شهادتنا لم يجز، كذلك الأخبار.
والجواب: أن الأخبار (1) أمرها مبني على حسن الظن.
فإن كانت الإجازة مطلقة لجميع من أراد، جاز.
وقد رأيت ذلك بخط أبي حفص البرمكي، أو بخط والده أحمد بن إبراهيم البرمكي (2) في حاشيه الورقة الأولى من جزء خرجه أبو بكر عبد العزيز ترجمه: "الرد على من انتحل [غير] (3) مذهب أصحاب الحديث"، فقال: سمعت هارون بن موسى (4) وأجازه الشيخ معي جميع
__________
(1) في الأصل: (الشهادة)، وهو خطأ، والصواب: ما أثبتناه.
(2) هو: أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل البرمكي. من الطبقة الثالثة. تخصص في صحبة أبي الحسن بن بشار، ونقل كثيراً من أخباره. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (2/74).
(3) سبق للمؤلف ص (980) أن ذكر هذا الكتاب معزوا إلى أبي بكر عبد العزيز كما أثبتناه.
(4) هو: هارون بن موسى بن حيان أبو موسى القزويني. حدث عن أبي حاتم الرازي، وروى عنه علي بن عمر الحربي، وأبو بكر عبد العزيز. =

(3/985)


ما خرج عنه لجميع من أراده، وذلك أن الراوية بالإجازة إنما تصح لما صح عنده من حديثه، وهذا المعنى موجود في المطلقة والمقيدة.
فإن روى حديثاً عن غيره فقال: حدثني فلان عن فلان، حمل على أنه سمع ذلك منه من غير واسطة، ويكون خبراً متصلاً.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي الحارث وعبد الله: ما رواه الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو [ثابت] (1)، وما رواه الزهري عن سالم عن أبيه، وداود عن أشعث عن علقمة عن عبد الله، ثابت.
وبهذا قال أصحاب الشافعي.
ومن الناس من قال: حديث العنعنة غير صحيح؛ لأن قول عبد الرزاق عن مَعْمَر، يحتمل: أن يكون غير مَعْمَر، وهو عنه على ما روى، ولكن لا لأنه سمعه منه.
وهذا غلط؛ لأن الظاهر من حال الراوي إذا قال: حدثني فلان عن فلان، أن كل واحد منهم سمع ذلك من [148/ب] الذي روى عنه من غير واسطة، فإنه لو كان واسطة لذكره وما أدرجه، فحمل الأمر على ذلك، ووجب العمل بالخبر.
مسألة
إذا روى صحابي عن صحابي خبراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لزمه العمل به،
__________
= له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (14/32)، وورد ذكره في ترجمة أبي بكر عبد العزيز المعروف بغلام الخلال في: "تاريخ بغداد" (10/459)، وله أيضاً ترجمة في "طبقات الحنابلة" (2/119).
(1) بياض بالأصل يقدر بكلمة والتصويب دل عليه نقل أبي البقاء الفتوحي في كتابه "شرح الكوكب المنير" ص (289) من الملحق.

(3/986)


فإن لقي المروي له النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك، لم يلزمه أن يسأله عن الخبر، بل يقتصر على السماع الأول.
وقال بعض الناس: يلزمه أن يسأله عن ذلك.
وهذا غلط؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث العمال والسعاة والمعلمين والحكام إلى البلاد، وكان الناس يرجعون إلى قولهم ويتعلمون منهم، ويقدمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يسألونه عن شيء من ذلك، بل يقتصرون على ما عرفوه من جهة رسله، فثبت: أنه لا يجب الرجوع إليه ومساءلته.
واحتج المخالف:
بأن لهم طريقا إلى معرفة الحكم من جهة الرسول قطعاً، ومعرفته من جهة الصحابي غير مقطوع عليه، فلم يجز ترك القطع والاقتصار على غلبة الظن.
والجواب: أنه ليس يمنع مثل هذا في أحكام الشرع، ألا ترى أن الإنسان يجوز له ترك التوضؤ بالماء من وسط النهر، ويتوضأ من ماء في إناء على طرف النهر.
فصل
فيمن يقع عليه اسم الصحابي
ظاهر كلام أحمد رحمه الله: أن اسم الصحابي مطلق على من رأى النبي عليه السلام، وإن لم يختص به اختصاص المصحوب، ولا روى عنه الحديث؛ لأنه قال في رواية عبدوس بن مالك العطار (1): أفضل الناس
__________
(1) أبو محمد. روى عن الإمام أحمد ويحيى بن معين وغيرهما. وعنه عبد الله بن الإمام أحمد وأبو العباس السراج النيسابوري وغيرهما. كان من المقربين عند =

(3/987)


بعد أهل بدر القرن الذي بعث (1) فيهم، كل من صحبه سنةً أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه، فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدر ما صحبه، فقد أطلق اسم الصحبة على من رآه، وإن لم يختص به.
وحكى أبو سفيان عن بعض شيوخه: أن اسم الصحابي إنما يطلق على من رأى النبي صلى الله عليه [وسلم] واختص به اختصاص الصاحب بالمصحوب سواء روى الحديث أو لم يروه، وأخذ العلم أو لم يأخذه، فاعتبر تطاول الصحبة في العادة.
وذكر أبو سفيان عن أبي سفيان عمرو بن بحر: أن هذا الاسم إنما يسمى به من طالت صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - واختلاطه به، وأخذ العلم، وهذا القائل اعتبر طول الصحبة ونقل العلم.
وحكى الإسفراييني: أن الصحبة في العرف: عبارة عمن صحب غيره، فطالت صحبته له ومجالسته معه.
دليلنا:
أن الصحبة في اللغة: من صحب غيره قليلاً أو كثيراً، ألا ترى أنه يقال: صحبت فلاناً، وصحبته ساعة؟
ولأن ذلك الاسم مشتق من الصحبه (2)، وذلك يقع على القليل والكثير، [149/أ] كالضارب مشتق من الضرب، والمتكلم مشتق من الكلام، وذلك يقع على القليل والكثير، كذلك ها هنا.
__________
= الإمام أحمد، وممن نقلوا عنه بعض المسائل.
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (11/115)، و"طبقات الحنابلة" (1/241).
(1) في الأصل: (بعثت)، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، وهو الموافق لما في طبقات الحنابلة (1/243)، في ترجمة (عبدوس)؛ لأنه نقل الرواية تامة، مع أنها رواية طويلة.
(2) في الأصل: (الكلام).

(3/988)


ولأنه ليس يحتاج في إطلاق هذا الاسم إلى من قد روى الحديث عنه صلى الله عليه [وسلم] وأخفى العلم عنه؛ لأن جماعة من الصحابة قد امتنعوا من رواية الحديث، ولم يكن ذلك مانعاً من إجراء هذا الاسم عليهم.
يبين صحة هذا: أن دواعيهم كانت مختلفة، وكان بعضهم لا يرى الرواية، وكانوا يؤثرون الاشتغال بالجهاد على الرواية.
قال السائب بن يزيد: صحبت سعد بن أبي وقاص زماناً، فما سمعت منه حديثاً، إلا أني سمعته ذات يوم يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق، والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي).
وكذلك أخذ العلم منه لا يكون شرطاً في استحقاق هذه التسمية؛ لأن من اختص بغيره فإنه يطلق عليه أنه صاحب فلان، وان لم يأخذ منه العلم.
واحتج المخالف:
بأن عادة الأمة جارية بإطلاق هذا الاسم على من اختص بالنبي [صلى الله عليه وسلم]، والمنع من إطلاقه على من لم يختص به، وإن كان قد رآه وسمع منه، كمن ورد عليه من الوفود والرسل (1) ومن يجري مجراهم، وإذا كان كذلك وجب أن يكون هذا الاسم جارياً على من اختص به الاختصاص الذي ذكرناه.
ويبين صحة هذا: أن العالم إذا كان له أصحاب يصحبونه ويلازمونه كانوا هم أصحابه، وإن كان في البلد من يلقاه ويستفتيه، فلا يكون من أصحابه، كذلك النبي صلى الله عليه [وسلم] أصحابه من صحبه دون من لقيه مرة.
والجواب: أن من يرد عليه من الوفود والرسل إن كانوا مؤمنين به
__________
(1) في الأصل: (والرسلا).

(3/989)


انطلق عليهم الاسم، وإن كانوا كفاراً لم ينطلق عليهم الاسم؛ لأنهم غير تابعين له.
وأما من صحب غيره من العلماء على وجه التبع له في العلم ينطلق عليه الاسم وإن قل، ويقال: فلان صاحب فلان، وكذلك من صحب فلاناً يوماً على وجه الخدمة، يقال: هذا صاحب فلان، وأما من مشى معه في الطريق إذا استفتاه، فلا ينطلق عليه الاسم؛ لأنه لم يحصل تابعاً له في صحبته.
ومن كان في وقت النبي صلى الله عليه [وسلم] كان تابعاً له، فأما من يجوز الإخبار عنه بأنه صحابي، فهو من يخبر عنه الصحابي.
وحكى أبو سفيان عن بعض شيوخه: أنه لا يجوز الإخبار عنه بأنه صحابي إلا بعد أن يقع لنا العلم بذلك، إما اضطراراً أو اكتساباً.
دليلنا:
أنه لو أخبر عن نفسه بأنه صحابي، قبل منه باتفاق منا ومن هذا القائل، فإذا أخبر عن غيره، يجب أن يقبل منه.
يبين صحة الجمع بينهما: أن [149/ب] فسقه لما كان مانعاً من قبول خبره بذلك عن نفسه، كان فسق غيره مانعاً من قبول خبره.
ولأنه لما وجب العمل بخبر الواحد، كذلك جاز الحكم بخبر الواحد في إثبات الصحبة.
وذهب المخالف إلى أنه لا يجوز لنا أن نخبر فلاناً من أن يكون الخبر عنه كذباً، كما لا يجوز لنا أن نخبر بالكذب، فإذا كان كذلك وكنا لا نأمن في الإخبار عن زيد بأنه صحابي، أن يكون حديثاً كذباً، وجب أن لا يجوز لنا الإخبار بذلك عنه.
والجواب: أن هذا موجود في الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبر الواحد، فإنا نجوز أن يكون كاذباً فيه، ومع هذا يجب العمل بخبره، كذلك ها هنا،

(3/990)


ويلزم عليه أيضاً إخباره عن نفسه، فإن أخبرنا عن نفسه بأنه صحابي، جاز قبول خبره، كما يقبل خبر غيره.
وحكي عن بعض الناس: أنه لا يقبل خبره، وإنما يعمل على خبر غيره.
دليلنا:
أنه لما قبل خبر غيره عنه بأنه صحابي، كذلك يجوز قبول خبره عن نفسه بذلك.
يبين صحة هذا وتساويهما: أن العدالة معتبرة فيما يخبر غيره عنه، وفيما يخبر هو عن نفسه.
فإن قيل: لا يمتنع أن يقبل قول غيره له، ولا يقبل قوله لنفسه، كما تقبل شهادة غيره له، ولا يقبل إقراره لنفسه؛ لأنه يجر إلى نفسه منفعة، وهذا موجود ها هنا.
قيل: هذا لا يمنع خبره لنفسه، ألا ترى أن من روى خبراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل منه وإن كان نفعه يعود بالمخبر؟ كذلك قوله: أنا صحابي لا يمنع، وإن عاد نفعه إليه ويفارق هذا الشهادة والدعوى؛ لأن حصول النفع يمنع قبول ذلك.
وأيضاً: فإن العقل لا يمنع من قبول خبره بذلك، والسمع لم يرد بالمنع، فجاز قبوله.
مسألة (1)
إذا قال الصحابي: من السنة كذا، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من السنة أن لا يقتل حر بعبد (2). اقتضى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) راجع هذه المسألة في "المسودة" ص (294).
(2) قول علي - رضي الله عنه - أخرجه عنه الدارقطني في كتاب الحدود والديات =

(3/991)


وكذلك إذا قال التابعي: من السنة كذا، كان بمنزلة المرسل، فيكون حجة على الصحيح من الروايتين، كما قال سعيد بن المسيب: من السنة إذا أعسر الرجل بنفقة امرأته أن يفرق بينهما (1).
وكذلك إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، فإنه يرجع إلى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهيه.
وكذلك إذا قال: رخص لنا في كذا.
وقد نقل أبو النضر العجلي عن أحمد رحمه الله: في جراحات النساء مثل جراحات الرجال. حتى تبلغ الثلث، فإذا زاد فهو على النصف من جراحات الرجل، قال: هو قول [150/أ] زيد بن ثابت (2)، وقول علي
__________
= (3/134).
وأخرجه عنه البيهقي في "السنن الكبرى" في كتاب الجنايات، باب لا يقتل حر بعبد (8/34). والأثر ضعيف؛ لأن في إسناده عندهما "جابراً الجعفي" وهو ضعيف.
راجع في هذا الأثر أيضاً: "تلخيص الحبير" (4/16).
(1) هذا الأثر أخرجه الإمام الشافعي بسنده عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب، وذلك في كتاب النفقات، باب وجوب النفقة للزوجة، وإثبات الفرقة لها إذا تعذرت النفقة باعساره ونحوه (2/420)، ولفظه: (... عن أبي الزناد، قال: سألت سعيد بن المسيب عن رجل لا يجد ما ينفق على امرأته؟ قال: يفرق بينهما. قال أبو الزناد: قلت سُنّة؟ فقال سعيد: سنّة. قال الشافعي: والذي يشبه قول سعيد: "سنة" أن يكون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" في كتاب الطلاق، باب الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته (7/96) بسنده عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب بمثل لفظ الشافعي.
وأخرجه بسنده عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب، ولم يقل: "من السنة".
وراجع في هذا الأثر. أيضاً: "تلخيص الحبير" (4/8).
(2) قول زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" =

(3/992)


كله على النصف (1). قيل له: كيف لم تذهب إلى قول علي؟ قال: لأن هذا -يعني قول زيد- ليس بقياس، قال سعيد بن المسيب: هو السنة (2).
وهذا يقتضي أن قول التابعي: من السنة، أنها سنة النبي صلى الله عليه [وسلم]؛ لأنه قدم قوم زيد على قول علي؛ لأنه وافق قول سعيد: إنما هي السنة، وبين أنه ليس بقياس.
وقد رأيت بعض أصحابنا، ويغلب على ظني أنه أبو حفص البرمكي (3) ذكره في مسائل البرزاطي (4)، لما روى الحديث عن ابن عمر أنه قال:
__________
= في كتاب الديات، باب ما جاء في جراح المرأة (8/96)، بإسناد منقطع.
راجع أيضاً: "نصب الراية" (4/364).
(1) هذا الأثر عن علي - رضي الله عنه - أخرجه عنه البيهقي في "السنن الكبرى" في كتاب الديات، باب ما جاء في جراح المرأة (8/95-96) بإسنادين، أحدهما منقطع.
راجع أيضاً: "نصب الراية" (4/363).
(2) أثر سعيد بن المسيب -رحمه الله تعالى- أخرجه عنه البيهقي في "السنن الكبرى" في كتاب الديات، باب ما جاء في جراح المرأة (8/96) ولفظه: (... عن ربيعة أنه سأل سعيد بن المسيب كم في أصبع المرأة؟ قال: عشر. قال: كم في اثنتين؟ قال: عشرون، قال: كم في ثلاث؟ قال: ثلاثون. قال. كم في أربع قال: عشرون. قال ربيعة: حين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها.
نقص عقلها! قال: أعراقي أنت؟ قال ربيعة: عالم متثبت أو جاهل متعلم. قال: يا ابن أخي إنها السنة).
راجع أيضاً: "نصب الراية" (4/364).
(3) حرر هذا القائل بأنه ابن بطة، كما في "المسودة" ص (295).
(4) هو: محمد بن أحمد أبو عبد الله البرزاطي. روى عن الحسن بن عرفة وعلي بن حرب الطائي وغيرهما. وعنه أبو بكر بن شاذان.
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" (1/382)، و"اللباب" (1/137).

(3/993)


مضت السنة أن ما أدركت الصفقة حياً (1) مجموعاً فهو من مال المبتاع (2)، فقال بعد هذا: صار الحديث مرفوعاً بقوله: مضت السنة، ويدخل في المسند (3).
واختلف أصحاب أبي حنيفة في ذلك: فحكى أبو سفيان عن أبي بكر الرازي: أنه لا يضيف ذلك، وحكى عن غيره من أصحابه: أنه يضاف إلى النبي [صلى الله عليه وسلم].
واختلف أصحاب الشافعي أيضاً: فذهب الصيرفي (4) إلى أنه لا يضاف إلى النبي [صلى الله عليه وسلم]، وذهب غيره: إلى أنه يضاف إليه.
دليلنا:
أن السنة المطلقة في أحكام الشرع ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أطلق وجب رجوع ذلك إليه؛ لأنه إذا أريد بها سنة غيره فإنها لا تطلق، بل تضاف إلى صاحبها.
يبين صحة هذا: أن الناس يقولون: عليكم بالقرآن والسنة، فلا يعقلون من ذلك إلا اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) في "المسودة" ص (295) بالباء الموحدة وفي "صحيح البخاري" (حياً) بالمثناة التحتية كما أثبتناه.
(2) حديث ابن عمر رضي الله عنه ذكره البخاري معلقاً بصيغة: (قال) ولم يذكر قوله: (مضت السنة)، وذلك في كتاب البيوع، باب إذا اشترى متاعاً أو دابة، فوضعه عند البائع، أو مات قبل أن يقبض.
(3) تعقب الشيخ ابنُ تيمية المؤلفَ في هذا، حيث قال في "المسودة" ص (295): (قلت: ويغلب على ظني أن هذا الضرب لم يذكره أحمد في الحديث المسند، فلا يكون عنده مرفوعاً).
(4) هو أبو بكر محمد بن عبد الله الصيرفي، وقد سبقت ترجمته ص (105).

(3/994)


ولأن إطلاق الأمر في الشريعة يرجع إلى صاحب الشريعة، ولهذا كان أنس بن مالك يقول: أُمر بلال (1) أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة (2) ويحدث به هكذا، ولا يقول له أحد: من الآمر به؟ فدل على ما قلناه.
__________
(1) هو: بلال بن رباح الحبشي، أبو عبد الله، مولى أبي بكر رضي الله عنه، ومؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. صحابي جليل، من أول الناس إسلاماً.
شهد بدراً والمشاهد كلها. مات بدمشق سنة (20) وله من العمر ثلات وستون سنة.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/178)، و"الإصابة" القسم الأول ص (326)، طبعة دار نهضة مصر.
(2) حديث أنس - رضي الله عنه - هذا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الأذان، باب بدء الأذان (1/148).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة (1/286).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في إفراد الإقامة (1/369-370).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الإقامة (1/121).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الأذان، باب تثنية الأذان (2/4).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأذان، باب إفراد الإقامة (1/241).
وأخرجه عنه الدارمى في كتاب الصلاة، باب الأذان مثنى مثنى والإقامة مرة (1/116).
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب حديث أبي محذورة في صفة الأذان (1/59).
وأخرجه عنه أبو داود الطيالسي في مسنده في كتاب الصلاة، باب صفة الأذان والإقامة (1/79).
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار، في كتاب الصلاة، باب الإقامة كيف هي (1/132).
وراجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (105) و"نصب الراية" (1/271).

(3/995)


وكذلك عبد الله بن عمر قال: رخص للمتمتع في صيام أيام التشريق (1) ولا يقول أحد: من رخص للمتمتع في صيامها (2)؟
وقد احتج بعضهم في ذلك:
بأن الأمر إنما يحسن لكون المأمور به مصلحة، توجب أن يكون في إضافته إلى من يعلم المصالح أولى من إضافته إلى من لا يعلم، والرسول [صلى الله عليه وسلم] أعلم بذلك دون غيره.
واحتج المخالف:
بأن الأمر والنهي والسنة لا يختص بالنبي دون غيره، قال تعالى: (أطيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرسُولَ وَأُولي الأمْرِ مِنْكُم) (3) فأمر باتباع أمر الولاة، كما أمر باتباع أمره عز وجل وَأمر رسوله صلى الله عليه [وسلم].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من [150/ب] سن سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سُنةً سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، فأثبت لغيره سنة كما أثبت ذلك لنفسه.
وكذلك روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
__________
(1) هذا الحديث أخرجه البخاري بسنده عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما في كتاب الصيام، باب صيام أيام التشريق (3/53-54)، ولفظه: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي).
راجع فيه أيضاً "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (358).
(2) في الأصل: (صيامهما).
(3) (59) سورة النساء.

(3/996)


الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة (1).
فسمى رأيهم في أيام عمر سنة.
والجواب عن قوله تعالى: (وأولي الأمر منكم): يحتمل ما أخبروا به عن الله عز وجل ورسوله [- صلى الله عليه وسلم -].
وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء) يحتمل ما رووه عن النبي صلى الله عليه [وسلم]، فكأنه قال: عليكم ما سمعتموه مني، وبما حدثكم به خلفائي عني.
وكذلك قوله: (من سن سنة حسنة) معناه: ما رواه عن النبي [صلى الله عليه وسلم].
وقوله: (ومن سن سنة سيئة) فليس شيئاً مما نحن فيه؛ لأن خلافنا في السنة الشرعية، والسيئة ليست بشرعية، فلا يتناولها الإطلاق.
وجواب آخر وهو: أن الخلاف في إطلاق السنة، وها هنا مقيدة منسوبة إلى الخلفاء إلى غير النبي [صلى الله عليه وسلم].
وأما قول علي: "وكل سنة"، فهو أنا نحمله على سنة النبي [صلى الله عليه وسلم]؛ لأن الزيادة عندنا حد، وقد ثبت الحد بالسنة، وقال علي ابن أبي طالب لقنبر: ما إخال أن أحداً يعلمنا السنة، وأراد منه النبي صلى الله عليه [وسلم].
__________
(1) حديث علي - رضي الله عنه - هذا أخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب حد الخمر (3/1331-1332).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الحدود، باب في الحد في الخمر (2/473).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الحدود، باب حد السكران (2/858).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الحدود، باب في حد الخمر (2/97).
وراجع فيه أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (656).

(3/997)


مسألة (1)
إذا قال الصحابي أو التابعي: كانوا يفعلون كذا، حمل ذلك على الجماعة دون الواحد منهم. وهو قول أصحاب أبي حنيفة.
وذلك نحو قول عائشة رضي الله عنها: كانوا لا يقطعون في الشيء، التافه (2).
وقول إبراهيم النخعي: كانوا يحذفون التكبير حذفاً. فيكون هذا عن جماعتهم؛ لأن الصحابي والتابعي إذا قال: كانوا يفعلون كذا، فإنما يقول ذلك على وجه الدلالة على صحة ما فعلوا، فإذا كان كذلك، وكانت الجماعة التي فعلها وقولها حجة، هي الأمة وجب أن يكون قول القائل منهم راجعاً إليهم.
فإن قيل: يجوز أن يكون المراد به فعل بعض الصحابة؛ لأن فعل بعضهم يكون حجة.
قيل: الواحد لا يقع عليه اسم الجماعة.
__________
(1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (296).
(2) هذا الأثر عن عائشة -رضي الله عنها- أخرجه عنها بالسند المتصل ابن أبي شيبة في مصنفه، كما حكى ذلك الزيلعي في كتابه: "نصب الراية" (3/360)، ولفظه: (قالت: لم تكن يد السارق تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه، ولم تقطع في أدنى من ثمن حجفه أو ترس). كما أخرجه مرسلاً عن عروة.
وأخرجه عنها ابن عدي في كتابه: "الكامل" بالسند المتصل، وفي إسناده عبد الله بن قبيصة الفزاري، قال ابن عدي: "لم يتابع عليه" نقل ذلك الزيلعي في كتابه المذكور آنفاً.
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب اللقطة، باب في كم تقطع يد السارق؟ (10/234-235) عن عروة مرسلاً.

(3/998)


فإن قيل: فيجب أن لا يسوغ خلاف ذلك؛ لأنه حينئذ يكون خلاف الإجماع، فلما ساغ، دل على أن ذلك لم يقتض الإجماع.
قيل: إنما سوغنا الخلاف فيما هذا سبيله، لأنا نعلم أنهم أجمعوا عليه، وإنما استدللنا عليه بخبر الواحد، وخبر الواحد لا يوجب العلم بما تضمنه.
مسألة
إذا قال الصحابي: [151/أ] قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: كذا وكذا، حكم بأنه سمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويصير كما لو قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، أو حدثني رسول الله [صلى الله عليه وسلم].
وحكي عن أبي بكر ابن الباقلاني قال: لا أحكم بأنه سمع ذلك منه، بل يجوز أن يكون بينهما واسطة.
دليلنا:
أنه لما قال [قال] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، أضاف القول إليه، وقطع على أنه قال، والظاهر من حال الإنسان أنه لا يقطع على الشيء ويطلقه إلا بعد أن يتحققه ويسمعه شفاهاً من قائله، فوجب حمل الأمر على ذلك، والحكم به.
واحتج المخالف:
بأنه قد يخبره بذلك العدد الكبير: فيقطع عليه، وإن لم يسمعه منه.
والجواب: أنه لو كان كذلك لكان بيّن الواسطه، ولا يطلق إضافة القول إليه، فلما أطلق كان الظاهر سماعه منه.

(3/999)


مسألة
إذا قال الصحابي: أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، بكذا، ونهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن كذا، أو قال: فرض رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كذا، أو أباح، أو حرم، فإن الحكم يثبت بذلك ويحكم به بالأمر والنهي.
وقد احتج أحمد رحمه الله على فرض زكاة الفطر: بقول ابن عمر: فرض رسول الله (1) [صلى الله عليه وسلم].
وحكى عن القاضي أبي الحسن الجزري (2) أنه قال: مذهب داود: أن لا يثبت بذلك، ولا يحكم به.
__________
(1) حديث ابن عمر - رضي الله عنه -، أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر (2/153)، ولفظه: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر (2/677).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في صدقة الفطر (3/52).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة، باب كم يؤدى في صدقة الفطر؟ (1/373).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة، باب كم فرض؟ (5/36).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر (1/584).
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الفطر (1/246) من "بدائع المنن".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الزكاة، باب في زكاة الفطر (1/329).
(2) هو عبد العزيز أحمد بن الحسن أبو الحسن الجزري. كان ظاهرياً على مذهب =

(3/1000)


وحكى عن ابن بيان القصار خلاف هذا، وكان على مذهب داود وأنكر ذلك، وقال: يجوز الاحتجاج به.
دليلنا:
أن تصديق الراوي واجب فيما ينقله ويرويه، فإذا قال: زنى ماعز فرجمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسجد، وجب تصديقه، ويكون بمنزلة قوله - صلى الله عليه وسلم - زني ماعز فرجمته، وسهوت فسجدت، فإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله: أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، ونهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بمنزلة قوله صلى الله عليه [وسلم]: أمرتكم ونهيتكم، وقد كان النبي صلى الله عليه [وسلم] يقول مثل ذلك، فروي عنه صلى الله عليه [وسلم] أنه قال: (آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع) (1).
__________
= داود، وكان قاضياً بالحرم وحريم دار الخلافة وغير ذلك. مات سنة (391هـ).
انظر ترجمته في: "البداية والنهاية" (11/330)، و"شذرات الذهب" (3/137).
(1) هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- في قصة وفد عبد القيس: أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (2/125)، ولفظه: (قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله إن هذا الحى من ربيعة، قد حالت بيننا وبينك كفار مضر، ولسنا نخلص إليك إلا في الشهر الحرام، فمرنا بشيء نأخذه عنك، وندعو إليه من وراءنا، قال: "آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، الإيمان بالله وشهادة أن لا إله إلا الله، وعقد بيده هكذا، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم، وأنهاكم عن الدباء، والحنتم، والنقير والمزفت").
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين (1/46). =

(3/1001)


ويدل عليه أن الصحابة اقتصروا على هذا اللفظ، وعولوا عليه، واحتجوا به، ولا يجوز في حقهم أن يعولوا على ما لا تقوم به الحجة. من ذلك قولهم: أمر رسول الله صلى الله عليه [وسلم] برجم ماعز ورجم الغامدية، وأمر بالمضمضة والاستنشاق، وقول ابن عمر: كنا لا نرى بالمخابرة بأساً، حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة، فترك القول بالمخابرة بما نقل عنه من قوله: نهى عن المخابرة، فلولا أن الحجة تقوم به لم يرجعوا إليه.
ويدل [151/ب] عليه قول موسى لقومه: (إن اللهَ يأمركم أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) (1) وقد أظهر من إعناتهم واستفهامهم وكثرة سؤالهم ما قد اشتهر، ولم يقولوا لموسى: عرفنا ما يأمر الله لنقف على لفظه، فدل على أنه يستغنى بذلك عن ذكره ما بين أمره ولفظه. فإن قيل، ليس قولهم مما يجب الانقياد إليه.
قيل: قد لزم ذلك، ألا ترى أنهم لما سألوا أي بقرة هي أجابهم وإن كان ذبح ما يقع عليه الاسم يجزئ، فلولا أنه يجب الانقياد (2)، لم يحسن التوقيف فيه ولا الجواب عنه.
ويدل عليه أنه قد ثبت من مذهب الصحابة: أن ما تنازعوا في مفهومه نقلوا لفظه، ولم يقتصروا على ما أمر النبي صلى الله عليه [وسلم].
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في إضافة الفرائض إلى الايمان (5/8).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الإيمان، باب أداء الخُمس (8/105).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأشربة، باب في الأوعية (2/296).
(1) (67) سورة البقرة.
(2) في الأصل: (للانقياد).

(3/1002)


من ذلك: ابن عمر لما روى أن النبي صلى الله عليه [وسلم] قال: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا)، ثم بين اعتقاده: أنه افتراق الأبدان.
وكذلك عمر في قوله: [هاء وهاء] وكذلك قول أبي هريرة في الولوغ.
ويدل عليه: أن المجمعين إذا أجمعوا على شيء من طريق الحجة، نقلوا إجماعهم في الفتيا، ولم ينقلوا الحجة؛ لأنهم قد علموا أن الإجماع تقوم به الحجة، فاستغنوا عن نقل ما به أجمعوا.
ويدل عليه: أن الصحابة إذا قالت: أخبر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ثبت، ولم نطالبه بما قد علم الخبر، كذلك الأمر؛ لأنهم يعلمون ما به يعلم الخبر، والأمر في اللغة والشرع، وفي الخبر خلاف، كما في لفظ الأمر على قول الواقفة للاحتمال.
ويدل عليه: أن الصحابة من أهل الفصاحة، وقد شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل، فإذا رووا عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه أمر ونهى وجب أن يحمل ذلك على حقيقته، ولا يكون....... (1) عرف بذلك منهم.
واحتج المخالف:
بأن الناس اختلفوا في الأمر، فمنهم من قال: هو الإيجاب، ومنهم من قال: الندب والإيجاب جميعاً أمر، ومنهم من قال: الإباحة أيضاً مأمور بها (2)، وإذا كان كذلك، وجب نقل لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والجواب: أن قوله: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي إطلاقه أمراً مطلقاً،
__________
(1) بياض بالأصل، يقدر بكلمة.
(2) في الأصل: (به).

(3/1003)


والأمر المطلق من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتضي الوجوب، وإنما يصرف عنه إلى الندب بدليل.
جواب آخر: هو أنه معرفتهم (1) بذلك أكثر من معرفتنا، فإذا سمعوا ما لا تنازع فيه نقلوه، وما كان فيه نزاع بينوه، بدليل ما قدمنا من قول ابن عمر في الافتراق.
مسألة (2)
إذا روى جماعة من الثقات حديثاً، وانفرد أحدهم بزيادة لا تخالف المزيد عليه.
مثل أن يقولوا: إن النبي صلى الله عليه [وسلم] دخل البيت، وانفرد أحدهم بزيادة، فقال: [152/أ] دخل البيت وصلى، ثبتت تلك الزيادة بقوله، كالمنفرد بحديث مفرد عنهم.
وهكذا لو أرسلوه كلهم، فرفعه واحد إلى النبي صلى الله عليه [وسلم] يثبت مسنداً بروايته.
وهكذا لو وقفوه كلهم على صحابي، فرفعه واحد منهم إلى النبي [صلى الله عليه وسلم]، ثبت هذا المرفوع، ولم يرد.
وقد نصّ أحمد رحمه الله على الأخذ بالزائد في مواضع:
فقال أحمد بن القاسم (3): سألت أبا عبد الله رحمه الله عن
__________
(1) في الأصل: (معرفته).
(2) هذه المسألة فصل القول فيها الحافظ ابن الصلاح في "مقدمته" ص (111-114) مطبوعة مع شرحها "التقييد والايضاح"، فارجع إليها إن شئت، وارجع أيضاً إلى "المسودة" ص (300).
(3) أحد أصحاب الإمام أحمد الذين حدثوا عنه، ونقلوا بعض المسائل الفقهية. =

(3/1004)


مسألة في فوات الحج، فقال: فيها روايتان: إحداهما: فيها (1) زيادة دم، قال أبو عبد الله: والزائد أولى أن يؤخذ به (2)، قال: ومذهبنا في الأحاديث: إذا كانت الزيادة في أحدهما، أخذنا بالزيادة.
ونقل الميموني عنه أنه قال: نقل أن النبي صلى الله عليه [وسلم] دخل الكعبة ولم يصل (3)، ونقل [أنه] صلى (4)، فهذا يشهد أنه صلى. وابن عمر يقول: لم يقْنُت في الفجر (5)، وغيره يقول: قنتَ (6)،
__________
= له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/55).
(1) في الأصل: (فيه)، والتصويب من "المسودة" ص (300).
(2) هذه الرواية ذكرها ابن أبي يعلى في "طبقاته" (1/55) في ترجمة أحمد بن القاسم السابق ذكره، وذكر انها من مروياته عن الإمام أحمد.
(3) سبق تخريج هذا الحديث، ص (628).
(4) سبق تخريج هذا الحديث، ص (628).
(5) حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه، في أبواب الصلاة، باب القنوت (3/107)، ولفظه: (... عن أبي الشعثاء قال: سألت ابن عمر عن القنوت في الفجر، فقال: ما شعرت أن أحداً يفعله).
وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الصلاة، باب القنوت في صلاة الفجر وغيرها (2/246)، بلفظ: (... ما أحفظه عن أحد من أصحابي)، وبلفظ: (ما شهدت، وما رأيت)، وبلفظ: (ولا رأيت أحداً يفعله)، وبلفظ: (ما رأيت ولا علمت).
وراجع في هذا أيضاً: "نصب الراية": (2/130).
(6) من هؤلاء أنس بن مالك - رضي الله عنه - فقد أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه في أبواب الصلاة، باب القنوت (3/110)، ولفظه: (... ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا).
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب صفة القنوت وبيان موضعه (2/39).

(3/1005)


فهذه شهادة عليه أنه قنت. وحديث أنس: لم يأنِ لرسول الله صلى الله عليه [وسلم] أن يخضب (1)، وقوم يقولون: قد خضب (2)، فهذه شهادة على الخضاب، فالذي شهد على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو أوكد. وبهذا قال جماعة الفقهاء والمتكلمين.
__________
= وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب القنوت في الصلاة (1/333)، ولفظه: (سئل -أي أنس- هل قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح؟ فقال: نعم..).
وبمثل هذا اللفظ أخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار" في كتاب الصلاة، باب القنوت في صلاة الفجر وغيرها (2/243).
وراجع في هذا أيضاً: "نصب الراية" (2/131-132).
(1) حديث أنس - رضي الله عنه - في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخضب.
أخرجه عنه البخاري في كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (4/228).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الفضائل، باب شيبه صلى الله عليه وسلم (4/1821).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزينة، باب الخضاب بالصفرة (8/121-122).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب اللباس، باب ترك الخضاب (2/1198).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الترجل، باب في الخضاب (2/403).
(2) حديث تخضب الرسول صلى الله عليه وسلم للحيته، رواه أبو رمثة رضي الله عنه.
أخرجه عنه النسائي في كتاب الزينة، باب الخضاب بالحناء والكتم (8/121)، كما أخرجه عن ابن عمر رضي الله عنهما في الموضع المذكور.
وأخرجه عن ابن عمر رضي الله عنهما ابن ماجه في كتاب اللباس، باب الخضاب بالصفرة (2/1198).
وأخرجه أبو داود عن أبي رمثة - رضي الله عنه - كما أخرجه عن ابن عمر رضي الله عنهما وذلك في كتاب الترجل، باب في الخضاب، وباب ما جاء في خضاب الصفرة (2/403-404).

(3/1006)


وذهب جماعة من أصحاب الحديث إلى أن ما انفرد به الواحد منهم كان مردوداً، وهذا أبداً في كتبهم: تفرد به فلان وحده، يعنون الرد بذلك.
وقد روي عن أحمد رحمه الله نحو هذا في رواية الأثرم وإبراهيم ابن الحارث والمروذي: إذا تبايعا فخير أحدهما صاحبه بعد البيع، فهل يجب؟ فقال: هكذا في حديث ابن عمر، قيل له: أتذهب إليه؟ قال: لا أنا أذهب إلى الأحاديث الباقية، الخيار لهما ما لم يتفرقا، ليس فيها شيء من هذا.
فقد اطّرح رواية ابن عمر بزيادتها؛ لأن الجماعة ما نقلوها، وإنما تفرد بها ابن عمر.
وقال في رواية أبي طالب: كان الحجاج بن أرطاة من الحفاظ، قيل له: فلم هو عند الناس ليس بذاك؟ قال: لأن في حديثه زيادة على حديث الناس، ما يكاد له حديث إلا فيه زيادة.
دليلنا:
أن الجماعة إذا نقلت حديثاً، وانفرد واحد منهم بزيادة لا تخالف المزيد عليه، كان كالمنفرد بحديث سواه ولو انفرد بحديث سواه كان مقبولاً فوجب أن تقبل هذه الزيادة.
فإن قيل: فقد رد أحمد رحمه الله مثل هذا، فإنه روى أن النبي صلى الله عليه [وسلم] قال: (من اعتق شرْكاً له في عبد، قوم عليه نصيب شريكه، ثم يعتق) (1)، فانفرد سعيد بن
__________
(1) هذا الحديث رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. أخرجه عنه البخاري في كتاب الشركة، باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل (3/172) كما =

(3/1007)


أبي عُروبة (1) فروى: (من أعتق شركاً له في عبد، استسعى العبد غير مشقوق عليه)، فقال أحمد رضي الله عنه في رواية الميموني في حديث أبي هريرة في الاستسعاء (2): يرويه ابن أبي عروبة، وأما شعبة
__________
= أخرجه في كتاب العتق، باب إذا أعتق عبداً بين اثنين أو أَمة بين الشركاء (3/179).
وأخرجه عنه مسلم في أول كتاب العتق (2/1139).
وأخرجه عنه أبو داود، باب فيمن روى أنه لا يستسعى (2/349).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في العبد يكون بين الرجلين، فيعتق أحدهما نصيبه (3/620).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب الشركة في الرقيق (7/281).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب العتق، باب من أعتق شركاً له في عبد (2/844-845).
(1) هو: سعيد بن أبي عروبة مهران أبو النضر البصري العدوي بالولاء. ثقة مشهور.
روى عن قتادة والحسن وابن سيرين وغيرهم. وعنه الأعمش والثوري وشعبة وآخرون. مات سنة (156هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/177)، و"تهذيب التهذيب" (3/63)، و"الخلاصة" ص (120) و"شذرات الذهب" (1/239)، و"ميزان الاعتدال" (2/151).
(2) حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب العتق، باب إذا أعتق نصيباً في عبد وليس له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه على نحو الكتابة (3/180).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب العتق، بأن ذكر سعاية العبد (2/1140-1141).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب العتق، باب من ذكر السعاية في هذا الحديث (2/349).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في العبد يكون بين الرجلين، فيعتق أحدهما نصيبه (3/621). =

(3/1008)


وهشام (1) الدّستوائي (2) فلم يذكروا، لا أذهب إلى الاستسعاء.
[152/ب] فقد امتنع من الأخذ بها.
قيل: هذا باب آخر، وهو أن الزيادة تخالف المزيد عليه، فيكون كأنه تفرد بضد ما نقلته الجماعة، فينتقل الكلام إلى جنس آخر، وهو أن تقدم ما كثرت رواته على ما قلت رواته، وكذلك فيما نقل عن النبي عليه السلام في زكاة الفطر، نصف صاع من بر (3)، ورويَ صاع من
__________
= وأخرجه عنه "ابن ماجه" في كتاب العتق، باب من أعتق شركاً له في عبد (2/844).
(1) في الأصل: (تمام).
(2) هشام بن أبي عبد الله سنبر أبو بكر الدستوائي الربعي البصري. ثقة حافظ، رمى بالقدر، روى عن قتادة ويحيى بن أبي كثير وطائفة، وعنه أبو داود الطيالسي وأبو نعيم وخلق. مات سنة (154هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/164)، و"الخلاصة" ص (351)، و"طبقات الحفاظ" ص (84)، و"ميزان الاعتدال" (4/300).
(3) حديث الاكتفاء بنصف صاع من البر في زكاة الفطر، أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب من روى نصف صاع من قمح (1/375) عن ثعلبة بن صعير رضي الله عنه مرفوعاً، ولفظه: (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صاع من بر أو قمح على كل اثنين، صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر أو أنثي..").
وأخرجه عنه الدارقطني من عدة طرق في كتاب زكاة الفطر (2/147-149)، ولفظه في أحدها: (أدوا صدقة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو نصف صاع من بر، عن كل صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد).
كما أخرجه في الكتاب المذكور (2/149) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعاً، ولفظه: (.. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في صدقة الفطر: "عن كل صغير وكبير، حر وعبد، نصف صاع من بر، أو صاعاً من تمر").
كما أخرجه أيضاً في الموضع السابق موقوفاً. وقال: "هو الصواب".

(3/1009)


بر (1) فهذه الزيادة تخالف المزيد عليه، فيقدم أحدهما بكثرة الرواة، فأما في خبرنا فلا يخالف المزيد عليه، فلهذا قبلناه.
فإن قيل: فهذا الواحد قد يسهو، إذ لو كان صحيحاً لسمعوا كما سمع، ونقلوا كما نقل، فلما لم ينقلوا ثبت أنه سهو.
قيل: النبي صلى الله عليه [وسلم] قد يكرر الأصل مراراً فيضبط، ويذكر الزيادة مرة فيضبطها واحد، وقد تنسى الجماعة ويذكره هو وحده وقد تنصرف الجماعة قبل إكماله الحديث. ويثبت هو حتى يكمله فينفرد بالزيادة.
وأيضاً: فان الخبر كالشهادة وكل شهادة خبر، وليس كل خبر شهادة، ثم ثبت أنه لو شهد ألف على إقراره بألف، وشهد شاهدان على إقراره بألفين، ثبتت الزيادة بقولهما، وإن كانا قد انفردا عن الجماعة، كذلك في الخبر مثله.
فإن قيل: يجوز أن يقرّ مرتين.
قيل: ويجوز أن يقوله النبي [صلى الله عليه وسلم] مرتين.
ولأنه لا خلاف أن القرآن نقل نقلاً متواتراً، وانفرد الشواذ لما خالفوا فيه الجمهور، كقراءة ابن مسعود وأُبي، فنقل كل واحد، ولم ينكر[و]ه، ولم يقولوا لما انفرد بالزيادة كان كل مردوداً، كذلك الخبر مثله.
__________
(1) حديث النص على الصاع من البر في زكاة الفطر أخرجه الدارقطني في كتاب زكاة الفطر (2/147-148)، عن ثعلبة بن صعير رضي الله عنه من عدة طرق، ولفظه في أحدها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أدوا عن كل إنسان صاعاً من بر، عن الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والغني والفقير...).

(3/1010)


ولأن الواحد إذا انفرد بالزيادة غلب على الظن صدقه، فإنه لا ينقل إلا ما سمعه وعرفه، والجماعة إذا لم ينقلوا جاز أن يحمل ذلك على سهو ونسيان، وذلك يجوز عليهم، ولا يجوز على الواحد الثقة نقل ما لم يسمعه، فوجب أن يقبل قوله فيما تفرد به.
واحتج المخالف:
بأنه إذا نقله الكل وانفرد واحد بالزيادة، كان ما تفرد به سهواً، لأنهم ما حفظوه حين قاله النبي [صلى الله عليه وسلم] مراراً سمعوه كلهم فلو كان ما تفرد به صحيحاً لقال الزيادة، كما قال المزيد عليه، ولو قال سمعوه كما سمع ونقلوه كما نقل.
والجواب عنه: ما تقدم، وهو أنه يجوز أن يكون نسواً وسهواً، وذكر هو، وسمعوا بعض الحديث، وسمع هو جميعه.
ويحتمل أن يكون أحدهم أقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والآخر أبعد، فسمع لقربه ما خفي على الأبعد.
ولأنه يبطل بالشهادة على الإقرار، إذا انفرد بعضهم بالزيادة.
واحتج: بأن الأصل متحقق والزيادة مشكوك فيها؛ فلا تترك الحقيقة بالمشكوك فيه.
والجواب: أنا لا [153/أ] نسلم أنها مشكوك فيها؛ لأن غالب الظن فيه الصدق فيما تفرد به للاحتمال الذي ذكرنا.
ولأنه يبطل بالشهادة، ويبطل به إذا انفرد بخبر، عمل عليه [و] لا يقال: كيف نقل هذا؟ وحفاظ الصحابة وعلماؤهم ما نقوله.
واحتج: بأنه إذا خالف الكل هنا انفرد، فقد خالف أهل الصنعة، فكان ما نقله كل مردوداً، كخبر الواحد إذا خالف الإجماع يرد، لأنه خالف أهل الصنعه.

(3/1011)


والجواب: أنه ما خالفهم، لأنه واحد منهم، وإنما خالف بعض أهل الصنعة، وليس هذا كالإجماع، لأنه خالف الكل فلهذا ترك.
ولأن خبر الواحد يسقط بالإجماع، لأنه في ضد ما أجمعوا عليه وهاهنا ما خالف ما نقلوا، بل نقل ما نقلوا، بل لو خالف ما نقلوا رجحنا بكثرة الرواة.
واحتج: بأن الراوي قد يفسر الحديث فيتأوله، فيسمعه بعض الرواة مطلقاً فيرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كثير، روي عن ابن عباس وأبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً) (1)، وقال أبو هريرة وابن عباس: "والهر" (2).
__________
(1) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - سبق تخريجه ص (225).
(2) تخريج حديث (أبي هريرة) السابق لم يذكر فيه "الهر"، أما ذكر "الهر" في الحديث، فقد أخرجه الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في كتاب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الكلب (1/151)، ولفظه: (... عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات: أولاهن، أو أخراهن بالتراب، وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة"). وقال الترمذي -بعد ذلك-: "حديث حسن صحيح". وأخرجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أبو داود موقوفاً، وذلك في كتاب الطهارة، باب الوضوء بسؤر الكلب (1/17)، ولفظه قريب من لفظ الترمذي.
وقد نص البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة (1/247)، أن بعض الرواة أدرج قول أبي هريرة في الهرة في الحديث المرفوع في الكلب.
ونقل الزيلعي في: "نصب الراية" (1/136) عن صاحب "التنقيح" قوله: "وعلة الحديث أن مسدداً رواه عن معتمر، فوقفه".
كما نقل عن صاحب "الإمام" قوله: "والذي تلخص أنه مختلف في رفعه =

(3/1012)


وروي ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى، قال ابن عباس: ولا أحسب غير الطعام الا كالطعام (1) فأدرجه بعض الرواة، فرفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهكذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة) (2)، قال الراوي: في كل خمس شاة، فأدرجه بعض الرواة فرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
= واعتمد الترمذي في تصحيحه على عدالة الرجال عنده، ولم يلتفت لوقف من وقفه، والله أعلم".
قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "سنن الترمذي" (1/152): (وهذا الذي قال العلامة ابن دقيق العيد في "الامام": صحيح جيد وأزيد عليه أن مسدداً -في رواية أبي داود عنه- روى الحديث كله موقوفاً، في ولوغ الكلب، وفي ولوغ الهر، فلو كان هذا علة لكان علة في الحديث كله، ولكن ليس علة، ولا شبيهاً بها، بل الرفع من باب زيادة الثقة، وهي مقبولة، فما صنعه الترمذي من تصحيح الحديث هو الصواب).
(1) قد مضى للمؤلف أن استدل بهذا الحديث وأورده بلفظ: (من ابتاع طعاماً، فلا يبعه حتى يستوفيه)، وقد خرجناه ص (179).
(2) هذا الحديث أخرجه أبو داود في: "مراسيله" ص (14) عن حماد قلت لقيس ابن سعد: خذ لي كتاب محمد بن عمرو فأعطاني كتاباً أخبرني أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه لجده.
فقرأته فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الإبل، فقص الحديث إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت أكثر من ذلك، فعد في كل خمسين حقة، وما فضل فإنه يعاد إلى أول فريضة من الإبل، وما كان أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم، في كل خمس ذود شاة...
وقد نقل الزيلعي في: "نصب الراية" (2/343) أن ابن راهويه أخرجه في "مسنده"، والطحاوي في "مشكله".
وهو حديث متكلم فيه، فقد نقل الزيلعي أن ابن الجوزي قال في كتابه "التحقيق": =

(3/1013)


فإذا كان هذا جارياً معتاداً، وجب التوقف في الزيادة التي انفرد بها لئلا يكون في هذا المعنى.
والجواب: أنه قد يدرج الراوي ما يفسره الصحابي، ولكن الظاهر إذا قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أنه كله مضاف إلى الرسول (1) [صلى الله عليه وسلم]، مسموع منه، منقول كله عنه، حتى يُبين خلاف هذا، فلا يترك الظاهر من الحال بأمر متوهم مظنون.
واحتج: بأن مقومين لو قوموا المتلف بدرهم، وقوم آخران بدرهمين لكان، الواجب هو الأقل ولم تجب الزيادة، كذلك ها هنا.
والجواب: أن شهادتهما متعارضة في الزيادة؛ لأنهم قد اتففقوا على
__________
= هذا حديث مرسل، كما نقل عن ابن هبة الله الطبري قوله: هذا الكتاب صحيفة، وليس بسماع..
وقال فيه البيهقي في "سننه الكبرى" (4/94): (... وهو منقطع بين أبي بكر بن حزم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقيس بن سعد أخذه عن كتاب لا عن سماع، وكذلك حماد بن سلمة أخذه عن كتاب لا عن سماع، وقيس ابن سعد وحماد بن سلمة وإن كانا من الثقات فروايتهما هذه بخلاف رواية الحفاظ عن كتاب عمرو بن حزم وغيره. وحماد بن سلمة ساء حفظه في آخر عمره، فالحفاظ لا يحتجون بما يخالف فيه، ويتجنبون ما يتفرد به عن قيس بن سعد خاصة وأمثاله، وهذا الحديث قد جمع الأمرين ما فيه من الانقطاع، وبالله التوفيق).
على أن هذا الحديث قد أخرجه الطحاوي عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً، ولفظه: (... فإذا بلغت العشرين ومائة، استقبلت الفريضة بالغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين، ففرائض الإبل).
قال البيهقي: "إنه موقوف ومنقطع".
راجع: "نصب الراية" (2/345).
(1) في الأصل: (الرسولة).

(3/1014)


صفه المتلف واختلفوا في قدر القيمة بالسعر القائم في السوق فوجب (1) أن يكون اللذان أثبتا الزيادة واللذان نفيا الزيادة مخطئين.
وقيل فيه: بأن من قوَّمه بدرهم يقول: عرفت صفة المتلف وسعر السوق في وقت الإتلاف، فكانت قيمته درهماً، ومن قوَّمه بدرهمين (2) يقول: عرفت تلك الصفة بعينها وسعر [153/ب] السوق، تعارضت شهادتهما في الزيادة، فلم تثبت، وليس كذلك رواية من لم يروا الزيادة؛ لأنه لا ينفيها على ما ذكرت.
مسألة
إذا سمع خبراً، فأراد أن ينقل بعضه ويترك بعضه، نظرتَ، فإن كان بعض متعلقاً ببعض، بحيث إذا ترك البعض أخلّ ببعض حكم المنقول، لم يجز ذلك.
وإن كان لا يتعلق به، بل كان يشتمل علي حكمين، لا يتعلق أحدهما بالآخر، كان له نقل أحد الحكمين وترك الآخر؛ لأنه إذا كان بعضه متعلقاً ببعض كان ترك بكل بعضه تغييراً لخبر الرسول [صلى الله عليه وسلم] وزوال المقصود، ولا يجوز ذلك، وإذا اشتمل على الحكمين منفردين حصل بمنزلة حديثين منفردين، ومن كان عنده خبران جاز أن يرويَ أحدهما دون الآخر.
وقد نصّ أحمد رحمه الله على جواز ذلك، فقال أبو الحارث: كتبتُ إلى أبي عبد الله أسأله عن تقطيع الأحاديث، إذا أراد الرجل منه كلمة والحديث طويل، فقال: إذا كان يحتاج من الحديث إلى حرف، يريد أن
__________
(1) مكررة في الأصل.
(2) في الأصل: (قومه درهمين) بدون حرف الجر.

(3/1015)


يقتصر لطوله، فأرجو أن لا يكون عليه شيء، قال: ورأيت أبا عبد الله قد أخرج أحاديث، أخرج منها حاجته من الحديث وترك الباقي، يخرج من أول الحديث شيئاً، ومن آخره شيئاً، ويدع الباقي.
وذكر الأثرم في كتاب "العلل" قال: ذكر أبو عبد الله حديث طَلْق ابن علي في المسكر الذي ذكر فيه: لا يشربه رجل ابتغاء لذة سكر، ربما يذكر (1) ذكت هذه الكلمة: ابتغاء لذة سكر (2)، مخافة أن يتأولوها على غير تأويلها، ونقل هذا.
ونقلت من مسائل إسحاق بن إبراهيم من باب الرأي والعلم، قال: سألتة عن الرجل يسمع الحديث، وهو إسناد واحد، فيقطعه ثلاثة أحاديث قال: قال: لا يلزمه كذب، وينبغي أن يحدث كما سمع فلا يغيره.
قال أبو بكر الخلال: قد حكى اختصار الحديث عن أبي عبد الله جماعةٌ، وبين عنه أبو الحارث، وذكر عنه الفضل بن زياد وأبو أمية الطرسوسي (3) اختصاراً لا يكون شيء أبين ولا أحسن اختصاراً (4) من
__________
(1) كلمة: (يذكر) لا معنى لها، فالأولى حذفها.
(2) في الأصل: (سكره).
(3) هو: محمد بن إبراهيم بن مسلم، أبو أمية، البغدادي، ثم الطوسي، من أصحاب الإمام أحمد. روى عن عبد الله بن بكر السهمي وأبي اليمان، وخلق. وروى عنه أبو عوانة وابن جوصاء وغيرهما. وثقه أبو داود وغيره. مات بطرسوس سنة (273هـ).
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (10/425)، و"تذكرة الحفاظ" (2/581)، و"الخلاصة" ص (276)، و"طبقات الحفاظ" (258)، و"طبقات الحنابلة" (1/365)، و"العبر" (2/51).
(4) في الأصل: (اختصر).

(3/1016)


حديث الإسراء وحديث النعمان بن بزرج (1)، وهذان الحديثان كل (2) واحد منهما في أوراق.
وحكى أبو بكر في الباب حكاية فقال: أخبرنى يزيد بن عبد الله الأصفهاني (3) قال: سمعت إسماعيل بن محمد الغزال (4) من حملة العلم قال: سمعت نعيم بن حماد (5) يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال لي: أنت الذي تميز حديثي؟ فقلت: إن حديثك ربما دخل في أبواب، فسكت عني.
__________
(1) في الأصل: (بن بزرح) بالحاء المهملة، والصواب: (بزرج) بالجيم المعجمة، كما أثبتناه.
وهو: النعمان بن بزرج، اليماني، الصنعاني. يقال: إن له صحبة. وقيل: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يلقه. ووهم أبو نعيم حين قال: "لا يعرف له إسلام". وقد بين الحافظ ابن حجر سبب الوهم، ورده. مات في خلافة عبد الملك، وله من العمر مائة وثلاثون سنة، على ما قيل.
له ترجمة في: "الإصابة" القسم السادس ص (498) طبعة دار نهضة مصر.
(2) في الأصل: (بكل).
(3) لم أقف عليه.
(4) لم أقف عليه.
(5) هو: نعيم بن حماد بن معاوية أبو عبد الله الخزاعي المروزي الفرضي. روى عن إبراهيم: بن طهمان وابن المبارك وهشيم وغيرهم. وعنه يحيى بن معين والذهلي والدارمي وخلق. وثقه أحمد وابن معين وغيرهما وضعفه النسائي.
حبس بسامراء بسبب محنة القرآن، حتى مات سنة (228هـ).
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (13/306)، و"تذكرة الحفاظ" (2/418)، و"الخلاصة" ص (346)، و"شذرات الذهب" (2/67)، و"طبقات الحفاظ" ص (180)، و"ميزان الاعتدال" (4/267)، و"النجوم الزاهرة" (2/257).

(3/1017)


وذكر أبو بكر الخلال في باب غسل الحائض من كتاب "العلل" عن المروذي، وذكر لأحمد حديث ابن أبي شيبة (1) عن وكيع (2)، كأنه اختصره، فقال: ويحك، يحل له أن يختصر؟ قال أبو بكر [154/أ] الخلال: أبو عبد الله لا يرى بأساً باختصار الحديث وابن أبي شيبة اختصر في غير موضع الاختصار.
واختلف الناس في هذا، فمن قال: لا يجوز نقل الحديث على المعنى وعلى الراوي نقل لفظه بعينه قال ها هنا: لا يجوز أن ينقل بعضه (3) ويترك بعضه.
واحتج بما تقدم من قوله: (رَحِمَ الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها).
__________
(1) هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي: ولاءً، الكوفي موطناً، الحافظ، صاحب "المصنف" و"المسند" روى عن شرَيك القاضي وابن المبارك وابن عيينة وغيرهم. وعنه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه والنسائي وخلق. مات سنة (235هـ). له ترجمة في: "البداية والنهاية" (10/315)، و"تاريخ بغداد" (10/66)، و"تذكرة الحفاظ" (2/432)، و"الخلاصة" ص (179) و"شذرات الذهب" (2/85)، و"طبقات المفسرين" (1/146)، و"ميزان الاعتدال" (2/490)، و"النجوم الزاهرة" (2/282).
(2) هو: وكيع بن الجراح بن مليح، أبو سفيان الرواسي الكوفي. أحد الحفاظ المشهورين. روى عن السفيانين ومالك وغيرهم. وعنه أحمد بن حنبل وإسحاق ويحيى وخلق. قيل: إن فيه تشيعاً قليلاً. مات سنة (196هـ).
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (13/466)، و"تذكرة الحفاظ" (1/306)، و"الخلاصة" ص (356)، و"شذرات الذهب" (1/349)، و"ميزان الاعتدال" (4/335)، و"النجوم الزاهرة" (2/153).
(3) كلمة (بعضه) كررت في الأصل.

(3/1018)


ومن قال: يجوز نقل الحديث على المعنى، قال ها هنا: يجوز على الصفة التي ذكرناها، والكلام في هذا الأصل قد تقدم.
وقد أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال بإسناده عن نعيم بن حماد قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال لي: أنت الذي تقطع حديثي؟ قال: قلت يا رسول الله: إنه يبلغنا الحديث عنك فيه ذكر الصلاة وذكر الصيام وذكر الزكاة، فيجعل ذا في ذا وذا في ذا؟ قال: نعم إذن.
فصل (1)
في ترجيحات الألفاظ
إذا تعارض لفظان من الكتاب والسنة، فلم يمكن الجمع بينهما، أو أمكن الجمع بينهما من وجهين مختلفين، وتعارض الجمعان، وجب تقديم أحدهما على الآخر بوجه من وجوه الترجيح التي أذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى، وإنما وجب التقديم بالترجيح؛ لأنه يدل على قوته، ويجب تقديم الأقوى، وإذا ثبت هذا فالترجيح يقع تارةً بما يرجع إلى إسناد الخبر، وتارةً إلى متنه، وتارةً إلى غيرهما.
فأما ما يرجع إلى الإسناد فمن وجوه:
أحدها: أن يكون أحد الخبرين أكثر رواةً، فيجب تقديمه.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الأثرم فيما روي عن علي رضي الله عنه في امرأة المفقود، هي امرأته حتى يعلم أحيّ أم ميت (2) ؟ فقال:
__________
(1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (305-314).
(2) أثر علي - رضي الله عنه - أخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب العدد، باب عدة الأمة وأم الولد وما تفعل من فقد زوجها (2/407)، ولفظه: (.. أنه قال في امرأة المفقود: إنها لا تتزوج). =

(3/1019)


أبو عوانة (1) تفرد بهذا، لم يتابع عليه.
وقال أيضاً في رواية الميموني، وقد ذكر له حديث بلال بن الحارث (2) في فسخ الحج لنا خاصة (3)،: لو عرف بلال أن أحد عشر رجلاً من
__________
= وأخرجه عنه البيهقي في كتاب العدد، باب من قال: امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها يقين وفاته (7/444) بمثل لفظ الإمام الشافعي. راجع في هذا الأثر أيضاً: "تلخيص الحبير" (3/237).
(1) هو: وضاح بن عبد الله أبو عوانة اليشكري الواسطي. روى عن الأعمش وابن المنكدر وخلق. وعنه شعبة وابن مهدي وابن المبارك وخلق. قال الذهبي في الميزان: (مجمع على ثقته، وكتابه متقن بالمرة). قال أبو حاتم: "ثقة يغلط كثيراً إذا حدث من حفظه". مات سنة (176هـ) له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (13/460)، و"تذكرة الحفاظ" (1/236)، و"الخلاصة" ص (360)، و"شذرات الذهب" (1/287)، و"طبقات الحفاظ" ص (100)، و"ميزان الاعتدال" (4/334).
(2) هو: بلال بن الحارث بن عصم بن سعيد أبو عبد الرحمن المزني. وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد مُزَينة سنة خمس من الهجرة. روى عنه ابنه الحارث، وعلقمة بن وقاص، وعمرو بن عوف. مات سنة (60هـ)، وله من العمر ثمانون سنة.
له ترجمة في الاستيعاب (1/183)، و"الإصابة" القسم الأول ص (326) طبعة دار نهضة مصر و"الخلاصة" ص (53)، طبعة بولاق.
(3) حديث بلال بن الحارث - رضي الله عنه - أخرجه عنه أبو داود في كتاب الحج، باب الرجل يهل بالحج، ثم يجعلها عمرة (1/420) ولفظه: (.. قلت: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة، أو لمن بعدنا؟ قال: "بل لكم خاصة").
وأخرجه عند النسائي في كتاب الحج، باب إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي (5/140).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب من قال: كان فسخ الحج لهم خاصة (2/994). =

(3/1020)


أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يروون ما يروون (1) [من الفسخ]، أين يقع بلال بن الحارث؟ (2).
وبهذا قال أصحاب [الشافعي].
واختلف أصحاب أبي حنيفة: فذهب الجرجاني وأبو سفيان السرخسي إلى أنه يرجح بكثرة الرواة.
وحكى أبو سفيان عن الكرخي: أنه لا يرجح بذلك.
دليلنا:
ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يرجع إلى قول ذي اليدين حتى أخبره بذلك غيره، فرجع إلى قولهم، وكذلك أبو بكر الصديق لما روي له المغيرة: أن النبي صلى الله عليه [وسلم]. أطعم الجدة السدس، فطلب
__________
= وقد تكلم الزيلعي في "نصب الراية" (3/104) عن هذا الحديث، فارجع إليه إن شئت.
(1) في الأصل: (يروى ما روى).
(2) نقل المجد ابن تيمية في كتابه: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (382) كلام الإمام أحمد في هذا الحديث، ونصه: (قال أحمد بن حنبل: حديث بلال ابن الحارث عندي ليس يثبت، ولا أقول به ولا يعرف هذا الرجل -يعني الحارث بن بلال- وقال: أرأيت لو عرف الحارث بن بلال، إلا أن أحد عشر رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يروون ما يروون من الفسخ، أين يقع الحارث بن بلال منهم؟!).
كما نقل بعد ذلك قول الإمام أحمد من رواية أبي داود: (وليس يصح حديث في أن الفسخ كان لهم خاصة. وهذا أبو موسى الأشعري يفتي به في خلافة أبي بكر وشطراً من خلافة عمر).
ويلاحظ أن كلامَ الإمام أحمد في رواية الميموني التي ساقها المؤلف منصبّ على بلال بن الحارث رضي الله عنه، وهو صحابي، وهذا بخلاف ما نقله عنه المجد ابن تيمية؛ لأن كلامه هنا منصب على الحارث ابن الصحابي بلال بن الحارث.

(3/1021)


أبو بكر الزيادة، فشهد له محمد بن مسلمة، فقضى به، فدل على أن للزيادة في العدد قوة في [154/ب] العمل بالخبر.
ولأن الشيء بين الجماعة الكثيرة أحفظ منه بين الجماعة اليسيرة، ولهذا قال الله تعالى: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) (1) فإذا كان كذلك كان خبر الجماعة أولى بالحفظ والضبط.
ولأن خبر لأعلم الأتقن أولى بالتقديم عندهم؛ لأن مع الأعلم من الضبط ما ليس مع غيره، كذلك يجب تقديم خبر الجماعة لهذا المعنى.
ولأن الخبر إذا كان أكثر رواة، فهو أقرب إلى الصواب وأبعد من الخطأ، وأشبه بالثواب، فوجب تقديمه والأخذ به.
ولأن كثرة العدد لها تأثير (2) في إيجاب العلم؛ لأن المخبرين إذا بلغوا عدداً مخصوصاً وقع العلم بمخبرهم، وإذا كانت كثرة العدد طريقاً إلى العلم، وجب أن يكون الخبر الذي حصلت هذه المزية له أقوى من الخبر الذي لم يحصل فيه ذلك.
ولأن كثرة وجوه الشبه لما كانت موجبة لقوة ما يثبت من طريق الشبه وجب أن يكون كثرة رواة الخبر موجباً لقوة ما ثبت بالخبر؛ لأن طريق الحكم بالقياس هو من جهة السنة، كما أن الحكم بالخبر هو من جهة الخبر.
واحتج المخالف:
بأن خبر الواحد وخبر الجماعة التي لا يقع بها العلم سواء؛ لأن طريق كل واحد منهما غلبة الظن.
__________
(1) (282) سورة البقرة.
(2) في الأصل: (تأثيراً).

(3/1022)


والجواب: أن خبر الجماعة أقوى في الظن، فكان تقديم الأقوى أولى، ويبطل بكثرة وجوه الشبه في أحد القياسين.
واحتج: بأن شهادة الشاهدين وشهادة الأربعة فأكثر سواء، ولا فرق بينهما، كذلك خبر الواحد وخبر الجماعة يجب أن يكونا سواء.
والجواب: أن الشهادة مخالفة للخبر؛ لأن شهادة الأعلم والأتقن وشهادة غيرهما سواء، والخبر يرجح بعلم الراوي وإتقانه.
ولأن العدد في الشهادة منصوص عليه، فكان ذلك وما زاد سواء، وليس كذلك الخبر، فإنه منصوص على العدد فيه، فكان الأكثر في العدد أولى؛ لأنه أقوى في الظن.
واحتج: بأن كثرة عدد المجتهدين، لا يوجب قوة اجتهادهم، كذلك كثرة عدد الرواة.
والجواب: أن العلم لا يقع باجتهاد المجتهدين أبداً دائماً، وإنما يقع العلم إذا أجمعوا على الحكم المجتهد فيه بإجماعهم دون اجتهادهم والعلم الواقع بخبر التواتر إنما يقع بخبر العدد المخصوص دون معنى سواه.
الثاني: أن يكون أحد الروايين أتقن وأعلم، فتكون روايته أولى؛ لأنه أولى بالضبط والحفظ من غيره، ومثاله أن مالكاً وسفيان أعلم وأتقن من زائدة (1) وعبد العزيز بن أبي حازم (2)، ومثل هذا كثير.
__________
(1) هو: زائدة بن قدامة أبو الصلت الثقفي الكوفي. ثقة ثَبَت. روى عن إسماعيل السدي وحميد الطويل وغيرهما. وعنه ابن المبارك وأبو داود الطيالسي وآخرون.
مات سنة (161هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/215)، و"تهذيب التهذيب" (3/306)، و"الخلاصة" ص (120). و"شذرات الذهب" (1/251)، و"طبقات الحفاظ" ص (91)، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/288)، و"النجوم الزاهرة" (2/39).
(2) هو: عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار أبو تمام المدني المخزومي بالولاء. =

(3/1023)


وقد قال عبد الله بن أحمد [155/أ]: حدثني صالح بن علي النوفلي (1) قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول (2): المثبتون في الحديث أربعة شعبة وسفيان وزائدة وزهير (3).
وقال في رواية إسماعيل بن سعيد: المشهور بالرواية أولى.
الثالث: أن يكون أحد الراويين مباشراً لما رواه؛ لأن المباشر أعرف بالحال، ومثاله ما قلناه في رواية أبي رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نكح ميمونة وهو
__________
= روى عن أبيه وسهيل بن أبي صالح وغيرهما. وعنه الحميدي وعلي بن حجر ويعقوب الدورقي وخلق. ثقة، ليّنه بعضهم. ولد سنة (107هـ) ومات ساجداً سنة (184هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/268)، و"تهذيب التهذيب" (6/333)، و"الخلاصة" ص (202)، و"شذرات الذهب" (1/306)، و"طبقات الحفاظ" ص (114)، و"ميزان الاعتدال" (2/626).
(1) هو: صالح بن علي النوفلي من آل ميمون بن مهران. من أصحاب الإمام أحمد، كان مقدماً على أهل حلب. سمع من أحمد بن حنبل. ومنه أبو بكر الخلال.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/177).
(2) كلام الإمام أحمد هذا نقله السيوطي في كتابه: "طبقات الحفاظ" ص (91).
(3) هو: زهير بن معاوية أبو خيثمة الجعفي الكوفي، الثقة الحافظ. روى عن الأعمش وحميد الطويل وسماك وغيرهم. وعنه القطان وأبو داود الطيالسي وابن مهدي وآخرون. مات سنة (172هـ).
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/233)، و"الخلاصة" ص (105) و"شذرات الذهب" (1/282)، و"طبقات الحفاظ" ص (98) و"ميزان الاعتدال" (2/86).

(3/1024)


حلال) (1) أنه أولى من رواية ابن عباس: (أنه نكحها وهو حرام) (2)؛ لأن أبا رافع كان السفير بينهما، والقابل لنكاحها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الرابع: أن يكون أحد الراويين صاحب القصة، كميمونة، قدمنا قولها: تزوجني رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ونحن حلالان (3)، على [قول] ابن عباس؛ لأنها المعقود عليها، فهي أعرف بوقت عقدها من غيرها لاهتمامها به ومراعاتها لوقته.
ومنع الجرجاني: أن يكون هذا ترجيحاً، وقال: هذا الحكم لا يعود إلى صاحب القصة، وإنما يعود إلى النبي [صلى الله عليه وسلم]،
__________
(1) هذا الحديث أخرجه الترمذي عن أبي رافع - رضي الله عنه - في كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم (3/191)، وقال الترمذي -بعد ذلك- (هذا حديث حسن ولا نعلم أحداً أسنده غير حماد بن زيد عن مطر الوراق عن ربيعة) وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (6/392-393).
وأخرجه عنه ابن حبان في صحيحه: كما حكى ذلك الزيلعي في "نصب الراية" (3/172).
وأخرجه مالك في "الموطأ" عن سليمان بن يسار مرسلاً، وذلك في كتاب الحج، باب نكاح المحرم (2/272)، مطبوع مع "شرح الزرقاني".
(2) سبق تخريجه ص (967).
(3) حديث ميمونة -رضي الله عنها- أخرجه عنها مسلم في كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم (2/1032).
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب المناسك، باب المحرم يتزوج (1/427).
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب النكاح باب المحرم يتزوج (1/632).
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم (2/192).
وأخرجه عنها الإمام أحمد في "مسنده" (6/332).

(3/1025)


وقد يكون الغير أقرب إليه، وأعرف بأحواله في نفسه من المرأة.
والصحيح ما ذكرنا؛ لأن صاحب القصة أعرف بذلك من غيره.
الخامس: أن يكون موضعه أقرب من النبي - صلى الله عليه وسلم -. فيكون أسمع لقوله وأعرف به، وقد شبهوا ذلك بحديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج (1)، قدمناه على رواية أنس: أنه قرن (2)؛ لأنه روي عن ابن عمر قال: كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه [وسلم] فسالَ عليّ لعابها.
السادس: أن يكون أحدهما من كبار الصحابة، والآخر من صغارهم فإن الكبار كانوا (3) أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لقوله عليه السلام: (لِيليني منكم أولوا الأحلام والنّهَى) (4).
__________
(1) حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب في الإفراد والقران بالحج والعمرة (2/904-905).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (2/97).
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الحج (2/238).
(2) حديث أنس - رضي الله عنه - هذا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب في الافراد والقران بالحج والعمرة (2/905).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب في الإقران (1/416-417).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في الجمع بين الحج والعمرة (3/175).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب من قَرنَ الحج والعمرة (2/989).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/99).
(3) في الأصل: (كان).
(4) هذا الحديث رواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها.. (1/323).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من يستحب أن يلي الإمام في الصف (1/156). =

(3/1026)


السابع: أن يكون أحدهما سمع بغير حجاب: فيقدم على من سمع دون حجاب؛ لأنه أقرب إلى الضبط، ومثاله: أن حديث عروة بن الزبير والقاسم بن محمد (1) عن عائشة رضي الله عنهم: أن بريرة أعتقت وكان زوجها عبداً (2)، فقدم على حديث الأسود عن عائشة: أن زوجها
__________
= وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصلاة، باب من يلي الإمام ثم الذي يليه (2/68).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب من يستحب أن يليَ الإمام (1/312).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب من يلي الإمام من الناس (1/233).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (1/457).
(1) هو: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أبو محمد التيمي المدني. أحد الفقهاء السبعة. روى عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. وعنه الزهري والشعبي ونافع وخلق. قال فيه ابن سعد: كان ثقة عالماً فقيهاً إماماً كثير الحديث. مات سنة (106هـ) وقيل غير ذلك، وله من العمر سبعون سنة تقريباً.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/96) و"تهذيب الأسماء" (2/55)، و"تهذيب التهذيب" (7/333)، و"الخلاصة" ص (267)، و"شذرات الذهب" (1/135)، و"طبقات الحفاظ"، ص (38).
(2) حديث عروة عن خالته عائشة رضي الله عنها في أن زوج "بريرة" كان عبداً، أخرجه مسلم في كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق (2/1143).
وأخرجه الترمذي في كتاب الرضاع، باب ما جاء في المرأة تعتق ولها زوج (3/451-452).
وأخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد (1/517).
وأخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك (6/134-135). =

(3/1027)


كان حرّاً (1)؛ لأنهما سمعا منها من غير حجاب؛ لأنها خالة عروة وعمة القاسم.
فإن كان أحدهما سمع بغير كتاب، والآخر يرويه عن كتاب، فهما سواء.
__________
= وأخرجه الدارقطني (3/290-292).
وأما حديث القاسم بن محمد الذي رواه عن عمته عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه مسلم في كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق (2/1143-1144).
وأخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد (1/517).
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة إذا عتقت (1/671).
وأخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك (6/135).
وأخرجه الدارمي في كتاب الطلاق: باب تخيير الأمة تكون تحت العبد فتعتق (2/91).
وأخرجه الدارقطني (3/292).
(1) حديث الأسود عن عائشة -رضي الله عنها- في أن زوج "بريرة" كان حرّاً أخرجه البخاري في كتاب الفرائض، باب الولاء لمن أعتق، وباب ميراث السائبة (8/191-192)، وقال في آخر الحديث: (قال الحكم: وكان زوجها حرّاً، وقول الحكم مرسل، وقال ابن عباس: رأيته عبداً) كما قال في سند آخر: (قول الأسود منقطع، وقول ابن عباس رأيته عبداً أصح).
وأخرجه الترمذي في كتاب الرضاع، باب ما جاء في المرأة تعتق ولها زوج (3/453).
وأخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب من قال: كان حراً (1/518).
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة إذا عتقت (1/670).
وأخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة تعتق وزوجها حر (6/233).
وأخرجه الدارمي في كتاب الطلاق، باب تخيير الأمة تكون تحت العبد فتعتق (2/90-91).

(3/1028)


وقد عارض أحمد رحمه الله أخبار الدباغ بحديث ابن عكيم (1)، وهو عن كتاب؛ لأن ناقل الكتاب جارٍ (2) مجرى راوي اللفظ؛ لأنه إما أن يقول: قرأه علينا رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، أو يقول: هذا كتابه: كما يقول: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، وما يتطرق على أحدهما يتطرق على الآخر مثله من التغيير.
وقال الجرجاني: ما [155/ب] سمعه أولى مما روي عن كتاب؛ لأن التغيير يجوز على الكتاب، ولا يجوز ذلك فيما سمعه.
قيل: لا يجوز مثل هذا عليه؛ لأن الرسول صحابي؛ ولأنه إن جاز التغيير على الكتاب، جاز التغيير فيما يحكيه لفظاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الثامن: أن يكون أحدهما أمسّ سياقاً للحديث، وأشد تقصياً، فيكون أولى؛ لأنه يدل على حفظه وضبطه، ومثاله ما روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج (3)، وقد وصف خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة مرحلةً مرحلةً ودخوله مكة، ومناسكه على ترتيبه، وانصرافه إلى المدينة.
التاسع: أن يكون أحد الراويين لم يضطرب لفظه، والآخر قد اضطرب لفظه، فيقدم خبر من لم يضطرب لفظه؛ لأنه يدل علي حفظه
__________
(1) هو عبد الله بن عكيم أبو معبد الجهني، وقد سبقت ترجمته، كما قد سبق تخريج حديثه، وقد أورده المؤلف بلفظ: (أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب).
(2) في الأصل: (جاري).
(3) حديث جابر - رضي الله عنه - هذا أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام.. (2/881-885) بعدة ألفاظ.
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب في إفراد الحج (1/414-415).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب الإفراد في الحج (2/988).
وتكلم عنه الحافظ ابن حجر في كتابه: "تلخيص الحبير" (2/231).

(3/1029)


وضبطه، وسوء حفظ صاحبه، ومثاله: ما روى عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع اليدين في ثلاثة مواضع (1)، فيقدم على ما روى البَرَاء ابن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لا يعود (2)، قال سفيان بن عيينة: كان يزيد بن أبي
__________
(1) حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أخرجه عنه البخاري في كتاب، الأذان، باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء (1/137) ولفظه: (... أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه، إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع. وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضاً، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام.. (1/292).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة (1/166).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب رفع اليدين إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع (1/279).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الافتتاح، في ثلاثة أبواب متتابعة، أولها باب العمل في افتتاح الصلاة (2/93-94).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في رفع اليدين عند الركوع (2/35).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الركوع والسجود (1/229).
وأخرجه عند الدارقطني في كتاب الصلاة، باب ذكر التكبير ورفع اليدين عند الافتتاح (1/287).
(2) حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - أخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع (1/273)، ثم قال بعد ذلك: (هذا الحديث ليس بصحيح). =

(3/1030)


زياد (1) يروي هذا الحديث، ولا يذكر: "ثم لا يعود"، ثم دخلت الكوفة، فرأيت يزيد بن أبي زياد يرويه، وقد زاد فيه: "ثم لا يعود"، وكان قد لقن فتلقن.
العاشر: أن لا تختلف الرواية عن أحدهما، فتقدم روايته على رواية من اختلفت الرواية عنه؛ للمعنى الذي ذكرنا.
__________
= وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب ذكر التكبير ورفع اليدين عند الافتتاح (1/293-294)، كما أخرجه عنه ولم يذكر قوله: (ثم لم يعد)، وقال: "هو: الصواب، إنما لُقِّن يزيد في آخر عمره"، "ثم لم يعد"، فتَلَقّنه، وكان قد اختلط.
ثم نقل عن "علي بن عاصم" -أحد رواة الحديث- أنه قدم الكوفة قبل أن يموت "يزيد بن أبي زياد" الذي عليه مدار الحديث، فحدثه بهذا الحديث، ولم يذكر الزيادة، فقال له علي: أخبرني ابن أبي ليلى أنك قلت: "ثم لم يعد"، فقال: لا أحفظ هذا، ثم أعاد عليه فقال: لا أحفظه.
وهذا الحديث قال فيه أحمد بن حنبل: "لا يصح"، وقال مرة أخرى: "هذا حديث واه، وقد كان "يزيد" يحدث به برهة من دهره، لا يقول فيه: (ثم لا يعود) فلما لقنوه تلقن، فكان يذكرها" وقد ضعف هذا الحديث البخاري ويحيى والدارمي وغيرهم.
وقال الحافظ ابن حجر: (اتفق الحفاظ على أن قوله: "ثم لم يعد" مدرج في الخبر من قول يزيد بن أبي زياد).
راجع في هذا: "تلخيص الحبير" (1/221-222).
(1) هو: يزيد بن أبي زياد الكوفي. أحد علماء الكوفة المشهورين. روى عن مجاهد وابن أبي نعيم وغيرهما. وعنه ابن أبي ليلى وهشيم وغيرهما. قال فيه أحمد: "ليس بذلك". وقال ابن المبارك: "إرم به" وقال يحيى: "ليس بالقوي".
وقال ابن فضيل: "ابن أبي زياد، من أئمة الشيعة الكبار". وقال ابن حبان: "صدوق، إلا أنه كبر وساء حفظه".
له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (2/749)، و"ميزان الاعتدال" (4/423).

(3/1031)


ومنهم من قال: تتعارض الروايتان عنه. ويسقطان، ويعمل برواية من لم تختلف الرواية عنه.
الحادي عشر: أن يكون أحدهما مسنداً والآخر مرسلاً، فالمسند أولى.
قال أبو بكر الأثرم: رأيت أبا عبد الله إذا كان الحديث عن النبي [صلى الله عليه وسلم] في إسناده شيء يأخذ به، إذا لم يجد خلافه أثبت منه، مثل حديث عمرو بن شعيب (1)، ومثل حديث إبراهيم الهجري (2)، وربما أخذ بالحديث المرسَل، إذا لم يجيء خلافه، وذلك لأن من الناس من قال: إن المرسَل لا يحتج به.
ولأن المسنَد عدالة راويه معلومة من جهة الظاهر، لمعرفتنا به، والمرسَل عدالة الراوي مستدل عليها من جهة أنه لا يروي إلا عن عدل عنده، فكان المعلوم أولى من المستدل عليه.
وقال الجرجاني: المرسل أولى من المسند؛ لأن المرسل شاهد على رسول
__________
(1) هو: عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل أبو إبراهيم السهمي. روى عن الربيع بنت معوذ الصحابية وعن أبيه وطاووس وغيرهم.
وعنه مكحول وعطاء والزهري وخلق. وثقه ابن معين وابن راهويه وغيرهما.
وقال البخاري فيه: رأيت أحمد وعلياً وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث عمرو ابن شعيب، فمن الناس بعدهم؟ قال الذهبي معلقاً على قول البخاري: (ومع هذا القول، فلم يحتج به في صحيحه). مات بالطائف سنة (118هـ) وتحرير القول فيه أنه حسن الحديث إذا كان الراوي عنه ثقة.
له ترجمة في "تهذيب التهذيب" (8/48) و"المغني في الضعفاء" (2/484)، و"ميزان الاعتدال" (3/263).
(2) هو: إبراهيم بن مسلم الهجري. روى عن عبد الله بن أبي أوفى. وعنه شعبة وجعفر بن عون وغيرهما. ضعفه ابن معين والنسائي وغير واحد وتركه ابن الجنيد.
له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (1/26)، و"ميزان الاعتدال" (1/65).

(3/1032)


الله صلى الله عليه [وسلم] قاطع لإضافة الحكم إليه، فصار أولى منه.
وهذا فاسد؛ لأنه غير قاطع فيما يرسله ويسنده، وإنما تجوز له الرواية عمن عرف عدالته في الظاهر، فلا فرق بين أن يظهره أو يكتمه، في أن الرواية عن كل واحد منهما [156/أ] جائزة، فأما من تأخر إسلامه، فإنه لا يوجب ذلك تأخير خبره عن خبر من تقدم إسلامه.
وذهب بعض الشافعية إلى أن ذلك يوجب تأخير خبره، وسووا في ذلك خبر قيس بن طَلْق (1) مع خبر أبي هريرة في الوضوء من مس الذكر (2).
والدلالة عليه: أن كفر الكافر لا يمنع صحة سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا جاز أن يكون الراوي قد سمع كما رواه في حالة كفره من النبي
__________
(1) الصواب: أن يقول المؤلف: طلق بن علي؛ لأنه هو الصحابي الراوي لحديث عدم النقض من مس الذكر، وقد سبق للمؤلف ص (832) أن ذكره كذلك، كما أورد الحديث بلفظ: (لا وضوء من مسه) وقد سبق ترجمة طلق بن علي وتخريج حديثه المذكور في الموضع المشار إليه.
وليس المقصود: قيس بن طلق، وإن كان هو الراوي للحديث عن أبيه طلق بن علي، وما دام المؤلف ذكره كذلك، فإليك ترجمته:
هو: قيس بن طلق بن على الحنفي روى عن أبيه. وثقه العجلي ويحيى في رواية.
وقال: ابن القطان: "يقتضي أن يكون خبره حسناً لا صحيحاً". وضعفه أحمد ويحيى في رواية. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: "ليس ممن تقوم به حجه".
له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (2/527)، و"ميزان الاعتدال" (3/397).
(2) حديث أبي هريرة رضي الله عنه في وجوب الوضوء من مس الذكر، قد سبق تخريجه ص (833)، وقد ذكره المؤلف بلفظ: (وجوب الوضوء من مسه).

(3/1033)


[صلى الله عليه وسلم]، ثم رواه بعد إسلامه، لم يكن في تأخير إسلامه دليل على تأخير خبره.
وأمّا الترجيح الذي يعود إلى متنه
فمن وجوه:
أحدها: أن يكون أحدهما قد جمع النطق ودليله، كما قدمنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الشفعة فيما لم يقسم، وإذا وقعت الحدود فلا شفعة) (1)؛ لأن جمعه بينهما أشد تيقظاً للبيان.
والثاني: أن يكون أحدهما قولاً والآخر فعلاً؛ لأن القول أبلغ في البيان.
الثالث: أن يكون أحدهما قولاً وفعلاً، والآخر قولاً، فيكون اجتماعهما أولى.
__________
(1) هذا الحديث رواه جابر رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب الشفعة، باب الشفعة ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة (3/108)، ولفظه: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الشفعة (2/256).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء إذا حدث الحدود، ووقعت السهام فلا شفعة (3/643-644).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب الشركة في الرباع (7/281).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب البيوع، باب في الشفعة (2/186).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/296).
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الشفعة، باب ما جاء في الشفعة (2/211).

(3/1034)


الرابع: أن يكون أحدهما لم يدخله التخصيص، والآخر دخله التخصيص، فيكون ما لم يدخله التخصيص أولى؛ لأنه أقوى؛ لأن دخول التخصيص يضعف اللفظ، ومن الناس من قال: يصير مجازاً.
الخامس: أن يكون قد قضى بأحدهما على الآخر في موضعه، واختلفا في غيره، فيكون القضاء به أولى.
السادس: أن يكون أحدهما مطلقاً، والآخر وارداً على سبب، فإنه يقضي على سببه، ويقدم المطلق عليه، لأن الوارد على سبب قد ظهرت فيه أمارة التخصيص، فيكون أولى بإلحاق التخصيص به. مثاله: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من بدّل دينه فاقتلوه) (1)، فإنه يقدم على نهيه عن قتل النساء؛ لأنه وارد في الحربية.
السابع: أن يكون أحدهما قصد به بيان الحكم المختلف فيه: فيكون أولى، كما قدمنا قوله: (وَأَنْ تجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ) (2) على قوله: (أَوْ مَا مَلَكَت أَيْمَانُكُم) (3) في تحريم الجمع بين الأختين بملك اليمين؛ لأن قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) قصد به الزوج دون بيان الحكم.
الثامن: أن يكون أحد المعنيين أظهر في الاستعمال، كما قدمنا الحمرة في الشّفق.
التاسع: أن يكون أحد التأويلين موافقاً لفظه من غير إضمار، كما قلنا في قوله عليه السلام للمرتهن: (ذهب حقك) (4) يعني من الوثيقة دون
__________
(1) سبق تخريجه، وقد ذكره المؤلف بهذا اللفظ ص (352).
(2) (23) سورة النساء.
(3) (3) سورة النساء.
(4) سبق تخريجه، وقد ذكره المؤلف بهذا اللفظ ص (141).

(3/1035)


الدين؛ لأن (1) حمله على الدين يحتاج إلى إضمار، فيقول: ذهب حقك: دينك إذا كان مثل قيمة الرهن.
والعاشر: أن يكون أحد التأويلين لا يتضمن تخطئة النبي [صلى الله عليه وسلم] في الباطن، والآخر يتضمن تخطئة، كما يقول [156/ب] في ضمان علي بن أبي طالب عن الميت، وقوله: (هما علي يا رسول الله وأنا لهما ضامن) (2) ابتداء ضمان، وليس بإخبار عن ضمان سابق؛ لأنه لو كان إخباراً عن ضمان، لكان الميت قد خلف وفاءً، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بامتناعه عن الصلاة يكون مخطئاً في الباطن.
والحادي عشر: أن يكون أحدهما إثباتاً والآخر نفياً، فيكون الإثبات أولى، كما قدمنا رواية بلال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت، وصلى (3)، على رواية أسامة (4): أنه لم يصل (5)؛ لأن من رآه يصلي، معه زيادة علم.
وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على هذا في رواية الميموني فقال: الذي يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة ولم يصلّ، وهذا يقول: صلَّى، فهذا يشهد أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صلى. وابن عمر [يقول]:
__________
(1) في الأصل: (ولأن)، باثبات الواوا، والصواب: حذفها، كما فعلنا.
(2) سبق تخريجه، وقد ذكره المؤلف بهذا اللفظ ص (142).
(3) سبق تخريجه، وقد ذكره المؤلف بهذا اللفظ عن ابن عمر ص (628).
(4) هو: أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل أبو زيد الكلبي. كان حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى عنه عروة بن الزبير وعثمان النهدي وجماعة، مات في خلافة معاوية رضي الله عنه سنة (54هـ).
له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/75)، و"الإصابة" القسم الأول ص (49)، طبعة دار نهضة مصر.
(5) سبق تخريجه بلفظ: (دخل البيت، ولم يصل) عن ابن عباس ص (628).

(3/1036)


لم يقنت النبي [صلى الله عليه وسلم] (1)، وغيره يقول: قنت (2)، فهذه شهادة عليه أنه قنت.
وحديث أنس: لم يأنِ لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يخضب (3) وغيره (4) يقول قد خضب (5)، فهذه شهادة على الخضاب، والذي يشهد على النبي [صلى الله عليه وسلم] ليس بمنزلة من لم يشهد.
الثاني عشر: أن يكون أحدهما زائداً، كما قدمنا خبر التكبير سبعاً في صلاة العيد (6) على غيره أنه كبر..............................
__________
(1) مضى تخريجه ص (1005).
(2) مضى تخريخه ص (1005).
(3) حديث أنس - رضي الله عنه - سبق تخريجه ص (1005).
(4) في الأصل: (عروة)، وهو خطأ. وقد سبق للمؤلف ص (1006) أن ذكر ما يدل على ذلك.
(5) حديث تخضيب النبي صلى الله عليه وسلم سبق تخريجه ص (1006).
(6) أخرج ذلك عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً: أبو داود في كتاب الصلاة، باب التكبير في العيدين (1/262)، ولفظه: (.. أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمساً).
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في كم يكبر الإمام في صلاة العيدين (1/407).
وأخرجه عنها الحاكم في "المستدرك" في كتاب العيدين، باب تكبيرات، العيدين (1/298) وقال بعد ذلك: (تفرد به عبد الله بن لهيعة، وقد استشهد به مسلم في موضعين، وفي الباب عن عائشة وابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، والطريق إليهم فاسدة).
وأخرجه الدارقطني عنها في كتاب العيدين (2/46).
وأخرجه عنها البيهقي في "السنن الكبرى" في كتاب صلاة العيدين، باب التكبير في صلاة العيدين (3/286). =

(3/1037)


..................................
__________
= وأخرجه عنها الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الزيادات، باب صلاة العيدين، كيف التكبير فيها (4/343-344) ثم قال بعد ذلك: (أما حديث ابن لهيعة، فبين الاضطراب، مرة يحدث عن عقيل، ومرة عن خالد ابن يزيد، عن ابن شهاب، ومرة عن خالد بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب، ومرة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة رضي الله عنها وأبي واقد رضي الله عنه، فذكرنا ذلك كله في هذا الباب).
وقد نقل الزيلعي في: "نصب الراية" (2/216)، عن الدارقطني أن في هذا الحديث اضطراباً، ثم بين بعد ذلك الاضطراب، كما نقل عن الترمذي قوله في كتابه "العلل" سألت محمداً -يعني البخاري- عن هذا الحديث، فضعفه، وقال: لا أعلم [أحداً] رواه غير ابن لهيعة.
والتكبير سبع في الأولى وخمس في الثانية، أخرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، في الموضع السابق ذكره (1/262).
كما أخرجه عنه ابن ماجه في الموضع المذكور سابقاً (1/407).
وأخرجه عنه الدارقطني في الموضع السابق (2/48).
وأخرجه عنه البيهقي في الموضع السابق (3/285-286).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (2/180).
وأخرجه عنه الطحاوي في الموضع السابق (4/343).
وهذا الحديث يدور إسناده على "عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي" وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن معين مرة: "صويلح" وقال مرة: "ضعيف".
وقال ابن عدي: "أما سائر حديثه فعن عمرو بن شعيب، وهي مستقيمة، فهو ممن يكتب عنه" قال الذهبي بعد ذلك - (قلت: ثم خلطه بمن بعده فوهم).
وقال النسائي وأبو حاتم وغيرهما: "ليس بالقوي".
راجع: "المغني في الضعفاء" (1/344)، و"الميزان" (2/452).
وقد نقل الزيلعي في "نصب الراية" (2/217) عن النووي أنه قال في كتابه "الخلاصة": قال الترمذي: سألت البخاري عنه، فقال هو صحيح.
أما الطحاوي فقد قال في المرجع السابق (4/344): (.. وإنما يدور على "عبد الله =

(3/1038)


أربعاً (1)، وكما قدمنا في صدقة الفطر رواية......................
__________
= ابن عبد الرحمن"، وليس عندهم بالذي يحتج بروايته، ثم هو أيضاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وذلك عندهم ليس بسماع...).
أما الترمذي فقد أخرجه عن عمر بن عوف المزني رضي الله عنه، في كتاب الصلاة، باب ما جاء في التكبير في العيدين (2/416)، وقال: (حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب عن النبي عليه السلام).
وأخرجه عنه ابن ماجه في الموضع السابق (1/407).
وأخرجه عنه الدارقطني في المرجع السابق (1/48).
وأخرجه عنه الطحاوي في المرجع السابق (4/344).
وأخرجه عنه البيهقي في المرجع السابق ذكره (3/286).
ومدار هذا الحديث على: "كثير بن عبد الله بن عمرو المزني" قال الشافعي فيه: "ركن من أركان الكذب". وقال ابن معين: "ليس بشيء". وقال الدارقطني: "متروك". وقال النسائي: "ليس بثقة".
انظر ترجمته في: "المغني في الضعفاء" (2/531)، و"الميزان" (3/406).
أما تحسين الترمذي لهذا الحديث، فقد رده ابن دحية في كتابه "العلم المشهور" حيث قال: وكم حسن الترمذي في كتابه من أحاديث موضوعة، وأسانيد واهية، منها هذا الحديث نقل ذلك عنه الزيلعي في "نصب الراية" (2/217-218).
(1) حديث التكبير في صلاة العيدين أربعاً، رواه أبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما. أخرجه عنهما أبو داود في كتاب الصلاة، باب التكبير في العيدين (1/263)، ولفظه: (أن سعيد بن العاص سأل أبا موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى: كان يكبر أربعاً، تكبيرُهُ على الجنائز، فقال حذيفة: صدق، فقال أبو موسى: كذلك كنت أكبر في البصرة، حيث كنت عليهم).
وأخرجه عنهما الإمام أحمد في "مسنده" (4/416).
وأخرجه عنهما البيهقي في كتاب صلاة العيدين، باب ذكر الخبر الذي روي في التكبير أربعاً (3/289). =

(3/1039)


الصاع (1) على من روى نصف صاع (2).
والثالث عشر: أن يكون أحدهما متأخراً؛ لأن ابن عباس قال: كنا نأخذ من أوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأحدث فالأحدث.
وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية عبد الله؛ تستعمل الأخبار حتى تأتي دلالة، فإن الخبر قبل الخبر، فيكون الأخير أولى أن يؤخذ به.
والرابع عشر: أن يكون أحدهما فيه احتياط للفرض وتبرئة للذمة بيقين، أو يكون احتياطاً للفعل المقصود، مثل الاحتياط للحرب في صلاة الخوف.
__________
= وأخرجه عنهما الطحاوي في كتاب الزيادات، باب صلاة العيدين، كيف التكبير فيها (4-345-346)، وقال بعد ذلك: (فهذا ما ثبت عندنا في التكبير في العيدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم نعلم شيئاً روي عنه مما يثبت مثله، يخالف شيئاً من ذلك).
ومدار هذا الحديث على "عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان الدمشقي" وعلى: "أبو عائشة، جليس أبي هريرة".
أما الأول فقد اختلفوا فيه، فقال ابن معين: "ليس به بأس". وقال مرة: "ضعيف". ووثقه أبو حاتم ودحيم. وقال أحمد: "أحاديثه مناكير"، وقال: "ليس يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في تكبير العيدين حديث صحيح".
وقال النسائي: "ليس بالقوي".
راجع في ترجمته: "المغني في الضعفاء" (2/377)، و"الميزان" (2/551).
أما الثاني، وهو"أبو عائشة" فقال الذهبي: "غير معروف". وسبقه إلى ذلك ابن القطان، حيث قال: "لا أعرف حاله"، وابن حزم حيث قال: "هو مجهول".
انظر ترجمته في: "الميزان" (4/543)، و"نصب الراية" (2/215).
(1) سبق تخريجه ص (1010).
(2) سبق تخريجه ص (1009).

(3/1040)


والخامس عشر: أن يتقابل لفظ القرآن ولفظ السنة ويكون بناء كل واحد منهما على الآخر ممكناً، فظاهر كلام أحمد: تقديم السنة وترتيب القرآن عليها (1)، وقال: السنة بيان القرآن؛ لأن الله تعالى يقول: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (2).
وقال في رواية أبي الحارث: السنة تفسر القرآن وتبينه، والسنة تعرف الكتاب.
وقال في رواية أبي داود: السنة تفسر القرآن.
وفي رواية عبد الله: السنة تدل على معنى القرآن.
ويحتمل أن يقدم القرآن وترتب السنة عليه؛ لأنه مقطوع بطريقه، ومثاله: أن يبيح أكل كلب الماء وخنزيره بقوله عليه السلام: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) (3) ويعارض هذا الخصم بقوله تعالى: (أوْ لَحْمَ خنزيرٍ) (4)، وهذا ينبني على نسخ السنة بالقرآن، وقد ذكرنا جواز ذلك.
السادس عشر: أن يكون أحدهما حاظراً، والآخر مبيحاً، [157/أ] فالحاظر أولى؛ لأن في الحظر احتياطاً؛ لأن ترك المباح لا إثم فيه، وفعل المحظور إثم، فكان تركه أولى من الفعل ها هنا.
ولأنه إذا اجتمع ما يبيح وما يحظر، وجب تغليب الحظر، كما نقول
__________
(1) في الاصل: (عليه).
(2) (44) سورة النحل.
(3) سبق تخريج الحديث ص (665)، وقد أورده المؤلف بلفظ: (البحر، هو: الطهور ماؤه..) الحديث.
(4) (145) سورة الانعام.

(3/1041)


في المتولد من بين ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل، وبين من يباح مناكحتهم ومن يحرم، والمذكي بمن تباح ذكاته ومن لا تباح.
وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في رواية إسماعيل بن سعيد في الأمر المختلف فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعلم ناسخه من منسوخه: نصير في ذلك إلى قول علي نأخذ بالذي هو أهنأ وأهدى وأبقى.
واختلف أصحاب أبي حنيفة: فذهب الكرخي والرازي إلى مثل قولنا.
وذهب عيسى بن أبان: إلى أنه لا يرجح بمثل هذا، ويتعارضان ويسقطان ويصيران كأنهما لم يردا، ويرجع في حكم الحادثة إلى غير هذا الخبر.
واختلف أصحاب الشافعي أيضاً على نحو ما ذكرنا من الاختلاف.
ومن قال: لا يرجح بالحظر احتج:
بأن تحريم المباح كإباحة المحظور، فلم يكن لأحدهما على الآخر مزية.
والجواب: أنه يبطل بالأصول التي ذكرناها، وهو المتولد من بين المباح والمحظور، فإن الحظر غلب الإباحة، وإن كان هذا المعنى الذي ذكره موجوداً (1)؛ فلأن تحريم المباح كإباحة المحظور فيما تثبت إباحته، وها هنا ما ثبتت إباحته.
ولأن للحظر مزية، ألا ترى أنه يحكم به، وإن كان لم تكمل شرائط الحظر، والمباح لا يحكم به، حتى تكتمل جميع شرائطه، وبيان هذا:
__________
(1) في الأصل: (موجود).

(3/1042)


أن البيع يحرم بوجود شرط واحد ويفسده، وإباحته لا تحصل إلا بعد كمال شرائط الإباحة.
واحتج: بأن الشيء الواحد يستحيل أن يكون محظوراً على الواحد في وقت مباحاً له في ذلك الوقت، كما يستحيل أن يكون الواحد بمكة وبغداد في يوم واحد، وقد ثبت أن أربعة لو شهدوا على رجل أنه رُئِيَ يوم النحر بمكة، وشهد أربعة آخرون أنه رئِيَ في ذلك اليوم ببغداد، أو شهد عليه شاهدان أنه قتل زيداً يوم النحر بمكة، وشهد آخران أنه قتل عمراً ذلك اليوم ببغداد، أن شهادة الجميع تسقط، كذلك إذا ورد خبر بحظر شيء، وورد آخر بإباحة ذلك الشيء في وقت واحد، وجب أن يسقط الخبران.
والجواب: أن الشهادة كانت على حقيقة الفعل، فلهذا استحال وجود الفعل منه بمكة وببغداد في يوم واحد، وكذلك يستحيل قتله لزيد يوم النحر، و[قتله لعمرو في ذلك اليوم بـ] بغداد، تهادرت البينتان، وليس كذلك الخبران بإباحة الشيء وحظره؛ لأنهما يوجبان ذلك [157/ب] الشيء من طريق الحكم، ويجوز أن يكون الشيء مباحاً في الأصل، ثم يحظره النبي [صلى الله عليه وسلم] ويخفي علينا الباقي، ونظير هذا من الشهادة أن يتعارضا في الملك المطلق وأحدهما خارج، فإنما تقدم بينة الخارج.
واحتج: بأنه لو أخبر بطهارة الماء واحد. وأخبر غيره بنجاسة ذلك الماء، ولم يكن لأحد المخبرين مزية على الآخر، ولا كان للمخبر رأي يعمل على الغالب منه، أنهما يسقطان، ويبقي الماء على أصل الطهارة وكذلك لو أن رجلين أخبر أحدهما بأن هذا اللحم ذبيحة مجوسي، وأن هذا الشراب خالطه خمر، وأخبر آخر أن ذلك حلال طاهر، ولم يكن للمخبر رأي يعمل على ما يغلب في رأيه: أن الخبرين يسقطان، ويبقى الطعام والشراب على أصل الإباحة، كذلك إذا عدم التاريخ بين خبري الحظر والإباحة، يجب أن

(3/1043)


يسقطا، ويبقى الشيء على حكم الإباحة في الأصل.
والجواب عنه: ما تقدم من الوجه الذي بينا. وهو أن الشيء يكون مباحاً في الأصل، ثم يحظره النبي [صلى الله عليه وسلم]، وغير جائز أن يكون الماء نجساً، ثم يصير طاهراً، أو الطعام نجساً فيصير طاهراً.
السابع عشر: أن يتعارض خبران في الحد، فإنه لا يقدم المسقط للحد، ولهذا أخذ أحمد رحمه الله بحديث عبادة في اجتماع الجلد والرجم (1)، ولم يقدم عليه حديث ماعز (2) وأنيْس (3) في إسقاط الجلد.
ومن أصحاب الشافعي من قدم المسقط للحد؛ لقوله عيه السلام: (ادرؤوا الحدود بالشبهات وادرؤوا ما استطعتم) (4).
__________
(1) حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - الذي يشير اليه المؤلف، سبق تخريجه ص (798)، كما سبقت ترجمة عبادة.
(2) حديث ماعز - رضي الله عنه - الذي يشير اليه المؤلف، سبق تخريجه ص (319) كما سبق ترجمة ماعز هناك.
(3) حديث أنيس - رضي الله عنه - سبق تخريجه ص (886) في قصة العسيف. أما ترجمته فإليك إياها:
هو: أنيس بن مرثد بن أبي مرثد الغنوي، أبو يزيد. صحابي. شهد فتح مكة وحنيناً، كما كان عين الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أوطاس. مات أنيس سنة (20هـ).
له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/115)، و"الإصابة" القسم الأول ص (138)، طبعة دار نهضة مصر.
(4) هذا الحديث روته عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً. أخرجه عنها الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود (4/33)، ولفظه: (... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة"). =

(3/1044)


وهذا غير صحيح؛ لأن الشبهة لا تؤثر في ثبوته شرعاً، ألا ترى أنه يثبت بخبر الواحد والقياس مع وجود الشبهة فرضاً؟
الثامن عشر: أن يكون في أحدهما إلحاق النقض بالصحاح، كخبر القهقهة (1).
التاسع عشر: أن يرجح بالقرائن. مثاله قوله تعالى: (أوْ لامستُم النسَاءَ) (2) حمله على لمس اليد أولى من الجماع؛ لأنه قرن ذلك بالمجيء من الغائط، وذلك يوجب الطهارة الصغرى.
العشرون: أن يرجح باستعمال مثله في نظير لفظه، مثاله: أن يقضيَ بقوله عليه السلام: (ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة) على قوله: (فيما سقت السماء العشر)، كما قضى بقوله: (ليس فيما دون
__________
= أخرجه الترمذي موصولاً، ورواه موقوفاً، وقال: الموقوف أصح.
وأخرجه عنها الدارقطني في أوائل كتاب الحدود (3/84).
وأخرجه عنها البيهقي في كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات (8/238).
وأخرجه عنها الحاكم في المستدرك، في كتاب الحدود، باب إن وجدتم لمسلم مخرجاً فخلوا سبيله (4/384)، وقال بعد ذلك: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه).
ومدار هذا الحديث على: "يزيد بن زيادة"، أحد رواة هذا الحديث قال البخاري فيه: "منكر الحديث". وقال النسائي: "متروك الحديث" وضعفه الترمذي وغيره.
انظر ترجمته في: "المغني في الضعفاء" (2/749)، و"الميزان" (4/425).
وراجع في هذا الحديث بالإضافة إلى ما سبق: "تلخيص الحبير" (4/56) و"تيسير الوصول" (1/311)، و"نصب الراية" (3/309).
(1) خبر القهقهة، الذي يشير إليه المؤلف: سبق تخريجه ص (895).
(2) (43) سورة النساء.

(3/1045)


خمس أواق من الورقة صدقة) على قوله: (في الرقة ربع العشر).
الحادي والعشرون: أن يكون أحدهما يجمع بينهما، والآخر يسقط أحدهما، فيكون الجمع بينهما أولى من إسقاط أحدهما بالآخر.
وأما الترجيح الذي لا يعود إلى الإسناد والمتن وإنما هو إلى غيرهما فمن وجوه:
أحدها: أن يكون أحدهما موافقاً لظاهر القرآن، أو موافقاً لسنة أخرى، فيقدم بذلك، ومثاله: حدث التغليس (1) يقدم على حديث الإسفار (2)؛ لأنه يوافق قول الله تعالى:
__________
(1) حديث التغليس بصلاة الفجر روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أخرجه عنها البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الفجر (1/143)، ولفظه: (كان نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحد من الغلس).
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في التغليس بالفجر (1/287-288).
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الصلاة، باب في وقت الصبح (1/100).
وأخرجه عنها النسائي في كتاب المواقيت، باب التغليس في الحضر (1/217).
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب وقت صلاة الفجر (1/220).
وأخرجه عنها الدارمي في كتاب الصلاة، باب التغليس في الفجر (1/221).
وأخرجه عنها الامام الشافعي في كتاب الصلاة، باب وقت الصبح (1/50).
وأخرجه عنها الطيالسي في كتاب الصلاة، باب وقت صلاة الصبح (1/73).
وأخرجه عنها الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار" في كتاب الصلاة باب الوقت الذي يصلى فيه الفجر.. (1/176).
(2) حديث الإسفار بصلاة الفجر، رواه رافع بن خديج رضي الله عنه مرفوعاً.
أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الإسفار بالفجر (1/289) =

(3/1046)


(حَافظُوا على الصلَوَاتِ) (1).
وقوله تعالى: (سَارِعُوا إلَى مَغْفِرَة مِنْ ربِكُمْ) (2)، ويوافقه أيضاً قول النبي صلى الله عليه [وسلم]: (أول الوقت رضوان الله) (3)،
__________
= وقال: (حديث حسن صحيح).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة باب في وقت الصبح (1/100).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب المواقيت، باب الإسفار (1/218).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب وقت صلاة الفجر (1/221).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب الإسفار بالفجر (1/221).
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب وقت الصبح (1/50-51).
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الإسفار (1/74).
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الصلاة، باب الوقت الذي يصلى فيه الفجر (1/178).
(1) (238) سورة البقرة.
(2) (133) سورة آل عمران.
(3) هذا الحديث رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل (1/321)، ولفظه: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوقت الأول من الصلاة من رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله").
وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك، في كتاب الصلاة. باب في مواقيت الصلاة (1/189) ولفظه: (... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الأعمال الصلاة في أول وقتها")، ثم قال بعد ذلك: (ويعقوب بن الوليد -أحد رواة الحديث- هذا شيخ من أهل المدينة، سكن بغداد، وليس من شرط هذا الكتاب، إلا أنه شاهد عن عبيد الله)، وتعقبه الذهبي بقوله: (يعقوب كذاب).
وأخرجه عنه البيهقي في "السنن الكبرى"، في كتاب الصلاة، باب الترغيب في التعجيل بالصلاة في أوائل الأوقات (1/435)، ثم قال بعد ذلك: (قال الشيخ: هذا حديث يعرف بيعقوب بن الوليد المدني، ويعقوب. منكر الحديث، ضعفه =

(3/1047)


وقوله: (أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها) (1)، ومثل قوله: (لا نكاح إلا بوليّ)، فيرجح على قوله: (ليس للولي مع الثيب أمر)، بحديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل).
فإن كان مع أحدهما ظاهر القرآن، ومع الآخر ظاهر سنة أخرى، فأيهما أولى؟
فنقل محمد بن أشرس: أن أحمد رحمه الله سئل عن الحديث إذا كان صحيح الإسناد، ومعه ظاهر القرآن، ثم جاء حديثان صحيحان
__________
= يحيى بن معين، وكذبه أحمد بن حنبل، وسائر الحفاظ، ونسبوه إلى الوضع، نعوذ بالله من الخذلان، وقد روى بأسانيد كلها ضعيفة).
وقد أخرج الدارقطني في "سننه" في كتاب الصلاة، باب فضل الصلاة في أول وقتها (1/246-250) عن جرير بن عبد الله، وعن أبي محذورة، وعن أنس رضي الله عنهم، وكلها لا تخلو من علة قادحة، ولمزيد من الاطلاع إرجع إلى السنن المذكورة، وإلى "نصب الراية" (1/242-244)، و"تلخيص الحبير" (1/180-181).
(1) هذا الحديث أخرجه الترمذي عن أم فروة -رضي الله عنها- في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل (1/319-320) لفظه: (قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لأول وقتها"). ثم قال بعد ذلك: (حديث أم فرود لا يروى إلا من حديث عبد الله بن عمر العمري، وليس هو بالقوي عند أهل الحديث، واضطربوا عنه في هذا الحديث، وهو صدوق. وقد تكلم فيه يحيى بن سعيد من قبل حفظه).
وأخرجه عنها الحاكم في "المستدرك" في كتاب الصلاة، باب في مواقيت الصلاة (1/189).
كما أخرجه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - وقال: (هو صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وله شواهد في هذا الباب).
راجع في هذا ايضاً: "تلخيص الحبير" (1/181).

(3/1048)


خلافه، أيما أحب إليك؟ فقال: الحديثان أحب إليّ إذا صحا.
وهذا مبني على أصل قد تقدم، وهو إذا تقابل لفظ القرآن ولفظ السنة، ويمكن بناء كل واحد منهما على الآخر، هل تقدم السنة أو القرآن؟
فقد حكينا خلافاً في المذهب، فكذلك ها هنا.
الثاني: أن يروى معنى أحدها بألفاظ مختلفة من وجوه أخر، مثل ما قدمنا حديث لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله)، وقوله: (أفضل [الأعمال] الصلاة في أول وقتها)، وقوله: (إن أحدكم ليصلي الصلاة، وقد ترك من أول الوقت ما هو خير له من أهله وماله) (1).
ْالثالث: أن يكون أحدهما موافقاً للقياس، مثل قوله عليه السلام: (ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة) (2)، فيقدم على حديث
__________
(1) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب فضل الصلاة في أول وقتها (1/248).
قلت: وفي إسناده: "إبراهيم بن الفضل المخزومي" قال فيه النسائي وجماعة: "متروك" وقال ابن معين: "ضعيف لا يكتب حديثه" وقال مرة: "ليس بشيء".
انظر ترجمته في: "المغني في الضعفاء" (1/22)، و"الميزان" (1/52).
(2) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب ليس على المسلم في عبده صدقة (2/142).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الزكاة، باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه (2/675-676).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة، باب صدقة الرقيق (1/369).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة الخيل (5/25). =

(3/1049)


فورك السعدي؛ لأن ما لا تجب الزكاة في ذكوره لا تجب في إناثه، قياساً على الحمير والبغال وسائر الحيوانات التي لا زكاة فيها.
الرابع: أن يكون مع أحدهما حديث مرسل؛ لأن مجيئه من طريق مسند ومرسل أقوى له.
الخامس: أن يكون أحدهما عمل به الأئمة الأربعة، كما قدمنا رواية من روي في تكبيرات العيدين سبعاً وخمساً (1) على رواية من روى أربعاً، كأربع الجنائز (2)؛ لأنه عمل به أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في مواضع:
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء ليس في الخيل والرقيق صدقة (3/14-15).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب صدقة الخيل والرقيق (1/579).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الزكاة، باب ما لا تجب فيه الصدقة من الحيوان (1/322-323).
وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب الزكاة، باب ما جاء في صدقة الرقيق والخيل والعسل (2/137).
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الزكاة، باب جامع الأشياء التي ليس فيها زكاة (1/239-240).
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في الخيل والرقيق والعسل.. (1/173-174).
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الزكاة باب الخيل السائمة هل فيها صدقة أم لا؟ (2/29).
(1) التكبير في صلاة العيدين في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً، سبق تخريجه ص (1037).
(2) التكبير في صلاة العيدين أربعاً في الأولى والثانية، سبق تخريجه ص (1039).

(3/1050)


فقال في رواية صالح: رويَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (توضؤوا مما مست النار) (1)، وروي أنه نهس (2) عظماً وصلى ولم يتوضأ (3)، فنظر إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لم يتوضئوا مما مست النار، فقد تكافأت (4) الرواية فيه.
__________
(1) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه مسلم في كتاب الحيض، باب الوضوء مما مست النار (1/273).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب التشديد في ذلك (1/44).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء مما غيرت النار (1/114).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب الوضوء مما غيرت النار (1/87).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الوضوء مما غيرت النار (1/163).
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الطهارة، باب الوضوء مما مست النار والرخصة في ذلك (1/58).
(2) في الأصل: (أنهش).
(3) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء، باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق (1/60-61) بلفظ (أكل كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحيض، باب نسخ الوضوء مما مست النار (1/273) بمثل لفظ البخاري.
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في ترك الوضوء مما مست النار (1/43).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء مما غيرت النار (1/90).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك (1/164).
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الطهارة، باب الوضوء مما مست النار والرخصة في ذلك (1/59) وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/419) عن ضباعة، ولفظه (نهس لحماً، وصلى، ولم يتوضأ).
(4) في الأصل: (تكافت).

(3/1051)


وكذلك نقل أبو الحارث عنه في الحديثين المختلفين، وهما جميعاً بإسناد صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ينظر إلى ما عمل به الأئمة الأربعة، فيعمل به.
وكذلك نقل الفضل بن زياد في الحديثين بإسناد صحيح: ينظر إلى ما عمل أو ما قال الخلفاء بعده [158/ب]، يعني: أبا بكر وعمر.
فإن اقترن بأحدهما عمل أهل المدينة، لم يقدم به، خلافاً لأصحاب الشافعي في قولهم: يقدم به، وذكروا ذلك في حديث الترجيع (1) في الأذان (2)، وأنه يقدم على غيره؛ لأنه عمل به أهل المدينة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) الترجيع في الأذان: إعادة الشهادتين بصوت عال بعد ذكرهما بصوت منخفض.
(2) حديث الترجيع في الأذان رواه أبو محذورة - رضي الله عنه - مرفوعاً.
أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الترجيع في الأذان (1/366)، وقال: "حديث صحيح".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الأذان، باب كم الأذان من كلمة، وباب كيف الأذان؟ (2/5-6).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف الأذان؟ (1/117).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأذان، باب الترجيح في الأذان (1/234).
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب الترجيع في الأذان (1/116).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/409).
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب ذكار أذان أبي محذورة (1/233-235)، وذكر اختلاف الروايات في ذلك.
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب حديث أبي محذورة في صفة الأذان (1/57).
وأخرجه عنه البيهقي في كتاب الصلاة، باب الترجيع في الأذان (1/393).
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار"، في كتاب الصلاة، باب الأذان كيف هو؟ (1/130).

(3/1052)


وكذلك إن اقترن به عمل الكوفة، لم يقدم به، خلافاً لأصحاب أبي حنيفة، فيما حكاه الجرجاني في أصوله: أنه يقدم بعمل أهل الكوفة إلى زمن أبي حنيفة، قبل ظهور البدع؛ لأن أمراء بني مروان غَلَبوا على المدينة والكوفة، وكان فيهم تغير شيء من الشريعة، وإنما لم نرجح بذلك؛ لأنه بلد من البلاد، فلم يرجح نقل أهله كسائر البلاد.
السادس: أن يقترن، بأحدهما تفسير الراوي، كما قدمنا ما روى جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أيما رجل أَعمر عمْرى له ولعقبه، فإنها للذي يعطاها، لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه اعطى عطاء ووقعت (1) فيه المواريث) (2) على رواية (من أَعمر عمرى فهي له، ولعقبه، يرثها من يرثه من عقبه) (3)، كما روى معمر عن الزهري عن
__________
(1) في الأصل: (وقت)، والتصويب من مراجع تخريج الحديث الآتي ذكرها.
(2) حديث جابر - رضي الله عنه - هذا، أخرجه مسلم عنه في كتاب الهبات، باب العُمْرى (3/1245).
وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب من قال فيه: ولعقبه (2/264).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب العمرى، باب ذكر الاختلاف على الزهري فيه (6/234).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في العمرى (3/623).
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الشفعة واللقطة، باب العمرى والرقبى (2/217).
وراجع أيضاً: "تلخيص الحبير" (3/71)، و"نصب الراية" (4/127-129)، و"تيسير الوصول" (3/23).
(3) أخرجه عن جابر رضي الله عنه بهذا اللفظ أبو داود في كتاب البيوع، باب في العمرى (2/263).
وأخرجه عنه بهذا اللفظ النسائي في كتاب العمرى، باب ذكر الاختلاف على الزهري فيه (6/232). =

(3/1053)


أبي سلمة (1) عن جابر بن عبد الله أنه قال: (إنما العمرى التي أجازها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما اذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها) (2).
وكذلك حملنا التفرق على التفرق بالبدن، لما روي عن ابن عمر أنه كان إذا اراد أن يوجب البيع مشى قليلاً ثم رجع، وقال أبو بردة: لا أراكما تفرقتما.
وكذلك رجع أحمد رحمه الله الى تفسير ابن عمر في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فاقدروا له، وأنه كان يتراءى الهلال، فإن كانت السماء ذات غيم أصبح صائماً، وإن كانت ذات صحو أصبح مفطراً، إذا لم ير الهلال) (3).
قال أبو عبد الله محمد بن مخلد العطار في الجزء الذي فيه المناولة والإجازة حدثنا العباس بن محمد بن حاتم بن واقد الدوري (4) حدثنا روح
__________
= وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الهبة والهدية، باب ما جاء في العمرى (1/281)، ولفظه: (من أعمر عمرى، فهي له ولعقبه من بعده).
(1) هو: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري. "ثقة مكثر". مات سنة (94)هـ.
التقريب (2/430).
(2) حديث جابر - رضي الله عنه - هذا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الهبات، باب العمرى (3/1246).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب من قال فيه: ولعقبه (2/264).
راجع في هذا أيضاً: "تلخيص الحبير" (3/71)، و"نصب الراية" (4/128)، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (501).
(3) سبق تخريجه ص (124).
(4) أبو الفضل البغدادي. أحد الحفاظ المشهورين. روى عن أبي داود الطيالسي وشبابة بن سوار، وخلق. وعنه النسائي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وخلق.
وثقه النسائي. أخذ الجرح والتعديل عن يحيى بن معين. مات سنة (271هـ) وله من العمر ثمان وثمانون سنة. =

(3/1054)


ابن عبادة (1) حدثنا داود بن قيس (2) عن محمد بن عمرو بن عطاء (3) قال كان موسى بن يسار (4) جالساً معنا، فقال له ابن عمر: يا موسى بن
__________
= له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (12/144)، و"تذكرة الحفاظ" (2/575)، و"الخلاصة" ص (160)، و"طبقات الحفاظ" ص (257).
(1) أبو محمد القيسي البصري. ثقة حافظ. روى عن شعبة وحسين المعلم وخلق. وعنه أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وخلق. كان كثير الحديث. صنف الكتب في التفسير والحديث والأحكام. مات سنة (205هـ).
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (8/401)، و"تذكرة الحفاظ" (1/349) و"الخلاصة" ص (101)، و"شذرات الذهب" (2/13)، و"ميزان الاعتدال" (2/58).
(2) أبو سليمان، القرشي بالولاء، المدني الدباغ، روى عن عمرو بن شعيب وإبراهيم ابن حنين. وعنه القعنبي وابن وهب وغيرهما. وثقه أبو حاتم.
مات قبل سنة (160هـ) على ما قيل.
له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (3/198)، و"الخلاصة" ص (110) طبعة بولاق.
(3) أبو عبد الله القرشي العامري المدني. روى عن أبي هريرة وأبي حميد وغيرهما وعنه يزيد بن أبي حبيب ومحمد بن عمرو بن حلحلة وغيرهما. وثقه ابن سعد.
مات في آخر ولاية هشام.
له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (9/373)، و"الخلاصة" ص (354) طبعة بولاق.
(4) المطلبي بالولاء، المدني. روى عن أبي هريرة رضي الله عنه. وروى عنه ابن أخيه محمد بن إسحاق وعبيد الله بن عمر العمري وغيرهما. وثقه ابن معين.
وذكره ابن حبان في "الثقات".
له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (10/377)، و"الخلاصة" ص (393) طبعة بولاق.

(3/1055)


يسار إذا فرغت من حديثك، فسلم، فإنك في صلاة. قال: وحدثنا العباس بن محمد الدوري أيضاً قال: حدثنا موسى بن داود (1) حدثنا ابن لهيعة عن حنين بن أبي حكيم (2) عن نافع (3) عن ابن عمر قال: من أراد حفظ الحديث فليردده ثلاثاً (4).
__________
(1) أبو عبد الله الضبي الخلقاني الكوفي الطرسوسي. ولي قضاء الثغور. روى عن شعبة وابن الماجشون وغيرهما. وعنه الإمام أحمد وعباس الدُّوري وخلق. وثقه الدارقطني. وقال أبو حاتم: "في حديثه اضطراب". مات سنة (217هـ).
له ترجمة في: "الخلاصة" ص (390) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/683)، و"الميزان" (4/204).
(2) في الأصل: (ابن أبي حاتم)، وهو خطأ. والتصويب من مراجع الأثر الآتي ذكرها. وهو: حنين بن أبي حكيم شيخ لابن لهيعة. روى عن مكحول وعلي بن رباح وغيرهما. وعنه الليث وعمرو بن الحارث وابن لهيعة. وثقه ابن حبان.
وقال ابن عدي: "لا أعلم روى عنه غير ابن لهيعة، فلا أدري البلاء منه، أو من ابن لهيعة؛ لأن أحاديثه غير محفوظة، ولا يكاد يعرف". وقال الذهبي: "ليس بعمدة". وقال: "ليس بحجة، ولا يكاد يعرف".
له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (1/198)، و"الميزان" (1/621-622).
(3) هو: نافع أبو عبد الله المدني مولى ابن عمر. روى عن ابن عُمَر وأبي لبابة وأبي هريرة رضي الله عنهم، وعنه مالك وابن جريج وخلق. قال البخاري: "أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر". مات سنة (120هـ)، وقيل غير ذلك. له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/99)، و"تهذيب الأسماء" (2/123)، و"تهذيب التهذيب" (10/413)، و"الخلاصة" ص (343)، و"شذرات الذهب" (1/154)، و"طبقات الحفاظ" ص (40).
(4) هذا الأثر عن ابن عمر رضي الله عنه، أخرجه عنه بسنده الدارمي في مقدمة "سننه"، باب مذاكرة العلم (1/120).

(3/1056)