العدة في أصول الفقه باب الإِجماع
الإِجماع (1) في اللغة: ما اجتمع القوم عليه، سواء كانوا
ممن تثبت الحجة بقولهم أو لا تثبت (2).
وهو في الشرع: عبارةٌ عمن تثبت الحجة بقوله (3).
وسمي إجماعاً؛ لاجتماع الأقوال المتفرقة [159/أ] والآراء
المختلفة.
__________
(1) راجع هذا الباب في: أصول الجصاص الورقة (215) والتمهيد
في أصول الفقه (3/224)، وروضة الناظر ص (67) وشرح مختصرها
للطوفي الجزء الثاني الورقة (39) وشرح الكوكب المنير
(2/210) والمختصر لابن اللحام ص (74) والمسودة ص (315).
(2) هذا أحد معنيي "الإجماع" في اللغة، الذي يعبر عنه
بالاتفاق، وهو الذي يتناسب مع المعنى الاصطلاحى عند
الأصولين.
(3) هذا إشارة إلى تعريف الإِجماع عند الأصوليين، والعبارة
وصف للمجمعين لا للإجماع، ولو عبر بقوله: عبارة عن اتفاق
من تثبت الحجة بقولهم، لكان أولى.
وقد سبق للمؤلف في مقدمة كتابه هذا ص (170) أن عرف الإجماع
بقوله: (اتفاق علماء العصر على حكم النازلة)، وهو تعريف
غير سليم؛ لأنه غير مانع، فقوله: (علماء العصر) يشمل
المسلمين وغيرهم، كما يشمل المجتهدين وغيرهم.
وعرفه تلميذ المؤلف أبو الخطاب في كتابه التمهيد (3/224)
بقوله: (الاتفاق من جماعة على أمر من الأمور، إما فعل أو
ترك).
وهر تعريف غير سليم أيضاً؛ لأنه غير مانع، فالجماعة تشمل
المسلمين وغيرهم، كما تشمل المجتهدين وغيرهم، وهي مشعرة
باتفاق بعضهم، والاجماع لا يكون إلا باتفاقهم كلهم. وهذا
التعريف لأبي الحسين البصري، كما في المعتمد (2/457).
والتعريف الذي أرتضيه هو تعريف ابن السبكى في كتابه "جمع
الجوامع" (1/176) مطبوع مع حاشية البناني حيث قال: (إتفاق
مجتهدي الأمة بعد وفاة محمد - صلى الله عليه وسلم - في عصر
على أي أمر كان).
وهناك تعريفات كثيرة تزيد أو تنقص عن التعريف الذي ذكرته،
حسب ما يراه المعرف. ومن أجل الوقوف على بعض تلك التعريفات
أرجع إلى: الإحكام للآمدي (1/179) وإرشاد الفحول ص (71)
وشرح العضد (2/29).
(4/1057)
وقيلِ: سُمِّي
بذلك من القطع وإمضاء الرأي وتنفيذه، ومنه قوله تعالى:
(فَأَجْمِعُوا أمْرَكَم (1)) أي: اعزموا (2).
مسألة (3)
الإِجماع حجة مقطوع عليها، يجب المصير إليها، وتحرم
مخالفته (4)، ولا يجوز أن تجتمع الأمَّةُ على الخطأ.
__________
(1) (71) من سورة يونس.
(2) هذا إشارة إلى المعنى اللُّغوي الثاني للإِجماع، وقد
صرح الفخر الرازي في كتابه المحصول (4/19) بأن الإجماع
مشترك بين المعنيين: أي العزم والاتفاق.
وهذا ما يؤكده الأزهر في كتابه تهذيب اللغة (1/396) فقد
نقل عن الفراء قوله: (الإجماع: الإعداد والعزيمة على
الأمر..) كما نقل عن غيره قوله: (... وكذلك يقال: أجمعتُ
النَّهبَ، والنهب: إبل القوم التى أغار عليها اللصوص،
فكانت متفرقة في مراعيها فجمعوها من كل ناحية حتى اجتمعت
لهم، ثم طردوها وساقوها).
ثم نقل عن بعضهم قوله: (جمعت أمري. والجمع: أن تجمع شيئاً
إلى شىء.
والإجماع: أن تجعل المتفرق جميعاً).
ومن هذا يتبين بجلاء: أن الإجماع يطلق على المعنيين في أصل
اللغة، فيعتبر من قبيل المشترك.
(3) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (215/ب)
والتمهيد (3/242) وروضة الناظر ص (67) وشرح مختصرها للطوفي
الجزء الثاني الورقة (40/1) وشرح الكوكب المنير (2/214)
والمختصر لابن اللحام ص (74) والمسودة ص (315).
(4) لو أعاد الضمير مذكراً بأن قال: الإِجماع حجة مقطوع
عليه، يجب المصير إليه، وتحرم مخالفته أو ذكره مؤنثاً في
المواضع الثلاثة لكان أولى؛ لأن عدم ذلك أحدث خللاً في
الأسلوب. وبمراجعة كتاب المسودة ص (315) وجد النص كما هو
في الأصل، غير أن المحقق ذكر في الهامش أن نسخة (د) من
كتاب المسوَّدة فيها: (الإِجماع حجة قطعية...). ورُبما
قيل: مقطوع عليه ويصار إليه لكونه حجّة، =
(4/1058)
وقد نص أحمد
-رحمه الله- على هذا في رواية عبد الله وأبي الحارث: "في
الصحابة إذا اختلفوا لم يُخْرَج من أقاويلهم، أرأيت إن
أجمعوا، له أن يخرج من أقاويلهم؟ هذا قول خبيث، قول أهل
البدع، لا ينبغي (1) أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا
اختلفوا" (2).
وقد علق القول في رواية عبد الله فقال: "من ادعى الإِجماع
فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المَرِّيسي
(3) والأصم (4)، ولكن [يقول]: لا نعلم، [لعل] الناس
اختلفوا ولم يبلغه" (5).
__________
= فلذلك جاء التأنيث، وتحرم مخالفته لكونه إجماعاً، فلذلك
جاء التذكير، إذ الأمة لا تجتمع على باطل.
(1) في المسودة ص (315).. (لا ينبغى لأحد).
(2) هذه الرواية منقولة بنصها في المسوَّدة في الموضع
السابق.
(3) هو: بشر بن غياث بن أبي كريمة، أبو عبد الرحمن
المريسى، بفتح الميم وتخفيف الراء، نسبة إلى "مَرِيس"،
بفتح الميم وكسر الراء قرية بمصر أو بفتح الميم وتشديد
الراء نسبة إلى "مَرِيسة" وإليه ينسب درب "المَريسي"
ببغداد. وهو معتزلي، رُمي بالزندقة، يقول بالإِرجاء، وإليه
تنسب الفرقة "المريسية" مات ببغداد سنة (218) وله سبعون
سنة تقريباً.
انظر ترجمته في: تاريخ بغداد (7/56) ولسان الميزان (2/29)
والمغني في الضعفاء (2/916) وميزان الاعتدال (1/322).
(4) هو عبد الرحمن بن كيسان، أبو بكر الأصم. من كبار
المعتزلة. اشتغل بالفقه والتفسير. وله مقالات في الأصول.
مات نحو (225هـ).
له ترجمة في: طبقات المفسرين للداودي (1/269) وفضل
الاعتزال وطبقات المعتزلة ص (268) ولسان الميزان (3/427).
(5) نص الرواية مشوش، ولذلك حاولنا تقويمه بما ترى.
والرواية موجودة في مسائل عبد الله التى رواها عن أبيه
أحمد بن حنبل ص (438-439) ونصها: (سمعت أبي يقول: ما يدعى
الرجل فيه الإِجماع، هذا الكذب، من ادعى الإجماع فهو =
(4/1059)
وكذلك نقل
المروذي عنه: أنه قال: "كيف يجوز للرجل أن يقول: أجمعوا
إذا سمعتهم يقولون: أجمعوا فاتهمهم، لو قال: إني لم أعلم
لهم مخالفاً جاز" (1).
وكذلك نقل أبو طالب عنه: أنه قال: "هذا كذب، ما علمه (2)
أن الناس مجمعون، ولكن يقول: لا أعلم فيه اختلافاً، فهو
أحسن من قوله: إجماع الناس".
وكذلك نقل أبو الحارث: "لا ينبغي لأحد أن يدعي الإِجماع،
لعل الناس اختلفوا" (3).
وظاهر هذا الكلام أنه قد منع صحة الإِجماع، وليس ذلك على
ظاهره، وإنما قال هذا على طريق الورع، نحو أن يكون هناك
خلاف لم يبلغه.
أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف؛ لأنه قد
أطلق القول بصحة الإِجماع في رواية عبد الله وأبي الحارث
(4).
وادعى الإِجماع في رواية الحسن بن ثواب، فقال: "أذهب في
التكبير من غداة يوم
__________
= (كذب)، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المَريسي
والأصم، ولكن يقول: لا يعلم، الناس يختلفون، أو لم يبلغه
ذلك، ولم ينته إليه فيقول: لا يعلم، الناس اختلفوا).
(1) الرواية هذه منقولة بنصها مع اختلاف يسير في المسوَّدة
ص (315).
(2) في المسودة ص (316): (ما أعلمه). وهو الصحيح وما في
الأصل تصحيف.
(3) هذه الرواية والتي قبلها منقولتان بالنص في المسوَّدة
ص (315-316).
(4) ذكر المؤلف هنا تخريجين لكلام الإِمام أحمد في هذا
الموضع.
ولكن شيخ الاسلام ابن تيمية في المسوَّدة ص (316) يحمل
إنكار الإِمام أحمد على إجماع من بعد الصحابة، أو بعدهم
وبعد التابعين، أو بعد القرون الثلاثة المحمودة.
والقول بأن الإجماع خاص بإجماع الصحابة هو رأي الطوفي
الحنبلي في شرحه على مختصر الروضة الجزء الثاني الورقة
(40/أ).
(4/1060)
عرفة إلى آخر
أيام التشريق، فقيل له: إلى أي شيء تذهب؟ قال: بالإِجماع
(1)
__________
(1) الرواية موجودة بنصها في المسوَّدة ص (316) وقريب منه
ما في كتاب المغني (2/294) وفي كتاب الكافي (1/236) ولم
يذكر فيهما من نقلها عن الإِمام أحمد.
وجاء في مسائل الإِمام أحمد رواية ابن هانيء النيسابوري
(1/4) وقد سئل عن التكبير في أيام التشريق، فقال: (من صلاة
الصبح يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق يكَبّر العصر ولا
يُكبر المغرب.
وفي مسائل الامام أحمد رواية ابنه عبد الله ص (241). (يبدأ
بالتكبير يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، يكبر في العصر،
ويقطع، وهو قول علي، وذلك في الأمصار.
وقد يقول بعض الناس: إنما يكبر الناس بمنى إذا رموا
الجمرة، وإذا ترك التلبية بدأ في الظهر من يوم النحر لا
يجمع التكبير والتلبية؛ لأنه إذا رمى الجمرة يوم النحر فقد
انقطعت التلبية، فيبدأ بالتكبير في الظهر من يوم النحر).
وقريب من ذلك ما رواه أبو داود في المسائل التى نقلها عن
الإمام أحمد ص (61).
ويلاحظ: أن كتب المسائل الثلاثة المذكورة ليس فيها السؤال
عن دليل الإِمام أحمد فيما ذهب إليه، ولا احتجاجه
بالإجماع.
وحكاية الإِجماع هذه غير مسلمة للأمور الآتية:
الأول: ما نقله ابن قدامة في المغنى (2/393) عن ابن مسعود
-وهو أحد من اعتمد عليه الإِمام في الإِجماع-: أنه كان
يكبر من غداة يوم عرفة إلى العصر من يوم النحر.
ومثل ذلك نقله ابن حزم في المحلى (5/134).
ومثله نقله ابن أبي شيبة في كتاب الصلوات، باب التكبير من
أي يوم هو إلى أي ساعة (2/165).
وأخرجه كذلك أبو يوسف في كتابه الآثار في كتاب الصلاة باب
صلاة العيدين ص (60). وهذا مخالف لما ذكره الإِمام أحمد عن
ابن مسعود.
الثاني ما نقله ابن قدامة- أيضاً- في كتابه المذكور عن ابن
عمر: أن التكبير من صلاة الظهر يوم النحر إلى الصبح من آخر
أيام التشريق. والنقل عنه كذلك في المحلى (5/135).
وكذلك أخرج عنه البيهقى في سننه في كتاب صلاة العيدين باب
من =
(4/1061)
عمر (1) وعلي
(2) وعبد اللَّه بن
__________
= قال يكبر في الأضحى خلف صلاة الظهر من يوم النحر
(3/313).
وأخرج البيهقي مثله عن زيد بن ثابت.
وأخرج الدارقطني في سننه في كتاب العيدين (2/50-51) عن ابن
عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري -رضى الله عنهم- (أنهم
كانوا يكبرون في صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من
آخر أيام التشريق، يكبرون في الصبح ولا يكبرون في الظهر).
الثالث: ما رواه أبو داود في مسائله ص (61) حيث قال: (سمعت
أحمد مرة أخرى سئل عن التكبير أيام التشريق؟ قال: من حين
يرمون الجمرة إلى أن يرجع الناس من منى...) فهذه الرواية
جعلت المدة تبدأ من بعد رمي جمرة العقبة بينما الرواية
التى حكى الإِجماع عليها جعلت بداية المدة غداة يوم عرفة،
ولم يفرق الإِمام أحمد بين الحاج وغيره.
فكيف يقع الإِجماع مع اختلاف النقل عن ابن مسعود وابن عباس
مع نقل مخالفة ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري لما
ذكره المؤلف. والله أعلم.
راجع في تلك الآثار أيضاً: نصب الراية (2/222-223) وزاد
المعاد (1/449) مع الهامش.
(1) هذا الأثر أخرجه البيهقى في سننه في كتاب صلاة
العيدين، باب من استحب أن يبتدئ بالتكبير خلف صلاة الصبح
من يوم عرفة (3/314) ولفظه (كان عمر بن الخطاب -رضى الله
عنه- يكبر بعد صلاة الفجر من يوم عرفة إلى صلاة الظهر من
آخر أيام التشريق،) ثم ساق البيهقى بعد ذلك رواية مفادها:
أن عمر يرى التكبير إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق.
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصلوات، باب
التكبير من أي يوم هو إلى أيّ ساعة (2/166).
وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك في كتاب العيدين (1/299).
(2) هذا الأثر أخرجه البيهقى في سننه في كتاب صلاة
العيدين، باب من استحب أن يبتدئ بالتكبير خلف صلاة الصبح
من يوم عرفة (3/314) ولفظه: (كان علي =
(4/1062)
مسعود (1)،
وعبد الله بن عباس" (2).
وهذا قول جماعة الفقهاء والمتكلمين (3).
__________
= - رضي الله عنه - يكبر بعد صلاة الفجر غداة عرفة، ثم لا
يقطع حتى يصلى الإِمام من آخر أيام التشريق، ثم يكبر بعد
العصر).
كما روي عنه قبل ذلك وفيه: (إلى صلاة العصر من آخر أيام
التشريق).
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصلوات، باب
التكبير من أي يوم هو إلى أي ساعة (2/165)، ولفظه قريب من
لفظ البيهقي.
وأخرجه عنه أبو يوسف في كتابه الآثار، في كتاب الصلاة، باب
صلاة العيدين ص (60) وفيه: (إلى بعد صلاة العصر من آخر
أيام التشريق).
وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك في كتاب العيدين (1/299).
(1) هذا الأثر أخرجه عنه الحاكم في مستدركه في كتاب
العيدين (1/300) وانظر: إرواء الغليل للألباني (3/125).
(2) هذا الأثر: أخرجه عنه البيهقى في كتاب صلاة العيدين،
باب من استحب أن يبتدىء بالتكبير خلف صلاة الصبح من يوم
عرفة (3/314) بلفظ: (كان يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر
من آخر أيام التشريق) كما أخرجه بمثله وزاد: (يكبر في
العصر ويقطع في المغرب) وبلفظ: (إلى آخر أيام التشريق)
بدون ذكر (صلاة العصر).
وأخرجه أيضاً في باب كيف التكببر؟ (3/315) بلفظ: (يكبر من
غداة عرفة إلى آخر أيام النفر، لا يكبر في المغرب).
وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك في كتاب العيدين (1/299).
وذكره الحافظ ابن حجر في كتابه المطالب العالية، في كتاب
الصلاة باب صلاة العيدين (1/186).
وكلام المؤلف من أول الباب إلى هنا منقول بنصه في
المسوَّدة ص (315-316).
(3) انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري (2/457-458)
والبرهان لإمام الحرمين (1/670-675).
(4/1063)
وحُكي عن
إبراهيم النَّظَّام (1): أن الإِجماع ليس بحجة، وأنه يجوز
اجتماع الأمة على الخطأ (2).
وحُكِي عن الرافضة: أن الإِجماع ليس بحجة، وأن قول الإِمام
وحده حجة (3).
دليلنا:
قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا
تَبيَّن لَهُ الْهُدَى، وَيَتَّبع غَيْرَ سَبِيلِ
المُؤمِنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَىَّ، وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (4). فوجه الدلاَلَة: أن
الله تعالى توعد على اتباع غير سبيل المؤمنين، فدل على أن
أتباع سبيلهم واجب.
فإن قيل: هذا احتجاج من دليل الخطاب، ونحن لا نقول به.
قيل: دليل الخطاب عندنا حجة، ونحن نبني فروعنا على أصولنا.
__________
(1) هو: إبراهيم بن سيار بن هانيء النظام، أبو إسحاق
البصري المعتزلي ابن أخت أبي الهذيل العلاف. له آراء شاذة
عرف بها، وتبعه فيها ناس، فسموا بالنظامية. كان ذكيا
فصيحاً.
له ترجمة في: تاريخ بغداد (6/67) وفضل الاعتزال ص (264)
واللباب (3/316) والنجوم الزاهرة (2/234).
(2) حكى ذلك عنه أبو الحسين البصري في المعتمد (2/458).
(3) وضح ذلك القاضى النعمان بن محمد الإِسماعيلي في كتابه
اختلاف أصول المذاهب ص (81-136) وذكر كثيراً من النصوص
التي استدل بها العلماء على حجية الإِجماع، ووجهها لنصرة
مذهبه.
وما ذكره المؤلف هنا ذكره أبو الحسين البصري في كتابه
المعتمد (2/458-459) حيث قال: (وقالت الإِمامية: ذلك صواب؛
لأن الإِمام داخل فيهم، وهو الحجة فقط).
(4) الآية (115) من سورة النساء.
(4/1064)
وعلى أن هذا
ليس بدليل الخطاب (159/ب)، وإنما هو احتجاج بتقسيم عقلي؛
لأنه ليس بين اتباع غير سبيلهم (1) وبين اتباع سبيلهم قسم
ثالث، وإذا حرّم الله تعالى اتباع غير سبيل المؤمنين وجب
اتباع سبيلهم.
فإن قيل: (سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) في الأقوال مجاز، وإنما
السبيل هو: الطريق.
قيل: الأصل في الاستعمال الحقيقة، وقد استعمل فيهما، فوجب
أن يكون حقيقة فيهما (2).
وعلى أنه لو كان مجازاً، لكان إذا كثر الاستعمال فيه، جرى
مجرى الحقيقة.
__________
(1) في الأصل: (سبيل).
(2) ظاهر كلام ابن فارس في كتابه: معجم مقاييس اللغة
(3/129-130) أن السبيل حقيقة في الحسيات حيث يقول: (سبل:
السين والباء واللام أصل واحد، يدل على إرسال شيء من علو
إلى سفل، وعلى امتداد شيء، فالأول من قيلك: أسبلت الستر..
والممتد طولاً: السبيل، وهو الطريق، سمي بذلك لامتداده..).
وبمراجعة كتاب تهذيب اللغة للأزهري (12/436) ولسان العرب
(3/340) والقاموس المحيط (3/392) مادة "سبل" وجد أنهم
يعبرون عن "السبيل" بالطريق، ولكن عند التمثيل يطلقون
"السبيل" على الطريق حسية أو معنوية، بدون إشارة إلى
الحقيقى والمجازي في ذلك.
وفي ذلك يقول الرازي في كتابه المحصول (4/54): (سلمنا: حظر
اتباع غير سبيلهم مطلقاً، لكن لفظ "السبيل" حقيقة في
الطريق الذي يحصل فيه المشى، وهو غير مراد -ها هنا-
بالاتفاق، فصار الظاهر متروكاً، فلا بُدّ من صرفه إلى
المجاز، وليس البعض أولى من البعض، فتبقى الآية مجملة).
وفي ص (77) يقول: (قوله السبيل: هو الطريق الذي يحصل المشي
فيه، قلنا: لا نسلم؛ لقوله تعالى: (قل هذه سبيلى) وقوله
(ادع إلى سبيل ربك)
سلمناه، لكنا نعلم بالضرورة أن ذلك غير مراد -ها هنا- ولا
نزاع في أن أهل اللغة يطلقون لفظ: "السبيل" على ما يختاره
الإنسان لنفسه في القول والعمل. وإذا كان ذلك مجازاً
ظاهراً، وجب حمل اللفظ عليه، لأن الأصل عدم المجاز الآخر).
=
(4/1065)
والاستعمال في
القول مثل الاستعمال في الطريق إذا كثر، قال الله تعالى
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلي أَدْعُو إلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ)
(1)، وقال: (مَنْ هُوَ أهْدَى سَبِيلاً) (2)، (وَأضَلُّ
سَبِيلاً) (3)، (وَلَنْ يَجْعَلَ اْللَّهُ لِلكَافِرِينَ
عَلَى الْمُؤمِنِينَ سَبِيلاً) (4)، ويقال: سبيل المعروف،
وسبيل الوقوف، وما أشبه هذا مما يكثر
__________
= وقد أورد الإسنوي في كتابه نهاية السول (3/865) بعض
الاعتراضات على وجه الاستدلال من الآية، منها: (الرابع: لا
نسلم أن "السبيل" هو قول أهل الإِجماع، بل دليل الإِجماع،
وبيانه: أنَّ السبيل لغة هو: الطريق الذي يُمْشَى فيه وقد
تعذرت إرادته هنا، فتعين الحمل على المجاز وهو إما قول أهل
الإِجماع، أو الدليل الذي لأجله أجمعوا والثاني أولى؛ لقوة
العلاقة بينه وبين الطريق، وهو كون كل واحد منهما موصلاً
إلى المقصد. وأجاب المصنف بأن "السبيل" أيضاً يطلق على
الإِجماع؛ لأن أهل اللغة يطلقونه على ما يختاره الإِنسان
من قول أو فعل، ومنه قوله تعالى: (قل هذه سبيلى) وإذا كان
كذلك فحمله على الإِجماع أولى لعموم فائدته، فإن الإِجماع
يعمل به المجتهد والمقلِّد، أما الدليل فلا يعمل به سوى
المجتهد).
ومن هذا العرض يتضح:
أولاً: أن "السبيل" يستعمل حقيقة في الطريق التى يُمْشَى
فيها.
ثانياً: أن "السبيل" يستعمل في الأقوال، فقيل على سبيل
الحقيقة، وقيل على سبيل المجاز، وهو الذي يؤيده ما نقلناه
عن ابن فارس في معجم مقاييس اللغة حيث حصر الحقيقة في أصل
واحد.
ويؤيده أيضاً ما جاء في أساس البلاغة للزمخشري (1/420-421)
حيث قال: (ومن المجاز... والزم سبيل الله خير السبيل...).
فقد صرح أن ذلك من باب المجاز.
(1) آية (108) من سورة يوسف.
(2) آية (84) من سورة الإسراء. والآية في الأصل (من أهدى
سبيلاً) بدون الضمير، وهو خطأ ظاهر.
(3) آية (72) من سورة الاسراء.
(4) آية (141) من سورة النساء والآية في الأصل: (ولم) بدل
(ولن)، وهو خطأ.
(4/1066)
تعداده. وهذا
بمنزلة المذهب الذي هو حقيقة في الطريق وفي القول
والاعتقاد (1).
فإن قيل: الذي تعلق بمشاقة الرسول وباتباع غير سبيل
المؤمنين، فثبت أنه لا يتعلق بأحدهما على الانفراد.
قيل: مشاقة الرسول محرمة بانفرادها، وإن لم يكن هناك مؤمن،
فدلَّ على أن التوعد على كل منهما بانفرادِه، وهذا مثل
قِوله تعالى: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلهاً
آخَرَ وَلاَ يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ
إِلاَّ بالْحَق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
يَلْقَ أَثَاماً) (2)، فجمع بين هذه الأفعال في الوعيد،
وكان منصرفاً إلى كل واحد منهما (3).
__________
(1) يقول الأزهري في تهذيب اللغة (6/262-266). (والمَذهَب:
مصدر كالذهاب).
ويقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (ط/362): (... وبقى
أصل آخر، وهو ذهاب الشيء: مُضِيه، يقال: ذَهَبَ يَذْهَبُ
ذَهَابَاً وذُهوباً، وقد ذهب مَذهباً حسناً).
من هذين النصين يتبين أن المذهب، معناه: المضى في الشيء في
أصل اللغة ولكنهما لم يوسعا المدلول، غير أن صاحب القاموس
(1/70) يبين ذلك بصورة أوسع، حيث يقول (.... المَذْهَبُ:
المُتَوضأ والمُعْتَقد الذي يذهب إليه والطريقةُ والأصلُ).
وقريب من ذلك ما قاله صاحب المصباح المنير (1/323) (...
وذهب مَذْهب فلان قَصَد قصْده وطريقته، وذهب في الدين
مَذْهباً: رأى فيه رأياً).
فمن هذين النصين يتبين لنا: أن ما ذهب إليه المؤلف صحيح،
وأن ذلك الاستعمال حقيقة.
إلاَّ أن الزمخشريَّ في كتابه أساس البلاغة (1/307) يرى أن
استعمال المذهب في القول والاعتقاد من باب المجاز.
(2) آية (68) من سورة الفرقان.
(3) في الأصل: (منهما)، وهو خطأ؛ لأن الضمير عائد على جمع.
(4/1067)
وجواب آخر،
وهو: أن (1) اتباع غير سبيل المؤمنين لو لم يكن محرماً
بانفراده لم يحرم مع مشاقة الرسول كسائر المباحات، ألا ترى
أنه لا يجوز الجمع بين القبيح والمباح في باب الوعيد، فلما
جمع تعالى بين مشاقة الرسول وبين ترك اتباع سبيل المؤمنين
في الوعيد علم أن كل واحد منهما يقتضي الوعيد.
فإن قيل: فالمؤمنون لا يعرفون بأعيانهم؛ فلا يصح الاحتجاج
به.
قيل: إذا أجمع الكل دخل المؤمنون فيهم؛ لأن من أظهر
الإِيمان وجب أن يحكم بإيمانه، ولا اعتبار بما غاب عنا من
اعتقاده، فإذا كان كذلك سقط السؤال.
فإن قيل: ذكر (المُؤْمِنِينَ) بالألف واللام، فاقتضى جنس
المؤمنين إلى يوم القيامة.
قيل: لا يجوز أن يريد به جميعهم، لأن التكليف في ذلك يكون
يوم القيامة ولا تكليف في الآخرة، فعلم أن المراد به بعض
المؤمنين، وإذا كان المراد به البعضَ، فقد أجمعوا على أنه
لم يرد ما زاد على أهل العصر، فكان (2) المراد به أهل
العصر.
ولأن من [160/أ] لم يخلق لا يسمى مؤمناً، ومن خلق ومات فلا
يسمى مؤمناً حقيقة، وإنما كان مؤمناً.
جواب آخر، وهو: أن الآية أريد بها بعض المؤمنين؛ لأنه توعد
من خالف سبيلهم، فاقتضى ذلك أن يكون هناك متوعد غير الذين
يخالف سبيلهم.
فإن قيل: الوعيد على ترك سبيل المؤمنين فيما صاروا به
مؤمنين، وهو
__________
(1) في الأصل (أنه) وهو خطأ؛ لأن اسم (أن) ظاهر.
(2) في الأصل (كان) بدون الفاء.
(4/1068)
التوحيد وفعل
الإِيمان (1).
قيل: هذا تخصيص لعموم الآية بغير دليل.
وعلى أنه لا اعتبار في ذلك بالاتباع، وإنما يجب العمل فيه
بموجب الدليل،
__________
(1) وأيدوا ذلك بأمرين:
الأول: سبب نزول الآية في بشير بن أبَيْرِق المنافق لما
سرق، ثم رمى بذلك لبيد بن سهل، ولما كشفَ أمره هرب إلى
مكة، ولحق بالمشركين، فأنزل الله الآيات (105-116) من سورة
النساء.
روى ذلك قتادة بن النعمان - رضي الله عنه - أخرجه عنه
الحاكم في المستدرك في كتاب الحدود باب حكاية سرقة متاع
رفاعة..
(4/385-388) وقال عقبه: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم
يخرجاه) وسكت عنه الذهبي.
وأخرجه عنه الترمذي في سننه في كتاب التفسير (5/244-247)
ثم قال: (هذا حديث غريب، لا نعلم أحداً أسنده غير محمد ابن
سلمة الحرَّاني، وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث
عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلاً، لم
يذكروا فيه عن أبيه عن جده).
لكن كلام الترمذي غير مسلم؛ لأن الحاكم أخرجه في الموضع
السابق عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر
بن قتادة عن أبيه عن جده قتادة بن النعمان مسنداً.
راجع في ذلك: أسباب النزول للواحدي ص (172) وأسباب النزول
للسيوطى ص (64) والدر المنثور للسيوطي (2/214-217) وتفسير
ابن الجوزي (2/190) وتفسير الطبري (9/177-189) مع هامش ص
(181-182) فإن للشيخ أحمد شاكر كلاماً جيداً في ذلك.
الثاني: مجيىء قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ
يَشَاءُ) بعد الآية المستدل بها، والشرك هو المقابل
للتوحيد.
(4/1069)
فوجب حمله على
غيره من أحكام الشرع.
فإن قيل: اتباع سبيل المؤمنين: أن ينظر، ويجتهد، ويثبت
الحكم من الطريق الذي أثبتوه، وإذا كان كذلك فتكون الآية
حجة عليكم.
قيل: النظر المؤدي إلى قولهم لا يمنع منه، وإنما يمنع من
النظر المؤدي إلى خلاف قولهم؛ لأن من فعل ذلك يكون تاركاً
لسبيلهم ومخالفاً لهم.
وكذلك من دخل مصراً من أمصار المسلمين جاز له أن يجتهد،
فإذا أدى اجتهاده إلى صحة محاريبهم (1) صلى إليها، ولا
يجوز مخالفتها.
فإن قيل: الوعيد إنما هو على اتباع غير سبيل المؤمنين،
وأنتم تطلقون الوعيد لترك السبيل.
قيل: إذا لحقه الوعيد باتباع غيرهم والعدول عنهم، ثبت أنه
قد ترك واجباً، فلحقه الوعيد بالعدول عنه (2).
وطريقة أخرى: قوله تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُم أمَّةً
وسَطَاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى الناسِ) (3)
والوَسَطُ: العَدْلُ الخِيَار (4).
__________
(1) المحاريب جمع محراب، والمراد: مقام الإِمام من المسجد.
القاموس مادة (حرب) (1/53).
(2) اعتمد المؤلف -رحمه الله تعالى- في معظم هذه
الاعتراضات والرد عليها على كتاب أصول الجصاص الورقة (217)
وعلى كتاب المعتمد لأبي الحسين البصري (2/462-469) وقد
أطنب الفخر الرازي في ذكر الاعتراضات وردها، وذلك في كتابه
المحصول (2/46-89).
(3) (143) سورة البقرة.
(4) ذكر الزمخشري -عند تفسيره لهذه الآية (1/317)- معنيين
للوسط: الأول: (وسطاً): "خيارا"،... وقيل للخيار: وسط؛ لأن
الأطراف يتسارع إليها الخلل والإِعوار، والأوساط محمية
محوطة..). =
(4/1070)
وهذا كما قال
في آية أخرى (1) (قَالَ أوْسَطهُمْ ألمْ أقل لَّكُمْ
لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ) (2) يعنى: أعدلهم وخيرهم (3)
__________
= الثاني: (وسطاً) "عدلاً"؛ لأن الوسط عدل بين الأطراف،
ليس إلى بعضها أقرب من بعض).
ويفسر ابن منظور "الوسط" في كتابه اللسان مادة "وسط"
(9/306) بالعدل.
ويعلل أبو السعود في تفسيره (1/172) وصفهم بذلك؛ لأنهم
يتصفون بالصفات الحميدة، لا تفريط ولا إفراط، خياراً
عدولاً مزكين بالعلم والعمل.
ويرى الشوكاني في تفسيره فتح القدير (1/130) أنه قد ثبت عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير "الوسط" في الآية
بالعدل، وساق الروايات المرفوعة في ذلك فارجع إليه إن شئت.
ويقول ابن جرير الطبرى في تفسيره (2/142) بتحقيق الشيخ
أحمد شاكر: (إن الوسط في هذا الموضع: هو"الوسط" الذي بمعنى
الجزء الذى هو بين الطرفين، مثل "وسط الدار"... وأرى أن
الله تعالى ذكره: وصفهم بأنهم: "وسط" لتوسطهم في الدين،
فلا هم أهل غلو فيه، غلو النصارى الذين غلوا بالترهب،
وقيلهم في عيسى ما قالوه فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير
اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على
ربهم وكفروا به...).
قلت: ولا منافاة بين ما ذكره المفسرون هنا، فهم خيار عدول،
وكل صفة من صفاتهم الحميدة تصح أن تكون سبباً في وصفهم
بأنهم "وسط" والله أعلم.
(1) في الأصل: (في روامه) وبعدها موضع كلمة مطموسة.
والتصويب دل عليه السياق، دل عليه قول أبي الخطاب في كتابه
التمهيد (3/254): (وهو حجة، لنا قوله تعالى (وَكَذلِكَ
جَعَلْنَاكُم أمة وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاس وَيَكونَ الرسُولُ عَلَيكُم شَهِيداً) والوسط:
الخيار العدل، بدليل قوله تعالى: (قَالَ أوْسَطُهُمْ ألم
أقُل لكُم) معناه: أعدلهم).
(2) آية (28) من سورة القلم.
(3) وبهذا فسره الزمخشري في الكشاف (4/145).
(4/1071)
وكما قال
الشاعر:
هم وَسَط يَرْضى الإِله (1) بِحُكْمِهم... إذَا نَزَلَتْ
إحْدَى اللَّيَالِى بِمُعْظَمِ (2)
ويقال: مِيَزان وَسَط، إذا لم يكن فيه ميل.
وإذا أخبر الله تعالى أن الأمة عدل، لم يجز عليهم الضلالة؛
لأنه لا عدالة مع الضلالة، وجعلهم شهداء على الناس، كما
جعل الرسول شهيداً عليهم، فلما كان قول الرسول - صلى الله
عليه وسلم - حجة، كذلك قول الأمة.
فإن قيل: إنما جعلتم شهداء عليهم في الآخرة.
يبين صحة هذا: قوله (3): (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) ولا
يمكن شهادتهم على الجميع إلا في الآخرة.
__________
= ويرى أبو السعود في تفسيره (9/16): ("قال أوسطهم": رأياً
أو سناً).
(1) هكذا في الأصل: (يرضى الإله) وفي هامش الأصل: (الإمام)
محرفة عن (الأنام)، والأنام هو الصواب الموافق لمراجع
التخريج الآتية.
(2) البيت من معلقة زهير بن أبي سلمى، ذكره النحاس في شرحه
للقصائد التسع (1/332) هكذا:
لِحَيِّ حِلاَلٍ يَعْصِمُ الناسَ أمرُهم إذا طَرَقَت إحدى
الليَالي بمُعْظَم والبيت أنشده الجاحظ في كتابه: البيان
والتَبيين (3/225) غير منسوب، إلا أنه قال: (إذا طرقت) بدل
(إذا نزلت).
وفي تفسير الطبري (3/142) وتفسير الشوكاني (1/130) منسوب
إلى زهير بمثل الرواية التي أثبتناها.
راجع بالإضافة إلى ما ذكر: هامش تفسير الطبري للشيخ أحمد
شاكر وأخيه الأستاذ محمود.
(3) في الأصل: (أن قوله)، و(أن) هنا لا يستقيم المعنى
بوجودها ولذلك حذفناها.
(4/1072)
قيل: هذا خرج
مخرَج المدح لهم في الدنيا، فلو كانوا شهداء في الآخرة لم
يكن مدحاً لهم في الدنيا. وعلى أنه جعلهم شهداء على الناس
كما جعل الرسول، فلما كان المراد شهادة النبي في الدنيا،
كذلك في الأمة (1).
فإن قيل: [160/ب] كونهم شهداء لا يمنع وقوع الخطأ منهم،
كما لا يمنع وقوع ذلك من الشاهِدَيْن.
قيل: لأن الله تعالى لم ينص على شاهدين بأعيانهما حتى
[يكون] ذلك مانعاً من وقوع الخطأ والكذب منهما، ولو نص على
شاهدين لامتنع ذلك منهما كالأمة (2).
وطريقة أخرى، وهو: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: (لاَ تَجْتَمِعُ أمَتي عَلَى ضَلاَلة).
__________
(1) التحقيق: أن الشهادة في الآية تكون في الدنيا، وتكون
في الآخرة، وقد جاءت النصوص بذلك، وأورد الإمام الطبري في
تفسيره (2/145-154) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر وأخيه كثيراً
من الأحاديث في ذلك، كما ذكر الإِمام الشوكاني في تفسيره
(1/131-132) بعض ذلك، فارجع إليهما إن شئت.
(2) الرد هنا غير واضح، وقد بينه العلامة الجصاص في أصوله
الورقة (216/أ-ب) حيث قال: (قيل له: لا يجب ذلك؛ لأن الله
لم ينص على قبول شهادة شاهدين بأعيانهما، فلم يحكم لهما
بالعدالة، وإنما أمرنا في الجملة بقبول شهادة عدول عندنا،
ومن في غالب ظننا أنهم عدول، والظن قد يخطىء ويصيب، فلذلك
لم يجز لنا القطع على عينهما.. فلو كان الله شهد لشاهديْن
بأعيانهما بالعدالة وصحة الشهادة لقطعنا على عينهما،
وحكمنا بصدقهما، وأما الأمة فقد حكم الله لها بالعدالة
وصحة الشهادة على من بعدها، على معنى أنها تشتمل على من
هذه صفته، فمتى وجدناها مجمعة على شىء حكمنا بأنه حكم الله
تعالى؛ لأن العدول في الدين حكم الله بصحة شهادتهم، فقد
قالت ذلك، وقولها صدق...).
(4/1073)
وروي: (عَلَى
خَطَأ) (1).
__________
(1) هذا الحديث رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعاً،
أخرجه عنه الترمذى في سننه في كتاب الفتن، باب لزوم
الجماعة (4/466) ولفظه: (إن الله لا يجمع أمتى، أو قال:
أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، ويد الله مع
الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار)، ثم قال بعد ذلك: (هذا
حديث غريب من هذا الوجه...).
وأخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب العلم (1/115-116) وذكر
أن الحديث مختلف فيه على المعتمر بن سليمان من سبعة أوجه،
ثم ذكرها. ثم عقب عليها بقوله: (فقد استقر الخلاف في إسناد
هذا الحديث على المعتمر بن سليمان، وهو أحد أركان الحديث
من سبعة أوجه، لا يسعنا أن نحكم أن كلها محمولة الخطأ بحكم
الصواب لقول من قال عن المعتمر عن سليمان بن سفيان المدني
عن عبد الله بن دينار، ونحن إذا قلنا هذا القول نسبنا
الراوي إلى الجهالة فوهّنا به الحديث، ولكن نقول: إن
المعتمر بن سليمان أحد أئمة الحديث، وقد روى عنه هذا
الحديث بأسانيد يصح بمثلها الحديث، فلابد أن يكون له أصل
بأحد هذه الأسانيد، ثم وجدنا للحديث شواهد من غير حديث
المعتمر، لا أدعي صحتها، ولا أحكم بتوهيتها، بل يلزمنى
ذكرها لإجماع أهل السنة على هذه القاعدة من قواعد الإسلام)
ثم ذكر الشواهد بعد ذلك.
قال الشيخ الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح (1/61):
(قلت: وعلته سليمان المدني، وهو ابن سفيان، وهو ضعيف، ولكن
الجملة الأولى من الحديث صحيحة [وهى قوله "لا تجتمع أمتي
على ضلالة"]، لها شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه الترمذى
والحاكم وغيرهما بسند صحيح، ومن حديث أسامة بن شريك عند
ابن قانع في المعجم).
ورواه أيضاً أبو مالك الأشعري - رضي الله عنه - مرفوعاً
أخرجه عنه أبو داود في كتاب الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها
(2/414) ولفظه:
(إن الله أجاركم من ثلاث خلال) وذكر منها: (وأن لا تجتمعوا
على ضلالة) وقد حكم عليه الشيخ الألباني بالضعف. =
(4/1074)
..................................
__________
= انظر ضعيف الجامع الصغير وزياداته (2/67).
وأخرجه عنه ابن أبي عاصم في كتابه السنة (2/434) وقد صححه
الشيخ الألباني في تعليقه على الحديث.
وأخرجه عنه الطبراني، حكى ذلك العجلوني في كشف الخفاء
(2/488) كما حكاه السخاوي في المقاصد ص (460).
ورواه أيضاً: أنس بن مالك -رضى الله عنه- مرفوعاً أخرجه
عنه ابن ماجة في سننه في كتاب الفتن، باب السواد الأعظم
(2/1303)، ولفظه: (إن أمتى لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم
اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم. وفي إسناده "أبو خلف
الأعمى" وهو ضعيف كما قال صاحب مجمع الزوائد.
وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك في الموضع السابق
(1/116-117) بلفظ: (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
سأل ربه أربعاً، سأل ربه أن لا يموت جوعاً، فأعطى ذلك،
وسأل ربه أن لا يجتمعوا على ضلالة، فأعطي ذلك...) الحديث
وفي إسناده "مبارك بن سُحَيم" قال عنه الحاكم بعد ذلك:
(فإنه مما لا يمشي في هذا الكتاب، لكني ذكرته اضطراراً).
ورواه عمرو بن قيس -رضى الله عنه- مرفوعاً أخرجه عنه
الدارمي في سننه في المقدمة، باب ما أعطي النبي - صلى الله
عليه وسلم - من الفضل (1/32)، جزء من حديث فيه (... وإن
الله وعدني في أمتى وأجارهم من ثلاث: لا يعمهم بسنة، ولا
يستأصلهم عدو، ولا يجمعهم على ضلالة).
ورواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجه عنه الحاكم في
مستدركه في الموضع السابق. بلفظ: (لا يجمع الله أمتي على
ضلالة أبداً، ويد الله على الجماعة).
قال الذهبى: (وإبراهيم، يعنى: "إبراهيم بن ميمون العَدَنى"
عدّله عبد الرزاق، ووثقه ابن معين) وعلى هذا فالحديث صحيح.
وهو ما عناه الشيخ الألباني في كلامه السابق.
قال السخاوي في المقاصد الحسنة ص (460): "وبالجملة فهو
حديث مشهور المتن، ذو أسانيد كثيرة، وشواهد متعددة في
المرفوع وغيره، فمن الأول: (أنتم شهداء الله في الأرض)،
ومن الثاني قول ابن مسعود: (إذا سئل أحدكم فلينظر في =
(4/1075)
وروي: (ما رآه
المسلمونَ حسناً، فهو عندَ الله حسن، وما رآه المسلمون
قبيحاً، فهو عندَ الله قبيحٌ) (1).
__________
= كتاب الله، فإن لم يجده ففي سنة رسول الله، فإن لم يجده
فيها فلينظر فيما اجتمع عليه المسلمون، وإلا فليجتهد).
وقد نقل العجلوني هذا الكلام بنصه في كتابه كشف الخفاء
(2/488).
وعلق الحافظ العراقي على الحديث بعد أن ذكر بعض طرقه في
تخريجه لأحاديث مختصر المنهاج ص (298) من
مجلة البحث العلمى والتراث الإسلامى الصادرة عن مركز البحث
العلمى في كلية الشريعة في مكة المكرمة - بقوله: (وفي كلها
نظر، وقد حسن الترمذي حديث ابن عمر).
قلتُ: ولم أجد تحسيناً للترمذي لحديث ابن عمر، فلعل الحافظ
العراقي اطلع على نسخة أخرى من نسخ الكتاب غير النسخة التى
طبع عليها الكتاب؛ لأن الشيخ أحمد شاكر لاحظ مثل ذلك في
تحقيقه للجزء الأول والثاني من الكتاب.
ولمزيد من الاطلاع انظر: مجمع الزوائد (1/177) و(5/217)،
والفتح الكبير (1/318) و(375)، والفقيه والمتفقه (1/161).
(1) هذا جزء من حديث موقوف على ابن مسعود -رضى الله عنه-
أخرجه عنه الإِمام أحمد في مسنده (1/379) بلفظ: (إن الله
نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -
خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر
في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب
العباد فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى
المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند
الله سيء).
وأخرجه عنه الحاكم -موقوفاً أيضاً- في كتاب معرفة الصحابة،
باب فضائل أبي بكر -رضى الله عنه- (3/78-79) بسند الإِمام
أحمد، ولفظه: (ما رأى المسلمون.) الحديث، وزاد في آخره:
(وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر -رضى الله
عنه-) ثم قال بعد ذلك: (حديث صحيح الإِسناد، ولم يخرجاه).
وقال الذهبى: صحيح. =
(4/1076)
وروي: (من فارق
الجماعة (1) قِيدَ شِبْر، فقد خَلَع
__________
= وأخرجه عنه البزار بسنده في باب الإِجماع من كتاب كشف
الأستار عن زوائد البزار للهيثمي (1/88).
وأخرجه ابن حزم بسنده إلى ابن مسعود موقوفاً في كتابه
الإِحكام في أصول الأحكام (6/759) قال: (فذكر كلاماً -يعنى
ابن مسعود- فيه: "فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله
حسن").
وقد قال ابن حزم قبل إيراد السند: (وهذا لا نعلمه بسند إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجه أصلاً، وأما الذى
لا شك فيه فإنه لا يوجد البتة في مسند صحيح، وإنما نعرفه
عن ابن مسعود).
قال الزيلعى في نصب الراية (4/133): (قلت: غريب مرفوعاً،
ولم أجده إلا موقوفاً على ابن مسعود، وله طرق) ثم ذكر بعد
ذلك تلك الطرق.
وقال الهيثمى في مجمع الزوائد (1/177-178) (رواه أحمد
والبزار والطبراني في الكبير، ورجاله موثقون).
وقال السخاوي في كتابه المقاصد الحسنة ص (367): (وهو موقوف
حسن).
وقال العلائي - فيما نقله عنه السيوطي في الأشباه والنظائر
ص (99) وابن نجيم في الأشباه والنظائر أيضاً ص (93): (لم
أجده مرفوعاً في شىء من كتب الحديث أصلاً، ولا بسند ضعيف
بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد
الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- موقوفاً عليه).
وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5/3601)
(إسناده صحيح، وهو موقوف على ابن مسعود).
والحديث روي مرفوعاً من حديث أنس -رضى الله عنه- نقل
العجلوني في كتابه كشف الخفاء (2/263) رقم (2214) عن ابن
عبد الهادى قوله: (روى مرفوعاً من حديث أنس بإسناد ساقط
والأصح: وقفه على ابن مسعود).
والخلاصة: أن الحديث لا يثبت رفعه إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - وإنما هو موقوف على ابن مسعود - رضي الله عنه
- بسند صحيح.
(1) الجماعة: أهل الفقه والعلم والحديث، كما يقول الترمذي
في سننه (4/467). والمراد بهم: أهل الحل والعقد، فلا يجوز
الخروج عما أجمعوا عليه في الإِمامة وغيرها. =
(4/1077)
رِبْقة (1)
الإِسلام من عُنقِه) (2).
__________
= ويقول الشيخ عبد الرزاق عفيفي في تعليقه على كتاب
الإحكام للآمدى (1/219): (المراد بالجماعة: أهل الحق
المتبعون للكتاب والسنة، قلوا أو كثروا).
والمراد بالمفارقة هنا - كما يقول ابن أبي جمرة فيما نقله
صاحب الفتح (13/7): (السعي في حل عقد البيعة التي حصلت
لذلك الأمير، ولو بأدني شىء).
(1) الربقة -كما يقول ابن الأثير في كتابه النهاية (2/62)
مادة (ربق)-: (في الأصل: عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة
أو يدها تمسكها فاستعارها للإسلام، يعنى: ما يشد به المسلم
نفسه من عرى الإسلام أى: حدوده وأحكامه وأوامره
ونواهيه...).
(2) هذا الحديث رواه أبو ذر - رضي الله عنه - مرفوعاً،
أخرجه عنه أبو داود في سننه في كتاب السنة، باب قتل
الخوارج (2/542) بمثل لفظ المؤلف، وسكت عنه.
ْوأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (5/180)، كما أخرجه عن
الحارث الأشعرى - رضي الله عنه - مرفوعاً (4/130، 202) من
حديث طويل، وفيه (.. فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد
خلع ربقة الإِسلام من عنقه إلا أن يرجع..).
كما أخرجه مرفوعاً عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه
وسلم - أراه أبا مالك الأشعرى (5/344). ولفظ الشاهد قريب
من اللفظ السابق.
وأخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب الصوم (1/421-422) جزء
من حديث عن الحارث الأشعري - رضي الله عنه - ولفظه كلفظ
الإمام أحمد السابق ذكره، ثم عقب عليه بقوله: (هذا حديث
صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) ووافقه الذهبى على ذلك.
والحاصل: أن الحديث الذي رواه أبو ذر، وأخرجه عنه أبو داود
وأحمد -كما سبق بيانه- في سنده "خالد بن وهبان" وهو مجهول،
ولكن الحديث صحيح للشواهد الكثيرة، منها: عن الحارث
الأشعري فيما أخرجه الإمام أحمد والحاكم كما سبق بيانه
أيضاً.
انظر: تعليق الشيخ الألباني على مشكاة المصابيح (1/65)،
وفتح الباري (13/7).
(4/1078)
(ومن فَارَقَ
الجماعةَ ماتَ مِيتَةً جَاهلية) (1).
__________
(1) هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً.
أخرجه عنه البخاري في كتاب الفتن باب قول النبي - صلى الله
عليه وسلم - سترون بعدي أموراً تنكرونها.. (9/59) ولفظه
(من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه؛ فإن من فارق
الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية).
كما أخرجه في كتاب الأحكام باب السمع والطاعة للإمام ما لم
تكن معصية (9/78).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الامارة باب وجوب ملازمة جماعة
المسلمين. (3/1475).
وأخرجه عنه الدارمى في سننه في كتاب السير باب في لزوم
الطاعة والجماعة (2/158).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (1/297).
وأخرجه النسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً في
كتاب تحريم الدم، باب التغليظ فيمن قاتل تحت راية عمية
(7/112) ضمن حديث جاء فيه (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة
فمات، مات ميتة جاهلية..).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (2/296)، (306)، (488).
ورواه عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - مرفوعاً أخرجه عنه
الإِمام أحمد في مسنده (3/445).
ورواه ابن عمر -رضى الله عنهما- مرفوعاً أخرجه عنه الإمام
أحمد في مسنده (2/133).
والتشبيه في قوله - صلى الله عليه وسلم - (مات ميتة
جاهلية) إما أن يكون مراداً أولا:
فإن كان غير مراد فيكون المعنى:
يموت موت أهل الجاهلية على ضلال، وليس له إمام مطاع، لأن
الجاهليين لايعرفون ذلك، وعلى هذا يموت عاصياً لا كافراً.
وإن كان التشبيه مراداً، فيكون المعنى: =
(4/1079)
وروي: (عليكم
بالسَّواد (1) الأعظم) (2).
وروي: (ثلاث لا يغل (3) عليهن (4) قلب مؤمن(5): إخلاص
العمل لله والمناصحة لولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين)
(6).
__________
أنه يموت مثل موت الجاهلي، وإن لم يكن جاهلياً.
أو أن ذلك ورد مورد الزجر، وظاهره غير مراد.
انتهى ملخصاً من فتح الباري (13/7).
(1) المراد بالسواد الأعظم - كما يقول ابن الأثير في كتابه
النهاية (2/191) مادة "سود": (جملة الناس ومعظمهم الذين
يجتمعون على طاعة السلطان وسلوك النهج المستقيم).
(2) هذا جزء من حديث رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه -
مرفوعاً ضمن حديث: (لا تجتمع أمتي على ضلالة....) وقد مضى
تخريجه قريباً.
(3) كلمة "يغل" وردت بثلاث روايات:
الأولى: "يُغِلّ" بضم الياء، من الإغلال، الذي هو الخيانة
في كل شيء.
الثانية: "يَغِلّ" بفتح الياء، من الغل، وهو الحقد.
الثالثة: "يَغِلُ" بفتح الياء والتخفيف من الوغول، وهو
الدخول في الشيء.
والمعنى: أن هذه الخصال الثلاث، يستصلح بها قلب العبد
المؤمن، فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة.
انظر: النهاية في غريب الحديث (3/168) مادة "غلل".
في الأصل: (علهم)، وهو خطأ.
(5) عند الامام أحمد من رواية جبير بن مطعم (قلب المؤمن)،
وعند الترمذي من رواية ابن مسعود (قلب مسلم) وهو كذلك عند
أحمد من رواية زيد بن ثابت، وعند أحمد من رواية أنس (صدر
مسلم) والمعنى لا يختلف.
(6) هذا جزء من حديث رواه ابن مسعود - رضي الله عنه -
مرفوعاً، أخرجه عنه الترمذي في سننه في كتاب العلم، باب ما
جاء في الحث على تبليغ السماع (5/34-35).
(4/1080)
وروي عن النبى
- صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الشذوذ، وقال: (مَن شَذ
(1) شَذَّ فِى النَّار) (2).
وهذا كله يدل على أن اتباع المجمعين فيما أجمعوا عليه واجب
(3).
فإن قيل: هذه أخبار آحاد فلا يجوز الاحتجاج بها في مثل
المسألة.
قيل: هذه مسألة شرعية، طريقها مثل مسائل الفروع، ليس
للمخالف فيها طريق تمكنه أن يقول: إنه موجب القطع.
وجواب آخر، وهو: أنه تواتر في المعنى من وجهين:
__________
= ورواه جبير بن مطعم -رضى الله عنه- مرفرعاًَ، أخرجه عنه
الإمام أحمد في مسنده (4/80)، ولفظه قريب من لفظ المؤلف.
وأخرجه عنه الدارمى في سننه في المقدمة باب الاقتداء
بالعلماء (1/56) بلفظ قريب من لفظ المؤلف.
وأخرجه عنه ابن ماجة في سننه في كتاب المناسك، باب الخطبة
يوم النحر (2/1015) رقم الحديث (3056).
رواه: أنس بن مالك - رضي الله عنه - مرفرعاً، أخرجه عنه
الإمام أحمد في مسنده (3/225).
ورواه زيد بن ثابت - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه
الإمام أحمد في مسنده (5/183).
(1) الشُّذُوذُ معناه: الانفراد والمفارقة، وشَذَّ: ندر عن
الجمهور والمراد هنا: مفارقة جماعة المسلمين.
انظر: معجم مقاييس اللغة (3/80)، والقاموس (1/354) مادة
(شذّ).
(2) هذا جزء من حديث رواه ابن عمر -رضى الله عنهما-
مرفوعاً سبق تخريجه بلفظ: (لا تجتمعُ أمتي على ضلالة).
(3) هذا إشارة إلى وجه الاستدلال من الأحاديث التي ذكرها
المؤلف.
(4/1081)
أحدهما: أن
الألفاظ الكثيرة إذا وردت من طرق مختلفة، ورواة شتَّى، لم
يجز أن يكون جميعها كذباً، ولم يكن بد من أن يكون بعضها
صحيحاً.
ألا ترى أن الجمع الكثير إذا أخبروا بإسلامهم، وجب أن يكون
فيهم صادق (1) قطعاً.
ولهذا نقول: لا يجوز أن يقال: جميع ما روي عن النبى - صلى
الله عليه وسلم - يجوز أن يكون كذباً موضوعاً.
ولهذا أثبتنا كثيراً من معجزات رسول الله، وأثبتنا وجوب
العمل بخبر الواحد بما روي عن الصحابة -رضى الله عنهم- من
العمل به في قضايا مختلفة.
والثاني: أن هذا الخبر تلقته الأمة بالقبول، ولم ينقل عن
أحد أنه رده، ولهذا نقول: إن قول النبى - صلى الله عليه
وسلم - (نحن معشر الأنبياء لا نُورَث، ما تركنا صدقة) (2)،
لما اتفقوا على العمل به، دل على أنه صحيح عندهم.
__________
(1) في الأصل: (صادقاً) وهو خطأ؛ لأن حقه الرفع اسم
"يكون".
(2) هذا الحديث روته عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً. أخرجه
عنها البخاري في صحيحه في كتاب الفرائض باب قول النبي -
صلى الله عليه وسلم - (لا نورث، ما تركنا صدقة)
(8/185-187).
وأخرجه عنها مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد والسير باب قول
النبى - صلى الله عليه وسلم - (لا نورث).. الحديث
(3/379-1383).
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الخراج، باب في صفايا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - من الأموال (2/126- 128).
وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة -رضى الله عنه- مرفوعاً، في
كتاب السير باب ما جاء في تركة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم- (4/157-158).
راجع أيضاً: تيسير الوصول إلى جامع الأصول (3/148-149)
والمنتقى من أحاديث الأحكام ص (524).
(4/1082)
فإن قيل: نحمل
قوله: (لا تجتمع أمتي على الخَطَأ) (1) يعنى: على كفر.
قيل: هذا محمول على الأمرين جميعاً (2).
وعلى أن الخطأ إنما يعبر به عن المعاصى والآثام، دون
الكفر.
فإن قيل: قوله: (لا تجتمعُ على ضلالة) معناه: لا يجمعهم
الله على الضلال.
قيل: الخبر عام، لا يجمعهم الله ولا يجتمعون.
فإن [161/أ] قيل: قوله: (لا تجتمع أمتي)، وإن كان لفظه لفظ
الخبر، فالمراد به: النهي، وتقديره: لا تجتمعوا على ضلال؛
لأنه لو كان خبراً لوقع بخلاف مخبره؛ لأنا نجد في الأمة
اجتماعها على الضلال.
قيل: قوله: (لا تجتمع على ضلالة) (3) خبر، وقوله: "يقع
بخلاف مخبره" غلط؛ لأنا لم نجد اجتماع الأمة على ضلالة،
وإنما يوجد بعضهم، والخبر اقتضى اجتماعهم.
فإن قيل: فهذه الأخبار يعارضها ما روي عن النبى - صلى الله
عليه وسلم - بأن (لا تقوم الساعة إلا على أشرار(4) الناس)
(5)، وكيف يكون اجتماع الناس حجة؟
__________
(1) الرواية التي ذكرها المؤلف فيما سبق: (لا تجتمع أمتي
على خطأ) وهى المناسبة لأن يذكر بعدها قول المعترض: (يعنى:
على كفر).
(2) لم يذكر إلا أمراً واحداً وهو: "الكفر" ولكن الجواب عن
الاعتراض فيما بعد يوضح الأمرين.
(3) في الأصل: (ضلال)، والحديث: (لا تجتمع على ضلالة).
(4) هكذا في الأصل: (أشرار)، وفي القاموس مادة "شر" (2/57)
: وأشَر قليلة أو رديئة. وفي هامش الأصل، ومصادر التخرج
الآتي ذكرها: (شرار) بدون الألف المهموزة.
(5) هذا الحديث رواه ابن مسعود -رضى الله عنه- مرفوعاً.
أخرجه عنه مسلم في صحيحه في كتاب الفتن، باب قرب الساعة
(4/2268).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (1/435). =
(4/1083)
قيل: أراد به
الغالب، فهم الشرار، وهذا سائغ إطلاقه.
وأيضاً: فإنه لا خلاف أن نصب الزكاة والمقادير الواجبة
فيها ثابتة مقطوع بها، في خمس من [الإبل] شاة، وفي عشرين
[ديناراً] نصف دينار، وفي خمس وعشرين من الإبل بنتُ مخاض
(1)، وفي ثلاثين من البقر تبيع" (2)، وأربعين مسنة (3)،
و[في]، أربعين (4) [شاةٌ]، شاةٌ، وفي مائتين [من الدراهم]،
خمسةُ دراهم (5).
وكذلك أركان الصلاة مقطوع بها، ومعلوم: أنه ما ثبت فيها
خبر تواتر، وإنما نقل فيها أخبار آحاد: ابن عمر وأنس
وغيرهما، عدد معروف، فلما اتفقوا عليها، وقطعوا على
ثبوتها، علمنا أن ثبوتها قطعاً من حيث الإِجماع، لا من حيث
أخبار
__________
= ورواه علباء السلمي - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه
الإمام أحمد في مسنده (3/499) ولفظه (لا تقوم الساعة إلا
على حثالة الناس).
(1) المَخَاضُ: وجع الولادة، وهو الطَّلْق أيضاً، وبنت
المخاض: ما استكملت سنة، ودخلت في الثانية، والكلام على
تقدير محذوف، أي: بنت ناقة مخاض، ولا يشترط مخاض أمها.
انظر: تهذيب اللغة للأزهرى (7/121) والمطْلع على أبواب
المقْنِع للبعلي ص (123).
(2) التبيع من البقر: ماله سنة، وسمي بذلك لأنه يتبع أمه،
والأنثى: تبيعة.
انظر: تهذيب اللغة (2/283)، والمطلع على أبواب المقنع
(125).
(3) المسنة من البقر: مالها سنتان ودخلت في الثالثة، وهي
الثنية؛ لأن البقرة تثني في السنة الثالثة.
انظر: تهذيب اللغة (12/299)، والمطلع على أبواب المقنع ص
(125).
(4) في الأصل: (أربعون).
(5) كان الأولى أن يرتب المؤلف هذه المقادير، فيأتي بمقدار
الذهب والفضة، ثم يأتي بمقدار الزكاة في الأنعام.
(4/1084)
الآحاد، بل من
ناحية أن الأمة تلقتها بالقبول، فصارت الأخبار فيها
كالمتواترة.
واحتج بعضهم فيها بطريق عقلي، فقال: كان سائر الأمم إذا
أتفقت على باطل، وأجمعت على تغيير وتبديل، بعث الله إليهم
نبياً، فردهم إلى الحق والصواب، ونبينا - صلى الله عليه
وسلم - آخر الأنبياء، ولا نبي بعده، فجعلت أمتُه معصومةٍ،
لتكون عصمتُها عوضاً عن بعثة النبي.
واحتج المخالف:
بقوله: (وَنَزَّلنَا عَلَيْكَ (1) الكِتَابَ تِبْيَاناً
لِّكُل شَىْء (2)) ثبت أنا لا نفتقر معه إلى غيره.
وقال: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيْهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ
إلَى اللهِ) (3) يبين أن لا حكم لغيره.
وقال تعالى: (فَإِن تَنَازعْتُم فِى شَىْءٍ فَرُدوُّه إلى
اللهِ وَالرسُولِ) (4).
وأشباه هذه الظواهر.
والجواب: عن قوله: (تِبْيَاناً لِّكُل شَىْءٍ) فهكذا نقول،
فقد بين الله تعالى عن الإِجماع بقوله: (وَمنْ يُشَاقِقِ
الرسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيل الْمُؤْمِنينَ) (5).
وأما قوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فيهِ مِن شَىْءٍ
فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) وقوله: (فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ
وَالرَّسُولِ) معناه: إلى كتاب الله، وكذا نقول، وفي
الكتاب والسنة أن الإِجماع حجة.
__________
(1) في الأصل: (وأنزلنا إليك) وهو خطأ.
(2) آية (89) من سورة النحل.
(3) آية (10) من سورة الشورى.
(4) آية (59) من سورة النساء.
(5) آية (115) من سورة النساء.
(4/1085)
واحتج: بما روى
عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: (بم تحكم إذا
عرض لك قضاء؟ فقال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد في كتاب
الله قال: بسنة رسول الله [161/ب] قال: فإن لم تجد في سنة
رسولِ الله، قال: أجتهد رأيى، ولا آلو، فقال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله
لما يرضاه) (1) فذكر الأدلة، ولم يذكر فيها الإجماع.
والجواب: أنه لا حجة فيه؛ لأن الإجماع إنما يعتبر بعد
النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يجوز أن ينعقد
الإجماع في حياته دونه، وقوله بانفراده عنه لا يفتقر إلى
قول غيره، فلم يكن في عصره اعتبار بالإجماع.
واحتج بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في
خُطبة الوَداع: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضربُ بعضُكم رقابَ
بعض) (2).
__________
(1) تكملة الحديث: (لما يرضى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -).
وفي رواية لأحمد (5/236): (الحمد لله الذى وفق رسول رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -).
وفي رواية له (5/242): (الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - لما يرضى رسوله)، وقد مضى تخريجه
(2/566).
(2) هذا جزء من حديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما-
مرفوعاً أخرجه عنه البخاري في كتاب الحج، باب الخطبة أيام
منى (2/205).
وأخرجه عنه الترمذى في كتاب الفتن، باب: ما جاء لا ترجعوا
بعدي كفاراً يَضربُ بعضُكم رقابَ بعض (6/486)،
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (1/230).
وأخرجه مسلم عن أبي بكرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، في
كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال
(3/1305).
وأخرجه أبو داود عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعاً، في
كتاب =
(4/1086)
وروي عنه أنه
قال: (لتركبنَّ سَنَن (1) من كان قبلكم، حَذْوَ القذة (2)
بالقُذَّة) (3). وهذا يدل على أن ذلك جائز على الأمة.
__________
= السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصه (2/523-524).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب تحريم الدم، باب تحريم القتل
(7/115).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب لا ترجعوا بعدي
كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض (2/1300).
وأخرجه الدارمي في سننه عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعاً،
في كتاب المناسك، باب حرمة المسلم (1/395).
(1) السنة الطريقة:
انظر: النهاية، والقاموس مادة (سن).
(2) القُذَّة: ريش السهم، والمعنى: لتسلكن طريقة من كان
قبلكم في كل شيء، كالقذة تقدر على قدر أختها ثم تقطع.
أفاده ابن الأثير في نهايته وزاد: (يضرب مثلاً للشيئين
يستويان ولا يتفاوتان):
انظر النهاية واللسان مادة (قذذ).
(3) هذا الحديث لم أجده بهذا اللفظ إلا في النهاية واللسان
مادة (قذذ) وقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/125) عن
شداد بن أوس - رضي الله عنه - بلفظ: (ليحملن شرار هذه
الأمة على سنن الذين خَلَوْا من قبلهم أهل الكتاب حذو
القذة بالقذة).
وقد أخرجه الطبراني، حكى ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد
(7/261) وقال: (ورجاله مختلف فيهم).
ورواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً أخرجه عنه
الحاكم في مستدركه في كتاب الإيمان، باب اتباع هذه الأمة
سنن من قبلهم (1/37) ولفظه (لتتبعن سنن من قبلكم باعاً
فباعاً، وذراعاً فذراعاً، وشبراً فشبراً، حتى لو دخلوا
جُحر
ضَب لدخلتموه معهم، قال: قيل: يا رسول الله اليهود
والنصارى؟ قال: فمن إذاً؟)
ثم قال الحاكم بعد ذلك:
(صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذا اللفظ) ووافقه الذهبى.
=
(4/1087)
والجواب: أن
هذا خطاب لبعض الأمة، وقوله: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)
خاص في حال الإِجماع، والخاص يجب أن يُقْضَى به على العام.
واحتج: بأن كل واحد من الأمة يجوز عليه الخطأ بانفراده،
فإذا اجتمع مع غيره كان بمنزلة المنفرد؛ لأنه مجتهد برأيه
المعرض للخطأ.
والجواب أن عصمة الأمة في حال الاجتماع أثبتناه بالشرع دون
العقل، ولا يمتنع أن يعلم الله تعالى: أنهم لا يختارون
الخطأ في حالة الاجتماع، ولا يقع ذلك منهم، فإذا أخبر بذلك
وجب المصير إليه والعمل به.
وجواب آخر، وهو: أن هذا باطل بأخبار التواتر، فإنها توجب
العلم عند كثرة المجتهدين، وإن كان كل واحد منهم لو انفرد
لم يوجب خبره العلم، وهكذا
__________
= وأخرجه البزار عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال الهيثمى
في مجمع الزوائد في الموضع السابق - بعد أن ذكره: (ورجاله
ثقات).
وذكر الهيثمي: أن الطبراني رواه عن ابن مسعود - رضي الله
عنه - بلفظ: (أنتم أشبه الأم ببني إسرائيل، لتركبن طريقهم
حَذوَ القُذة بالقذة، حتى لا يكون فيهم شيء إلا كان فيكم
مثله، حتى إن القوم لتمر عليهم المرأة، فيقوم إليها بعضهم،
فيجامعها، ثم يرجع إلى أصحابه يضحك لهم ويضحكون له) ثم
قالَ الهيثمي: (وفيه من لم أعرفه).
قلت: ومعنى الحديث صحيح، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي
سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً في كتاب العلم، باب:
اتباع سنن اليهود والنصارى (4/2054) ولفظه: (لتتبعن سنن
الذين من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا
جُحر ضَب لاتبعتوهم قلنا: يا رسول الله: أليهود والنصارى؟
قال: فمن؟)
راجع في هذا الحديث أيضاً: كتاب السنة لأبي بكر عمرو بن
أبي العاص الشيباني (1/36) وفيض القدير (5/261) وصحيح
الجامع الصغير للألباني (5/13).
(4/1088)
الجماعة تحمل
الحجر العظيم، وإن كان الواحد لو انفرد به لم يطق حمله.
وكذلك الطعام إذا كثر أشبع، والماء إذا كثر روى، وإن كان
اليسير منهما لا يشبع ولا يروي.
واحتج: بأن الآية لا تحصر، ولا يمكن سماع أقاويلهم، وما لا
سبيل إلى معرفته، فلا يجوز أن يجعله صاحب الشريعة دليلاً
على شريعته.
والجواب: أن الإِجماع ينعقد عندنا باتفاق العلماء، وإذا
اتفقوا جملة كانت العامة تابعة لهم.
ويمكن معرفة اتفاق أهل العلم؛ لأن من اشتغل بالعلم حتى صار
من أهل الاجتهاد فيه، لم يخف أمره على أهل بلده وجيرانه،
ولم يخف حضوره وغيبته، ويمكن الإِمام أن يبعث إلى البلاد،
ويتعرف أقاويل الممتنع.
فإن قيل: يجوز أن يكون قد أسر في الغزو رجل من أهل العلم،
وهو في مطمورة (1) المشركين.
قيل: لا يخفى ذلك، وإذا جرى ذلك لم ينعقد الاجماع إلا
بالوقوف على مذهبه.
وأجاب بعضهم عن هذا: بأنا نسمع أقاويل الحاضرين [162/أ]،
والخبر عن الغائبين.
__________
(1) المطمورة: حفرة تحفر تحت الأرض. قال ابن دريد: بنى
فلان مطمورة إذا بنى بيتاً في الأرض.
والمعنى: أن العالم يجوز أن يكون مأسوراً في مكان خفي، لا
يمكن الوصول إليه ليؤخذ رأيه في القضية المطروحة.
انظر: المصباح المنير مادة (طمر).
(4/1089)
مسألة
إجماع أهل كل عصر حجة، ولا يجوز إجماعهم على الخطأ (1).
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي، وقد
وصف أخذ العلم فقال: "ينظر ما كان عن رسوله - صلى الله
عليه وسلم - فإن لم يكن، فعن أصحابه، فإن لم يكن فعن
التابعين".
وقد عَلَّق القول في رواية أبي داود فقال: "الاتباع: أن
تتبع ما جاء عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه،
وهو بعد في التابعين مخير" (2).
وهذا محمول من كلامه على آحاد التابعين، لا على جماعتهم.
وقد بين هذا في رواية المروذي فقال: "إذا جاءك الشىء عن
الرجل من التابعين، لا يوجد فيه عن النبي، لا يلزم الأخذ
به" (3).
وبهذا قال جماعة الفقهاء (4) والمتكلمين (5).
__________
(1) راجع في هذه المسألة: أصول الجصاص الورقة (218/ب)
والتمهد (3/224)، والمسودة ص (317) وروضة الناظر مع شرحها
نزهة الخاطر (1/372) وشرح الكوكب المنير (2/214).
(2) هذه الرواية موجودة في "مسائل الإمام أحمد" التي رواها
أبو داود (276).
(3) هذه الرواية نقلها أبو داود عن الإمام أحمد في
"مسائله" ص (276) والرواية هكذا في نسخة الظاهرية، أما
نسخة المدينة ففيها: (.... حدثنا أبو داود، قال سمعت أحمد
سئل إذا جاء الشىء من التابعين لا يوجد فيه عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - يلزم الرجل أن يأخذ به؟ قال: لا، لا يكاد
الشيء، إلا ويوجد فيه عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم
-...) وعلى هذه الرواية يكون تأويل المؤلف لكلام الإمام
أحمد لا دليل عليه.
(4) انظر: أصول الجصاص الورقة (218/ب)، وأصول السرخسى
(1/313).
(5) انظر: البرهان لإمام الحرمين ص (720)، والتبصرة
للشيرازي ص (359) والمعتمد لأبي الحسين البصري (1/483).
(4/1090)
وقال أهل
الظاهر: داود وأصحابه: الإجماع: إجماع الصحابة دون غيرهم
(1).
ويدل عليه أيضاً: قوله: (لا تجتمع متي على ضلالة) و(على
الخطأ).
وقوله (ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه
المسلمون قبيحاً، فهو عند الله قبيح).
وقوله: (من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية، ومن فارق
الجماعة قيدَ شبر خلع رِبْقة الإِسلام من عنقه).
ونحو ذلك من الأخبار التى تقدم ذكرها، وهو عام في الصحابة.
[وفي غيرهم].
فإن قيل: الأمة عبارة عن الجماعة، وحقيقة ذلك الموجود حال
(2) حصول هذا القول منه (3) دون عصر من يوجد.
قيل: هو حقيقة في الكل.
ولأن غير الصحابة أكثر عدداً من الصحابة، ومنهم من أهل
[162/ب] الاجتهاد أكثر منهم، فإذا وجب الرجوع إلى قول
الصحابة مع قلتهم، فالرجوع إلى قول الأكثر أولى.
واحتج المخالف:
__________
= انظر في ذلك: الإحكام لابن حزم ص (506) وما بعدها.
وقول الظاهرية هذا ذكر أبو الخطاب في كتاب التمهيد (3/256)
أن الإمام أحمد أومأ إليه في رواية أبي داود: (الاتباع أن
يتبع الرجل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن
أصحابه، وهو بعد في التابعين مخير).
وقد حمل المؤلف هذه الرواية على آحاد التابعين، لا على
جماعتهم كما سبق بيانه.
(2) في الأصل: (من حال) و"من" هذه زائدة.
(3) الضمير راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(4/1091)
بقوله: (فإن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ
وَالرسُولِ) (1).
والجواب: أن معناه: فردوه إلى أدلة الله ورسوله، والإجماع
من أدلته، فقد رددناه إليه.
واحتج بقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ أخْرِجَت
لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
المُنكَرِ) (2) وهذا خطاب مواجهة للصحابة، فلا يدخل فيهم
غيرهم (3).
وكذلك قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطاً)
(4).
والجواب: أن هذا عام في الصحابة وغيرهم من الوجه الذي
بينا.
وأن ذلك جار مجرى قوله: (أقِيمُوا الصَّلاَةَ) (5)،
و(حُجُّوا) (6) و(جَاهِدُوا)، (7)
__________
(1) آية (59) من سورة النساء.
ووجه الاستدلال من الآية: أن القول بالإجماع ليس رداً إلى
الله ورسوله.
(2) آية (110) من سورة آل عمران.
(3) انظر المعتمد لأبي الحسين البصري (1/484).
(4) آية (143) من سورة البقرة.
ووجه الاستدلال من هذه الآية مثل وجه الاستدلال من الآية
التي قبلها، ولو ذكر المؤلف الآيتين ثم جاء بوجه الاستدلال
منهما بعد ذلك لكان أولى، وهو ما فعله أبو الحسين البصرى
في المرجع السابق.
(5) آية (43) من سورة البقرة.
(6) هذا جزء من حديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -
مرفوعاً. أخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة
في العمر (2/975) ولفظه:
(خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أيها الناس
قد فرض الله عليكم الحج فحجُّوا...) الحديث.
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (2/508).
وأخرجه عنه النسائي في كتاب المناسك، باب وجوب الحج
(5/83).
(7) آية (35) من سورة المائدة.
(4/1092)
وأنه على
العموم.
واحتج: بأنا قد علمنا من ناحية العقول: أنه لا فَصْل بين
هذه الأمة وبين من تقدمها في جواز الخطأ وتعمد الباطل في
الأخبار: بالكذب فيها (1)، وإنما انفصلت الصحابة ممن
تقدمها من الأمم لورود الخبر بذلك، وبقي غيرهم على موجب
الدليل في المنع من قولهم.
والجواب: أن قولك: لا فرق بين هذه الأمة وبين من تقدمها
غلط؛ لأن من تقدمها إذا كذبت في الإِخبار عن نبيها وأخطأت
فيما يتعلق بالدين، علم خطؤها وكذبها من جهة من يرد عليها
من بعد نبيها من الأنبياء، وليس كذلك أمة نبينا؛ لأنها إذا
ضَلّت وأخطأت لم يرد من بعد من يعرف من جهته ضلالتها، فحرس
الله تعالى من أجل ذلك هذه الأمة من الضلالة والكذب والخطأ
في الدين.
وجواب آخر، وهو: أن كل دليل ورد بعصمة جميع الصحابة، فهو
دليل على أعصمة، غيرهم، وعام فيهم وفي غيرهم.
واحتج: بأن الصحابة لها مزية كل غيرهم؛ لأن النبي - صلى
الله عليه وسلم - ندب إلى اتباعهم بقوله: (أصحَابِي
كالنُّجُوم، بأيُّهم اقتديتم اهتَديْتُم) (2).
__________
(1) في الأصل: (منها).
(2) هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -
مرفوعاً.
أخرجه عنه ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله
(2/111) ثم قال (هذا إسناد لا تقوم به حجة؛ لأن الحارث بن
غصين مجهول).
وأخرجه عنه ابن حزم في كتابه الإحكام ص (810) ثم قال بعد
ذلك:
(أبو سفيان -أحد رواة الحديث- ضعيف، والحارث بن غصين -أحد
رواة الحديث- هو أبو وهب الثقفى، وسلام بن سليمان -أحد
رواة الحديث أيضاً- يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا
شك، فهذه رواية ساقطة من طريق ضعف إسنادها). =
(4/1093)
ولأنهم مقطوع
على عدالتهم، وشاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل.
والجواب: أنهم وإن خُصُّوا بهذه المزية، فلم يكن قولهم حجة
لهذه المعاني، وإنما كان لأجل أنهم من أهل الاجتهاد، وهذا
موجود في غيرهم كوجوده فيهم.
__________
= ورواه أيضاً ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعاً. أخرجه
عنه عبد بن حميد في مسنده وابن عدي في الكامل من رواية
حمزة بن أبي حمزة عن نافع عن ابن عمر بلفظ: (بأيهم أخذتم)
بدل قوله: (بأيهم اقتديتم) قال الحافظ العراقي بعد ذلك في
كتابه تخرج أحاديث مختصر المنهاج ص (299) مجلة البحث
العلمي والتراث الإسلامي:
(وإسناده ضعيف من أجل: حمزة، فقد اتهم بالكذب).
ثم ذكر الحافظ العراقي بعد ذلك: (أن البيهقي رواه في
المدخل من حديث ابن عمر وابن عباس بنحوه من وجه آخر
مرسلاً، وقال: متنه مشهور وأسانيده ضعيفة، ولم يثبت في
إسناد).
قال ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله: (2/111)
:
(قد روى أبو شهاب الحناط عن حمزة الجذري عن نافع عن ابن
عمر)
وذكر الحديث، ثم عقب عليه بقوله: (وهذا إسناد لا يصح، ولا
يرويه عن نافع من يحتج به).
وأخرجه البزار من رواية عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه
عن ابن المسيب عن ابن عمر وقال: (منكر لا يصح). ذكر ذلك
العراقي في المرجع السابق.
ونقل ابن عبد البر في كتابه السابق ذكره عن البزار قوله:
(وهذا الكلام لا يصح عن النبى - صلى الله عليه وسلم - رواه
عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن
عمر، وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم بن زيد؛
لأن أهل العلم سكتوا عن الرواية لحديثه، والكلام أيضاً
منكر عن النبى - صلى الله عليه وسلم -...).
وبالجملة فالحديث لا يصح بوجه من الوجوه.
ولمزيد من الفائدة ارجع إلى: كتاب سلسلة الأحاديث الضعيفة
للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ص (78)، وهامش كتاب تخريج
أحاديث مختصر المنهاج =
(4/1094)
مسألة
انقراض العصر معتبر في صحة الإجماع واستقراره (1).
فإذا أجمعت الصحابة على حكم من الأحكام، ثم رجع بعضهم أو
جميعهم انحل الإجماع.
وإن أدرك بعض التابعين عصرهم -وهو من أهل الاجتهاد- اعتد
بخلافه، إذا قلنا: إنه يعتد بخلافه معهم.
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية عبد الله فقال:
"الحجة على من زعم أنه إذا [163/أ]، كان أمراً مجمعاً
عليه، ثم افترقوا، ما نقف على ما أجمعوا عليه حتى يكون
إجماعاً. إن أم الولد كان حكمها حكم الأمة بإجماع، ثم
أعتقهن عمر، وخالفه علي بعد موته، ورأى (2) أن تُسْتَرَق
(3). فكان الإجماع في الأصل: أنها أَمة.
__________
= للحافظ العراقي لمحققه الأستاذ صبحى السامرائي (299).
وعلى فرض صحة الحديث، فقد أوله المزني بقوله -فيما نقله عن
ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم (2/110)-: (... إن
صح هذا الخبر فمعناه فيما نقلوا عنه وشهدوا به عليهم،
فكلهم ثقة مؤتمن على ما جاء به لا يجوز عندي غير هذا، وأما
ما قالوا فيه برأيهم، فلو كان عند أنفسهم كذلك ما خطأ
بعضهم بعضاً، ولا أنكر بعضهم على بعض، ولا رجع منهم أحد
إلى قول صاحبه، فتدبَّر).
(1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (227)/أ)
والتمهيد (3/346) والمسودة ص (320) وروضة الناظر مع شرحها
نزهة الخاطر (2/366) وشرح الكوكب المنير (2/246). والمختصر
في أصول الفقه لابن اللحام ص (78).
(2) في الأصل: (أبي) وهو خطأ، لدلالة السياق، ولما يأتي في
مراجع تخرج الأثر.
(3) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه باب بيع أمهات
الأولاد (7/291-292) بإسناده عن عبيدة السلماني قال: (سمعت
علياً يقول: اجتمع رأيي ورأي =
(4/1095)
وحد الخمر: ضرب
أبو بكر أربعين، ثم ضرب عمر ثمانين، وضرب علي في خلافة
عثمان أربعين، فقال: ضرب أبو بكر أربعين، وكملها عمر
ثمانين، وكل سنة (1).
والحجة عليه في الإجماع في الضرب أربعين، ثم عمر خالفه،
فزاد أربعين، ثم ضرب على أربعين".
وظاهر هذا: أنه اعتبر انقراض العصر؛ لأنه اعتد بخلاف على
بعد عمر في أم الولد. وكذلك اعتد بخلاف عمر بعد أبي بكر في
حد الخمر.
__________
= عمر في أمهات الأولاد أن لا يُبعن، قال: ثم رأيت بعدُ أن
يُبعن. قال عبيدة: فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب
إليّ من رأيك وحدك في الفرقة أو قال: في الفتنة- قال فضحك
علي).
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب البيوع والأقضية،
باب في بيع أمهات الأولاد (6/436-437).
وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب عتق أمهات الأولاد،
باب الخلاف في أمهات الأولاد (10/348).
(1) هذا إشارة إلى الحديث الذى رواه حُضَيْن بن المنذر،
أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحدود، باب حد الخمر
(3/1331-1332) وفيه قصة الوليد بن عقبة لما شرب الخمر،
وأراد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إقامة الحد عليه،
فقال: لعلي - رضي الله عنه -: قم فاجلده، فقال علي: قم يا
حسن فاجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارَّها، (فكأنه
وجد عليه)، فقال: يا عبد الله ابن جعفر قم فاجلده، فجلده،
وعليٌ يعد، حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبى
صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر
ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي.
(4/1096)
وذهب المتكلمون
من المعتزلة (1) والأشعرية (2) وأصحاب أبي حنيفة (3) -فيما
حكاه أبو سفيان- إلى أن انقراض العصر غير معتبر في صحة
الإجماع.
واختلف أصحاب الشافعي:
فمنهم من قال مثل قولنا (4).
ومنهم من قال مثل قولهم (5).
ومنهم من قال: إن كان الإجماع مطلقاً لم يعتبر انقراض
العصر عليه، وإن كان بشرط، وهو: إن قالوا: هذا قولنا،
ويجوز أن يكون الحق في غيره، فإذا وضح
__________
(1) انظر: "المعتمد" لأبي الحسين البصرى (2/502) ولو عبر
المؤلف ببعض المعتزلة لكان أدق؛ لأنه نقل عن أبي على
الجبائي القول باشتراطه في الإجماع السكوتي دون الإجماع
بالقول والفعل أو بأحدهما، حكى ذلك الشوكاني في كتابه
إرشاد الفحول ص (84)، وهو ما عبر به ابن أمير الحاج في
كتابه "التقرير والتحبير" (3/87) حيث عبر عن الجبائي: ببعض
المعتزلة.
(2) وبه قال القاضي أبو بكر الباقلاني، نقله عنه إمام.
الحرمين في كتابه: البرهان (1/693) ولو عبر المؤلف: ببعض
الأشعرية لكان أصوب؛ لأن بعض الأشعرية كإمام الحرمين له
تفصيل في المسألة ذكره في كتابه المذكور آنفاً (1/694).
(3) نصّ أبو بكر الجصاص الحنفي في أصوله الورقة (227/أ)
على أنه الصحيح عندهم.
وقال السرخسى الحنفي في أصوله (1/315): (وأما عندنا
فانقراض العصر ليس بشرط).
(4) وهم القلة من الشافعية، ونسبه الآمدي في كتابه الإحكام
(1/231) إلى الأستاذ أبي بكر بن فورك، ونسبه ابن السبكي في
جمع الجوامع (2/182) إلى ابن فورك وإلى سليم الرازي.
(5) وهذا عليه أكثر الشافعية، وهو المعتمد عندهم. انظر:
المستصفى (1/192)
والإحكام للآمدي (1/231) وجمع الجوامع مع شرحه للجلال
المحلي (2/181).
(4/1097)
صرنا إليه، لم
يكن إجماعاً (1).
وفائدة الخلاف: من قال: لا يعتبر انقراض العصر عليه، يقول:
لا يسوغ أن يرجع الكل عما أجمعوا عليه، وإن رجع واحد منهم
ساغ رجوعه، لكنه محجوج بقول الباقين. وإذا حدث من التابعين
من هو من أهل الاجتهاد فخالفهم لم يكن خلافه خلافاً.
ومن قال: يعتبر انقراض أهل العصر، يقول: يجوز أن يرجع الكل
عن ذلك القول إلى غيره، ويرجع الواحد منهم عن القول معهم،
فيكون خلافه خلافاً ويسوغ للتابعين مخالفتهم، فيكون خلافهم
(2) خلافاً.
والدلالة على اعتبار انقراض العصر:
قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطَاً
لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكَونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (3).
فوجه الدلالة: أنه جعلهم شهداء على غيرهم، ولم يجعلهم
شهداء على أنفسهم.
ومن قال لا يعتبر انقراض العصر لا يجوز رجوعهم عما أجمعوا
عليه، فيكون قولهم حجة على أنفسهم.
فإن قيل: ليس في الآية ما يمنع كونهم شهداء على أنفسهم،
وإنما فيها إثبات كونهم شهداء على غيرهم.
قيل: لما غاير بينهم وبين غيرهم، فجعلهم شهداء على غيرهم،
وجعل الرسول شهيداً عليهم، ثبت أن حكمهم مخالف لحكم غيرهم.
__________
(1) هذا إشارة إلى قول إمام الحرمين في هذه المسألة، حيث
قسم الإجماع إلى مقطوع به وإلى حكم مطلق أسنده المجمعون
إلى الظن بزعمهم، ولم يشترط انقراض العصر في الأول واشترطه
في الثاني على تفصيل ذكره في كتابه البرهان (1/694).
(2) في الأصل: (خلافه) وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
(3) آية (143) من سورة البقرة.
(4/1098)
فإن قيل: إذا
كانوا شهداء على غيرهم، فيجب أن يكونوا شهداء على أنفسهم.
قيل: من كان شهيداً وحجة على غيره، فليس بحجة على نفسه،
كالشاهد هو شاهد على غيره [163/ب]، ولا يكون شاهداً على
نفسه، وإنما يكون مقراً، وقول النبى حجة على غيره، وليس
حجة على نفسه.
فإن قيل: إذا كانوا شهداء على غيرهم، فيجب أن يكونوا شهداء
على أنفسهم؛ لأن الحجة لا تختص بقوم دون قوم ولا بعصر دون
عصر.
قيل: قد بينا اختصاص الحجة بجهة دون جهة.
وعلى أن الموضع الذي نجعله حجة على غيره نجعله حجة في نفسه
في الفتيا لغيره. فأما إذا رجع فليس بحجة على غيره ولا على
نفسه.
وأيضاً: ما احتج به أحمد من إجماع الصحابة، وذلك أنه روي
عن علي أنه قال: (كان رأيي مع أمير المؤمنين عمر: أن لا
تباع أمهات الأولاد، وأرى (1) الآن أن يبعن، فقال له عبيدة
السَّلْمَاني (2): رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك
وحدك) (3).
فعلىُّ أظهر الخلاف بعد الإجماع، فأقر عليه. فلو كان
انقراض العصر غير معتبر ما سَاغَ له الخلاف.
__________
(1) في الأصل (أرى أن) وحرف (أن) هنا لا معنى لها، ولذلك
حذفناها.
(2) هو عبيدة بن عمرو أبو مسلم، وقيل: أبو عمرو،
السَّلْمَاني المرادي. أسلم قبل وفاة النبى - صلى الله
عليه وسلم - ولم يره. صحب علياً وابن مسعود -رضي الله
عنهما- مات سنة (72 هـ).
له ترجمة في: الاستيعاب (3/1023) وتاريخ بغداد (11/117)
وتذكرة الحفاظ (1/50) واللباب في تهذيب الأنساب (2/127).
(3) مضى تخريج هذا الأثر ص (1095).
(4/1099)
فإن قيل: ما
خالف الإجماع؛ لأنه كان قوله وقول عمر على ذلك وحدهما،
فخالف عمر فقط.
وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: (والله ما هنَّ إلا بمنزلة
بعيرِك وشاتِك) (1).
وكان عبد الله بن الزبير: يبيح بيع أمهات الأولاد (2).
فدل على أنهم لم يجمعوا.
قيل: قول عبيدة له: (رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك
وحدك)، يدل على (3) أن الجماعة كانت مع عمر، ومعه علىٌّ،
أن لا يبعن (4).
__________
(1) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، باب بيع أمهات
الأولاد (7/290) عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار -أظنه- عن
عطاء عن ابن عباس، ثم ذكره وفيه (هي) بدل (هن) و(أوشاتك)
بحرف العطف (أو) بدل الواو.
(2) أخرج هذا عبد الرزاق في مصنفه في باب بيع أمهات
الأولاد (7/292، 293) بسندين، أحدهما عن الثوري عن عبد
الله بن دينار عن ابن عمر عن نفر من أهل العراق ذكروا ذلك
عن ابن الزبير.
وثانيهما عن عمر عن أيوب عن نافع أن رجلاً جاء لابن عمر
وذكر له ذلك عن ابن الزبير.
كما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب البيوع والأقضية،
باب بيع أمهات
الأولاد (6/437، 439) بسندين أيضاً.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب عتق أمهات الأولاد،
باب الرجل يطأ أمته بالملك فتلد له، وباب الخلاف في أمهات
الأولاد (10/343، 348).
(3) في الأصل: (عليه).
والذي يبدو لي أنه ليس هناك إجماع لأمور:
أولاً: - أن علياً قال: (كان رأي مع رأي أمير المؤمنين
عمر..) ومعلوم أن رأيهما لا يعد إجماعاً. =
(4/1100)
ويدل عليه أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال قولاً: أعتبر
انقراضه عليه؛ لأنه قد يرجع عنه، ويتركه، فإذا جاز هذا في
حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبأن يجوز في حق
المجمعين أولى.
فإن قيل: الرسول لا يرجع عما كان عليه؛ لأنه لا يتبين له
الخطأ، وإنما يرجع بأن يقول: كنت على صواب، ولكن قد نسخ
عني ذلك، وأمرت بغيره، فلهذا جاز أن يرجع عما كان عليه،
وليس كذلك المجمعون؛ لأنهم لا يرجعون عما كانوا عليه؛ لأنه
قد يبين لهم الخطأ فيما كانوا عليه.
قيل: هذا تعليل بجواز الرجوع عما كان عليه بعد صحة الجمع
بينهما فلا يضر الفرق (1).
__________
= ثانياً: - وأن جابر بن عبد الله وابن عباس وابن الزبير
قد خالفوا وقالوا بجواز بيع أمهات الأولاد.
ثالثاً: - وقول عبيدة السلماني: (فرأيك ورأي عمر في
الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك) فالمراد بالجماعة: وقت
اجتماع المسلمين في خلافة الثلاثة، لما في ذلك من الألفة
والالتئام، ورأيه في ذلك الوقت خير من رأيه وقت الفتنة
والفرقة، يؤيد هذا ما جاء في رواية عبد الرزاق (7/291-292)
عن عبيدة السلماني قال: (... أحب إليّ من رأيك وحدك في
الفرقة -أو قال في الفتنة- فضحك عليّ).
أو أن عبيدة السلماني أطلق الجماعة على الأكثر، مريداً
جماعة، وليس قول كل جماعة إجماعاً.
انظر: التمهيد لأبي الخطاب (3/353) والمحصول للرازي
(4/212) والإِحكام للآمدي (1/235).
(1) الحقيقة أن الفرق هنا ضار، يقول أبو الخطاب: في كتابه
التمهيد (3/354) (إن هذا غلط؛ لأنّ قوله عليه السلام حجة
في حياته، لا تجوز مخالفتها، وإنما يجوز ورود النسخ عليه
ما دام حياً، فأما إن مات، أين ورد النسخ؟! فأما أن يكون
قوله ليس بحجة حتى يموت -كما تقولون في الإجماع- فلا).
(4/1101)
وأيضاً: فإن كل
واحد من المجمعين إنما قال ما قاله عن دليل صحيح عنده من
قياس أو اجتهاد واستدلال، وهو يُجوِّز على نفسه الخطأ فيما
أفتى به، فإذا صح له الفساد لدليله، لزمه الرجوع عن قوله
واعتقاد غيره، فإذا لزمه الرجوع عما كان عليه لفساد دليله
عنده بطل الإِجماع.
فإن قيل: لا يسوغ رجوعه؛ لأنه كان مصيباً في القول، مخطئاً
في الدليل.
قيل: إنّما كان على الصواب في قوله؛ لأجل دليله. ألا ترى
أنه لو لم [164/أ]، يكن من أهل الأدلة والاجتهاد لم يعتدّ
بقوله، فإذا فسد عنده الدليل بطل قوله عن ذلك الدليل.
وأيضاً: فإن الصحابة إذا اختلفت على قولين، فقد أجمعت على
تسويغ الخلاف وجواز القول بكل واحد من القولين، وانعقد
الإجماع على ذلك، ثم إذا رجعت إحدى الطائفتين إلى قول
الأخرى صارت المسألة إجماعاً، وزال ما أجمعوا عليه من
تسويغ الخلاف، فلو كان الإِجماع قد انعقد بنفسه من غير
اعتبار انقراض العصر، لما جاز رجوعهم عما أجمعوا عليه من
تسويغ الخلاف.
وهذه طريقة مفيدة.
فإن قيل: إنما جاز الإجماع بعد الخلاف؛ لأن التابعين لو
أجمعوا على أحد القولين صارت المسألة إجماعاً.
قيل: لا يصير إجماعاً عندنا.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبيل الْمُؤْمِنِينَ)
(1) ولم يشترط انقراض العصر.
وقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: (لا تَجْتمعُ أمَّتِي
عَلَى ضَلاَلَة) و(لا تجتمعُ عَلَى خطأ).
والجواب عن قوله: (وَيَتَّبِعْ غيْرَ سَبِيلِ
الْمُومِنِينَ) فهو: أنه إذا رجع واحد
__________
(1) آية (115) من سورة النساء.
(4/1102)
منهم صار سبيل
بعض المؤمنين.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجتمعُ أمَّتِي
عَلَى خَطَأ) فلا نسلم أن الإجماع يستقر حكمه ويلزم إلا
بعد انقراض العصر، فلا يتناوله الاسم.
وليس الاعتبار بالإجماع اللّغوي، الذي طريقه الاجتماع،
وإنما الاعتبار بالإجماع الشرعي، الذي هو: القطع والعزيمة.
وهذا لا يكون إلا بعد انقراض العصر. وإذا لم يتناول الاسم،
لم نسلم أنه متبع غير سبيل المؤمنين ولا مخالف الإجماع.
واحتج: بأن التابعين احتجوا بإجماع الصحابة في عصر
الصحابة:
فروي [عن] الحسن البصري أنه احتج بإجماع الصحابة، وأنس بن
مالك [حي] (1)، فلو كان انقراض العصر شرطاً ما احتج بذلك
قبل انقراضه.
والجواب: أنا لا نعرف هذا عن التابعين، وما ذكروه عن
الحسن، فيجب أن ينقل لفظه، حتى ينظر كيف وقع ذلك منه.
وعلى أنه لو كان منقولاً لم يكن فيه حجة؛ لأن من الناس من
قال: قول الصحابي وحده حجة. وهو الصحيح من الروايتين لنا،
فإذا كان كذلك احتمل أن يكون الحسن احتج بقول الواحد منهم،
لا بإجماعهم (2).
واحتج: بأن قول النبي حجة بوجوده، ولا يقف على انقراضه،
كذلك قول المجمعين.
__________
(1) الزيادة في الموضع من المسوَّدة ص (321)، ولم أقف على
مصدر ينقل هذا عن الحسن البصري.
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المسوَّدة ص (322): (هذا
جواب ضعيف، فإنَّا إذا اشترطنا انقراض العصر في المجمعين،
فلأن نشترطه في الواحد أولى، فإن قوله بعد رجوعه عنه لا
يكون حجة وفاقاً، وإذا كان الاحتجاج بهذا الواحد في حياته
مع أن رجوعه يبطل اتباعه، فلأن يحتج بقول الجماعة في
حياتهم أولى...).
(4/1103)
والجواب: أنا
قد جعلناه حجة لنا، وقد بينا أنه يعتبر في ذلك انقراضه،
لأنه قد يرجع عنه، ويتركه.
على أن قوله لا يقف العمل به على انقراضه؛ لأنه بالنسخ لا
يبين الخطأ فيما كان عليه، بل يرجع عما كان عليه مع كونه
صواباً في ذلك الوقت، وليس كذلك رجوع المجمعين [164/ب]؛
لأنه عن خطأ يبين لهم.
واحتج: بأنه يؤدي إلى أنه لا يوجد إجماع؛ لأن اتفاقهم لو
لم يكن إجماعاً حتى ينقرضوا، لوجب إذا حدث قوم معهم من أهل
الاجتهاد: أن يعتبر اتفاقهم معهم وانقراضهم، ولو وجب هذا
لم يحصل الإجماع أبداً؛ لأن كل عصر مندرج في عصر بعده،
ويحدث فيه أهل الاجتهاد من أهل العصر الثاني قبل انقراض
العصر الذي قبله، ويدخلون معهم في الاجتهاد، ويجب اعتبار
رضاهم بقول من قلتم وموافقتهم لهم فيه، وهذا يمنع وجود
الإجماع أبداً.
والجواب: أن هذا مبني على أصل: أن (1) التابعى إذا أدرك
عصر الصحابة هل يعتد بخلافه ووفاقه؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يعتّد، وإذا لم يعتدّ به لم يفض إلى ما قالوه
من أنه: لا يحصل الإجماع.
والرواية الثانية: يعتد به، فعلى هذا لا يفضي إلى ما قالوه
أيضاً؛ لأن الصحابة إذا كانت على قول، فحدث تابعي، وصار من
أهل الاجتهاد، فهو وهم من أهل الاجتهاد في ذلك العصر، فإذا
انقرضت الصحابة، وبقي ذلك التابعي، فحدث تابعي، وصار من
أهل الاجتهاد، لم يسغ له الخلاف؛ لأنه ما عاصر الصحابة،
وإنما عاصر من عاصرهم، وإنما يسوغ الخلاف لمن عاصرهم، فأما
من عاصر من عاصرهم فلا، وإذا كان كذلك لم يفض إلى ما
قالوه.
__________
(1) في الأصل: (وأن) والواو هنا لا معنى لها.
(4/1104)
واحتج: بأنه لو
جاز أن يجمعوا على حكم لم يرجعوا عنه كان إجماعاً على خطأ،
والأمة لا تجتمع على خطأ.
والجواب: أن الأمة لا تجتمع على خطأ، إذا انقرض عصرهم
عليه، فأما قبل انقراضه، فإنهم يجمعون على الخطأ، ويتبين
لهم الصواب فيصيرون إليه.
فإن قيل: الذي يعتبر: انقراض العصر في انعقاد الإِجماع،
وليس ذلك قولاً ولا فعلاً.
قيل: هو وإن لم يكن قولاً ولا فعلاً، فإنه يستقر به حكم
القول والفعل فجاز اعتباره.
مسألة
إذا اختلف الصحابة على قولين، ثم أجمع التابعون على أحد
القولين لم يرتفع الخلاف، وجاز الرجوع إلى القول الآخر
والأخذ به (1).
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية يوسف بن موسى:
"ما اختلف فيه علي وزيد ينظر أشبهه بالكتاب والسنة،
يختار".
وكذلك نقل المروذي عنه: "إذا اختلف [الصحابة] (2) ينظر إلى
أقرب القولين (3) إلى الكتاب والسنة".
وكذلك نقل أبو الحارث: "[ينظر] (4) إلى أقرب الأقوال (5)
وأشبهها بالكتاب والسنة".
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/297) والمسوَّدة ص
(326) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (1/376) وشرح
الكوكب المنير (2/272).
(2) الزيادة من المسوَّدة ص (325).
(3) في الأصل: (القول) والتصويب من المسوَّدة ص (325).
(4) الزيادة من المسودة ص (325).
(5) في المسودة (الأمور).
(4/1105)
وظاهر هذا: أنه
رجع في ذلك إلى موافقة الدليل، ولم يرجع إلى إجماع
التابعين على أحد القولين (1). [165/أ].
وبهذا قال أبو الحسن الأشعري.
وقال أصحاب أبي حنيفة (2) -فيما حكاه أبو سفيان- والمعتزلة
(3): يرتفع الخلاف و[لا]، يجوز الرجوع إلى القول [الآخر].
وإنما قال هذا إذا كان إجماع التابعين على أحد القولين بعد
انقراض أهل أحد القولين.
واختلف أصحاب الشافعي:
فمنهم من قال مثل قولنا (4).
ومنهم من قال مثل قولهم (5).
دليلنا:
قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَىْء فُرُدُّوهُ
إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (6).
وظاهر هذا: يقتضي أنه إذا تنازع [أهل] العصر الذي بعد
التابعين المجمعين
__________
(1) الذي يظهر لي -والله أعلم-: أن كلام الإمام أحمد لا
يدل على ما ظهر للمؤلف؛ لأن الإمام أحمد لم يذكر في هذه
النصوص إجماع التابعين، بل نص على أن الصحابة إذا اختلفوا
أخذ بقول من يعضد قوله الكتاب والسنة.
(2) صرح بهذا أبو بكر الجصاص في كتابه أصول الفقه الورقة
(132/أ).
(3) انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري (2/517).
(4) قال الشيرازي في التبصرة ص (378): (وهو قول عامة
أصحابنا) يعنى: الشافعية.
(5) وإليه مال الإمام الشافعى، كما ذكر ذلك إمام الحرمين
في كتابه البرهان (1/710).
وبه قال ابن خيرون وأبو بكر القفال من الشافعية، حكى ذلك
الشيرازي في المرجع السابق.
(6) آية (59) من سورة النساء.
(4/1106)
على أحد
القولين في شىء أن يردوه إلى الله ورسوله، وعلى قولهم
يلزمهم رده إلى ما أجمع عليه التابعون.
وإلى هذا المعنى أشار أحمد بقوله: "إذا اختلف الصحابة، رجع
إلى الكتاب والسنة".
يدل عليه أيضاً: ما روى أبو بكر محمد بن الحسين الآجري (1)
في كتاب الشريعة (2) بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابى مثل النجوم، فأيهم
أخذتم بقوله اهتديتم) (3).
وظاهر هذا يقتضي: الرد إلى كل واحد من الصحابة بكل حال، مع
الإجماع على قول بعضهم، ومع الاختلاف.
فإن قيل: كيف يحتجون بهذا الحديث، وقد قال إسماعيل بن
سعيد: "سألت أحمد - رضي الله عنه - عمن احتج بقول النبى -
صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي بمنزلة النجوم، فبأيهم
اقتديتم اهتديتم) قال: لا يصح هذا الحديث".
قيل: قد احتج به أحمد -رحمه الله- واعتمد عليه في فضائل
الصحابة.
فقال أبو بكر الخلاَّل في كتاب السنة: "أخبرني عبد الله بن
حنبل بن
__________
(1) هو: محمد بن الحسين بن عبد الله، أبو بكر، الآجري،
الفقيه، المحدث. روى عنه أبي مسلم الكجي وأبي شعيب الحراني
وغيرهما. وعنه أبو نعيم الأصبهاني وأبو الحسن الحمامي
وغيرهما. توفي بمكة المكرمة في شهر محرم سنة (360هـ).
له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (3/936)، وشذرات الذهب (3/35)،
وطبقات الحفاظ ص (378)، وطبقات الشافعية للسبكى (3/149).
(2) طبع هذا الكتاب بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقى في مطبعة
السنة المحمدية بمصر سنة (1369هـ-1950م) عن نسخة خطية
واحدة، بها خروم ونواقص.
(3) لم أجد هذا الحديث في كتاب الشريعة المطبوع، ولعله ضمن
ما فقد من الكتاب وقد سبق تخرج الحديث.
(4/1107)
إسحاق بن حنبل
قال: حدثني أبي، قال: سمعت أبا عبد الله يقول في الغلو في
ذكر أصحاب محمد لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
(الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً) (1) وقال: (إنما
هم بمنزلة النجوم بمن اقتديتم منهم اهتديتم)".
فقد احتج بهذا اللفظ، فدلّ على صحته عنده.
وأيضاً: فإن الصحابة إذا اختلفت على قولين، فقد أجمعت على
تسويغ الخلاف في المسألة، والأخذ بكل واحد من القولين،
فإذا أجمع التابعون على أحد القولين لم يجز رفع إجماع
الصحابة بإجماعهم؛ لأن إجماع الصحابة أقوى من إجماعهم، كما
لو أجمعت على قول واحد، ثم أجمع التابعون على خلافه، وهذه
طريقة معتمدة.
فإن قيل: إجماعهم على تسويغ الخلاف مشروط بعدم دليل قاطع،
فإذا طرأ دليل قاطع على أحد القولين وجب اتباعه، وحرم
الاجتهاد فيه. ولا يمتنع أن يقع الإجماع بشرط، ألا تَرَى
أنه لا يمتنع أن يجمعوا على جواز الصلاة بالتيمم ما لم يجد
الماء، فإذا وجد الماء بطلت صلاته [165/ب] ولا يكون ذلك
مخالفاً لما أجمعوا عليه.
__________
(1) هذا الحديث رواه عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه -
مرفوعاً.
أخرجه عنه الترمذي في سننه في كتاب المناقب (5/696) ولفظه:
(الله الله في أصحابي، الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم
غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبى أحبهم ومن أبغضهم فببغضي
أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن
آذى الله فيوشك أن يأخذه) ثم قال الترمذي بعد ذلك: (هذا
حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (4/87) و(5/54-55، 57).
وقد حكم الشيخ الألباني على هذا الحديث بالضعف.
انظر: ضعيف الجامع الصغير (1/352) رقم الحديث (1259).
(4/1108)
قيل: إن جاز أن
يقال: إن إجماعهم على تسويغ الخلاف مشروط بعدم دليل قاطع،
جاز أن يقال: إن إجماعهم على قول واحد إذا انعقد عن قياس
أنه مشروط بعدم دليل قاطع، فإذا طرأ دليل قاطع وجب اتباعه.
وجواب آخر، وهو: أن الإجماع لا يجوز أن يقع مشروطاً؛ لأن
وجود الشرط فيه يفضي إلى أن تعرى الحادثة عن حكم الله
تعالى. ولا يجوز أن يعرى العصر عن ذلك؛ لأن الله تعالى لم
يُخْلِ وقتاً من حق، وكونه مشروطاً يفضي إلى هذا؛ لأن كل
قائل من القولين يقول: الحق في قول، ما لم يجمع على خلافه،
فلا يقطع على حق فيه.
ويفارق هذا التيمم؛ لأن الشرط في الحكم المجمع عليه، لا في
أصل الإجماع، فلا يفضي إلى ما ذكرنا.
فإن قيل: هم وإن أجمعوا على تسويغ الخلاف والقول بكل واحد
من القولين، فالتابعون أيضاً قد أجمعوا على القول بأحدهما
دون الآخر.
قيل: لا نسلم أن هذا إجماع؛ لأن من شرط صحة الإجماع: أن لا
يرفع إجماعاً قبله.
فإن قيل: فإذا كانت الصحابة على قولين، فكل واحد من أهل
القولين يجوّز على نفسه الخطأ فيما ذهب إليه.
قيل: هذا هو العلة التى بها جوزوا القول بكل واحد من
القولين، وهو تحقيق إِجماعهم على تجويز القول بكل واحد من
القولين.
وطريقة أخرى، وهو: أن من قال قولاً ومات، فحكم قوله باقٍ،
بدليل أن الصحابة إذا أجمعت على شىء، ثم انقرضوا، لم يصح
أن يجمع التابعون على خلافه.
وكذلك إذا كانت الصحابة على قولين، فإذا انقرض أهل أحد
القولين
(4/1109)
كلهم، وبقي أهل
القول الآخر، لم يزل قول المنقرضين بانقراضهم. ويكون
الخلاف باقياً، وإذا ثبت أن حكم قول الميت باقٍ ما زاد،
فمن أسقط حكمه، كان كمن أسقط قولهم مع بقائهم، وهذا لا
يجوز.
ولأن أعلى مراتب التابعين أن يلحقوا بعصر الصحابة، ويكونوا
من أهل الاجتهاد قبل انقراضهم. وأدنى مراتبهم أن ينقرض
الصحابة قبل أَن يلحقوا بهم، فكان قولهم إذا خالفوهم دون
قولهم إذا عاصروهم وخالفوهم، ثم ثبت أن التابعين لو لحقوا
بالصحابة والصحابة على قولين، وأجمعوا على أحد القولين لم
يسقط القول الآخر بما أجمعوا عليه، وقد أجمع معهم أهل
القول الثاني، فبأن لا يسقط القول الآخر بعد انقراض
الصحابة أولى.
فإن قيل: إنما لم يسقط القول الثاني إذا أجمعوا مع أهل
[القول] الآخر؛ لأنهم حينئد بعض أهل العصر، وليس كذلك إذا
أجمعوا [166/أ] عليه بعد انقراض الصحابة؛ لأنهم حينئذ كل
أهل الاجتهاد في العصر.
قيل: في زمان الصحابة بعض أهل العصر، وبعد انقراض العصر
بعض الأمة؛ لأن حكم القول الذي خالفوه ثابت، لا يزول ولا
يرتفع بما بينَّا. ولأن من قال: إجماع التابعين يزيل
الخلاف السابق ويصير قولهم إجماعاً، يفضى قوله إلى أن
الإجماع ينعقد بموت واحد.
وبيانه: إذا كانت الصحابة على قولين، فانقرضوا، وبقي واحد
من الصحابة، وهو من أهل أحد القولين، ثم أجمع التابعون على
قول من لم يبق منهم أحد، لم يكن إجماعاً؛ لبقاء واحد من
أهل القول الذي خالفوه، وإذا هلك هذا الواحد صار ما أجمع
عليه التابعون إجماعاً بانقراض هذا الواحد وهلاكه، وموت
الإنسان ليس بقول ولا حجة، فكيف يكون الإجماع منعقداً بموت
واحد.
(4/1110)
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُومِنِينَ) (1) والتابعون هم المؤمنون.
وقول النبي: (أمتي لا تجتمعُ على الخطأ).
والجواب: أن الآية مشتركة الدلالة؛ لأنها إن كانت حجةً على
ما أجمع عليه التابعون، فهى حجة على ما أجمعت عليه الصحابة
من تجويز القول بكل واحد منهما.
وكذلك الجواب عن الخبر.
واحتج: بأن هذا إجماع تعقب خلافاً، فوجب أن يزيل حكم
الخلاف، كما لو اختلفوا الصحابة، ثم أجمعت على أحد
القولين، وقد وجد مثل هذا؛ لأنهم اختلفوا في قتال ما نعي
الزكاة، ثم اتفقوا عليه.
وقول الأنصار: منا أمير ومنكم أمير (2).
وإجماعهم على ترك قسمة السواد بعد اختلافهم فيها (3).
والجواب: أنه إذا رجعت إحدى الطائفتين إلى قول الأخرى، فلم
يبق هناك خلاف باق [و] صارت المسألة إجماعاً، وليس كذلك
إجماع التابعين على أحد القولين؛ لأن الخلاف لم يرتفع، فلم
تصر المسألة إجماعاً.
واحتج: بأن إجماعهم يقطع الخلاف فيما بعد، فوجب أن يرتفع
الخلاف
__________
(1) آية (115) من سورة النساء.
(2) قول الأنصار هذا روته عائشة -رضي الله عنها- في قصة
وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم - أخرجه عنها البخاري في
صحيحه في كتاب فضائل الصحابة (5/8).
ورواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه عنه
الإمام أحمد فى مسنده (1/396).
(3) انظر: نصب الراية (3/400-401).
(4/1111)
المتقدم. ألا
ترى أن سنة النبي -عليه السلام- لما منعت الخلاف، قطعت
الخلاف، بدليل أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لو غاب عن
الصحابة، واختلفوا -وهو غائب- في الحكم على قولين، ثم قدم
النبى - صلى الله عليه وسلم -فأخبروه (1) بما كانوا عليه،
فأخبرهم بالحق في واحد منهما (2)، زال الخلاف، كذلك إجماع
التابعين.
والجواب: أنه يبطل بالإجماع من إحدى الطائفتين بعد موت
الطائفة الأخرى، فإنه يقطع الخلاف في المستقبل، ولا يرفع
الخلاف [166/ب] المتقدم.
وأما الفصل بين إجماع التابعين وسنة النبى فظاهر، وذلك أن
الاجتهاد في زمن النبى - صلى الله عليه وسلم - مختلف فيه:
فمنهم من أجازه، وقال: لا يستقر.
ومنهم من قال: لا يسوغ، لأن النص مقدور عليه.
وإذا كان كذلك لم يثبت ما اختلفوا فيه في زمان النبي - صلى
الله عليه وسلم - فإذا جاءت سنة لم يرفع ما كان باقياً،
وإنما ثبت الحق، وإجماع التابعين ها هنا يتضمن إسقاط إجماع
الصحابة.
واحتج: بأن إجماع التابعين حجة، وقول واحد من الطائفتين
ليس بحجة.
والجواب: إنما يكون حجة مقطوعاً عليها، إذا لم يتقدمه
اختلاف الصحابة فأما مع تقدم ذلك، فإنه يخرج عن كونه حجة.
__________
(1) في الأصل: (فأخبره).
(2) في الأصل: (منها).
(4/1112)
مسألة
إذا اختلفت الصحابة على قولين، لم يجز إحداث قول ثالث (1).
نصَّ عليه في رواية عبد الله وأبي الحارث: "يلزم من قال:
يخرج من أقاويلهم إذا اختلفوا، أن يخرج من أقاويلهم إذا
أجمعوا".
وقال أيضاً في رواية الأثرم: "إذا اختلف أصحاب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يختر (3) من أقاويلهم، ولا يخرج عن
قولهم إلى من بعدهم"
وهو قول الجماعة. خلافاً لبعض الناس في قوله: "يجوز إحداث
قول ثالث"(3).
دليلنا:
أن إجماعهم على قولين إجماع على بطلان ما عداهما، كما أن
الإجماع على واحد إجماع على بطلان ما عداه، ولا فرق
بينهما.
واحتج المخالف:
بأن النظر، الاجتهاد سائغ فيها، فهى بمنزلة ما لم يتكلم
فيها.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد في أصول الفقه: (3/310)،
والمسوّدة ص (326) وشرح الكوكب المنير (2/264)، وروضة
الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/377).
(2) هكذا في الأصل وقد مرت كثيراً في هذا الباب بلفظ:
(يختار).
(3) وهو منسوب لبعض الحنفية وبعض أهل الظاهر. وقال أبو
الخطاب: (إنه قياس قول أحمد في الجنب: يقرأ بعض آية، ولا
يقراً آية، لأن الصحابة قال بعضهم: لا ولا حرفاً وقال
بعضهم: يقرأ ما شاء فقال هو: يقرأ بعض آية).
انظر: مسلم الثبوت مع شرحه (2/235) وتيسير التحرير (2/250)
والإحكام للآمدي ص (516)، والتمهيد (3/311).
(4/1113)
والجواب: أن
الاجتهاد يجوز في طلب الحق من القولين دون ما عداهما، لأن
بطلان ما عداهما ثابت بالإجماع، ولا يسوغ الاجتهاد في
المجمع عليه، وهذا بمنزلة ما لو ثبت بطلان ما عداهما
بالنص، فيسوغ الاجتهاد في القولين دون
غيرهما.
واحتج: بأن الصحابة إذا أثبتوا حكماً من طريقين، جاز
إثباته من طريق ثالث، كذلك ها هنا.
والجواب: أن الطريق مخالف للحكم، ألا ترى أنهم إذا أجمعوا
على شىء من نص القرآن، جاز إثباته من طريق السنة والإجماع،
وإذا أجمعوا على حكم واحد، من يجز إحداث قول ثانٍ؛ لأن في
الخروج عن القولين مخالفة للإِجماع وليس في إثبات ما
أجمعوا عليه من غير طريقهم مخالفة الإجماع؛ لأن إثبات
الحكم من طريق لا يتضمن نفي غيره، والإجماع على حكم يتضمن
نفي غيره ولهذا إذا أجمعوا على قول واحد، لم يجز إحداث قول
ثانٍ.
واحتج: [167/أ] بأن التابعين قد خالفوا في هذا، وأحدثوا
قولاً ثالثاً فيما كانت الصحابة فيه على قولين، فأقروا
التابعين على ذلك، ولم ينكروه (1).
من ذلك: أن الصحابة اختلفوا في امرأة وأبوين، وزوج وأبوين،
على قولين: ابن عباس -وحده- يقول: للأم الثلث [من]، أصل
المال.
والباقون قالوا: للأم ثلث ما بقي بعد نصيب الزوج والزوجة
(2).
ففرق ابن سيرين بينهما، وقال بقول ابن عباس في امرأة
وأبوين، وبقول الباقين في زوج وأبوين، فلم ينكر عليه منكر.
__________
(1) في الأصل: (ولم ينكره).
(2) هذا الأثر أخرجه البيهقى في سننه في كتاب الفرائض، باب
ميراث الأم (6/227-228) بعدة طرق فارجع إليه إن شئت.
(4/1114)
وكذلك اختلفت
الصحابة في قوله: "أنتِ على حَرَام"، على ستة مذاهب فأحدث
مسروق (1) قولاً سابعاً (2)، فقال: "لا يتعلق به حكم"،
وقال: "ما أبالي أحَرِّمُها (3)، أو قصعة (4) من ثريد"
(5)، فأقروه على هذا، ولم ينكروا عليه.
__________
(1) هو: مسروق بن الأجدع، أبو عائشة، الهمداني، الكوفي.
الإمام، الفقيه، العابد.
روى عن عمر وعلي ومعاذ وغيرهم. وعنه الشعبى وأبو إسحاق
وإبراهيم وغيرهم.
توفي سنة (63هـ) وله من العمر (63) سنة.
له ترجمة في: تاريخ بغداد (11/119) وتذكرة الحفاظ (1/49)،
وتهذيب التهذيب (7/84) و شذرات الذهب (1/78) وطبقات الحفاظ
للسيوطى ص (14) وغاية النهاية في طبقات القراء (1/498).
(2) المذاهب في هذه المسألة باختصار:
أولاً: قوله هذا: بمثابة يمين يكفرها بإحدى كفارات اليمين،
أو بأغلظ الكفارات، قولان.
ثانياً: طلاق إن نوى به الطلاق، وإلا فيمين.
ثالثاً: طلقة واحدة، وهى أملك لنفسها.
رابعاً: طلقة واحدة، ويملك الزوج الرجعة.
خامساً: ثلاث طلقات.
سادساً: ظهار.
سابعاً: لا شيء فيه.
انظر: المصنف لعبد الرزاق كتاب الطلاق، باب الحرام
(6/399)-405)، وسنن البيهقي في كتاب الخلع والطلاق، باب:
من قال لامرأته أنت عليَّ حرام (7/350-352)، والتلخيص
الحبير (3/215)، والمغني لابن قدامة (7/154-156) طبعة
المنار الثالثة.
(3) في مرجعي التخرج الآتيين: (أحرَّمْتُها).
(4) في الأصل: (نصفه) وهو خطأ، وفي مصنف عبد الرزاق
(جَفْنة) والمعنى واحد.
(5) قول مسروق هذا أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه (6/402)،
والبيهقي في سننه (7/352).
(4/1115)
والجواب: أنه
ليس معنا أن التابعين عرفوا هذا، فأقروه. عليه، ورضوا به،
فلا يثبت إجماعاً بالشك، وإذا لم يكن إجماعاً منهم، لم
يؤثر إقرار بعضهم.
على أن مسروقاً عاصر الصحابة، وكان من أهل الاجتهاد قبل
انقراضهم، فكان كأحدهم، فالذي يخالف فيه يحتمل أن يكون قبل
استقرار ما اختلفوا فيه، فلا يكون هذا إحداثَ قول آخر.
مسألة (1)
وإن قالت طائفة من الصحابة في مسألتين قولين متفقين
مخالفين لقول الطائفة الأخرى، فهل يجوز لأحد أن يقول في
إحدى المسألتين بقول طائفة وفي الأخرى بقول الطائفة
الأخرى؟
ينظر فيه:
فإن لم يصرحوا بالتسوية بين (2) المسألتين جاز (3).
وإن صرحوا بالتسوية بينهما لم يجز على قول أكثرهم.
وعلى قول بعضهم يجوز (4)؛ لأن التسوية بينهما في حكمين
مختلفين، فلم يحصل في واحد منهما إجماع.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (234/أ)
والتمهيد (3/314) والمسوَّدة ص (327) وروضة الناظر مع
شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/379) وشرح الكوكب المنير
(2/267).
(2) ((بين) مكررة في الأصل.
(3) ذكر في المسودة ص (327) أن المؤلف ذكر في كتابه
الكفاية في أصول الفقه: أن في هذه الحالة وجهين.
(4) لأبي الخطاب تفصيل في هذه المسألة ذكره في كتابه
التمهيد (3/315) خلاصته: أن الصحابة إذا قالت في مسألتين
بقولين، ولم يفرقوا بين المسألتين نظرت: فإن صرحوا
بالتسوية لم يجز لأحد أن يفصل بينهما. =
(4/1116)
مسألة
إذا خالف الواحد أو الاثنان الجماعة لم يكن إجماعاً (1).
ويمنع (2) خلافُ الواحد المعتد به انعقادَ الاجماع في أصح
الروايتين.
أومأ إليه -رحمه الله- في رواية المروذي: "إذا اختلفت
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يجز للرجل أن
يأخذ بقول بعضهم على غير اختيار، ينظر أقرب القول إلى
الكتاب والسنة".
__________
= وإن لم يصرحوا بالتسوية، لكنهم لم يفرقوا بينهما، نظرت:
فإن كان طريق الحكم فيهما مختلفاً، مثل أن تقول طائفة: إن
النية شرط في الوضوء والصوم ليس بشرط في الاعتكاف. ويقول
الباقون: العكس، فإنه يجوز التفرقة.
وهو مذهب أحمد.
وإن كان طريق الحكم فيهما متففاً، مثل قولهم في زوج
وأبوين، وإمرأة وأبوين، ومثل إيجاب النية في الوضوء
والتيمم وإسقاطها منهما، فهل تجوز التفرتة؟ خلاف بين
العلماء:
فقيل: لا يجوز، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في رواية الأثرم
وأبي الحارث.
وقيل: يجوز.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في المسوَّدة ص (327) : (أن
القول بعدم جواز التفرقة بين المسألتين فيما إذا كان هناك
نوع شبه بين المسألتين، أما إذا لم يكن بينهما نوع من
الشبه فتجوز التفرقة بينهما).
(1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (224/ب)
وكتاب التمهيد (3/260) والمسوَّدة ص (329)، وروضة الناظر
مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/358)، وشرح الكوكب المنير
(2/229).
(2) في الأصل: (ويمتنع).
(4/1117)
وهو قول
الجماعة.
وفيه رواية أخرى: لا يعتد بخلاف الواحد، ولا يمنع انعقاد
الإجماع.
أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية ابن القاسم: في
المريض يُطَلِّق، وذكر قول زيد (1)، فقال: "زيد وحده، هذا
عن أربعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي
بن أبي طالب، وابن عباس، وزيد، وابن عمر" (2).
وقال في رواية الميموني: "في فسخ الحج أحد عشر رجلاً من
أصحاب النبي يروون ما يروون، أين يقع بلال بن الحارث منهم"
(3).
وظاهر هذا: أنه لم يعتد [167/ب] بخلاف زيد في مقابلة
الجماعة ولا مخالفة بلال في مقابلة الجماعة (4).
__________
(1) الذي يظهر لي أن كلمة (زيد) هذه والتي بعدها في قوله:
(فقال زيد) محرفة عن كلمة الزبير، فإنه من المروي عنهم عدم
توريث من طلقها زوجها في مرضه، أما زيد فالمروي عنه هو
القول بتوريثها، حيث ذكره الإمام أحمد مع الأربعة الذين
استدل بقولهم، والإمام أحمد يقول بالتوريث.
(2) راجع في هذه المسألة: المحلي لابن حزم (11/553-574)
فإنه ذكر في المسألة أقوالاً كثيرة، وساث الآثار المروية
عن الصحابة في ذلك.
وانظر: المغنى (6/329).
(3) سبق الكلام عن هذه الرواية (3/1020-1021).
(4) ساق المؤلف هنا روايتين:
الأولى: رواية ابن القاسم...، وهذه الرواية لا دلالة فيها
على ما استظهره المؤلف من أن الإمام أحمد يقول بانعقاد
الإجماع وإن خالف واحد، بل غاية ما فيه أنه أخد بقول
الأكثر من الصحابة، كيف لا والمسألة لا إجماع فيها.
الثانية: رواية الميموني وهي -أيضاً- لا دلالة فيها على ما
قصده المؤلف، بل تدل على أن الخبر يرجح بكثرة رواته، وهذا
ما صرح به المؤلف في بحث ترجيحات الألفاظ (3/1019).
(4/1118)
وحكي ذلك عن
ابن جرير الطبري (1) صاحب التاريخ (2).
وحكاه أبو سفيان عن أبى بكر الرازي (3).
قال أبو عبد الله الجرجاني: إن سوغت الجماعة الاجتهاد في
ذلك للواحد، خلافه معتداً به، مثل خلاف ابن عباس في العول
(4)، وإن أنكرت
__________
(1) هو: محمد بن جرير بن يزيد، أبو جعفر الطبربي، المفسر،
الفقيه، المؤرخ -أحد الأعلام- ولد سنة (224هـ)، ومات سنة
(310هـ). له كتاب "التفسير" وكتاب "تاريخ الرسل والملوك".
له ترجمة في: تاريخ بغداد (2/162) وتذكرة الحفاظ (2/710)
وشذرات الذهب (2/106) وطبقات الحفاظ للسيوطي ص (370)
وطبقات المفسرين للداودى (2/260)، وقد ألف الدكتور أحمد
الحوفي كتاباً عنه، طَبَعَه المجلس الأعلى للشئون
الإسلامية بمصر سنة (1390هـ-1970م).
(2) هذا الكتاب يعرف اليوم: بتاريخ الطبري، وقد طبع ثلاث
مرات، طبعتان بعناية بعض المستشرقين، وطبعة في دار المعارف
بمصر بتحقيق الأستاد محمد أبو الفضل إبراهيم،. انظر مقدمة
تاريخ الطبري للمحقق المذكور (1/28).
وقوله هذا حكاه عنه كثير من الأصوليين.
انظر في ذلك: التبصرة ص (361) والتمهيد (3/261) وشرح اللمع
(2/704)
والمعتمد (2/486).
(3) انظر: كتاب "أصول الفقه" لأبي بكر الرازي المشهور
بالجصاص الورقة (225/ب).
(4) خلاف ابن عباس في العول أخرجه البيهقي في سننه في كتاب
الفرائض، باب العول في الفرائص (6/253) بسنده إلى عتبة بن
مسعود قال: (دخلت أنا وزفر بن أوس ابن الحدثان على ابن
عباس بعد ما ذهب بصره، فتذاكرنا فرائض الميراث، فقال: ترون
الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يحص ما في مال نصفاً ونصفا
وثلثاً، إذا ذهب نصف ونصف، فأين موضع الثلث؟! فقال له زفر:
يا ابن عباس من أول من أعال الفرائض؟ قال: عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه - قال: وبم؟ قال: =
(4/1119)
الجماعة على
الواحد لم يعتد بخلافه، مثل قول ابن عباس في المُتْعة (1)
__________
= لما تدافعت عليه وركب بعضها بعضاً، قال: والله ما أدري
كيف أصنع بكم، والله ما أدري أيكم قدم الله، ولا أيكم أخر،
قال: وما أجد في هذا المال شيئاً أحسن من أن أقسمه عليكم
بالحصص. ثم قال ابن عباس: وأيم الله لو قدم من قدم الله
وأخر من أخر الله ما عالت فريضة، فقال له زفر: وأيهم قدم
وأيهم أخر؟ فقال: كل فريضة لا تزول إلا إلى فريضة، فتلك
التى قدم الله، وتلك فريضة الزوج، له النصف، فإن زال فإلى
الربع، لا ينقص منه، والمرأة لها الربع، فإن زالت عنه صارت
إلى الثمن لا تنقص منه، والأخوات لهن الثلثان، والواحدة
لها النصف، فإن دخل عليهن البنات كان لهن ما بقى، فهؤلاء
الذين أخر الله، فلو عطى من قدم الله فريضته كاملة، ثم قسم
ما يبقى بين من أخر الله بالحصص ما عالت فريضة.
فقال له زفر: فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال:
هبته والله. قال ابن إسحاق: فقال لي الزهري: وايم الله
لولا أنه تقدمه إمام هدى كان أمره على الورع ما اختلف على
ابن عباس اثنان من أهل العلم).
وأخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الفرائض، باب أول من
أعال الفرائض عمر (4/360) بأخصر مما أورده البيهقي، ثم
قال: (صحيح على شرط مسلم) وأقره الذهبي. وتعقبهما الألباني
في كتابه إرواء الغليل (6/145-146) بأن الحديث ليس من قسم
الصحيح، بل هو من قسم الحسن، من أجل الخلاف في ابن إسحاق
أحد رواة الأثر.
(1) أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الحيل باب الحيلة في
النكاح (9/31) عن محمد بن على: "أن علياً - رضي الله عنه -
قيل له: إن ابن عباس لا يرى بمُتعة النساء بأساً، فقال: إن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها يوم خيبر، وعن
لحوم الحمر الإنسية).
وعنه أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/142) ولفظه: (أنه
-يعني محمد ابن على- سمع أباه علي بن أبي طالب - رضي الله
عنه - قال لابن عباس وبلغه أنه رخص في متعة النساء، فقال
له علي بن أيى طالب - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قد نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم =
(4/1120)
والصَّرْف (1).
__________
= الحمر الأهلية).
وهذا القول عن ابن عباس - رضي الله عنه - رواه الطبراني في
الأوسط عن سالم بن عبد الله قال الحافظ في التلخيص
(3/154): (إسناده قوي).
كما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب النكاح، باب في
نكاح المتعة وحرمتها (4/292-293) بسنده إلى محمد بن علي عن
أبيه علي بن أبي طالب.
وبسنده أيضاً إلى ابن عمر. قال فيه الألباني في إرواء
الغليل (6/138): (إسناده صحيح على شرط الشيخين).
قال الألباني في كتابه المذكور: (وجملة القول: أن ابن عباس
- رضي الله عنه - روي عنه في المتعة ثلاثة أقوال:
الأول: الإباحة مطلقاً
الثاني: الإباحة عند الضرورة.
والآخر: التحريم مطلقاً، وهذا مما لم يثبت عنه صراحة،
بخلاف القولين الأولين، فهما ثابتان عنه).
(1) القول بجواز ربا الصرف المروي عن ابن عباس - رضي الله
عنه -، رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - أخرجه
البخاري في صحيحه في كتاب البيوع، باب بيع الدينار
بالدينار نسأ، ولفظه: (أن أبا صالح الزيات سمع أبا سعيد
الخدري - رضي الله عنه - يقول: الدينار بالدينار، والدرهم
بالدرهم، فقلت له: فإن ابن عباس لا يقوله، فقال أبو سعيد:
سألته، فقلت: سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو
وجدته في كتاب الله؟ قال: كل ذلك لا أقول، وأنتم أعلم
برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني، ولكننى أخبرني
أسامة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا رِبَا
إلا في النسيئة".
وأخرجه عنه مسلم في صحيحه في كتاب البيوع، باب بيع الطعام
مثلاً بمثل (3/1217).
وأخرجه عن النسائي في سننه في كتاب البيوع، باب بيع الفضة
بالذهب والذهب بالفضة (7/247-248). =
(4/1121)
والدلالة على
أَنه يمنع انعقاد الإجماع:
قوله تعالى: (فإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَىْءٍ فَرُدُّوهُ
إلى اللهِ والرَّسُولِ) (1) والتنازع موجود، فوجب الرجوع
إلى الكتاب والسنة.
وقوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ
فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) (2) وقد وجد الاختلاف، فوجب
الرجوع إلى كتاب الله تعالى.
وأيضاً: فإن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - خالف الصحابة
-رحمهم الله- في قتال مانعي الزكاة (3).
وخالف ابن مسعود وابن عباس في مسائل في الفرائض سائر
الصحابة، فلم ينكروا عليهما، ولم يقولوا: إن الواحد محجوج
بالإجماع، وإنه يلزمه اتباعهم.
ولأن العقل يجوّز الخطأ على هذه الأمة، كما يجوّز الخطأ
على سائر الأم، وإنما نفينا عنهم الخطأ بالشرع، وقد وجد
الشرع بذلك في حال الاجتماع دون الاختلاف فإذا وجد
الاختلاف بقي الحكم على مقتضى العقل.
__________
= وأخرجه عنه ابن ماجة في سننه في كتاب التجارات، باب من
قال: لا ربا إلا في النسيئة (2/758).
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار في كتاب
الصرف، باب الربا (4/64).
وأخرجه عنه البيهقى في سننه في كتاب البيوع، باب من قال:
الربا لى النسيئة (5/280).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (5/200، 9، 20).
(1) آية (59) من سورة النساء.
(2) آية (10) من سورة الشورى.
(3) سبق تخرج هذا (1/108) ضمن حديث: (أمرتُ أن أقاتل الناس
حتى يقولوا: لا إله إلا الله....).
(4/1122)
واحتج المخالف:
بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [أنه] قال:
(عليكم بالسواد الأعظم).
وقوله عليه السلام: (عليكم بالجماعة).
والجواب: أن المراد به أهل الاجتهاد من أهل العصر، فهو
السواد الأعظم وهو الجماعة.
واحتج: بأن ابن عباس لما خالف الجماعة في بيع الدرهم
بالدرهمين نقداً وإباحة المُتعة، أنكر عليه ابن الزبير
المُتعة (1)، وأنكر غيره عليه بيع الدرهم بالدرهمين (2)،
فلو كان خلافه للجماعة سائغاً، لما أنكروا عليه ما ذهب
إليه.
والجواب: أنهم ما أنكروا عليه ما ذهب إليه، من حيث إنهم
على خلاف
قوله باجتهادهم، وإنما أنكروا عليه، لأنه خالف الخبر
المنقول عن النبى - صلى الله عليه وسلم - في بيع الدرهم
بالدرهمين، وهو قوله عليه السلام: (الدينار بالدينار،
والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما) (2). وكذلك قوله في
المتعة: (إن النبي حرمها إلى يوم القيامة) (3).
واحتج: بأن خبر الجماعة أولى من خبر الواحد والاثنين، كذلك
قول الجماعة أولى من قول الواحد والاثنين.
والجواب: أن خبر الجماعة لو كان موجباً [168/أ] للعلم كان
ما خالفه
__________
(1) انظر: المراجع السابقة التى ذكرناها في تخرج ما أثر عن
ابن عباس - رضي الله عنه - من القول بإباحة متعة النساء.
(2) انظر أيضاً: المراجع السابقة التي ذكرناها في تخرج ما
أثر عن ابن عباس - رضي الله عنه - من القول بإباحة الصرف
متفاضلاً.
(3) انظر: المراجع السابقة التي ذكرناها في تخرج ما أثر عن
ابن عباس - رضي الله عنه - من القول بإباحة متعة النساء.
(4/1123)
كذباً أو خطأ
أو منسوخاً (1)، فلا يجوز العمل به، وإن كان خبر الجماعة
لا يوجب العلم، وإنما يغلب على الظن، فإنه أولى، لأن خبر
الجماعة أقوى في الظن من خبر الواحد.
يدل على ذلك: أن الشىء من الجماعة أحوط منه من الواحد (2)
والاثنين، ولهذا قال الله تعالى: (أن تَضِلَّ
إِحْدَاهُمَا، فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا اْلأخْرَى) (3).
فأما اجتهاد الأكثر فلا يوجب العلم وقوة الظن، فلا تأثير
له في الاجتهاد؛ لأنه لا يجوز للعالم أن يقلد عالماً، وإن
كان أقوى اجتهاداً منه في نفسه، وإنما يجب قبول اجتهاد
غيره، والعمل به مع القطع بصحته، فبان الفرق بينهما.
واحتج: بأنه لما جاز أن يكون في أهل العصر من لم يبلغه ما
أجمعت عليه الجماعة، أو بلغه فلم يظهر الخلاف وأسرَّه، صح
انعقاده مع ذلك، كذلك انعقاده مع خلاف الواحد.
والجواب: أن الإجماع إنما يصح إذا انتشر ما أجمعت عليه
الجماعة انتشاراً ظاهراً يقف عليه الكافة، فإذا ظهر
انتشاره ولم يظهر خلاف من أحد، علمنا أن الكافة قد أطبقت
عليه بنفي ما يمنع انعقاد الإجماع، وإذا خالف واحد واثنان
فقد تيقنّا حصول ما يمنع أنعقاد الإجماع.
__________
(1) في الأصل: (منسوخ)، وحقه النصب كما أُثبت.
(2) في الأصل: (للواحد).
(3) آية (282) من سورة البقرة.
(4/1124)
مسألة
يجوز انعقاد الإجماع من طريق الاجهاد (1) خلافاً لابن جرير
(2) ونفاة القياس (3).
دليلنا:
طريقان: أحدهما وجوده.
والثاني: جواز وجوده.
فأما وجوده فهو أن الناس أجمعوا على إمامة أبي بكر الصديق
- رضي الله عنه - من طريق الاجتهاد.
فمنهم من قال: (رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
للصلاة، وهي عماد الدين، ومن رضيه رسول الله لديننا وجب أن
نرضاه لدنيانا) (4).
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد: (3/288) والمسوّدة ص
(330) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (1/385)، وشرح
الكوكب المنير (2/261).
(2) ذكر هذا في كثير من كتب الأصول منها: التبصرة للشيرازى
ص (372)، والبرهان (1/721) والإحكام للآمدي (1/239).
(3) المراد بهم الظاهرية، والسبب واضح؛ لأنهم لا يقولون
بالقياس، فكذلك ما استند إليه، وقد نسبه الشيرازي في
التبصرة ص (372) إلى داود.
ونسبه الآمدي في الإحكام (1/239) أيضاً: إلى الشيعة.
(4) هذا الأثر منسوب إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -
أخرجه عنه ابن بطة بسنده إلى الحسن وفيه: (... ولكن إن
نبيكم نبى الرحمة - صلى الله عليه وسلم - لم يمت فجأة، ولم
يقتل قتلاً، مرض أياماً وليالي يأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة،
فيقول: مروا أبا بكر فَلْيُصَلِّ بالناس، وهو يرى مكاني،
فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرنا في أمرنا
أن الصلاة عضد الإسلام وقوام =
(4/1125)
ومنهم من احتج
بقوله: (إن تولوا أبا بكر تجدوه قوياً في دين الله ضعيفاً
في بدنه) (1).
ومنهم من رضيه، فعقد له.
__________
= الدين، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - لديننا، فولينا الأمر أبا بكر...). انظر: المعتمد
في أصول الدين للقاضى أبي يعلى ص (224).
وأخرجه ابن سعد في طبقاته (3/183).
(1) هذا الحديث رواه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -
أخرجه عنه البزار، ولفظه (قال: قالوا: يا رسول الله ألا
تستخلف علينا؟ قال: "إني إن استخلف عليكم فتعصون خليفتى
ينزل عليكم العذاب" قالوا: ألا نستخلف أبا بكر؟ قال: "إن
تستخلفوه تجدوه ضعيفاً في بدنه، قوياً في أمر الله" قالوا:
ألا نستخلف عمر؟ قال: "إن تستخلفوه تجدوه قوياً في بدنه
قوياً في أمر الله" قالوا: ألا نستخلف علياً؟ قال: "إن
تستخلفوه -ولن تفعلوا- يسلك بكم الطريق المستقيم، وتجدوه
هادياً مهدياً" قال الهيثمى في مجمع الزوائد (5/176) :
(وفيه أبو اليقظان عثمان بن عمير وهو ضعيف).
لكن الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/859) رقم الحديث
(859) بتحقيق أحمد شاكر بسنده عن علي بن أبي طالب - رضي
الله عنه - مع اختلاف قليل في اللفظ: ومحل الشاهد منه
(قال: -أي علي- يا رسول الله من نؤمر بعدك؟ قال: "إن
تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في
الآخرة...). الحديث.
قال الهيثمى في مجمع الزوائد (5/176) : (رواه أحمد والبزار
والطبراني في الأوسط، ورجال البزار ثقاة).
وقال أحمد شاكر: فى حديث الإِمام أحمد: (إسناده صحيح)، ثم
تعقب الهيثمي في عدم تصحيحه لحديث أحمد بقوله: (فيظهر لي:
أن الهيثمي لم يعرف عبد الحميد ابن أبي جعفر، ورأى إسنادَ
البزار معروفاً له فوثق رجاله).
(4/1126)
كما أن
المسلمين أمروا خالد بن الوليد (1) في مُؤْتة (2)
باجتهادهم. فصوب ذلك منهم، وأقرهم عليه (3).
وهذا كله اجتهاد منهم.
وكذلك اتفقوا على قتال مانعي الزكاة من طريق الاجتهاد
والتراجع (4) فيه والتحاجج عليه، والقصة منه ظاهرة،
ومناظرتهم مشهورة.
ويدل عليه:
أن الأمة اتفقت على أن الأمَة في التقويم بمنزلة العبد،
إذا أعتق شخصاً. وأن السّنّور إذا ماتت في السمن بمنزلة
الفأرة. وأن الشحم الذائب
__________
(1) هو: خالد بن الوليد بن المغيرة، أبو سليمان، المخزومي،
القرشي، صحابي جليل، وقائد عسكري محنك، شارك في الفتوح
الإسلامية. مات سنة (21هـ). رضي الله عنه وأرضاه.
انظر ترجمته في: الاستيعاب (2/427).
(2) مؤتة: بضم أوله، واسكان ثانيه، بعده تاء فوقها نقطتان،
قرية من قرى البلقاء في حدود الشام.
انظر: معجم ما استعجم (4/1172)، ومراصد الاطلاع (3/1330).
(3) غزوة مؤتة وقعت في شهر جمادى الأولى سنة ثمان من
الهجرة. فقد جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشاً
مكوناً من ثلاثة آلاف مجاهد، وأمَّر عليهم زيد بن حارثة،
فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة
فاستشهد الثلاثة، واحد بعد الآخر فأخذ الراية ثابت بن
أقرم، وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم،
فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن
الوليد، فلما أخذ الراية خلّص الجيش، ثم رجع به إلى
المدينة.
ولم ينكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تولية خالد
لقيادة الجيشى، بل أثنى عليه، وسماه سيف الله.
انظر: السيرة النبوية لابن هشام القسم الثاني ص (373-389)
وتاريخ الطبري (3/36-42).
(4) في الأصل: (والراجع).
(4/1127)
بمنزلة السمن.
وأن الغائط في الماء بمنزلة البول. وأن غير فاطمة بنت أبي
حبيش من المستحاضات [168/ب] بمنزلة فاطمة. وأن غير
الأعرابي في كفارة الفط بمنزلته. وليس طريقه إلا القياس،
فدل على ما قلناه.
والطريق الثاني في جواز وجوده، والدليل عليه: أن القياس
وما يجري مجراه أمارة ظاهرة، فجاز اجتماع العدد الكثير على
الحكم من جهتها، أصله: القرآن والسنة.
فإن قيل: لفظ القرآن والسنة مسموع، والجماعة تشترك في
سماعه، فيجوز أن يقفوا على حكمه، وليس كذلك الاجتهاد، فإنه
رأي، ولا يجوز أن ينظر العدد الكثير فيتفق رأيهم.
قيل: الاجتهاد يستند إلى أمارة ثابتة صحيحة، وهى تأثيرات
الأصول وشهادتها الدالة على المعاني، وظهورها كظهور لفظ
القرآن والسنة، [فإذا] جاز (1) أن يجمع العدد الكثير عن
الشبهة، مثل اتفاق اليهود والنصارى والمجوس على تكذيب
الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإنكار نبوته، وعلى قتل
عيسى - صلى الله عليه وسلم - وصلبه، كان اتفاقهم على الحجة
أولى.
واحتج المخالف: (2)
بأن القياس باطل، فلا يجوز انعقاد الإجماع عليه.
والجواب: أن القياس عندنا صحيح ودليل من دلائل الشرع.
ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.
واحتج: بأن نفس القياس لما كان مختلفاً فيه، وكان في
المجمعين من لا
__________
(1) في الأصل: (فجاز).
(2) لو عبر المؤلف: بـ (بعض الخالفين) لكان أدق؛ لأن بعض
المخالفين يقول بحجية القياس.
(4/1128)
يقول به، بطل
أن يكون إجماعهم صادراً عن القياس؛ لأن ذلك يوجب كون الشىء
مجمعاً عليه ومختلفاً فيه.
والجواب: أن الإجماع عند داود إجماع الصحابة، ولا نسلم أنه
كان منهم من لا يقول بالاجتهاد، ولا في التابعين.
وما روي من ذم القياس عن بعضهم (1)، فإنما أراد به مع وجود
النص المخالف للقياس.
وقد أجيب عنه بأن النافي للاجتهاد قد تناقض، فيثبت الحكم
من طريق الاجتهاد، ويخفى عليه وجهه، كما ادعينا على داود
أنه أثبت أحكاماً من طريق الاجتهاد مع مخالفته فيه.
وجواب آخر، وهو: أنه باطل بخبر الواحد والعموم، فإنه لا
يخلو عصر إلا وفيه من ينفى خبر (2) الواحد، ويمنع صحة
العموم، ومع هذا فلا خلاف أن الإجماع ينعقد بكل واحد
منهما.
واحتج: بأن العدد الكثير لا يتفق اختيارهم لأمر واحد،
واستحسانهم له؛ لأن الله تعالى باين بين الطباع، وخالف بين
الدواعي والهمم، ولهذا لا يصح اتفاقهم على وضع كذب،
وانتحال (3) شعر، واختيار كلام.
والجواب: أن هذا خطأ؛ لما بيّنا من اتفاق رأيهم على ما
ذكرنا.
__________
(1) ذكر منها البيضاوي في المنهاج ثمانية آثار خرجها
الحافظ العراقي ضمن ما خرج من أحاديث المنهاج ص (309-310)
العدد الثاني من مجلة البحث العلمي التي يصدرها مركز البحث
العلمي وإحياء التراث الاسلامي في كلية الشريعة بمكة
المكرمة عام 1399هـ تحقيق الأستاذ صبحي السامرائي وسيأتي
لهذه الآثار ذكر -إن شاء الله تعالى- في باب القياس.
(2) في الأصل: (حتى) وهو خطأ.
(3) في الأصل: (انتخال) بالخاء المعجمة.
(4/1129)
وعلى أن
اتفاقهم على وضع كذب [169/أ] وانتحال (1) شعر، واختيار
لفظ، إنما لم يجز؛ لأنه لا أمارة عليه تدعو إليه، وليس
كذلك الحكم الشرعي فإن عليه أمارة تدعو إليه، وتدل عليه،
فجاز أن تجمع خواطر العدد الكثير على اعتقاد صحته، والحكم
به. ويدل عليه أنه يجوز اتفاقهم على الصدق، وإن كان لا
يجوز اتفاقهم على وضع الكذب؛ لأن الكذب لا داعي له يعمهم،
وللصدق داع يعمهم، ويجمعهم، كذلك للحكم دليل يعمهم،
ويجمعهم، فافترقا.
واحتج: بأن من نفى القياس وخالفه لا يفسق، ومن خالف
الإجماع فسق، فكيف ينعقد الإجماع الذي يفسق من خالفه عن
قياس لا يفسق من خالفه.
والجواب: أنه إنما يفسق إذا لم يتأيد (2) بالإجماع عليه،
فأما إذا تأيد (3)
بالإجماع عليه، قوي بالمصير إليه، ففسق جاحده، وهذا كما
قلنا في خبر الواحد: من جحده لا يفسق، ومع هذا إذا انعقد
الإجماع فسق مانعه.
وهكذا من منع صيغة العموم لا يفسق، فإذا انعقد الإجماع به
فسق مانعه ومخالفه، وكذلك القياس مثله.
واحتج: بأن القياس فرع والإجماع أصل، فكيف ينعقد الأصل عن
فرعه.
والجواب: أنه ليس بفرع للإِجماع، وإنما هو فرع لأصله الذي
استنبط منه وذلك الأصل آية أو حديث (4) فإذا صح انعقاده عن
أصل القياس صح انعقاده عن فرع ذلك الأصل.
__________
(1) في الأصل "انتخال" بالخاء المعجمة.
(2) في الأصل (يتأبد) بالباء الموحدة.
(3) في الأصل: (تأبد) بالباء الموحدة.
(4) في الأصل: (أوجب).
(4/1130)
واحتج: بأن
القياس أمر خفي، يفتقر إلى استخراج واستنباط، وليس كل من
كان من أهل الاجتهاد يقدر عليه.
والجواب: أنه كذاك، ولكن إذا كان خفياً كان الاهتمام به
أشدَّ والعناية به أؤكد، فكان الإجماع عنه (1) أولى.
ألا ترى أن معرفة صيغة العموم أمر خفي، وكذلك الجمع بين
الخبرين، واستخراج الحكم من بينهما، من حيث بناء أحدهما
محلى الآخر، وهو أخفى من القياس وأدق، ومع هذا ينعقد
الإجماع عنه ويصح، فانعقاده بالقياس أولى.
واحتج: بأن كل واحد منهم إذا قال في الحادثة قولاً عن قياس
فهو يقول: يجوز لغيري أن يخالفني فيه. فإذا أجمعوا عليه،
فقد أجمعوا على تجويز مخالفتهم، وإذا أجمعوا على تجويز
مخالفهم بَعُدَ قول من قال: لا يسوغ خلافهم.
والجواب: أن كل واحد منهم يعتقد جواز مخالفته، ما لم يستقر
إجماعهم على ذلك، فإذا استقر إجماعهم عليه، لم تسغ
المخالفة، ولن يمتنع أن يخالف كل واحد منهم إذا انفرد،
وإذا اجتمعوا لم يجز.
ألا ترى أن خبر الواحد تسوغ مخالفته، كذلك ها هنا، وإذا
ثبت هذا وأنه [169/ب] ينعقد من طريق الاجتهاد، فإنه ينعقد
عن القياس الجلي (2)، وعن القياس الخفي (3).
أما الجلي (4) [فـ] نحو قوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لّهُمَا
أف) (5) نصّ على التأفيف
__________
(1) في الأصل: (منه).
(2) عرف المؤلف: القياس الجلي ص (1325) من هذا الكتاب
بأنه: (ما وجد معنى
الأصل في الفرع بكماله). وسيأتي إن شاء الله تعالى.
(3) عرف المؤلف بما سيأتي قريباً.
(4) في الأصل: (الخفي) وهو خطأ ظاهر.
(5) آية (23) من سورة الإسراء.
(4/1131)
ونبّه على
الضرب.
وكذلك قوله تعالى: (إنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ) (1)، (وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (2)، ونحو
ذلك.
وأما الخفي: فهو قياس غَلَبة (3) الشبه، وبيانه: أن تحدث
حادثة، وليس هناك إلا أصلان، أصل حظر، وأصل إباحة، وأصل
الحظر له خمسة أوصاف، وأصل الإباحة له خمسة أوصاف،
والحادثة لا تجمع أوصاف أحدهما، بل فيها من الإباحة أربعة
أوصاف، ومن أوصاف، الحظر ثلاثة، فإذا كان كذلك ألحقناه
بالذي كثرت أوصافه فيه.
وهذا يقع في الصفات والأحكام.
أما الصفات فمعروفة، و[أما] الأحكام فكالعبد (4)، أخذ
شبهاً من الحر: بأنه مكلف مخاطب، وأخذ شبهاً من البهائم:
بأنه (5) مملوك، يورث، ويباع، ويوهب، فلم يجتمع معنى أحد
الأصلين، فألحقناه بكل واحد بما هو أشبهه، فأطرافه أشبه
بأطراف الحر، فأوجبنا فيها مقدراً، والجناية على غير
أطرافه بالبهائم أشبه، فألحقناه بها، فالقياس ينعقد عليه؛
لأنه كغيره من أنواع القياس في باب العمل به، فوجب أن يكون
كغيره في انعقاد الإجماع عليه.
__________
(1) آية (40) من سورة النساء.
(2) آية (124) من سورة النساء، والنقير: النقرة أو النكتة
التى في ظهر النواة. انظر: مختار الصحاح والمصباح المنير
مادة (نقر).
(3) في الأصل بدون إعجام، وقد أعجمت هذه الكلمة ص (1325)
من هذا الكتاب.
(4) في الأصل: (كالعبد) بدون الفاء.
(5) في الأصل: (وأنه).
(4/1132)
مسألة
الاعتبار في الإجماع بقول أهل العلم، ولا يعتبر بخلاف
العامة لهم (1).
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية ابن القاسم، وقد ذكر له
عن شريح (2) وابن سيرين - فقال: "هؤلاء لا يكونون حجة على
من كان مثلهم من التابعين، فكيف على من قبلهم من أصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم -".
وحُكي عن قوم من المتكلمين: إذا خالفهم رجل من العامة، لم
يكن إجماعاً (3).
دليلنا:
أن العامي ليس من أهل الاجتهاد في أحكام الشريعة؛ لأنه لا
يجوز أن يعمل باجتهادة، ولا يجوز لغيره أن يعمل به، فهو
بمنزلة الصبيان والمجانين.
فإن قيل: لا حكم لقول الصبيان والمجانين.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/250)، والمسوّدة ص
(331)، وروضة الناظر وشرحها نزهة الخاطر العاطر (1/348)
وشرح الكوكب المنير (2/225).
وهو قول الأكثرين كما عبّر الآمدي في الإحكام (1/204)، أو
قول الجمهور كما جاء في المسوّدة ص (331)، وبه قال إمام
الحرمين كما في البرهان (1/684) والشيرازي كما في التبصرة
ص (371) والفخر الرازي كما في المحصول (4/279).
(2) شريح بن الحارث بن قيس، أبو أمية، الكندي، الكوفي.
القاضي المشهور.
تولى القضاء ستين سنة. عَمَّر طويلاً. مات سنة (78هـ) وقيل
غير ذلك.
له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (1/59) وتهذيب التهذيب (4/326)
والخلاصة ص (140) وشذرات الذهب (1/85)، وطبقات الحفاظ ص
(20) وطبقات الفقهاء للشيرازي ص (80).
(3) واختاره القاضي أبو بكر والآمدي كما في الإحكام
(1/204).
(4/1133)
قيل: لا حكم
لقولهم في أحكام الشريعة، كما لا حكم لقول الصبيان
والمجانين ووجوده وعدمه سواء.
فإن قيل: العامة مكلفون، والصبيان والمجانين غير مكلفين.
قيل: العامة لم يكلفوا الاجتهاد في الأحكام، بل منعوا منه،
فلا فرق بينهم في ذلك.
ولأن العامة محجوجة بقول أهل العلم، فوجب أن لا يُعتبر
رضاهم به، كما أن الأمة لما كانت محجوجة بقول النبي - صلى
الله عليه وسلم - لم يعتبر رضاهم به، وكذلك أهل [170/أ]
العصر الثاني مع أهل العصر الأول.
ولأنهم يلزمهم الرضا بما اتفق أهل العلم عليه، وما وجب
الرضا به، لم يكن لعدم الرضا حكم، وكان وجوده وعدمه سواء.
واحتج المخالف:
بقول النبي -عليه السلام- (لا تَجْتمعُ أُمَّتي على
ضلالة): و(لا تَجْتمعُ على الخطأ)، والعامة من الأمة، فوجب
أن يعتبر إجماعهم مع أهل العلم.
والجواب: أن المراد به أهل العلم والاجتهاد، ولا مدخل
للعامة فيه، وإن كانوا من الأمة، كما لا يدخل الصبيان، وإن
كانوا من الأمة.
وقد قيل: إن هذا لا يوجد؛ لأن عامة المسلمين يتبعون الأئمة
من أهل العلم، ولكل فريق منهم إمام، يتبعونه، ويعتقدون (1)
قوله، فلا يجوز أن يخالف أحد منهم فيما اتفقوا الجميع (2).
__________
(1) في الأصل: (يعتقد).
(2) لأن العامي في هذا الباب جاهل، ومن كان كذلك فلا يعتبر
بوفاقه أو خلافه، فالواجب عليه أن يترك ذلك لأهله، ورحم
الله امرأً عرف قدره.
انظر المستصفى (1/182).
(4/1134)
فإن قيل: أليس
قد اعتبرتم إجماع العامة فيما يشاركون العلماء فيه؟! مثل
الطهارة، والصلاة، وعدد ركعاتها، والزكاة، والصيام، والحج،
وتحريم الربا، والسرقة، ونحو ذلك، هلا اعتبرتم إجماعهم
فيما يختص به العلماء، مثل فروع الطهارة وفروع الصلاة،
ونحو ذلك.
قيل: لأن السبب الذي عرف به هذه الأشياء، هو (1) النقل
المستفيض، وذلك يشترك (2) في معرفته (3) العامة والخاصة،
فأما غير ذلك فطريقه الاجتهاد، فلا معرفة لهم به.
__________
(1) في الأصل: (وهو) والواو هنا لا معنى لها.
(2) في الأصل: (مشترك).
(3) في الأصل: (معرفة).
(4/1135)
فصل
فيمن كان منتسباً إلى العلم، كأصحاب الحديث والكلام في
الأصول (1)، إلا أنه لا علم له بأحكام الفقه وفروعه وطرق
المقاييس والرياضة بوجوه اجتهاد الرأى، فإنه لا يعتد
بخلافه أيضاً (2).
وقد قال أحمد -رحمه الله، في رواية أبي الحارث-: "لا يجوز
الاختيار إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة، ممن إذا ورد عليه
أمر، نظر الأمور وشبهها بالكتاب والسنة" (3).
وذهب قوم من المتكلمين إلى أنه لا يصح الإجماع إلا بأن
يجتمع عليه جميع أهل العلم والمنتسبين إلى العلم (4).
__________
(1) راجع هذا الفصل في: التمهيد (3/250) والمسوَّدة ص
(331) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر
(1/351-353) وشرح الكوكب المنير (2/225/226).
وكذلك الكلام في الفروع، فإن الخلاف يتناول الفقيه الذي لا
علم له بالأصول، وكما يتناول الأصولي الذي لا علم له
بالفقه.
(2) وبه قال معظم الأصوليين، كما في البرهان (1/685) وكما
في المسوَّدة ص (331).
(3) هذه الرواية منقولة بنصها في المسوَّدة الموضع السابق.
(4) نقل إمام الحرمين في كتابه البرهان (1/685) عن أبي بكر
الباقلاني قوله:
(إن الأصولي الماهر المتصرف في الفقه يعتبر خلافه ووفاته).
قلت: وهذا لا خلاف في اعتبار قوله؛ لأنه أصولي فقيه. وإنما
الخلاف فيمن اتصف بأحدهما.
وقال ابن بدران في شرحه على روضة الناظر (1/351): (وأما
الأصولي إذا كان ماهراً فى فنه، فإني أرى إخراجه ممن يعتد
بإجماعهم ليس من الإنصاف، وكيف لا وهو الممهد للمجتهد
ومؤسس القواعد له، وله تدقيق في غوامض الأصول، لا يصل
إليها المدقق في الفروع، ولا إلى قريب منها، فحقق ذلك
واعتبره ترشد). =
(4/1136)
دليلنا:
أن من لا مدخل له في طرق الاجتهاد ورد الفروع إلى الأصول،
فإنه يجري في أحكام الشرع مجرى العامي، فلما لم يعتد
بالعامة فيما لا علم لهم به، لأنهم تبع للعلماء، منقادون
لهم، وجب أن لا يعتبر أيضاً في الإجماع من ليس من أهل
النظر والاجتهاد.
ويبين صحة هذا: أن من لا مدخل له في تقويم الثوب وما يجري
مجراه، فإنه لا يرجع إلى قوله فيه، ولا يعتد بقوله إذا
احتيج إلى تقويم الثوب ونحوه، وكذلك من لا مدخل له في
النظر بطرق الاجتهاد في أحكام الحوادث.
ولأن القول يتبع العلم [170/ب] بالقول، والعمل يتبع العلم
بالمعمول به، فلم يجز أن يعتد في الإجماع على الشيء بمن لا
علم له به.
ولأن المجتهد في الإجماع هو من كان معه آلة الإجماع التى
يتوصل بها إلى معرفة الحكم، بأن يعرف القياس وأحكام
المسائل وعلَلَها، حتى يقيس نظائرها عليها، ويرد الفروع
إلى الأصول التى تشبهها، ومن لا يعرف أحكام الفروع لا
يتمكن من هذا الذي ذكرنا، فلم يكن من أهل الاجتهاد إذا كان
عارفاً بأشياء أخر، كمن عرف الحساب واللغة وغير ذلك من
أنواع العلوم.
فإن قيل: إذا عرف أصول الفقه أمكنه رد فروعه إليه.
قيل: ليس الأمر على هذا، لأنه إنما يمكن رد الفروع إلى
الأصول، إذا عرف معانيَها ونظائرها، حتى يقيسَ عليها.
ويبين هذا: أنه لو كان هذا من أهل الاجتهاد لا يُحْتَمل
قوله في الحادثة وتوقيفُه على الحكم، وما اقتصر على مجرد
سكوته.
__________
= قلت: ولاشك أن معرفة أصول الفقه شرط في المجتهد، ولكنها
ليست كل الشروط، فمعرفتها وحدها لا تكفي في تسنم رتبة
الاجتهاد. والله أعلم.
(4/1137)
ومن يخالف في
هذه المسألة يقول:
إذا أجمع أهل الاجتهاد على شيء، ورضي المتكلمون بذلك في
الجملة، ولم يعرفوا غير الحكم، ولا اجتهدوا، انعقد
الإجماع.
وهذا يدل على أنهم بمنزلة العامة، وأنهما خارجون من جملة
أهل الاجتهاد.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ)
(1) وهؤلاء من جملة المؤمنين.
وقول النبى - صلى الله عليه وسلم -َ (لا تَجتمعُ أمتي على
الخَطأ) ولم يخص.
والجواب: أن المراد بذلك من هو من أهل الاجتهاد، ألا ترى
أنه لم يرد به العامة.
واحتج: بأن من عرف أصول الفرائض، ولم يعرف الغامض فيه
[يعتبر قوله في ذلك] (2).
والجواب: بأن من عرف أصول الفرائض، يمكنه بناء فروعها
عليها بالحساب والقياس، ومن عرف أصول الفقه لا يمكنه بناء
أحكام فروعه عليه؛ لأن الفروع تختص بأدلة لا يشاركها
الأصول فيها (3).
__________
(1) (115) سورة النساء.
(2) الزيادة من التمهيد (3/252).
(3) ينبغي أن يقال هنا: إن الواحد من الأمة لا يخلو من
ثلات حالات:
الأولى: أن لا يعرف الفقه والأصول فهذا لا يعتبر قوله إلا
على رأي من اعتبر قول العامة، وهو رأي مرجوح.
الثانية: أن يعرف الفقه والأصول فهذا يعتبر وفاقه وخلافه
بدون خلاف.
الثالثة: أن يعرف أحدهما دون الآخر، وهذا فيه الخلاف الذي
ذكره المؤلف.
انظر: نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر (1/352).
(4/1138)
فصل
ولا يعتبر في صحة انعقاد الإجماع بأهل الضلال والفسق،
وإنما الإجماع إجماع أهل الحق، الذين لم يثبت فسقهم
وضلالهم (1).
وقد قال أحمد -رحمه الله-، في رواية بكر بن محمد عن أبيه:
"لا يشهد عندي رجلٌ، ليس هو عندي بعدل، وكيف أجوز حكمه؟!
يعنى: الجَهْمي" (2).
وبهذا قال الرازي (3) والجرجاني (4).
__________
(1) راجع في هذا الفصل: أصول الجصاص الورقة (223/أ)
التمهيد (3/252) والمسوَّدة ص (331) وروضة الناظر مع شرحها
نزهة الخاطر العاطر (1/353) وشرح الكوكب المنير (2/227).
وكان ينبغي أن يحرر القول في هذه المسألة فقال: إن الكافر
على قسمين:
معاند ومتأول، فالمعاند كاليهودي لا يعتبر وفاقه أو خلافه؛
لأن العصمة في الإجماع للمؤمنين، وهو ليس بمؤمن.
أما المتأول كالقدرية ففيهم رأيان، أحدهما لا يعتبر قولهم،
والثاني يعتبر عند من لم يكفرهم.
انظر: نزهة الخاطر العاطر (1/353)، والإحكام للآمدي
(1/207).
(2) هذا ليس بعدل عند الإمام أحمد؛ لأنه جهمي، والجهمي
كافر عنده.
انظر: مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود ص (263) وما
بعدها، والمعتمد في أصول الدين للمؤلف ص (267).
(3) صرح بذلك في أصوله الورقة (223/ب).
(4) واختاره الأستاذ أبو منصور، حيث قال: (قال: أهل السنة:
لا يعتبر في الإجماع وفاق القدرية والخوارج والرافضة).
وهو مروي عن مالك والأوزاعي ومحمد بن الحسن وغيرهم.
انظر: شرح الكوكب المنير (2/227) ونزهة الخاطر العاطر
(1/354).
(4/1139)
وذهب قوم من
المتكلمين إلى أنه يعتد في الإجماع بمن يخالف الحق، كما
يعتد بأهل الحق، سواء عظمت معصية المخالف للحق أو لم تعظم.
وهو اختيار أبي سفيان الحنفي.
وذكر الإسفراييني (1) : إن ارتكب بدعة كفر بها لم يعتد
بقوله، وإن فسق بها، أو أتى كبيرة يعتد به (2) [171/أ].
دليلنا:
قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطَاً
لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (3) فجعلهم شهداء
على الناس وحجة عليهم فيما يشهدون به، لكونهم وسطاً.
والوسط في اللغة: هو العدل (4)، فلما لم يكن أهل الفسق
والضلال بهذه الصفة، لم يجز أن يكونوا من الشهداء على
الناس، فلا يعتد بهم في الإجماع.
ويدل عليه أيضاً: قوله: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
المْؤْمِنِينَ) (5) فلما لم يكن سبيل أهل الفسق والضلال
سبيل المؤمنين، لم يجز أن يكون سبيلهم مأموراً باتباعه.
ولأنه قد يجوز أن يعصي فيما يعتد به فيه من الإجماع، كما
يعصي في غيره،
__________
(1) نقل ذلك عنه في التمهيد (3/253) والمسوَّدة ص (331).
(2) واختاره أبو الخطاب من الحنابلة كما في التمهيد الموضع
السابق وإمام الحرمين كما في البرهان (1/688)والغزالي كما
في المستصفى (1/183) والآمدي كما في الإحكام (1/207).
وهناك رأي آخر يقول: (إن ذكر مستنداً صالحاً اعتد بقوله،
وإلا فلا)
انظر: المسوَّدة الموضع السابق، وشرح الكوكب المنير
(2/228).
(3) آية (143) من سورة البقرة.
(4) قد مضى الكلام على معنى هذه الكلمة في الهامش عند
استدلال المؤلف بهذه الآية على حجية الإجماع.
(5) آية (115) من سورة النساء.
(4/1140)
فلا يجوز
الاعتداد به.
فإن قيل: قد لا يختار المعصية فيما يدخل به في جملة
المجمعين، وإن كان قد يختار ذلك في غير باب الإجماع، ألا
ترى أن الدلالة قد دلت على امتناع وقوع الخطأ من الأنبياء
عليهم السلام فيما هم حجة فيه، وإن كان يجوز وقوع الخطأ
الصغير منهم في غير ما يؤدونه إلينا.
قيل: فيجب أن يقبل خبر الكذاب؛ لأنه يجوز أن لا يختار
الكذب فيما يرويه، وإن كان يختار ذلك في غير باب الأخبار،
ولا يشبه هذا الأنبياء؛ لأنهم معصومون في الرسالة.
وأيضاً: فإن كونهم في جملة المجمعين يقتضي مدحهم وتعظيمهم،
وكونهم من أهل الفسق والضلال يقتضي ذمهم والاستخفاف [بهم]،
فلما لم يجز أن يكونوا استحقوا الذم والمديح في حالة
واحدة، لم يجز أن يكونوا داخلين في جملة من يعتد بهم في
الإجماع مع كونهم من أهل الفسق.
ويدل عليه قوله تعالى: (وَاتَّبع سَبِيلَ مَنْ أنَابَ
إِلَىَّ) (1).
وقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ أخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) (2) والفاسق يأمر بالمنكر،
ويمنع المعروف.
ولأن من لا تقبل شهادته في حق خاص لم يعتد به فيما يلزم
الجماعة.
ولأنه إخبار بأمر من أمور الدين، فلا يدخل فيه الفاسق، مثل
(3) أخبار الآحاد.
واحتج المخالف:
بقوله عليه السلام: (أمتي لا تجتمعُ على الخطأ) فلما كان
أهل الفسق والضلال من جملة الأمة وجب أن يعتد بهم في جملة
الإجماع.
والجواب: أن المراد بذلك العدول منهم، كما كان المراد به
العلماء منهم.
__________
(1) آية (15) من سورة لقمان.
(2) آية (110) من سورة آل عمران.
(3) في الأصل: (مثلا).
(4/1141)
واحتج: بأنهم
قادرون على الصواب كقدرتهم على الخطأ، فلم يمتنع أن يدل
الدليل على أنهم لا يختارون إلا الصواب فيما يعتد به بهم
في جملة المجمعين، وإن جاز أن يختاروا مثل ذلك في غير باب
الإجماع، وقد دلّ الدليل على ذلك، وهو قوله عليه السلام:
(أمتي لا تَجتمعُ على الخطأ).
والجواب: أن الفاسق قادر على الصدق في خبره، ومع هذا فلا
يقبل خبره.
واحتج: [171/ب] بأن أخبار التواتر تسمع من العدل والفاسق،
كذلك الإجماع.
والجواب: أن ذلك يقع من كل فرقة، والإجماع يختص بفرقة.
مسألة
أهل المدينة وغيرهم في الإجماع سواء، فإذا قالوا قولاً،
ووافقهم غيرهم عليه صار إجماعاً، وإن خالفهم غيرهم من أهل
الأمصار لم يكن إجماعاً. ولا يكون قولهم أولى من قول غيرهم
(1).
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية أيى داود: "لا يُعجبُنى
رأي مالك ولا رأي أحد"(2).
وقال -في رواية مهنا-: "لا ينبغي لرجل أن يضع كتاباً على
أهل المدينة في بعض أقاويلهم التي (3) يذهبون إليها،
ويأخذون بها عن عمر والصحابة والتابعين".
__________
(1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (228/ب)
والتمهيد (3/274) والمسوَّدة ص (331) وروضة الناظر مع
شرحها (1/363) وشرح الكوكب المنير (2/237).
(2) الرواية بنصها موجودة في مسائل الإمام أحمد رواية أبى
داود ص (275).
(3) في الأصل: (الذي).
(4/1142)
وظاهر هذا
[عدم] جواز الوضع فيما انفردوا به.
وحُكِي عن مالك أنه قال: "إذا أجمع أهل المدينة على شىء،
صار إجماعاً مقطوعاً عليه، وإن خالفهم فيه (1) غيرهم" (2).
وقال قوم من أصحابه: إنه أراد إجماعهم (3) فيما طريقه
النقل. وهذا فرار من المسألة.
وقال آخرون: أراد بذلك اجتماعهم في زمن الصحابة والتابعين
ومن يليهم (4).
دليلنا:
قوله تعالى: (ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ)
(5) وأهل المدينة ليس هم جميع المؤمنين.
وكذلك قوله تعالى: (أمَّةً وَسَطَاً) (6) وذلك لا يختص
بأهل المدينة؛ لأنهم بعضنا.
__________
(1) في الأصل: (فيهم).
(2) وهو ما صححه ابن الحاجب في مختصره ص (41) إلا أنه قصره
على الصحابة والتابعين.
(3) في الأصل: (اجتماعهم).
(4) وقال آخرون: (أراد ترجيح اجتهادهم على اجتهاد غيرهم).
وقال آخرون: (أراد إجماع أهل المدينة على المنقولات
المستمرة كالأذان والمد والصاع).
انظر: المسوّدة ص (332) ومختصر ابن الحاجب ص (41)، وسيذكر
المؤلف هذه الاحتمالات في آخر البحث، ويجيب عنها.
(5) آية (115) من سورة النساء.
(6) آية (143) من سورة البقرة.
(4/1143)
وقوله تعالى:
(فَإن تَنَازَغتُمْ في شَىْءٍ فرُدوهُ إِلى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ) (1) فمن قال: يرد إلى أهل المدينة، فقد ترك
الظاهر.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي كالنُّجُوم،
بأيهم اقْتَدَيتُم اهْتَدَيتُم)، ولم يفصل بين أن يكونوا
بالمدينة أو بغيرها.
وقوله: (أمتي لا تجتمعُ على خَطَأ) وظاهر الخبر يفيد كل
الأمة إلى يوم القيامة، لكن علمنا أنه لم يرد ذلك، فثبت
(2) أنه أراد الأمة من كل عصر، وليس أهل المدينة أمته في
العصر.
ولأنهم بعض الأمة، والخطأ جائز عليهم كما هو جائز على غير
أهل المدينة.
ولأن حكم الإجماع لا يخلو أن يعود إلى فضيلة البقاع أو
فضيلة الرجال في العلم، فإن اعتبرتم فيه فضيلة البقاع،
فأهل مكة أحق به، وإن عاد إلى العلم، فعلي بن أبي طالب
وابن مسعود وثلاثمائة ونيف من الصحابة انتقلوا إلى العراق
من أهل العلم والدين، وليس من أقام بالمدينة بأعلم منهم.
ولأن ما قالوه يفضي إلى أن يكون قولهم حجة ما داموا في
المدينة، فإذا خرجوا منها وغابوا إلى الشام والكوفة وغير
ذلك من البلاد لا يكون حجة، وما أفضى إلى هذا سقط في نفسه؛
لأن الاعتبار بأقوال المجتهدين، لا بمكانهم.
ولأن ما كان حجة لله تعالى لا يختلف باختلاف الأزمان بدليل
الكتاب والسنة، وقد ثبت [172/أ] أن إجماع أهل المدينة في
هذا الوقت ليس بحجة (3)، فلم (4) يجز أن يكون حجة فيما
مضى.
__________
(1) آية (59) من سورة النساء.
(2) في الأصل: (ثبت).
(3) أي عصر المؤلف، فكيف بعصرنا الحالي.
(4) في الأصل: (لم).
(4/1144)
واحتج المخالف:
بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن
الإيمان لَيَأرِزُ (1) إلى المدينة كما تَأرِزُ الحية (2)
[إلى جُحْرِها]) (3).
والجواب: أن كلامه خرج على زمان الهجرة في رجوع الناس إلى
المدينة هرباً من الكفار، ومعونة لرسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وهذا لا ينفي كون المؤمنين بغيرها، وجواز
الخطأ على أهلها.
وجواب آخر، وهو: أنه يفضي إلى أن جميع الإسلام إذا عاد
إليها، وحصل فيها، لم يجز خلافه.
واحتج: بقوله -عليه السلام-: (اللَّهم حبِّبْ إلينا
المدينة، وباركْ لنا في صاعِها ومُدِّها) (4).
__________
(1) معمى (ليأرز): (ينضم إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها).
النهاية مادة (أرز) (1/24).
(2) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً.
أخرجه عنه البخاري في كتاب فضائل المدينة، باب الإيمان
يأرِزُ إلى المدينة (3/26).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ
غريباً وسيعود غريباً (1/131).
وأخرجه عنه ابن ماجة في كتاب المناسك، باب فضل المدينة
(2/1038).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (2/286، 422، 496) وفي
أحدها "الإسلام" بدل "الإيمان".
(3) الزيادة من مراجع التخريج السابقة.
(4) هذا الحديث روته عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً.
أخرجه عنها البخاري في كتاب فضائل المدينة، باب...
(3/28-29) وفيه: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة =
(4/1145)
والجواب: أن
هذا لا ينفي وقوع الخطأ من أهلها كما لو دعا (1) مثل هذا
الدعاء لغيرهم (2) لم ينف وقوع الخطأ منهم (3)، وقد دعا
لعلي ولغيره من الصحابة، ولم يدل على أن قول كل واحد منهم
بانفراده حجة.
واحتج: بما روي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
(الدجَّال لا يدخلها، وأن على كل باب منها ملكاً شاهراً
سيفه) (4).
والجواب: أن هذا يفيد صيانتها من دخول الدجّال، ترغيباً في
المقام بها، وهذا لا ينفى الخطأ من المقيمين بها.
__________
= أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا،
وانقل حماها إلى الجُحْفة....).
وأخرجه عنها مسلم في كتاب الحج، باب الترغيب في سكنى
المدينة والصبر على لأوائها (2/1003) وفيه: (وبارك لنا في
صاعها ومدها) مثل الرواية التي ساقها المؤلف.
وأخرجه عنها الإمام مالك في الموطأ في كتاب الجامع، باب ما
جاء في وباء المدينة ص (555).
وأخرجه عنها الإمام أحمد في مسنده (6/56، 65، 222، 240،
260).
(1) في الأصل: (أدعى).
(2) في الأصل: (لغيره).
(3) في الأصل: (منه).
(4) هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/373- 374،
417-418) عن فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- وفيه: (... إن
الله حرم حرمي على الدجال أن يدخلها، ثم حلف رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - والله الذي لا إله إلا هو ما لها
طريق ضيق ولا واسع في سهل ولا جبل إلا عليه ملك شاهر
بالسيف إلى يوم القيامة، ما يستطيع الدجال أن يدخلها على
أهلها).
وأخرجه عنها ابن ماجة في كتاب الفتن، باب فتنة الدجال
وخروح عيسى ابن مريم.... (2/1354-1355). =
(4/1146)
واحتج: بأن
النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفها بحفوف الملائكة بها.
والجواب: أنه يحتمل أن يكون أراد صيانة المهاجرين
والأنصار، وتسكيناً لروعهم من الكفار.
واحتج: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
(إن المدينة تنفى خَبَثَها كما تنفي النارُ خَبَثَ الحديد)
(1).
__________
= والحديث الذي أورده المؤلف -رحمه الله- يدل على أمرين:
1- الدجال لا يدخل المدينة.
2- أنها محروسة بالملائكة.
وذلك ثابت يشهد له ما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي
الله عنه - مرفوعاً في كتاب فضائل المدينة، باب: لا يدخل
الدجال المدينة (3/26-27)
ولفظه: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنقاب
المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال).
كما أخرج عن أنس وأبي بكرة -رضي الله عنهما- في الموضع
السابق ما يدل على ذلك.
ويؤيده ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -
مرفوعاً في كتاب الحج، باب: صيانة المدينة من دخول الطاعون
والدجال إليها (2/1005).
ويؤيده أيضاً: ما أخرجه الإمام مالك في موطئه عن أبي هريرة
- رضي الله عنه - مرفوعاً في كتاب الجامع، باب: ما جاء في
وباء المدينة ص (556).
(1) هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -
مرفوعاً.
أخرجه عنه البخاري في كتاب فضائل المدينة، باب المدينة
تنفي الخبث (3/27) وفيه: (المدينة كالكير تَنْفي خبَثَها،
ويَنْصَع طيبها) كما أخرجه في الموضع السابق ص (28) عن زيد
بن ثابت - رضي الله عنه - وفيه: (إنها تَنْفي الدجال كما
تنفي النار خَبَثَ الحديد).
وأخرجه مسلم في كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها
(2/1005) عن أبي هريرة وجابر بن عبد الله وزيد بن ثابت
-رضي الله عنهم- بألفاظ متقاربة.
وأخرجه الإمام مالك في موطئه في كتاب الجامع، باب ما جاء
في سكنى المدينة =
(4/1147)
والجواب: أنه
أراد بذلك في زمانه، بدلالة كثرة الخبث بها بعده، ومخبره
لا يقع بخلاف ما أخبر به.
ويحتمل: أن يكون أراد بالخبث الكفر والشرك عنها ظاهراً،
فأما أهل الاجتهاد إذا خرجوا منها فلا.
واحتج: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا
يصبرُ على لأَوَاءِ (1) المدينة وشدتها أحد إلا كنتُ له
شهيداً يوم القيامة) (2).
والجواب: أنه ترغيب للمقام بها من غير أن يعتبر نفي الخطأ
عنهم فيما طريقه الشريعة.
واحتج: بما روي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا
يكيدُ أحدٌ أهلَ المدينة إلا انْمَاعَ كما يَنْماعُ الملحُ
في المَاءِ) (3).
__________
= والخروج منها ص (553) عن جابر بن عبد الله وزيد بن ثابت
- رضي الله عنهما.
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/237، 247) عن أبي هريرة -
رضي الله عنه.
(1) اللأواء: الشدة وضيق المعيشة. النهاية مادة (لأي)
(4/43).
هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب الترغيب في سكنى
المدينة والصبر على لأوائها (2/1002-1005) عن أبي هريرة -
رضي الله عنه - بمثل لفظ المؤلف إلا أنه قال: (شفيعاً أو
شهيداً).
وأخرجه في الموضع السابق عن عبد الله بن عمر - رضي الله
عنه.
كما أخرجه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - بلفظ (لا
يصبر أحد على لأوائها فيموت، إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً
يوم القيامة، إذا كان مسلماً).
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الجامع، باب: ما جاء
في سكنى المدينة والخروج منها ص (552-553) عن ابن عمر -
رضي الله عنه -.
(3) هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب فضائل المدينة، باب:
إثم من كاد أهل المدينة (3/26) عن سعد - رضي الله عنه -
ولفظه كلفظ المؤلف. =
(4/1148)
والجواب: أنه
مقيد بما يفعله الله تعالى بمن أراد سوءً بالمدينة، والخطأ
فيما يتفقون عليه في أمر الدين ليس من هذا في شىء، ومن
ذمهم أو ردَّ عليهم، فإنه لا يريد سوءً بالمدينة.
ولا يجوز حملُه على الأهل من غير دلالة.
ولأن الفسق عبارة [172/ب] عن الفعل المذموم، ومن أنكر
عليهم في خطئهم فقد دعاهم إلى خير، وأراده منهم.
وعلى أن المكايَدَة هى المباينة بغير حق، وخلافُنا في
الخلاف فيما هو حق، ويسوغ فلا يتناول الخبر موضعَ الخلاف.
وجواب آخر، وهو: أن الخبرَ حجةٌ لنا، فإنه يتناول أهل
المدينة حيث كانوا فيها أو في غيرها، فيجب إذا كانوا
بالكوفة وغيرها من البلاد لا يُخالفون.
واحتج: بأن أهل المدينة شاهدوا الرسول وحضروا التنزيل
وعرفوا التأويل.
والجواب: أن الصحابة الذين هذه صفتهم قولهم حجة، وإنما
الخلاف فيه: إذا كان بعضهم بالمدينة وبعضهم خارجاً عنها،
هل يكون قول البعض الذين بالمدينة حجةً على غيرهم؟ وليس
فيما ذكروه ما يدل على ذلك.
فأمَّا من قال: إن إجماع أهل المدينة حجة فيما طريقه
التواتر فقد أبعد، لأن خبر التواتر، لا يختص بطائفة، وقد
يقع ذلك ببعض أهل المدينة.
ولا يجوز أن يُحمل قول مالك على تجويز الخطأ في تواتر غير
أهل المدينة، وترجيح تواتر أهل المدينة، لأنهم عرفوا أواخر
فعل النبي -عليه السلام- لأن من نقل الأخبار إلى غير أهل
المدينة هم الصحابة الذين عرفوا أواخر فعله
__________
= وأخرجه مسلم في كتاب الحج، باب: من أراد أهل المدينة
بسوء أذابه الله (2/1007-1008) عن سعد بن أبي وقاص وأبي
هريرة وسعد بن مالك -رضي الله عنهم- بألفاظ متقاربة،
والمعنى واحد.
(4/1149)
وأوائله (1)،
فلا يختص معرفة ذلك بالمقيمين بالمدينة.
ولأن آحاد غير أهل المدينة قد يكونون (2) أحفظ بالخبر من
آحادهم. وقد روى رافع بن خديج (3) : النهيَ عن المُزارعة
لأهل المدينة، فرجعوا إلى خبره (4).
__________
(1) في الأصل: (أوائلها).
(2) في الأصل: (يكونوا).
(3) هو رافع بن خديج بن رافع بن عدي، الأنصاري، الأوسي،
الحارثي، أبو عبد الله صحابي جليل. شهد أحداً وما بعدها.
مات سنة (74هـ) بالمدينة، وله من العمر (86) سنة.
له ترجمة في: الاستيعاب (2/479) والإصابة (2/86).
(4) حديث رافع هذا أخرجه البخاري في كتاب المزارعة، باب ما
كان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضهم
بعضاً في الزراعة والثمرة.
وأخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب كراء الأرض (3/1181).
وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب التشديد في ذلك
(1/232).
وأخرجه ابن ماجة في كتاب الرهون، باب المزارعة بالثلث
والربع (2/819).
وأخرجه النسائي في أول كتاب المزارعة، (7/43).
وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب التفليس والصلح وأحكام
الجوار والمزارعة والإجارة، باب المزارعة (1/275).
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الشركة والقراض، باب ما جاء
في كراء الأرض (2/119).
وأخرجه الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار في كتاب
المزارعة والمساقاة (4/105).
وراجع في هذا الحديث أيضاً: نصب الراية (4/180) وذخائر
المواريث (1/205).
(4/1150)
ولا يجوز أن
يحمل ذلك على عمل أهل المدينة إذا ظهر، مثل نقلهم للصاع،
لأن هذا إن كان عن خبر مستفيض فلا يخفى، وإن كان عن اجتهاد
فاجتهادهم لا يلزم غيرهم.
ولا يجوز أن يحمل ذلك على تقديم اجتهاد أهل المدينة على
اجتهاد غيرهم؛ لأن ذلك إن كان يجب لمشاهدتهم لأقاويل رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزول آي القرآن فإن ذلك حصل
من الصحابة الذين انتقلوا إلى البصرة والكوفة، فلا معنى
للتفريق.
ولو وجب ما ذكروه لصار قول أهل مكة أولى في المناسك،
لمشاهدتهم (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلها
عندهم، ولَوَجَبَ (2) على ما قالوه أن يكونوا (3) أكثر
الأمة إجماعاً (4)، لأنهم أعلم.
وأن يرجح قول المهاجرين لكثرة مشاهدتهم بطول صحبتهم.
وأن يرجح [قول]، المهاجرين لهذا المعنى، وقول شيوخ الصحابة
على الأحداث (5).
__________
(1) في الأصل: (فمشاهدتهم).
(2) في الأصل: (والواجب) ودلالة السياق تدل على ما
أثبتناه.
(3) في الأصل: (يكون).
(4) في الأصل: (اجتماعاً).
(5) الكلام في مسألة إجماع أهل المدينة، أو عمل أهل
المدينة قد كثر، فمن العلماء من نقله عن مالك صريحاً،
ومنهم من أوَّله، وخرجه على وجه سائغ، ومنهم من فصَّل.
وقد جعل شيخ الإسلام ابن تيمية عمل أهل المدينة أربع
مراتب:
المرتبة الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - مثل =
(4/1151)
مسألة
في التابعي إذا أدرك عصر الصحابة، وهو من أهل الاجتهاد لم
يعتدَّ بخلافه
__________
= نقلهم لمقدار الصاع والمد، وكترك صدقة الخضروات
والأحباس، فهذا حجة باتفاق.
المرتبة الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن
عفان - رضي الله عنه - فهذا حجة في مذهب مالك، والمنصوص عن
الشافعى، وظاهر مذهب أحمد، والمحكي عن أبي حنيفة.
المرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين
وقياسين، جهل أيهما أرجح، وأحدهما يعمل به أهل المدينة،
فاختلف فيه:
فذهب مالك والشافعى: إلى أنه حجة، وهو أحد الوجهين لأصحاب
أحمد، وقيل: هذا المنصوص عن أحمد، ومن كلامه: "إذا روى أهل
المدينة حديثاً، وعملوا به، فهو الغاية". وكان يفتي على
مذهب أهل المدينة، ويقدمه على مذهب أهل العراق تقديماً
كثيراً.
وذهب أبو حنيفة، وهو أحد الوجهين لأصحاب أحمد: أنه ليس
بحجة.
المرتبة الرابعة: العمل المتأخر بالمدينة، فالذي عليه أئمة
الناس: أنه ليس بحجة، وهو مذهب الشافعى وأحمد وأبي حنيفة
وغيرهم، وهو قول المحققين من أصحاب مالك، كما ذكر ذلك عبد
الوهاب في كتابه: أصول الفقه، وغيره. وربما جعله أهل
المغرب من أصحاب مالك حجة، وليس معهم عن الأئمة نص ولا
دليل بل هم أهل تقليد.
قال ابن تيمية بعد هذا: (ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل
هذا حجة).
انظر: الفتاوي (20/303-310) والعرف وأثره في الشريعة
والقانون للمحقق ص (74).
ولابن القيم تقسيم آخر، ارجع إليه في اعلام الموقعين
(2/394).
وللدكتور أحمد بن محمد نور سيف كتاب في هذا الموضوع
بعنوان: عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء
الأصوليين، فارجع إليه.
(4/1152)
في أصح
الروايتين(1).
أومأ إليها في [173/أ] مواضع.
فقال في رواية أبي الحارث، وقد سأله: "إلى أي شىء ذهبت في
ترك الصلاة بين التراويح (2)؟ فقال: ضَربَ عليها عقبةُ بن
عامر (3) ونهى عنها (4) عبادة بن الصامت، فقيل له: يروى عن
سعيد والحسن: أنهما كانا يريان الصلاة بين التراويح (5)
فقال: أقول لك: أصحاب رسول [الله]، وتقول: التابعين!".
__________
(1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (231/أ)
والتمهيد (3/267) والمسوَّدة ص (333) وروضة الناظر مع
شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/335) وشرح الكوكب المنير
(2/233).
(2) العادة أن الإمام يريح المصلين في صلاة التراويح، فإذا
صلى أربعاً مثلاً أراحهم مقدار ما يقضي الإنسان حاجته
ويتوضأ، ففي هذه الفترة يقوم بعض الناس فيصلى، أو يقرأ في
الصلاة حتى ينهض الإمام فيدخل معه.
(3) هو عقبة بن عامر بن عبس الجهني، أبو حماد، صحابي. كان
والياً على مصر. وتوفي آخر خلافة معاوية.
له ترجمة في: الاستيعاب (3/1073).
(4) نهي عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أخرجه عنه ابن
أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصلوات، باب في الصلاة بين
التراويح (2/399).
(5) ما هنا موافق لما في المغني لابن قدامة (2/170) حيث
قال: (وكره أبو عبد الله التطوع بين التراويح، وقال: فيه
عن ثلاثة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبادة
وأبو الدرداء وعقبة بن عامر. فذُكر لأبي عبد الله فيه رخصة
عن بعض الصحابة؟ فقال: هذا باطل، وإنما فيه عن الحسن وسعيد
بن جبير).
ونقل ابن هانئ في مسائله (1/97) عن الإمام أحمد قوله -وقد
سأله عن =
(4/1153)
وسأله أيضاً عن
عدد قتلوا رجلاً؟ "قال: يقادون (1) به، يروى عن عمر (2)
__________
= الصلاة بين التراويح -: (مكروه، لا يصلي بين التراويح
شىء، لا تشبه بالمكتوبة، كانوا يضربون عليها، يعنى: من
تطوع بين التراويح).
(1) في الأصل: (يقود).
(2) هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - رواه البخاري
معلقاً في كتاب الديات، باب
إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم (9/10)
ولفظه: (وقال لي ابن بشار حدثنا يحيى عن عبيد الله
عن نافع عن ابن عمر أن غلاماً قُتل غِيلَة، فقال عمر: لو
اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم).
وأخرجه عنه البيهقي في سننه في كتاب الجنايات، باب النفر
يقتلون الرجل (8/40-41) ولفظه: (أن عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - قتل نفراً خمسة أو سبعة برجل قتلوه قتل غِيلة،
وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتُهم جميعاً).
ثم ذكر المؤلف روايات أخرى كلها تفيد أن عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه - كان يقتل الجماعة بالواحد.
وأخرجه مالك في الموطأ، في كتاب العقول، باب: ما جاء في
الغيلة والسحر ص (543).
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب: النفر
يقتلون الرجل (9/475-480) وساق عدة روايات في ذلك.
وأخرجه الدارقطنى في سننه في كتاب الحدود والديات (3/202).
وأخرجه الإمام الشافعى في كتاب القتل والجنايات، باب: ما
جاء في قتل الجماعة بالواحد... (2/249).
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الديات، باب الرجل
يقتله النفر (9/347-348) وساق ثلاث روايات في ذلك.
وانظر: تغليق التعليق على صحيح البخاري لابن حجر (5/250).
(4/1154)
وعلي (1)، فقيل
له: يروى عن بعض التابعين (2): أنه لا يقتل اثنان بواحد
(3)،
__________
(1) الأثر هذا عن علي - رضي الله عنه - أخرجه عنه البيهقي
في الموضع السابق ذكره، ولفظه: (عن سعيد بن وهب: قال: خرج
قوم، وصحبهم رجل، فقدِموا وليس معهم، فاتهمهم أهلُه، فقال
شريح: شهودكم أنهم قتلوا صاحبكم، وإلا حلفوا بالله ما
قتلوه، فأتوا بهم علياً - رضي الله عنه - قال سعيد: وأنا
عنده، ففرق بينهم فاعترفوا، قال: فسمعت علياً - رضي الله
عنه - يقول: أنا أبو حسن القرم، فأمر بهم علي - رضي الله
عنه - فقتلوا.).
وأخرج عبد الرزاق في مصنفه في الموضع السابق (9/477) (أن
عمر كان يشك فيها حتى قال علي: يا أمير المؤمنين: أرأيت لو
أن نفراً اشتركوا في سرقة جزور، فأخذ هذا عضواً، وهذا
عضواً أكنت قاطعهم؟ قال: نعم، قال: فذلك، حين استمدح له
الرأي).
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في الموضع السابق (9/348)
بمثل لفظ البيهقي.
والقول بقتل الجماعة بالواحد مروي عن ابن عباس وسفيان
وقتادة والحسن وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعطاء.
انظر: المصنف لعبد الرزاق (9/475-480).
وراجع في هذا الموضوع: نصب الراية (4/353-354) والتلخيص
الحبير (4/20).
(2) نقل ابن أبي شيبة في مصنفه -كما سيأتي- القول بقتل
واحد من الجماعة عن معاذ: ابن الزبير -رضي الله عنهما-.
كما نقله عبد الرزاق في مصنفه -كما سيأتي- عن ابن الزبير -
رضي الله عنه - وفي المذهب الحنبلي: رواية ثانية: أنهم لا
يقتلون بالواحد، وتجب عليهم الدية.
انظر: المغنى لابن قدامة (7/671) طبعة المنار الثالثة.
(3) نقل ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب: الديات، باب: من
كان لا يقتل منهم إلا واحداً (9/349) هذا القول عن حبيب
ابن أبي ثابت وعبد الملك وابن الزبير وهشام ابن محمد ومعاد
بن جبل. =
(4/1155)
فقال: ما يُصنع
بالتابعين؟".
وكذلك نقل أبو عبد الله القَواريري (1) - كاتب أبي هاشم -
قال: "سمعت أحمد يذاكر رجلاً، فقال له الرجل: قال عطاء،
فقال: أقول لك: قال ابن عمر، تقول: قال عطاء، من عطاء، ومن
أبوه؟".
وظاهر هذا (2): أنه لم يعتبر بقوله (3).
وبهذا قال طائفة من أصحاب الشافعى (4).
__________
= ونقله عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب النفر
يقتلون الرجل (9/479) عن ابن الزبير والزهري وعبد الملك.
ونقل عن معمر قوله: (وما علمت أحداً قتلهم جميعاً إلا ما
قالوا في عمر).
كما نقل عن الزهري قوله: (ثم مضت السُّنة بعد ذلك -أي بعد
حكم عمر - رضي الله عنه - في النفر الذين تمالؤا على قتل
واحد في صنعاء- ألا يقتل إلا واحد).
قلت: وهذا غير مسلم، لما ثبت عن علي - رضي الله عنه - أنه
قتل جماعة بواحد، كما سبق تخريجه قريباً.
(1) أقف على ترجمته.
(2) الظاهر: أن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- قدم قول
الصحابة على قول التابعين -كما في الرواية الأولى- أو قول
الصحابي على قول التابعي -كما في الرواية الثانية- وليس
فيما ذكر تقدم إجماع من الصحابة، خالفهم فيه التابعون بعد
ذلك حتى يتم الاستدلال. والله أعلم.
(3) واختار هذه الرواية الحلال والحلواني المؤلف -كما
سترى- وإسماعيل بن عُلَيَّة.
انظر: المسوّدة ص (333) وشرح الكوكب المنير (2/233).
(4) انظر: التبصرة في أصول الفقه: ص (384) وإرشاد الفحول ص
(81).
(4/1156)
وفيه رواية
أخرى: يُعتدُّ بخلافه (1).
أومأ إليه (2) -رحمه الله- في رواية أبي الحسن بن هارون
(3)، قال: "لا ينظر العبد إلى شعر مولاته، واحتج بقول
سعيد" (4).
وكذلك نقل عبد الله عن أبيه: "لا ينظر إلى شعر مولاته،
وقال: قد روي عن ابن عباس أنه قال: لا بأس أن ينظر العبد
إلى شعر مولاته، وتأول الآية (5). وقال سعيد: لا تغرنكم
هذه الآية التي في سورة النور: (أو مَا مَلَكَتْ
أيمَانُهُنَّ) (6) إنما عنى بها الإماء، لا ينبغي أن ينظر
إلى شعرها" (7).
وكذلك نقل أبو طالب عنه: "لا ينظر إلى شعر مولاته، وذكر
قول سعيد: لا تغرنكم هذه الآية، ولم نَسمع إلا حديث السدّي
عن ابن مالك (8) عن
__________
(1) وبه قال جمهور الأصوليين. واختاره ابن عقيل وأبو
الخطاب وابن قدامة من الحنابلة وكما اختاره المؤلف في بعض
كتبه.
انظر: التمهيد ونزهة الخاطر العاطر (1/355)، والمسودة ص
(333) وشرح الكوكب المنير (2/232-233).
(2) كان الأولى أن يعيد الضمير مؤنثاً، فيقول: (إليها) كما
صنع في الرواية الأولى، وربما يُخرَّج على قصد (القول).
(3) لم أقف على ترجمته.
(4) يعني: ابن المسيب، كما سيأتي في تخريج الأثر.
(5) هذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب:
النكاح، باب: ما قالوا في الرجل المملوك، له أن يرى شعر
مولاته؟ (4/334).
(6) (31) سورة النور، والآية في الأصل: (أو ما ملكت
أيمانكم) وهو خطأ.
(7) أثر سعيد هذا أخرجه عنه ابن أبي شيبة في مصنفه في
الموضع السابق (4/335) ونقل أن مجاهداً وعطاء والضحاك
كرهوا ذلك، كما نقل عن إبراهيم قوله: (تستتر المرأة عن
غلامها).
(8) هكذا في الأصل: (ابن مالك) وهو موافق لما جاء في تهذيب
الكمال للمزي في ترجمته السدّي (1/104) مخطوطة دار الكتب
المصرية.
وفي مصنف ابن أبي شيبة (4/334): (أبو مالك) وهو موافق لما
جاء في تهذيب =
(4/1157)
ابن عباس (1)،
فأما التابعون فقد نهى عنه غير واحد".
فظاهر هذا: أنه اعتدَّ بقول سعيد خلافاً على ابن عباس.
قال أبو بكر الخلال في كتاب "غض البصر" من "الجامع" (2):
"إنما صار أحمد -رحمه الله- إلى هذا، وترك قول ابن عباس؛
لأنه ضعيف. ومذهب أبي عبد الله: إذا صح عنده عن أحد من
أصحاب رسول الله شىء (3) لم يجاوزه إلى من بعده من
التابعين".
__________
= الكمال في ترجمة غزوان (2/1089)، وموافق لما جاء في
تهذيب التهذيب (8/245) وتقريب التهذيب (2/105)، وتاريخ
البخاري (7/108)، والجرح والتعديل (5/55) والإكمال (7/15).
والذي يظهر لي أنه: ابن مالك، وأبو مالك، إذ لا منافاة بين
الأمرين، وإن كان اشتهر بكنيته. كما قال الحافظ في
التقريب.
وهو: غزوان بن مالك، أو أبو مالك الغفاري، الكوفي. روى عن
عمار بن ياسر وابن عباس والبراء بن عازب وغيرهم. وعنه
السدّي وسلمة بن كهيل وحصين بن عبد الرحمن وغيرهم. وثقه
ابن معين. وذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن حجر في
التقريب: (ثقة من الثالثة).
انظر ترجمته في: المراجع السابقة.
(1) هذا سند الأثر الذي روي فيه عن ابن عباس القول بجواز
أن ينظر المملوك إلى شعر جاريته. وسيأتي كلام للإمام أحمد
عن هذا السند.
(2) هذا الكتاب يقول عنه الدكتور فؤاد سزكين في كتابه:
تاريخ التراث العربي (م1 ج3 ص233-234): (يضم مجموعة من كتب
ورسائل ومسائل أحمد بن حنبل التي تتكون من عشرين جزءً...
المتحف البريطاني الملحق 168، مخطوطات شرقية 2675 (1، 212
ورقة، وسماع 560 هـ، 577 هـ)... ويوجد في حوزة محمد بن عبد
الرزاق بن حمزة بمكة (جزء آخر، 212 ورقة، 583 هـ ومنه نسخة
مصورة بالقاهرة، ملحق 1/53 رقم 21888ب) قسم آخر بعنوان:
"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مسائل أحمد بن حنبل"
الظاهرية حديث 245/1 (من ورقة 1-31، 576 هـ.
انظر: فهرس معهد المخطوطات العربية 1/62، 146).
(3) في الأصل: (شيئاً).
(4/1158)
وليس الأمر على
ما ذكر أبو بكر الخلال، لأن أحمد -رحمه الله- لم يترك حديث
ابن عباس؛ لأنه لم يثبت عنده.
يبين صحة هذا: ما رواه الأثرم قال: "قلت: السُّدِّي عن ابن
مالك عن ابن عباس؟ فقال لي: نعم، قلت: أليس هو
إسناداً؟!(1)، فقال: ليس به بأس".
وهذا يمنع ضعف الحديث عنده.
وكذلك قوله في رواية أبي طالب: "لم أسمع إلا حديث
السُّدِّى، والتابعون غير واحد، فيرجح قول التابعين
لكثرتهم لا لضعفه".
وبهذا قال المتكلمون (2) وأكثر الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة
وأصحاب الشافعى.
إلا أن أصحاب أبي حنيفة قالوا: إن كان من أهل الاجتهاد
[173/ب] عند الحادثة كان خلافه خلافاً، وإن لم يكن من أهل
الاجتهاد عند الحادثة لكنه صار من أهله قبل انقراض العصر،
فأظهر الخلاف، لم يكن خلافاً (3)، على ما حكاه أبو سفيان.
__________
(1) في الأصل: (إسناد).
(2) لو عبر المؤلف: (بأكثر المتكلمين) لكان أدق؛ لأن بعض
المتكلمين قال بالرأي الأول، كما سبق بيانه. وهو ما فعله
ابن عبد الشكور في مسلم الثبوت (2/221)، والآمدي في
الإحكام (1/218).
(3) الذي نصّ عليه الجصاص في أصوله الورقة (231/أ): (أن
التابعي الذي قد صار في عصر الصحابة من أهل الفتيا يعتد
بخلافه على الصحابة، كأنه واحد منهم).
وكذلك نصّ عليه السرخسى في أصوله (2/114).
ولكون انقراض - العصر ليس بشرط عند الحنفية، فإن التابعي
إذا بلغ رتبة الاجتهاد بعد انعقاد الإجماع، فلا أثر
لمخالفته وإذا بلغ رتبة الإجتهاد قبل انعقاد الإجماع، فإنه
يؤثر.
انظر: مسلَّم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت (2/221).
(4/1159)
وأصحاب الشافعى
(1) يجعلونه خلافاً إذا صار من أهل الاجتهاد قبل انقراض
عصر الصحابة.
فالدلالة على أنه لا يعتد بقوله مع الصحابة: قوله -عليه
السلام-: (اقتدوا باللَّذِينَ من بعدي: أبي بكر عمر) (2).
__________
(1) لو عبر ببعض أصحاب الشافعي، لكان أدق؛ لأن بعضهم لم
يعتد به مطلقاً، كما سبق بيانه.
(2) هذا الحديث رواه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -
مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في كتاب المناقب، باب: في
مناقب أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- كليهما (5/609). قال
الترمذي فيه: (حديث حسن).
قال الترمذي فيه: (حديث حسن).
كما أخرجه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً في باب
مناقب عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - (5/672) وفيه
زيادة: (واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن مسعود).
ثم قال: (هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن
مسعود، لا نعرفه، إلا من حديث يحيى بن سلمة بن كهيل، ويحيى
بن سلمة: يضعف في الحديث...).
وأخرجه ابن ماجه عن حذيفة - رضي الله عنه - في مقدمة سننه،
باب: فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1/37)
ولفظه: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إني لا
أدري ما قدر بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي" وأشار
إلى أبي بكر وعمر).
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عن حذيفة - رضي الله عنه -
(5/382) بمثل لفظ المؤلف، وفي (5/385) أخرجه عنه بمثل لفظ
ابن ماجة وزاد: (وتمسكوا بعهد عمار، وما حدثكم ابن مسعود
فصدقوه)، وفي (5/399) (وأهدوا هدي عمار، وعهد ابن أم عبد)،
وفي (5/402) زاد: (وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه) ولم يذكر
عماراً.
وقد حكم الشيخ الألباني لحديث حذيفة وحديث ابن مسعود
بالصحة.
انظر: صحيح الجامع الصغير (1/372-373).
(4/1160)
وقوله: (عليكم
بسنَّتى وسنة الخلفاء الراشدِين من بعدي، عضوا عليها
بالنواجذ) (1) فلما أمر بالاقتداء بهم، والاتباع لهم دلّ
على وجوب اتباع التابعي لهم، لم يجز خلافه.
فإن قيل: هذا لا يمنع خلافهم، كما لم يمنع خلاف غير الأئمة
من الصحابة للأئمة.
قيل: ظاهر الخبر يقتضى وجوب اتباعهم، وترك مخالفتهم من
الصحابة وغيرهم، لكن قام الدليل هناك، وبقي ما عداه على
ظاهره.
وأيضاً: قد ثبت أن قول الصحابي إذا انفرد حجة مقدم على
القياس في الصحيح من قول أصحابنا وقول أصحاب أبي حنيفة
وبعض الشافعية. ومن كان قوله حجة على غير أهل عصره لم يجز
لمن كان من أهل العصر مخالفته.
__________
(1) هذا الحديث رواه العرباض بن سارية - رضي الله عنه -
مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء
في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (5/44) وقال: (حديث حسن
صحيح).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في لزوم السنة
(2/506).
وأخرجه عنه ابن ماجة في مقدمة سننه، باب: اتباع سنة
الخلفاء الراشدين المهديين (1/15).
وأخرجه عنه الدارمي في مقدمة سننه، باب اتباع السنة
(1/43-44).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (4/126).
وأخرجه عنه أبو بكر عمر بن أبي عاصم الشيباني في كتاب
السنة (1/29) رقم (54) قال الألباني: (إسناده صحيح، رجاله
ثقات).
وأخرجه عنه الحاكم في مستدركه، في كتاب: العلم، باب: عليكم
بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين (1/95-96) وقال: (حديث صحيح،
ليس له علة) ووافقه الذهبي على ذلك.
وقد صحح الشيخ الألباني هذا الحديث في كتابه صحيح الجامع
الصغير (2/346).
(4/1161)
يدل عليه: أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان قوله حجة، لم يجز
لأهل عصره مخالفته.
فإن قيل: فالنبي حجة مقطوع عليه، والصحابي غير مقطوع عليه.
قيل: خبر الواحد والقياس غير مقطوع عليهما، ويجب اتباعهما.
فإن قيل: الذي قدمنا به قول الصحابي معرفته بأحوال التنزيل
وطريق الأخبار ومشاهدتها، وهذا المعنى يتساويان فيه، فلا
يلزم أحدهما متابعة الآخر.
قيل: فكان يجب أن لا يكون قول الصحابي حجة على غيره من
بعده من العلماء، وأن يكون قوله أيضاً (1) كقول الصحابة
لمساواته في الطريق، ولما لم يقل هذا، لم يصح، لما ذكرته.
فإن قيل: إنما يكون حجة، إذا لم يظهر من أحد من نظرائه
خلافه، فإذا ظهر خرج عن أن يكون حجة، كما أن الإجماع ينعقد
إذا لم يظهر ممن يعتدّ بقوله خلاف، فإذا ظهر لم ينعقد.
قيل: لا نسلم أن التابعي نظير للصحابى في الاجتهاد، لوجوه:
أحدها: أن قول الصحابي حجة على من بعده، والتابعي بخلاف
ذلك.
والثاني: أن الصحابي معه مزية ليست مع التابعي من مشاهدة
التنزيل وحضور التأويل.
والثالث: أنه منصوص عليه، لقوله: (عليكم بسنتي وسنة
الخلفاء من بعدي) وقوله: (أصحابي كالنُّجوم بأيهم اقتديتم
اهتديتم).
وهذا المعنى معدوم في [174/أ] التابعين.
ونجعل هذه طريقة في المسألة فنقول: للصحابي مزية على غيره
من التابعين ومن بعدهم.
__________
(1) في الأصل: (صار) ولعل ما أثبتناه هو الصواب.
(4/1162)
لأنه لا يخلو
ما قاله أن يكون عن توقيف أو اجتهاد، فإن كان عن توقيف فهو
أولى، وإن كان عن اجتهاد فاجتهاده أولى بمشاهدة التنزيل
وحضور التأويل.
ولأنه منصوص عليه بقوله: (بأيهم اقتديتم اهتديتم) وإذا
كانت له هذه المزية على غيره كان الاعتبار بقوله دون غيره،
كما قلنا في القياس مع خبر الواحد، لما كان للخبر مزية كان
مقدماً على القياس، وإن كان مساوياً له في أنه حجة،
طريقها: غلبة الظن.
وللمخالف على هذا الدليل اعتراضات، نذكرها في قول الصحابي
إذا انفرد به: أنه حجة، إن شاء الله تعالى.
واحتج المخالف:
بأنه قد ثبت أن الصحابة سوَّغت للتابعين الاجتهاد معها،
وكانوا يفتون مع الصحابة، مثل سعيد بن المسيب وشُرَيح
القاضي، الحسن البصري ومسروق وأبي وائل (1) والشعبي
وغيرهم.
ألا ترى: أن عمر وعلياً -رضي الله عنهما- ولّيَا شريحاً
القضاء، ولم ينقضا أحكامه بالفسخ مع إظهاره الخلاف عليهما
في كثير من المسائل.
وكتب عمر إليه: (إن لم تجد في السنة فاجتهد رأيك) (2). ولم
يأمره بالرجوع، ولا الحكم بقوله.
__________
(1) هو: شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، وقد سبقت ترجمته.
(2) كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى شريح مشهور،
فقد أخرحه وكيع في كتابه "أخبار القضاة" (2/189) بسنده إلى
الشعبي، ولفظه: (عن الشعبي قال: كتب عمر إلى شريح: ما في
كتاب الله وقضاء النبي -عليه السلام- فاقض به، فإذا أتاك
ما ليس في كتاب الله ولم يقض به النبي -عليه السلام- فما
قضى به أئمة العدل فأنت بالخيار إن شئت أن تجتهد رأيك، وإن
شئت تؤامرني، =
(4/1163)
وخاصم علي -
رضي الله عنه - إلى شريح، ورضي بحكمه حين حكم عليه بخلاف
رأيه (1).
__________
= ولا أرى في مؤامرتك إياي إلا أسلم لك).
كما أخرجه عن الشعبي بلفظ آخر هو: (عن الشعبي عن شريح كان
عمر كتب إليه: إذا جاءك أمر، فاقض فيه بما في كتاب الله،
فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، فاقض بما سن رسول الله، فإن
جاءك ما ليس في كتاب الله و لم يسنه رسول الله، فاقض بما
أجمع عليه الناس، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يسنه
رسول الله ولم يتكلم به أحد فاختر أي الأمرين شئت، فإن شئت
فتقدم واجتهد رأيك، وإن شئت فأخِّرْه، ولا أرى التأخير إلا
خيراً لك).
(1) لعل المقصود بهذا قصة مخاصمة علي - رضي الله عنه -
لليهودي عند القاضي شريح، خلاصتها: أن علياً - رضي الله
عنه - سقط منه درع، فوجده في السوق مع يهودي يريد بيعه،
فقال له علي - رضي الله عنه -: لليهودي درعي سقطت مني،
فأنكره اليهودي، فتحاكما إلى شريح، فقال شريح: ما أرى أن
تخرج الدرع من يده، فهل من بينة، فقال علي - رضي الله عنه
-: صدق شريح، ثم أسلم اليهودي.
وهذه القصة أخرجها البيهقي في سننه في كتاب آداب القاضي،
باب: إنصاف الخصمين في المدخل عليه والاستماع منهما...
(10/136).
وذكر الحافظ ابن حجر هذه القصة، وفيها: أن علياً جلس بجنب
شريح في خصومة له مع يهودي، فقال: لو كان خصمي مسلماً جلست
معه بين يديك، ولكني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- يقول: "لا تساووهم في المجالس".
قال الحافظ بعد ذلك: "أبو أحمد والحاكم في الكنى في ترجمة
أبي سمير عن الأعمش عن إبراهيم التيمي: قال: عرف علي درعاً
له مع يهودي، فقال: يا يهودي درعي سقطت مني، فذكره مطولا،
وقال: منكر.
وأورده ابن الجوزي في العلل من هذا الوجه، وقال: لا يصح،
تفرد به أبو سمير. =
(4/1164)
وروي عن أبي
سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: تذاكر أنا وابن عباس وأبو
هريرة في عدة المتوفى عنها زوجها:
فقال ابن عباس: أبعد الأجلين.
وقلت أنا: عدتها: أن تضع حملها.
وقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي.
__________
= ورواه البيهقي من وجه آخر من طريق جابر عن الشعبي، قال:
خرج علي إلى السوق، فإذا هو بنصراني يبيع درعاً، فعرف علي
الدرع، فذكره بغير سياقه.
وفي رواية له: لولا أن خصمي نصراني، لجثيت بين يديك، وفيه
عمرو بن شمَّر عن جابر الجعفي، وهما ضعيفان.
وقال ابن الصلاح في الكلام على أحاديث الوسيط: "لم أجد له
إسناداً يثبت".
وقال ابن عسكر في الكلام على أحاديث المهذب: "إسناده
مجهول"
انظر التلخيص الحبير (4/193).
وفي أخبار القضاة (2/194) زيادة: أن شريحاً طلب من على
بينة على أن الدرع التي مع اليهودي له، فأحضر قنبر والحسن
ابنه، فرد عليه شريح قائلاً: شهادة الابن لا تجوز للأب.
فقال علي: "سبحان الله رجل من أهل الجنة".
وفي رواية ساقها أيضاً وكيع في المرجع السابق: (أن شريحاً
قال لعلي: بينتك، فجاء بعبد الله بن جعفر ومولى له، فشهدا،
فكأن شريحاً لم يجز شهادة المولى...
فقال لعلي: اتبع بيعك بالثمن الذي دفعت إليه.
وقال [يعني علياً] في أي كتاب الله وجدت أن شهادة المولى
لا تجوز).
ففي الرواية الأولى نجد شريحاً خالف علياً في شهادة الابن.
وعلى الرواية الثانية خالفه في شهادة المولى.
وانظر: كشف الأسرار (3/945).
(4/1165)
فسوغ ابن عباس
لأبي سلمة أن يخالفه، وتبعه أبو هريرة (1).
وذكر إبراهيم (2) عن مسروق أنه قال: (كان ابن عباس إذا قدم
عليه أصحاب عبد الله (3) صنع لهم طعاماً ودعاهم، قال: فصنع
لنا مرَّة طعاماً، فجعل يسأل ويفتي، فكان يخالفنا، فما
يمنعنا أن نردّ عليه إلا أنا على طعامه) (4).
وسئل ابن عمر عن فريضة، فقال: (سلوا سعيد بن جبير، فإنه
أعلم بها منِّي) (5).
__________
(1) أخرج هذا البخاري في كتاب التفسير (سورة الطلاق)
(6/193-194) وتكملته: (فأرسل ابن عباس غلامه كريباً إلى أم
سلمة يسألها، فقالت: قتل زوج سبيعة الأسلمية، وهى حبلى،
فوضعت بعد موته لأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وكان أبو السنابل فيمن خطبها).
وأخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها
زوجها وغيرها بوضع الحمل (2/1122-1123).
وأخرجه الترمذي في كتاب الطلاق، باب ما جاء في الحامل
المتوفي عنها زوجها تضع (3/490) وقال: (هذا حديث حسن
صحيح).
وأخرجه الدارمي في كتاب الطلاق، باب عدة الحامل المتوفى
عنها زوجها والمطلقة (2/88).
وأخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب عدة الحامل المتوفى
عنها زوجها (6/157).
وأخرجه الإمام الشافعي كما في بدائع المنن في كتاب العدد،
باب عدة الحامل بوضع الحمل (2/401).
(2) هو: إبراهيم النخعي، وقد سبقت ترجمته.
(3) يعنى: ابن مسعود - رضي الله عنه.
(4) لم أقف عليه.
(5) أخرج هذا الأثر ابن سعد في الطبقات في ترجمة سعيد بن
جبير (6/258).
وفيه (فإنه أعلم بالحساب مني، وهو يُفْرِض منها ما أفرض).
(4/1166)
وسئل أنس عن
مسألة فقال: (سلوا مولانا الحسن) (1).
وإذا ثبت أنها قد سوغت لهم ذلك، لم يكن بينهم في هذا
المعنى فرق.
والجواب: أنه يحتمل أن يكونوا سوغوا الاجتهاد للتابعين
فيما كانوا مختلفين فيه، ليجتهدوا في أخذ أقوالهم، فسوغوا
ذلك، ولم يثبت عنهم أنهم سوغوا خلاف الواحد فيما قال.
ولهذا قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، يعنى: أبا سلمة.
يبين صحة هذا: أنه روي أن علياً - رضي الله عنه - نقض على
شريح حكمه في ابني عم، أحدهما أخ لأم، لما جعل المال كله
لابن العم الذي هو أخ لأم (2)، [174/ب].
__________
(1) هذا الأثر أخرجه ابن سعد في طبقاته (7/176) في ترجمة
الحسن البصري، وفيه: (فقالوا: يا أبا حمزة نسألك وتقول:
سلوا مولانا الحسن فقال: إنا سمعنا وسمع فحفظ ونسينا).
وذكر ذلك الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة الحسن
(2/264) بأخصر مما ذكره ابن سعد.
(2) هذا الأثر أخرجه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض، باب
ميراث ابني عم أحدهما زوج والآخر أخ لأم (6/239-240)
ولفظه: (... قال: أتي شريح في امرأة تركت ابني عمها،
أحدهما زوجها والآخر أخوها لأمها، فأعطى الزوج النصف وأعطى
الأخ من الأم ما بقي، فبلغ ذلك علياً - رضي الله عنه -
فأرسل إليه، فقال: ادعوا لي العبد الأبطر (هكذا) فدعي
شريح، فقال: ما قضيت؟ قال: أعطيت الزوج النصف، والأخ لأم
ما بقي، فقال علي - رضي الله عنه -: أبكتاب الله أم بسنة
رسول الله- صلى الله عليه وسلم؟! فقال: بل بكتاب الله،
فقال أين؟ قال شريح: "وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في
كتاب الله".
قال علي - رضي الله عنه -: هل قال للزوج النصف، ولهذا ما
بقي؟، ثم أعطى علي - رضي الله عنه - الزوج النصف والأخ لأم
السدس، ثم ما بقي قسمه بينهما). =
(4/1167)
وروي عن عائشة
-رضي الله عنها- أنها قالت لأبي سلمة ابن عبد الرحمن:
(مثلك مثل الفَرُّوج، يسمع الديك يصيح، فصاح بصياحه).
وذلك إنكار منها عليه في مناظرة عبد الله بن عباس والدخول
معه في الاجتهاد (1).
__________
= فيظهر من هذا: أن الحكم الذي نقضه علي - رضي الله عنه -
على شريح هو في مسألة: امرأة تركت ابني عم، أحدهما زوجها
والآخر أخوها لأمها.
بينا الذي ذكره المؤلف هو في مسألة: امرأة تركت ابني عمها،
أحدهما أخ لأم، وهي مسألة أخرى لا ذكر لشريح فيها، أخرجها
البيهقي في الموضع السابق (6/240) ولفظه: (أتى علي بابي
عم، أحدهما أخ لأم، فقيل له: إن عبد الله كان يعطي الأخ
لأم المال كله، قال: يرحمه الله إن كان لفقيهاً، ولو كنت
أنا لأعطيت الأخ لأم السدس، ثم لقسمت ما بقي بينهما).
والذي يظهر لي: أن المؤلف -رحمه الله- خلط بين المسألتين،
ولا تأثير له على وجه الاستدلال من القصة، فإن في المسألة
الأولى نقضاً لحكم شريح من علي - رضي الله عنه - وهو ما
يريد المؤلف إثباته. والله أعلم.
(1) قول عائشة -رضي الله عنها- لأبي سلمة أخرجه الإمام
مالك في الموطأ في كتاب الطهارة، باب واجب الغسل إذا التقى
الختانان ص (57) وفيه: أن أبا سلمة قال: سألت عائشة زوج
النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يوجب الغسل؟ فقالت: هل
تدري ما مثلك يا أبا سلمة مثل الفروج يسمع الدِّيَكة تصرخ،
فيصرخ معها، إذا جاوز الختان فقد وجب الغسل.
ومن هذا يتبين أنه لم يكن هناك مناظرة بين أبي سلمة وابن
عباس - رضي الله عنه - ولم أجد مرجع يعتمد عليه -حسب
اطلاعى- أن عائشة -رضي الله عنها- قالت ذلك في مسألة عدة
المتوفى عنها زوجها.
نعم وجدت بعض كتب الأصول يذكر أن عائشة -رضي الله عنها-
قالت ذلك لأبي سلمة لما خالف ابن عباس - رضي الله عنه - في
عدة المتوفى عنها زوجها، منها المحصول (4/254) وروضة
الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/356) وشرح الكوكب
المنير (2/234). =
(4/1168)
واحتج: بأن معه
آلة الاجتهاد، فكان متعبداً به، ولم يجز له تقليد غيره.
والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون معه آلة الاجتهاد، ويكون
متعبداً بغيره، كما كان متعبداً نحو الواحد إذا عارضه
القياس.
واحتج: بأنهم من أهل الاجتهاد في وقت حدوث النازلة، فوجب
أن لا ينعقد الإجماع إلا بموافقتهم، أصله: الصحابة.
والجواب: أن الصحابة قد تساووا في المزية والاجتهاد، وليس
ذلك في التابعين، فإنهما وإن ساووا الصحابة في الاجتهاد،
فللصحابة مزية عليهما من الوجه الذي بينا، فلهذا لم يعتد
بخلافهم عليهم.
واحتج بأن الاعتبار بالعلم دون الصحبة، يدل عليه: أن
الصحابي إذا لم يكن عالماً وجب عليه تقليد أهل العلم من
التابعين، فإذا كان كذلك، وقد شاركهم التابعي في العلم،
وجب أن يكون بمنزلتهم.
والجواب: أن الاعتبار بالعلم والصحبة لما فيهما من المزية،
فإذا لم يكن الصحابي عالماً فقد عدم أحد الوصفين، فلهذا لم
يعتد بقوله. وإذا كان من أهل الاجتهاد فقد وجد معنيان،
والتابعي يوجد فيه أحدهما.
__________
= وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/290) في ترجمة أبي
سلمة قول عائشة -رضي الله عنها- بدون أن يربطه بحادثة
وإنما ذكر أنها قالت له ذلك، وهو حَدَث.
وفي هامش الكتاب المذكور قال المحقق تعليقاً على ذلك:
(أورده ابن عساكر مطولاً في نسخه "ع" 9/151ب).
وقال الآمدي في كتابه الإحكام (1/219-220) : (إن عائشة
-رضي الله عنها- أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف
مجاراته للصحابة وكلامه فيما بينهم، وزجرته عن ذلك وقالت:
(فروج يصيح مع الدِّيَكة).
فلم يربط هذا القول بحادثة معينة.
(4/1169)
مسألة
[الإجماع السكوتي]
إذا قال بعض الصحابة قولاً، وظهر للباقين، وسكتوا عن
مخالفته والإنكار عليه حتى انقرض العصر، كان إجماعاً (1).
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية الحسن بن ثواب،
قال: "أذهبُ في التكبير غداةَ يوم عرفة إلى آخر أيام
التشريق، فقيل له: إلى أي شىء تذهب؟ قال: بالإجماع: عمر
وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس" (2).
وظاهر هذا: أنه جعله (3) إجماعاً، لانتشاره عنهم، ولم يظهر
خلافه (4).
وقد صرح به أبو حفص البرمكي، فيما رأيته بخطه على ظهر
الجزء الرابع من شرح مسائل الكوسج، فقال: "قال أحمد بن
حنبل - رضي الله عنه - في رواية محمد بن عبيد الله بن
المنادي (5): "أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (226/ب)
والتمهيد (3/323) والمسودة ص (335) وروضة الناظر مع شرحها
نزهة الخاطر العاطر (1/381) وشرح الكوكب المنير (2/253).
(2) سبق الكلام عن هذه الرواية ص (1060) كما سبق تخريج ما
تضمنته من آثار.
(3) في الاصل: (أجعله).
(4) سبق مناقشة الإجماع في هذه المسألة هامش ص (1061).
(5) هو: محمد بن عبيد الله بن يزيد بن المنادي، أبو جعفر
البغدادي. سمع شجاع بن الوليد وحفص بن غياث وأبا أسامة
وغيرهم. وعنه البخاري وأبو داود وعبد الله البغوي وغيرهم.
روى عن الإمام أحمد بعض المسائل. قال ابن حجر: "صدوق".
مات سنة (272هـ) وله من العمر مائة سنة وسنة واحدة.
له ترجمة في: تقريب التهذيب (2/188) وطبقات الحنابلة
(1/302).
(4/1170)
على هذا المصحف
(1)".
قال أبو حفص: فبان بهذا أن الصحابة إذا ظهر الشىء من
بعضهما، ولم يظهر من الباقين خلافهم: أنه عنده إجماع.
وبهذا قال الأثرم (2) من أصحاب أبي حنيفة فيما حكاه أبو
سفيان السرخسى والجرجاني (3).
وهو أيضاً قول الأكثر من أصحاب [175/أ] الشافعي (4).
ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: يكون حجة، إلا أنه لا يكون
إجماعاً.
حكاه الجرجاني (5).
ومن أصحاب الشافعي من قال: يكون حجة مقطوعاً بها، ولا يكون
إجماعاً (6)؛ لأن الشافعي قال: "لا ينسب إلى ساكت قول"
(7).
__________
(1) هذه الرواية ذكرها ابن أبي يعلى في طبقاته في ترجمة
ابن المنادي (1/304).
(2) لم أقف على ترجمته.
(3) وهو قول الأكثر من الحنفية.
انظر: التقرير والتحبير (3/101) وتيسير التحرير (3/246)،
ومسلم الثبوت (2/232).
(4) وبه قال الشيرازى في التبصرة ص (391).
وفي جمع الجوامع مع شرحه للمحلي (2/189): (والصحيح: أنه
حجة مطلقاً) ثم نقل عن الرافعي: أنه المشهور عند الأصحاب،
قال: وهل هو إجماع؟ فيه وجهان.
(5) في الأصل: (وحكاه الجرجاني) وهي مكررة في الأصل.
(6) نقل ذلك الشيرازي الشافعي في كتابه التبصرة ص (392) عن
بعض أصحابه، ولم يُسمِّ أحداً.
وعزاه الآمدي في الإحكام (1/228) إلى أبي هاشم، وهو ما
فعله الرازي في المحصول (4/215).
(7) ذكر الجلال المحلي في شرحه لجمع الجوامع (2/189) أن
كونه ليس بحجة ولا =
(4/1171)
وقال قوم من
المتكلمين: لا يكون حجة (1).
وحكي عن قوم من المعتزلة (2) والأشعرية (3).
وحكي ذلك عن داود (4).
دليلنا:
أن الصحابي إذا قال قولاً، وانتشر في الصحابة، فسكتوا عنه،
فلا يخلو من خمسة أحوال:
إما أن [لا] يكونوا قد اجتهدوا.
أو اجتهدوا فلم يؤد اجتهادهم إلى شىء يجب عليهم اعتقاده.
أو أدى إلى خلاف القول الذي ظهر، أو إلى وفاقه.
أو كانوا في تَقِيَّة.
ولا يجوز أن لا يكونوا قد اجتهدوا؛ لأن العادة إذا نزلت
بهم نازلة أن
__________
= إجماع منسوب إلى الإمام الشافعي، آخذا من قوله: "لا ينسب
إلى ساكت قول".
والمؤلف هنا يعلل بكلام الشافعي هذا للقول بكونه حجة وليس
بإجماع، فتدبر.
وقد نقل الرازي في المحصول في الموضع السابق عن الشافعي:
أنه ليس بإجماع ولا حجة.
وهو ما فعله الآمدي في الإحكام.
(1) وبه قال الرازي في المحصول، والغزالي في المستصفى
(1/191).
(2) بعدم الحجية قال أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد
(2/539).
(3) لعل المؤلف يقصد القاضي أبا بكر الباقلاني، فإن
الشيرازي في التبصرة ص (392) نسب إليه عدم القول بالحجية،
حيث قال: (وقال القاضي أبو بكر الأشعري ليس بحجة أصلاً).
(4) هكذا نقل المؤلف عن داود بصيغة التضعيف.
ولكن الشيرازي في التبصرة ص (392) جزم بنسبة ذلك إليه.
وقد ارتآه ابن حزم في كتابه الإحكام (4/531، 543).
(4/1172)
يرجعوا إلى
الظن والاجتهاد.
ولأن هذا يؤدي إلى خروج الحق عن أهل العصر، وهذا لا يجوز؛
لأنهم لا يجتمعون على خطأ، ولأنه يؤدي إلى خلو العصر من
قائم لله بحجة. وهذا لا يجوز؛ لما روي عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال: (لا يخلو عصر من الأعصار من قائم لله
بحُجَّة) (1).
وقوله -عليه السلام-: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على
الحق، لا يَضَرُّهم من نَاوأهُم) (2).
__________
(1) بهذا اللفظ يقول الغماري في تخريج أحاديث اللمع ص
(255): "لا أصل له" أ.هـ.
وقال أبو الخطاب في التمهيد (3/352) : (هذا الحديث غير
معروف في أصل).
وقال الشيرازي في التبصرة ص (376) (لا نعرف هذا الحديث)
ولكن رأيت أبا نعيم في كتابه الحلية (1/79) أخرجه من كلام
علي - رضي الله عنه - في وصيته لكميل بن زياد، والوصية
طويلة، جاء فيها (كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بلى،
لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، لئلا تبطل حجج الله
وبيناته...).
وفي معناه جاء حديث: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل
مائة سنة من يجدد لها دينها).
أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الملاحم، باب ما يذكر في
قرن المائة (2/424) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
كما أخرجه الحاكم عنه في كتاب الفتن باب ذكر بعص المجددين
في هذه الأمة (4/522).
وأخرجه البيهقي في المعرفة حكى ذلك السيوطى والمناوي
والألباني.
وقد رمز السيوطي له بالصحة في كتابه الجامع الصغير.
ونقل المناوي في كتابه فيض القدير (2/282) عن الزين
العراقي: أن سنده صحيح.
وصححه كذلك الشيخ الألباني في كتابه صحيح الجامع الصغير
(1/143) رقم الحديث (1870).
(2) هذا الحديث أخرجه البخاري عن المغيرة بن شعبة - رضي
الله عنه - مرفوعاً، في كتاب الاعتصام، باب قول النبى -
صلى الله عليه وسلم - (لا تزال طائفة =
(4/1173)
ولا يجوز أن
يكونوا قد اجتهدوا، فلم يؤد [اجتهادهم] إلى شىء يجب
اعتقاده في مدة العصر؛ لأن العادة بخلافه، ولأن طرق الحق
ظاهرة، ولأن ذلك يؤدي إلى خطأ الجميع في الاجتهاد، وعدولهم
عن طريق الصواب وهذا لا يجوز.
ولأنهم إذا كانوا بهذه الصفة، فليس لهم قول في الحادثة، بل
هم بمنزلة العامة فيها، فلا يعتد بقولهم وبخلافهم.
ولا يجوز أن يكونوا في تقية وفزع (1) : لأنه إذا كان الأمر
على هذا، فانه لا يحكم بانعقاد الإجماع، وإنما يحكم بذلك
إذا سكتوا عمن لا يخالفونه ولا يتقونه.
ولا يجوز أن يكونوا قد اجتهدوا، فأدى [اجتهادهم] إلى
خلافه، فلم يظهروه؛ لأن إظهار الحق واجب، والحق في واحد،
فيكون ذلك إجماعاً على خطأ؛ لأن القائل عندهم مخطىء،
والمقر على الخطأ مخطىء ولا يجوز أن يجتمعوا على خطأ.
__________
= من أمتي ظاهرين على الحق) (9/125) ولفظه: (لا تزال طائفة
من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله، وهم ظاهرون). ورقم
الحديث في الفتح (7311).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإمارة، باب: لا تزال طائفة من
أمتي... (3/1523).
وأخرجه الترمذي عن ثوبان - رضي الله عنه - مرفوعاً في كتاب
الفتن، باب ما جاء في الأئمة المضلين (4/504) وقال: (حديث
حسن صحيح).
وأخرجه عنه أبو داود في أول كتاب الفتن (2/413-414) جزء من
حديث طويل.
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (5/278) جزء من حديث طويل
أيضأ. كما أخرجه عن أبي أمامة - رضي الله عنه - (5/269).
(1) في الأصل: (وفرع) بالراء المهملة.
(4/1174)
ولا يجوز أن
يقال: سكتوا مع اعتقادهم أن كل مجتهد مصيب؛ لأن المسألة
مبنية على أن الحق في واحد، وعلى أن العادة جارية بأن من
له مذهب، وسمع خلافه، أظهر مذهبه، ودعا إلى قوله، وناظر
عليه، وإن كان يعتقد أن كل مجتهد مصيب، كما فعل أبو حنيفة
ومالك وغيرهما من الأئمة، وإذا جاز ذلك ثبت أن سكوتهم كان
لرضا منهم بقوله [175/ب].
واحتج المخالف:
بأن سكوتهم يحتمل أن يكون لأنهم كانوا في مهلة النظر، ولم
ينكشف لهم الصواب.
ويحتمل أن يكونوا معتقدين أن كل مجتهد مصيب. وأن الإنكار
والمخالفة لا يجب.
ويحتمل أن يكون ذلك لهيبة قائله، كما قال عبد الله بن
عباس: (أول من أعال الفرائض عمر بن الخطاب، وأيم الله لو
قدَّم من قدمه الله، وأخر من أخره الله ما عالت الفرائض.
فقال زفر بن أوس (1): فما منعك (2) أن تشير بهذا الرأي على
عمر؟ فقال: هبته).
وإذا احتمل السكوت ما ذكرناه، لم يجز حمله على الرضا
والاتفاق.
والجواب: أن مهلة [النظر] لا تمتد إلى آخر العصر؛ لأن طرق
الحق واضحة، ومن نظر فيها من أهل الاجتهاد، فلا بدَّ من أن
يصل إلى الحق.
__________
(1) هو زفر بن أوس بن الحدثان، النصري، المدني. روى عن أبي
السنابل بن بعكك، وعنه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، ما
روى عنه سواه، كما يقول الذهبي.
يقال: أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعرف له
رواية ولا صحبة.
له ترجمة في: تهذيب التهذيب (3/327) وميزان الاعتدال
(2/71).
(2) في الأصل: (فما يمنعك) والتصويب من سنن البيهقي
(6/253).
(4/1175)
وقولهم: يحتمل
أن يسكتوا لاعتقادهم أن كل مجتهد مصيب: لا يصح؛ لأنه لم
يكن في الصحابة -رضوان الله عنهم- من يعتقد ذلك، ونحن
نبينه في موضعه إن شاء الله تعالى؛ لأنهم لو اعتقدوا ذلك
لوجب أن يظهر منهم خلافه، كما نشاهد ذلك في زماننا،
وسمعناه من حال من تقدمنا من الاختلاف والمناظرة.
وقولهم: يحتمل أن يكون للهيبة: لا يصح؛ لأن الهيبة لا تمنع
من إظهاره لغيره، كما أظهره عبد الله بن عباس.
فصل (1)
ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون القول فتياً أو حكماً.
وقال بعض الشافعية، وهو ابن أبي هريرة (2) : إن كان حكماً،
لم يكن إجماعاً، ولم يحتج به؛ لأنا نحضر مجالس الحكام، وهم
يحكمون بخلاف ما نعتقده، فلا ننكر عليهم، فإذا كان فتيا،
أفتى كل واحد منا بما يعتقده (3).
دليلنا:
أن الحاكم يستحب له أن يستشير ويعرف ما عند أهل العلم فيما
يريد أن يحكم به، فيكون الحكم المسكوت عنه أولى بالإجماع.
__________
(1) هذا الفصل تابع للمسألة التي قبله، فلو جمع المؤلف
بينهما لكان أفضل، وهو ما فعله كثير من الأصوليين؛ لأنه
قول بالتفصيل في المسألة.
(2) هو: الحسن بن الحسين، أبو علي، ابن أبي هريرة الشافعي.
الفقيه القاضي. تفقه علي ابن سريج وأبي إسحاق المروزي. مات
سنة (345هـ).
له ترجمة في: تاريخ بغداد (7/298)، وشذرات الذهب (2/370)
وطبقات الشافعية (3/256) ووفيات الأعيان (1/358).
(3) نَسَبَ هذا إلى ابن أبى هريرة: الشيرازيُّ في التبصرة
ص (392)، والآمدي في الإحكام (1/228) وجمع الجوامع مع شرح
الجلال (2/189).
(4/1176)
ولأن الصحابة
لم يكن عادتهم كما ذكر ابن أبي هريرة، وكان من عنده حق
أظهره ورد عليه.
وقالت امرأة لعمر بن الخطاب - لما نهى عن المغالاة في
المهور-: (أو يعطينا الله، وتمنعنا يا عمر؟).
وروي: (يا ابن الخطاب، قال الله تعالى: (وَآتَيْتُمْ
إِحْدَاهنَّ قِنْطَاراً، فَلاَ تَأخذُوا مِنْهُ شَيْئاً)
(1)
فقال عمر: امرأة خاصمت (2) عمر فخصمته) (3).
__________
(1) (20) من سورة النساء.
(2) في الأصل: (خصمت).
انظر: القاموس مادة (خصم).
(3) هذا الأثر أخرجه البيهقي في كتاب الصداق، باب لا وقت
(لا تقدير) في الصداق قل أو أكثر (7/233) بلفظين:
أحدهما: (قال عمر - رضي الله عنه - خرجت وأنا أريد أن أنهي
عن كثرة مهور النساء، حتى قرأت هذه الآية: (وآتَيْتُمْ
إحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً)) ثم قال البيهقي بعد ذلك: هذا
مرسل جيد.
الثاني: (قال: خطب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الناس،
فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وقال: ألا لاتغالوا في صداق
النساء، فإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شىء ساقه رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أو سيق إليه، إلا جعلت فضل
ذلك في بيت المال. ثم نزل، فعرضت له امرأة من قريش، فقالت:
يا أمير المؤمنين أكتاب الله أحق أن يتبع أو قولك؟ قال: بل
كتاب الله تعالى، فما ذاك؟ قالت: نهيت الناس آنفاً أن
يغالوا في صداق النساء، والله تعالى يقول في كتابه
(وَآتَيْتُم إحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأخُذُوا مِنْهُ
شَيْئاً) فقال عمر - رضي الله عنه -: كل أحد أفقه من عمر
مرتين أو ثلاثاً، ثم رجع إلى المنبر فقال للناس: إني كنت
نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء، ألا فليفعل رجل في ماله
ما بدا له).
ثم قال البيهقي بعده: هذا منقطع.
وذكره الحافظ ابن حجر في كتابه المطالب العالية في كتاب
النكاح (2/4-5)، ونسبه إلى أبى يعلى =
(4/1177)
مسألة
إذا قال بعض الصحابة قولاً ولم يظهر في الباقين، ولم يعرف
له مخالف، فإن كان القياس يدل عليه: وجب المصير إليه
والعمل به (1).
وإن كان القياس يخالفه، فإن كان مع قول الصحابي قياس أضعف
منه كان قول الصحابي مع أضعف القياسين أولى؛ لأنه لا يمتنع
أن يكون كل واحد منهما حجة حال الانفراد، ثم يصير حجة
[176/أ] بالاجتماع، كاليمين مع الشاهد؛ لأن اليمين حجة
ضعيفة في جَنَبَة المدعي؛ لأن مقتضاها أن يكون في جَنَبَة
المدعي عليه، ومع هذا: فقد قويت بانضمام الشاهد إليها.
وكذلك كل واحد من الشاهدين ليس بحجة في نفسه، ويصير حجة مع
غيره.
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية الأثرم: "ربما كان
الحديث عن النبى - صلى الله عليه وسلم- في إسناده شىء،
فيؤخذ به إذا لم يجيء خلافه أثبت منه، مثل: حديث عمرو بن
شعيب (2)، وإبراهيم الهجري، وربما أخذ بالمرسل إذا لم يجيء
خلافه".
__________
= وذكره الهيثمى في كتابه مجمع الزوائد في كتاب النكاح،
باب الصداق (4/283-284).
ثم قال: (رواه أبو يعلى في الكبير، وفيه مجالد بن سعيد،
وفيه ضعف، وقد وثق).
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب النكاح، باب: غلاء
الصداق (6/180).
وأخرجه سعيد بن منصور في سننه في كتاب الوصايا، باب: ما
جاء في الصداق (3/195) حديث رقم (598).
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد: (3/331) المسوَّدة ص:
(335).
(2) في الأصل: (عمرو بن سعيد)، وهو خطأ؛ لأن المؤلف قد
أورد هذه الرواية ص: (1032)، وذكر اسمه (عمرو بن شعيب)،
وهناك ترجمنا له في الهامش.
(4/1178)
وقال -في رواية
أبي طالب-: "ليس في النَّبِق (1) حديث صحيح (2)،
__________
(1) في الأصل: بدون إعجام، والنبق: -بفتح النون وكسر الباء
وقد تسكن-: ثمر السدر، أو حمل السدر.
انظر: القاموس (3/284)، النهاية (4/123) مادة: (نبق).
(2) هكذا يقول الإمام أحمد، فهو ذهاب منه إلى عدم صحة
الأحاديث الواردة في ذلك.
ولكن النهي عن قطع السدر: قد ورد من حديث عبد الله بن حبشي
الخثعمي، - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: (من قطع سدرةً صوَّب الله رأسَه في النار).
أخرجه أبو داود في كتاب، الأدب، باب: في قطع السدر
(2/650).
كما أخرجه النسائي في السير، والضياء في المختارة، كما في
الجامع الصغير وشرحه فيض القدير (6/206)، حديث (8962).
وأخرجه الطبراني في الأوسط بزيادة (من قطع سدرة من سدر
الحرم..)، قال الهيثمى في مجمع الزوئد (8/115): (رجاله
ثقات).
وقد رمز له السيوطى بالصحة، ووافقه الألباني في كتابه:
صحيح الجامع الصغير (5/341).
ومدار الحديث: على "سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم".
وقد روى عن أبيه وجده وعبد الله بن حبيش وأبي هريرة، وروى
عنه جماعة منهم: ابن عمه عثمان بن أبي سليمان بن جبير وابن
أبي ذئب وهشام بن عمارة النوفلي.
قال الحافظ ابن حجر -في التهذيب (6/76)- (روى له أبو داود
والنسائي حديثاً واحداً في قطع السدر).
وسعيد هذا: ذكره ابن حبان في الثقات.
قال الذهبي في الميزان (2/157): (وسعيد فيه جهالة، فتحرر
حاله، فإنه روى أيضاً عن أبي هريرة وجماعة).
وقال ابن القطان: فيما نقله المناوي في فيض القدير-: (لا
يعرف حاله، وإن عرف نسبه وبيته، روى عنه جمع، فالحديث
لأجله حسن لا صحيح). =
(4/1179)
..................................
__________
= وقد أخرج أبو داود هذا الحديث في سننه في الموضع السابق
عن عثمان بن أبي سليمان عن رجل من ثقيف عن عروة بن الزبير
مرسلاً.
وقد قال بعض العلماء: إن الحديث مضطرب، من أجل ذلك.
انظر: عون المعبود (4/530).
فالخلاصة: أن هذا الحديث صحيح، فسعيد بن محمد بن جبير
معروف، وقد وثّقه ابن حبان.
والحديث محمول على سدر الحرم، لما أخرجه الطبراني في
الأوسط بزيادة: (من سدر الحرم)، ورجاله ثقات، كما قال
الهيثمي، والله أعلم.
والنهي عن قطع السدر: قد جاء في عدة أحاديث:
منها: ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن عائشة -رضي الله
عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن
الذين يقطعون السدر يصبون في النار على وجوههم صباً).
قال الهيثمي: (رجاله كلهم ثقات).
ومنها: ما أخرجه الطبراني -أيضاً- في الأوسط عن علي بن أبى
طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: (أخرج فناد في الناس: لعن الله قاطع السدر).
قال الهيثمي: (فيه إبراهيم بن يزيد الخوري، وهو متروك).
ومنها: ما أخرجه الطبراني في الكبير عن معاوية بن حيدة -
رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (من
الله لا من رسوله: لعن الله قاطع السدر).
قال الهيثمى (4/69) : (وفيه يحيى بن الحارث، قال العقيلى:
لا يصح حديثه، يعنى هذا الحديث).
ومنها: ما أخرجه الطبراني في الكبير -أيضاً-: من عمر بن
أوس - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يقول: (من قطع السدر إلا من الزرع بنى الله له
بيتاً في النار). =
(4/1180)
ما يعجبنى
قطعه؛ لأنه على حال قد جاء فيه كراهة" (1).
وإن لم يكن مع قول الصحابي قياس: ففيه روايتان:
-إحداهما: أنه حجة، مقدم على، القياس؛ ويجب تقليده.
وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى هذا في مواضع من مسائله:
فقال في رواية أبي طالب "في أموال المسلمين إذا أخذها
الكفار، ثم ظهر عليه المسلمون، فأدركه صاحبه فهو أحق به،
وإن أدركه وقد قُسِم فلا حق له (2)، كذا قال عمر (3)، ولو
كان القياس كان له. ولكن كذا قال عمر".
__________
= قال الهيثمي: (وفيه الحسن بن عنبسة، ضعفه ابن قانع).
وقد روى ابن هانىء في المسائل التي رواها عن الإمام أحمد
(2/181) قوله: (سألته عن السدرهَ تكون في الدار فتؤذي،
أتقطع؟ قال: لا تقطع من أصلها، ولا بأس أن تقطع شاخاتها).
والشاخات: جمع شاخة، وهي المعتدل من أغصانها.
(1) في الأصل: (كرأيه).
(2) ونقل أبو داود في مسائله ص (243) عن الإمام أحمد مثل
الرواية، ولفظه: (... سمعت أحمد يقول: ما أحرزه العدو، ثم
أدركه صاحبه قبل أن يقسم فهو أحق به، وإن قسم فلا شىء له.
قال أحمد: وزعم قوم أن شىء الرجل له حتى يبيع أو يهدي أو
يتصدق، وهو قول متعد، ليس سُنَّة المغازي مثل هذا، كل من
قال، قال بغير هذا، عمر وغيره، وأما من قال: أحق هو
بالقيمة، وهو قول ضعيف عن مجاهد).
فقول الإمام أحمد: ليس سنة المغازي مثل هذا يدل على أن ذلك
خلاف القياس؛ لأن القياس أن يأخذ متاعه؛ لأنه لم يبعه، ولم
يهده، ولم يتصدق به.
(3) هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عبد الرزاق
في مصنفه في كتاب الجهاد باب المتاع يصيبه العدو ثم يجده
صاحبه (5/195) وفي آخره: (.... وإن جرت عليه سهام
المسلمين، فلا سبيل إليه إلا بالقيمة).
(4/1181)
وكذلك قال في
رواية المروذي: "أكره شراء أرض الخراج. فقيل له: كيف أشتري
في السواد ولا أبيع؟! فقال: الشراء خلاف البيع. فقيل له:
كيف أشتري ممن لا يملك؟! فقال: القياس كما تقول، وليس هو
قياساً، وإنما هو استحسان.
واحتج: أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رخَّصُوا
في شراء المصاحف، وكَرِهُوا بيعَها" (1).
وكذلك نقل أبو الحارث عنه: "ترك الصلاة بين التراويح،
واحتج: بما روي عن عبادة وأبي الدرداء. فقيل له: فعن سعيد
والحسن: أنهما كانا يريان الصلاة بين التراويح (2). فقال:
أقول لك: أصحاب النبي، وتقول: التابعون".
وكذلك نقل أبو طالب عنه في رجل يصوم شهرين من كفارة، فتسحر
بعد طلوع الفجر وهو لا يعلم، ثم علم: "يقضي يوماً مكانه،
وإن أكل ناسياً بالنهار، فليس عليه شىء.
فقيل: فإذا لم يعلم، فهو كالناسي؟.
__________
(1) أخرج عبد الرزاق في مصنفه في كتاب البيوع، باب بيع
المصاحف (8/112) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في
بيع المصاحف: اشترها ولا تبعها.
كما أخرج عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مثل ذلك.
وأخرج البيهقي في سننه في كتاب البيوع، باب ما جاء في
كراهية بيع المصاحف (6/16) عن ابن عباس -رضي الله عنهما-
(قال: اشتر المصحف ولا تبعه).
كما أخرج عن سعيد بن جبير مثله.
وقد أخرج عبد الرزاق بسنده في الموضع السابق ص (111-112)
عن شريح ومسروق وعبد الله بن يزيد الخطمي وعلقمة وسعيد بن
جبير وسالم بن عبد الله، كلهم ذهب إلى عدم جواز بيع
المصاحف.
كما أخرج عن الحسن والشعبى أنهما رخَّصا في بيع المصاحف.
وكذلك أخرج البيهقي عنهما في المرجع السابق (6/17).
(2) سبق تخرج هذا الأثر. ص (1153).
(4/1182)
فقال: كذا في
القياس، ولكن عمر (1) أكل في آخر النهار يظن أنه ليل، قال:
اقض يوماً مكانه" (2).
وكذلك نقل أبو طالب عنه: "لا يجوز هبة المرأة، حتى يأتي
عليها في بيت زوجها سنة أو تلد، مثل قول عمر" (3).
وهذا كتب (4) في مسائله.
وفي رواية أخرى: القياس مقدم عليه.
أومأ إليه -رحمه الله- في مواضع من مسائله فقال -في رواية
أبي داود-: "ليس أحد إلا آخذ برأيه وأترك ما خلا النبى"
(5).
وكذلك نقل المروذي عنه: "ابن عمر يقول: على قاذف أم الولد
الحد (6).
__________
(1) في الأصل: (عمن) وهو خطأ، والتصويب من التمهيد (3/333)
ومن مرجع تخريج الأثر الآتي.
(2) هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عنه ابن أبي
شيبة في مصنفه في كتاب الصيام، باب ما قالوا في الرجل يرى
أن الشمس قد غربت (3/23-24)، ولفظه:
(... عن علي بن حنظلة عن أبيه قال: شهدت عمر بن الخطاب في
رمضان وقرب إليه شراب، فشرب بعض القوم، وهم يرون أن الشمس
قد غربت، ثم ارتقى المؤذن فقال: يا أمير المؤمنين والله
للشمس طالعة لم تغرب، فقال عمر: منعنا الله من شَرك مرتين
أو ثلاثاً، يا هؤلاء من كان أفطر فليصم يوماً مكان يوم،
ومن لم يكن أفطر فليتم حتى تغرب الشمس).
(3) هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عنه ابن حزم
بعدة طرق في كتابه المحلى كتاب الحجر (9/224) مسألة رقم
(1396).
(4) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: (وهذا كثير...).
(5) هذه الرواية ذكرها أبو داود في مسائله ص (276).
(6) هذا الأثر عن ابن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عنه عبد
الرزاق في مصنفه في باب الفرية على أم الولد (7/439).
(4/1183)
وأنا لا أجترئ
على ذلك، إنما هى أمة، أحكامها أحكام الإماء".
وكذلك نقل الميموني: و[قد] قيل: إن قوماً يحتجون في النخل
بفعل أبي بكر وقوله جربته. فقال: "هذا فعل ورأي من أبي بكر
[176/ب]، ليس هذا عن النبي".
وهذا صريح من كلامه في أن أقواله ليست بحجة.
وكذلك نقل مهنَّا عنه فيمن ركب دابة، فأصابت إنساناً:
"فعلى الراكب الضمان. فقيل له: عليٌّ يقول: إذا قال:
الطريقَ، فأسْمَعَ، فلا ضمان (1). فقال: أرأيت إذا قال:
الطريقَ، فكان الذي يقال له أصم؟".
وكذلك نقل الميموني عنه و[قد] سأله: يمسح على القلنسوة؟
فقال ليس فيه عن النبي شىء، وهو قول أبي موسى (2)، وأنا
أتوقاه" (3).
وكذلك نقل ابن القاسم عنه: "يروى عن ابن عمر من غير وجه
-يعني في حد البلوغ- وهو صحيح، ولكن لا أرى هذا يستوي في
الغلمان، قد يكون منهم الطويل، وبعضهم أكثر من بعض، ولا
ينضبط، والحد عندي في البلوغ الثلاثة".
__________
(1) لم أجد هذا الأثر بهذا النص، وإنما وجدت ما أخرجه ابن
أبى شيبة في مصنفه (9/259) في كتاب الديات، باب السائق
والقائد ما عليه؟ بسنده إلى علي - رضي الله عنه - أنه كان
يُضَمِّن القائد والسائق والراكب.
كما نقل عنه بسند آخر أنه قال: إذا كان الطريق واسعاً فلا
ضمان عليه.
(2) يعني: أبا موسى الأشعري وهذا القول المنسوب إليه هنا،
ذكره ابن حزم في المحلى في كتاب الطهارة. (8/84) بقوله:
(وعن أبي موسى الأشعري: أنه خرج من حدث فمسح على خفيه
وقلنسوته).
والقول بالمسح على القلنسوة مروي عن أنس بن مالك - رضي
الله عنه - كما في المصنف لعبد الرزاق كتاب الطهارة، باب
المسح على القلنسوة (1/190).
(3) ونقل ابن هانىء هذا في مسائله (1/19).
(4/1184)
واختلف أصحاب
أبي حنيفة، فذهب البَرْدَعى (1) والرازي (2) والجرجاني:
إلى أنه حجة، يترك له القياس.
وحكى الرازي (3) عن الكرخى أنه قال: "أما أنا فلا يعجبني
هذا المذهب"، وكان لا يرى قول الصحابي فيما يسوغ فيه
الاجتهاد حجة.
واختلف أصحاب (4) الشافعي، فقال في القديم: هو حجة.
وقال في الجديد: ليس بحجة (5).
وبه قال عامة المتكلمين من المعتزلة والأشعرية (6).
فالدلالة على أنه حجة، يُترك له القياس:
قوله عليه السلام: (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم
اهتديتم)، فأخبر أن
__________
(1) هو: أحمد بن الحسين، أبو سعيد، البردعي، نسبة إلى
بردعة وهى بلدة من أقصى بلاد أذربيجان، الحنفي. أخذ العلم
عن أبي علي الدقَّاق وموسى بن نصر، أخذ عنه أبو الحسن
الكرخي وأبو طاهر الدباس وغيرهما، درَّس ببغداد مدة طويلة.
خرج إلى الحج فقتل في موقعه القرامطة مع الحجاج سنة
(317هـ).
له ترجمة في: تاريخ بغداد (4/99) والجواهر المضيَّة
(1/66)، والفوائد البهية ص (19) والطبقات السنية (1/394)
واللباب (1/135) والنجوم الزاهرة (3/226).
وما ذكره المؤلف هنا عن البَرْدَعي نسبه إليه الرازي في
كتابه الفصول في أصول الفقه الورقة (236/أ).
(2) ما نقله المؤلف عنه هنا هو ما صرح به الرازي في كتابه
الفصول في أصول الفقه الورقة (236أ).
(3) في كتابه في أصول الفقه الورقة (235/ب-236/أ).
(4) كلمة (أصحاب) هنا لا معنى لها؛ لأن الآتي بعد ذلك هو
قول الشافعي، لا أصحاب الشافعي، فلو عبر بقوله: (واختلف
قول الشافعي) لكان أولى.
(5) حكى القولين الشيرازي في كتابه التبصرة ص (395).
(6) حكى ذلك أيضاً الآمدي في كتابه الإحكام (4/130).
(4/1185)
الاقتداء بهم.
وقوله عليه السلام: (اقتدوا باللَّذَين من بعدي، أبي بكر
وعمر).
وقوله عليه السلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدِين
من بعدي) (1) وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
فإن قيل: هذا محمول على الاقتداء بهم فيما يروونه عن النبى
- صلى الله عليه وسلم -.
قيل: هذا عام في الرواية والفُتيا.
وعلى أن هذا يُسقط فائدة التخصيص بالصحابة؛ لأن رواية
التابعين ومن بعدهم يجب الاقتداء بها.
فإن قيل: المراد به العامة دون أهل العلم.
بدليل: أنه خَيَّر في الاقتداء بأيهم شاؤا. وهذا حكم
العامة إذا اختلفت أقاويلهم، فأما العالم فإنه لا يخير في
هذا الموضع.
قيل: قوله: (بأيهم اقتديتم اهتديتم) المراد حال الانفراد
من كل واحد منهم بالقول، وليس المراد: (بأيهم اقتديتم) إذا
اختلفوا في الحادثة، ويكون فائدة ذلك: أن الاقتداء لا
يتخصص بقول بعضهم دون بعض، فزال (2) الإشكال، فإنه ربما ظن
ظان أن الاقتداء يجب بقول الأئمة دون غيرهم، فلما قال:
(بأيهم اقتديتم اهتديتم) دل على أن كل واحد منهم إذا انفرد
كان قوله حجة.
وأيضاً: من جاز أن يقدم قوله على القياس الصحيح إذا كان
معه قياس ضعيف جاز أن يقدم عليه وإن لم يكن معه [177/أ]،
قياس.
أصله: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (3).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) في الأصل: (يزيل).
(3) يعنى: أن قوله - صلى الله عليه وسلم - مقدم على
القياس، فكذلك قول الصحابي.
(4/1186)
وأيضاً: فإن
قول الصحابي لا يخلو إما أن يكون توقيفاً أو اجتهاداً، فإن
كان توقيفاً وجب اتباعه.
وإن كان اجتهاداً فاجتهاده أولى من اجتهاد غيره؛ لأنه شاهد
الرسول وسمع كلامه، والسامع أعرف بالمقاصد ومعاني الكلام.
ولأنه منصوص عليه بقوله: (عليكم بسنتي).
وإذا كان كذلك كان أولى من غيره كخبر الواحد مع القياس.
فإن قيل: لا يجوز أن يكون توقيفاً؛ إذ لو كان توقيفاً لكان
يظهر على ممر الأيام واختلاف الأحوال، ولكان لا يدعه من أن
ينسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- ويرويه عنه، ولكان
يجب علينا اتباعه على أنه توقيف؛ لأنه إذا لم يخبر به عنه،
ولم يسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجب علينا
فرضُه.
وأما الاجتهاد فلا يوجب اتباعه؛ لأجل أن مشاهدةَ الرسول
وسماعَه لا يوجب عصمته من الخطأ في الاجتهاد، وإنما يحصل
حسنُ الظن وكونُه أقربَ إلى الصواب، وذلك لا يوجب اتباعه،
كالعالم لا يجوز له اتباع من هو أعلم منه، وإن كان اجتهاد
الأعلم أقربَ إلى الصواب.
ولأن هذا يقتضي أن يكون قول الصحابي إذا طالت صحبته أولى
من غيره، وكبارُ الصحابة أولى من صغارهم.
ولأن هذا يصح إذا علم أنه قاس على ما سمعه واضطر إلى قصده،
فإنه ليس كل سامع للكلام يجب أن يضطر إلى قصد المتكلم،
وإنما هو على حسب قيام دلالة الحال.
قيل: أما قولكم: إنه لو كان توقيفاً لظهر ونقل، فلا يصح
لوجهين:
أحدهما: أنه لا يلزم الصحابي الروايةُ، بل هو مخير في
ذكرها وتركها، وإنما يتعين عليه الفتيا، فهو كالمفتي مخير
بين أن يذكر الدليل أو يذكر الحكم.
(4/1187)
والثاني: أنه
يحتمل أن لا يرويه تورعاً؛ لأنه لم يقم على حفظ اللفظ
فأفتى بمعناه.
وقولهم: إنه لا يجب علينا اتباعه إذا لم يخبر به، لا يصح
أيضاً؛ لأن الصحابي إذا قال قولاً مخالفاً للقياس، فالظاهر
أنه لا يقوله إلا عن توقيف، فتكون فتياه أمارة على الخبر
عن النبي فوجب العمل به، كما وجب العمل بخبر الواحد، وإن
لم يقطع على صدقه؛ لأن الظاهر صدق الراوي.
وقولهم: إن مشاهدة الرسول لا توجب عصمته لعمري (1)، إلا
أنه يوجب له مَزِيَّة من الوجه الذي ذكرنا، فوجب تقديمه،
كما وجب تقديم خبر الواحد على القياس وإن لم يكن مقطوعاً
به.
وقولهم: إن العالم لا يجب عليه اتباع من هو أعلم منه،
وكذلك صغار الصحابة لا يلزمهم اتباع أكابرهم، فلا يصح، لأن
العالِمَيْن تساويا في طريق الاجتهاد. وكذلك الصحابة
تساووا في مشاهدة التنزيل وحضور التأويل والنص عليهم،
فمزيَّة أحدهما (2) [177/ب] على الآخر في الحكم المشترك لا
توجب التقديم، كالبينتين إذا تعارضتا وأحدهما أعدل وأدين
وأزهد، فإنه لا يرجح بها لمساواة الأخرى لها في العدالة،
كذلك ها هنا.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَىْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (3) وقد وجد التنازع فوجب
الرد إلى الكتاب والسنة.
__________
(1) هكذا في الأصل، والعبارة وردت في الاعتراض: (.... من
الخطأ في الاجتهاد).
(2) هنا وقع تقديم وتأخير لبعض الصفحات من فِعْل من جَلَّد
المخطوطة، وقد رتبناها على الوضع الصحيح، ورقمناها كذلك.
(3) آية (59) من سورة النساء.
(4/1188)
والجواب: أن
معناه إلى كتاب الله وسنة رسوله، وفي سنة رسول الله ما
يقتضي الاقتداء بالصحابي من الوجه الذي بينَّا.
واحتج بقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أوْلِى الأبْصَارِ)
(1).
والجواب: أن الرجوع إلى قول الصحابي -وفي المعلوم أن
اجتهاده أولى من اجتهادنا- ضرب من الاعتبار والنظر.
واحتج: بما جاء في القرآن من ذم التقليد واتباع الأهواء في
الكفر والأمر المذموم.
و[الجواب: أن] هذا محمول على غير مسألتنا.
واحتج: بأنه لو كان حجة لم يكن لأهل عصره خلافُه.
وقد روي أن أبا سلمة بن عبد الرحمن خالف ابن عباس في عدة
المتوفى عنها، وأقره ابن عباس على ذلك (2).
وكذلك أصحاب عبد الله (3) قالوا: (ما كان يمنعنا أن نردَّ
على ابن عباس إلا أنَّا على طعامه)، فدل هذا على جواز
مخالفته.
والجواب عنه: ما تقدم في التابعي إذا أدرك عصر الصحابة هل
يعتد بخلافه؟ (4).
وبينَّا أن عائشة أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن (5).
وأن علياً نقض حكم شريح في ابني عم (6).
__________
(1) آية (2) من سورة الحشر.
(2) سبق تخريج هذا (1165).
(3) يعنى: ابن مسعود رضي الله عنه.
(4) تقدم ص (1152).
(5) تقدم ص (1168).
(6) في الأصل: (ابن عم).
وقد سبق تخريج هذا الأثر عن علي - رضي الله عنه - ص-
(1167).
(4/1189)
على أن هذا
مذهب لأبي سلمة ولأصحاب عبد الله، والخلاف معهم كالخلاف
معكم.
واحتج: بأنه عَلَم (1) على الحكم، فوجب أن يكون مقدماً على
قول الصحابي قياساً على عموم القرآن ونص خبر الواحد.
والجواب: أنا نخص به عموم القرآن، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم
(2).
وأما نص الخبر فإنما قدم عليه؛ لأن مَزِيَّة الصحابة حصلت
بمشاهدة النبي، فلا يجوز أن تقدم عليه، وليس كذلك القياس؛
لأن طريقه الاجتهاد وغلبة الظن.
وكذلك قول الصحابة ومعه مَزِيَّة من الوجه الذي بينَّا،
فكان أولى.
وعلى أنه ليس إذا لم يقدم على الخبر لم يكن حجة في نفسه،
كالقياس لا يقدم على الخبر، وهو حجة.
واحتج: بأن الصحابي يجوز عليه الخطأ في الاجتهاد، والإقرار
عليه، فوجب أن لا يكون قوله حجة. أصله: قول كل واحد من أهل
العلم.
والجواب: أن تجويز الخطأ لا يمنع الاحتجاج به، كخبر الواحد
والقياس.
ولأنه لا مزية لقول بعضهم على بعض، وهذا بخلافه.
واحتج: بأن الصحابي وكل عالم من العلماء يشتركان في آلة
الاجتهاد، فلا يجوز لأحدهما تقليد الآخر. أصله: العالمان
من [178/أ]، غير الصحابة.
والجواب: أنهما متساويان في الاجتهاد، وكذلك الصحابي مع
غيره؛ لأن له مزية من الوجه الذي ذكرنا.
واحتج: بأن الصحابي لم يدعُ الناس إلى تقليده فيما يقول:
ألا ترى إلى ما روي عن عمر: أنه سئل عن مسألة، فأجاب فيها،
فقال له رجل: أصبت
__________
(1) أي أن القياس (العلة) أمارة على الحكم.
(2) (2/559).
(4/1190)
الحق، أو كلاما
نحو هذا، فقال عمر: (والله ما يدري عمر أصاب أم أخطأ، ولكن
لم آل (1) عن الحق) (2).
وقال زيد بن ثابت في قضية قضى بها في الجد: (ليس رأيي حقاً
على المسلمين) (3) أو كلاماً نحو هذا.
والجواب: أن هذا لا يمنع تقليده -كالعامى-، وإن لم يدعه
الصحابي إلى قوله.
وعلى أن عبد الرحمن بن عوف دعا عثمان إلى متابعة سنة
الإمامين، فقال له -لما عرض البيعة عليه-: (على أن يحكم
بكتاب الله وسنة رسول الله وسنة الخليفتين بعده) (4)، فقبل
ذلك بمحضر الصحابة من غير خلاف.
والذي روي عن الصحابة من النهي عن التقليد: فهو محمول على
النهي عن التقليد فيما كانوا يختلفون فيه، ولم يثبت عنهم
أنهم منعوا تقليد الواحد منهم فيما قاله.
واحتج: بأنه لا يجوز للانسان أن يتبع قول غيره إلا بصفة
يختص بها لا يشاركه فيها أحد. مثل: النبي الذي اختص
بالعصمة. وكذلك الأمة اختصت بالعصمة.
والعالم مع العامي: اختص بآلة الاجتهاد ومعرفة الطريق.
__________
(1) أي: لم أقصر.
(2) لم أجده بهذا اللفظ، وإنما وجدت: أن عمر قال: (إني
قضيت في الجد قضيّات مختلفات، لم آل فيها عن الحق) أخرجه
عبد الرَّزاق في مصنفه في كتاب الفرائض، باب: فرض الجد
(10/262).
وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض، باب: التشديد في
الكلام في مسألة الجد مع الأخوة.. (6/245).
(3) لم أجده.
(4) ذكر هذا في قصة مبايعة عثمان - رضي الله عنه - الطبري
في تأريخه (4/248).
(4/1191)
فأما إذا لم
يكن لأحدهما على الآخر مزية، لم يجز للآخر اتباعه.
والجواب: أنا قد بينَّا مَزِيَّة الصحابي على غيره.
فإن قيل: فيجب إذا استدل الصحابي بدلالة على حكم أن لا
يستدل عليه بدلالة أخرى.
قيل: إن اتفقوا على أن لا دليل لله تعالى غيره، لم يجز أن
يستدل عليه بدلالة أخرى، وإن لم يتفقوا على ذلك جاز؛ لأنه
يجوز أن يخفى عليه دليل؛ لأن عبادتهم القول بحكم الله
تعالى، فأما أن يعلموا كلَّ دليل لله تعالى في ذلك أو
يظهروه، فإن ذلك غير واجب، وكان تعلق علمهم بالحق ببعض
الأدلة يسقط عنهم فرض الاستدلال بكل دليل.
ومن الناس من قال: لا يجوز أن يستدل عليه بدلالة أخرى؛
لأنه (1) دليل الصحابة، فمن طلب دليلاً آخر عليه، فهو كمن
طلب المقايسة في مسائل الإجماع وأخبار الآحاد مما هو مقطوع
به من العقول، وهذا غير ممتنع على وجه من الترجيح من غير
أن يقصد إلى بيان الحكم به بعد ثبوته، لما بينَّا.
فإن قيل: فما تقولون إذا ثبت الحكم لعلة، فهل يجوز للصحابة
تعليله بعلة أخرى؟
قيل: يجوز ذلك؛ لأنه يجوز تعليل الأصل بعلتين، كما يستدل
على شىء بدليلين، وهذا في علتين إذا كان [178/ب] موجبهما
واحداً، فأما إذا تنافت فلا يجوز ذلك.
ومن الناس من منع ذلك؛ لأن تعليله بأخرى يبطل فائدة تعليق
الحكم بالأولى (2)، فلا يجوز، كما لا يجوز ذلك في
العقليات، وأنه لا يكون حكم (3) العقل معللاً بعلتين.
__________
(1) في الأصل: (لأن).
(2) في الأصل: (الأول).
(3) في الأصل: (الحكم).
(4/1192)
إذ قال الصحابي
قولاً مخالفاً للقياس (1).
كما روي عن عمر: (أنه قضى في عين الدابة بربع قيمتها) (2).
وروي عنه فيمن فقأ عين نفسه: (تحمله عاقلته له) (3).
وروي عن عثمان: (أنه قضى فيمن ضرب رجلاً فأحدث: بثلث
الدية) (4).
وعن ابن عباس (فيمن نذر ذبح ولده: شاة) (5).
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/331) والمسوَّدة ص
(338).
(2) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول،
باب عين الدابة (10/76-78) عن عمر - رضي الله عنه - بعدة
طرق.
كما أخرج مثله عن علي - رضي الله عنه -.
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الديات، باب في عين
الدابة (4/275-276) عن عمر - رضي الله عنه - بعدة طرق.
وأخرجه ابن حزم في كتابه الإيصال ملحق لكتاب المحلى، باب
ديات الجراحة والأعضاء (12/153) مسألة رقم (2035).
(3) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول،
باب الرجل يصيب نفسه (9/412) عن عمر - رضي الله عنه -.
(4) هذا الأثر عن عثمان - رضي الله عنه - أخرجه عنه عبد
الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب هل يضمن الرجل من عنت
في منزله (10/24-25).
وأخرجه عنه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الديات، باب الرجل
يضرب الرجل حتى يحدث (9/338).
وأخرجه ابن حزم في كتاب الإيصال، ملحق بكتاب المحلى في باب
ديات الجراحة والأعضاء (12/208) مسألة رقم (2071).
(5) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الأيمان
والنذور، باب من نذر لينحرنَّ نفسه (8/460).
وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الأيمان، باب ما جاء فيمن
نذر أن يذبح ابنه أو نفسه (10/73).
وانظر: المحلى لابن حزم، كتاب النذور (8/354) مسألة رقم
(1114).
(4/1193)
وقول عائشة:
(أبلغى زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله) (1).
__________
(1) هذا الأثر أخرجه الإمام أحمد في مسنده، كما ذكر ذلك
صاحب التعليق المغني على سنن الدارقطنى (3/53).
وأخرجه الدارقطنى في سننه في كتاب البيوع (3/53) رقم (212)
بسنده إلى أبي إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على
عائشة -رضي الله عنها- فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم
الأنصاري وامرأة أخرى، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: يا أم
المؤمنين إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم
نسيئة، وإني ابتعته بستمائة درهم نقداً، فقالت لها عائشة:
بئسما شريت، وبئسما اشتريت، إن جهاده مع رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قد بطل إلا أن يتوب.
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب البيوع، باب الرجل
يبيع السلعة ثم يريد شراءها بنقد (8/184-185) بطريقين:
الأولى: معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأته أنها دخلت
على عائشة في نسوة، فسألتها امرأة فقالت: (يا أم المؤمنين
كانت لي جارية فبعتها على زيد... وفي آخره قالت المرأة
لعائشة: أرأيت إن أخذتُ رأسَ مالي ورددتُ عليه الفضلَ؟
قالت: "مَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَة مِن ربهِ فَانْتَهَى" أو
قالت: (إِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أمْوَالِكُمْ").
الثانية: عن الثوري عن أبي إسحاق عن امرأته قالت: (سمعت
امرأة أبي السفر تقول: سألت عائشة، فقلتُ: بعتُ زيدَ بن
أرقم جارية...).
وأخرجه البيهقي في كتاب البيوع، باب الرجل يبيع الشىء إلى
أجل، ثم يشتريه (5/330-331) بعدة طرق:
الأولى: بسنده إلى شعبة عن أبي إسحاق قال: دخلت امرأتي على
عائشة وأم ولد لزيد بن أرقم، ثم عقَّب عليه بقوله: (كذا
جاء به شعبة عن طريق الإرسال)
الثانية: بسنده إلى أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن العالية،
قالت: (كنت قاعدة عند عائشة -رضي الله عنها- فأتتها أم
حبيبة، فقالت لها: يا أم المؤمنين..)
الثالثة: بسنده إلى سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن امرأته
العالية: (أن امرأة أبي السفر باعت جارية...).
الرابعة: بسنده إلى يونس بن أبي إسحاق عن أمه العالية بنت
أنفع، قالت: (خرجت أنا وأم حبيبة إلى مكة، فدخلنا على
عائشة)، ثم ذكرت الخبر. =
(4/1194)
..................................
__________
= وأخرجه ابن حزم في كتابه المُحلَّى في كتاب البيوع،
(9/688-693) مسألة رقم (1559).
وقد ذهب ابن حزم إلى أن هذا الأثر كذب وموضوع، ودلل على
ذلك بأربعة أمور:
الأول: أن امرأة أبي إسحاق مجهولة الحال، فلم يرو عنها إلا
زوجها وابنها يونس، ويونس ضعيف جداً.
الثاني: أنه مدلس، وأن امرأة أبي إسحاق لم تسمعه من أم
المؤمنين، وإنما سمعته من امرأة أبي السفر.
الثالث: أن عائشة -رضي الله عنها- لا يمكن أن تقول بإبطال
جهاد زيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب،
فقد شهد الغزوات كلها ما عدا بدراً وأحداً، وأنفق قبل
الفتح وقاتل، وشهد بيعة الرضوان تحت الشجرة، وشهد الله له
بالصدق والجنة.
الرابع: أن زيداً لو ارتكب الربا الصريح، وهو لا يعلم
بحرمته، فإن له أجراً على اجتهاده، غير آثم. شأنه في ذلك
شأن ابن عباس القائل بجواز ربا الصرف.
ثم قال: وعلى فرض صحته، فهو مردود أيضاً، وذكر ستة أمور.
وكلام ابن حزم غير مسلَّم:
فامرأة أبي إسحاق واسمها: العالية بنت أنفع بن شراحيل ليست
مجهولة الحال.
قال ابن الجوزي: هي امرأة معروفة جليلة القدر. ذكرها ابن
سعد في الطبقات فقالت العالية بنت أنفع بن شراحيل، امرأة
أبي إسحاق السبيعي سمعت من عائشة.
انظر: التعليق المغني على سننٍ الدارقطني (3/53).
وابنها يونس ليس ضعيفاً جداً، كما يقول ابن حزم.
فقد وثقه ابن معين.
وقال النسائي: (لا بأس به)
وقال الذهبي: (قلت: بل هو صدوق، ما به بأس، ما هو في قوة
مسعر ولا شعبة).
وقال ابن حجر: (صدوق، يهم قليلاً).
انظر: تقريب التهذيب (2/384) رقم (471) وميزان الاعتدال
(4/482-483) رقم (9914).
ودعوى التدليس ليست بصحيحة، فقد ثبت سماع امرأة أبي إسحاق
من عائشة =
(4/1195)
فإنما يحمل ذلك
على أنه قاله على جهة التوقيف (1).
وهو قول أصحاب أبي حنيفة (2).
وقال أصحاب الشافعي: لا يحمل على التوقيف، وإنما هو
اجتهاده (3).
دليلنا:
أن هذه الأشياء لما لم يكن لها وجه في القياس، وقد أثبتها
الصحابي، وكان طريقها الاتفاق أو التوقيف علمنا أنه لم
يثبت ذلك الأمر إلا من جهة التوقيف.
فإن قيل: يحتمل أن يكون ذهب في إثباتها إلى قياس فاسد.
قيل: يجب أن يحسن الظن فيه، ويحمل قوله على الصواب، لما قد
ثبت له من المزية وهو مشاهدته للتنزيل، وحضور التأويل، ونص
النبي عليه.
فإن قيل: لو وجب أن يحمل ذلك على التوقيف، لوجب إذا خالفه
صحابي آخر، وقال قولاً يطابق القياس أن لا يعتدَّ بخلافه.
قيل: هكذا نقول؛ لأنه إذا طابق قوله القياس احتمل أن يكون
توقيفاً، واحتمل أن يكون قياساً، وقول من خالف القياس ليس
له وجه إلا التوقيف
__________
= كما تقدم ذكره.
وعليه فإسناده جيد، كما قال صاحب التنقيح.
انظر: التعليق المغني على سنن الدارقطنى، الموضع السابق.
أما الرد الثالث والرابع، فهو مما تختلف فيه أنظار
العلماء، والمسألة خلافية، كما بينها المؤلف. والله أعلم.
(1) قال في المسوَّدة ص (338) : (ويجعل في حكم التوقيف
المرفوع، بحيث يعمل به، وإن خالفه قوله صحابي آخر، نصَّ
عليه في مواضع).
(2) انظر في ذلك: أصول السرخسى (2/105)، وكشف الأسرار
(2/217)، وفواتح الرحموت (2/187).
(3) انظر: التبصرة للشيرازي ص (369).
(4/1196)
فلا يعارض
التوقيف بقول صحابي.
فإن قيل: لو وجب أن يحمل قوله على التوقيف، لوجب إذا عارضه
خبر متصل عن النبي مخالف له في الحكم أن يتعارضا، كما
يتعارض الخبران المتصلان، فلا يقدم المتصل عليه.
قيل: إنما قلنا: إن قول الصحابي توقيف من طريق غلبة الظن
والظاهر، والمتصل أقوى في الظن في الاتصال، فجاز تقديمه
عليه، كما قلنا في الخبرين إذا تعارضا وأحدهما أكثر رواة:
إنه يقدم؛ لأنه يغلب على الظن صحته.
وقد يخرج على هذا إذا قال بعض الصحابة بظاهر آية، وقال
الآخر بخلاف ظاهرها، فقول التارك للظاهر أولى إذا لم يعين
لنا أصلاً قاس عليه؛ لعلمنا أنه إنما تركه لتوقيف.
ويحتمل أن يقدم قول من معه الظاهر؛ لأن جَنْبتَه أقوى
[179/أ].
(4/1197)
مسألة
[إجماع الأئمة الأربعة]
لا يعتدُّ بإجماع الأئمة الأربعة إذا خالفهم غيرهم من
الصحابة (1) في إحدى الروايتين.
وهو ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي عنه قال:
"إذا اختلفت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لم يجز
للرجل أن يأخذ بقول بعضهم إلا على اختيار، ينظر أقرب القول
إلى الكتاب والسنة" (2).
وظاهر هذا أنه لم يقدم قول الأئمة على غيرهم من الصحابة
(3).
وهو اختيار الجرجاني.
وفيه رواية أخرى يعتد به (4).
وهو ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية إسماعيل بن سعيد،
وقد سأل أحمد - رضي الله عنه - عمن زعم أنه لا يجوز أن
يخرج من قول الخلفاء إلى من بعدهم من الصحابة؛ لأن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (عليكم بسنتى وسنة
الخلفاء الراشدين).
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/280)، والمسوَّدة ص
(340)، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/365)،
وشرح الكوكب المنير (2/239).
(2) هذه الرواية موجودة في التمهيد الموضع السابق.
(3) وهو قول الجمهور، كما قال ابن بدران في شرح الروضة
(1/365).
وقال في المسودة ص (340) : (وبه قال أكثر الفقهاء)
وقال في التمهيد: (وبه قال أكثرهم).
(4) وبها قال ابن البنا الحنبلى، كما في شرح الكوكب المنير
(2/239) ونزهة الخاطر العاطر (1/366).
(4/1198)
قال: فناظرني
في بعض ما قال الصحابة، ثم رأيته قد قَنِع بهذا القول،
وقال: "ما أبعد هذا القول أن يكون كذلك" (1).
وهو اختيار أبي حازم (2) من أصحاب أبي حنيفة، و[لأجل هذا
المذهب] (3) لم يعتد (4) بخلاف زيد بن ثابت في توريث ذوي
الأرحام (5)، وحكم برد الأموال التي حصلت في بيت مال
المعتضد، وجعل ذوي الأرحام أولى من بيت المال، فقبل ذلك
منه المعتضد (6)، وأمر بردها على ذوي الأرحام، وكتب
__________
(1) هناك رواية ثالثة: أنه حجة لا إجماع. انظر: المسودة ص
(340).
وقال ابن بدران: (إن هذا [يعنى أنه حجة لا إجماع] القول
الحق).
انظر: نزهة الخاطر العاطر (1/366).
(2) هو: القاضي عبد الحميد بن عبد العزيز، أبو حازم بالحاء
المهملة، أو بالخاء المعجمة، كان ورعاً عالماً بمذهب أبي
حنيفة. وَلي قضاء الشام والكوفة والكرخ من بغداد.
له كتاب المحاضر والسجلات، وكتاب أدب القاضي، وكتاب
الفرائض. توفي سنة (292)هـ.
له ترجمة في: تاج التراجم ص (33)، والجواهر المضيَّة
(1/296)، وشذرات الذهب (1/210)، وطبقات الفقهاء ص (141)،
والفوائد البهية ص (86).
(3) الزيادة من كتاب أصول الجصاص الورقة (126/ب).
(4) أي: أبو حازم.
(5) زياد بن ثابت - رضي الله عنه - لا يرى توريث ذوي
الأرحام، أخرج ذلك عنها سعيد بن منصور في سننه في باب
العمة والخالة (1/92) ولفظه: (... قال [أي زيد بن ثابت]:
لا يرث ابن أخت، ولا ابنة أخ، ولا بنت عم، ولا خال، ولا
عمة، ولا خالة).
(6) هو: أحمد بن طلحة بن المتوكل، أبو العباس، المعتضد
بالله. أحد ابني العباس. كان وافر العقل شجاعاً. سكنت
الفتنة في أيامه، وانتصر العدل، وعمَّ الرخاء. مات سنة
(289هـ).
له ترجمة في: شذرات الذهب (2/199) وفوات الوفيات (1/83).
(4/1199)
بذلك إلى
الآفاق (1).
وجه الرواية الأوَّلة:
ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أصحابي
كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم)، فجعل الاقتداء بكل واحد
منهم هدى، كما أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين من بعده.
فإن قيل: يحمل هذا على ما إذا قال كل واحد منهم قولاً، ولم
يخالفه غيره فيه.
قيل: إذا لم يخالفه (2) غيره صار إجماعاً منهم، والخبر
يقتضي الأخذ بقول الواحد منهم.
فإن قيل: نحمله إذا اختلفوا، فإنه يجوز الاقتداء بكل واحد
منهم.
قيل: إذا كان هناك اختلاف، فالاقتداء يحصل بالدليل؛ لأنه
يجتهد في أحد القولين من طريق الدليل.
ولأن الإمامة لا تأثير لها في تقديم القول، كما لا تأثير
لكون الواحد من الأمراء أو رسله.
ولأن الأربعة يجوز الخطأ في قولهم، كما يجوز في حق كل
أربعة.
__________
(1) ذكر هذه القصة الجصاص في أصوله الورقة (26/أ-ب) عن بعض
شيوخه
ممن كان يجالس القاضى أبا حازم؛ ويأخذ عنه.
ثم قال بعد ذلك (وبلغني أن أبا سعيد البَرْدَعي كان أنكر
ذلك عليه، وقال هذا فيه خلاف بين الصحابة، فقال أبو حازم:
لا أعدُّ زيداً خلافاً على الخلفاء الأربعة، وإذا لم أعده
خلافاً فقد حكمت برد هذا المال إلى ذوي الأرحام، فقد نفذ
قضائي به، ولا يجوز لأحد أن يتعقبه بالفسخ).
كما ذكر هذه القصة صاحب تيسير التحرير (3/242).
(2) في الأصل: (يخالف).
(4/1200)
واحتج بعضهم:
بأن القياس العقلي ينفي الإجماع بدلالة أنه لا فرق بين هذه
الأمة ومن تقدَّم من الأمم، وإنما ترك ذلك للسمع، وهو قوله
تعالى: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) (1)
والآية ليست لجميع المؤمنين.
وقال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) (2) وهذا الاسم لا
يختص الأئمة.
واحتج المخالف:
بما روي [179/ب] (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
قال (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء من بعدي) فأمر بذلك، والأمر
على الوجوب.
والجواب: أنه يعارضه قوله: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم
اهتديتم).
ولأنَّا نحمل (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي) إذا لم
يظهر خلافهم في الصحابة.
ونحمل قوله (وسنة الخلفاء) أن يريد به الفتيا، وخصَّهم
بالذكر؛ لأنهم أعلم من غيرهم في وقتهم وزمانهم.
__________
(1) آية (115) من سورة النساء.
(2) آية (110) آل عمر ان.
(3) وقع هنا تقديم وتأخير في بعض الصفحات فرتبناها على
الوجه الصحيح.
(4/1201)
فصل
فأما قول أحد الأئمة فليس بحجة إذا خالفه غيره (1) رواية
واحدة (2).
نص عليه -رحمه الله- في رواية إسماعيل بن سعيد، وقد سأل
أحمد -رحمه الله- عمن قال: "ليس لنا أن نخرج من قول أبي
بكر إلى قول عمر، ولا من قول عمر إلى قول عثمان، ولا من
قول عثمان إلى قول علي، فتعجبَ من ذلك، وقلتُ له: إننى
أنكرتُ عليه، وقلتُ له: إن كان قولهم سنة فبأي قول أخذتَ
أو اخترتَ من أقاويلهم فلك (3) ذلك، فأعجبه ذلك".
وبهذا قالت الجماعة (4).
وحكي عن بعض الشافعية: أنه حجة، لا يجوز لنا مخالفته، وإن
خالفه غيره من الصحابة (5).
وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية ابن القاسم فقال:
"يروى عن ابن عباس أنه كان يقول: (إذا انقطع الدم في
الحيضة الثالثة فقد بانت منه) (6).
__________
(1) راجع هذا الفصل في: التمهيد: (3/282) والمسوَّدة ص
(340).
(2) تُعُقب المؤلف في هذا، فإن الرواية الواحدة أنه لا
يقدم قول الخليفة الأول على الثاني، كما يتضح من رواية
إسماعيل بن سعيد، التي ساقها المؤلف، واستدل بها على ما
ذهب إليه.
قال في المسودة ص (341) : (... وكأن القاضي قد جعلها رواية
واحدة أخذاً من هذا [من رواية إسماعيل] ثم رجع عن ذلك، فإن
الرواية الثانية أصرح).
وتبع أبو الخطاب شيخه في ذلك، فقال في التمهيد (3/282) :
(فأما قول أحدهم فلبس بحجة رواية واحدة).
(3) في الأصل (فله).
(4) واختاره أبو الخطاب الحنبلي.
(5) واختاره أبو حفص البرمكي الحنبلي، كما في المسوَّدة.
(6) أخرج هذا سعيد بن منصور في سننه، باب الرجل يطلِّق
امرأته فتحيض ثلاث =
(4/1202)
وهو أصح في
النظر. فقيل له: فلم لا تقول به؟! قال: قد قال عمر وعلي
وابن مسعود، فأنا أتهيَّب أن أخالفهم، يعنى: باعتبار
الغسل" (1).
ونقل ابن منصور ما هو أصرح من هذا، فقال ابن منصور: قلت:
"قول ابن عباس فى أموال (2) أهل الذمة العفو؟ (3).
قال أحمد -رحمه الله-: عمر جعل عليهم ما قد بلغك (4). كأنه
لم ير ما قاله ابن عباس".
قا أبو حفص البرمكي في شرح مسائل ابن منصور: "إنما لم ير
ما قال
__________
= حِيَض فيدخل عليها قبل أن تطهر (1/333) ولفظه: (... عن
ابن عباس قال: إذا حاضت المطلقة الثالثة فقد برئت منه، إلا
أنها لا تزوج حتى تطهر).
كما أخرجه عن زيد بن ثابت وعائشة -رضي الله عنهما- في
الموضع المذكور.
(1) القول بأن الرجل أحق برجعة امرأته ما لم تغتسل من
الحيضة الثالثة مروي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن
مسعود وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وعبادة ابن الصامت
-رضي الله عنهم- أخرج ذلك عنهم سعيد بن منصور في سننه في
الموضع السابق ذكره (1/332-334).
(2) في الأصل: (أمول).
(3) هذا الأثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجه عنه عبد
الرزاق في مصنفه في كتاب أهل الكتاب، باب صدقة أهل الكتاب
(6/98) ولفظه (... أن إبراهيم ابن سعد [وكان عاملاً بعدن]
سأل ابن عباس، فقال له: ما في أموال أهل الذمة؟ قال العفو،
فقال: إنهم يأمرونا بكذا وكذا، قال فلا تعمل لهم، قلت: فما
في العنبر؟ قال: إن كان فيه شىء فالخمس). كما أخرجه في
كتاب أهل الكتابين، باب ما يؤخذ من أراضيهم وتجاراتهم
(10/333-334).
(4) أخرج عبد الرزاق في مصنفه في الموضعين السابقين كثيراً
من الآثار عن عمر بن الخطاب أنه كان يأخذ على أموال أهل
الذمة.
فروي أنه كان يأخذ من كل عشرين درهماً درهماً. وهو نصف
العشر.
وروي أنه أمر المسلمين أن يأخذوا منهم العشر.
وروي أنه أمر زياد بن حدير أن يأخد من نصارى بني تَغْلِب
العشر، ومن نصارى العرب نصف العشر.
(4/1203)
ابن عباس؛ لأن
أحد الخلفاء إذا رُوي عنه شىء، وروي عن غير الخلفاء ضده،
فالذي يلزم اتباعه ما جاء عن أحد الخلفاء لقول النبي - صلى
الله عليه وسلم - (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من
بعدي، عضوا عليها بالنواجِذ).
قيل: إنها آخر الأضراس.
وقيل: إنها الضرس الذي بعد النَّاب.
دليلنا:
أنه لو كان حجة لم يجز لمن بعده أن (1) يخالفه فيه، كما
إذا أجمعوا على حكم لم يجز لمن بعدهم أن يخالفهم فيه.
وقد روي من خلاف عمر لأبي بكر في التسوية في العطاء (2).
__________
(1) في الأصل: (من أن) الخ. و(من) هنا قَلِقة، فلعلها من
صنع الناسخ.
(2) كان أبو بكر - رضي الله عنه - يسوي في العطاء. أخرج
ذلك عنه البيهقي في سننه في كتاب قسم الفيء والغنيمة باب
التسوية بين الناس في القسمة (6/348) عن زيد بن أسلم عن
أبيه قال (ولي أبو بكر - رضي الله عنه - فقسم بين الناس
بالسوية، فقيل لأبي بكر يا خليفة رسول الله لو فضلت
المهاجرين والأنصار، فقال: اشتري منهم شرى؟. فأما هذا
المعاش فالأسوة فيه خير من الأثرة).
ولفظه بسند آخر: (قسم أبو بكر - رضي الله عنه - أول ما
قسم، فقال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فضل
المهاجرين الأولين وأهل السابقة، فقال: اشتري منهم
سابقتهم؟ فقسم فسوى)
أما عمر - رضي الله عنه - فكان يفضل في العطاء. أخرج
البخاري في صحيحه في كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي -
صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة (6/80) ولفظه:
(كان [أي عمر] فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة،
وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من
المهاجرين فلم نقصته من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجر به
أبواه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه).
وأخرج الإمام أحمد في مسنده (1/42) عن مالك بن أوس بن
الحدثان قال: (كان عمر يحلف على أيمان ثلاث، يقول: والله
ما أحد أحق بهذا المال من أحد، وما أنا بأحق به من أحد،
والله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب =
(4/1204)
وخلاف علي في
بيع أمهات الأولاد.
وغير ذاك مما اختلفوا فيه علمنا: أن قول واحد منهم
بانفراده لا يكون حجة.
واحتج المخالف:
بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال [180/أ]:
(عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)، فأمر باتباع
سنة كل واحد منهم.
والجواب عنه: ما تقدم (1).
__________
= إلا عبداً مملوكاً، ولكنا على منازلنا من كتاب الله
تعالى وقسمنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالرجل
وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل
وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، والله لئن بقيت لهم
ليأتينَّ الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال، وهو يرعى
مكانه).
كما أخرج في مسنده (3/475-476) عن باشرة بن سمي اليزني
قال: (سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول في يوم
الجابية، وهو يخطب الناس-: إن الله عز وجل جعلنى خازناً
لهذا المال وقاسماً له. ثم قال: بل الله يقسمه، وأنا بادىء
بأهل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أشرفهم، ففرض لأزواج
النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف إلا جويرية وصفية
وميمونة، فقالت عائشة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- كان يعدل بيننا، فعدل بينهنّ عمر، ثم قال: إنى باديء
بأصحابي المهاجرين الأولين، فإنا أخرجنا من ديارنا ظلماً
وعدواناً، ثم أشرفهم، ففرض لأصحاب بدر منهم خمسة آلاف،
ولمن كان شهد بدراً من الأنصار أربعة آلاف، ولمن شهد أحداً
ثلاثة آلاف، قال ومن أسرع في الهجرة أسرع به العطاء، ومن
أبطأ في الهجرة أبطأ به العطاء، فلا يلومنَّ رجل إلا مناخ
راحلته....).
وبهذا اللفظ أخرجه البيهقي في سننه في كتاب قسم الفيء
والغنيمة، باب التفضيل على السابقة والنسب (6/349).
وأخرجه سعيد بن منصور في سننه في باب ما جاء في فضل
المجاهدين على القاعدين (2/156).
(1) في المسألة التي قبل هذه.
(4/1205)
مسألة
إذا عقد أحد الأئمة الأربعة عقداً، لم يجز لمن بعده من
الأئمة فسخه (1)، نحو ما عقده عمر من صلح بني تَغْلِب (2)
ومن خراج السَّواد (3). والجزية، وما يجري هذا المجرى؛
لأنه صادف اجتهاداً سالفاً.
وذلك أنه لما وضَع الخراج على الأرضين، والجزية على
الرقاب، وضاعف الحقوق على بني تَغْلِب، لم يكن في ذلك
إسقاط حق القبض لمن بعده من الأئمة، وإنما نقل حق القبض من
موضع إلى موضع؛ لأنه ترك قسمة أرض السواد، فنقل ذلك الحق
إلى الخراج، وحق الأئمة بعده، قائم في قبضه.
وكذلك الجزية وما يؤخذ من بني تَغْلِب، فإن حق القبض فيه
إلى الإمام،
__________
(1) راجع هذه المسألة في المسودة ص (341) والقواعد
والفوائد الأصولية ص (294).
(2) أخرج ذلك بسنده أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه
الأموال ص (36) ولفظه: (عن داود بن كرودس قال: صالحت عمر
بن الخطاب عن بني تغلب -بعد ما قطعوا الفرات وأرادوا
اللحوق بالروم- على أن لا يصبغوا صبيانهم [أى لا ينصرونهم]
ولا يكرهون على دين غير دينهم، وعلى أن عليهم العشر
مضاعفاً: من كل عشرين درهماً درهم قال: فكان داود يقول:
ليس لبني تغلب ذمة، قد صبغوا في دينهم).
ثم ذكر الصلح بسند آخر، وفيه: (فصالحهم عمر بن الخطاب على
أن أضعف عليهم الصدقة واشترط عليهم أن لا ينصَّروا
أولادهم).
(3) إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وضع الخراج على أرض
السواد، ولم يقسمها كالغنائم.
انظر في ذلك: الأموال لأبي عبيد ص (74) والمصنف لعبد
الرزاق (6/100) و(10/333).
(4/1206)
فلهذا لم يكن
لمن بعده فسخه.
فإن قيل: أليس قد جاز للإِمام إبطال حق الغانمين من
القسمة؟.
قيل: الإمام إنما كان له إبطال حق الغانمين من القسمة؛
لأنه كان يجوز له إبطال حقوقهم من الغنائم بأن تُقتل
الرقاب، فبطل حق الغانمين فيها (1).
فإن قيل: أليس قد جاز أن يزيد على جزية عمر وينقص منها،
وهذا تغيير لفعله.
قيل: اختلفت الرواية في ذلك.
فروي عنه: أنه لا يجوز (2).
وروى عنه: الجواز (3).
__________
(1) في الأصل: (عنها).
(2) وهو ما نقله العباس بن محمد بن موسى الخلاَّل عن
الإمام أحمد أنه قال: ليس للإمام أن يغيرها على ما أقرها
عليه عمر.
انظر: الأحكام السلطانية للمؤلف ص (165).
(3) وهو ما نقله محمد بن داود عن الإمام أحمد، وقد سئل عن
حديث عمر: "وضع على جريب الكرم كذا، وعلى جريب كذا كذا" هو
شىء موصوف على الناس لا يزاد عليهم، أو إن رأى الإمام غير
هذا زاد ونقص؟ قال أحمد: بل هو على رأي الإمام إن شاء زاد
عليهم، وإن شاء نقص، وقال: هو بين في حديث عمر (إن زدت
عليهم كذا لا يجهدهم؟) إنما نظر عمر إلى ما تطيق الأرض".
وهناك رواية نقلها يعقوب بن بختان (لا يجوز للإمام أن
ينقص، وله أن يزيد).
ورجح أبو بكر الخلاَّل الرواية الثانية حيث قال: (أبو عبد
الله يقول: "إن للإمام النظر في ذلك، فيزيد عليهم وينقص
على قدر ما يطيقون" وقد ذكر ذلك عنه غير واحد).
قال القاضى أبو يعلى: (وما قاله عباس الخلال [ناقل الرواية
الأولى] عن أبي عبد الله: فهو قول أوَّل لأبي عبد الله).
قلت: والقول بمقتضى الرواية الثانية هو العدل.
انظر: الأحكام السلطانية للمؤلف ص (165-166).
(4/1207)
وذلك أنه ليس
فيه فسخ للعقد، وإنما هو موقع بعده على حسب الطاقة.
لأن عمر - رضي الله عنه - عقده على هذا الوجه؛ لأنه قال
لعثمان بن حنيف (1) لعلك حملت الأرض ما لا تطيق (2).
فاعتبر الطاقة، وهذا يختلف باختلاف الأوقات.
مسألة
إذا اختلفت الصحابة في المسألة على قولين، ولم ينكر بعضهم
على بعض، لم يجز لمن هو من أهل الاجتهاد أن يأخذ بقول
بعضهم من غير دلالة على صحة قول الصحابي (3).
نصَّ عليه -رحمه الله- في رواية المروذي فقال: "إذا اختلف
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لم يجز للرجل أن
يأخذ بقول بعضهم على غير اختيار، ينظر
__________
(1) عثمان بن حنيف بن واهب بن العكيم بن ثعلبة، أبو عمرو،
الأنصاري. صحابي.
كان عاقلاً بصيراً. عمل لعمر ثم لعلي -رضي الله عنهما- سكن
أخيراً الكوفة.
وبقي إلى زمان معاوية، رضي الله عنه.
له ترجمة في: الاستيعاب (3/1033).
(2) قال عمر - رضي الله عنه - هذا الكلام لعثمان بن حنيف
وحذيفة بن اليمان بصيغة التثنية
أخرج ذلك عبد الرزاق في مصنفه في كتاب أهل الكتاب، باب ما
أخذ من الأرض عَنْوة (6/103)
وأخرجه ابن سعد في طبقاته في ذكر استخلاف عمر، رضي الله
عنه (3/337).
(3) راجع هذه المسألة في: المسودة ص (341) وروضة الناظر،
مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/406) والمدخل ص (42).
(4/1208)
أقرب القول إلى
الكتاب والسنة" (1).
وحكى أبو سفيان السرخسي عن بعض شيوخه: "أنه إذا أظهر هذا
القول ولم ينكره منكر جاز الأخذ به" واختار ذلك.
وحكى عن قوم من المتكلمين أن ذلك القول (2) إن كان حادثاً
في الصحابة قبل وقوع الفرقة بينهم واختلاف الديار بهم جاز
أن يؤخذ به من غير اجتهاد في صحته.
وإن كان حادثاً بعد وقوع الفرقة بينهم لم يجز الأخذ إلا أن
يدل دليل على صحته غير قول الصحابي (3). [180/ب].
دليلنا:
أن الصحابة مختلفون فلم يجز لمن هو من أهل الاجتهاد أن
يأخذ بقول بعضهم من غير دلالة.
أصل ذلك: إذا أنكر بعضُهم على بعض.
فإن قيل: إذا أنكر بعضُهم على بعض فلم يحصل منهم الإجماع
على كونه صواباً، وليس كذلك إذا تركوا الانكار؛ لأنه يدل
على كونه صواباً؛ لأنه لو كان خطأ لم يجز لهم أن يتركوا
إنكاره، وإذا ثبت أنه صواب كان المتمسك به مصيباً.
قيل: ترك الإنكار لا يدل على كونه صواباً عند المخالف له؛
لأن ما يسوغ فيه الاجتهاد لا يجب إنكاره.
__________
(1) يعني لابد من مرجَّح، وهو ما ارتضاه السرخسى في أصوله
(2/113). ونسبه في المسودة إلى المالكية والشافعية وطوائف
من المتكلمين.
(2) في الأصل: (وان).
(3) وحكاه ابن عقيل: عن بعض أصحاب السرخسي، كما حكاه عن
الجُبَّائي وابنه.
انظر: المسودة ص (342).
(4/1209)
وقد نصَّ أحمد
-رحمه الله- على هذا في رواية بكر بن محمد فقال: "على
الرجل أن يجتهد، ولا يقول لمخالفه: إنه مخطىء".
وأيضاً: لما لم يجز لأحد المجتهدين أن يأخذ بقول الآخر حتى
تدل دلالة على صحة قوله، كذلك مثله في الصحابة.
فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه ليس في قول المجتهد الآخر
حجة، ولا نعلم أنه صواب، وأما قول الصحابي فإنه حجة.
قيل: إنما يكون حجة إذا انفرد ولم يعارضه غيره، فأما إذا
خالفه غيره فليس بحجة.
وأيضاً: فإن قول كل واحد منهما ضد الآخر، وليس أحدهما
بأولى بالتقديم من صاحبه، وإذا كان كذلك وجب أن يتعارضا
فيسقطا، وإذا سقطا وجب الرجوع إلى الاجتهاد في ذلك.
واحتج المخالف:
بما تقدم، وهو: أنه إذا لم يحصل منهم الإنكار دل على كونه
صواباً؛ لأنه لو كان خطأ لم يترك الإنكار.
والجواب عنه: ما تقدم.
واحتج: بأن الصحابة قد رجع بعضهم إلى قول بعض مع كون
الجميع من أهل الاجتهاد.
كما روي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قبل قول معاذ في
ترك رجم المرأة الحامل (1).
__________
(1) هذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب
الحدود، باب من قال: إذا فَجَرَت وهى حامل انتظر بها حتى
تضع، ثم ترجم (10/88) رقم (8861) بسنده ولفظه (أن امرأة
غاب عنها زوجها، ثم جاء وهي حامل، فرفعها إلى عمر، فأمر
برجمها، فقال معاذ: إن يكن لك عليها سبيل، فلا سبيل لك على
ما في بطنها، =
(4/1210)
وكما روي عن
عثمان أنه استنَّ فيهم سنة أبي بكر وعمر، وقبِل البيعة على
ذلك، ولم ينكر على من قبل قول غيره منهم، وإن كان من أهل
الاجتهاد.
والجواب: أنه يحتمل أن يكون من رجع منهم إلى قول غيره؛
لأنه ذكر الوجه الذي لأجله قال بما قال به، فاستدل بما
ذكره على صحة قوله إذا علم صحة قوله من غير أن يذكر له
الوجه الذي لأجله قال بما قال عند سؤاله.
مسألة
الشيء المجمع عليه إذا تغيرت حاله جاز تركه بدلالة غير
الإجماع (1).
وهو قول أصحاب أبي حنيفة (2).
خلافاً لما حُكي عن بعض الشافعية: أن ما ثبت بالإجماع ألا
يجوز تركه إلا بإجماع مثله.
__________
= فقال عمر: احبسوها حتى تضع، فوضعت غلاماً له ثَنيَّتان،
فلما رآه أبوه قال:
ابنى، فبلغ ذلك عمر فقال: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ،
لولا معاذ هلك عمر).
وذكره الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء في ترجمة معاذ بن
جبل (1/452).
كما ذكره صاحب كنز العمال في فضائل معاذ بن جبل (17/583)
رقم (37499) ونسبه إلى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقى
في الدلائل.
ويلاحظ أن القصة وقعت لمعاذ - رضي الله عنه - مع عمر - رضي
الله عنه - لا مع عثمان - رضي الله عنه - كما ذكر المؤلف.
(1) راجع هذه المسألة في: المسودة ص (343) فإن فيها كلاماً
جيداً، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/392).
(2) انظر: أصول السرخسى (2/116) فقد فصَّل القول في ذلك:
مثَّل، ودلَّل، وناقشَ، فارجع إليه إذا شئت.
(4/1211)
وهذا مثل
المتيمم إذا دخل في الصلاة، ثم رأى الماء.
وما يجري هذا المجرى من المسائل [181/أ].
دليلنا:
أن غير الإجماع قد يكون حجة مثل الإجماع، ألا ترى أن
الإجماع إنما (1) صار حجة بالخبر الوارد فيه، والخبر إنما
صار حجة لقيام دلالة العقل على أن الخير به لا يكذِب، وإذا
كان كذلك وجاز ترك المجمع عليه إذا تغيرت حاله وجب أن يجوز
أيضاً تركه بغير إجماع.
واحتج المخالف:
بأنه لو جاز ترك المجمع عليه بغير الإجماع لأدى ذلك إلى
قيام الدلالة على خلاف الإجماع، وهذا لا يجوز.
والجواب: أنه إذا تغيرت صفته، فليس هو المجمع عليه، بل هو
غيره، فلا يكون في تركه بغير الإجماع إزالة ما ثبت
بالإجماع بدلالة أخرى.
وجواب آخر، وهو: أنه لو لم يجز ترك ما ثبت بالإجماع إذا
تغيرت صفته بدلالة غير الإجماع، لم يجز أيضاً تركه
بالإجماع؛ لأن الإجماع على خلاف الإجماع لا يجوز، كما لا
يجوز خلاف الإجماع، فلمَّا لم يمتنع تركه بالإجماع لم
يمتنع أيضاً تركه بغير إجماع.
واحتج: بأنه لمَّا لم يكن غير الإجماع من جنس ما ثبت به
الحكم، لم يجز إزالة الحكم، كما لا يجوز إزالة ما ثبت بنص
الكتاب بدلالة القياس.
والجواب: أنه قد يجوز أن يثبت الشيء بدلالة، ثم ينتقل عنها
بدلالة أخرى من غير جنسها، ألا ترى أنه يجوز ترك ما ثبت
بالعقل بدلالة من جهة السمع وإن كانت من غير جنس دلالة
العقل.
__________
(1) في الأصل: (لما).
(4/1212)
مسألة
يجوز إثبات الإجماع بخبر الواحد (1).
قال أبو سفيان: وهو مذهب شيوخنا (2).
وقال: قال بعض شيوخنا: لا يجوز إثبات الإجماع بخبر الواحد
(3).
دليلنا:
أن العمل بخبر الواحد ثابت، فوجب عموم العمل به ما لم يمنع
منه دليل.
ولأن الإجماع حجة، كما أن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم
-. حجة، وقول النبي يثبت بقول الواحد.
وذهب المخالف:
إلى أن الإجماع حجة توجب العلمَ، فلا يجوز إثباتُها لا
يوجب العلم.
والجواب: أناَّ نجيز وقوع الإجماع من طريق الاجتهاد
والقياس، وإن كان القياس والاجتهاد لا يوجبان العلم.
وكذلك يجور إثبات التأريخ الموجب للنسخ بخبر الواحد، وإن
كان النسخ بخبر الواحد لا يجوز.
وكذلك يجوز إثبات الإحصان بشهادة رجلين، وإن لم يجز إثبات
الزنا الموجب للرجم به، كذلك ها هنا لا يمتنع أن يثبت
الإجماع بخبر الواحد، وإن كان الإجماع موجباً للعلم.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: المسودة ص (344)، وشرح الكوكب
المنير (2/224) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر
(1/386).
(2) يعنى الحنفية.
(3) فالحنفية في هذه المسألة فريقان، فريق يثبت، وفريق
يمنع. وبكل قول قال فريق من العلماء.
انظر: تيسير التحرير (3/261)، وفواتح الرحموت (2/242).
(4/1213)
مسألة
في الحادثة إذا حدثت [181/ب] بحضرة النبي - صلى الله عليه
وسلم - ولم يحكم فيها بشىء، جاز لنا أن نحكم في نظيرها
(1).
وذهب بعض المتكلمين: إلى أن ترك النبي للحكم في الحادثة
يدل على وجوب ترك الحكم في نظيرها، وقال هذا كرجل شجَّ
رجلاً شجة، فلا يحكم رسول الله فيها بحكم، فنعلم بتركه
ذلك: أن لا حكم لهذه الشجة في الشريعة.
دليلنا:
أن بيان الحكم يقع من قبل الله تارة ومن قبل تبيين النبي -
صلى الله عليه وسلم - تارة أخرى، فلمَّا اتفقوا على أن عدم
نص الله تعالى في الحادثة على حكم لا يوجب تركَ الحكم في
نظيرها، كذلك تركُ رسول الله الحكم في الحادثة لا يوجب
تركَ
الحكم في نظيرها.
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يكلنا إلى النظر
والاستدلال والبحث عن أدلة الأصول (2).
__________
(1) راجع هذه المسألة: المسودة ص (345).
وقد نقل في المرجع المذكور عن ابن عقيل قوله: (إن كان له -
صلى الله عليه وسلم - حكم في نظيرها يصح استخراجه من معنى
نطقه جاز، فأمَّا إذا لم يكن ذلك في قوة ألفاظ النصوص فلا
وجه لرجوعنا إلى طلب الحكم مع إمساكه عنه، إذ لا وجه
لإمساكه عن الحكم في وقت الحاجة؛ لأنا أجمعنا على وجوب
البيان في وقت الحاجة).
وهذا التفصيل يصعب معرفته وتحقيقه في الواقع، وإن كان من
الناحية النظرية سليماً.
(2) تعقبه ابن عقيل -كما في المسوَّدة ص (345)- بقوله:
(فقولوا: يجوز اجتهاد في عين الحادثة التي أمسك عنها، فلما
لم يوجب ذلك جواز الاجتهاد في عين الحادثة =
(4/1214)
ألا ترى إلى ما
روي أن عمر - رضي الله عنه - لما سأل النبي - صلى الله
عليه وسلم - عن الكَلاَلة، فلم يجبه النبي - صلى الله عليه
وسلم - وقال: (يكفيك آية الصَّيف) (1) فوكله إلى البحث
والنظر.
وذهب المخالف:
إلى أنه لو كان لهذه الحادثة حكم في الشريعة لم يكن النبي
- صلى الله عليه وسلم - ليترك بيانه مع عدم نص الله تعالى.
والجواب عنه: ما تقدم، وهو: أنه قد يترك البيان، ويكلنا
إلى النظر والبحث، فلا يكون ذلك موجباً لترك الحكم في نظير
الحادثة.
__________
= التي أمسك عنها، فكذلك في نظيرتها. علم أنه مستلزم
لتأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو غير جائز.
ثم قال: إما أن يكون عالماً بحكمها أو غير عالم، فإن كان
عالماً امتنع ترك البيان والتبليغ، وإن لم يكن عالماً به
فلا نشك أن الأصلح ترك بيانه؛ إذ لو أراد الله بيانه لما
طواه عن نبيه، وأوقع الأمة عليه من غير طريقه وبيانه).
(1) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الفرائض،
باب الكلالة (10/305) ولفظه: (عن طاوس أن عمر أمر حفصة أن
تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكلالة، فأمهلته
حتى إذا لبس ثيابه فسألته، فأملَّها عليها في كتف، فقال،
عمر أمرك بهذا؟! ما أظنه أن يفهمها، أو لم تكفه آية
الصَّيف؟.
فأتت بها عمر فقرأها، فلما قرأ: "يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ
أن تَضِلُّوا" (سورة النساء 176) قال: اللهم من بينت له
فلم تبين لي).
ففي هذا أن السائل المباشر هو حفصة -رضي الله عنها-.
وذكره الهيثمى في مجمع الزوائد (4/227) عن البراء بن عازب
- رضي الله عنه - بلفظ (سئل رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - عن الكلالة، فقال: (يكفيك آية الصَّيف).
قال الهيثمى بعد ذلك: (رواه أبو يعلى، وفيه حجاج بن أرطاة،
وهو مدلس).
(4/1215)
|