العدة في أصول الفقه

باب التقليد
التقليد (1): قبول القول بغير دليل (2).
واشتقاقه من القِلادة (3)؛ لأنها تكون في رقبة الإنسان، فاشتُقَّ التقليد منها؛ لأنه إذا قَبِل قولَه فيما سأله، فقد قلَّد رقبتَه ذلك (4).
وليس المصير إلى الإجماع تقليد المجمعين، ولكن نفس الإجماع حجة لله تعالى كالآية والخبر، فإذا صار إلى الحكم بدليل الإجماع، كان دليله على الحكم الإجماع.
وكذلك يُقبل قولُ الرسول، ولا يقال: تقليد؛ لأن قوله وفتواه حجةٌّ ودليلٌّ على الحكم، والنبى لا يُقلَّد؛ لأن قوله حجة؛ لأنه إذا أفتى بفتيا لم يحتج أن يدل على الحكم بآية من كتاب الله ولا غيره، بل مجرد نطقه عنه.
ويفارق فتيا الفقيه؛ لأن قوله ليس بحجة ولا دليل على الحكم؛ لأنه يفتقر إلى دليل تعلق الحكم به.
__________
(1) راجع هذا الباب في: أصول الجصاص الورقة (304/ب) والتمهيد (4/395)، والمسوَّدة ص (462)، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (2/449)، وشرح مختصر الروضة للطوفي الجزء الثاني الورقة (198/ب)، والمدخل لابن بدران ص (193).
(2) هناك تعريفات كثيرة، ذُكر بعضها في المراجع السابقة.
(3) أي: المحيطة بعنق الدابة أو غيرها؛ لأنه إذا لم تكن محيطة بالعنق لا تسمى قلادة. أفاده الطوفى في المرجع السابق.
(4) استعير المعنى الشرعي من المعنى اللغوي، كأن المقلد يُطوِّق المجتهد تبعات ما قلده فيه، من إثم في حالة غشه في دينه وكتمه عنه العلم الصحيح.
أفاده: الطوفي في المرجع السابق.

(4/1216)


فدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُقلَّد أبداً.
وقد قال أحمد - رضي الله عنه - في رواية أبي الحارث: "من قَلَّد الخبرَ رجوتُ أن يَسْلَم إن شاء الله" (1).
فقد أطلق أحمد - رضي الله عنه - اسم التقليد على من صار إلى الخبر، وإن كان حجة في نفسه.
يمكن أن يحمل قوله: "قَلَّد" بمعنى صار إلى [182/أ] الخبر.
[ما يسوغُ فيه التقليد وما لا يسوغ]
وإذا ثبت حدُّ التقليد. فالكلام فيما يسوغ فيه التقليد وما لا يسوغ فيه (2).
جملته: أن العلوم ضربان:
ما يسوغ فيه التقليد.
وما لا يسوغ فيه التقليد.
فما لا يسوغ فيه التقليد: معرفة الله تعالى، وأنه واحد، ومعرفة صحة الرسالة (3).
__________
(1) هذه الرواية موجودة بنصها في: المسودة ص (462) والمدخل ص (193).
(2) راجع في هذه المسألة: مختصر المعتمد للمؤلف ص (20) والتمهيد (4/396) والمسوَّدة ص (457) وشرح الكوكب (4/533) وروضة الناظر (2/450).
(3) قال أبو الخطاب في التمهيد الموضع السابق: (وبه قال عامة العلماء) ونسبه الفتوحي في شرح الكوكب إلى الإمام أحمد والأكثر.
ويلحق بذلك -كما يقول أبو الخطاب- أصول العبادات كالصلوات الخمس والزكاة والصوم وحج البيت، فإن الإجماع انعقد على أنه لا يجوز فيها التقليد.

(4/1217)


وإنما قلنا: لا يقلد في هذا، بل على الكل معرفةُ ذلك بغير تقليد: لقوله (1) تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطاياهُم مِن شَىْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (2).
وهذا أعلى منازل التقليد: أن يضمنَ (3) المقلَّدُ للمقلِّد دركَ ما قلَّده فيه، وأن يتحمل عنه إثمه، فقد ذمة الله تعالى عليه وكذَّبه فيه: ثبت أن التقليد فيه لا يجوز.
ولأن كل واحد يمكنه معرفة الله تعالى؛ لأنه يشترك فيها العامي والعالم، لا نبينه فيما بعد.
ولأن التقليد لا يفضي إلى المعرفة، ولا يقع به العلم.
فصل
[معرفة الله لا تجب قبل السمع]
ولا يجب عليه معرفةُ الله تعالى قبل السمع مع القدرة على معرفة الله تعالى بالدلائل (4).
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية عبدوس (5) بن مالك العطار:
__________
(1) في الأصل: (قوله) بدون اللام.
(2) آية (12) من سورة العنكبوت.
(3) في الأصل: (يضمر) وهو تصحيف.
(4) ونقل الفتوحي في شرح الكوكب المنير (1/310) عن الشيرازي: أن الأشعرية يقولون إن وجوب معرفة الله تعالى بالعقل وبالشرع.
(5) في الأصل: (عبد الله) وهو خطأ، وسيأتي اسمه كما أثبتناه، وهو كذلك في المسوَّدة ص (481) وقد سبقت ترجمته.

(4/1218)


"ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك (1) بالعقول، إنما هو الاتباع".
خلافاً للمعتزلة في قولهم: عليه أن يعرف ذلك قبل أن يرد السمع، فإن لم يفعل، فهو كافر معاند (2).
وقالوا: المراهق إذا بلغ حداً يميز ويعقل وجب عليه أن يعرف الله تعالى، فإن لم يفعل، فهو كافر معاند.
دليلنا:
قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَى نَبْعَثَ رَسُولاً) (3).
وقال تعالى: (رُسُلاً مُّبَشِرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلناسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اْلرُّسُلِ) (4) فدل ذلك على أن الله تعالى لا يعرف قبلِ أن يبعث الرسل.
وقال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَى يَبْعَث فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلهَا ظَالِمُون) (5).
وقال تعالى: (وَلَوْلاَ أن تُصِيْبَهُم مُّصيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أيدِيهمْ فَيَقُولوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ رَسُولاً فَنَتَّبعَ ءايَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (6) وقال الله تعالى: (وَلَوْلاَ أَنَّا أهلَكْنَاهُم بِعَذابٍ مِن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلتَ إِليْنَا رَسُولاً فَنَتَبعَ ءايَاتِكَ مِن قَبْلِ أن نَّذِلَّ وَنَخْزَى) (7).
__________
(1) في الأصل: (يدرك) بالمثناه التحتية.
(2) انظر في هذا: زيادات المعتمد (2/994)، والإحكام للآمدي (1/86) وإرشاد الفحول ص (7).
(3) آية (15) من سورة الاسراء.
(4) آية (165) من سورة النساء.
(5) آية (59) من سورة القصص.
(6) آية (47) من سورة القصص.
(7) آية (134) من سورة طه.

(4/1219)


وهذا كله يدل على ما ذكرناه.
وأيضاً: ما روى سليمان بن بريدة (1) عن أبيه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميراً على سرية أمره بتقوى الله تعالى في خاصة نفسه ومن معه من المسلمين، وقال: (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم [إلى إحدى ثلاث خصال، فأيتها أجابوك إليها، فاقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم] (2) إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا، [فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا] (3) فاستعن بالله عليهم وقاتلهم) (4). فأمر بقتالهم بعد الدعاء والامتناع.
وإذا ثبت وجوبها بالسمع فالطريق إليها أدلة يشترك فيها العالم والعامي، وهى أمور عقلية.
__________
(1) هو: سليمان بن بريدة بن الحصيب الأسلمى المروزي. ثقة. روى عن أبيه وعمران ابن حصين وعائشة -رضي الله عنهم- وغيرهم. وعنه علقمة بن مرثد ومحارب ابن دثار وعبد الله بن عطاء وغيرهم. ولد لثلاث خلون من خلافة عمر - رضي الله عنه - ومات سنة (105هـ)، وله (90) سنة.
له ترجمة في: تهذيب التهذيب (4/174) وتقريب التهذيب (1/321).
(2) ما ببن القوسين زيادة من مراجع التخريج الآتية.
(3) ما بين القوسين زيادة من مراجع التخريج الآتية.
(4) هذا الحديث رواه بريدة - رضي الله عنه - أخرجه عنه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها (3/1357).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الجهاد، باب: في دعاء المشركين (2/35).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب السير، باب: ما جاء في وصيته - صلى الله عليه وسلم - في القتال (4/162) حديث (1617).
وأخرجه ابن ماجة في كتاب الجهاد، باب: وصية الإمام (2/953) حديث (2858).

(4/1220)


[بم تحصل المعرفة]
وهي كسبية مختارة للعبد، وموهِبة من الله تعالى، ولا تقع ضرورة.
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي: "معرفة الله تعالى في القلب تتفاضل فيه وتزيد" (1).
وهذا يدل على أنها كسبية؛ لأنها تزيد بزيادة الأدلة، ولو كانت ضرورة لم تزد، كما لم يزد (2) علم الضرورات.
خلافاً لمن قال: المعرفة موهِبَة، تقع ضرورة، ولا يتوصل إليها بأدلة العقول (3). وربما يذهب إلى هذا قوم من أصحابنا (4).
والمذهب على ما ذكرنا (5).
__________
(1) ذكر المؤلف هذه الرواية في كتابه مختصر المعتمد في أصول الدين ص (32) ووجهها بقوله: (والوجه فيه: أن من الناس من يعرف مخبرات الله تعالى مفصَّلة، ومنهم من يعرفها مجملة، فمن عرفها مجملة، فإذا عرف تفصيلها ازداد علمه وتصديقه، وذلك أن الوحى كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - آية وسورة فمن قد سبقت له المعرفة ازداد علمه، ومنه قوله تعالى: (وَإِذَا مَا أنزِلَت سُورَةٌ فَمِنْهُم مَن يَقُولُ أيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً..) (124) التوبة.
(2) في الأصل: (تزد) بالمثناة الفوقية.
(3) ونقل ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم ص (124) عن أبي الحسن قوله: (معرفة الصانع ضرورة).
(4) قال الفتوحى في شرح الكوكب المنير (1/310) : (وقال جمع من أصحابنا وغيرهم: (إنهما [أي المعرفة والنظر] يقعان ضرورة).
(5) ذكر ابن مفلح في كتابه الفروع (6/186) رأيين في المسألة: كسبية، أو ضرورية، وعبر عن الرأي القائل: بأنها ضرورة بقوله: (قيل). وهذا يشعر بأن الرأي الآخر هو الراجح في المسألة، وهو المذهب كما قال المؤلف.

(4/1221)


وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية حمدان بن علي: "المرجئة تقول: إذا عرف ربّه بقلبه وإن لم تعمل جوارحه. وهذا كفر إبليس، قد عرف ربه، فقال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي") (1).
فقد نص على حصول (2) المعرفة لإبليس، ولو كانت موهِبة لم تحصل له (3)، لأنه كافر معاند.
والدلالة عليه:
أن الله تعالى أجرى العادة بحصول المعرفة عند النظر والاستدلال، كما أجرى العادة بذلك بحصول الطَّعم عقيب الذوق، والسمع عقيب الاستماع، ولم يجز أن يقال: إن الطَّعم يحصل بغير ذوق، والسمع بغير استماع.
__________
(1) آيه (39) من سورة الحجر.
ورواية حمدان بن علي هذه ذكرها ابن أبي يعلى في طبقاته في ترجمة حمدان (1/309).
(2) في الأصل: (حضور).
(3) ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في المسوَّدة ص (457) هذه الرواية وتوجيه القاضي لها ثم قال: (هذا الذي ذكره القاضي لا ينافي ما حكاه عن بعض أصحابنا؛ لأنه مبني على أنها ضرورة عندهم، والضرورة لا تزيد، وكلا المقدمتين ممنوعة، فإنهم إنما يقولون: أصل المعرفة بالله ورسوله ضرورة، وأما الزيادة الحاصلة بتدبر القرآن ونحوه فما أظنهم يقولون: هى ضرورة، وأما الثانية، فإن القاضي يقول: إن العقل علوم ضرورية، وهو عنده يزيد وينقص، فالزيادة في الضروريات).
ثم عقَّب على استدلال القاضي برواية حمدان بن على الورَّاق بقوله: (وأما طعن الإمام أحمد على المرجئة بمعرفة إبليس، فهي المعرفة الفطرية، وما المانع من أن تكون هذه موهِبة من الله؟! ذلك أقوم في الحجة عليه من أن تكون حاصلة بكسبه، ولو حصلت بكسبه لا يثبت عليها، فأما المعرفة الإيمانية فلم تحصل له، ومن قال: المعرفة ضرورية. فقد أراد الفطرية، وفي إرادته لهذه نظر).

(4/1222)


ولأن الله تعالى حث على النظر والاستدلال، فلولا أن العلم يقع به لم يكن فيه فائدة، فقال تعالى: (أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ، كَيْفَ خُلِقَتْ) (1).
وقال: (أولَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السمَوَاتِ وَاْلأَرْضِ) (2).
وقال: (فَلْيَنْظُرِ اْلإِنْسَان مِمَّ خُلِقَ) (3).
وقال: (يَا أيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِنَ تُرَابٍ) (4) الآية.
واحتج من قال بأنها موهبة:
بما أخبر الله سبحانه عن عيسى وقوله في التمهيد: (إِنِّى عَبدُ اللهِ ءاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا) (5)، ولم يك من أهل النظر: الاستدلال.
وكذلك لما استخرج الذرية من ظهر آدم، (وأشْهَدَهُمْ عَلَى أنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) (6).. ولم يكونوا من أهل النظر والاستدلال.
والجواب: أن كلام عيسى في التمهيد كان معجزة (7) له وبراءة لأمه.
ويحتمل أن يكون كلفه في تلك الحال، كما أنطقه في المهد صبياً بلسان الحكمة.
وأما الذرية فإن الله تعالى كلفهم حين أوجدهم؛ لأنه أخذ إقرارهم، وإنما يكون هذا حجةً على من كلف.
__________
(1) آية (17) من سورة الغاشية.
(2) آية (185) من سورة الأعراف.
(3) آية (5) من سورة الطارق.
(4) آية (5) من سورة الحج.
(5) آية (30) من سورة مريم.
(6) آية (172) من سورة الأعراف.
(7) في الأصل (معجزا).

(4/1223)


فأما الدلالة التي يتوصل بها فهو: أنه رَفع السماء بغير عمد، وأجرى فيها الكواكب والشمس والقمر دائبين، قائمة على الهواء بغير عمد، ولا يظهر فيها شَق ولا فُطور، قال تعالى: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور) (1).
وسَطَح الأرض، وهي تراب على وجه الماء، والبناء على الماء حال (2) [183/1] لا يقدر عليه أحد، فلما فعل هذا اضطربت على الماء فثبتها بالجبال الرواسي حجراً واحداً، ومعلوم أن أحداً من البشر لا يقدر عليه، ثبت أن لها خالقاً غير البشر.
وكذلك جعل فيك دلالة عليه، فإنه خلق الإنسان من ماء مهين، وجعله نطفة في الرحم، ثم يُغَيَّر من حال إلى حال، حتى يظهر من بطن أمه وليداً لا يعقل، فلم يزل حتى كبر، وعقل، وفهم، وعلم، وأنتَ تعلم أنه لو انقطع منه شعرة لم يمكن أحد أن يضعها كما كانت أبداً، ثبت بهذا أن له صانعاً يخالف البشر.
وإذا ثبت أن لها صانعاً، علمناه قطعاً أنه واحد لا شريك له بانتظام الأمر على محكم الصنعة من غير تغير ولا اختلاف، ولو كان إله غيره لجاز عليهما الاختلاف على ما نعهده في الملوك، فلما اتسعت الصنعة على وجه واحد من غير اختلاف، علم قطعاً أن الصانع واحد لا شريك له.
[معرفة النبوة]
وأما معرفة النبوة فظهور المعجزات عند التحدي والحاجة إليها على يديه، كانشقاق القمر، وكلام الضب، وحنين الجذع، والقرآن القاطع المعجز، وكاليد البيضاء، والعصا، وإحياء الموتى، وتنزيل المائدة من السماء، فإذا ظهر على [يد] نذير هذا عند التحدي علمنا أنه رسول الله قطعاً؛ لأن المعجزات لا تظهر على يد الكذابين.
__________
(1) آية (3) من سورة الملك.
(2) في الأصل (خال) بالخاء المعجمة.

(4/1224)


[الفرق بين العجزة والكرامة]
ويفارق هذا كرامات الأولياء، لأنها تقع اتفافاً، ولا يمكنه إظهارها والتحدي بها، فإذا وجد على يدي رجل، ثبت أنه نبي قطعاً، وكان قبول قوله فرضاً (1).
وفي معنى هذا مما لا يسوغ التقليد فيه: ما ثبت بخبر التواتر، كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان والزكاة والحج، كل هذا يعرف بأخبار التواتر، فيقع العلم بها بالسمع، والعالِم والعامي في طريق ثبوتها على وجه واحد، فلهذا لم يسغ التقليد فيه.
[ما يسوغ فيه التقليد]
وأما الذي يسوغ فيه التقليد، فهذه المسائل التي هي فروع الدين، كالنكاح، والبيوع، والطلاق، والعتق، والتدبير، والكتابة، وسجود السهو، فالناس فيه على ضربين: عالِم، وعامي.
فالعامي له أن يقلد أهلِ العلم، ويعمل بفتواهم، لقوله تعالى: (فَاسْألوا أَهْل الْذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون) (2).
وقال تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (3).
وقال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُوْلِ وَإلِى أولِى الأَمرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِيْنَ
__________
(1) انظر بحث المعجزة والكرامة، والفرق بينهما، كتاب شرح الطحاوية ص (448) وما بعدها.
(2) آية (43) من سورة النحل.
(3) آية (122) من سورة التوبة.

(4/1225)


يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (1).
ولأنه لا خلاف أن طلب الفقه من فرائض الكفايات، فلو كلف الكل لكان من فرائض الأعيان.
ولأن كل أحد لا يتمكن أن يعرف ذلك؛ لأنه يتشاغل [183/ب] عن عمارة الدنيا بالزرع والمعاش والكسب به، فلما كان فيه قطع لعمارة الدنيا لم يكن واجباً على الكل.
[للعاميِّ أن يقلد من شاء من المجتهدين]
وإذا ثبت أن له التقليد، فليس عليه أن يجتهد في أعيان المقلَّدين، بل يقلد من شاء، لأنه لما لم يكن عليه الاجتهاد في طلب الحكم كذلك في المقلَّد.
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- فيما رواه الحسين (2) بن بشار المخرمي (3) قال: "سألت أحمد -رحمه الله- عن مسألة في الطلاق، فقال: إن فعل كذا حنث. فقلت له: فإن أفتاني إنسان: لا أحنث، فقال: تعرف حلقة المدنيين؟ قلت: فإن أفتوني أدخل (4)؟ قال: نعم".
فلم يكله الإمام أحمد - رضي الله عنه - إلى اجتهاده في المستفتى، وإنما
__________
(1) آية (83) من سورة النساء. والآية في الأصل (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُّولِ) ولفظ الجلالة غير موجود في الآية.
(2) في الأصل (أبو الحسين) وهو خطأ.
(3) من أصحاب الإمام الذين نقلوا عنه بعض المسائل.
انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة (1/142).
وهذه الرواية موجودة بنصها مع اختلاف يسير في طبقات الحنابلة في ترجمة الحسين ابن بشار المخرمي المذكور.
(4) هكذا في الأصل، وفي طبقات الحنابلة: (فإن افتوني يدخل؟ قال نعم): =

(4/1226)


أفتاه بقوله، وأرشده إلى غيره.
[إذا استفتى المقلد عالمين]
وإن استفتى عالمين: فإن اتفقا على الجواب عمل بما قالاه، وإن اختلفا، فقال أحدهما: مباح، والآخر محظور.
مثل إن استفتاه في صريح الطلاق إذا نواه ثلاثاً، فقال له حنبلي: طلقت واحدة.
وقال (1) له شافعي: طلقت ثلاثاً، فإنه يقلد من شاء منهما، ولا يلزمه أن يأخذ بقول من غلَّظ عليه.
وهذا ظاهر ما رواه الحسين (2) بن بشار عن أحمد؛ لأنه استفتاه في مسألة الطلاق، فقال له أحمد - رضي الله عنه -: "إن فعل حنث، وقال: إن إفتاك مدني: لا تحنث، فافعل".
فقد سوَّغ له الأخذ بقول المدني بالإباحة، ولم يلزمه الأخذ بالحظر.
فإن قيل: هلاَّ قلتم: يلزمه أن يأخذ بقول من غلَّظ، كما قلتم: إذا تقابل في الحادثة دليلان: أحدهما حاظر والآخر مبيح: إنه يقدم الحظر على الإباحة.
__________
= وفي المسودة ص (463: (فإن افتوفي به حلَّ؟ قال: نعم) وسيعيد المؤلف ذكر هذه الرواية بلفظ آخر في المسألة الآتية.
(1) في الأصل: (فقال).
(2) في الأصل (الحسن) مكبراً، وهو خطأ".

(4/1227)


قيل: الفرق بينهما: أن ذلك من الأصول مبناه على التأكيد، ولهذا طريق ثبوته دليل مقطوع عليه.
وهذا من الفروع مبناه على التخفيف، ولهذا يثبت بغلبة الظن.
[يكفي في الفتوى مترجم واحد]
فإن كان المقلد يعرف لسان المفتي سمع منه، وعمل بقوله عليه. وإن كان لا يعرف لسانه أجزأه مترجم واحد؛ لأنه نقل خبر إليه، وخبر الواحد يوجب العمل.
ويفارق هذا الترجمة عن الشاهد؛ لأنها (1) إثبات شهادة، فلهذا افتقرت الترجمة إلى عدد.
[على العامي أن يستفتي في كل حادثة تقع]
وإن استفتى عامي عالماً في حكم وأفتاه، ثم حدث حكم آخر مثل ذلك، فعليه أن يكرر الاستفتاء، ولا يقتصر على الأول.
وكذلك الحاكم إذا اجتهد في حادثة فقضى بها، ثم حدثت ثانياً، فإنه يحدث لها اجتهاداً.
وكذلك إذا اجتهد فصلى إلى جهة، ثم حضرت صلاة أخرى أحدث لها اجتهاداً؛ لأن الاجتهاد الأول غير مقطوع [184/أ] عليه، وإنما هو غلبة ظن فهذا حكم العامي.
__________
(1) في الأصل: (لأنه) والضمير يعود إلى الترجمة.

(4/1228)


فصل
[تقليد العالم لعالم مثله]
وأما العالِم فلا يجوز أن يقلد عالماً مثله، سواء كان الزمان واسعاً أو ضيقاً (1).
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية أبي الحارث والفضل بن زياد: "لا تقلد أمرك واحداً منهم، وعليك بالأثر" (2).
وذكر ابن بطة (3) في مسألة أفردها: أن الخلوة تكمل الصداق، بإسناده عن الفضل بن زياد قال: قال أحمد -رحمه الله-: "يا أبا العباس لا تقلد
__________
(1) راجع في هذا الفصل: أصول الجصاص الورقة (305/ب) والتمهيد (4/408) والمسوَّدة ص (468).
(2) روى أبو داود في مسائله ص (277) عن الإمام أحمد قوله -وقد سأله-: "الأوزاعي هو أتبع من مالك؟ قال: لا تقلد دينك واحداً من هؤلاء، ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فخذ به، ثم التابعبن بعد الرجل فبه مخير".
والرواية التي نقلها المؤلف ذكرها أبو الخطاب في كتابه التمهيد كما ذكرت في المسوَّدة في الموضعين السابقين.
(3) هو: عبد الله بن محمد بن محمد بن حمدان، أبو عبد الله، العكبري، المعروف بابن بطة. سمع عبد الله بن محمد البغوي وإسماعيل بن العباس الوراق وأبا بكر النيسابوري وغيرهم، وسمعه جماعة، منهم: أبو عبد الله بن حامد وأبو حفص العكبري، وأبو حفص البرمكي. كان عالماً زاهداً ورعاً. له مؤلفات كثيرة، منها: الإبانة الكبرى، والإبانة الصغرى، والسنن، والمناسك. مات سنة (387هـ).
له ترجمة في: شذرات الذهب (3/122) وطبقات الحنابلة (2/144) : المنهج الأحمد (2/96).

(4/1229)


دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا" (1).
فقد مَنَعَ من التقليد، وندب إلى الأخذ بالأثر. وإنما يكون هذا فيمن له معرفة بالأثر والاجتهاد.
وبهذا قال الشافعي (2) وأبو يوسف (3).
__________
(1) هذه الرواية ذكرها أبو الخطاب في التمهيد الموضح السابق، وذكرت في المسوَّدة الموضع السابق أيضاً.
(2) المنقول عن الإمام الشافعي في القديم كما في الاحكام للآمدي (4/177) والمحصول (6/110) أنه يقول: (يجوز لمن بعد الصحابة تقليد الصحابة، ولا يجور تقليد غيرهم).
ونقل ابن القيم في كتابه اعلام الموقعين (2/239) مذهب من قال بجوار التقليد، ومن ضمن ما استدلوا به قول الشافعي في غير موضع: (قلته تقليداً لعمر، وقلته تقليداً لعثمان، وقلته تقليداً لعطاء).
كما نقل عنه في (2/241) : (رأي الصحابة لنا خير من رأينا لأنفسنا..).
فخلاصة مذهب الشافعي: أنه لا يجيز تقليد العالم للعالم إلا الصحابة فيجوز لمن بعدهم تقليدهم.
إلا أن النص الأول الذي نقله ابن القيم يشعر بأن التابعين في ذلك كالصحابة، فيجوز تقليدهم.
وأشار إلى ذلك ابن الحاجب في المنتهى ص (161) حيث قال: (وقال الشافعي والجبَّائي: يجوز أن يقلد صحابياً خاصة أرجح من غيره، فإن استووا تخير. وقيل: وتابعياً).
والمشهور من مذهب الشافعية: عدم الجواز مطلقاً.
انظر التبصرة ص (403).
وذكر الرازي في المحصول (6/115) : أنه مذهب أكثر الشافعية.
(3) نقل ذلك عنه الجصاص في أصوله الورقة (305/ب).

(4/1230)


وقال أبو حنيفة (1) ومحمد (2) : يجوز للعالم تقليد العالم، حكاه أبو سفيان عنه في مسائله، ولم يفرق بين أن يكون الزمان واسعاً أو ضيقاً.
وذهب ابن سريج إلى جواز ذلك مع ضيق الوقت (3).
والدلالة على أبي حنيفة:
قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَىءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ والرَّسُولِ) (4) ولم يقل إلى عالم مثلك.
وقال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيْهِ مِنْ شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) (5) وهذا يدل على أن لا يقلد غيره.
وأيضاً: فإن معه آلة يتوصل بها إلى المطلوب، فوجب أن لا يجوز له التقليد فيه.
__________
(1) حكى ذلك الجصاص في المرجع السابق حيث قال: (قال أبو بكر: ولا فرق عندنا في قول أبي حنيفة في جوازه تقليده لغيره، بين أن يقلده ليأخذ به في شىء ابتلي به في أمر نفسه، وبين أن يفتي به غيره، يجوز له أن يفعل ذلك في الأمرين جميعاً).
ولكن صاحب مسلم الثبوت مع الشارح (2/293) ذكرا أن هناك روايتين عن الإمام أبي حنيفة، إحداهما: يجوز، والأخرى: لا.
(2) في المرجع السابق: (وعن محمد: يقلد من هو أعلم منه، وهو ضرب من الاجتهاد).
ولكن الجصاص في المرجع السابق نقل بواسطة أبي الحسن: (أن محمداً لا يجِّوز ذلك).
(3) نقل ذلك عنه الشيرازي في التبصرة ص (412) والرازي في المحصول (6/16) ولكن قيد الرازي في المحصول بأن ابن سريج يجوز للمجتهد التقليد فيما يخصه، بحيث لو اشتغل بالاجتهاد في المسألة لفات الوقت.
وهناك أقوال أخرى في المسألة: ارجع إليها في المحصول والإحكام للآمدي في المواضع السابقة.
(4) آية (59) من سورة النساء.
(5) آية (10) من سورة الشورى والآية في الأصل (فحكمه إلى الله والرسول) وهو خطأ، فإن الآية ليس فيها ذكر الرسول.

(4/1231)


أصله: التقليد في التوحيد.
وهذا نكتة المسألة.
ولا يلزم عليه قول الصحابي؛ لأن الرجوع إليه ليس بتقليد؛ لأنه حجة كقول النبي.
فإن قيل: الأمور العقلية طريقها العلم، وتقليد الغير أكثر أحواله أن يوجب غلبة الظن، فلم يجز له تقليده، وأمور الشرع طريقها الاجتهاد، وتقليده لمن هو أعلم منه وأقوى اجتهاداً ضرب من الاجتهاد، فوجب أن يكون ذلك دلالة.
قيل: ليس هذا ضرباً من الاجتهاد ولا دلالة، وإنما هو اجتهاد من التقليد، وكلامنا في اجتهاده ليعلم ذلك بعلمه، ويقف على دليله.
ولأنه لا يجوز للإِنسان أن يتبع قول غيره إلا بصفة تختص به، لا يشاركه فيها أحد، مثل الرسول اختص بالعصمة (1) وكذلك الأمة.
وكذلك قول الصحابي اختص بمشاهدة التنزيل وحضور التأويل.
والعالم مع العامي اختص بالاجتهاد.
فأما إذا لم يكن لأحدهما مزية لم يكن له اختصاص بصفة فلم يجز للآخر اتباعه في قول.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِى اْلأمْرِ مِنْهُمْ) (2).
والجواب [184/ب]: أن المراد به العامة، يدل عليه قوله تعالى: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) عُلِم أنه أراد المقلد؛ لأنه إذا كان عالماً فهو من أهل الاستنباط.
__________
(1) في الأصل (الصمة).
(2) آية (83) من سورة النساء.

(4/1232)


واحتج: بما روي أن عبد الرحمن بن عوف لما تردد بين عثمان وعلي، قال لعثمان: (هل أنت متابعي (1) على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين؟. فقال: الَّلهم نعم، فبايعه) (2).
وإنما دعاه عبد الرحمن إلى اتباع أبي بكر وعمر لاعتقادهما (3) أن أبا بكر وعمر كانا أعلم من عثمان.
وروي عن عمر أنه قال: (إني رأيت في الجد رأياً، فاتبعوني، فقال له عثمان: إن نتبع رأيك فرأيك رشيد، وإن نتبع رأي من قبلك فنعم ذو الرأي كان) (4).
وروي (أن امرأة ذُكِرت عند عمر بالفاحشة، فوجه إليها، فأجهضت ذا بطنها من الفزع، فاستشار الصحابة، فقال عثمان وعبد الرحمن: إنك مؤدب، ولا شىء عليك، وعلىُّ ساكت، فقال له عمر: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانا قد اجتهدا فقد أخطئا، وإن لم يجتهدا فقد غشَّاك، عليك الدية، فقال عمر: عزمت عليك لتقسمنها على قومك) (5).
__________
(1) هكذا في الأصل في هذا الموضع، والمواضيع الأخرى الآتية، والذي يظهر لي -وهو ما أثبته الشيرازي في التبصرة ص (407)- أنه (مبايعي).
(2) سبق تخريج الأثر.
(3) أي: عبد الرحمن وعثمان.
(4) هذا الأثر أخرجه الدارمي في سننه في كتاب الفرائض، باب: قول عمر في الجد (2/256) حديث (2919).
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الفرائض، باب فرض الجد (8/263) حديث (19051).
(5) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب من أفزعه السلطان (9/458)، ونصه: (... عن الحسن قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى امرأة مَغيبة كان يُدخل عليها، فأنكر ذلك، فأرسل إليها، فقيل لها: أجيبي عمر، فقَالت: يا ويلها ما لها ولعمر قال: فبينا هى في الطريق فزعت، فضربها الطّلْق، فدخلت داراً =

(4/1233)


فقلد علياً.
والجواب عن قول عبد الرحمن لعثمان: هل أنت متابعي على سيرة الشيخين من وجوه:
أحدهما: أنا نحمل ذلك على السيرة في حماية البيضة. والقيام بالمصالح، والتزيد في بلاد الإسلام والفتوح والنكاية في العدو، ولم يُرِد في أحكام الفقه.
يدل على صحة هذا: أن أحكامهما (1) مختلفة في كثير من المسائل، فكيف يجوز اتباعهما؟.
فإن قيل: لو كان المراد به السيرة لم يمتنع عليُّ من ذلك.
قيل (2).
وجواب ثان، وهو: أنه يجوز أن يكون عثمان أجابه إلى ذلك؛ لأنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (اقتدوا باللَّذَيْن من بعدي أبي بكر وعمر) فحمله على عمومه.
وجواب ثالث، وهو: أن علي بن أبى طالب خالفهما في ذلك، فقال لعبد الرحمن لما قال له: (هل أنت متابعي على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة
__________
= فألقت ولدها، فصاح الصبي صيحتين، ثم مات، فاستشار عمر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأشار عليه بعضهم أن ليس عليك شىء إنما أنت وال ومؤدب، قال: وصمت عليُّ، فأقبل عليه، فقال: ما تقول؟ قال إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كان قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، أرى أن ديته عليك، فإنك أنت أفزعتها، وألقت ولدها في سببك، قال: فأمر علياً أن يقسم عقله على قريش، يعني يأخذ عقله من قريش؛ لأنه خطأ).
وقد آثرت نقل الأثر بنصه، لما فيه من الفقه والعظة والنصح، والعظمة القيادية.
(1) في الأصل: (احكامه).
(2) هكذا في الأصل، ذكر الاعتراض، ولم يجب عنه، واكتفى بقوله: قيل.

(4/1234)


الشيخين؟ فقال له علي: لا، إلاَّ على جهدي وطاقتي). فخالفهما في ذلك.
فإن قيل: ليس هذا بخلاف؛ لأنه يجوز أن يكون عنده أنه أعلم منهما، فلهذا لم يتبعهما؛ وكان عند عثمان أنهما أعلم منه، فأجاب إلى اتباعهما.
قيل: الخلاف قد ظهر منهما، وما ذكره المخالف من هذا الاحتمال يحتاج إلى دليل.
وأما قول عمر: (إني رأيت في الجد رأياً فاتبعوني)، فلا حجة فيه؛ لأنه إنما يصح التعلق به إذا ثبت أن عمر دعاهم إلى اتباعه؛ لاعتقاده أنه أعلم منهم.
وهذا المعنى ليس في الخبر [185/أ]
وعلى أن معناه: اتبعوني بالدليل الذي قام عندي.
وقول عثمان: (إن نتبع رأيك فرأيك رشيد)، أي: [له] وجه في الأصول وتَعَلُّق بها (وإن نتبع رأي من قبلك، فنعم ذو (1) الرأي)، لما دلَّ عليه من الدليل، فإذا احتمل هذا لم يجز حمله على التقليد.
وأما قول عمر لعلي: (عزمت عليك لتقسمنها على قومك. إنما قاله؛ لأن اجتهاده أدى إلى صحة ما قاله، فكان ذلك قولاً بالدليل.
واحتج: بأن العالم إذا رأى اجتهاد غيره أقوى من اجتهاد نفسه كان تقليده إياه ضرباً من الاجتهاد، فلما كان له أن يحكم في الحادثة بما يؤديه إليه اجتهاده، كذلك يجوز له أن يقلد غيره فيها (2) إذا كان اجتهاده أوثق عنده من اجتهاد نفسه.
والجواب: أنه لو كان جواز تقليده مما ذكرته من أن اجتهاد غيره أقوى لوجب أن لا يجوز له أن يترك تقليده، ولا يعمل على اجتهاد نفسه، كما أنه
__________
(1) في الأصل: (ذي).
(2) في الأصل: (فيهما).

(4/1235)


إذا رأى الحادثة بأحد الأصلين أشبه منها بالأصل الآخر لم يجز له أن يردها إلى الأصل الذي هو أشبه به، فلما أجزتم له أن يمضي اجتهاد نفسه علمنا أنه لا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين.
وجواب آخر وهو: أن قولهم: إن رجوعه إلى قول غيره ضرب من الاجتهاد لا يصح؛ لأنه اجتهاد في التقليد، وكلامنا في اجتهاده ليعلم ذلك بعلمه ووقوفه على دليله.
واحتج: بأن الأعلم لما كان يعرف مالا يعرفه الآخر كان له أن يصير إلى من هو فوقه، مثل العامي يسمع خبراً أو آية عامة، فإن عليه الرجوع إليه (1)، يقلده (2) لجواز أن يكون عند العالم ما يقضي على الخبر الذي يسمعه.
كذلك اجتهاد من هو أدون منه في الفقه لما جاز أن يكون عند العالم ما يقضي على اجتهاده لزمه المصير إلى قوله.
والجواب: أنه لو كان كالعامي لوجب الرجوع إلى قوله، ولم يجز لى أن يعمل على ما عنده، ولما جاز له العمل على ما عنده لم يصح اعتباره به.
ولأن العامي ليس معه آلة الاجتهاد، وهذا بخلافه.
__________
(1) أى فإن على العامي أن يرجع إلى العالم فيقلده لجواز..
(2) في الأصل (تقليد) بدون إعجام.

(4/1236)


[لا يجوز التقليد للعالم وإن ضاق الوقت]
والدلالة على منع التقليد مع ضيق الوقت أيضاً ما تقدم.
ولأنه من أهل الاجتهاد، فلم يجز له تقليد غيره.
دليله: إذا لم يضق وقته.
ولأن اجتهاده شرط في صحة فرضه، فلا يسقط بخوف الفوت قياساً على سائر الشروط، مثل: الطهارة وستر العورة وغير ذلك.
ولأن العامي فرضه السؤال والتقليد، والعالم فرضه في الاجتهاد، فلما لم يسقط عن العامي فرض السؤال لخوف الوقت لم يسقط عن العالِم فرض الاجتهاد [185/ب].
واحتج المخالف (1) :
بأنه لا يمكنه أداء فرضه باجتهاده، فكان فرضه التقليد قياساً على العامي.
والجواب: أن العامى عاجز عن الاجتهاد، والعالم متمكن منه، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر، ألا ترى أنه لا يجوز اعتبار من لا يجد الماء والسترة بمن يقدر عليهما (2)، ولكنه يخاف فوات الوقت إن استعملهما (3).
واحتج: بأنه لما جاز للعالم تقليد الصحابي جاز له تقليد غير الصحابي.
والجواب: أنه لما جاز له تقليد الصحابة لزمه ذلك، ولم يجز له مخالفتهم (4)،فجرى ذلك مجرى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس كذلك ها هنا، فإن العالم لا
__________
(1) هو ابن سريج، كما سبق بيانه.
(2) في الأصل: (عليها).
(3) في الأصل: (استعملها).
(4) في الأصل: (مخالفته).

(4/1237)


يلزمه تقليد العالم، بل هو مخير عندهم في تقليده وفي تركه والعمل على ما عنده، فبَانَ الفرق.
مسألة
[حكم الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع]
الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع اختلف الناس فيها (1).
فذكر شيخنا (2) -رحمه الله- أنها على الحظر إلا أن يرد الشرع بإباحتها.
وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى معنى هذا في رواية صالح ويوسف موسى (3): "لا يخمَّس السَّلَب، ما سمعنا أن النبي خمَّس السَّلَب" (4).
__________
(1) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/269) المسودة ص (474) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/117) وشرح مختصر الروضة للطوفي الجزء الأول الورقة (82/أ) وشرح الكوكب المنير (1/322) والقواعد والفوائد الأصولية ص (110).
(2) يعنى الشيخ الحسن بن حامد - رحمه الله تعالى.
(3) انظر هده الرواية في المسوَّدة ص (478).
(4) أخرج أبو داود في كتاب الجهاد، باب في السَّلَب لا يخمس (2/66) عن عوف ابن مالك وخالد بن الوليد -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم:- (قضي بالسَّلَب للقاتل ولم يخمس السَّلَب).
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/26) : ولفظه: (لم يخمس السَّلَب).
وأخرجه ابن الجاررد في المنتقى باب نفل القاتل سَلَب المقتول ص (361) حديث (1077) ولفظه كلفظ الإمام أحمد.

(4/1238)


وهذا يدل على أنه لم يبح تخميس السَّلَب؛ لأنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع فيه، فبقي على أصل الحظر (1).
وكذلك نقل الأثرم وابن بَدينا (2) في الحُلِيّ يوجد لقطة (3)، قال: "إنما جاء الحديث في الدراهم والدنانير" (4).
فاستدام أحمد -رحمه الله- التحريم، ومنع [الملك] (5) على الأصل؛ لأنه
__________
(1) وقد تعقبه شيخ الإسلام ابن تيمية في المسودة ص (478) بقوله: (قلت: لأن السلب قد استحقه القاتل بالشرع، فلا يخرج بعضه عن ملكه إلا بدليل، وهذا ليس من موارد النزاع).
(2) هو: محمد بن الحسن بن هارون بن بدينا، أبو جعفر الموصلى. من أصحاب الإمام أحمد. حدث عن الإمام أحمد وأحمد بن عبده الضَّبِّي، وروى عنه أبو بكر الخلال وغلامه عبد العزيز. قال فيه الدارقطنى: لا بأس به، ما علمت إلاّ خيراً. توفي في شهر شوال سنة (303هـ).
له ترجمة في: طبقات الحنابلة (1/288).
(3) هذه الرواية موجودة بنصها في المسوَّدة ص (478).
(4) هذه إشارة إلى حديث زيد بن خالد - رضي الله عنه - قال (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة الذهب أو الورق، قال: (اعرف وِكَاءَها وعِفاصَها، ثم عَرِّفها سنة، فإن لم تَعْرِفْ فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدها إليه) الحديث هذا لفظ مسلم في صحيحه أخرجه في كتاب اللقطة (3/1349).
وأخرجه البخاري في كتاب اللقطة، باب إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه (3/156) ولم يذكر فيه الذهب والفضة، بل قال: إن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة قال: (اعرف...) الحديث.
وأخرجه أبو داود في سننه كتاب اللقطة، باب التعريف باللقطة (1/395).
(5) الزيادة من المسوَّدة ص (478).

(4/1239)


لم يرد شرع في غير الدراهم (1).
وبهذا قالت المعتزلة البغداديون (2) والإمامية (3) وابن أبى هريرة (4) من أصحاب الشافعي.
وقال البصريون من المعتزلة الجبَّائي وابنه (5) : إنها على الإباحة.
وبه قال أصحاب أو حنيفة (6) فيما حكاه السرخسي.
وحكي عن جماعة من أصحاب الشافعي ابن سريج [وأبي حامد] (7) المروذي (8).
وهو قول أهل الظاهر (9).
__________
(1) تعقبه شيخ الإسلام في المسوَّدة الموضع السابق بقوله:
(قلتُ: لأن اللقطة لها مالك فنقلها إلى الملتقط يحتاج إلى دليل، وليس هذا من جنس الأعيان في شىء).
(2) انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري (2/868) إلا أنه عبر بقوله: (وذهب بعض شيوخنا).
(3) انظر المسودة ص (474).
(4) نقل ذلك عنه الشيرازي في التبصرة ص (532).
(5) انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري الموضع السابق.
(6) به قال أكثر الحنفية، كما في تيسير التحرير (2/168).
(7) الزيادة من المسودة ص (474) وشرح الكوكب المنير (1/325)، ونقله الشيرازي عنه في التبصرة ص (533)، يؤيد ذلك: أن ابن سريج بغدادي، وليس مروذياً.
(8) هو: أحمد بن بشر بن عامر العامري المروذي القاضي، الشافعي. الفقيه، الأصولي، كان عمدة الشافعية في عصره. له كتاب (الجامع) وشرح مختصر المزني توفي سنة (362هـ).
له ترجمة في: شذرات الذهب (3/40) وطبقات الشافعية لابن السبكى (3/12) وطبقات الشيرازي ص (94) ووفيات الأعيان (1/52).
(9) هكذا حكى المؤلف عن الظاهرية القول بالإباحة.

(4/1240)


وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية أبي طالب وقد سأله عن قطع النخل، قال: "لا بأس به، لم نسمع في قطع النخل شيئاً، قيل له: فالنَّبْق قال: ليس فيه حديث صحيح، وما يعجبنى قطعُه، قلت له: إذا لم يكن فيه حديث صحيح فلم لا يعجبك؟ قال: لأنه على [كل] (1) حال قد جاء فيه كراهة (2)، والنخل لم يجيء فيه شىء".
فقد استدام أحمد -رحمه الله- الإباحة في قطع النخل؛ لأنه لم يرد شرع يحظره (3).
وهو ظاهر كلام أبي الحسن التيمي (4)؛ لأنه نصر جواز الانتفاع قبل وجود الإذن من الله تعالى.
__________
= وبالرجوع إلى كتاب الإحكام لابن حزم وجد غير هذا، قال (1/47): (.... وقال آخرون: وهم جميع أهل الظاهر وطوائف من أهل أصحاب القياس: ليس لها حكم في العقل أصلاً لا بحظر ولا بإباحة، وأن كل ذلك موقوف على ما ترد به الشريعة).
(1) الزيادة من المسودة ص (478).
(2) قد مضى الكلام على هذه الرواية، وعلى حديث النهي عن قطع السدر.
(3) تعقبه شيخ الإسلام ابن تيمية في المسودة ص (479) بقوله: (قلت: لاشك أنه أفتى [يعني الإمام أحمد] بعدم البأس، لكن يجوز أن يكون للعموميات الشرعية، ويجوز أن يكون سكوت الشارع عفواً، ويجوز أن يكون استصحاباً لعدم التحريم، ويجوز أن يكون لأن الأصل إباحة عقلية، مع أن هذا من الأفعال لا من الأعيان).
(4) نقل ذلك عنه في التمهيد (4/269) والمسوَّدة ص (474) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/117) وشرح الطوفي على مختصر الروضة الجزء الأول الورقة (82/أ) وشرح الكوكب المنير (1/325) وقد اختاره المؤلف في مقدمة "المجرد" كما في المسودة واختاره أبو الخطاب كما في التمهيد.

(4/1241)


وقال أصحاب الأشعري (1) : هي على الوقف لا يقال: إنها مباحة ولا محظورة، إلا أن [186/أ] يرد الشرع بذلك.
وهو قول أبي الحسن الجزري (2) من أصحابنا، ذكره في جزء فيه مسائل، فقال: "الأشياء قبل مجيء الشرع موقوفة على دلائلها، فما ورد النص به عمل به، وما لم يرد به النص رد إلى ما فيه النص، ومن قال: إنها على الإباحة، فقد أخطأ" (3).
وبهذا قال جماعة من أصحاب الشافعي: الصيرفي وأبو علي الطبري (4).
والقائل بالوقف موافق لمن قال بالإباحة في التحقيق (5)؛ لأن من قال بالوقف يقول: لا يثاب على الامتناع منه، ولا يأثم بفعله.
وإنما هو خلاف في عبارة.
__________
(1) عزاه الشيرازي في التبصرة (532) إلى الأشعري.
(2) هو: عبد العزيز بن أحمد الجزري أو الخرزي، وقد سبقت ترجمته.
(3) نقل ذلك عنه، في: المسوَّدة ص (474) وروضة الناظر (1/118)، وشرح الطوفي الجزء الأول الورقة (82/ب).
(4) هكذا نقله عنهما أبو إسحاق الشيرازي في التبصرة ص (532) وقال: (هو قول كثير من أصحابنا)، يعني: الشافعية.
(5) وخالفه ابن عقيل حيث نقل عنه في المسوَّدة ص (474) : (بل القول بالوقف أقرب إلى الحظر منه إلى الإباحة)
ثم علَّق على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: (قلتُ: كلام أبي الحسن الخرزي يوافق قول ابن عقيل، لأنه يحتج على الفتوى بالاقدام عليها، كما يحتج الحاظر والمبيح، يعنى بالتناول).

(4/1242)


واعلم أنه لا يجوز إطلاق هذه العبارة؛ لأن من الأشياء مالا يجوز أن يقال: إنها على الحظر، كمعرفة الله تعالى، ومعرفة وحدانيته.
ومنها مالا يجوز أن يقال: إنها على الإباحة، كالكفر بالله، والجحد له، والقول بنفي التوحيد.
وإنما يتكلم في الأشياء التي يجوز في العقول حظرها وإباحتها، كتحريم الخنزير، وإباحة لحم الأنعام (1).
وتتصور هذه المسألة في شخص خلقه الله تعالى في بريَّة، لا يعرف شيئاً من الشرعيات، وهناك فواكه وأطعمة، فهل تكون تلك الأشياء في حقه على الحظر أم على الإباحة، حتى يرد الشرع بالدلالة؟
فالدلالة على الحظر (2) :
أن جميع المخلوقات ملك لله تعالى، لأنه خلقَها وأنشأها وبَرأَهَا، ولا يجوز الانتفاع بملك العبد إلا بإذنه، يدل على ذلك أن أملاك الآدميين لا يجوز لأحد منهم أن ينتفع بملك غيره بغير إذنه.
فإن قيل: قولكم: لا يجوز الانتفاع بملك الغير بغير إذنه، لا يخلو: إما أن يريدوا به أنه لا يجوز من طريق العقل [أ] والشرع.
فإن أردتم من طريق العقل لم يسلم لكم هذا؛ لأن العقل عندنا مما لا يحل ولا يحرم.
وإن أردتم به من طريق الشرع فصحيح، إلا أنه لم يرد شرع، ولهذا توقفنا حتى يرد الشرع بحظره أو إباحته.
__________
(1) هذا الكلام تحرير لمحل النزاع، ولو جعله المؤلف في أول المسألة لكان أحسن.
(2) اختار المؤلف هذا القول بالحظر، بينا نقل عنه الفتوحي في شرح الكوكب المنير (1/325): أنه قال في مقدمة كتابه المجرد: بالإباحة.
قلت: والمشهور عنه هو: القول بالحظر.

(4/1243)


ْوهذا دليل من قال بالوقف، والكلام يأتي عليه في أدلتهم.
فإن قيل: فالآدمي إنما حُرم ملكُه بغير إذنه لما يلحق فيه من الضرر، ألا ترى أن مالا ضرر عليه فيه، مثل المشي في ضوئه والوقوف في ظله، وما أشبه ذلك أغير محرماً، والله تعالى لا يستضر بالانتفاع بملكه. فلم يحرم تناوله.
وهذا دليل من قال بالإباحة والكلام يأتي عليه في أدلتهم، إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: من الأملاك ما يتصرف فيها الغير بغير إذن مالكها، وهو مال الصبي والمجنون وأهل الحرب.
وكذلك [186/ب] المضطر إلى مال الغير فإنه يأكل منه بغير إذن مالكه.
قيل: هناك إذن من جهة العقل والشرع.
ودليل آخر وهو: أن تناول ذلك واستباحته ترك للاحتياط وركوب الغرر؛ لأنه يمكن أن يكون على الإباحة فلا يأثم، ولا يحرج، ويمكن أن يكون على الحظر فيكون ملوماً في فعله مأثوماً في تناوله، فإذا أمكن هذا وهذا وجب بدليل العقل الامتناع منه لئلا يركب الحظر والغرر، كمن قيل له: هذا طريق مأمون، وهذا طريق مخوف، وجب بدليل العقل ترك المخوف، وإذا ركبه كان قبحاً في العقل، فكان الاحتياط الترك.
فإن قيل: لا نسلم أن تناولها ترك الاحتياط، بل الاحتياط في الانتفاع بها؛ لأن في ذلك تلف النفس، ونحن ممنوعون من ذلك.
وهذا دليل من قال بالإباحة. والكلام يأتي عليه إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: اعتقاد الحظر فيما هو مباح لا يجوز، كما لا يجوز اعتقاد الإباحة فيما هو محظور، فلا يكون لأحدهما في هذا الوجه على الآخر مزية، وحصل للانتفاع بها مزية من جهة أن فيه إحياء النفس.
قيل: قد أجبنا عن هذا السؤال في ترجيح الأخبار بما فيه كفاية (1).
__________
(1) ص (1041) من هذا الكتاب.

(4/1244)


وبيَّنا أن هذا يبطل بالمتولد من بين ما يباح أكله وما لا يباح أكلُه، وما يباح نكاحُه وما لا يباح، فإنه يُغلَّب الحظر فيه، ولا يقال: إن تحريم ما يباح بمثابة إباحة ما هو حرام.
فإن قيل: لا يصح حظر ما يتوهم وجوبه وحظره، وإنما يصح ذلك فيما عرف حكمه، وإن جاز الحظر لزم أن يقال: يجب على كل أحد أن يصلي طول دهره ويصوم طول أيامه قبل الشرع، لجوار أن يرد الشرع بوجوب ذلك.
قيل: ولا يجوز إباحة ما يتوهم إباحته، وإنما يصح ذلك فيما عرف حكمه [فكان] استعمال الحظر أولى، لما بيَّنا.
ويفارق هذا ما ذكروه من الصيام، والصلاة؛ لأنه لا يعقل معناها قبل ورود الشرع، واجتناب هذه الأشياء يعقل (1) معناه، وهو تركه.
وقد اعتمد من نصر هذا القول على طريقة أخرى، فقال: العقل لا ينفك من شرع؛ لأنه لو انفرد عن شرع لم يجز الإقدام على المنافع ولا الإحجام عنها، لجواز كون كل واحد منهما مفسدة.
وإذا كان انفكاك العقل من سمع يؤدي إلى هذا الفساد لم يجز أن ينفك من سمع، وإذا لم ينفك من سمع فالسمع قد حظر الانتفاع والتصرف في ملك الغير بغير إذنه، ومن قال بالإباحة أباح التصرف في ملك الغير بغير إذن.
وهذه الطريقة إذا صحت [187/أ] حصل الاحتجاج بالشرع دون العقل.
واحتج من قال بالإباحة:
بأن الله لما خلق هذه الأشياء لم تَخْلُ من ثلاثة أحوال:
إما أن يكون خلقَها لينتفع هو بها، أو لينتفع بها غيره، أو ليضر بها غيره.
__________
(1) في الأصل: (ويعقل).

(4/1245)


ولا يجوز أن يكون خلقها لينتفع هو؛ لأنه تعالى غني أن تلحقه المنافع والمضار.
ولا جائز أن يكون خلقها ليضر بها؛ لأن ذلك قبيح، إذ لم يكن في حال خلقه إياها من يستحق العقوبة، فلم يبق إلا أنه خلقها لينتفع عباده.
والجواب: أن هذا ينقلب عليهم فيما خلقه الله تعالى وحرمه على عباده، مثل الخمر والخنزير. ونُقسِّم ذلك عليهم مثل تقسيمهم حرفاً بحرف.
وعلى أنا نقول: يجوز أن يكون خلقها ليمتحن عباده بالكف عنها، ويثيبهم على ذلك، وليستدلوا بها على خالقها.
وهذا وجه يخرجه من حد العبث والضرر بهم، فسقط ما قالوه.
واحتج: بأنه لا يقبح في العقل (1) أن ينتفع بملك الغير على وجه لا يستضر الغير به، بدليل التنفس في الهواء والانتقال في الجهات، بدليل أن له أن يمشيَ في ظل (2) حائطه ويتكىء على حائطه، ويمشى معه في طريقه يأنس بكونه في صحبته، وينظر في مرآة المزين (3) إذا علقها على وجه لا يتنفس فيها، أو كان على حائطه قرآن مكتوب، كمن كتب على حائطه آية الكرسي كان لكل أحد أن يتلقَّن ذلك منه، كذلك في بقية الأشياء؛ لأن الله تعالى [منزه] عن أن يستضَّر بشىء.
والجواب: أنه إن لم يكن على المالك ضرر فعلى المتصرف ضرر؛ لأنه يجوز أن يُحظَر عليه، فيجب أن يؤثر ذلك في المنع، كارتكاب المعاصى، لا ضرر على الله تعالى بفعلها، ومع هذا فإنه يمنع العبد منها لما عليه فيها من الضرر في الآخرة.
__________
(1) في الأصل: (الفعل).
(2) في الأصل: (كل).
(3) هو الحجام، كما في لسان العرب (17/63) مادة (زين) ويطلقه العامة على الحلاق.

(4/1246)


وجواب آخر وهو: أنه لا يمتنع أن لا يكون عليه ضرر من ذلك ويمنع منه، لعدم الإذن، بدليل: أن من يملك القناطر من المال لا ضرر عليه بأخذ درهم منها، ومع هذا لا يجوز إلا بإذنه.
وأما التنفس في الهواء والانتقال في الجهات فينظر وقته، فإن كان لحاجة جاز؛ لأن الأول قد حصل فيه من جهة العقل، فنظيره أن يضطر إلى طعام الغير، فيباح له؛ لأن العقل لا يمتنع من هذا، كما لا يمنع الشرع من ذلك عند الحاجة، وإن لم يكن به حاجة منعناه.
وأما الاستيضاء بنار غيره، والظل بحائطه، والنظر في المرآة، فهذه الأشياء ليست بملك لأحد، فلهذا جاز التصرف فيها.
يبين صحة هذا: أنه يصح المنع منها بغير حاجة، وإنما يملك المنع فيها لحاجة وهو [187/ب] أن يكون محتاجاً إلى فناء حائطه.
وقد قيل بأن التنفس في الهواء لا يؤدي إلى استهلاك الهواء، فلا يؤثر فيه وكذلك النظر في مرآته والاستيضاء بناره.
وليس كذلك أكل الطعام وشرب الشراب، فإنهما يؤثران في الطعام والشراب، ويؤديان إلى استهلاكهما، وهما ملك للغير، فلا يجوز بغير إذنه.
واحتج: بأن الأشياء كلها ملك لله تعالى، الحيوان وغيره، والأحسن إحياء الملك بالملك. ويقبح إهلاك الملك مع القدرة لما فيه من الفساد.
والجواب: إنما يُبيح أن تتناول هذه الأشياء عند الحاجة وجود (1) التلف؛ لأن الإذن قد حصل فيه من جهة العقل، فنظيره أن يضطر إلى أكل طعام الغير، فإنه يباح لهذه العلة.
وعلى أن هذا يوجب أن تقول إذا أكره على القتل: أن يجوز، لينجيَ نفسه،
__________
(1) في الأصل: (وجوب).

(4/1247)


ولا يُقتل به؛ لأن في ذلك إحياء الملك بالملك، وقد قلتَ: إنه لا يَقْتل، وإن قَتل قُتِل، كذلك هاهنا.
واحتج من قال بالوقف:
بأنه قد ثبت من الأصلين أن العقل لا يبيح ولا يحظر، وأن المباح: ما أعلمَ صاحبُ الشرع أنه لا ثواب في فعله، ولا عقاب في تركه.
والمحظور: ما أعلم أن في فعله عقاباً، فإذا لم يرد الشرع بواحدٍ منهما، وجب أن لا يكون محظوراً ولا مباحاً، ويكون حكمه موقوفاً على ورود الشرع.
والجواب: أنا إنما علمنا أن العقل لا يبيح ولا يحظر بالشرع، وكلامنا في هذه المسألة قبل ورود الشرع، ولا يمتنع أن نقول قبل ورود الشرع: إن العقل يبيحُ ويحظُرُ إلى أن ورد الشرع بمنع ذلك، إذ ليس قبل ورود الشرع ما يمنع من ذلك.
وقد قيل: إنا علمنا ذلك من طريق شرعي، وهو: إلهام من الله تعالى لعباده بحظر ذلك أو إباحته (1).
كما ألهَمَ أبا بكر أن قال: الذي في بطن أم عبد جارية (2).
وكما ألْهَمَ عمر أشياء ورد الشرع بموافقتها.
واحتج: بأن كونه على الحظر أو على الإباحة إنما يعرف على قولكم قبل ورود الشرع بالعقل، وما علم حكمه بدليل العقل لا يجوز أن يرد الشرع
__________
(1) في الأصل: (وإباحته) بدون الهمزة قبل الواو.
(2) في الأصل: (حارثه) وهو خطأ.
وقصة إلهام أبي بكر - رضي الله عنه - أخرجها ابن سعد في طبقاته (3/195) بسنده إلى عائشة -رضي الله عنها- (أن أبا بكر -لما حضرته الوفاة- دعاها وطلب منها أن ترد نخلة نحلها إياها ثم قال لها بعد ذلك: (وإنما هو مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك، فقالت عائشة: إنما هي أسماء فقال: وذات بطن ابنة خارجة قد ألقى في روعي أنها جارية، فاستوصي بها خيراً فولدت أم كلثوم).

(4/1248)


بخلافه، مثل شكر المنعم، واستقباح الظلم، يجب في العقل شكر المنعم واستقباح الظلم، فلما ثبت أنه يجوز أن يرد الشرع بخلاف ما اقتضاه العقل بطل أن يكون ذلك بالعقل حاظراً أو مبيحاً.
والجواب: أنه كذلك فيما يعرف ببدائه العقول وضرورات المعقول، كالتوحيد، وشكر المنعم، وقبح الظلم، فأما ما يعرف بثواني العقول استنباطاً واستدلالاً فلا يمنع أن [188/أ] يرد الشرع بخلافه؛ لأنا قلنا [هي] على الحظر، وجوزنا أن يكون على الإباحة أو على الوقف، ولكن كان هذا عندنا أظهر، فصرنا إليه، فإذا ورد الشرع كان أولى مما (1) عرفناه استدلالاً مع تجويز غيره.
يبين صحة هذا: أن ذبح الحيوان يحظره العقل، وقد ورد الشرع بإباحته.
والزنا يبيحه العقل كالنكاح، والشرع قد حظره.
وعلى أن ورود الشرع بالإباحة إذن في التصرف، وحصول الإذن في الثاني لا يمنع حظراً متقدماً، بدليل طعام الغير هو محرم عليه، وإذا أذن فيه أبيح، ولم يمنع ذلك من حظر قبله، كذلك ها هنا.
واحتج بأن كونه حراماً لا يخلو إما أن يكون لعينه، أو لمعنى.
فبطل أن يكون لعينه؛ لأنه لو كان ذلك لعينه لما انقلب عنه إلى غيره.
وبطل أن يكون لمعنى؛ لأن الشرع يرد بإباحته، فلا يجوز أن يحظره. مع بقاء معنى الإباحة.
فإذا بطل الأمران ثبت أنه لا يصح أن يقال: مباح.
والجواب: أنه محظور لمعنى لا لعينه، ولا يمتنع ورود الشرع بخلافه، فيزول ذلك المعنى، كما قلنا في فروع الدين واجتهاد الأنبياء، يجتهدون في الحكم، ثم (2)
__________
(1) في الأصل: (ما).
(2) في الأصل: (لم)، وهو تحريف.

(4/1249)


يرد النص عن الله تعالى بخلافه. ويقولون في الحادثة قولاً، ثم ينسخ ذلك من بعد.
فإذا صح مثل هذا في العبادات صح مثله في مسألتنا.
وقد قال بعض من تكلم في هذه المسألة: إن الكلام فيها تكلف؛ لأن الأشياء قد عرف حكمها واستقرارها بالشرع.
وقال آخرون: الوقت ما خلا من شرع قط؛ لأن الله تعالى لا يخلي الوقت من شرع يعمل عليه؛ لأنه أول ما خلق آدم قال له: (اسْكُنْ أنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا (1) رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) (2) فأمرهما ونهاهما عَقِيب ما خلقهما.
وكذلك كل زمان، وإذا كان كذلك بطل أن يقال: ما حكمها قبل ورود الشرع؟ والشرع ما أخل بحكمها قط.
فعلى هذا لا يتصور الخلاف إلا في تقدير أن الأشياء لو لم يرد بها شرع ما حكمها؟
فالحكم عندنا على الحظر.
وعند قوم على الإباحة.
وعند آخرين على الوقف.
وهذه الطريقة ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- لأنه قال في رواية عبد الله فيما أخرجه في محبسه: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم" (3).
__________
(1) في الأصل: (من) وكلمة (رغداً) ساقطة، وهو خطأ.
(2) (35) سورة البقرة.
(3) انظر هذه الرواية في: التمهيد (4/272) والمسوَّدة ص (486) وشرح الكوكب (1/324).

(4/1250)


فأخبر أن كل زمان فيه قوم من أهل العلم.
وهذه طريقة أبي الحسن الجزري ذكرها أمام قوله: إن الأشياء على الوقف، فقال:
"لم تخل الأم قط من حجة تلزمهم أمر أو نهي".
واستدل عليه بقوله تعالى: (أَيَحَسَبُ الإِنسَانُ أن يُتْرَكَ سُدىً) (1) والسُّدى: الذي لا يُؤمَرُ ولا يُنْهى (2).
وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أمةٍ رَّسُولاً) (3).
وقال تعالى: (وَإن مِّنْ أُمَّةٍ [188/ب] إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ) (4).
وأن الله تعالى لما خلق آدم أمره ونهاه في الجنة، فقال: لا تقرب هذه الشجرة.
وقال قوم: هذه المسألة لا تفيد في الفقه شيئاً، وإنما ذلك كلام يقتضيه العقل.
وليس كذلك؛ لأن لها فائدة في الفقه، وهو أن من حرَّم شيئاً أو أباحَه فقول: طلبتُ دليل الشرع فلم أجد، فبقيت على حكم العقل من تحريم أو إباحة هل يصح ذلك أم لا؟
وهل يلزم خصمه احتجاجه بذلك أم لا؟
وهذا مما يحتاج إليه الفقيه وإلى معرفته والوقوف على حقيقته.
وحُكي أن بعض أصحاب داود احتج على إباحة استعمال أواني الذهب
__________
(1) آية (36) من سورة القيامة.
(2) وبهذا الذي ذكره المؤلف فسره مجاهد والشافعي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال: السُّدِّي: (يعنى: لا يبعث).
واختار ابن كثير: (أن الآية تعم الحالين، أي: ليس يترك في هذه الدنيا مهملاً لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث).
انظر: تفسير ابن كثير (4/452).
(3) آية (36) من سورة النحل. وفي الأصل (نذيراً) بدل (رسولاً)، وهو خطأ.
(4) آية (24) من سورة فاطر.

(4/1251)


والفضة في غير الشراب (1) : بأن الأصل فيها الإباحة، وقد ورد الشرع بتحريم الشرب، فوجب أن يبقى ما عداه على التحليل.
فقيل له: مذهب داود: أن هذه الأشياء في العقل موقوفة على ما يَرِد به الشرع(2).
فإذا كان كذلك لم يجز إثبات إباحتها بهذا الطريق.
ولا تكون إباحتها لعدم دليل شرعي أولى من حظرها.
ونظرتُ في هذه المسألة لبعض شيوخ الكرَّامية، وذكر فيها كلاماً لخصته على ما أذكره، واختار أن الأشياء على الإباحة قبل ورود الشرع وبعد وروده.
واستدل (3) على أنها على الإباحة قبل الشرع بأشياء:
منها: أن العبد محتاج إلى هذه المنافع، وله فيها نفع من غير ضرر يلحقه عاجلاً ولا آجلاً، فوجب أن يكون ذلك مباحاً له.
__________
(1) غير الشراب، يعني: بقية الاستعمالات بما فيها الأكل، وهو رأي داود، كما، نقل ذلك الشوكاني في كتابه نيل الأوطار (1/83).
والذي صرَّح به ابن حزم في كتابه المحلى في باب الآنية (2/303) أن الوضوء والغسل، والشرب، والأكل في آنية الذهب والفضة حرام.
(2) هذا رأي الظاهرية، كما نقلناه عن ابن حزم في الإحكام في أول المسألة.
ولكنه يتناقض مع ما عزاه المؤلف للظاهرية، فإنه حكى عنهم في أول المسألة: أنهم يقولون بالإباحة.
وفي اعتقادي: أن الظاهرية يقولون: إن الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع لا حكم لها أصلاً، لا إباحة ولا حظراً.
ولكن بعد ورود الشرع يكون حكم العين المنتفع بها التي لم يتعرض لها دليل خاص الإباحة. والله أعلم.
(3) يحتمل أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً، ويحتمل أن يكون مرتبطاً بما قبله، ويكون فاعل (استدل) هو: (بعض شيوخ الكرَّامية).

(4/1252)


دليله: ما بعد الشرع.
فإن قيل: من أين لك أنه لا ضرر عليه، ولعله يَرِد الشرع بحظر ما كان قد استباحه.
قيل: ما لم يرد الشرع بالحظر فلا ضرر عليه فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذَّبينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (1).
دليل ثان: أَن الله تعالى قد أحْوَجَ العاقل إلى الانتفاع بما قد أظهره من المنافع وأحضرها إياه، ولم يمنع عنها مانع، فكانت مباحةً مأذوناً فيها.
ألا ترى: أن من أحضر قوماً، مائدة عليها ألوان الطعام محتاجين إليها، ولم يضع هناك مانعاً من ذلك، فإن ذلك يجري مجرى الإذن في الإباحة، كذلك هاهنا.
فإن قيل: فهذا المعنى موجود في الخمر والخنزير.
قيل: قد كان قبل ورود الشرع على الإباحة، وبعد الشرع حرام؛ لورود الشرع بمنعه.
دليل ثالث: أن الله تعالى خلق هذه الأشياء على وجه يمكننا الانتفاع بها، وهو سبحانه يتعالى عن الانتفاع بها، فوجب أن يكون الغرض أن ينتفع بها (2) العبد.
فإن قيل: ما أنكرت على من قال: إنه أحضر هذه الأشياء للاعتبار [189/أ] بها، لا للانتفاع بها.
قيل: بل أحضرها للانتفاع بها، كما قلنا فيمن أحضر طعامه لجماعة بهم حاجة إليه، فإنه إذن وإباحة. كذلك ها هنا.
وجواب آخر وهو: أنَّا نقول: خلقها للأمرين جميعاً، للانتفاع، والاعتبار بها.
__________
(1) آية (15) من سورة الإسراء.
(2) في الأصل (به).

(4/1253)


وجواب ثالث وهو: أنه لو كان الغرض هذا لوجب أن يقتصر على خلق الجواهر والأعراض التي تتضمنها الأكوان والاجتماع والافتراق، دون الطعام؛ لأن الاستدلال يتم بهذه الأشياء.
جواب آخر وهو: أنه إن كان الغرض منها الاستدلال، فإنه لا يمكن الاستدلال بما في هذه الجواهر من الطعوم والمجسَّمات (1) الخشنة واللينة إلا بإدراكها، وإذا أدركها فقد انتفع بها (2).
جواب آخر وهو: أنه إذا كان الغرض منها الاستدلال فلا يتم ذلك إلا بقوام أبنيتهم، ولا تقوم أبنيتُهم إلا بهذه المنافع كانت مقصودة بخلق المنافع، ولو امتنعوا عن ذلك [لأدى] إلى هلاكهم، فيكون ذلك خارجاً عما أجرى الله عليه (3) العالَم (4) من الغرض، وهذا لا يجوز كما لا يجوز أن يحظر عليهم التنفس في الهواء والتقلب من جانب إلى جانب.
والدلالة على أنها على الإباحة بعد الشرع:
قوله تعالى: (خَلَقَ لَكُم مَّا فِي اْلأرْضِ جَمِيعاً) (5).
وقوله: (قُل مَنْ حَرمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (6).
وقوله: (قُلْ لاَّ أجدُ فِي مَاَ أوحِىَ إلَيَّ مُحَرماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أنَ يَكُونَ مَيْتَةً أَو دَماً مَسْفُوحاً) (7) فثبت أن ما يحرُم بالوحى يحرُم.
__________
(1) في الأصل: (المجسات).
(2) في الأصل: (به).
(3) في الأصل: (به).
(4) في الأصل (إلى العالم) (وإلى) هذه لا معنى لها.
(5) آية (29) من سورة البقرة.
(6) آية (32) سورة الأعراف.
(7) آية (145) من سورة الأنعام.

(4/1254)


احتج من قال: إنها على الحظر قبل الشرع:
بأنها ملك للغير، ولا يجوز التصرف في ملكه بغير إذنه.
والجواب: أنَّا نقول له: من أين تعلم أن التصرف في ملك الغير قبيح.
وعلى أن نفس هذا القائل ملك لمالك هذه الأشياء، فله أن ينتفع بالمائع لبقاء النفس.
كما أن من كان عنده طعام من جهة مالك، وعنده غلمان المالك، وفي منع الطعام عنهم هلاكهم، لم يكن له أن يمنع.
واحتج: بأنه لا يأمن هذا القائل أن يكون فيما يقدم عليه سُمُّ يهلكه.
والجواب: أنه قد استقر أيضاً أنه إن لم يقدم عليه يهلك.
وعلى أَنَّا قد نجد البهائم تقدم على ذلك ولا تهلك.
واحتج: بأنه يجوز أن تكون مخلوقة لمن يأتي بعدهم، كما أن الحور العين والملائكة لا ينتفعون بها في الجنة؛ لأن الله خلقها لبني آدم.
والجواب: أنه لو كان كذلك لدل عليه، فلما لم يدل عليه لم يصح هذا.
واحتج: بأنه لو كان العقل يبيحه لكان الشرع وارداً بخلاف العقل.
والجواب: [189/ب] أن هذا عائد عليكم في التوقف.
وهذا الخلاف مع من يجوز أن يخليَ الله عباده عن دلالات السمع.
واحتج من قال: بأنها على الحظر بعد الشرع:
بقوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأذَن بِهِ اللهُ) (1) فأنكر على من أثبت حكماً، أو استحل شيئاً بغير إذن الله تعالى.
والجواب: أن هذا عائد عليكم، إذ (2) قلتم بالتحريم.
على أنا حملناه على الإباحة بدليل ما ذكرنا.
__________
(1) آية (21) من سورة الشورى.
(2) في الأصل (إذا).

(4/1255)


فصل
والدلالة على فساد قول من قال بالوقف من وجوه:
أحدها: أنَّا لا نقول له: هل تعلم التوقف مباح أم لا؟
فإن قال: بلى، فقد استباح شيئاً بعقله دون الشرع.
وإن قال: لا أعلم استباحته، ثم قَدِم عليه.
قيل له: فهلاَّ كان هذا حالك مع سائر المنافع؟
ونقول له: هل تعلم وجوب التوقف عليك أم لا؟
فإن قال: لا أعلم، وجب أن لا يلزمك الإقدام عليه، أعنى: الاقدام على التوقف.
وإن قال: بلى.
قيل له: إذا جاز أن تعلم الوجوب بعقلك، فلم لا يجوز أن تعلم الحظر والإباحة؟
ونقول له: إذا جاز أن تعلم جواز ترك الإباحة والحظر بالعقل، فهلاَّ يجوز أن تعلم جواز الإقدام على المنافع أو جواز حظرها؟ وما الفرق بينهما؟
فإن قيل: الفرق بينهما: أنه لعله في الإقدام عليه مفسدة.
قيل: فيجب أن تقول بحظره؛ لأنه لا مفسدة فيه.
وعلى أنه يجوز أن يكون في التوقف (1) مفسدة أيضاً.
ويقال له: ليس تخلو الأشياء من إباحة أو حظر، فلا معنى للتوقف (1)، إذ ليس تخلو من أحد هذين القسمين.
فإن قيل: هو وإن كان هذا حالها، فلا أدري أيهما حكم الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: (التوقيف).

(4/1256)


قيل: ولا ندرى أن حكم الله تعالى الوقف.
واحتج بقوله تعالى: (فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (1)، فأنكر على من أحل شيئاً أو حرمه بغير إذنه.
والجواب: أنه إنما أنكر على من استبدَّ من ذات نفسه تحليل شىءٍ أو تحريمه وأما من أسنده إلى دليل، فلم يلحقه هذا الذم.
ثم هذا يلزمكم في القول بالوقف؛ لأنه لم يَرِد أمره به.
واحتج: بأن القول بالإباحة والحظر طريقُه العقل، والعقل لا مجال له في إباحة ولا حظر.
والجواب: أن هذا يلزم عليه القول بالوقف؛ لأن العقل لا يوجب ذلك وقد أثبتَّه.
وعلى أنا علمنا أن العقل لا مجال له في إباحة ولا حظر بالشرع.
فصل
وذكر أبو الحسن [190/أ] التيمي في جزء وقع إلىَّ بخطه فيما خرَّجه من أصول الفقه.
فقال: الأفعال قبل مجيء السمع تنقسم قسمين:
فمنها حسَن.
ومنها قبيح.
فما كان في العقل منها قبيحاً، فهو محظور، ولا يجوز الإقدام [عليه] كالكذب والظلم، وكفر نعمة المنعم، وما جرى مجرى ذلك؛ لأنه يكتسب بفعله الذم واللَّوم.
__________
(1) آية (59) من سورة يونس.

(4/1257)


وأما الحسَن في العقل فينقسم إلى قسمين:
منه ما يجب فعله.
ومنه ما لا يجب فعله.
أما الذي يجب فعله، فهو مثل: شكر نعمة المنعم، والعدل، والإنصاف، وما جرى مجرى ذلك مما في معناه من الحسن، فإنه واجب لا يجوز الانصراف عنه.
ومن الحسَن ما لا يجب فعله، وإن كان حسَناً، مثل: التفضُّل، وبرِّ الوالدين، وقِرَى الضيف، وإطعام الطعام (1).
فصل
[لا يحظر السمع ما أوجبه العقل ولا يبيح ما حظره]
قال (2) : ولا يجوز أن يرد السمع بحظْر ما كان في العقل واجباً، نحو شكر المنعم، والعدل، والإنصاف، ونحوه.
وكذلك لا يجوز أن يَرِد بإباحة ما كان في العقل محظوراً نحو الكذب، والظلم، وكفر نعمة المنعم، ونحوه، وإنما يَرِد بإباحة ما كان في العقل محظوراً على شرط المنفعة، نحو: إيلام بعض الحيوان -يعني بالذبح- لما فيه من المنفعة كما جاز لنا إدخال الآلام علينا بالفَصْد والحِجَامة، وشرب الأدوية الكريهة للمنفعة، وإن لم يجز ذلك لغير منفعة، وما أعطيناه من أموالنا بغير استحقاق للفقراء وغيرهم ممن يُطلبُ بدفعه إليهم الثوابُ من الله تعالى، أو الحمدُ من الناس والثناءُ الجميل؛ فإن هذا وما أشبهه من مجرى الآلام التي يطلب بها المنافع من الفَصْد، والحجامة، وشرب الأدوية.
__________
(1) كلام أبي الحسن التيمي هذا منقول بنصه في المسوَّدة ص (480) نقلاً عن المؤلف.
(2) يعنى: أبا الحسن التيمي.

(4/1258)


وقد يَرِد الشرع بحظر ما لم يكن له في العقل منزلة في القبح، نحو الأكل والشرب، والتصرف الذي لا ضرر على فاعله في فعله في ظاهر أمره، فالواجب أن تجريَ أحكامُ الأفعال على منازلها في العقل.
فإما أن يكون قبيحاً في العقل، فيمتنع منه.
أو يكون واجباً في العقل، فيلزم أمرُهُ، ويجب فعلُه.
أو أن يكون حسناً ليس بواجب، فيكون الإنسان مخيراً بين أن يفعله وبين أن لا يفعله، من [نحو] (1) اكتساب المنافع بالتجارات وما في معناها.
فإذا ورد السمع فيما الإنسان فيه مخير كشَفَ السمعُ عن حالِه، وبيَّن أمرَه، فإما أن يدخله في جملة الحسَن الذي يجب فعلُه، أو في جملة القبيح الذي لا يجوز فعلُه (2).
وهذا من كلام أبي الحسن يقتضي أن العقل يُوجب ويُقَبِّح.
وقد ذكرنا في الجزء الأول من المعتمد (3) خلاف هذَا، وحكينا [في] هذه المسألة خلاف المعتزلة.
وبينَّا قول أحمد -رحمه الله- في رواية عبدوس بن مالك: "ليس [في] السُّنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، إنما هو [190/ب] الاتباع".
__________
(1) الزيادة من المسودة ص (481).
(2) كلام أبي الحسن منقول بنصه في المسودة ص (480-481).
(3) كتاب "المعتمد" مفقود، وإنما يوجد مختصر له، كتب عليه المعتمد، ولكن كلام المولف في داخل الكتاب ينص على أنه مختصر من كتاب "المعتمد"، والمختصر مطبوع في بيروت بنشر دار المشرق بتصحيح الدكتور وديع حداد.
والكلام الذي يشير إليه موجود باختصار ص (21).

(4/1259)


وقد استوفينا الكلام هناك ولكن نشير إليه فنقول:
قال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (1).
ولأنه لو كان في العقل حسَن وقبيح وواجب ومحظور لم يخلُ ذلك من أن يكون معلوماً ببدائِه العقول وأوَّل فيها؛ لأنه لو كان كذلك لوجب اشتراك العقلاء أجمع في ذلك، ولمَا جاز أن يخالف في ذلك قوم من العقلاء الذين (2) بهم يثبت التواتر علم أنه ليس بمعلوم ضرورة.
يبين صحة هذا: أن استحالة وجود الجسم الواحد في مكانين متباعدين في حالة واحدة كما كان معلوماً بضرورة العقل وأوَّل فيه، لم يجز مخالفة قوم يثبت بهم التواتر.
وكذلك جميع ما يعلم بضرورة العقل وأوَّل فيه وفي العلم بخلاف أكثر العلماء في ذلك الذين ببعضهم يثبت التواتر دليل على أنه ليس بمعلوم ضرورة.
فصل
[الحظر للأفعال دون الأعيان]
وقال أبو الحسن: والحظر والإباحة، والحلال والحرام، والحسَن والقبيح، والطاعة والمعصية، وما يجب وما لا يجب، كل ذلك راجع إلى أفعال الفاعلين دون المفعول به، فالأعيان والأجسام لا تكون محظورة ولا مباحة، ولا تكون
__________
(1) آية (15) من سورة الإسراء.
ووجه الاستدلال من هذه الآية -كما ذكره المؤلف في كتابه مختصر المعتمد ص (22)-: (فأخبر أنهم آمنون من العذاب قبل بعثة الرسل.... فإنه لم يوجب عليهم شيئاً من جهة العقل، بل أوجب عند مجيء الرسل).
(2) في الأصل: (الذي).

(4/1260)


طاعة ولا معصية.
وهذا كما قال أبو الحسن؛ لأن الأعيان فعْل الله تعالى وخلْق له، فلا يجوز أن ينصرف الوعيد إلى أفعاله، وإنما ينصرف ذلك إلى أفعالنا.
قال أبو الحسن: وقد يطلق ذلك في المفعول توسعاً واستعارة، فيقال العصير حلال مباح ما لم يفسد، فإذا فسد وصار خمراً كان حراماً ومحظوراً.
والمذكَّى (1) حلال ومباح، والميتة محظورة وهى حرام، والحرير حرام، وما في معنى ذلك.
يريدون أن شرب العصير حلال ومباح ما لم يشتد، فإذا اشتدَّ وصار خمراً كان شربُه حراماً محظوراً، وأكل المذكَّى حلال ومباح، وأكل الميتة محظور وحرام، فيطلقون ذلك والمراد به: أفعالهم (3).
__________
(1) في الأصل: (والمذكاة) والتصويب من المسوَّدة الموضع السابق.
(2) كلام أبو الحسن هذا موجود في المسوَّدة ص (481) بتصرف يسير.
ثم إن الشيخ ابن تيمية في المرجع السابق ص (482) عقَّب على كلام أبي الحسن هذا بقوله: (والصحيح أنه حقيقة في الأعيان أيضاً).
كما تعقَّبه ص (93) من المرجع السابق بعد أن ذكر قوله: إن وصف الأعيان بالحِل والحظر توسع واستعارة. فقال: (والصحيح في هذا الباب خلاف القولين، إن الأعيان توصف بالحِل والحظر حقيقة لغوية، كما توصف بالطهارة والنجاسة والطيب والخبث، ولا حاجة إلى تكلف لا يقبله عقل ولا لغة ولا شرع، وحينئذٍ فيكون العموم في لفظ التحريم).

(4/1261)


مسألة
في استصحاب الحال (1)
وهو على ضربين (2) :
أحدهما: استصحاب براءة الذمة من الوجوب حتى يدل دليل شرعي عليه.
وهذا صحيح بالإجماع من أهل العلم، والاحتجاج به سائغ.
وقد ذكره أصحاب أبى حنيفة.
__________
(1) الاستصحاب في اللغة كما في كشف الأسرار - (3/1097) : (طلب الصحبة).
وأصل مادة (صَحِب) تدل -كما يقول ابن فارس في معجمه (3/335)-: (على مقارنة شىء ومقاربته، من ذلك الصاحب).
وفي المصباح المنير (1/509): (وكل شىء لازم شيئاً فقد استصحبه... ومن هنا قيل: استصحبت الحال إذا تمسكت بما كان ثابتاً، كأنك جعلت تلك الحال مصاحبة غير مفارقة).
أما في اصطلاح الأصوليين فله عدة تعاريف متقاربة المعنى، منها: تعريف البخاري كما في كتابه كشف الأسرار الموضع السابق: (هو الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على أنه كان ثابتاً في الزمان الأول).
راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/251) والمسوَّدة ص (488)، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (1/389) وشرح الطوفي على مختصر الروضة الجزء الثاني الورقة (72/أ)، وشرح الكوكب المنير (4/403).
(2) ذكر المؤلف هنا وفي الجزء الأول ص (72) أن الاستصحاب على ضربين.
ولكن هناك أقساماً أخرى ذكرها بعض علماء الأصول في هذا المقام، ومنهم الزركشي، فقد نقل عنه الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول ص (38) أن الاستصحاب له صور خمس، اثنتان ذكرهما المؤلف.
أما الثالثة فهى: ما دلّ العقل والشرع على ثبوته ودوامه، كدوام حل الزوجة بعد ثبوت عقد الزوجية.
وأما الرابعة فهى: استصحاب الحكم العقلى عند المعتزلة، فالعقل عندهم يحكم في =

(4/1262)


وسماه أبو يوسف: عدم الدليل دليل (1).
وذكره القاضي أبو الطيب الطبري (2).
ومثال ذلك أن يُسأل حنبلي عن الوتر (3) فيقول: ليس بواجب، فيطالب بدليله، فيقول: لأن طريق وجوبه الشرع، وقد طلبت الدليل الموجب من جهة الشرع [191/أ] فلم أجد، فوجب أن لا يكون واجباً، وأن تكون ذمتُه بريئةً منه كما كانت.
وكذلك إذا احتج بذلك على نفي وجوب الأضحية، ونفي وجوب زكاة الخيل والحلي والخضروات، وما أشبه ذلك.
وإلى هذا المعنى أومأ أحمد -رحمه الله- في رواية صالح ويوسف إن موسى: "لا يُخمّس السَّلَب، ما سمعنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس السَّلَب".
فجعل عدم الدليل الشرعي مبقياً (4) على الأصل في منع التخميس ونفي
__________
= بعض الأشياء إلى أن يَرِد السمع.
وأما الخامسة فهي: استصحاب الدليل مع احتمال المعارض، إما تخصيصاً إن كان الدليل عاماً، أو نسخاً إن كان، الدليل نصاً.
(1) انظر تفصيل رأي الحنفية في: أصول السرخسي (2/223) وتيسير التحرير (4/176) ومسلَّم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت (2/359).
(2) هو: طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر، أبو الطيب الطبري. الشافعي، القاضي كان أصولياً فقيهاً. له مؤلفات كثيرة، منها شرح المزني. ولد بآمل طبرستان سنة (348هـ)، ومات سنة (450هـ).
له ترجمة في: تاريخ بغداد (9/358) وشذرات الذهب (3/284) وطبقات الشافعية للسبكي (5/12) وطبقات الفقهاء للشيرازي ص (106) ووفيات الأعيان (2/195).
(3) مضى التعليق على هذه المسألة (1/73).
(4) قي الأصل: (منفياً).

(4/1263)


الاستحقاق.
وكذلك نقل الأثرم وابن بَدِينا في الحُلي يوجد لُقَطَة: "إنما جاء الحديث في الدراهم والدنانير".
فمنع من تملّك الحُلي، واستدام الأصل، وهو عدم الملك في اللقطة؛ لأنه لم يرد دليل، وإنما ورد في الدراهم والدنانير.
وحكى أبو سفيان عن بعض الفقهاء أنه يأبى هذه الطريقة في الاستدلال.
والدلالة على صحتها: أن الحكم الشرعي إنما يلزم المكلف إذا تعبده الله تعالى به، ولا يجوز أن يتعبده الله تعالى به من غير أن يدلَّه عليه، وإذا كان كذلك وجب أن يكون عدم الدلالة على أنه لم يتعبد به.
يُبيِّن صحة هذا: أنه لما لم يجز أن يبعث الله تعالى رسولاً دون أن يظهر عليه الأعلام المعجزة، كان عدم ظهور ذلك على مدعي النبوة دلالة على انتفاء ثبوته.
فإن قيل: ما ينكر أن يكون الدليل موجوداً وأنت مخطىء في الطلب، وتارك للدليل الموجب.
قيل: لا يجب علينا أكثر من الطلب، وإذا لم نجد لزمنا تبقية الذمم على البراءة كما كانت.
وهذا كما يستدل بعموم، فيقول الخصم (1) ما يُنْكَر أن يكون ذلك خاصاً، وقد خفي عليك دليل التخصيص.
فيقول: طلبنا الدليل المخصص فلم نجد، فلزمنا حمله على عمومه، ومن ادعى دليل التخصيص يجب عليه إبرازه، كذلك ها هنا، ما لم نجد دليل الايجاب يجب أن تبقى الذمم على البراءة على حكم دليل العقل المقتضي لبراءة الذمم حتى يرد الشرع.
__________
(1) في الأصل: (الحطم).

(4/1264)


الضرب الثاني: في استصحاب حكم الإجماع.
وهو: أن تجمع الأمة على حكيم، ثم تتغير صفة المجمَع عليه، ويختلف المجمِعون فيه، فهل يجب استصحاب حكم الإجماع بعد الاختلاف حتى ينقل عنه الدليل أم لا؟.
فذهب الجماعة من أصحاب أبي حنيفة (1) وأصحاب الشافعي (2) إلى أن ذلك لا يجوز، ويجب طلب الدليل في موضع الخلاف.
وهو الصحيح عندي.
وذهب داود (3) وأصحابه والصيرفي (4) من أصحاب الشافعي إلى أنه يجب استصحابه كما يجب استصحاب براءة الذمم.
وهو اختيار أبي إسحاق (5) [191/ب] من أصحابنا (6)، ذكره في الجزء الأول من شرح الخِرَقي فقال "أجمعوا على طهارة الماء إذا لم يشرب منه مالا يؤكل لحمه، واختلفوا إذا شرب، فالإجماع حجة، والاختلاف رأي، والحجة أولى".
فقد استصحب أبو إسحاق حكم الإجماع.
ومثاله أن نقول: المتيمم إذا رأى الماء في صلاته لا تبطل؛ لأنا أجمعنا على
__________
(1) انظر: تيسير التحرير (4/76) ومسلَّم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت (2/359).
(2) انظر التبصرة للشيرازي ص (526).
(3) نسبه إليه الشيرازي في المرجع السابق.
وانظر تفصيل القول فيه: الإحكام لابن حزم (5/590).
(4) نسبه إليه الشيرازي في المرجع السابق.
(5) هو إبراهيم بن أحمد بن عمر بن شاقلا، وقد سبقت ترجمته.
(6) نسبه إليه أبو الخطاب في كتابه التمهيد (4/256) وابن قدامة المقدسي في الروضة (1/392).

(4/1265)


صحتها، فمن ادعى بطلانها فعليه الدليل.
وأن ملْك المسلم ثابت بالإِجماع، وإذا ارتد اختلفوا في زواله، فمن ادعى زواله فعليه الدليل.
وإذا اصطاد الحلال، ثم أحرم لم يَزُل ملكُه؛ لأنا قد أجمعنا على ثبوت ملكه قبل إحرامه، فمن ادعى زوالَه فعليه الدليل.
وإذا وقعت النجاسة في الماء ولم تغيره أجمعنا على طهارته قبل وقوعها، فمدعي النجاسة يحتاج إلى دليل.
وفي بيع أمهات الأولاد أجمعنا على جواز بيعها قبل الاستيلاد، فمدعي المنع بعد ذلك عليه الدليل.
وما يجري هذا المجرى من المسائل.
ودليلنا على ذلك:
أن الإِجماع دلالة على الحكم كسائر الأدلة، فوجب اعتباره في الموضع الذي تناوله، والإجماع لم يتناول صحتها بعد (1) وجود الماء، وقد زال في الموضع المختلف فيه، فلم يجز التمسك به في مواضع الخلاف، وصار كالنص متى تناول موضعاً لم يجز حمله على غيره.
وقد قال بعضهم (2) : إن داود أنكر القياس ثم صار إليه من غير علته، فكأنه أنكر القياس الصحيح، وقال بالقياس الفاسد؛ لأنه قياس بغير علة.
فإن قيل: نحن لا نستدل بالقياس، وإنما نستدل بالإِجماع في موضع الخلاف.
قيل: الاستدلال بالإِجماع لا يصح بعد زواله، وإنما يصح الاحتجاج به مع بقائه؛ لأن الدليل إذا زال، زال الحكم المتعلق به.
وقد قرر هذا الدليل من وجه آخر، وهو: أنه إذا شرك بين الحالين في
__________
(1) في الأصل: (قبل) والعبارة لا تستقيم إلا بما أثبتناه، مستأنسين بما جاء في شرح اللمع (2/989) حِيث عبر بقوله: (وكذلك إذا أجمعنا على انعقاد إحرامه وصحة صلاته قبل رؤية الماء، فأما بعد وجود الماء فهو موضع الخلاف).
(2) هو قول أبي الطيب الطبري، كما في شرح اللُّمع (2/988).

(4/1266)


وجوب الوضوء، لاشتراكهما فيما دل على وجوب الوضوء، فليس باستصحاب الحال، وإنما هو احتجاج بدليل دل على وجوب الوضوء وإن اشترك بينهما في الحكم لاشتراكهما في علته، فهو قياس، وليس باستصحاب الحال.
واحتج المخالف:
بأن قول المجمِعين حجة، كما أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة، فلما وجب استصحاب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن ينقل عنه الدليل، وجب استصحاب قول المجمعين إلا أن يَنْقُل عنه الدليل.
والجواب: أن هذا دليل لنا؛ لأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان خاصاً لم يجز أن يحتج به في غيره إلا بالقياس عليه، كذلك قول المجمِعين خاص؛ لأنهم إنما أجمعوا على صحة صلاة في [192/أ] حال عدم الماء، ولم يجمعوا على صحتها في حال وجوده، فكان قول النبي دليلاً على المخالف.
واحتج: بأن استصحاب حكم العقل في براءة الذمم واجب حتى يقوم الدليل على الوجوب، كذلك ها هنا.
والجواب: أن دلالة العقل في براءة الذمم قائمة في حال الخلاف، وليس كذلك الإِجماع فإنه زائد، فلم يجز الاحتجاج به.
واحتج: بأنه قد ثبت أن من تيقن الطهارة وشكَّ في الحدث، أو تيقن الحدث وشكَّ في الطهارة، أو تيقن النكاح وشكَّ في الطلاق، أو تيقن الملك وشكُّ في العتاق، أو شكَّ في فعل الصلاة: "أن اليقين لا يزول بالشك" ويكون حكُم اليقين السابق مستداماً في حال الشك، كذلك ها هنا.
والجواب: أن الفرق بينهما ظاهر، وذلك أن الإِجماع الذي هو دليل الحكم قد تيقن زواله، فوجب أن يزول حكمُه، والطهارة لا يتيقن زوالها، وإنما هو مشكوك فيه، فلم يجز أن يزول اليقين بالشك، وكذلك النكاح والملك، والصلاة، فَوِزَان مسألتنا أن يُتَيقَّن الطهارة ثم يُتَيقَّن الحدث، فلا يجوز استدامة

(4/1267)


حكم الطهارة.
وعلى أنه يعارضه: أن المدعى عليه يحتاج إلى اليمين، ولا يكفى في إسقاط دعوى المدعى بغير [بينة] براءةُ ذمة المدعى عليه، فبطل الاحتجاج به.
واعلم أن هذه الطريقة لا تسلم من أن يقدر على قائلها.
فإذا قال: قد صح دخوله في الصلاة بالتيمم بالاتفاق، فلا يزولُ عنه بغير دليل، فيقال له: قد تيقنا ثبوتَ الفرض (1) عليه، فلا يسقط عنه إلا بدليل.
وكذلك إذا قال: قد اتفقنا على طهارة الماء اليسير قبل وقوع النجاسة فيه، فمن ادعى نجاسته فعليه الدليل، فيقال له: قد اتفقنا على وجوب فرض الصلاة، فمن اسقط عنه فعلها بهذه الطهارة، فعليه الدليل.
وكذلك إذا قال في بيع أمهات الأولاد: أجمعنا على بيعها قبل الإيلاد، فمن منع فعليه الدليل.
فيقال: أجمعنا على تحريم بيعها ما دامت حاملاً، فمن أجاز بيعها بعد وضع الحمل فعليه الدليل.
فصل
[القول بأقل ما قيل]
فأما القول بأقل ما قيل فيه (2).
فيجوز الاحتجاج به، ويرجع معناه إلى استصحاب حكم العقل في براءة الذمة.
__________
(1) في الأصل: (القرض) بالقاف.
(2) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/267) والمسوَّدة ص (490) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/388).

(4/1268)


ومثاله: دية اليهودي والنصراني، فإنها ثلث الدية عند الشافعي (1). وإحدى الروايتين لأحمد - رحمه الله.
والأخرى نصف الدية (2)، وهو قول مالك (3).
وقال أبو حنيفة: مثل دية المسلم (4).
فكان الثلث أقل ما قيل فيه، فيجب ذلك بالإِجماع، وما زاد على ذلك فلا يجب؛ لأن الأصل براءة الذمة منه، ووجوبه يحتاج [192/ ب]، إلى دليل شرعي ولم نجد دليلاً يدل عليه، فوجب تبقية الدية على البراءة.
ومثله: أن مسح الرأس يجب مقدار ما يقع عليه اسم المسح عند الشافعي (5).
__________
(1) هذا مذهب الشافعية، كما في المهذَّب لأبى إسحاق الشيرازى الشافعي مع شرحه المجموع (17/414).
(2) ظاهر المذهب أنها نصف دية المسلم.
أما الرواية الثانية: أنها ثلث دية المسلم، فإن الإمام أحمد قد رجع عنها، كما نقله صالح عنه.
انظر: المغني (7/793) طبعة المنار الثالثة.
(3) انظر: الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإِمام مالك لأحمد الدردير المالكى (4/376)، فإن ما ذكره المؤلف هو مذهب المالكية.
(4) انظر: بدائع الصنائع للكاساني الحنفي (10/4664)، فإن ما ذكره المؤلف هو مذهب الحنفية.
(5) قال أبو إسحاق الشيرازي في المهذًب مع شرحه المجموع (1/399): (والواجب منه أن يمسح ما يقع عليه اسم المسح وإن قلَّ.
وقال أبو العباس بن القاص: أقله ثلاث شعرات، كما نقول في الحلق والإِحرام.
والمذهب: أنه لا يتقدر؛ لأن الله تعالى أمر بالمسح، وذلك يقع على القليل والكثير). قال النووي -بعد ذلك-: (والمشهور في مذهبنا الذي تظاهرت عليه نصوص الشافعي وقطع به جمهور الأصحاب في الطرق: أن مسح الرأس لا يتقدر وجوبه بشىء، بل يكفي فيه ما يمكن).

(4/1269)


وعند أبي حنيفة: الربع (1).
وعندنا -في إحدى الروايتين (2)- وعند مالك: الجميع (3).
فيقال: ما زاد على الاسم يحتاج إلى دليل.
ومثل ذلك في قدر الصاع وغيره.
والطريق في الجميع ما بينته (4).
فصل
[النافى للحكم هل عليه دليل؟]
النافي للحكم عليه الدليل (5).
ذكره أبو الحسن التميمي في مسألة أفردها.
__________
(1) هذا قول أبي حنيفة وزُفَر.
وهناك أقوال أخرى لبعض الحنفية..
انظر: بدائع الصنائع (1/88).
(2) القول بوجوب مسح جميع الرأس رواية عن الإِمام أحمد، كما ذكر المؤلف.
قال ابن قدامة في المغني (1/125): (وهو ظاهر كلام الخِرَقي).
وهناك رواية أخرى: أنه يجزىء مسح بعض الرأس. نقلها ابن قدامة في المرجع السابق.
(3) هذا مذهب المالكية.
انظر: الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/108).
(4) هذه الكلمة مترددة بين ما أثبتناه، وبين: (سنبينه) والأقرب ما أثبتناه؛ لأنه قد بين بأنه لا يؤخذ بأقل ما قيل في هذه المسائل وغيرها.
(5) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (242/ب) والتمهيد (4/632) والمسوَّدة ص (494) وروضة الناظر مع شرحها (1/395) وشرح الكوكب المنير (4/525).
وكون النافي للحكم يلزمه الدليل قال به الحنفية وأكثر الشافعية وأكثر الحنابلة. ونسبه =

(4/1270)


ومن الناس من قال: لا دليل عليه في العقليات والشرعيات (1).
ومنهم من قال: إن كان الحكم عقلياً فعلى النافي دليل، وإن كان شرعياً فليس عليه دليل (2).
دليلنا:
أن النافي للحكم معتقد لكون ما نفاه متيقناً، كما أن المثبت للحكم معتقد لكون ما أثبته ثابتاً. واتفقوا على أن من أثبت حكماً كان عليه الدليل. كذلك من نفاه.
ولأن من نفى قِدَم الأجسام كان عليه الدليل، كما يكون عليه ذلك لو أثبت قدمها، وهذا متفق عليه، كذلك في غيره.
ولأن من نفاه لا يخلو إما أن يكون نفاه بعلم مكتسب، أو علم ضروري، إذ نفيه بغير علم جهل، وإذا كان كذلك، وكانت العلوم الضرورية والمكتسبة لا تخلو من دليل عليها؛ لأنها إذا خلت من ذلك لم تكن علوماً، وجب أن لا يسقط الدليل عن نفى الحكم العقلي أو الشرعي.
__________
= الباجي إلى الفقهاء والمتكلمين. واختاره.
انظر: أصول السرخسي (2/117) والتبصرة ص (530) وشرح اللُّمع (2/995) والمراجع السابقة، وإحكام الفصول ص (700) والمنهاج في ترتيب الحجَاج ص (32).
(1) نسبه الباجي في كتابيه السابقين إلى داود الظاهري..
كما نسبه الشيرازي في كتابيه السابقين إلى بعض الشافعية.
(2) لم يعين المؤلف النسبة هنا إلى أحد، ومثلُه أبو الخطاب في التمهيد، والمجْد في المسودة، والفتوحي في شرح الكوكب، وابن قدامة في الروضة إلا أنه عكس القول فقال: (وقال قوم في الشرعيات كقولنا، وفي العقليات لا دليل عليه...). وقد ذكره الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول ص (245) موافقاً لما ذكره المؤلف ثم قال: (حكاه القاضي في التقريب وابن فورك).

(4/1271)


واحتج المخالف:
بأن من ادعى النبوة وجب عليه إقامة الدليل، ومن أنكرها ونفاها من الناس لم يجب عليه الدليل؛ لأن المدعي للنبوة مثبت (1) والمنكِر ناف.
وهكذا ورد الشرع، فإنه جعل على المدعي البينة دون المدعي عليه؛ لأن المدعي مثبت، والمدعي عليه ناف.
والجواب: أن النافي للنبوة ينظر فيه:
فإن كان نافياً لعلمه بأن يقول: أنا لا أعلمُ صدقَه ولا كذِبَه، ويجوز أن يكون صادقاً، ويجوز أن يكون كاذباً، فهذا لا دليل عليه، لأنه شاك غير مدعٍ نفياً ولا إثباتاً.
وإن كان يقطع بنفيه وتكذيبه في دعواه، وجب عليه إقامة الدليل.
وطريق الدليل فيه: أن يقول: لا يبعث الله رسولاً إلا بمعجزة تدل على نبوته وحجة تكشف عن صدقه، فإذا لم تكن معجزة تدل على ما يدعيه دل على كذبه وبطلان دعواه.
وأما المدعى عليه فإنه يقطع بالنفي وعليه الدليل، ولهذا يلزمه اليمين بالله تعالى، إلا أن المدعى عليه معه ظاهر يدل على صدقه من براءة الذمة إن كان المدعى عليه دَيْناً، ومن ثبوت يده وتصرفه إن كان المدعى عليه عيْناً، فجعل [193/أ]، في جنبة المدعي أقوى السببين؛ لأنه لا ظاهر معه يدل على صدقه. ن (2).
__________
(1) في الأصل: (يثبت).
(2) هكذا ذكر المؤلف في المسألة ثلاثة آراء، واستدلَّ للراجح عنده بدليلين، ولم يورد عليهما اعتراضات المخالف، ثم احتج للرأي الثانى بدليل واحد واعترض عليه. أما الرأي الثالث فلم يستدلّ له. وكان من المناسب أن يستدل ولو بدليل واحد ليعلم منه منطلق أصحاب هذا القول.
إذا علمت هذا ففى المسألة أقوال كثيرة، أوصلها الشوكاني في كتابه: إرشاد الفحول ص (245) إلى تسعة آراء، إلا أنه لم يستدل لأكثرها.

(4/1272)