العدة في أصول الفقه

باب الكلام في القياس
مسألة
[حجية القياس العقلي]
القياس العقلي (1) حجة، يجب القول به، والعمل عليه (2).
ويجب النظر والاستدلال به بعد ورود الشرع.
ولا يجوز التقليد (3).
وقد احتج أحمد -رحمه الله- بدلائل العقول في مواضع، فيما خرَّجه
__________
(1) سبق للمؤلف في هذا الكتاب: (1/174) أن عرَّف القياس الشرعي.
أما القياس العقلي فهو -كما يقول ابن عقيل في كتابه الواضح (2/641)-: (هو الذي يجب بشهادة المشتبهين فيه بالحكم من جهة العقل).
وذكر في كشف الأسرار (3/990) أن بعضهم حدَّه بقوله: (رد غائب إلى شاهد ليستدل به عليه).
وقد بيَّن المؤلف في كتابه المعتمد ص (41) أنه: (قد يستدل بالشاهد على الغائب من وجوه أربعة، أحدها: من جهة العلة، والثاني: الحد، والثالث المصحح، والرابع: الدليل).
(2) راجع في هذه المسألة: التمهيد (3/360) والواضح (2/641) والمسوَّدة ص (365).
(3) هذا ما يراه المؤلف، وقد فصل ذلك في كتابه المعتمد (21) ومن ضمن ما قاله: (وأول ما أوجب الله على خلقه العقلاء: النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة الله سبحانه..).
وهذه المسألة فيها بحث طويل ومتشعب.
استوفاه شيخ الاسلام ابن تيمية في كتابه: درء تعارض العقل والنقل الجزء السابع والثامن.
وقد نقل كلام المؤلف وتعقَّبه (7/442) و(8/349، 355). =

(4/1273)


في الرد على الزنادقة والجهمية (1)، رواية عبد الله عنه، فقال: "إذا قلنا لم يزل الله تعالى بصفاته كلها، إنما نَصِف إلهاً واحداً بجميع صفاته. وضربنا لهم في ذلك مثلاً فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جِذْع وكَرَب (2) ولِيف وسَعَف (3) وخُوص (4) وجُمَّار(5) ؟! سُميت نخلة بجميع (6) صفاتها، كذلك الله تعالى، وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد (7).
وقلنا للجهمية (8) : زعمتم أن الله تعالى في كل مكان، وهو نور، فلم لايضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه؟! إذ زعمتم أن الله تعالى في كل مكان، وما بال السراج إذا دخل البيت يضيء؟!".
وقال (9) "لو أن رجلاً كان في يده قَدَح من قوارير صافٍ، وفيه شىء
__________
= ثم قال (8/8) : (والقران العزيز ليس فيه آن النظر أول الواجبات، ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد، وإنما فيه الأمر بالنظر لبعض الناس، وهذا موافق لقول من يقول: إنه واجب على من لم يحصل له الإِيمان إلا به.
بل هو واجب على كل من لا يؤدي واجباً إلا به، وهذا أصح الأقوال).
وقد قال هذا بعد أن بين أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يَدع أحداً من الخلق إلى النظر ابتداء، ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان، وبذلك أمر أصحابه.
(1) هذا كتاب للإمام أحمد، مطبوع، والكلام يقع في ص (37).
(2) الكَرَب: أصول السعف التي تقطع منها: انظر: المصباح المنير مادة (كَرَبَ).
(3) السَّعف: أغصان النخل مادامت في الخوص، انظر: المرجع السابق مادة (سَعَف).
(4) الخُوص: ورق النخيل. المرجع السابق، مادة (خَوَصَ).
(5) الجُمَّار: قلب النخلة. المرجع السابق، مادة (جَمَرَ).
(6) في الأصل: (الجميع) والتصويب من المصدر الذي نقل منه المؤلف ص (37).
(7) في الأصل: (إلهاً واحداً).
(8) ص (44) من المصدر السابق.
(9) ص (39) من المصدر السابق.

(4/1274)


صافٍ، أن يصير (1) ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله له المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شىء من خلقه".
وهذا صريح من أحمد -رحمه الله- في الاحتجاج بدلائل العقول.
وإلى هذا ذهب جماعة الفقهاء والمتكلمين من أهل الإثبات (2).
وذهب المعتزلة إلى وجوب النظر والاستدلال بالعقل قبل ورود الشرع، وإذا ورد الشرع كذلك كان مؤكداً له (3).
وذهب قوم إلى أن حجج العقول باطلة، والنظر حرام، والواجب هو التقليد (4).
__________
(1) هكذا في الأصل، والعبارة في المصدر الذي نقله منه المؤلف ص (39) : (كان بَصَرُ ابن آدم....).
(2) وهو مذهب الجماهير، كما يقول الغزالي في المنخول ص (324) وهو مذهب الحنابلة، كما هو واضح من كلام الإِمام أحمد، الذي نقله المؤلف هنا.
وبهذا يتبين خطأ ما قاله الغزالي في المرجع السابق، وعبد العزيز البخاري في كشف الأسرار (3/990) من أن الحنابلهَ ردوا قياس العقل، دون الشرع.
(3) لأنهم يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين، فهم أولى الناس بهذا القول.
انظر: المعتمد (2/886-887)، وقد قسم الأشياء المعلومة بالدليل إلى ثلاثة أقسام: ما يعلم بالعقل فقط، وما يعلم بالشرع فقط، وما يعلم بهما.
انظر: زيادات المعتمد (2/994).
وقد أورد شيخ الإِسلام كلامه في درء تعاوض العقل والنقل (8/17) وردَّ عليه.
(4) ونسبه في المسوًّدة ص (365) إلى بعض أهل الحديث وأهل الظاهر، ونسبه عبد العزيز البخاري في كتابه كشف الأسرار (3/990) إلى الامامية وأيضاً الخوارج إلا النجدات منهم.
وشدد ابن حزم في كتابه الفِصَل (3/42-4) النكير على القائلين بوجوب النظر. =

(4/1275)


فالدلالة على وجوب ذلك بعد السمع:
هو أن إبطال ذلك إبطال للنبوات والشرائع، وذلك أنه لا طريق لنا إلى معرفة صدق النبي من كذب المتنبىء إلا النظر والاستدلال؛ لأن صورة الكذب كصورة الصدق، فمتى ظهرت علامات المعجزة على النبي علمنا بالنظر فيها أنها من قِبَل الله تعالى، لأن غيره لا يقدر على إظهاره، ومتى علمنا أنها من قبل الله تعالى علمنا بالنظر أيضاً أن من ظهرت عليه هذه الأعلام صادق غير كاذب؛ لأن الله تعالى لا يظهر الأعلام على الكذابين، ولولا النظر والاستدلال لم يكن لنا طريق إلى معرفة شىء من ذلك، فكان يؤدي إلى إبطال الشرائع، وإفساد النبوات وترك التخيير بين الصادق [193/ب] والكاذب، والنبي والمتنبىء.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون العلم بما ذكرتموه من قِبَل الله تعالى وقِبَل رسوله قد وقع ضرورة لا استدلالاً ونظراً.
قيل: لو كان الأمر على ما ذكرتَ لكان يشترك في ذلك العلم جميعُ العقلاء، لأن العلم الضروري لا يختص به بعض العقلاء دون بعض إذا أشتركوا في طرقه، وفي علمنا بوجود جماعات كثيرة لم يقع لهم العلم بالله تعالى وبنبوة رسوله، مثل الملاحدة وأضرابهم من الكفار، لأنه لو وقع لهم العلم به ضرورة لم يصح اجتماعهم على نفيه، كما لا يصح اجتماع الجماعات العظيمة على نفي وقوع العلم بالبلدان وبوجود المحسوسات من الأجسام، وفي بطلان ذلك دليل على فساد ذلك.
ولأنه لو جاز وقوع العلم بالله تعالى في حال التكليف ضرورة لكان العلم
__________
= وقد أورد شيخ الإِسلام ابن تيمية قوله في كتابه: درء تعارض العقل والنقل (7/432-440) وعلق عليه، فارجع إليه، فإنه مفيد.

(4/1276)


بنبوة الرسول -عليه السلام- أولى أن يقع ضرورة، ولو جاز ذلك لم يكن لإظهار الأعلام معنى، بل كان (1) يكون ذلك عبثاً.
ويدل عليه أيضاً:
أننا نجد كل عاقل إذا نابته نائبة من أمور دينه ودنياه، فإنه يفزع إلى عقله ليتحرز به من ضرر، أو ليتوصل به إلى نفع، ألا ترى أنه إذا رأي في الطريق أثر سبع امتنع من سلوكه. وإذا رأى أثراً لماء وبه عطش أسرع في طلبه، فلولا أن النظر والاستدلال طريق إلى العلوم العقلية لم يفزع العاقل إليها في جر المنافع ودفع المضار، كما لا يفزع في إدراك السماع إلى آلة الشم، وفي إدراك الشم إلى آلة البصر، وإذا كان كذلك ثبت أن النظر من طريق العقل واجب بعد السمع.
ويدل على بطلان التقليد:
أن الذى قلده المقلد لا يخلو من أن يكون ما قلده فيه قد علمه بالاستدلال والنظر، أو أخذه تقليداً من غيره، ولا جائز أن يكون قد علمه ضرورة كما دللنا عليه، فإن علمه استدلالاً ونظراً فقد بطل التقليد، وإن أخبره تقليداً كان الكلام ممن قلده إياه كالكلام فيه، فيؤدي إلى إثبات مالا نهاية له من المقلدين، وفي بطلان ذلك دليل على بطلان القول بالتقليد.
ويدل عليه أيضاً: أن الذي قلده المقلد لا يخلو من أن يكون ممن يجوز عليه الضلال، أو لا يجوز ذك عليه، وبطل أن يكون ممن لا يجوز عليه ذلك؛ لأن هذا لا يجوز أن يحكم به إلا لمن يشهد له به النبي، فإذا كان ممن يجوز عليه الضلال لم يأمن المقلد له أن يكون مبطلاً في تقليده إياه، وإذا لم يأمن ذلك لم يجز تقليده.
__________
(1) هكذا في الأصل: و(كان) هنا زائدة.

(4/1277)


فإن قيل: أليس قد جاز له تقليد النبي فيما يأمره به؟ ويجوز للعامي أن يقلد المفتي فيما يفتيه به.
ولأن أول من قاس إبليس (1)، فكان (194/أ) قياسه كفراً.
قيل: ما يأخذه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكون على وجه التقليد؛ لأن الله تعالى قد دلنا على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أنه لا يأمرنا إلا بالحق، والتقليد المحظور هو ما يأخذه المقلد من غيره من غير أن يدل عليه عنده دلالة على صحته، أو يعلم في الجملة أن فرضه تقليد المفتي فيما يفتيه به، فلهذا افترق الأمران.
وقوله: [أول] من قاس إبليس،وكان كافراً، فإنه يقابل بمن قال:
أول من قاس الملائكة، وكان قياسُهم صواباً.
__________
(1) هذا أثر أخرجه ابن جرير في تفسيره عند الكلام على قوله تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ ألاَّ تسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ قَالَ أنَا خَيْرٌ منهُ خَلَقْتَنِى مِن نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين) آية (12) من سورة الأعراف (12/328) أخرجه بسنده عن ابن سيرين قال (أول من قاس إبليس، وما عُبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس).
وعن ابن سيرين أخرجه ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم وفضله (2/93) بمثل لفظ ابن جرير.
كما أخرجه عنه ابن حزم في كتابه الِإحكام (10/1073) ولفظه: (... عن أبي هند قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: القياس شؤم، وأول من قاس إبليس فهلك، وإنما عُبدت الشمس والقمر بالمقاييس).
وروي هذا الأثر عن الحسن، أخرجه عنه ابن جرير بسنده في الموضع السابق، ولفظه: (قاس إبليس، وهو أول من قاس).
وأخرجه عنه ابن عبد البر بسنده في كتابه: جامع بيان العلم في الموضع السابق، ولفظه: (أول من قاس إبليس، قال: "خَلَقْتَنِى مِن نًارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين").
ونسبه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (1/205) إلى جعفر بن محمد.

(4/1278)


على أنك قد صرت إلى القياس حيث حملت قياس غير إبليس على قياس إبليسِ في باب الفساد.
وعلى أن خطأ القائسين إذا كان مبطلاً للقياس في الأصل عندك، فهلاَّ كان خطأ بعض المقلدين دليلاً على بطلان التقليد؟!؛ لأن الله تعالى قد حكى تقليد الكفار إياهم بقوله تعالى: (قَالوا إنَّا وَجَدْنَا ءابَاءَنَا عَلَى أمَّةٍ وَإنَّا عَلَى ءاثارِهِم مُّهْتَدُونَ) (1).
فإن قيل: أليس قد منع أحمد - رضي الله عنه - من النظر والكلام.
فقال في رواية عبدوس بن مالك العطار: "لا يكون صاحب الكلام -وإن أصاب بكلامه السنة- من أهل السنة حتى يدع الجدال" (2).
قيل: إنما نهى عن الجدال الذي هو المراء، ألا ترى أن أبا بكر المروذي سأله عن الرجل يشتغل بالصوم والصلاة ويعتزل، ويسكت عن الكلام في أهل البدع، فقال: "إذا صام وصلى واعتزل إنما هو لنفسه، وإذا تكلم كان له ولغيره، يتكلم أفضل".
وروى حنبل أنه قال لأحمد -رحمه الله-: "إن يعقوب بن شًيْبهَ (3)
__________
(1) آية (22) من سورة الزخرف.
(2) هذه الرواية ذكرها ابن أبي يعلى في طبقاته في ترجمة عبدوس (1/242)، وفي آخرها: (حتى يدع الجدال، ويُسَلِّم، ويؤمن بالآثار).
(3) هو: يعقوب بن شَيْبة بن الصلت بن عصفور، أبو يوسف السدوسي البصري.
سمع علي بن عاصم ويزيد بن هارون وغيرِهما، ومنه حفيده محمد بن أحمد بن يعقوب ويوسف بن يعقوب وغيرهما. وثقه الخطيب. كان من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه بعض المسائل. توفي سنة (262)هـ.
له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (2/577) وطبقات الحفاظ ص (254) وطبقات الحنابلة (1/416) والعبر (2/25).

(4/1279)


وزكريا ابن عمار (1) أخبرا عنك الوقف، فقال: قد كنَّا نأمر بالسكوت، فلمَّا دعينا إلى أمر ما كان بدّ لنا من أن ندفع ونبيِّن".
وهذا صريح منه بالقول بالنظر.
مسألة
[جواز التعبد بالقياس عقلاً وشرعاً]
القياس الشرعي يجوز التعبد به، وإثبات الأحكام الشرعية من جهة العقل والشرع (2).
نص على (3) هذا -رحمه الله- في رواية بكر بن محمد عن أبيه فقال: "لا يستغني أحد عن القياس، وعلى الحاكم والإِمام يَرِد عليه الأمر أن يجمع له (4) الناس، ويقيس، ويشبِّه، كما كتب عمر إلى شُرَيْح: أن قس الأمور" (5).
__________
(1) لم أقف على ترجمته.
(2) راجع هذه المسألة في التمهيد (3/365) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (2/234) والمسوَّدة ص (367) وشرح الطوفي على مختصر الروضة الجزء الثانى الورقة (95/أ) وشرح الكوكب المنير (4/211).
(3) في المسوَّدة ص (367) : (نصّ عليه صريحاً في مواضيع عدة). وهذا إشارة من المجْد إلى أن هذه هي الرواية المعوَّل عليها في هذا الباب، والله أعلم.
وقد تابع أبو الخطاب شيخه في أن ذلك منصوص الإِمام -رحمه الله-.
انظر: التمهيد الموضع السابق.
(4) في الأصل: (لها).
(5) هذه الرواية ذكرها أيضاً أبو الخطاب في التمهيد (3/365).
وكتاب عمر - رضي الله عنه - إلى شُرَيْح سبق تخريجه.

(4/1280)


وقد استعمل هذا في كثير من مسائله (1).
فقال في رواية ابن القاسم: "لا يجوز الحديد والرصاص متفاضلاً (2)، قياساً على الذهب والفضة".
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية الميموني: "يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجْمَل، والقياس" (3).
وهذا محمول على استعمال القياس في معارضة السنة، فإنه لا يجوز (4).
__________
(1) هذا يدل على أن المؤلف -رحمه الله- يؤيد الرواية التي تقول: بأن الإمام أحمد يرى حجية القياس.
(2) نقل ابن قدامه في كتابه المغني (4/7) عن المؤلف أنه ذكر في هذا ومثله روايتين:
الأولى: أنه لا يجوز التفاضل بينهما، كما ذكر المؤلف هنا.
واختارها ابن عقيل؛ لأن أصلهما الوزن، والصناعة لا تخرجهما عنه.
والثانية: يجوز، وعليه أكثر أهل العلم؛ لأنهما ليسا بموزونين ولا مكيلين.
قال ابن قدامة: (وهذا هو الصحيح، إذ لا معنى لثبوت الحكم مع انتقاء العلة وعدم النص والإجماع فيه).
(3) هذا إيماء من الإمام أحمد إلى عدم اعتبار القياس، حيث نهى المتكلم في الفقه عن استعمال القياس والمجْمل في فقهه.
قال أبو الخطاب في كتابه التمهيد: (3/368) (وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية الميموني...) ثم ذكر الرواية.
وبمثل هذا قال الطوفي في شرح مختصر الروضة الجزء الثاني الورقة (95/أ).
(4) هذا تأويل القاضي لرواية الميموني، وقد أيده الطوفي في المرجع السابق حيث قال: (وهو تأويل صحيح).
ولكنَّ تلميذ المؤلف أبا الخطاب في كتابه التمهيد: (3/368) رد على شيخه هذا التأويل بقوله: (والظاهر خلافه)، ولم يزد على ذلك. =

(4/1281)


وقد كشف عن هذا في رواية أبي الحارث [194/ب] فقال: "ما تصنع بالرأي والقياس وفي الحديث ما يغنيك عنه".
وبهذا قال أكثر الفقهاء والمتكلمين (1).
وذهب قوم من المعتزلة البغداديين (2) : إلى أنه لا يجوز التعبد به من جهة
__________
= وفي رأيي: أن اعتراض أبي الخطاب غير وجيه؛ لأن هناك روايات عن الإِمام أحمد كثيرة أشار بإعمال القياس، أو أعمله بنفسه فتتعارض مع الرواية هنا. ومع هذا التعارض نحمل نهيه عن استعمال القياس على القياس المخالف للنصوص الشرعية، ونحمل إرشاده إلى القياس أو استعماله بنفسه على عدم وجود نص في الحادثة.
يدل على ذلك رواية أبي الحارث التي ذكرها المؤلف دليلاً على ما ذهب إليه.
وجمع ابن رجب بين الروايتين، فحمل الرواية التي تمنع من القياس على من لم يبحث عن الدليل، أو لم يُحصِّل شروطه.
انظر: شرح الكوكب ص (4/216).
وينبغي أن يشار هنا إلى أن الإِمام أحمد لا يستعمل القياس إلا عند الضرورة. يؤيد ذلك رواية الميموني التي نقلها المجد في المسوَّدة ص (367) ونصها: (سألت الشافعي عن القياس، فقال: عند الضرورة، فأعجبه. [يعني: الإِمام أحمد] ذلك).
والضرورة المقصودة هنا -والله أعلم-: أن الحادثة إذا وقعت، ولم يوجد نص بحكمها، فإنه من الضروري أن يعطى لها حكم بالقياس على أشباهها؛ لامتناع خلو الحادثة عن حكم الله تعالى.
أما إذا لم تقع الحادثة، وإنما هي من باب التخيل والتقدير، فلا يرى الإمام أحمد استعمال القياس؛ لأنه لاضرورة.
(1) انظر: أصول الجصاص ص (63) والتبصرة ص (419) والبرهان (2/750) والوصول إلى الأصول لابن برهان (2/243) وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص (531).
(2) انظر: المعتمد (2/724).

(4/1282)


العقل، ويجوز من جهة الشرع، مثل ابن يحيى الإسكافي (1). وجعفر بن مبشر (2)، وجعفر بن حرْب (3)، وإبراهيم النظَّام (4).
وذهب قوم إلى أنه لا يجوز التعبد به عقلاً ولا شرعاً، ذهب إليه داود (5)،
________________
(1) هكذا في الأصل: وهو كذلك في كتاب التمهيد لأبى الخطاب (3/366) ولم أعثر له على ترجمة.
وفي كتاب الإِحكام للآمدي (4/6) يحيى الاسكافي، ولم أعثر له على ترجمة أيضاً.
ولعل المقصود محمد بن عبد الله الاسكافي أبو جعفر المعتزلي المتوفى سنة (240 هـ) فهو المشهور لذلك.
انظر ترجمته في: طبقات المعتزلة ص (64، 285).
(2) هو جعفر بن مبشر بن أحمد بن محمد أبو محمد الثقفي، المعتزلي، البغدادي. صنف كتباً في الكلام، مات سنة (234 هـ).
له ترجمة في: تاريخ بغداد (71/162) وطبقات المعتزلة ص (283) ولسان الميزان (2/121).
(3) هو: جعفر بن حرب الهمداني المعتزلي البغدادي. درس الكلام بالبصرة على أبي الهذيل العلاف. له مؤلفات؛ منها: كتاب المصابيح، وكتاب الايضاح، وكتاب الأصول الخمسة. مات سنة (236 هـ) وله من العمر (59) سنة.
له ترجمة في: تاريخ بغداد (7/162) وطبقات المعتزلة ص (281) ولسان الميزان (2/113).
(4) هكذا نقل المؤلف عن النظام أنه لا يجوز التعبد بالقياس عقلاً، ويجوز شرعاً، لكن الذي نقله أبو الخطاب في التمهيد (3/367) وابن قدامة في الروضة (2/234) عن النظام: أنه يقول بعدم الجواز لا عقلاً ولا شرعاً.
وقد أشار في المسودة ص (368) إلى اختلاف النقل عن النظام.
وانظر في اضطراب النقل عنه: نبراس العقول ص (60).
(5) انظر: الإحكام لابن حزم (7/931 و8/1110) والمراجع التي ذكرناها في أول المسألة.

(4/1283)


والنهرياني (1)، والمغربي (2)، والقاشاني (3).
فالدلالة على جوازه عقلاً:
أن العقل لا يمنع أن يقول صاحب الشرع: إذا علمتم أو غلب على ظنكم أن الحكم تابع لمعنى ومتعلق به، فقيسوا عليه كلما وجدتم فيه ذلك المعنى، كما قال: إذا زالت الشمس وعلمتم ذلك، أو غلب على ظنكم فصلُّوا، وإذا علمتم طلوع الفجر، أو غلب على ظنكم ذلك فصوموا، وإذا شهد شاهدان، وعلمتم عدالتهما، أو غلب على [ظنكم] ذلك، فاحكموا بما شهدا به، وإذا رأيتم البيت الحرام، وعلمتم ذلك، أو غلب على ظنكم فصلوا إليه، وما أشبه ذلك كثير، كذلك القياس؛ لأنه جعل دخول الوقت شرطاً لفعل العبادة،
__________
(1) هكذا في الأصل: (النهرياني) بالمثناة التحتية بعدها ألف، وفي تقديري أنه خطأ، والصواب: النهرواني، وهو الموجود في مراجع الأنساب.
والنهرواني: نسبة إلى (نهروان) بُلَيْدة قديمة، تقع بالقرب من بغداد.
وهو: المعافى بن زكريا يحيى بن حميد بن حماد، أبو الفرج النهرواني الجَرِيري نسبة إلى ابن جرير الطبري؛ حيث كان على مذهبه. كان من أعلم الناس في زمانه. مات سنة (390 هـ) وله من العمر (85) سنة.
له ترجمة في: البداية والنهاية (11/328) وتاريخ بغداد (13/230) وتذكرة الحفاظ (3/1010) وشذرات الذهب (3/134) وطبقات الحفاظ ص (400) واللباب (3/373).
(2) هو: الحسين بن على بن الحسين أبو القاسم الوزير المغربي الشيعي. كان أديباً بليغاً، ذكياً، ذا دهاء وفطنة، له كتب كثيرة، منها: مختصر إصلاح المنطق. ولد سنة (370 هـ) ومات سنة (418 هـ).
له ترجمة في: المنتظم (8/32) وشذرات الذهب (3/10) وسير أعلام النبلاء (17/394).
(3) انظر في نسبة هذا إليهم: التمهيد (3/367) والتبصرة ص (419) والمنخول ص (90) والمسودة ص (368).

(4/1284)


كذلك جعل غلبة الظن شرطاً في تعلق الأحكام بها عند وجودها، ولا فرق بينهما.
فإن قيل: لا يحصل العلم ولا الظن بالنظر في هذه الأصول، وليس فيها طريق لذلك.
قيل: هذا غلط؛ لأن الفقهاء على كثرة عددهم واختلاف مذاهبهم من أصحاب أحمد -رحمه الله- وأبى حنيفة ومالك والشافعي وسائر [الفقهاء] يذكرون أنهم يظنون فيها، والعلم الضروري يحصل بخبر بعضهم، فإذا كان كذلك كان معلوماً من طريق الضرورة، وكان الجاحد لذلك مبطلاً، كما إذا أنكر الظن، وكما ينكر النفور، والسكون، والغم، والذوق.
فإن قيل: قد يظنون، ولكن ظنهم فاسد؛ لأنه واقع عن طريق يقتضي الظن، وهو بمنزلة من ظن أن البناء الصحيح الجديد يقع عليه، أو رأى ثوراً فظنه سبعاً، وفزع منه.
قيل: للظن طريق فيها، ولا نسلِّم ما قاله المخالف، فإن دل على دعواه بأن الظن لا يقع إلا عن عادة، فإن رأى الغيم كثيفاً منيعاً خشى مجيء المطر، وغلب على ظنه ذلك، لما سبق من العادة، فليس بيننا وبين الله تعالى في هذه الأحكام عادة، فلا يجوز أن يكون فيها طريق للظن.
قيل: طريق الظن هو وجود الشىء في الاكثر من نظائره، ولهذا يغلب على الظن وقوع الحائط إذا انشق [195/أ]، عرْضاً، ويغلب على الظن إذا عرَض غيم أسود مُسِف (1) أنه يكون منه مطر؛ لأن الغالب من مثله مجيء المطر، وإنما
__________
(1) توصف السحابة بذلك إذا دنت من الأرض. قال الشاعر يصف سحاباً قرب من الأرض:
دانٍ مُسِف فُوَيْقَ الأرْضِ هَيْدَبُه... يكادُ يدفعُه من قامَ بالرَّاح
انظر: اللسان (11/54) مادة (سفف) ومعجم مقاييس اللغة (3/57) مادة (سفّ).

(4/1285)


يتخلف في النادر، فيتبع ظنّ العاقل الغالب دون النادر، وإذا كان كذلك، كان هذا الظن في الأحكام الشرعية كثيراً؛ لأن النظائر والشواهد فيها تتكرر وتكثر، فيغلب على ظن المجتهد فيها أن موضع الخلاف بمنزلتها، وطريق العلم بالنظر في هذه الأصول، هو الثابت الذى يدل على تعلق الحكم بمعنى واتباعه له، مثل العصير الحلو يكون حلالاً، وإذا حدثت فيه الشدة المطربة حرُم، ويعلم أنه لم يحدث غيرها، فإذا زالت الشدة المطربة حل، ونعلم أنه لم يزل غيرها، فلو قدرنا عود الشدة المطربة وحدها لقدرنا عود التحريم، فيدل هذا على أن التحريم تابع للشدة، وأن النبيذ يجب أن يكون حراماً لوجود الشدة المطربة فيه.
ومثل هذا كثير.
فإن قيل: يجوز أن يكون هذا تابعاً للاسم يزول بزوالها، ويعود بعودها.
قيل: لا يتبع الاسم؛ لأنه لو طبخ العصير وحدثت الشدة المطربة فيه كان حراماً وإن كان لا يسمى خمراً؛ لأن الخمر عندهم هو العصير الذى قد اشتد وقذف زبده، وكذلك نقيع التمر والزبيب حرام؛ لوجود الشدة المطربة، ولا يسمى خمراً، فثبت بهذا أنه يتبع الشدة المطربة دون اسم الخمر.
وطريقة أخرى وهو: أن الحكيم لا يجوز في صفته أن يكلف حكْماً ويوجب عبادة إلاّ ويجعل إلى معرفة ذلك سبيلاً بوجه، بدليل أنه كلف استقبال الكعبة، وجعل إلى التوجه إليها سبيلاً؛ من كان قريباً بالمعاينة، ومن كان بعيداً بالاستدلال حسب الاجتهاد بالأدلة المنصوبة على القبلة من النجوم والجبال والرياح والشمس والقمر، فكان فرض التوجه إليها بالاجتهاد.
وهكذا نص على دية الحر بالمقدر، وعلى بعض الجراحات كالموضِحَة (1)
__________
(1) الموضحة: الشجة بالرأس تبدي وضح العظم.
انظر: المصباح مادة: (وضح) والمطْلِع على أبواب المقْنِع ص (367).

(4/1286)


والمأمومة (1) والجائفة (2)، وأطلق ما بقى، فكان المرجع فيها إلى الظن والاجتهاد.
وكذلك قِيَم المتلفات، والمهور في الأنكحة، والنفقات، والمتعة كل ذلك غير منصوص عليه، وإنما يعتبر بغيره.
فإذا صح أن ترد باقي هذه الأحكام إلى النظر والاجتهاد، كان غيرها (3) من الأحكام بمنزلتها (4).
واحتج المخالف:
بأن الشرعيات إنما يحسن تكليفها لما فيها من المصالح، ولم يكن لنا طريق إلى معرفة المصالح، وكان القياس من فعلنا لم يجز أن يكون القياس طريقاً إلى معرفة الأحكام الشرعية.
والجواب: أن ليس من شرط التكليف أن يكون [195/ب] مصلحة للمكلف.
وهذا أصل لنا خلاف المعتزلة.
ولو سلَّمنا هذا لم يصح؛ لأن ما يتوصل به إلى معرفة الأحكام الشرعية هو من قِبَل من يعلم المصالح والعواقب وهو الله تعالى؛ لأنه قد نصب لنا أدلة على صحة رد الفروع إلى الأصول، فلا يكون إثبات الحكم الشرعى إثباتاً له بفعله، ألا ترى أن الحكم المنصوص عليه يكون ثابتاً من فعل الله تعالى وإن
__________
(1) المأمومة: الشجة التي تصل إلى أم الدماغ.
انظر: المصباح مادة (أمَ).
(2) الجائفة: الطعنة التي تبلغ الجوف.
انظر: المصباح مادة (جوف) والمُطْلع ص (367).
(3) في الأصل: (غيرهما).
(4) في الأصل: (بمنزلتهما).

(4/1287)


كان لا بدَّ لنا من تفكر فيه، وذلك فعلنا.
واحتج: بأنه يلزمكم أن تخبروا على هذه الأخبار عما يحدث في مستقبل الأيام، وعن الأجنة التي في الأرحام بغير نص، ولما لم يجز ذلك، كذلك ها هنا.
والجواب: أنَّا إنما جوزنا إثبات الحكم الشرعي؛ لأن الله تعالى قد نصب لنا أدلة على جواز القياس، ولم ينصب لنا أدلة على ما يحدث في المستقبل، فلهذا لم يجز الإخبارُ به.
ونظيره: أن ينصب لنا أدلة على الخبر بما يحدث في المستقبل، فيجوز حينئذ لنا الإخبارُ به.
واحتج: بأن النظر والاستدلال يختصان العقل، ودلالة العقل توجب الحكم للأشياء المختلفة بالأحكام المختلفة دون المتفقة، وتوجب الحكم للأشياء المتفقة بالأحكام المتفقة دون المختلفة، فإذا كان كذلك، وكان الشرع قد ورد بالحكم في الأشياء المتفقة بالأحكام المختلفة وفي الأشياء المختلفة بالأحكام المتفقة، بدلالة أنه أوجب على الحائض قضاء الصوم دون الصلاة، وإن كان الحيض منافياً لهما، وفرق بين المني والمذي في الحكم وإن كانا شقيقين، علمنا أن النظر والاستدلال لا مدخل لهما في إثبات الأحكام الشرعية.
والجواب: أن العقل يمنع من الجمع بين الشيئين المختلفين من حيث اختلفا في الصفات النفسية كالسواد والببياض، وأن يفرِّق بين المِثْلَيْن فيما تقابلا فيه من صفات النفس كالسوادين والبياضين وما يجرى مجرى ذلك، فأما ما عدا ذلك فإنه لا يمتنع أن يجمع بين المختلفين في الحكم الواحد، ألا ترى أن السواد والبياض قد اجتمعا في منافاة الحمرة وما يجرى مجراها من الألوان، وأن القعود في الموضع الواحد قد يكون حسَناً إذا كان فيه نفع لا ضرر فيه، وقد يكون قبيحاً إذا كان فيه ضرر من غير نفع يوفر عليه، وإن كان القعود في ذلك الموضع متفقاً، وقد يكون القعود في مكانين مجتمعين في الحسْن بأن يكون

(4/1288)


في كل واحد منهما نفع لا ضرر فيه، وإن كانا مختلفين.
على أن هذا يؤكد[196/أ] صحة القياس، وذلك لأن المِثلَين في العقليات إنما وجب تساوي حكمهما؛ لأن كل واحد منهما قد ساوى الآخر فيما لأجله وجب له الحكم، إما لذاته كالسوادين، أو لعلة أوجبت ذلك كالأسودين، وهكذا القول في المختلفين.
وعلى هذه الطريقة بعينها يجرى القياس؛ لأنا إنما نحكم للفرع (1) بحكم الأصل إذا شاركه علة الحكم؛ لأن الله تعالى إنما نص على حكم واحد في الشيئين إذا اشتركا فيما له وجب الحكم فيهما، فقد بان بذلك صحة ما ذكرناه.
واحتج: بأن الفرع الشرعي قد يكون مشبهاً لأصل يقتضي التحريم، ولأصل يقتضي التحليل، فلا يكون أحدهما بالرد إليه أولى من الآخر، ولا يصح الحكم فيه بحكم الأصلين لتضادهما، فيمتنع القياس، فلا يصح الرد إلى شىء من هذه الأصول؛ لأن أحداً لم يفصل بين الفرع المشبه لأصلين هذه حالهما وبين الفرع المشبه للأصل الواحد.
والجواب: أن الفرع لا يرد إلى أحد الأصلين لكونهما شبهاً له، وإنما يرد لكونه أشبه منه بالآخر.
وعلى مذهب من يجيز أن يعتدل الأمر عند المستدل في شبه الفرع بالأصلين لا يلزمه ذلك؛ لأنه إذا اعتدل شبهه بهما كان المستدل مخيراً في رده إلى أيهما شاء كالمكفر هو مخير في أن يختار أى الكفارات شاء.
واحتج: بأنه لو جاز حمل الفرع على المنصوص عليه لوجود الشبه بينهما لوجب أن يجوز ذلك في سائر الأوقات، كما أن الفعل لما كان دلالة على كون الفاعل قادراً كان دلالة على ذلك في جميع الأوقات، وإذا كان كذلك وكان هذا الشبه بين المنصوص وبين ما لم ينص عليه موجوداً قبل النص ولم يجز القياس عليه علمنا أنه لا يصح رده إليه بحال.
________________
(1) في الأصل: (الفروع).

(4/1289)


والجواب: أن القياس إنما يصح إذا حصل هناك أصل منصوص عليه، كما أن الاستدلال على القدرة إنما يصح إذا وجد الفعل، فلما لم يصح أن يستدل على القدرة قبل وجود الفعل، كذا لا يصح القياس قبل وجود الأصل المنصوص عليه.
واحتج: بأنه لو كان القياس صحيحاً لم يخل المنصوص عليه إذا نسخ وقد قيس عليه فروع أن يبقى الحكم في فروعه، أو ينسخ الحكم فيها بنسخ حكم الأصل.
فإن قلتم: إن الحكم في فروعه يصير منسوخاً كان ذلك مبطلاً لمذهبكم في أن نسخ ما تناوله النص لا يوجب نسخ جميعه.
وإن قلتم: إن الحكم في فروعه يكون باقياً كان فيه كبقية الحكم في الفروع مع نسخ حكم الأصل [196/ب]، وهذا باطل.
والجواب: أنه لا يمتنع عندنا أن يبقى الحكم في الفروع مع نسخ حكم الأصل، كما أن نسخ الحكم في الأصل لا يوجب ارتفاع ما حكم في الحوادث بموجب النص قبل ورود النسخ.
واحتج: بأنه لو جاز إثبات حكم بالقياس لجاز إثبات الأصول به، وهذا باطل. والجواب: أنه إن أريد به إثبات الأصول بعد ثبوت أصل واحد، فهذا غير ممتنع عندنا، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نص على بعض الأشياء المنصوص على تحريم التفاضل فيها، وأمرنا بقياس غيره عليه كنا نقيس أغياره من الأشياء الستة ومن غيرها، فإن أراد به إثبات الأصول ابتداء من غير أن يكون هناك أصل ثابت فإن ذلك لا يتأتى؛ لأن القياس لا بدَّ له من أصل يُردُّ إليه، [و] إذا لم يكن هناك أصل لم يصح معنى القياس.
واحتج: بأنه لو كان القياس صحيحاً لوجب أن تكون علته موجبة للحكم

(4/1290)


قبل ورود الشرع كالعلة العقلية.
والجواب: أن علة القياس هي أمارة للحكم، وإنما تصير أمارة إذا ورد الشرع بذلك، وتجرى العلة الشرعية في هذا الباب مجرى الأسماء على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فلهذا لم تكن أمارة للحكم قبل ورود الشرع.
فصل
والدلالة على جواز التعبد به من جهة الشرع:
قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى اْلأبصَارِ) (1).
وحقيقة الاعتبار في اللغة (2) : حمل الشىء على غيره واعتبار حكمه به، إما في حكمه، أو قدره، أو صفته.
ومنه يقال: اعتبر هذه الدراهم بهذه الصًّنْجَة.
ويقال: أخذ السلطانُ الخراجَ العام على العام الماضي (3).
وإذا كان حقيقة الاعتبار ما ذكرنا، وهو محض القياس اقتضت الآية وجوب ذلك، والأمر به، والمصير إليه.
فإن قيل: المراد بذلك النظر إلى ما فعلنا بهم.
قيل: لو كان كذلك لم يخص أهل الأبصار بذلك، والاعتبار والنظر الذى ذكروه لا يختص أهل البصيرة، فإنه يُدرك بالحس والمشاهدة، فيشترك
__________
(1) آية (2) من سورة الحشر.
(2) قال ابن منظور في كتابه لسان العرب (6/205) مادة (عَبَر) : (وفي التنزيل "فَاعْتَبِرُوا يَأولِى الأْبصَارِ" أي: تدبروا، وانظروا فيما نزل بقريظة والنضير، فقايسوا فعالهم، واتعظوا بالعذاب الذي نزل بهم).
وانظر: معجم مقاييس اللغة (4/210) مادة (عَبَر).
(3) يعني: اعتبر السلطانُ الخراجَ في هذا العام بالعام الماضي، بمعنى قاسه عليه.

(4/1291)


فيه من له بصيرة ومن لا بصيرة له؛ ولأنه حذَّر المخالفة وتوعد عليها بقوله:
(ذَلِكَ بَانهُمْ شَاقُّوا اللهَ) (1)، فثبت أن المراد ما ذكرنا من الامتناع من الاقدام على مثل أفعالهم (2).
وأيضاً: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمعاذ بن جبل: (كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله، أو قال: فإن لم تجد في [197/أ]، كتاب الله؟ قال: فسنة رسول الله، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله، أو قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره وقال: الحمد لله الذى وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يرضاه رسولُ الله) (3).
فإن قيل: هذا الخبر لا يصح إسناده؛ لأنه يرويه الحارث بن عمرو (4)، ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حِمْص من أصحاب معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك، وأناس من أهل حِمْص مجاهيل، فلا يصح التعلق به.
قيل: هو خبر صحيح رواه أبو داود في سننه (5)، وأبو عُبيد (6) في أدب
__________
(1) آية (4) من سورة الحشر.
(2) حتى لا يلحقنا ما لحق بهم، وهذا هو القياس.
(3) هذا الحديث قد مضى تخريجه.
(4) روى عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ عن معاذ في الاجتهاد، وروى عنه أبو عون محمد بن عبيد الله الثقفي، ذكره العقيلي وابن الجارودي وأبو العرب في الضعفاء. وذكره ابن حبان في الثقات. قال الذهبي وابن حجر: مجهول. مات بعد المائة.
له ترجمة في: تقريب التهذيب (1/143) وتهذيب التهذيب (2/151) وميزان الاعتدال (1/439).
(5) في كتاب الأقضية باب اجتهاد الرأي في القضاء (2/272).
(6) هو القاسم بن سلاّم، وقد سبقت ترجمته.

(4/1292)


القضاء وابن المنذر (1).
وقوله (2) : "أناس من أصحاب معاذ" يدل على شهرته وكثرة رواته، وقد عُرِف دينُه (3)، والظاهر من أصحابه (4) الدين، والثقة، والزهد، والصلاح.
وعلى أنه روى(5) وسُميَ رجل (6) منهم، وهو ثقة معروف، فروى عبادة ابن نُسَى (7) عن عبد الرحمن بن غَنْم عن معاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن
__________
(1) هو: محمد بن إبراهيم بن المنذر أبو بكر النيسابورى. شيخ الحرم. ولد بنيسابور سنة(242هـ). نزل مكة وسكنها. له كتب كثيرة، منها: الإجماع، والمبسوط، والإشراف. مات بمكة سنة (318 هـ).
له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (3/782)، وشذرات الذهب (2/280) وطبقات الحفاظ ص (328) وطبقات الشافعية للسبكى (3/102) ولسان الميزان(5/27) وميزان الاعتدال (3/450).
(2) القائل: الحارث بن عمرو راوي الحديث.
(3) أي دين معاذ - رضي الله عنه - قال الخطيب في كتاب: الفقيه والمتفقه (1/189) : (وقد عرف فضل معاذ وزهده).
(4) الضمير عائد على معاذ، رضي الله عنه.
(5) قال الخطيب في المصدر السابق: (وقد قيل: إن عبادة بن نُسَي رواه عن عبد الرحمن بن غَنْم عن معاذ، وهذا إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة).
قال ابن حجر في كتابه التلخيص الحبير (4/183) تعليقاً على كلام الخطيب: (فلو كان الإِسناد إلى عبد الرحمن ثابتاً لكان كافياً في صحة الحديث).
قلت: قول الخطيب (وقد قيل...) يشعر بأن الرواية غير ثابتة عنده.
ولو عبر المؤلف بمثل تعبير الخطيب لكان أولى.
(6) في الأصل (رجلا).
(7) في الأصل: (بشر) وهو خطأ، والتصويب من كتاب الفقيه والمتفقه (1/189)، والتمهيد في أصول الفقه (3/381). =

(4/1293)


غَنْم ثقة مشهور (1).
فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد، فلا يصح أن يحتج به في هذه المسألة التي هي أصل.
قيل: هذا أشهر وأثبت من قوله: (لا تجتمعُ أمَّتي على ضَلاَلة) وقد احتج به المخالف في الإجماع، فكان [هذا] (2) أولى (3).
وجواب آخر وهو: أنه إذا جاز أن تثبت الأحكام الشرعية بخبر الواحد،
__________
= وهو: عبادة بن نُسَي -بضم النون وفتح المهملة الخفيفة- أبو عمرو الشامي، قاضي طبرية. روى عن عبادة بن الصامت وأبى الدرداء وغيرهما. وروى عنه برد ابن سنان والمغيرة ابن زياد الموصلى. ثقة. مات سنة (118هـ).
انظر ترجمته في: تقريب التهذيب (1/395) وتهذيب التهذيب (5/113).
(1) هو عبد الرحمن بن غَنْم -بفتح المعجمة وسكون النون- الأشعري، مختلف في صحبته.
روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عمر وعثمان وعلى وغيرهم. وعنه ابنه محمد ومكحول الشامي ورجاء بن حيوة وعبادة بن نُسَي وغيرهم. وثقه ابن سعد والعِجلي ويعقوب بن شيبة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. مات سنة (78 هـ).
له ترجمة في تقريب التهذيب (1/494) وتهذيب التهذيب (6/250).
(2) الزيادة يقتضيها المقام، وهى من كتاب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/190).
(3) وقال هذا الجواب أيضاً الخطيب البغدادي في المرجع السابق بالنص.
والخطيب يرى أن حديث معاذ - رضي الله عنه - قد احتج به الجميع، فيغني ذلك عن طلب الإسناد له.
وتابعه على هذا ابن القيَّم في كتابه اعلام الموقعين (1/202).
وللشيخ الألباني رسالة تسمى: منزلة السنة من القرآن، ردَ فيه الحديث سنداً ومتناً، فارجع إليها إن شئت.

(4/1294)


مثل تحليل وتحريم، وإيجاب وإسقاط، وتصحيح وإبطال، وإقامة حق وحدَّ، بضرب وقطع وقتل، واستباحة الفروج، وما أشبه ذلك، كان يثبت القياس به أولى؛ لأن القياس طريق لهذه الأحكام، وهى المقصودة دون الطريق (1).
فإن قيل: الذى يثبت به المخالف الأحكام ظاهر القرآن وخبر الواحد والاجماع المروى من طريق الآحاد المحتمل للتأويل واستصحاب حكم العقل.
قيل: الشرع الذى يغيره ورود الشرع، وهذا كله من أدلة مسائل الفروع، فلم يصح ما ادَّعوه.
فإن قيل: معناه: اجتهد رأيي حتى آخذ حكم الله تعالى في الحادثة من الكتاب والسنة إذ كان في أحكام الله تعالى من الأمور مالا يتوصل إليه إلا بالاجتهاد.
قيل: الرجوع إلى الكتاب والسنة لا يسمى اجتهاداً، وإنما القياس يسمى اجتهاداً.
وعلى أن معاذاً رتَّب ما يقع به الحكم وما يقتضي الحكم، فيجب أن يكون كل واحد منهما غير صاحبه.
ويدل عليه أيضاً: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه [197/ب] قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر) (2). وهذا يدل على جواز الحكم باجتهاده ورأيه.
__________
(1) هذا الجواب منقول بنصه في كتاب: الفقيه والمتفقه، الموضع السابق.
(2) هذا الحديث رواه عمرو بن العاص - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (9/132).
وأخرجه عنه مسلم في صحيحه كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد وأخطأ (3/1342). =

(4/1295)


فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد.
قيل: قد أجبنا عن هذا (1).
فإن قيل: الاجتهاد في تأويل لفظ، وبناء لفظ على لفظ.
قيل: هو عام في الجميع إلاّ ما خصه الدليل.
وأيضاً ما روى أبو عُبيد في أدب القضاء بإسناده عن أم سلَمَة قالت: (كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد دَرَسَت، فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما أقضي بينكما برأيي فيما لم ينزل عليَّ، ولعل بعضكم يكون ألحنَ بحجته من بعض، فمن قضيتُ له بحجته فاقتطع بها قطعة ظلماً فإنما يقطع بها قطعة من نار) (2).
وهذا نص، فإنه أخبر أنه يقضي برأيه واجتهاده.
__________
= وأخرجه عنه أبو داود في سننه في كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطىء (2/268).
ورواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الترمذى في كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي يصيب ويخطىء (3/606).
وأخرجه عنه النسائى في كتاب آداب القضاة، باب الإصابة في الحكم (8/197).
وأخرجه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه في باب القول في الاحتجاج بصحيح القياس ولزوم العمل به (1/188).
(1) وذلك عند اعتراضهم الثاني على حديث معاذ رضي الله عنه.
(2) هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه عن أم سلمة -رضي الله عنها- في كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم (9/86) ولفظه: (إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، فأقضي نحوَ ما أسمع، فمن قضيتُ له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطعُ له قطعة من النار).
وأخرجه عنها مسلم في صحيحه في كتاب الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن =

(4/1296)


ويدل عليه إجماع الصحابة من وجهين.
أحدهما: من جهة النقل.
والثاني: من جهة الاستدلال.
أما النقل: فقد روى عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال: (أقول في الكَلالة برأيي) (1).
وعن عمر - رضي الله عنه - أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري في كتابه
__________
= بالحجة (3/1337).
وأخرجه عنها أبو داود في سننه في كتاب الأقضية، باب: في قضاء القاضي إذا أخطأ (2/270-271) بمثل لفظ البخاري، وبمثل لفظ المؤلف.
وأخرجه عنها الترمذي في سننه في كتاب الأحكام، باب: ما جاء في التشديد على من يقضي له بشىء ليس له أن يأخذه (3/615).
وأخرجه عنها النسائي في كتاب آداب القضاة، باب: الحكم بالظاهر (8/205).
وأخرجه عنها ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب: قضية الحاكم لاتحل حراماً ولا تحرم حلالاً (2/777).
(1) هذا الأثر أخرجه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض، باب: حجب الإخوة والأخوات من قبل الأم (6/223) ولفظه: (... عن الشعبي قال: سئل أبو بكر - رضي الله عنه - عن الكلالة، فقال: إني سأقول فيها برأيي، فإن يك صواباً فمن الله، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ماخلا الولد والوالد، فلما استخلف عمر - رضي الله عنه - قال: إني لأستحي الله أن أرد شيئاً قاله أبو بكر).
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الفرائض، باب: الكلالة (10/304) ولم يذكر فيه موضع الشاهد.
وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب الفرائض، باب: الكلالة (2/264) بمثل لفظ البيهقي.
وأخرجه ابن جرير في تفسيره بسنده إلى الشعبي (8/53-54) برقم (8745، 8746، 8747) وفي السند الأول والثاني موضع الشاهد بمثل لفظ البيهقي مع =

(4/1297)


المشهور: (الفهم فيما أدْلِي (1) إليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال والأشباه، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهِها بالحقِّ) (2).
__________
= اختلاف يسير.
وأخرجه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه في باب ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد (1/199). وقد ذكر الأثر في كنز العمال (11/79) والدر المنثور (2/250) ونسب الأثر فيهما أيضاً إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر.
كما ذكر ابن القيم في كتابه: اعلام الموقعين (1/82) أن الإِمام أحمد أخرجه بسند ذكره.
ونقل الزركشي في كتابه المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر ص (223) عن ابن حزم أنه أعل الأثر بالانقطاع، لأن الشعبي لم يدرك عمر، فقد ولد بعده بعشرة أعوام.
قلت: وفي كتاب المراسيل لابن أبي حاتم ص (102) أنه سمع أباه وأبا زرعة يقولان: الشعبي عن عمر مرسل.
(1) في الأصل: (أدى) والتصويب من التمهيد (3/385).
(2) هذا الكتاب أخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الأقضية والأحكام (4/206).
وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب آداب القاضي، باب: ما يقضي به القاضي، وما يفتي به المفتي (10/115).
وأخرجه الخطيب في كتابه: الفقيه والمتفقه، باب ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد وطريق القياس (1/200).
وهذا الكتاب مشهور ومعروف عند العلماء. قال ابن القيِّم في كتابه اعلام الموقعين (1/86) : (هذا كتاب جليل، تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه). =

(4/1298)


وهذا كتاب تلقته الأمة بالقبول، وفيه أمر صريح بالقياس.
وقال عمر لعثمان -رضي الله عنهما-: (إذا رأيتُ في الجد رأياَ فاتبعوني، فقال عثمان: إن نتبع رأيك فرأيُك رشيد، وإن نتبع رأى من كان قبلك فنعم ذو الرأى كان) (1).
__________
= وقد ذهب ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام (8/1003) إلى أن هذا الأثر لا تصح نسبته إلى عمر، رضي الله عنه.
وقد ذكَر له سندين، ثم عقب عليهما بقوله:
(قال أبو محمد: وهذا لا يصح؛ لأن السند الأول فيه: عبد الملك بن الوليد بن مَعْدان، وهو كوفي، متروك الحديث، ساقط، بلا خلاف، وأبوه مجهول.
وأما السند الثاني: فمن بين الكرجي إلى سفيان مجهولون، وهو أيضاً منقطع، فبطل القول به جملة).
وقصده بالمجهولين: محمد بن عبد الله العلاف، وأحمد بن على بن محمد الوراق،وعبد الله بن سعد، وأبو عبد الله محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني.
وقد تعقبه الشيخ أحمد بن محمد شاكر في الهامش في السند الأول فقال:
(أما عبد الملك فهو متوسط، ولم يضعفه أحد جداً إلا المؤلف، وأما أبوه فهو ثقة معروف، ذكره ابن حبَّان في الثقات).
وقد تعقَب الحافظ ابن حجر في كتابه التلخيص (4/196) ابن حزم فقال:
(لكن اختلاف المخرج فيهما [يعني: الطريقين اللتين ذكرهما ابن حزم وأعلهما بالانقطاع، مما يقوي أصل الرسالة، لاسيما وفي بعض طرقه أن راويه أخرج الرسالة مكتوبة).
قلت: وعلى هذا فالكتاب ثابت النسبة إلى عمر - رضي الله عنه - وبخاصة أن العلماء تلقوه بالقبول، كما يقول العلامة ابن القيم. والله أعلم.
وراجع للاستزادة: نصب الراية (4/82) وإرواء الغليل (8/241).
(1) سبق تخريجه.

(4/1299)


وقال زاذان (1) : تذاكروا الخيار (2) عند علي - رضي الله عنه - فقال: (إن أمير المؤمنين عمر قد سألني عنه، فقلتُ: إن اختارت زوجَها فهي واحدة، وزوجها أحق بها، وإن اختارت نفسها فهي واحدة بائنة، فقال: ليس كذلك، ولكن إن اختارت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها، فتابعتُ (3) أمير المؤمنين، فلما خلص الأمر إليّ عرفت أني أسأل عن التزويج (4) عدت إلى ما كنتُ أرى، فقلنا: والله لأمر جامعتَ عليه أمير المؤمنين، وتركتَ رأيك أحب إلينا من أمر تفردتَ به، فضحك، وقال: أما إنه قد أرسل(5) [إلى]، زيد بن ثابت، فخالفني وإياه، فقال: وما قال زيد؟، قال: إن اختارت زوجها فهي واحدة، وزوجها أحق بها، وإن اختارت نفسها فهي ثلاث، لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره) (6).
__________
(1) هو: زاذان، أبو عبد الله، ويقال: أبو عمر، الكِندي بالولاء، الكوفي، الضرير، البزار.
روى عن عمر وعلي وابن مسعود وسلمان وحذيفة وغيرهم. وعنه المنهال بن عمرو وعطاء بن السائب وغيرهم. وثَّقه ابن معين وابن سعد والخطيب والعِجلي. قال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. قال الحافظ ابن حجر: (صدوق، يرسل، وفيه شيعية) مات سنة (82 هـ).
له ترجمة في: تقريب التهذيب (1/256) وتهذيب التهذيب (3/302).
(2) المراد بالخيار هنا: أن الرجل يخيِّر زوجته، فتختاره أو تختار نفسها.
(3) في الأصل: (فبايعت) والتصحيح من مراجع التخريج الآتية.
(4) هكذا في الأصل، وفي مراجع التخريج الآتية (الفُرُوج).
(5) فاعل أرسل: عمر، رضي الله عنه.
(6) هذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الطلاق، باب: ما قالوا في الرجل يخيِّر امرأته فتختاره أو تختار نفسها (5/59).
وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الخُلع والطلاق، باب: ما جاء في التخيير (7/345). =

(4/1300)


وروى عن علي أنه قال: (استشارني عمرُ في أمهات الأولاد فأجمعت أنا وهو على عتقهم [198/أ] ثم رأيت بعد أن أرقهم. فقال له عبيدة (1) : رأى ذوى عدل أحب إلينا من رأي عدل وحده) (2).
وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في قصة بَرْوَع بنت واشق (3) :
(أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأَ فمني ومن الشيطان) (4).
__________
= ويلاحظ: أن فتوى زيد - رضي الله عنه - مختلفة في المصدرين السابقين، ففي المصنف قال زيد: (إن اختارت نفسها فثلاث، وإن اختارت زوجها فواحدة بائنة.
وفي السنن قال زيد: (إن اختارت نفسها فثلاث، وان اختارت زوجها فواحدة، وهو أحق بها) وهذا موافق للفظ المؤلف.
وقد نبه على ذلك محقق كتاب المصنف لابن أبي شيبة.
(1) هو عبيدة السلماني، وقد سبقت ترجمته.
(2) سبق تخريج هذا الأثر.
(3) الأشجعية. صحابية.
لها ترجمة في: الاستيعاب (4/1795).
(4) هذا الأثر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه عنه أبو داود في كتاب النكاح باب: فيمن تزوج ولم يسمِّ صداقاً حتى مات (1/488) ولفظه: (أن عبد الله بن مسعود أتي في رجل، بهذا الخبر.
يعنى: في رجل تزوج امرأة، فمات عنها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها الصداق.
فاختلفوا إليه شهراً، أو قال: مرات، قال: فإني أقول فيها: إن لها صداقاً كصداق نسائها، لاوَكس ولا شطط، وإن لها الميراث، وعليها العِدَّة فإن يك صواباً فمن الله، وإن يك خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان، فقام ناس من أشجع، فيهم الجرَّاح وأبو سنان، فقالوا: يا ابن مسعود نحن نشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضاها فينا في بَروْعَ بنت واشق، وأن زوجها هلال =

(4/1301)


وقال عبد الله بن عباس -رضي الله [عنهما]- في ديات الأسنان لما قسَّمها عمر على اختلاف منافعها (1) : (اعتبروها بالأصابع؛ عقلها سواء وإن اختلفت منافعها) (2).
وقال عبد الله بن عباس: (ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أب الأب أباً؟!) (3).
__________
= بن مُرة الأشجعي، كما قضيت، قال: ففرح عبد الله بن مسعود فرحاً شديداً حين وافق قضاؤه قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم-).
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/279).
وأخرجه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه، باب ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد وطريق القياس (1/202).
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب النكاح، باب: الذي يتزوج فلا يدخل ولا يفرض حتى يموت (6/294).
ويظهر من هذا: أن المسألة التي حكم فيها ابن مسعود مشابهة لمسألة يَروَع بنت واشق، التي حكم فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليست هي، كما يفهم من ظاهر كلام المؤلف.
(1) تقسيم عمر - رضي الله عنه - لديات الأسنان على اختلاف منافعها، أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه كتاب الحقول، باب: الأسنان (9/347).
كما أخرجه عنه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الديات، باب: من قال: تفضل بعض الأسنان على بعض (9/190).
(2) هذا الأثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجه عنه البيهقي في سننه في كتاب الديات، باب: الأسنان كلها سواء (8/90)، وفيه: (لو لم يعتبر ذلك إلا بالأصابع عقلها سواء).
وأخرجه ابن حزم في كتابه: الإحكام ص (1006).
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب: الأسنان (9/345).
(3) هذا الأثر ذكره ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم وفضله (2/131)، بدون إسناد، ولفظه: (وقال ابن عباس: ليتق الله زيد، أيجعل ولد الولد بمنزلة الولد، =

(4/1302)


وروى عن ابن عباس: (أنه كان إذا سئل عن شىء فكان في كتاب الله تعالى قال به، وإن لم يكن في كتاب الله، وحُدِّث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال به، فإن لم يكن في كتاب الله ولا حُدث به عن رسول الله وأخبر به عن أبي بكر وعمر قال به، فإن لم يكن في كتاب الله ولا حُدِّث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أخبر به عن أبي بكر وعمر اجتهد وقال برأيه) (1).
وهذا يدل على صحة القول بالرأي والاجتهاد.
فإن قيل: من حكيتم عنه القول بالقياس قد روي عنه بُطلانه.
من ذلك ما روي عن أبي بكر أنه قال: (أي سماء تظلني، وأي أرض تقلُّني، إذا قلت في كتاب الله (2) برأيي؟!).
وعن عمر أنه قال : (إياكم وأصحابَ الرأي، فإنهم أعداء الدين، أعْيَتْهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا) (3).
__________
= ولا يجعل أب الأب بمنزلة الأب؟! إن شاء باهَلْتُه عند الحجر الأسود).
(1) هذا الأثر أخرجه الخطيب في كتابه: الفقيه والمتفقه، باب: ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد وطريق القياس (1/203).
وأخرجه ابن عبد البَر في كتابه: جامع بيان العلم، باب: اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص (2/72).
(2) هذا الأثر أخرجه ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم وفضله (2/64)، عن أبي بكر، رضي الله عنه.
كما أخرجه في الموضع نفسه عن علي، رضي الله عنه.
وأخرجه الدارقطنى في سننه: في كتاب النوادر (4/146) قال أبو الطيب العظيم أبادي في تعليقه على سنن الدارقطنى في الهامش: (في إسناده مُجالد، وهو ضعيف، ضعَّفه ابن معين، ووثَّقه النسائي).
وأخرجه ابن حزم في كتابه: الإِحكام ص (779).
(3) هذا الأثر أخرجه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (1/180-181). =

(4/1303)


وروي عنه أنه قال: (إياكم والمكايَلَةَ، قيل: وما المكايَلَة؟، قال: المقايسة) (1).
وروي عن شريح قال: كتب إليَّ عمر بن الخطاب وهو يومئذ من قبله: (اقض بما في كتاب الله، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما في سنة رسول الله، فإن جاءك ما ليس في سنة رسول الله فاقض بما أجمع عليه أهل العلم، فإن لم تجد فلا عليك ألاّ تقضي) (2).
وعن على أنه قال: (لو كان الدين قياساً لكان باطن الخُف أحقَ بالمسح من ظاهره، ولكن رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح ظاهرها) (3).
وعن ابن مسعود أنه قال: (إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيراً مما حرم
__________
= وأخرجه ابن عبد البَر في كتابه: جامع بيان العلم، باب ماجاء في ذم القول في دين الله بالرأي والظن والقياس... (2/164-165).
وأخرجه ابن حزم في كتاب الإحكام ص (779).
ولم أجد في المصادر السابقة لفظ: (أعداء الدين) كما ذكر المؤلف، وإنما وجدت: (أعداء السنن)، وهو الأنسب، والله أعلم.
(1) هذا الأثر أخرجه الخطيب في المصدر (1/182) عن عمر رضي الله عنه، كما أخرجه في المصدر المذكور (1/183) عن الشعبي بلفظ: (إياكم والمقايسة).
وذكره ابن عبد البَر في كتابه: جامع بيان العلم (1/167) عن الشعبي أيضاً.
(2) هذا الأثر قد سبق تخريجه ص (1163) عند ذكر المؤلف له بلفظ: (إن لم تجد في السنة اجتهد رأيك).
(3) روى هذا أبو داود في سننه في كتاب الطهارة، باب: كيف المسح؟ (1/36)، وفيه: (لو كان الدين بالرأي) بدل قول المؤلف: (لو كان الدين قياساً).
وأخرجه الخطيب من قول عمر - رضي الله عنه - في كتابه الفقيه والمتفقه (1/181).
وأخرجه ابن حزم في كتابه الاحكام ص (380).
وانظر هذا في: اعلام الموقعين (1/58) والتلخيص الحبير (1/160) وفيه يقول الحافظ ابن حجر: (إسناده صحيح).

(4/1304)


الله تعالى، وحرمتم كثيراً مما حلله الله) (1).
وعن ابن عباس: (أن الله تعالى قال لنبيه: (احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أنزَلَ اللهُ) (2)، ولم يقل بما رأيت) (3).
وعنه أنه قال: (لو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الله تعالى: (وَأن احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أنزلَ اللهُ) (4).
وروي عنه أنه قال: (إياكم والمقاييس، فإنما عُبِدت الشمسُ والقمرُ بالمقاييس) (5).
وعن عبد الله بن عمر أنه قال: (السنة ما سَنَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [198/ب] لا يجعل الرأيُ سنةً للمسلمين) (6).
__________
(1) هذا الأثر أخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه(1/182) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - كما ذكر المؤلف.
ذكره ابن عبد البَر في كتابه: جامع بيان العلم عن الشعبي (2/94).
وأخرجه ابن حزم في كتابه: الإحكام ص (1073) عن الشعبي أيضاً.
(2) آية (49) من سورة المائدة.
(3) لم أقف على هذا الأثر في مصدر معتمد.
(4) لم أقف على هذا الأثر في مصدر معتمد.
(5) هذا الأثر سبق تخريجه ص (1278) عند ذكر المؤلف له بلفظ : (أول من قاس إبليس).
(6) هذا الأثر أخرجه ابن عبد البَر في كتابه، جامع بيان العلم (2/166) عن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - بلفظ: (السنة ما سنه الله ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تجعلوا خطأ الرأي سنةً للأمة).
وأخرجه عنه ابن حزم في كتابه الإِحكام (6/786) بمثل لفظ ابن عبد البَر.
وذكره ابن القيِّم في كتابه: اعلام الموقعين (1/54) منسوباً إلى عمر - رضي الله عنه - بمثل لفظ ابن عبد البَر.

(4/1305)


وقال الزبرقان (1) : (نهاني أبو وائل (2) أن أجالس أصحابَ الرأي) (3).
وقال مسروق: (لا أقيس شيئاً بشىء، أخاف أن تزل قدم بعد ثبوتها) (4).
قيل: أما قول أبي بكر: (أي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله برأيي)، فلا حجة فيه؛ لأنا نمنع القول في كتاب الله تعالى [بالرأي].
وقول عمر: (إياكم والرأي) فالمراد به: الرأي المخالف للحديث؛ لأنه قال: (أعيتهم الأحاديث أن يعوها).
وقال: (إياك وأصحاب الرأي. فإنهم أعداء السنن) والرأي المخالف لذلك فهو ضلال وإضلال.
وكذلك قول علي: (لو كان الدين بالرأي) فالمراد به مع مخالفة السنة.
والدليل على ذلك: ما روي عنهم من القول بالرأي والعمل به.
__________
(1) هو الزبرقان بن عبد الله الأسدي الكوفي، أبو بكر السراج ثقة. روى عن أبي وائل وعبد الله بن معقل. وعنه يحيى بن سعيد وعباد بن عوام وعمر بن على بن مقدم وغيرهم. وثقه يحيى القطان ويحيى بن معين.
له ترجمة في: كتاب الجرح والتعديل (ج أ ق 2 ص 610).
(2) هو: شقِيق بن سلمة الأسدي الكوفي أبو وائل. روى عن عمر وعثمان وعلي وغيرهم، وعنه الأعمش ومنصور وحصين وغيرهم.
وثقه ابن معين ووكيع وابن سعد وغيرهم. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة. مات سنة (82 هـ).
له ترجمة في: تاريخ بغداد (9/268) وتذكرة الحفاظ (1/60)، وتقريب التهذيب (1/354) وتهذيب التهذيب (4/361) وطبقات الحفاظ ص (20).
(3) أخرج هذا ابن عبد البَر في كتابه جامع بيان العلم (2/179) ولفظه: (لا تُقاعِد أصحاب أرأيت).
(4) أخرج هذا الأثر ابن عبد البَر في المصدر السابق (2/167) ولفظه: (لا أقيس شيئاً بشىء، قلت لمه؟ قال: أخاف أن تَزِل رجلي).

(4/1306)


وعلى هذا كل ما روي عن الصحابة وعن أبي وائل ومسروق من ذم الرأي والقياس.
والدليل على ذلك ما رويناه من إجماع الصحابة.
والطريقة الثانية في الإجماع من جهة الاستدلال:
فهو أن الصحابة اختلفت في الحوادث اختلافاً متبايناً.
فاختلفوا في قوله: أنتِ عليَّ حرام.
فقال بعضهم: يمين، تُكَفَّر.
ومنهم من قال: فيها كفارة يمين، وليست بيمين.
ومنهم من قال: طلاق رجعي.
ومنهم من قال: طلاق ثلاث.
ومنهم من قال: ظهار (1).
وهكذا اختلفوا في الجَدِّ:
فمنهم من لم يقاسم بينه وبين الاخوة، وقالوا: الجد أب، [وهم] عشرة من الصحابة، منهم أبو بكر وابن عباس.
ومنهم من قال: يقاسمهم إلى الثلث.
ومنهم من قال: إلى السدس.
ومنهم من قال: إلى نصف السدس (2).
فأقرَّ بعضهم بعضاً على ما ذهب، فإما أن يقولوا باجتهاد، أو بنص.
فإن كان هناك نص لم يخل من ثلاثة أحوال:
__________
(1) سبق ذكر الخلاف في هذه المسألة ص (1115).
(2) راجع في هذه الأقوال: السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الفرائض، جماع أبواب الجد، (6/244-251)، والمصنف لعبد الرزاق كتاب الفرائض، باب فرض الجد (10/261-273).

(4/1307)


إما أن يكون خَفِي عليهم.
أو علموه، وتركوه.
أو علم به بعضهم دون بعض.
فبطل أن يكون هناك نص خَفِي عليهم؛ لأنه يفضي أن يجمعوا على خطأ، وأن يخرج الأمر عن أيديهم.
وبطل أن يقال: علموا به وتركوه؛ لأن هذا عناد.
وبطل أن يقال: علم به بعضهم دون بعض؛ لأنه لو كان كذلك لأظهره الذى علمه، ورواه، وذكره.
فلما لم يكن شىء من هذا ثبت أن القوم قالوا فيها باجتهادهم.
ويؤيد هذا: أن القوم قاسوا الجَد على غيره، واعتبره عليُّ بالبحر، والأب بالنهر، والإخوة بالأنهار (1).
واعتبره زيد بالشجرة، والأب بالغصن، والإخوة بالأفنان (2).
__________
(1) هذا الأثر عن علي - رضي الله عنه - لم أجده بهذا اللفظ، إنما وجدت ما أخرجه البيهقي في كتاب الفرائض، باب: من ورث الإخوة مع الجد (6/248) بلفظ: (قال زيد: إلا أن علياً جعله سيلاً سال، فانشعبت منه شعبة، ثم انشعبت منه شعبتان، فقال: أرأيت لو أن ماء هذه الشعبة الوسطى يَبِس، أكان يرجع إلى الشعبتين جميعاً).
وبمثل هذا اللفظ: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الفرائض، باب: فرض الجد (10/265).
(2) هذا الأثر -عن زيد بن ثابت- رضي الله عنه - أخرجه عنه البيهقي في المصدر السابق بلفظ: (... فقال زيد: يا أمير المؤمنين لا تجعل شجرة نبتت فانشعب منها غصن، فانشعب في الغصن غصنان، فما جعل الأول أولى من الثاني، وقد خرج الغصنان من الغصن الأول؟!).
وبمثل هذا اللفظ: أخرجه عبد الرزاق في المصدر السابق.

(4/1308)


ثبت أن القوم أجمعوا على القياس، وعملوا به، وأقرَّ بعضهم بعضاً على ذلك.
وحُكي عن داود أنه قيل له: إذا لم يكن الدليل عندك إلا نفس كتاب أو سنة، أو قياس لا يحتمل إلا معنى واحداً (1). فلم اختلفت الصحابة؟! قال: خذل (2) القوم (3).
وهذا أعظم (4)، فإنه لم يكفهم منع [199/أ] القياس حتى خطئوا الصحابة.
وأيضاً: فإن الله تعالى كلف المجتهد معرفة أحكام الحوادث ليعمل بها لنفسه، أو ليفتي بها، أو يحكم بها بين الناس، فلابد أن ينصب هنا أدلة تعرف أحكام الحوادث بها.
وذلك الدليل: إما أن يكون نصاً أو غيره؛
فبطل أن يكون نصاً؛ لأن الله تعالى ما نص على حكم كل حادثة، ولابد من معرفة حكمها، ثبت أن معرفة حكمها بالاجتهاد والاعتبار.
فإن قيل: قد نص على حكم كل حادثة؛ إما نصاً أو دليل الخطاب.
قيل: إذا اختلف المتبايعان، فقال كل واحد منهما: لا أدفع ما عليّ حتى أقبض مالي، فليس في تقديم واحد منهما دليل من جهة النص.
وكذلك: إذا اختلفا والسلعة قائمة، تحالفا، وليس في تقديم أحدهما نص ولا دليل خطاب.
وكذلك قوله لزوجته: أنتِ عليَّ حرام؛
منهم من قال: طلاق.
__________
(1) في الأصل: (واحد).
(2) ضبطها في الأصل بتشديد الذال مع الكسر.
(3) لم أقف على قول داود هذا.
(4) في الأصل (عظم).

(4/1309)


ومنهم من قال: ظهار.
ومنهم من قال: يمين.
وليس في هذا دليل.
فإن قيل: إن لم يكن هناك نص صرنا إلى حكمها بدليل العقل.
والناس في هذا على مذاهب؛
منهم من قال: الأشياء على الحظر.
ومنهم من قال: على الإباحة.
ومنهم من قال: على الوقف.
فيبنى حكم الحادثة على هذا.
قيل: في الحوادث ما يقف قياس العقل فيها، وهو ما ذكرنا من اختلاف المتبايعين في الإقباض، وغير ذلك.
وكذلك قوله: أنتِ علي حرام، ليس للعقل في هذا مجال، في تقديم بعضهم على بعض.
فإن قيل: يصير في ذلك إلى استصحاب الحال.
قيل: ولا يمكن أيضاً استصحاب الحال فيما حكينا من المسائل؛ لأن الحال قد زالت.
فإن قيل: فبالإجماع يقضي فيها.
قيل: منها ما لم يجمعوا عليه، بل اختلفوا فيه.
وعلى أنكم وإن صرتم إلى الإجماع، فالإجماع لا ينعقد على الحكم فيها إلا بدليل، وذلك الدليل ينقسم على ما قلناه في أول المسألة، فلابد لهم من نص أو اعتبار.
وهذه الطريقة معتمدة في المسألة.
وأيضاً: فإن الله تعالى ذكر أحكاماً ونص على معانيها، فقال: (مِنْ أجْلِ

(4/1310)


ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بني إسْرَائِيلَ) (1).
وقال في الفيء: (كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَة بَيْنَ اْلأغْنِيَاءِ مِنْكُم) (2) يعني نصصت على حكمه لهذا.
وكذلك قال: (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنهَا وَطَراً زَوجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى اْلمُؤْمِنِينَ حَرَج في أزْواجِ أدْعِيَاءِهِمْ إذَا قَضَواْ مِنْهُن وَطَراً) (3).
وكذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إنَّما فعلتُ ذلك من أجل الدَّافَّة) (4).
وقال: (إنّما جُعِل الاستئذانُ من أجلِ البَصَر) (5).
فإذا نص الله ورسوله على الأحكام وذكر معانيَها، ثبت أنه إنما نصَّ على
__________
(1) آية (32) من سورة المائدة.
(2) آية (7) من سورة الحشر.
(3) آية (37) من سورة الأحزاب.
(4) هذا جزء من حديث، قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نهى عن ادّخار لحوم الأضاحى فوق ثلاثة أيام من أجل الدافة. وقد سبق تخريجه عند ذكر المؤلف له بلفظ: (كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي...).
والدافة: قوم من الأعراب يردون المِصْر، والمعنى: أن هناك قوماً قدموا المدينة في عيد الأضحى، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تدخر لحوم الأضاحي، من أجل أن تفرق عليهم، فينتفعوا بها.
انظر: النهاية في غريب الحديث (2/26)، مادة (دفف).
(5) هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب الامتشاط (7/211).
وأخرجه في كتاب الاستئذان باب الاستئذان من أجل البصر (8/66) رقم الحديث كما في الفتح (5924، 6241، 6901).
وأخرجه مسلم في كتاب الأدب، باب تحريم النظر في بيت غيره (3/1698) رقم (2156).
وأخرجه الترمذي في كتاب الاستئذان باب من اطّلع في دار قوم بغير إذنهم (5/64) رقم الحديث (2709). =

(4/1311)


المعنى حتى إذا عرف الحِقَ به [199/ب]، ما وجد فيه ذلك المعنى.
فإن قيل: إنما نص على معنى الحكم ليعرف معناه.
قيل: لا فائدة في معرفة معناه، وقد عرف معناه بالنظر.
وطريقة أخرى وهو: أن القياس مفهوم كلام العرب ومعقولها، بدليل من له ابنان، ضرب كل واحد منهما زوجة نفسه، ثم إن أباهما ضرب أحدهما، فقيل له: لم ضربته؟.
فقال: لأنه ضرب زوجته.
وإذا قيل له: فالآخر أيضاً قد ضرب زوجته، فلم لم تضربه؟!
فمتى لم يأت باعتذار في هذا سقط كلامه، وبان نقصه (1).
فثبت أن القياس مأخوذ من مفهوم كلامهم.
وأيضاً: فإن الاجتهاد في طلب القبلة عند الخفاء واجب، وإنما يستدل عليها بالعلامات، كالشمس والقمر والنجوم والجبال والرياح، وهذا محض القياس؛ لأنه يقيس القبلة على هذا النجم وعلى طلوع الشمس وغروبها، ويهدى إليها بها.
فإن قيل: إنما لزمه الاجتهاد في طلب القبلة؛ لأن الشرع ورد بالطلب.
قيل: قد سلمتم أنه ورد بالعمل على القياس.
فإن قيل: القبلة واحدة، وشخص واحد كلف طلبه، فليس كذلك حكم الأرز؛ لأنه كلف حكمه، وحكمه يختلف.
قيل: لا فرق بينهما وذلك أن له في الأرز حكماً طلبناه من البُر، كما أن له في الكعبة حكماً طلبناه من هذه الأدلة، فالبُر في حكم الأرز، كهذه الأدلة
__________
= وأخرجه أحمد في مسنده: (5/330، 334، 335).
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه كتاب الجامع، باب الرجل يطَّلع في بيت الرجل (10/383) رقم الحديث (19431).
في التمهيد (3/410) : (بَانَ نَقْضُه) بالضاد المعجمة، وهي أولى.

(4/1312)


في طلب القبلة.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَالَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم) (1).
وقوله تعالى: "وَأنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعلَمُونَ" (2).
والجواب: أن هذه حجة عليهم في نفيهم القياس بأمور محتملة غير مقطوع بها، ولا معلومة، فقد قالوا على الله ما لا يعلمون.
على أن ذلك محمول على منع القول بما ليس بعلم، فلا يجرى مجراه من القياس والاجتهاد، بدلالة قوله: (فَاعْتَبِرُواْ يَا أولِى اْلأبصَارِ) (3)، وحديث معاذ.
وجواب آخر، وهو: أن الحكم بالقياس معلوم، ويكون ذلك بمنزلة الحكم بشهادة الشاهدين، إذا غلب على ظن الحاكم صدقُهما وعدالتُهما، والتوجه إلى القبلة إذا غلب على ظنه أنها في جهة، فإن وجوب الحكم بها وفعل الصلاة إليها معلوم، وإذا كان كذلك، فلم نَقْفُ ما ليس لنا به علم.
واحتج بقوله تعالى: (إِنَّ الظنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَق شَيْئاً) (4).
__________
(1) آية (36) من سورة الإسراء.
ووجه الاستدلال: أن القياس قَفْو لما لا علم لهم به.
انظر: الاحكام لابن حزم ص (1055).
(2) آية (169) من سورة البقرة.
ووجه الاستدلال من الآية: أن القول بالقياس حرام؛ لأنه قول على الله مالا نعلم، وذلك مما يأمر به إبليس: (إنَّمَا يَأمرُكُم بِالسوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأن تَقُولُوا عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ).
انظر: الإحكام لابن حزم ص (1055).
(3) آية (2) من سورة الحشر.
(4) آية (28) من سورة النجم.
ووجه الاستدلال من الآية: أن القياس ظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً.

(4/1313)


والجواب: أن المراد به الظن الذي هو تخمين وحَدْس، لم يقع عن طريق صحيح. فأما الظن (1) الواقع عن أمارة وطريق صحيح، فهو جار مجرى العلم في وجوب العمل به، كما يقول المخالف في الحكم بقول الشاهدين، وبقول المقومين، وقبول قول زوجته في حيضها وطهرها [200/أ]، وقبول قول القَصاب في ذبيحته، والتوجه إلى القبلة باجتهاده.
واحتج بقوله تعالي: (وَمَا اخْتَلَفتُمْ فِيهِ من شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللهِ) (2).
وقال تعالى: (فَإن تَنَازَعْتُمْ في شَىْء فردُّوهُ إلَى اللهِ وَالرسُولِ) (3).
والجواب: أنه لم يرد به إلى ذات الله وذات رسوله، وإنما المراد إلى حكم كتاب الله وسنة رسوله، والرد إلى القياس رد إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإنه عليهما يحمل، ومنهما (4) تستنبط المعاني ويقاس عليها.
واحتج بما روىٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ستفترقُ أمتي على بِضْع وسبعين فِرْقة، أعظمُها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيُحرِّمون الحلالَ ويُحللون الحرامَ) (5).
__________
(1) في الأصل: (وأما الطريق).
(2) آية (10) من سورة الشورى.
ووجه الاستدلال من الآية: أن المختلف فيه حكمه إلى الله، وليس إلى القياس.
(3) آية (59) من سورة النساء.
ووجه الاستدلال: أن المتنازع فيه يجب رده إلى الله والرسول، والقول بالقياس رد إلى غير الله والرسول.
(4) في الأصل: (منها).
(5) هذا الحديث رواه عوف بن مالك -رضي الله- مرفوعاً. أخرجه عنه الطبراني في الكبير والبزار (10/79).
قال الهيثمى في مجمع الزوائد: (ورجاله رجال الصحيح) (1/179).
وأخرجه ابن عبد البَر بسنده في كتابه: جامع بيان العلم وفضله (2/163). =

(4/1314)


والجواب: أن المراد بذلك الرأي المخالف للكتاب والسنة، ومن فعل ذلك فقد ضلَّ، ودخل تحت الوعيد (1).
واحتج بأنه لو كان العمل بالقياس واجبا لم يخلُ العمل بذلك من أن يكون ضرورةً أو استدلالاً، وليس يسوغ ادعاء العلم الضروري في وجوب ذلك؛ لأنا لا نجد نفوسنا مضطرة إلى العلم بذلك ولا تتعرى من الشكوك.
وإن كان العلم بوجوده استدلالاً لم يخلُ إمَّا أن يكون الاستدلال عقلاً أو شرعاً.
والعقل لا مدخل له في إيجاب ذلك؛ لأن العلم بأصول الأشياء التي يقاس عليها لا يقع من ناحية العقول، ولا يجوز أن يفرِّق الله تعالى بين الخمر وسائر الأشربة في الحكم، فيحرم الخمر ويبيح غيرها مع تساويها (2) في الإسكار، والعقل يسوى بينهما.
ولو كان ثبوته شرعاً لظهر، وليس في وجوب ذلك خبر.
__________
= وأخرجه الخطيب في كتابه: الفقيه والمتفقه (1/180).
وأخرجه ابن حزم في كتاب الاحكام (8/1068).
والحديث قد ارتضاه ابن حزم كما في المرجع السابق.
وكذلك الهيثمي.
ولكنَّ أبا الخطاب في كتابه التمهيد (3/402) قال: (إنه خبر غير معروف).
وقال الشيخ أحمد شاكر في هامش كتاب الإحكام لابن حزم: (حديث ضعيف).
وقد تجنب المؤلف الطعن فيه، فلعله ذهب إلى صحته.
(1) هذا أحد الأجوبة، وهناك جواب ثان: بأنه حديث غير معروف، وقد سبقت الإشارة إليه.
وجواب ثالث، ذكره أبو الخطاب في كتابه السابق: (أنه خبر واحد غير مشهور، فلا يحتج به في الأصول).
(2) في الأصل: (تساويهم).

(4/1315)


وتحرير هذه الدلالة: أن العلم بوجوبه، إذا لم يكن من ناحية المعقول، ولا شرع ورد بذلك لم يجز القضاء به.
والجواب: أنا نَقْلِبُ هذا الدليل فنقول: لو كان القول بالقياس باطلاً، لم يخلُ العلم ببطلانه من أن يكون ضرورةً أو استدلالاً.
ولا يمكن ادعاء الضرورة لما يعترينا في بطلانه من الشك، والعقول لا مجال لها في بطلانه.
ولأن نفاة القياس يجوزون أن يتعبد الله تعالى بإلحاق سائر الأضربة المسكرة
بالخمر من طريق القياس، فلو بطل الحكم بالقياس لم يبطل إلا شرعاً، والشرع هو الخبر عن الله تعالى وعن رسوله، ولا خبر بذلك، فلم يجز الحكم ببطلانه.
وجواب آخر: وهو أنا أثبتنا ذلك بالشرع، وقد ظهر ذلك بقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أوْلِى اْلأبصَارِ) (1) وبحديث معاذ، وإجماع الصحابة.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الشرع غير معلوم؛ لأنه خبر واحد، فلا يجوز إثبات مسائل الأصول بخبر الواحد.
قيل [200/ب]: لم نذكر ما يوجب العلم ويقطع العذر، وإذا لم يكن فيه دليل حال ثبوته بخبر الواحد على أنا قد ذكرنا الآية، وهي مقطوع بها، والخبر الذى ذكرنا متلقى بالقبول، وإجماع الصحابة مقطوع به.
واحتج: بأن، القياس حمل الفرع على الأصل بعلة وشَبَه (2)، وأجمعوا أن ذلك لا يقف على شهوة المعلل واقتراحه، بل يكون تابعاً للدليل، وليس يخلو الدليل من أن يكون عقلاً أو شرعاً.
والعقل لا يدل على ذلك؛ إذ ليس بعض صفات المعلل أولى بذلك من بعض.
__________
(1) آية (2) من سورة الحشر.
(2) في الأصل: (شبهة).

(4/1316)


وحكم الأصل أيضاً لم يعلم عقلاً.
ولأنه لا وجه يدعي الخصم أنه علة إلا وهو يجوز أن يرد الخبر بأن العلة سواه، فبطل أن يكون للعقل مجال في ذلك.
ولا يجوز أن يكون العلم بالعلة قياساً على النص لوجهين:
أحدهما: أن ذلك القياس لابدَّ له من علة، ولا بدَّ في تعريف تلك العلة من قياس يأتي، والكلام في ذلك كالكلام في الذي قبله، وهذا يفضى إلى ما لا نهاية له، فلم يبق إلا النص.
وإذا كانت العلل منصوصاً عليها، جاز حمل غير المنصوص عليه على ما تناوله النص عند كثير من أهل الظاهر.
ولا يجوز أن يكون ما تذكرونه من وجود الحكم في الأصل المعلَّل عند وجود الصفة وعدمها عند عدمه، دلالة على كونها علة يجب القياس عليها لوجود الحكم في كثير من المواضع، موجود عند وجود شيء ومعدوم عند عدمه، مع اعترافنا بأنه ليس بعلة.
ألا ترى أنا نجد العصير حلالاً قبل حدوث الشدة فيه لا يَكْفُر مستحله، فإذا حدثت الشدة صار حراماً يَكْفُر مستحله، ثم إذا ارتفعت الشدة عنه صار حلالاً، ولم يَكْفُر مستحله، ولم يجب من أجل ذلك أن تكون الشدة علة للتكفير؛ لأنَّا لا نكفر مستحل كل شديد.
والجواب: أن القياس هو: حمل الفرع على الأصل بعلة وشَبَه، قد دل الدليل على صحتها، وذلك يحصل من خمسة أوجه:
أحدها: لفظ صاحب الشريعة بنصه، أو تنبيهه (1)، أو إجماع الأمة، أو تأثيرها، وهو يوجد الحكم بوجود المعنى، ويعدم بعدمه أو شهادة
__________
(1) في الأصل: (أو تنبيه) ودلالة السياق تدل على ما أثبتناه.

(4/1317)


الأصول، أو قيام الدليل على بطلان ما سواها، وقد شرحنا ذلك في الخبر الذى بعده.
وإذا كان كذلك، لم يلزم ما قالوه؛ لأن قولهم: ليس بعض الصفات أولى من بعض غلط؛ وذلك أنه إذا تعارض فيه أمارتان، عرضناهما على الأصول، فأيهما كان أشد اطراداً وانعكاساً وتأثيراً، كان أولى.
وقولهم: إنه يجوز أن يَرِد الخبر بأن الحكم سواه، فهذا لا يتصور بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما في حياته فإنه ما من [201/أ] حكم ثبت بالنص إلا ويجوز أن يَرِد نص بخلافه، ثم لم يمنع ذلك كونه دليلاً.
وقولهم: إن مستَحِلَّ النبيذ والنقيع لا يَكْفُر، وإن كانت علة الكفر موجودة فيه وهي الشدة غلط؛ لأن العلة في كفر مستَحِلِ الخمر الإجماع على تحريمه، فليس العلة في كفره الشدة. وذلك الإجماع لا يوجد في غيره مما تحله الشدة، فلهذا لم نُكَفرْه.
وقولهم: يحتاج في تعريف العلة إلى علة أخرى إلى ما لا نهاية له غلط، لأنَّا (1).
واحتج: بأن القياس لا يصح إلا بثبوت علة الأصل، وأنهم يدعون علة الأصل، ولا يمكنهم إقامة الدليل عليها، فلم يصح القياس بعلة مدعاة لا دليل عليها.
والجواب: أنا لا نقيس إلا بعد ثبوت علة الأصل، وإنما نبين فيما بعد ثبوتها، والأمارة الدالة عليها، إن شاء الله تعالى.
واحتج: بأن علة الأصل إذا ثبتت لا يجب أن يتعدى الحكم إلى كل موضع توجد فيه علة الأصل، ولهذا إذا قال رجل: اعتقت عبدي؛ لأنه أسود، لا
__________
(1) بياض في الأصل يقدر بكلمتين.

(4/1318)


يوجب ذلك أن يعتق كل عبد له أسود.
والجواب: أن العلة إذا ثبتت وجب الحكم بها في كل موضع وجدت؛ لأنها أمارة على الحكم، وإذا وجدت الأمارة والدلالة وجب الحكم بها.
وأما قول الرجل: أعتقت عبدي؛ لأنه أسود، فإنه لا يعتق سائر عبيده السودان؛ لأن المناقضة جائزة عليه، وليس كذلك صاحب الشريعة، فإنه لا يجوز التناقض في قوله، فوجب طرد تعليله.
واحتج: بأن القصد بالقياس طلب الحكم فيما لا نص فيه ولا توقيف، فليس عندنا حكم إلا وقد تناوله نص وتوقيف، فلم يكن للقياس معنى.
والجواب: أنا نعلم أحكاماً كثيرة لا نص فيها، من ذلك:
جواز قتل الزنبور في الحِّل والحرم، وليس فيه نص، وإنما قيس على العقرب.
وإذا تعمد ترك الصلاة يجب قضاؤها، وليس في ذلك نص، وإنما قيس على من نسيَها أو نام عنها (1).
__________
(1) وجوب القضاء هنا إما بالأمر الأول وإما بأمر جديد.
وقد اختار المؤلف (1/293) أن القضاء يكون بالأمر الأول، ومعنى هذا:
أنه ليس في حاجة إلى القياس.
والذي تميل إليه النفس: أن القضاء لا يجب إلا بأمر جديد، وليس هناك أمر جديد بوجوب القضاء على من ترك الصلاة عمداً، فاضطر القائلون بالقضاء للقياس على من نام أو نسيَ الصلاة، فقد ورد النص في ذلك: (من نام عن صلاة أو نسيَها فليصلِها إذا ذكرها)، وقد سبق تخريجه (1/297).
إلا أن القياس -في رأيي- غير صحيح؛ لأن النص وارد فيمن تركها لعذر، وهذا قد ترك الصلاة عمداً.
ولذلك يرى بعض العلماء أن القضاء إنما وجب عليه بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فدينُ الله أحق بالقضاء).
وذهب جمع من المحققين إلى أن من ترك الصلاة عمداً لا يقضي، وإنما عليه التوبة، =

(4/1319)


وإذا ماتت فأرة في غير السَّمن (1).
وإذا ماتت سنور في السَّمن (2) وما أشبه ذلك كثير.
ومن المسائل الغامضة فأكثر من أن تحصى.
وجواب آخر: وهو: أنه ليس من شرط القياس أن يكون النص معدوماً، وإنما شرطه أن لا يكون مخالفاً للنص، فإذا لم يكن مخالفاً للنص صح القياس، مع وجود النص، ومع عدمه.
واحتج: بأن حكم الفرع لا يخلو أن يوجد من الاسم والمعنى، أو من الاسم دون المعنى، أو من المعنى [201/ب] دون الاسم.
فإن أخذ من الاسم والمعنى، فقد أخذ بالنص بلا قياس.
وكذلك إن أخذ من الاسم، ثبت نصاً، ولا يجوز أن يكون متعلقاً بالمعنى؛ لأن هذا كان موجوداً فيه ولا حكم، وهو قبل معرفة أحكام الشريعة، فلم يبق إلا أن يكون باطلاً.
والجواب: أن الاعتبار بالاشتراك في المعنى، إلا أنه يجوز القياس عند الأمر به، وقبل ورود الشرع لم يكن هناك أمر بالقياس، فلذلك امتنع القول به.
واحتج: بأن القياس: حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من الشبه، وما من شىء يشبه شيئاً من وجه إلا ويفارقه من وجه آخر، كموضع الافتراق.
والجواب: أن القياس إنما يجب عند اجتماعهم في معنى الحكم واشتراكهما فيه. والافتراق الذي يذكرونه هو افتراق في غير معنى الحكم، لا يؤثر في جواز
__________
= وبخاصة عند من حكم بكفره. والله أعلم.
انظر: مذكرة أصول الفقه للشيخ الشنقيطي ص (197).
(1) والنص وارد في الفأرة في السَّمن.
(2) والنص وارد في الفأرة في السمن.

(4/1320)


الجمع، ولو أنهما افترقا في معنى الحكم لامتنع القياس.
واحتج: بأن القياس حمل الشيء على غيره في بعض أحكامه بضرب من الشبه، وليس يخلو:
إما أن يعلموا ذلك بالنص أو بالقياس.
فإن قلتموه نصاً، صار حكم الفرع منصوصاً عليه.
وإن قلتموه قياساً، فقد أثبتم قياساً بقياس.
والجواب: أن هذا يلزمهم في نفي القول بالقياس؛ فإنه لا نص لهم دال عليه، ولا يجوز أن يقولوا ذلك قياساً.
على أننا علمنا وجوب ذلك بالأصول التي دلت عليه من الكتاب والإِجماع، حسب ما بَينَّا.
واحتج: بأنه لا يخلو: إما أن يكون المعنى المستنبط مماثلاً له، أو أنقص منه، أو أزيد.
ولا يجوز أن يكون مثله؛ لأن ذلك يوجب تساويهما، ولا يكون في القياس فائدة.
وباطل أن يكون أنقص؛ لأنه يفضي إلى تخصيص الأصل وإسقاط بعض حكمه.
وباطل أن يكون أعم؛ لأن المدلول لا يكون أعم من الدليل.
فإذا بطلت هذه الأقسام، بطل القياس.
والجواب: أن الأقسام الثلاثة كلها جائزة في القياس، ولا يفضي إلى ما ذكروه، فإنه قد يكون المعنى مماثلاً للفظ، كقوله في الرضاع: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وتكون فائدة القياس معرفة معنى النص، والفرق بينه وبين المنصوص الذي لا يعرف معناه.
وقد يكون المعنى أخص من اللفظ، مثل قوله: (وَالسَّارِق وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ

(4/1321)


أيدِيَهُمَا) (1) والمعنى فيه: أن يسرق نصاباً من حِرْز مثله، لا شبهة له فيه.
ولا يكون هذا تخصيص اللفظ ؛ لأنا لا نخصه بهذا القياس، فإنه مماثل في حكمه، وإنما نخصه بلفظ آخر.
وقد يكون [202/أ] المعنى أعم من اللفظ، مثل المعنى المستنبط في مثل خبر عبادة بن الصامت في علة الربا (2)، فإن الأصل البُر، وحكمه مقصور عليه لفظاً، وفزعه أعم من لفظه، فإن معناه مكيل، فاكتفى به كل مكيل لأنا عقلنا الحكم بمعناه، ومعناه أعم من لفظه.
وقد يكون المدلول أعم من الدليل، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: (أينقصُ الرطبُ إذا يَبِس؟ قالوا: نعم، فنهى عنه).
وهذه العلة موجودة في سائر ما ينقص من الرطب وغيره.
واحتج: بأن تجويز القياس يفضي إلى أن يكون الشيء فرعاً لأصل، ويكون أصلاً لغيره، فإنه قد يقاس غيره عليه.
والجواب: أن هذا غير ممتنع، وهو موجود في المشاهدة، فإن النخلة (3) قد تكون فرعاً لنخلة أخرى وأصلاً لغيرها، والمكيال قد يكون فرعاً لمكيال وأصلاً لمكيال.
وهذا في العقليات، وفي الشرعيات يجوز أن يكون الشيء أصلاً لغيره في حكمه، وفرعا لغيره في حكم آخر، فأما في حكم واحد فلا يتصور.
__________
(1) آية (38) من سورة المائدة.
(2) أخرج هذا الخبر مسلم في صحيحه (3/1210) بلفظ: (.... إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءً بسواء، عيناً بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى...).
(3) في الأصل: (النخل).

(4/1322)


واحتج: بأن العلل الشرعية لو كانت دالة (1) على الحكم وموجبة له لكانت تطرد وتنعكس، فلا توجد إلا والحكم موجود معها، ولا يوجد حكمها إلا عند وجودها، كالعلل العقلية.
والجواب: أن هذه العلل ليست عللاً في الحقيقة، ولا موجبة الأحكام، وإنما هي أمارات وعلامات نصبها الله تعالى لهذه الأحكام أدلة عليها، فهي تجري مجرى الأساس، فتدل على الحكم في الموضع الذي نُصب دون غيره.
وجواب آخر، وهو: أنه لا يمتنع أن تكون بهذه الصفة، وإن لم تطَّرد وتنعكس، لأن العلل العقلية على ضربين: تطرد وتنعكس، كالحركة في التحرك، وعلة لا تنعكس، وإنما يوجد الحكم عند وجودها فحسب، كقول الرجل: اضرب [من]، في الحبس، واضرب من هو خارج من الحبس، وإذا كان الرجل في الحبس ضرب لكونه في الحبس، وإذا كان خارجاً ضرب لكونه خارجاً.
وكذلك الجواب عن قولهم: لو كانت علة في الحقيقة لما اختصت بزمان دون زمان، كالعلة العقلية، يتعلق الحكم بها قبل الشرع وبعده، وذلك أنا نقول: ليست بعلة في الحقيقة موجبة للأحكام، وإنما هي أمارة عليها (2) كالأسماء.
ثم نقول: لا فرق بينهما، وذلك أن سبب تلك العلل العقل، والعقل لا يختص بزمان دون زمان، بل هو عام في جميع الزمان، فكان علته أيضاً عامة فيها.
والعلة الشرعية سببها الشرع، والشرع يختص ببعض الأزمنة دون بعض.
واحتج: [202/ب] بأنه لو كان دليلاً على بعض الأحكام لكان دليلاً في جميعها.
__________
(1) في الأصل: (دلالة).
(2) في الأصل: (عليه).

(4/1323)


والجواب: أن القياس يحتاج إلى شرائط، وليس توجد تلك الشرائط في سائر الأحكام حتى يصح استعمال القياس فيها، على أن الأحكام قد تختلف في أدلتها، فيكون الشيء دليلاً في بعضها دون بعض، كخبر الواحد، يدل على ثبوت الأحكام في الفروع ولا يدل على إثبات الأصول (1).
واحتج: بأن أهل اللغة لايستعملون القياس في كلامهم، فإن القائل لو قال لوكيله: اشتر لي سَلَنْجَبِيناً فإنه يصلح للصفراء، لم يصلح أن يشتري له رمَّاناً، وإن كان يصلح للصفراء.
والجواب: أن السلَنْجَبِين يختص بمعانٍ لا توجد في الرمان، فلذلك لم يجز أن يشتريه.
وقد ورد عن أهل اللغة ما يوجب القول بالقياس، فإن رجلاً لو كان له ابنان، فضرب أحدهما، فقيل له: لم ضربته؟ قال: لأنه ضرب أمه. وكان الآخر قد ضرب أمه، فإن يصلح أن يَرِد عليه، فنقول: والآخر ضرب أمه أيضاً، فلم لم تضربه؟!.
وكذا لو قال: لا تعط فلاناً إبرة لكي لا يعتدي بها، فلا يصلح أن يعطَه سكيناً؛ لأن معناهما واحد، فثبت أنهم يقولون بالقياس، ويعملون عليه.
على أنا نقول بالقياس في المواضع التي دل الدليل الشرعي عليه وكلفنا إياه وفي تلك المواضع لم يدل الدليل الشرعي عليه، فلم يجب القول به.
__________
(1) وذلك لأنه ظني، والأصول لا تثبت بالظن.
هذا رأي فريق من الأصوليين.
والذى يبدو لي أن خبر الواحد إذا ثبتت صحته سنداً، واستقام أمره متناً أنه تثبت به الأحكام في الفروع والأصول، وبخاصة ما تلقته الأمة بالقبول كأحاديث الصحيحين. والله أعلم.

(4/1324)


فصل
[أقسام القياس]
وإذا ثبت الأصل في القياس، فالكلام في أقسامه (1).
وجملته: أن القياس على ضربين:
واضح، وخفي.
فالواضح: ما وُجد معنى الأصل في الفرع بكماله (2)، كعلة الربا، نصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الربا في البُر، فحملنا الأرز عليه؛ لأن فيه معنى البُر (3) من الكيل والجنس.
وقد استعمل أحمد -رحمه الله- هذا القياس في رواية ابن القاسم فقال: "لايجوز الحديد والرصاص متفاضلاً، قياساً على الذهب والفضة" (4).
والثاني: القياس الخفي: وهو قياس غلبة الشبه (5)، وصورته: أن يتجاذب الحادثةَ أصلان، حاظر ومبيح، ولكل واحد من الأصلين أوصاف خمسة،
__________
(1) راجع هذا الفصل في: روضة الناظر مع شرحها (2/254) والمسودة ص (374) والمعتمد (2/842) فقد أفاد المؤلف منه.
(2) وقد سماه أبو الحسين في كتابه المعتمد (2/843) : قياس المعنى، وعرَّفه بقوله: (أن يكون شبهُ فرعه بأصله لا يعارضه شَبه آخر). وهو معنى ما قاله المؤلف.
(3) هذا إشارة إلى حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وقد سبق تخريجه بلفظ: (الذهب بالذهب..) الحديث.
وقد ورد ذلك من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - وقد مضى تخريجه بلفظ: (ينهى عن بيع الذهب بالذهب..) الحديث.
(4) قد مضى الكلام على مقتضى هذه الرواية ص (1281)
(5) وقد عرفه أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد (2/843) بقوله: (أن يكون الشبه أقوى من شَبه آخر، فهو أولى بأن يتعلق الحكم به لقوة أمارته).

(4/1325)


والحادثة لا تجمع أوصاف واحد منهما، غير أنها بأحد الأصلين أكثر شبهاً، مثل أن كانت بالإباحة أشبه بأربعة أوصاف، وبالحظر بثلاثة أوصاف، ففي هذا روايتان:
إحداهما: ليس هذا بقياس أصلاً، والقياس ما وُجد في الفرع أوصاف الأصل بكمالها، فإذا وجد بعضها في الفرع، لم يكن قياساً.
نص عليه أحمد - رضي الله عنه - في رواية أحمد بن الحسين بن حسان فقال: "القياس أن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، [203/أ] فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال، فأردتَ أن تقيس عليه، فهذا خطأ، قد خالفه في بعض أحواله ووافقه في بعض، فإذا كان مثله في كل أحواله فأقبلتَ به وأدبرتَ به، فليس في نفسي منه شيء" (1).
والرواية الثانية: أنه قياس صحيح، وتلحق الحادثة بأكثرهما، ولا يؤخَر (2) حكمها.
وقد نبه أحمد -رحمه الله- على هذا في رواية حرب في يهودي قذَف يهودية يتلاعنا؟
قال: "ليس لهذا وجه؛ لأنه ليس عدلاً، واللِّعان إنما هو شهادة، وليس بعدل فتجوز شهادته". كأنه لم ير بينهما اللِّعان (3).
__________
(1) هذه الرواية موجودة بنصها في: التمهيد (4/5).
(2) في الأصل: (لوحد) بدون إعجام لكلا الحرفين.
(3) هذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد -رحمه الله- واختارها الخِرَقي.
والرواية الثانية: أن اللِّعان يمين، وهو المذهب. وقدمه في الرعايتين. واختاره ابن قدامة في المغني وانتصر له. وهو الراجح إن شاء الله.
انظر: المغني (7/392)، والكافي (3/277) والمقنع (3/256)، والروض المربع (3/200) والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف.. (9/239).

(4/1326)


فقد قاس اللِّعان على الشهادة في امتناعه من الكافر، مع قلة شَبَهِه بالشهادة وكثرة (1) شَبَهِه بالأيمان.
فدلَّ هذا من قوله على جوازه مع كثرة الشَّبه.
وقد نقل ابن منصور عنه الفرق بينهما فقال: "لو كان معناه معنى الشهادة، فقذفها وهو فاسق، لم يلاعن. ولو كان معناه معنى اليمين (2) لكان يشهد هو، وتشهد هي".
فإن قلنا: إنه ليس بقياس صحيح. وقد حُكي ذلك عن أصحاب أبي حنيفة (3).
فوجهه: أنه إذا كانت علة الأصل ذات أوصاف ثلاثة، وعلة (4) الفرع ذات وصفين، لم يوجد في الفرع معنى الأصل بكماله، فلا يكون علة.
ولو كان الوصفان علة لكان الحكم يتعلق بها، فلما لم يكن علة ثبت أنه لا يجوز تعليق الحكم بها.
وإذا قلنا: إنه قياس صحيح، وهو قول أصحاب الشافعي (5)، فوجهه: ان الحادثة لا بدَّ لها من حكم، فإذا لم يدل على حكمها كتاب ولا سنة ولا
__________
(1) في الأصل: (ذكر).
(2) في الأصل: (الشهادة).
(3) انظر: تيسير التحرير (4/53) ومسلم الثبوت (2/301).
(4) في الأصل: (وعدد).
(5) وهو ما صرح به الإِمام الشافعي في الرسالة ص (479) حيث قال: (والقياس من وجهين: أحدهما: أن يكون الشيء في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه.
وأن يكون الشيء له في الأصول أشباه، فيلحق بأولاها به وأكثرها شبهاً فيه، وقد يختلف القائسون في هذا).
وانظر: البرهان (2/868) والمعتمد (2/842) والمحصول (5/277) والمستصفى (2/310) والإحكام للآمدي (3/271).

(4/1327)


إجماع وجب الاجتهاد في طلب حكمها بالقياس على الأصول، فإذا لم يكن لها شبه إلا بهذين الأصلين، انقطع حكمها عن سواها، ولم يجز أن يعلق حكم الأصلين معاً بها؛ لأنها متناقضة. فلم يكن بُد من إلحاقها بأحدهما، فكان إلحاقها (1) بالأشبه أولى؛ لأنها به أشبه، فغلبنا حكم الأكثر؛ لأن الأصول على هذا، قال الله تعالى: (فَأما مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ في عِيشَةٍ راضِيَةٍ، وَأما مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأمهُ هَاوِيَةٌ) (2) فغلَّب الأكثر.
وكذلك قلنا في الماء المطلق، إذا خالطه مائع طاهر، كالورد، ونحوه: إن كان الغالب الماء، فالحكم له، وإن كان الغالب الورد، فالحكم له.
وكذلك قلنا في الشهادات: إن كان الغالب الطاعات، فهو عدل مقبول الشهادة، وإن كان الأغلب المعاصي، فهو فاسق مردود الشهادة.
وقد قال أحمد - رضي الله عنه - في رواية أحمد بن أبي عبدة في الرجل يكذب: "إن كثُر كذبُه لم يُصل خلفه" (3).
فأما قولهم: إذا لم يوجد في الفرع أوصاف الأصل بكماله، فليس هناك [علة].
والجواب: أنه كذلك، ولكن ألحقنا حكم الحادثة بهذا الأصل، من حيث إنه به أشبه.
فأما أن نقول [203/ب]: الوصفان في (4) الفرع علة، فلا نقول هذا.
فإن قيل: فيحكم في الحادثة بغير دليل؟
قيل: يحكم بغير قياس، ولكن بأنه أشبه بهذا الأصل من سائر الأصول.
إذا تقرر هذا، وأن قياس غلبة الشَّبَه حجة، فهو على ضربين:
__________
(1) في الأصل (الحاقه).
(2) الآيات (6-9) من سورة القارعة.
(3) قد سبق ذكر هذه الرواية وترجمة ناقلها (3/927).
(4) في الأصل: (من).

(4/1328)


أحدهما: أن يكون الشبه بالأوصاف.
والثاني: بالأحكام (1).
فالأوصاف: أن يتجاذبها أصلان، حاظر ومبيح، فالحاظر أسود، والمبيح أبيض، والحادث سواد وبياض فنعتبره بهما، فبأيهما أشبه ألحقناه.
وأما الشبه بالأحكام: كالعبد أخذ شبهاً من الأحرار، لأنه مخاطب مكلف، وأخذ شبهاً من الأموال؛ لأنه يُباع ويُورث، فننظر بأيهما أكثر شبهاً نلحقه به.
فصل
[قياس الأصول]
فأما قياس الأصول: فأن تكون الحادثة لها أصل في الحظر، وأصول في الإباحة، فكان ردها إلى أصول كثيرة، أولى من ردها إلى أصل واحد (2).
مثال ذلك: إذا أبان زوجته بطلقة، فتزوجت من أصابها وطلقها، ثم تزوجها الأول، عادت معه على ما بقي معه من الطلاق (3).
__________
(1) هذا ذهاب من المؤلف إلى أن قياس غلبة الشبه حجة بضريبه، الشبه بالأوصاف والشبه بالأحكام.
والقول بالشبه في الأحكام قال به الإِمام الشافعي.
انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري (2/843).
(2) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/231) وشرح الكوكب المنير ص (7/724) والمسوَّدة ص (376) والمعتمد (2/851).
(3) في مسائل ابن هاني النيسابوري التي نقلها عن الإمام أحمد (1/236) :
(قلت: تذهب إلى حديث عمر: هي على ما بقيت عنده، في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين فتتزوج. قلت لأبى عبد الله: ألها أن تتزوج؟
قال: نعم، إذا انقضت عدتها، قال عمر بن الخطاب: هي على ما بقى). =

(4/1329)


خلافاً (1) لأبى حنيفة في قوله: دخول الثاني يعدم ما بقي من الطلاق (2)، وذهبوا إلى أنها رجعت إليه بعد زوج وإصابة، أشبه المطلقة ثلاثاً، فقاسه على أصل واحد، وقسناه على ثلاثة أصول، فقلنا: إصابة ليست بشرط في الاباحة، أشبه وطء السيد أمته، والوطء في النكاح الفاسد، ووطء زوج ثالث.
[قياس الجنس]
وأما قياس الجنس فهو أولى (3)، مثل أن تكون الحادثة من الطهارة، فكان
__________
= وذكر ابن قدامة في المغني (7/261) روايتين:
الأولى: ترجع إليه على ما بقي من طلاقها، كما ذكر المؤلف. ونسبه ابن قدامة إلى أكابر الصحابة.
الثانية: أنها ترجع إليه على طلاق ثلاث، كما ذكر الحنفية. ونسبه ابن قدامة إلى بعض الصحابة.
وذهب ابن قدامة إلى الرواية الأولى، وانتصر لها.
وذكر ابن قدامة الروايتين في كتابه: الكافي (3/237) ولم يرجح إحداهما، غير أنه بدأ بذكر الرواية الأولى.
وقد جزم المرداوى في كتابه: الإنصاف (9/159) : أن الرواية الأولى هي المذهب وعليها الأصحاب، وجزم بها في الوجيز...
ثم ذكر الرواية الثانية، وذكر أنها من نقل حنبل.
قلت: وعلى هذا ففي المسألة الفقهية روايتان، فيكون في المسألة الأصولية روايتان، إلا أن الرواية الأولى هي المذهب في المسألتين، وهو ما اختاره المؤلف.
(1) في الأصل (خلا).
وانظر تفصيل هذا في كتاب أصول السرخسي (2/264) ومسلم الثبوت مع فواتح الرحموت (2/329).
(2) هذا حقيقة مذهب الحنفية أصولاً وفروعاً، وراجع في هذه المسألة كتاب البناية في شرح الهداية للعيني (4/ 616).
(3) انظر: المسودة ص (376).

(4/1330)


ردها إلى الطهارة، أولى من ردها إلى الصلاة.
أو تكون من الصلاة، ويمكن ردها إلى الزكاة وإلى الصلاة، فكان ردها إلى الصلاة أولى؛ لأنها من جنسها.
فصل
[تقديم العلة لقلة أوصافها]
فإن تقابلت علتان (1)، إحداهما ذات وصفين والأخرى ذات ثلاثة أوصاف، لم يخلُ إما أن تكونا (2) من أصل واحد، أو من أصلين.
فإن كان أصلهما واحداً، كعلة الربا، الفرع الأرز، والأصل البُر، فعلتنا: مثل، مكيل، جنس (3).
وعلة مالك: مطعوم، مقتات، جنس (4).
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/235) والواضح (2/853) و(3/1239) والمسودة ص (379).
(2) في الأصل: (يكون).
(3) ذكر المؤلف في كتابه: الروايتين والوجهين (1/316-317) ثلاث روايات:
إحداها: مطعوم جنس.
والثانية: العلة ذات وصفين: مكيل جنس، أو موزون جنس.
والثالثة: العلة: ما يكال أو يوزن مما يؤكل.
وقد ذكر ابن قدامة في كتابه المغني (414) هذه الروايات الثلاث، منقولة من كتاب الروايتين والوجهين، مع تفصيل للأقوال الأخرى. فارجع إليه إن شئت.
وعلى هذا فما ذكره المؤلف هنا رواية في المذهب، ولعلها الرواية التي اختارها المؤلف وهي الرواية المقدمة في المذهب الحنبلي.
انظر: الروض المربع بحاشية الشيخ العنقري (2/107).
(4) هذا رأي المالكية بإضافة وصف آخر، وهو: الادخار.
انظر: كتاب الكافي لابن عبد البَر (2/646)، والشرح الصغير على أقرب المسالك (3/73).

(4/1331)


وعلة الشافعي في القديم: مطعوم، مكيل، جنس (1).
فالتي قلَّت أوصافها أولى من وجهين:
أحدهما: أن التي قلت أوصافها أكثر فروعاً، والتي كثرت أوصافها أقل فروعاً، فكان ما كثُرت فروعها (2) أولى.
ولأن التي قلَّت أوصافها يسهل الاجتهاد فيها ويقرُب، والتي كثرت أوصافها يصعب الاجتهاد فيها ويبعد.
فكانت الأقل أوصافاً أولى.
هذا إذا كانت العلتان من أصل واحد.
فأما إن كانتا (3) من [204/أ] أصلين، أحدهما يدل على الحظر، والآخر يدل على الإِباحة.
وكانت علة أحد الأصلين ذات أوصاف خمسة، وعلة الأصل الآخر ذات أوصاف أربعة، وكانت [في] كل واحد من الأصلين بكمالها موجودة في الفرع، كان رده إلى ما كثرت الأوصاف فيه أولى؛ لأنه به أشبه.
فها هنا هما علتان، إلا أن التي هي بأحد الأصلين أكثر أوصافاً أولى.
ويفارق هذا قياس غلبة الشَبّهَ؛ لأنه (4) ليس بقياس صحيح على إحدى الروايتين (5)؛ لأن معنى الأصل غير موجود بكماله في الفرع، فلهذا لم يكن علة.
__________
(1) العلة عند الإِمام الشافعي في القديم: الطعم مع الكيل أو الطعم مع الوزن.
أما في الجديد -وهو القول الأصح عند الشافعية- فهي الطعم.
انظر: المهذب مع شرحه المجموع (9/395-396).
(2) في الأصل (فروعه).
(3) في الأصل: (كانا).
(4) في الأصل: (أنه).
(5) سبق الكلام على قياس الشبه ص (1325).

(4/1332)


وها هنا أوصاف الأصل بكماله موجودة في الفرع، فلهذا كان علة.
فإذاً هذا القياس استوفى أوصاف أصله.
وقياس غلبة الشَّبَه ما استوفى أوصاف أصله.
مسألة
[دلالة مفهوم الموافقة]
فأما الحكم الثابت من طريق التنبيه فلا يسمى قياساً (1)، وإنما هو مفهوم
__________
= هذه مسألة عقدها المؤلف للكلام عن دلالة مفهوم الموافقة هل هي لغوية أو قياسية؟ والخلاف فيها مشهور ومعروف.
وقد اختار المؤلف أن دلالته لغوية، وهو الحق إن شاء الله، وذلك لقوة أدلته التي أورد المؤلف بعضاً منها.
ولمفهوم الموافقة تعريفات كثيرة، منها ما ذكره إمام الحرمين في كتابه البرهان (1/449)، حيث قال: (هو ما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه موافق للحكم في المنطوق به من جهة الأوْلى)، وهو تعريف مرض، إلا أن قوله (من جهة الأوْلى) يفيد اشتراط الأولوية في المفهوم الموافق، بمعنى: أن يكون المسكوت عنه أوْلى بالحكم من المنطوق به، كما مثل المؤلف بقوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لهُمَا أف) فإن المنطوق به: تحريم التأفيف، والمسكوت عنه: تحريم الضرب ونحوه، ولاشك أن الضرب أوْلى بالتحريم من التأفيف.
وقد اختلف الأصوليون فيما لو كان المسكوت عنه مساوياًَ للمنطوق به في الحكم، هل يعد مفهوم موافقة أو لا؟ مثل قوله تعالى: (إنَ الَّذِينَ يَأكلُونَ أموَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إنَّمَا يَأكُلُونَ في بُطونِهِمْ ناراً وَسيَصْلَوْنَ سَعِيراً).
فلو احرق مالُ اليتيم فإن ذلك مساوٍ للأكل في ضياع ماله.
وهو ما يشعر به كلام المؤلف عندما مثل بتنصيف حد العبد الزاني؛ لأن الله تعالى =

(4/1333)


الخطاب وفحواه، نحو قوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لهُمَا أفّ) (1) إن الضرب ونحوه من الإضرار بالوالدين ممنوع [منه] بمعنى اللفظ.
وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (أربع لا تجوز في الضحايا، العوراءُ البَين عَوَرُها، والعرجاءُ البَيِّنُ عَرَجُها...) (2) فلما نصَّ على العوراء، كانت العمياء مثلها في المعنى لمعنى اللفظ.
__________
= نص على ذلك في حد الأمة، والعبد مثلها، وليس بأولى منها.
انظر: تيسير التحرير (1/94) والمستصفى (1/190).
(1) سورة الإسراء آية (23) والآية في الأصل: (ولا...) والمثبت من المصحف.
هذا الحديث رواه البَرَاء بن عازب - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الضحايا، باب: ما يكره من الضحايا (2/87) ولفظه: (أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء بيِّن عورُها، والمريضة بين مرضُها، والعرجاء بيِّن عرجُها، والكَسِير التي لا تنقي).
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأضاحي، باب: ما لا يجوز من الأضاحي (4/85).
وقال: (حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث فَيْروز عن البَراء. والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم).
وأخرجه عنه النسائى في كتاب الضحايا، باب ما نهي عنه من الأضاحى: العوراء (7/188).
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأضاحي، باب ما يكره أن يضحَّى به (2/1050).
وأخرجه الدارمى في كتاب الأضاحي، باب ما لا يجوز في الأضاحي (2/4).
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/284، 289، 300، 301).
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الضحايا باب ما ينهى عنه من الضحايا ص (298). =

(4/1334)


وكذلك لما نصَّ على العرجاء، كانت المقطوعة الأربع في معناها وزيادة من طريق اللفظ.
وكذلك قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) (1) ونص في الإِماء على النصف (2)، كان العبد مثلها على النصف من طريق اللفظ لوجود المعنى (3).
وكذلك قوله عليه السلام، (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان)، كان الجوع والعطش ونحوهما في معناه بمعنى اللفظ لوجود معناه، وهو [ما] يغير خُلُقَه وفهمَه.
وكذلك قوله -في الفأرة تقع في السَّمن-: (إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فأريقوه).
فكانت العصفورة في معنى الفأرة، والشحم الجامد في معنى السمن الجامد،
__________
= وأخرجه الطحاوي في كتاب شرح معاني الآثار في كتاب الصيد والذبائح والأضاحي، باب العيوب التي لا يجوز الهدايا والضحايا إذا كانت بها (4/68).
وأخرجه أبو داود الطيالسي في كتاب الهدايا والضحايا، أبواب الأضحية (1/229) بترتيب الساعاتي.
وابن الجارود في المنتقى باب ما جاء في الضحايا ص (304) حديث (907) والحديث صحيح.
وانظر: إرواء الغليل (4/360) وتخرج أحاديث اللُمع في أصول الفقه للغُماري ص (284).
(1) سورة النور آية (2) في الأصل: (والزانِيةُ) بزيادة الواو، وهو خطأ.
(2) إشارة إلى قوله تعالى (فَإِذَا أحْصِن فَإِنْ أتيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْف مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) (25) النساء.
(3) في الأصل (البعض).

(4/1335)


والشحم الذائب كالسَّمن الذائب، وكذلك الزيت والشَّيْرَج (1).
وكذلك قوله تعالى: (مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ) (2).
وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (كنتُ نهيتُكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدَّافة، ألا فادَّخروا ما بدا لكم).
كل هذا من معنى اللفظ.
وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية [أحمد بن] الحسين بن حسان فقال: "إنَّما القياس أن يقيس الرجل على أصل، فأما أن يجيء إلى أصل فيهدمه فلا".
فحدَّ (3) القياس بما كان على أصل مستنبط.
وكذلك قال في رواية الميموني: "سألت الشافعي عن القياس فقال: عند الضرورة، وأعجبه ذلك" [204/ب].
ومعنى قوله: "عند الضرورة". إذا لم يجد دليلاً غيره من كتاب أو سنة، والاحتجاج بالتنبيه يجوز مع وجود دليل غيره.
وقال في رواية الميموني: "بر الوالدين واجب، ما لم يكن معصية، قال تعالى: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أف).
فاحتج على وجوب برهما بقوله: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أف) (4) فدل على أنه مستفاد من جهة اللفظ.
__________
(1) الشيرج على وزن زينب، معرب، وهو: دهن السِّمْسِمْ.
انظر: المصباح المنير. مادة (شَرَج).
(2) آية (32) من سورة المائدة.
(3) في الأصل (حد) بدون إعجام.
انظر: التمهيد (4/5).
اية (23) من سورة الإسراء، والآية في الموضحين: (ولا) وهو خطأ.

(4/1336)


وهو قول أصحاب أبي حنيفة (1).
وقال أصحاب الشافعي: ذلك مستفاد من جهة القياس، لكنه قياس جلي لا يحتاج إلى فكر وتأمل (2).
وهو اختيار أبي الحسن الجزري من أصحابنا. ذكره في جزء فيه مسائل
__________
(1) هذا العزو ليس محرراً، فإن أصحاب الإِمام أبي حنيفة مختلفون في هذه المسألة، فبعضهم قال: بأنه مفهوم من دلالة النص، وبعضهم قال: إنه مستفاد من جهة القياس، وسموه قياساً جلياً.
انظر: ميزان الأصول للسمرقندي ص (398) وكشف الأسرار (1/73) وأصول السرخسي (241) وأصول الشاشي ص (104).
(2) هذا رأي الإِمام الشافعي كما في الرسالة ص (513)، وهو ما نقل عنه في جمع الجوامع (1/242). وقد اختاره إمام الحرمين في البرهان (م/786)، حيث قال: (... وهذه مسألة لفظيه، ليس وراءها فائدة معنوية، ولكن الأمر إذا رد إلى حكم اللفظ فعدُّ ذلك من القياس أمثل، من جهة أن النص غير مشعر به من طريق وضع اللغة وموجب اللسان).
ولكن هناك رأياً ثانياً لبعض الشافعية، وهو: أن دلالته لفظية، ولهم في تفسير ذلك اتجاهان:
الأول: أنها فهمت من ناحية اللغة، وهذا ما نسبه الشيرازي في التبصرة ص (227) إلى بعض الشافعية، ولم يفصل.
الثاني: أنها فهمت من السياق والقرائن، وهو قول الغزالي في المستصفى (2/190) والآمدي في الإحكام (3/63).
وبناءً على ما تقدم يكون عزو المؤلف عن أصحاب الشافعي أنهم يقولون بأنه مستفاد من جهة القياس ليس محرراً، فإن ذلك قول إمامهم وبعض أصحابه، إلا أن يكون القول الثاني لم يقل به أحد من الشافعية حتى انقضى زمن المؤلف، فيتجِه.
والله أعلم.

(4/1337)


الأصول، في موضعين منه، فقال: مفهوم النص هو القياس (1).
دليلنا:
أن القياس ما يختص بفهمه أهل النظر والاستدلال، فيفتقرون في إثبات الحكم به إلى ضرب من النظر والاستدلال والتأمل بحال الفرع والأصل.
فأما ما دل عليه فحوى الخطاب الذي ذكرناه، فإنه يستوي فيه العالم والعامي العاقل (2) الذي لم يَدْرِ ما القياس، فكيف يجوز إجراءُ اسم القياس عليه؟!.
وأيضاً: فإن أهل اللغة لا يختلفون أن من نهي عن التأفيف لوالديه، عقل منه تحريم الشتم والضرب، كما أن من أمر بتعظيم زيد، عقل منه ترك الاستخفاف به.
وكما أن من وُصِف (3) بالعجز عن حمل شىء يسير، عقل منه عجزه عن حمله ما هو فوقه. ومن، حمل نفسه على دفع ذلك لم يكن في حد من يُناظَر.
وإذا كان هذا من اللفظ لم يجز إطلاق اسم القياس عليه.
ولأن ذلك يضاف إلى الخطاب، فيقولون: مفهوم الخطاب وفحواه وتنبيهه يدل على ثبوته نطقاً.
ولأن ما ثبت باللفظ ليس من شرطه أن توجد صيغة اللفظ فيه، ألا ترى أنه لو قال: اقتلوا أهل الذمة لأنهم كوافر، جاز قتل عبدة الأوثان بهذا اللفظ، وإن لم يتناولهم اللفظ من طريق الصيغة، لكن من طريق العلة والشَّبه، فكذلك هاهنا.
__________
(1) النسبة عنه موجودة في الروضة (2/201) والقواعد والفوائد الأصولية ص (287).
(2) في الأصل: (العقل).
(3) في الأصل (صف) بإسقاط الواو.

(4/1338)


واحتج المخالف:
أن الحكم المستفاد بالنص ما كان ثابتاً بالاسم واللفظ، وقوله: (فَلاَ تَقل لَّهُمَا أف) إنما تناول لفظه المنع من التأفيف، فأما المنع من الضرب، فلم يتناوله اللفظ، ولا استفيد منه، وإنما استفيد من (1) الاسم بمعنى، وهو أنه لما منع من التأفيف لأجل الأذى، وكان الأذى موجوداً في الضرب وزيادة، منع منه، فثبت أنه مستفاد بالقياس لا باللفظ.
ويوضحه قول (2) النبي - صلى الله عليه وسلم - : (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان)، لا يفهم أنه لا يقضي بينهما في حال الجوع والعطش، فإذا لم يكن هذا مستفاداً من اللفظ ولا [205/أ] معقولاً منه ثبت أنه مستفاد من معناه ومقيس (3) عليه.
والجواب: أنه وإن لم يكن الضرب منصوصاً عليه، فقد بينّا أن اللفظ قد دل عليه، وأنه يقع في فهم السامع، كذلك تحريم الضرب والشتم، فثبت أن اللفظ دل عليه من مفهومه وفحواه.
وإذا كان كذلك، لم يصح تسميته قياساً؛ لأن القياس يقتضي معنى آخر، وهو أنه يختص بعلمه أهلُ النظر، ويحتاج إلى تأمل الأصل والفرع، وهذا لا يحتاج إليه هاهنا.
ولأنَّا قد بينَّا أن ما ثبت باللفظ، ليس من شرطه أن توجد صيغة اللفظ فيه، كقوله: اقتلوا أهل الذمة لكونهم كوافر، جاز قتل عبدة الأوثان وإن لم تتناولهم صيغة اللفظ.
__________
(1) في الأصل: (عن).
(2) كلمة (قول): مكررة في الأصل.
(3) في الأصل: (مقيساً) بالنصب، وحقه الرفع عطفاً على خبر (أن).

(4/1339)


مسألة
[التعليل بالاسم]
يجوز أن تجعل الأسماء عللاً للأحكام (1)، سواء في ذلك الأسماء المشتقة، كقولك: قائم، وقاعد، وشاتم، وضارب. وأسماء الألقاب كقولك: زيد، وعمرو، وحمار، وحائط، وماء، وتراب.
وقد نصَّ عليها أحمد -رحمه الله- فقال في رواية الميموني: "يجوز التوضؤ بماء الباقلاء والحمص؛ لأنه ماء، إنما أضفته إلى شىء لم يفسده" (2).
فقاس الماء المضاف على المطلق، وهو اسم علم ولقب.
وقال أيضاً في رواية الميموني في نصراني محصَن أسلم ثم زنا بعد إسلامه: "يرجم بذلك الإحصان، لأنه زانٍ، ارجمُه بإحصانه" (3).
فعلَّق الحكم بالزنا والإحصان، وهو اسم مشتق.
وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة، فيما حكاه الجرجاني (4).
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/41) والمسوَّدة ص (393) وشرح الكوكب المنير ص (4/42).
(2) هذه الرواية موجودة في: التمهيد (4/41)، وأشار إليها ابن قدامة في المغني (1/12) حيث ذكر الميموني من جملة من نقل عن الإمام أحمد جواز الوضوء بمثل ماء الباقلاء والحمص.
(3) نحو هذه الرواية روى إسحاق بن إبراهيم بن هاني النيسابوري في مسائله (2/91) عن الإِمام أحمد، ولفظه: (سألت أبا عبد الله عن رجل كانت له امرأة في دار الحرب، فخرج إلى دار الاسلام، فأسلم، فزنا، قال أبو عبد الله: دخل بها؟ قلت: نعم، قال: قد أحصَنتْه، عليه الرجم).
(4) كذا ذكره السمرقندى في كتابه الميزان ص (585) إلا أنه عقَّب عليه بقوله: (كذا قال بعضهم). ثم علق على المسألة بقوله: (ولكنا نقول: إن عني به أنه تعلق بعين =

(4/1340)


وأصحاب الشافعي فيما حكاه الإسفراييني (1).
وحُكي عن قوم أنه لا يصح أن يكون الاسم علة، لقباً كان أو مشتقاً (2)، وإنما تصح العلة إذا كانت صفة، مثل قولنا: شدة مطربة، ومطعوم جنس، وولادة، وتعصيب، وقرابة، وما أشبه ذلك.
أو تكون حكماً، مثل قولنا: [طهارة] (3) وكفارة، ونحو ذلك.
ومنهم من قال: يصح أن يكون الاسم المشتق علة، ولا يصح أن يكون اللَّقب علة (4).
دليلنا:
أن ما جاز أن يرد به الشرع نطقاً؛ جاز أن يكون مستنبطاً، كالصفة
__________
= الاسم [فـ] لا يصح؛ لأن الاسم يثبت بوضع أرباب اللغة، ولهم أن يسموا الخمر باسم آخر.
وإن عني به المعاني القائمة بالذات التي بها استحق هذا الاسم، وهو كون المائع النيء من ماء العنب، بعدما غلى واشتد وقذف بالزبد، فهذا مسلَم، ولكن حينئذ يكون هذا تعليق الحكم بالمعنى لا بالاسم).
وانظر: المعنى في أصول الفقه للخبَّازي ص (342).
(1) ذكر الشيرازى في التبصرة ص (454) أن للشافعية ثلاثة أقوال، ثالثها يجوز أن يجعل الاسم المشتق علة، ولا يجوز أن يجعل الاسم اللقب علة.
ومنه يتبين أن قول الإسفراييني فيما نقله عنه المؤلف من أن أصحاب الشافعي يقولون بالجواز ليس على إطلاقه.
وانظر: المحصول (5/422) وجمع الجوامع (2/234) ونهاية السول (4/254) والإبهاج (3/89).
(2) وبه قال بعض الشافعية كما في التبصرة للشيرازي الموضع السابق.
(3) زدنا هذه الكلمة بدليل حرف العطف في قوله: (وكفارة) وبدلِيل ما يأتي في نفس المسألة.
(4) وبه قال بعض الشافعية، كما في التبصرة الموضع السابق.

(4/1341)


والحكم، ولا خلاف أنه لا يمتنع أن يجعل صاحبُ الشريعة الاسم علةً على الحكم وأمارةً عليه، كما يجعل الصفة والحكم علة، فيقول: حرمتُ الخمر؛ لأنها مسماة خمراً.
وإن شئت قلت: ما جاز أن يكون منصوصاً عليه، جاز أن يكون مجتهداً فيه، إذ ما جاز إظهاره جاز إضماره، أو ما جاز إبداؤه جاز إخفاؤه، أو ما جاز إطلاعه جاز إبداعه.
وأيضاً: فإن ما دل على صحة العلة، فإنه يدل على أنه يصح أن يكون الاسم علة، وهو التأثير، وشهادة الأصول. وإذا دل على صحة ذلك، جاز أن يكون علة، كالصفة والحكم [205/ب].
ولأن علل الشرع علامات على الحكم، والأسامي علامات لتمييز الأعيان، بل الاسم قد يكون أدل على تعريفه من صفة من صفاته.
فإذا جاز تعلق الحكم بالصفة، جاز ذلك بالاسم أولى.
واحتج المخالف:
بأن الأسامى لا تكون عللاً في العقليات، كذلك في الشرعيات.
والجواب: أن علل العقل موجبة، والأسامي... (1) أن لا يطلق (2) عليه أهل اللغة فخرج الاسم عن أن يكون علة (3).
واحتج بأن الاسم سبق الحكم؛ لأن هذه الأسماء كانت موجودة قبل الحكم.
فلو قلنا: تكون علة للحكم، لسبقت العلةُ الحكمَ.
والجواب: أنه باطل بالصفة، فإنها سابقة للحكم؛ لأن الأشياء كانت مأكولة مكيلة قبل ثبوت الربا، ومع هذا فهي علل، وإنما لا يصح أن تتأخر
__________
(1) بياض في الأصل يقدر بكلمة.
(2) في الأصل: (ينطلق).
(3) الكلام فيه خلل واضطراب، ولم استطع تقويمه.

(4/1342)


العلة عن الحكم.
فإذا قال: لأنه مختلف في (1)، سبق الحكم العلة، فلا يصح.
فأما أن تسبق العلةُ الحكمَ، فلا يمتنع، وإنما لم يوجد الحكم بوجودها قبل الحكم، لأنها علل مجعولة، فلما جاز الحكم، وجعلت علة، ثبتت علة له.
واحتج: بأن العلة إنما تصح من أحد وجهين؛ إما بالسبر والاستنباط، كالمطعوم والمأكول، أو بأن ينبه صاحب الشرع عليها، كقوله: (أينقصُ الرطبُ إذا يَبس)؟ (وإنما فعلتُ ذلك لأجل الدَّافَة).
فأَما بالاسم فلا يصح؛ لأن حكم الاسم ثابت بالنص، ومعروف به.
فقوله: إنما حرمت البُر متفاضلاً، ثابت بالنص.
والجواب: أن الاسم الذي نقول إنه علة: ما ثبت بالسَّبْر والاستنباط والخبر، وأَثَّر، وشهدت له الأصول.
فإن قولنا: "بول الآدمي نجس" اختبرناه، فوجدناه يؤثر، فألحقنا به بول كل حيوان لا يؤكل لحمه.
ولو قلنا: "بول مالا يؤكل لحمه نجس"، لم يكن هذا علة؛ لأنه عرف حكمها بالنص.
وإنما الخلاف في الاسم المختبَر، الذي عرض على الأصول، فلم ترده.
ألا ترى أنه لو قال: "الخارج من السبيلين نجس"، كان باطلاً بالمني.
فإذا قال: بول، لم يبطل بشىء، وهو خارج من مخرج الحدث.
واحتج: بأن الاسم إذا كان مشتقاً، كان تحته معنى، فإن قوله: قاتل، معناه: أنه قَتَل، فإذا صح أن يعلق الحكم على معناه كذلك صح أن يعلق به.
ويفارق هذا إذا كان الاسم علماً ولقباً؛ لأنه لا يشتمل على معنى، فلهذا
__________
(1) في الأصل: (فيه).

(4/1343)


لم يكن علة.
والجواب: أنه كذلك، لكن الحكم ما علق بالمعنى الذي تضمنه، وإنما علق بنفس الاسم. فإذا صح تعليقه بالاسم الذي يتضمن معنى، فتكون العلة الاسم دون معناه، كذلك جاز [206/أ] أن يكون اللقب علة للحكم، وإن لم يكن متضمناً للمعنى.
فإذا تقرر هذا، فكل معنى من معاني الأصل، أو صفة، مثل قولنا:
شدة مطربة، وطعم في جنس (1)، وولادة، وتعصيب، وقرابة، وما أشبه ذلك.
أو حكماً شرعياً، مثل قولنا: طهارة، وكفارة، ومن وجب في ماله زكاة الفطر، وجبت زكاة المال، أو من وجب العشر في ماله، وجب نصف العشر، ومن صح طلاقه، صح ظهاره، وما أشبه ذلك.
ولا فرق بين أن يكون بلفظ الإثبات، مثل قولنا: طهارة من حدث، فوجب أن يكون في شرطها النية، وما افتقر بدلُه إلى النية، افتقر مبدلُه إلى النية، كالعتق في الكفارات، وفيه شدة مطربة، فكان حراماً كالخمر، ومن صح طلاقه صح ظهاره، وما أشبه ذلك.
أو كان بلفظ النفي، مثل قولنا: ليس بماء، ولا يقع عليه اسم الماء المطلق، فلا يجوز أن يتوضأ به، كسائر الأنبذة، وليس بتراب، ولا يقع عليه اسم التراب، فلا يجوز التيمم به، قياساً على الدريرة (2) والخَزَف المدقوق، والسِّدْر،
__________
(1) في الأصل: (حبس).
(2) هذه الكلمة بدون إعجام، ولعل ما أثبتناه هو الأقرب للصواب، ولعلها أيضاً: تراب المعدن.
انظر: المصباح مادة (درى).

(4/1344)


والخَطْمِيّ (1) والأشنان المطحون (2).
وقد نصَّ أحمد -رحمه الله- على هذا في رواية الميموني: "لا يتوضأ بماء الورد (3)، هذا ليس بماء، وإنما يخرج من الورد".
وقال في رواية الميموني: "السِّهْلاة والرماد ليس بصعيد، ويتيمم، ويصلي، ويعيد" (4).
فقد جعل النفي علة، وعلَّق الحكم عليه.
وكذلك قال في رواية أبي الحارث: "ليس في العنبر واللؤلؤ والمسك شىء، فإنه ليس بركاز ولا معدن" (5).
وكذلك ما لا تجب الزكاة في ذكوره، لا تجب في إناثه، كالبغال والحمير.
__________
(1) الخطميُّ مدد الياء غسل معروف
انظر: المصباح المنير مادة (خطم).
(2) الأشنان بضم الهمزة وكسرها مُعرَّب، وهو الحُرُض بالعربية.
انظر: المصباح المنير مادة (أشنان) ومادة (حرض) والمُطلع على أبواب المقنِع ص (35).
(3) في الأصل: (بالماورد)، وما أثبتناه هو الصواب الموافق لنص الرواية عندما ساقها المؤلف (2/466).
(4) هذه الرواية سبق أن نقلها المؤلف (2/466)، وسبق بيان معنى السَّهْلاة.
(5) نحو هذه الرواية روى عبد الله في مسائله ص (164) عن أبيه أنه سمعه يقول: (ليس في الجوهر ولا اللؤلؤ زكاة إلا أن يكون للتجارة...).
وفي مسائل الإِمام أحمد رواية أبي داود ص (79) أنه سمع الإمام أحمد وقد سئل عن العنبر واللؤلؤ يستخرجه الرجل ما فيه؟ فذكر قول ابن عباس فيه.
وقول ابن عباس كما في المغني (3/37) هو: (ليس في العنبر شىءٌ : إنما هو شىء ألقاه البحر).
وهناك رواية أخرى: (أن فيها الزكاة؛ لأنها خارج من معدن، فأشبه الخارج من معدن البَر...) المغني الموضع السابق.

(4/1345)


ويجوز أن يجعل نفي الحكم علة لثبوت حكم آخر، وثبوت حكم علة لنفي حكم آخر، فيوجد الإِثبات من النفي، والنفي من الإِثبات.
ويجوز أن يكون الإِثبات في حالة علةَ النفي في حالة أخرى، كقولنا: معنى: يفطر الصائم إذا تعمده، فلا يفطره إذا كان مغلوباً عليه، ولم يتعلق به كفارة، كالقيء (1).
والأصل في ذلك، ما ذكرناه من أن ما جاز أن يرد الشرع به نطقاً، جاز أن يكون مستنبطاً.
ولأن ما دل الدليل على أنه أمارة من طريق الباري وشهادة الأصول، وجب أن يحكم بصحته.
ولأن ما كان عقلياً فجائز أن يجعله علة بلفظ النفي، كذلك الشرعي.
مسألة
[إثبات الأسماء بالقياس]
يجوز إثبات الأسماء بالقياس (2)، فنسمي النبيذ خمراً، قياساً على الخمر، ونسمي النبّاش سارقاً، قياساً على السارق، ونسمي اللوطي زانياً، قياساً على الزاني.
أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية الأثرم، وقد ذكر له حديث: (الخمر ما خامر العقل) (3) "أي شىء يعني به؟ قال: ما غيَّر العقل.
__________
(1) في الأصل: (كالقن) وهو خطأ.
(2) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/454) والمسوَّدة ص (394)، وروضة الناظر (2/4) والقواعد والفوائد الأصولية ص (120).
(3) هذا الأثر أخرجه البخاري في كتاب الأشربة، باب: ما جاء أن الخمر ما خامر العقل من الشراب (7/137) بسنده إلى ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: خطب عمر على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إنه قد نزل =

(4/1346)


قيل له [206/ب]: كل نبيذ غيَّر العقل فهو خمر؟ قال: نعم" (1).
وبهذا قال أصحاب الشافعي (2).
وقال أصحاب أبي حنيفة (3)، وأكثر المتكلمين: (4) لا يثبت.
دليلنا:
قوله تعالى: (فَاعْتَبرُوا يَا أوْلِى اْلأَبْصَارِ) (5) والاعتبار رد الشىء إلى نظيره،
__________
= تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل، والخمر ما خامر العقل...)الحديث.
كما أخرجه في كتاب التفسير، تفسير سورة المائدة، باب: إنما الخمر، الميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان (6/67).
وأخرجه مسلم في كتاب التفسير، باب: نزول تحريم الخمر (4/2322) حديث رقم (3032).
وأخرجه أبو داود في كتاب الأشربة، باب: تحريم الخمر (4/78) طبعة دار الحديث بتعليق الدعاس وزميله.
وأخرجه النسائي في كتاب الأشربة، باب: ذكر أنواع الأشياء التي كانت منها الخمر حين نزول تحريمها (8/295) حديث رقم (5578).
(1) هذه الرواية ذكرها أبو الخطاب في كتابه التمهيد (3/454) بأخصر مما هنا.
(2) ذهب إلى هذا الرأي كثير من الشافعية، وليس كلهم كما يشعر به كلام المؤلف، فقد ذهب بعضهم إلى عدم الجواز.
انظر: التبصرة ص (444).
وانظر أيضاً: المنخول ص (71) والمستصفي (1/331) والإِحكام للآمدي (1/53) والإبهاج (3/24).
(3) هو كذلك.
انظر: أصول السرخسي (2/156) ومسلم الثبوت (1/185).
(4) ومنهم إمام الحرمين وأبو الخطاب والغزالي والآمدي.
انظر: البرهان (1/172) والتمهيد (3/445) والمنخول ص (71) والإِحكام للآمدي (1/53).
(5) آية (2) من سورة الحشر.

(4/1347)


بضرب من الشبه.
ومنه قيل: اعتبر الدراهم. معناه: اجعل الصَّنْجَة في كفة، والدراهم في كفة أخرى.
وقولهم: اعتبر (1) السلطان الخراج على غيره، عام أول.
وإذا كان هذا هو الاعتبار في إثبات الأحكام، كذلك في إثبات الأسماء.
وأيضاً: فإن أهل اللغة قد استعملوا القياس في الأسماء عند وجود معنى المسمى في غيره، وأجروا على الشىء اسم الشىء، إذا وجد بعض معناه فيه، فسموا الرجل البليد حماراً، لوجود البَلَه فيه.
ويقولون للرجل الشجاع: سَبُعاً: لوجود الشدة فيه. ونظائر ذلك.
وعلى هذا ما روي عن عمر أنه قال: (الخمر ما خامر العقل) (2).
وعن ابن عباس أنه قال: ([كل] (3) مُخَمَّر خمر، وكل خمر حرام) (4).
فإن قيل: هذه التسمية منهم مجاز.
قيل: قد ثبت عنهم أنهم فعلوا ذلك، فلا يضر أن يكون أحد الاسمين مجازاً، والآخر حقيقة.
__________
(1) غير واضحة في الأصل، والتصويب من التمهيد (3/379) حيث قال: (ومنه قولهم: اعتبر السلطانْ الخرَاج في عامنا بالخرَاج العام الماضي).
(2) هذا الأثر سبق تخريجه قريباً.
(3) الزيادة من سنن أبي داود كما سيأتي في التخريج.
(4) هذا جزء من حديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً، أخرجه عنه أبو داود في كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر (4/86)، ولفظ الشاهد فيه: (كل مُخَمَّر خمر، وكل خمر حرام) الحديث.
وقد سكت عنه أبو داود.
ويظهر من صنيع المؤلف: أن هذا الحديث من كلام ابن عباس، وليس من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

(4/1348)


على أنهم إنما سموا الأبْلَه حماراً مجازاً، لوجود بعض معانيه، فلما لم توجد فيه كل معانيه كان مجازاً.
وأما النبيذ، فتوجد فيه معاني الخمر كلها.
وكذلك اللواط، توجد فيه معاني الزنا كلها.
وكذلك النَّبَّاش (1).
فلهذا كان حقيقة.
فإن قيل: فالعرب قد منعت أن يسمى النبيذ خمراً.
ومنه قول [أبي] الأسود (2) :
فإن لا يَكُنْهَا أو تَكُنْهُ فإنَه... أخوها غَذتْه أمُّه بلِبَانِها (3)
يعنى إن لم يكن النبيذ هو الخمر أو الخمر هو النبيذ، فإن النبيذ أخوها، فنفى أن يكون النبيذ خمراً، وأثبت أنه أخوها.
قيل: هذا حجة لنا، لأن الشاعر توقف فيما ذكره، فلم يعلم هل النبيذ خمر أم لا؟ فلما أشكل عليه الأمر قال: فإن لم يكن النبيذ خمراً، فإنه أخوها.
__________
(1) يعنى: توجد فيه معاني السرقة كلها.
(2) هو: أبو الأسود الدِّيلي، ويقال: الدؤلي البصري القاضي، الشاعر. اختلف في اسمه واسم أبيه؛ فقيل: ظالم. وقيل: ابن عمرو بن سفيان. وقيل عمرو بن عثمان وقيل: عثمان بن عمرو. روى عن عمر وعلي ومعاذ وغيرهم. وعنه ابنه أبو حرب وعبد الله بن بريدة ويحيى بن يعمر. وثَّقه ابن معين وابن سعد وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة (69).
انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب (12/10).
(3) البيت منسوب للشاعر المذكور في كتاب سيبويه (1/46) وفي اللسان: مادة (لَبَن) وفي خزانة الأدب (2/426).
واللِّبان بالكسر: اللبن للآدميين خاصة.
وانظر: تعليق الأستاذ عبد السلام هارون في هامش كتاب سيبويه.

(4/1349)


فبطل أن يكون مانعاً من الاسم.
ولأنهم سموا أعياناً شاهدوها إنساناً، وفرساً، وأسداً، وغير ذلك من الأعيان المسماة بأسمائها، وقالوا: قائم، وقاعد، وآكل، وشارب، وواهب، وضارب، وحاضر، وغائب، ثم انقرضت تلك الأعيان وانقرض الذين (1). وضعوا الأسماء، وحدثت أمثالها من الأعيان، فاتفق الناس على تسميتها بأسمائها.
ولا يجوز أن يكون ذلك إلا بالقياس عليها، لوجود معانيها فيها.
فإن قيل: إنما وضعوا هذه [207/أ] الأسماء لها، ولما يولد منها من أمثالها.
ونعلم ذلك ضرورة.
قيل: هذا لم يسمع منهم، ولم ينقل عنهم أنهم نطقوا به، فلم يكن طريق تسمية الأعيان الحادثة (2)، إلا من طريق القياس.
ولا تصح دعوى العلم به ضرورة؛ لأنه لو كان كذلك، لشاركناهم في العلم به. ولما لم نعلم ذلك ضرورة، بطل ما قالوه.
وأيضاً: فإن كل فاعل مرفوع، وكل مفعول منصوب. ولم يسمع ذلك من أهل اللغة. وإنما استدلوا باستقراء كلامهم ومخارجه على قصدهم، أنهم قصدوا بالنصب كونه مفعولاً، وبالرفع كونه فاعلاً، وقاسوا ذلك على كل فاعل مفعول، لم يسمع من العرب النطق به..0
وكذلك صغَّروا الاسم الذي بُني على ثلاثة أحرف، فقالوا (3) : فُعَيْل، مثل: جُمَيْل، وعُدَيْل، وما أشبه ذلك.
وأجمعوا على أن كل اسم بُني على ثلاثة أحرف لم ينطقوا به، يكون تصغيره
__________
(1) في الأصل: (القرض الذي).
(2) مكررة في الأصل.
(3) في الأصل: (فقال).

(4/1350)


هكذا، قياساً على المسموع منه. فدل على جواز القياس.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ اْلأسْمَاءَ كُلَّهَا) (1). فلم يبق اسم يثبت بالقياس.
والجواب: أنه ليس فيه أنه علمه جميع ذلك نصاً.
بل يجوز أن يكون علم البعض نصاً، والبعض استنباطاً وقياساً.
وعلى أن الآية اقتضت أنه علم آدم الأسماء كلها، وليس فيها أنه علمنا ذلك.
ونحن إنما نثبت الأسماء قياساً فيما بيننا.
ويجوز أن يكون آدم عرف ذلك نصاً، وعرفناه قياساً.
واحتج: بأن ما من شىء إلا وله في اللغة اسم، فلا يجوز أن يثبت له اسم آخر من ناحية القياس، فيكون الاسمان مختلفين. كما لا يجوز أن يثبت للشىء حكم بتوقيف، وحكم آخر بالقياس.
والجواب: أنه ليس يمتنع أن يكون للشىء الواحد اسمان مختلفان، أحدهما ثابت بالنص، والآخر ثابت بالقياس، فإنه لا منافاة في ذلك، ولا تضاد.
ولا يشبه هذا الأحكام؛ لأن الشىء الواحد لا يجوز أن يكون له حكمان متضادان. فلم يجز أن يجعل له حكم آخر بالقياس، وله حكم آخر يخالفه، ثابت بالنص؛ لأن في ذلك نصاً.
ْألا ترى أنه يجوز للشىء الواحد أسماء مختلفة، كلها ثابتة بالتوقيف، كالسيف، والخمر، وغير ذلك، ولا يجوز أن يكون للشىء الواحد أحكام مختلفة ثابتة من جهة التوقيف والنص.
واحتج: بأنه لمَّا لم يجز إثبات الاسم الَّلقب قياساً، كذلك الاسم المشتق.
__________
(1) آية (31) من سورة البقرة.

(4/1351)


والجواب: أن الاسم اللقب ليس له معنى يوجد في غيره حتى يلحق به ويجري عليه اسمه، والاسم المشتق له معنى، ويوجد في غيره، فجاز إجراء اسمه عليه.
واحتج: بأن القياس [207/ب] لا يثبت في اللغة إلا بأن يثبت أن أهل اللغة وضعوها على المعاني، وأذنوا في القياس فيها. ولم يثبت واحد منها عنهم، فلم يصح القياس.
والجواب: إن لم يثبت ذلك فيه، لم يصح القياس. وإنما يصح فيما ثبت أنهم وضعوه على الشىء. وهذا كما نقول في الشرع: إن ما ثبت له موضوع على المعنى يوجب القياس عليه.
فإن قيل: بأي طريق تثبت أنهم وضعوه على المعنى؟
قيل: يعلم ذلك باستقراء كلامهم والاستدلال على مقاصدهم بمخارج كلامهم، فإذا قيل رأينا الاسم أو الإعراب تابعاً لمعنى على استقرار واطراد، استدللنا على أنهم جعلوه تابعاً له ومتعلقاً به، كما يستدل على قصد صاحب الشريعة بمثل ذلك.
وقد حُكي عن سيبويه أنه قال: استقرأنا كلامهم، فوجدناهم يرفعون كل فاعل، وينصبون كل مفعول. فدل ذلك على أنهم اعتبروا هذين المعنيين. وإذا وجدناهم يقولون: فاعِل من فَعَل، ومنفَعِل من أفعَل. ويُصيِّرون الاسم الثلاثي "تفعيل"، على استقرار، من غير مخالفة، دلنا ذلك على قصدهم.
وكذلك إذا سموا عصير العنب إذا وجدت فيه الشدة خمراً. وإذا زالت لم يسموها خمراً، وإن عادت الشدة المطربة في سموها بتلك، دلنا على أنهم جعلوا الاسم تابعاً لهذا المعنى، وسمينا النبيذ خمراً لوجوده.
وقولهم: "إنهم لم يأذنوا في القياس، على ما وضعوه على المعنى" فهو أن وضعهم على المعنى إذن في القياس، لأنه لا فرق عندنا بين أن يقولوا:

(4/1352)


سميناه خمراً للشدة المطربة، وبين أن يقولوا: كل شديد مطرب خمر، وأحد اللفظين قائم مقام الآخر.
ولأنه لو قال: سميناه خمراً لما فيه من الشدة الطربة، صارت الشدة المطربة علامة ودلالة على كونه خمراً. فكل موضع وجدت هذه الدلالة، يجب أن يتبعها الاسم.
ولأن تسميتهم لجميع ما حدث من الأعيان بأسامي أمثالها، دلالة على أن القياس مأذون فيها.
واحتج: بأنهم لم يضعوها على القياس؛ لأنهم سموا الفرس الأبيض: أشهب، ولا يسمون الحمار الأبيض: أشهب. وسموا الفرس الأسود: أدهم، ولا يسمون الحمار الأسود: أدهم، فقد شاركه في معناه.
وكذلك الحموضة، إذا كانت في عصير العنب سموه خلاً، وإذا وجدت في اللبن وغيره لم يسموه خلاً.
وقالوا للفرس: أبلَق، لاجتماع اللَّونين، والآدمي أبيض، وللغراب أبْقَع، وللجِلد مُلَمَّعاً.
والجواب: أنهم اعتبروا الجنس مع الصفة في ذلك. فكانت العلة ذات وصفين، ولم يمكن القياس عليه؛ لعدم أحد الوصفين، وهو الجنس [208/أ] فتكون العلة واحدة.
واحتج أبو سفيان (1) :
بأن الأسماء اللغوية طريقها اصطلاح أهل اللغة عليها.
ألا ترى أن إنساناً لو سمى الماء خبزاً، والخبز ماءً، والفرس حائطاً، والحائط
فرساً، لم يصر ذلك اسماً لما سماه في اللغة، بل كان منسوباً إلى الهذيان،
__________
(1) هو: أبو سفيان السرخسي الحنفي.

(4/1353)


ومتجاهلاً عند أهل اللسان. فلم يكن للقياس حظ في إثبات الأسماء اللغوية. والجواب: أنه إنما لم يجز القياس هاهنا؛ لأنه يخالف نص اللغة، فلهذا لم يجز.
كما لم يجز القياس إذا خالف نص الكتاب والسنة. وليس كذلك فيما اختلفنا فيه؛ لأن قياس اللغة يقتضيه فجاز، كما جاز في الشرع.
واحتج الجرجاني:
بأن الأخفش قال: الأسماء توجد توقيفاً، وهم ينقلون هذا عن أهل اللغة.
والجواب: أن هذا يعارضه ما حكينا عن أهل اللغة من حمل الاسم على غيره إذا وجد فيه معناه اعتبر ذلك.
مسألة
[ضوابط رد الفرع إلى الأصل]
لا يجوز رد الفرع إلى الأصل حتى تجمعهما علة معينة تقتضي إلحاقه به (1).
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية [أحمد بن] (2) الحسين بن حسان: "إنما يقاس الشىء على الشىء، إذا كان مثله في كل أحواله. فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال فلا" (3).
__________
(1) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/5) والمسودَّة ص (389).
(2) هكذا ذكره أبو الخطاب في كتابه التمهيد (4/5)، عندما نقل هذه الرواية، وهو الصواب.
(3) نقل هذه الرواية -كما أسلفت- أبو الخطاب في كتابه التمهيد بأوفى مما ذكره المؤلف حيث قال نقلاً عن أحمد بن الحسين بن حسان: (القياس أن يقاس الشىء على الشىء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال، =

(4/1354)


وحُكي عن بعض أصحاب أبي حنيفة أنه لا تعتبر في ذلك علة معينة. ويجوز الاقتصار على ضرْب من الشبه (1).
__________
= وأردت أن تقيسَ عليه فهذا خطأ وقد خالفه في بعض أحواله ووافقه في بعض أحواله، فإذا كان مثله في كل أحواله، فأقبلتَ به، وأدبرتَ به فليس في نفسي منه شىء).
(1) وقريب من هذا ما نقله الشيرازي في كتابه التبصرة ص (458) عن بعض أصحاب أبي حنيفة.
ونقله عن بعض الفقهاء من أهل العراق في كتابه اللمع ص (59) وفي شرحه للُّمع الذى سماه الأستاذ عبد المجيد تركى -خطأ-: الوصول إلى مسائل الأصول ص (275) وعبارته في هذين الكتابين أوضح حيث قال: (وقال بعض الفقهاء من أهل العراق: يكفي في القياس شَبهُ الفرع بالأصل بما يغلب على الظن أنه مثله).
ثم عقَّب على ذلك بقوله في اللمع: (فإن كان المراد بهذا: أنه لا يحتاج إلى علة موجبة للحكم يقطع بصحتها كالعلل العقلية فلا خلاف في هذا، وإن أرادوا: أنه يجوز بضرب من الشبه على ما يقول القائلون بقياس الشَّبَه، فقد بيناه في أقسام القياس. وإن أرادوا: أنه ليس ها هنا معنى مطلوب يوجب إلحاق الفرع بالأصل فهذا خطأ؛ لأنه لو كان الأمر على هذا لما احتيج إلى الاجتهاد، بل كان يجوز رد الفرع إلى كل أصل من غير فكر، وهذا مما لا يقول به أحد، فبطل القول به).
والذي يبدو لي أن المؤلف قصد أبا بكر الجصاص، فإنه قال في كتابه الفصول في الأصول ص (138) من الجزء الذي طبع في الباكستان: (... وقال جُلُّ من يعتمد عليه من الفقهاء الناظرين: إنما الاعتبار في لحاق الحادثة بأصولها تشابهها في المعنى الذي هو علَم الحكم وأمارته، يجب على الناظر طلبُه، وتتبعُه بالاستدلال عليه، فإذا ثبت المعنى بالدلالة عليه وجب إجراؤه في فروعه والحكم لها بحكمه، سواء كان ذلك المعنى شبهاً من جهة الصورة أو من جهة الحكم أو من جهة الاسم، إذا جاز عندهم أن يُرد الفرع إلى الأصل بالاسم إذا تعلق الحكم بالاسم، فيكون الاسم حينئذ علَم الحكم).

(4/1355)


دليلنا:
قوله تعالى: (مِنْ أجلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إسْرَائِيْلَ) (1).
وقال: (كَي لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اْلأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (2).
وقال في تحريم الخمر (وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ) (3).
فنصَّ على علة الحكم في ذلك.
وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّما منعتُكم من أجْلِ الدَّافَّة).
وقال: (إنَّما جُعِل الاستئذانُ مِن أجْلِ البصَر).
فنصَّ على العلة.
وقال في بيع الرطب بالتمر: (أينقصُ الرطبُ إذا يَبس؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذا).
وقال لابن مسعود حين أتاه بحجرين ورَوْثة، فأخذهما وألقى الرَّوْثة وقال: (إنَها رِجْس) (4).
__________
(1) آية (32) من سورة المائدة.
(2) آية (7) من سورة الحشر.
(3) آية (91) من سورة المائدة.
(4) هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود في كتاب الوضوء باب: الاستنجاء بالحجارة (1/49) وانظر فتح الباري (1/256) ورواية البخاري: (فإنها رِكْس) بدل: (فإنها رِجْس)
وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء في الاستنجاء بالحجرين (1/25) رقم الحديث (17).
وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة باب: الرخصة في الاستطابة بحجرين (1/36) وقال بعد ذلك: (الرِّكسُ طعامُ الجن).
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب: الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرمة (1/114) وفيه: (هى رجس). =

(4/1356)


فإن قيل: فلسنا نمنع المنصوص عليها.
قيل: إذا ثبت أن الله تعالى ورسوله نصَّا على العلة، وعلقا الحكم بها، ثبت أن استنباطها، وتعليق الحكم بها شرط.
__________
= وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/388).
وأخرجه الطحاوى في كتابه: شرح معاني الآثار في كتاب الطهارة، باب الاستجمار (1/122) بلفظ: (رِكْس) إلا أن محقق الكتاب قال في الهامش: وفي نسخة: (رجس).
والرِّكْس -كما يقول الحافظ في الفتح- (1/258) بكسر الراء وإسكان الكافِ.
وقد اختلف في معناها:
1- فقيل: لغة في رجس بالجيم، يدل عليه رواية ابن ماجه وابن خزيمة والنسخة الثانية من شرح معاني الآثار للطحاوي.
وبه صرَّح الفيُّومي في المصباح حيث قال: (الركس بالكسر هو: الرجس).
2- وقيل: الركس: الرجيع، رُدّ من حالة الطهارة إلى حالة النجاسة، كما يقول الخطابي.
أورد من حالة الطعام إلى حالة الروث، كما يرى الحافظ.
وقريب منه كلام ابن فارس في معجمه.
3- وقيل الركس: طعام الجن، كما يقول النسائي، وهو قول كريب كما يقول الحافظ.
قلت: ولعل الذي حمل النسائي على هذا التفسير ما جاء في الحديث: (لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن) الترمذي (1/29).
فإن كانت علة النهي واحدةً، وهي كونها زاد الجن فتكون رواية: (فإنها ركس) مفسَّرة بالرواية الأخرى (فإنها زاد إخوانكم من الجن)، ويكون تفسير النَّسائي وجيهاً، ولكن يعكر عليه عدم ورود ذلك لغة.
وإن كانت علة النهي مركبة من أمرين: كونها ركس، وكونها زاد الجن أو كون كل واحد من هذين الأمرين يصلح علة لو انفرد فلا يكون لكلام =

(4/1357)


وأيضاً: فإنه لو لم يفتقر الجمع بينهما إلى معنى معين يجمع بينهما، لما افتقر إلى تفكر، وتأمل، واجتهاد؛ لأن العامي والعالِم يشتركان في رد الفرع إلى الأصل.
ولأنه لا خلاف أنه لايجمع بينهما بغير شَبَه. وإذا لم يكن بد من الشَّبه بينهما، فهو الذي نقوله، فزال الخلاف.
واحتج المخالف:
بأن الصحابة ما اعتبرت في إيجاب الفرع بالأصل علة معينة، وإنما اعتبرنا مجرد [208/ب] الشبه.
فقال أبو بكر: (أقولُ في الكَلالَةِ برأيي). ولم يذكر معنى.
وقال عمر: (هذا ما أرَى الله عمر) (1).
وكتَب إلى أبي موسى الأشعري: (قِس الأمورَ بعضَها ببعض). ولم ينص له على معنى.
__________
= النَّسائي وجه.
والذى يبدو لي: أن الركس: شبيه المعنى بالرجيع، كما يقول أبو عبيد، وسميت الروثة بذلك؛ لأنها ارتكست عن أن تكون طعاماً إلى غيره) كما يقول ابن فارس في معجمه.
انظر: فتح الباري (1/258)، والنهاية في غريب الحديث (2/100) ومجمل اللغة لابن فارس (2/397) ومعجم مقاييس اللغة له أيضاً (2/434) واللسان (7/404) والمصباح المنير (1/363) مادة (ركس).
(1) هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - لم أجده.
وإنما وجدت في سنن البيهقي (10/116): (أن عمر رأى رأياً، فكتب الكاتب هذا ما أرَى الله أمير المؤمنين، فانتهره عمر، وقال: أكتب هذا ما رأى عمر، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر).
وهذا يدل على أن عمر - رضي الله عنه - لا يرى نسبة الرأي الصادر منه إلى الله تعالى.

(4/1358)


والجواب: أنهم قد نصُّوا على علة معينة، وصرحوا بذلك. منه: قول عمر لأبي بكر: (رضيك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا) (1).
ولما استشار عمر الصحابة في حد الشارب، قال علي: (إنه إذا شرب سكِر، وإذا سكِر هذى، وإذا هذى افترى، وحده حد المفتري) (2).
__________
(1) سبق تخريج هذا الأثر، وأنه من قول علي، رضي الله عنه.
(2) هذا الأثر أخرجه مالك في موطئه في كتاب الأشربة، باب الحد من الخمر (2/526) عن ثور بن زيد الديلِي أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال له علي بن أبي طالب: (نرى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكِر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، أو كما قال، فجلد عمر في الخمر ثمانين).
وأخرجه الشافعي عن مالك كما في بدائع المنن، أبواب حد شارب الخمر، باب: كم يضرب من ثبت عليه شرب مسكر؟ (2/304) حديث رقم (1521).
وعقَّب الحافظ في التلخيص (4/75) عليه بقوله: (وهو منقطع؛ لأن ثوراً لم يلحق عمر، بلا خلاف).
وأخرجه الدارقطنى في سننه موصولاً من طريق يحيى بن فُلَيْح بن سليمان عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس في كتاب الحدود (3/166) حديث رقم (245).
وأخرجه بالسند المذكور البيهقي في سننه في كتاب الأشربة والحد فيها، باب: ما جاء في عدد حد الخمر (8/320).
وأخرجه بالسند المذكور أيضاً أبو الشيخ وابن مردويه كما في الكنز (5/483).
وأخرجه بالسند المذكور الحاكم في مستدركه في كتاب، الحدود، وقال: (صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي.
وفيه "يحيى بن فُلَيْح" نقل الحافظ في اللسان عن ابن حزم: أنه قال: "هو مجهول"، وقال مرة: "ليس بالقوي".
وأخرجه البيهقي في الموضع السابق من طريق أسامة بن زيد عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن ابن وَبَرَة الكلبي، قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر - رضي الله عنه - وذكر كلاماً طويلاً، وفيه قول على رضي الله عنه. =

(4/1359)


وقال عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب في التي أرسل إليها عمر، وقد ذكرت عنده بسوء، فأجهضت ذا بطِنها، (إنما أنت مؤدبٌ، ولا شىء عليْك).
وقال علي: (إن اجتهدوا (1) فقد أخطأوا، وإن عمدوا فقد غشوك، عليك الدية).
__________
= وأخرجه الحاكم في الموضع السابق بالسند هذا، وفيه "وَبَرَة الكلبي" بدلاً من "ابن وَبَرَة" وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي.
وأخرجه ابن وهب وابن جرير، كما في الكنز (5/478).
وفيه: "وَبَرَة الكلبي"، أو"ابن وَبَرَة الكلبي".
قال الألباني في الإرواء (8/47) : (لم أجد من وثقه).
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في باب: حد الخمر (7/378) عن عمر عن أيوب عن عكرمة أن عمر بن الخطاب استشار الناس في جلد الخمر...
ولم يذكر عبد الرزاق في سنده ابنَ عباس.
وأخرجه ابن جرير عن يعقوب بن عتبة، كما في الكنز (5/479).
وبعد أن ذكر الحافظ طرفاً من تخريجه في التلخيص (4/75) قال: (وفي صحته نظر؛ لما ثبت في الصحيحين عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، فلما كان عمر استشار الناس، فقال: عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر.
ولا يقال: يحتمل أن يكون عبد الرحمن وعلي أشارا بذلك جميعاً؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن علي في جلد الوليد بن عقبة: أنه جلد أربعين، وقال جلد رسول الله أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إليّ، فلو كان هو المشير بالثمانين ما أضافها إلى عمر، ولم يعمل بها [لعل صحتها: ولعمِل بها] لكن يمكن أن يقال: إنه قال لعمر باجتهاد، ثم تغير اجتهاده).
وبالنظر إلى هذه الطرق المتعددة، فالأثر يبلغ درجة الحسَن والله أعلم.
(1) في الأصل: (اجتهد).

(4/1360)


فعبد الرحمن قال: (إنَّما أنت مؤدِّبٌ)، فرفع الضمان عنه لهذه العلة.
والقصص في هذا كثيرة. فثبت أنهم أجمعوا على اعتبار العلة.
مسألة
[القياس على ما ثبت بالقياس]
ما ثبت بالقياس، يجوز القياس عليه (1)، مثل حمل الذُّرة على الأرز.
__________
(1) راجع هذه المسألة في التمهيد (3/443) والروضة (2/304) والمسوَّدة ص (394).
في تصوري أن هذه المسألة لها جانبان.
الجانب الأول: أن الحكم إذا ثبت في الأصل بدليل مقطوع به من كتاب أو سنة أو إجماع، وكانت علته ظاهرة، ففي هذه الحالة تقاس عليه كل مسألة توفرت فيها هذه العلة.
أما إذا كانت العلة مستنبطة، مثل العلة في الربا، فهل يقاس على ذلك ما توفرت فيه هذه العلة المستنبطة؟
قولان لأهل العلم:
المنع، وهو رأي ابن حامد الحنبلي.
الجواز، وهو رأي أبي يعلى الحنبلي.
انظر: المسائل الأصولية من كتاب الروايتين والوجهين ص (68).
الجانب الثاني: أن الحكم إذا ثبت في الأصل بعلة منصوصة أو مستنبطة، ثم قسنا على ذلك مسألة أخرى توفرت فيها العلة، فهذه المسألة الأخيرة الثابتة بالقياس هل يجور القياس عليها؟ هناك أمران يجب توضيحهما:
الأول: هل العلة في القياس الأخير هي العلة في المقيس عليه في الأول والمستدل ترك القياس على الأصل الأول واستغنى بالقياس على الأصل في القياس الأوسط؟
هنا رأيان للأصولين. الجواز وعدمه، والخطْب في هذا يسير. =

(4/1361)


وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث: "لا بأس بدفع الثوب إلى من يعمله بالثلث والربع، كالمزارعة" (1).
وقال في رواية المروذي: "لا يجوز بيع أرض السواد، ويجوز شراؤها كالمصاحف" (2).
__________
= الثاني: أن الثابت بالقياس يقاس عليه غيره لعلة غير العلة التي ثبت بها إن كانت واحدة، أو بواحدة إن كانت مركبة.
فهنا ثلاثة آراء، ثالثها لشيخ الإسلام ابن تيمية: إن كان قياس دلالة جاز، وإن كان قياس علة لم يجز.
والقول بعدم الجواز هو الراجح -إن شاء الله- لأن التسلسل في القياسات هذه يضعف المعنى الأول الذي ثبت به القياس.
يؤيد ذلك قول الغزالي في كتابه المستصفى (2/325): (لأن ذلك يؤدي في قياس الشَّبه إلى أن يشبَّه بالفرع الثالث رابع، وبالرابع خامس، فينتهي الأخير إلى حد لا يشبه الأول، كما لو التقط حصاة، وطلب ما يشبهها، ثم طلب ما يشبه الثانية، ثم ينتهي بالآخرة إلى أن لا يشبه العاشر الأول؛ لأن الفروق الدقيقة تجتمع فتظهر المفارقة).
وقد ذكر في المسوَّدة ص (395) أن للحنابلة في القياس على ما لا نص فيه ولا إجماع، بل ثبت بالقياس ثلاثة أقوال:
أحدها: الجوار مطلقاً.
الثاني: يجوز إن اتفق عليه الخصمان.
الثالث: يجوز مطلقاً، وإن كانت العلة في الأصل المحض غير العلة في الفرع المحض بل في الفرع المتوسط علتان.
انظر: المراجع السابقة.
(1) هذه الرواية عن الإمام أحمد نقلها عنه ابنه في مسائله ص (304) ولفظه (سمعت أبي سئل عن الرجل: يدفع الثوب إلى الحائك بالثلث والربع؟ قال لا بأس).
(2) هذه الرواية ذكرت في المسوَّدة ص (400) ونصها: (يجوز شراءُ أرض السواد، ولا يجوز بيعها، فقيل له: كيف تشتري ممن لا يملك؟ فقال: القياس كما تقول، =

(4/1362)


فقد قاس الفرع على أصل مختلف فيه.
وهو قول الرازي (1) والجرجاني من أصحاب أبي حنيفة. وقول أصحاب الشافعي.
وذهب قوم إلى أنه لا يجوز القياس إلا أن يثبت حكم الأصل بدليل مقطوع عليه من كتاب أو سنة أو إجماع.
وقال الكرخي: لا يجوز حمل الذُّرة على الأرز، ويكون حملهما جميعاً على البُر أولى، وليس أن يحمل أحدهما على الآخر بأولى من حمل الآخر عليه لتساويهما في أن حكمهما يعرف من جهة واحدة (2).
دليلنا:
قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي اْلأَبصَارِ) (3). وهذا عام في جميع الأصول.
ولأن عمر قال لأَبي بكر: (رضيك رسولُ الله لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا)، فاعتبر المعنى.
__________
= ولكن استحساناً، واحتج بأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رخَّصوا في شراء المصاحف وكرهوا بيعها، وهذا يشبه ذاك).
وهناك روايات نقلها عبد الله عن أبيه، فانظرها في مسائله التي نقلها عن أبيه ص (284).
(1) صرح بذلك في أصوله ص (126) الطبعة الباكستانية حيث قال: (ويجوز القياس أيضاً على حكم قد ثبت من طريق القياس، وإن كان مختلفاً فيه).
(2) نقل هذا عن أبي الحسن الكرخى في كشف الأسرار (3/1023) وفي التقرير والتجبير (2/131).
وهو رأي جمهور الحنفية.
انظر: المرجعين السابقين، والتلويح على التوضيح (2/55)، وفواتح الرحموت (2/253).
(3) آية (2) من سورة الحشر.

(4/1363)


ولأن الحكم ثبت ابتداء في الشرع بدليل مقطوع عليه، ودليل غير مقطوع [عليه]، وطريقه غلبة الظن، وهو خبر الواحد، في أن استعمال القياس في الموضع المقطوع عليه، وفيما طريقه غلبة الظن.
ولأن العلة تصير علة؛ لقيام الدلالة على صحتها، لا لوجودها في أصل متفق عليه، بدلالة أن ما دل على صحتها لا يفرق بين عين دون عين، وإذا اعتبرت العلة، فلا فرق بين حمل فرع على نظيره، وبين اعتبارهما جميعاً [209/أ]؛ لأن ما ثبت بدليل، يجوز أن يجعل أصلاً، يرُد إليه غيرُه، وإن لم يكن ثابتاً بالاتفاق.
وقول الكرخي: إنهما تساويا في أن حكمهما يعرف من جهة واحدة، فهو صحيح. وله أن يقيس كل واحد على صاحبه، كالأمرين إذا تساويا، فتساويهما لا يوجب سقوطهما، وإنما يخير المجتهد فيهما.
فصل
[عدم اشتراط الاتفاق على تعليل الأصل]
ويجوز القياس على أصل بعلة، وإن لم يتفق على تعليله (1)، مثل قياس النبيذ على الخمر لعلة وجود الشدة المطربة (2).
فإن أبا حنيفة يمنع من أن تكون الخمر معللة (3)، ويقيس غير المأكول عليه
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/437) والمسوَّدة ص (397).
(2) هذا مذهب الجمهور، أو مذهب الأكثر كما هو تعبير أبي الخطاب في التمهيد.
(3) وذلك لعدم قيام الدليل على كونها معللة عند الحنفية، بل صرح السرخسي في أصوله (2/149) أن الدليل دل على أنها غير معللة حيث قال: (... بل الدليل من النص دال على أنه غير معلول، وهو قوله عليه السلام: "حُرِّمت الخمر لعينها" و"السكر من كل شراب...").
وانظر: أصول الجصاص ص (132) من الطبعة الباكستانية.

(4/1364)


فِي الربا (1).
وهو ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في المسألة التي قبلها.
خلافاً لما حُكي عن بِشْر بن غِياث في قوله: "إذا لم يكن الأصل منصوصاً عليه، أو مجمعاً على تعليله، لم يجز قياس الفرع عليه" (2).
__________
(1) لأن العلة عنده الجنس مع الكيل أو الجنس مع الوزن، فلو باع مكيلاً أو موزوناً غير مطعوم بجسمه متفاضلاً كالجص والحديد كان حراماً.
والحكم -كما يقول صاحب الهداية- (معلول بإجماع القائسين)، لكن وقع الاختلاف في العلة.
انظر: شرح فتح القدير مع الهداية (7/3-5) وأصول الجصاص ص (133) وأصول السرخسي (2/161).
(2) في المعتمد (2/761) أن بِشْراً منع من القياس على الأصل إلا بعد أن تجمع الأمة على تعليله، ولم يذكر كونه منصوصاً عليه كما ذكر المؤلف.
وقريباً نَقْل أبي الحسين نَقْل أبي الخطاب في التمهيد (2/437).
وقد نُقِل كلامُ المؤلف عن بِشْر في المسوَّدة ص (397) بدون تعقيب.
ونقل الفخر الرازي في المحصول (5/494) عن بشر أنه يشترط في الأصل (انعقاد الإجماع على كونه معللاً، أو ثبوت النص على عين تلك العلة).
وفي شرح الجلال على جمع الجوامع (2/213)، (... وعند الثاني [يعني بشراً] لا يقاس فيما اختلف في وجود العلة فيه، بل لابد بعد الاتفاق على أن حكم الأصل معلل، من الاتفاق على أن علته كذا...)
والذي ظهر لي من كلام المؤلف أن بِشْراً يشترط واحداً من أمرين إما أن يكون الأصل منصوصاً عليه، وإما أن يكون مجمعاً على تعليله، ولم يتعرض للنص على عين تلك العلة.
وفي المعتمد والتمهيد: أنه يَشْتَرِط أن تجمع الأمة على تعليل الأصل، وهو أحد الأمرين اللذين ذكرهما المؤلف.
وفي المحصول أنه يَشْتَرِط أحد أمرين: انعقاد الإجماع على كون الأصل معللاً، أو ثبوت النص على عين تلك العلة. =

(4/1365)


دليلنا:
ما تقدم في التي قبلها من قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُو يَا أولِي اْلأبصَارِ) (1)، وهذا عام في جميع الأصول.
ولأن طريق إثبات العلل، دلالة الأصول عليها، وقد توجد دلالتها في تعليل أصل مجمع عليه، كما تدل على تعليله، مع الخلاف، فوجب اعتبار دلالة الأصول عليها.
ولأنه لما أمكن استخراج المعنى فيه، ورد الفرع إليه، لم يعتبر بالاتفاق فيه، كخبر
__________
= فقد وافق أبا يعلى في نقله اشتراط الإجماع على تعليل الأصل، كما وافق في هذا أبا الحسين البصرى وأبا الخطاب، إلا أنه زاد التخيير بين هذا الشرط وبين ثبوت النص على عين تلك العلة.
ويظهر من كلام شرح الجلال أن بِشْراً يشترط أمرين هما: الاتفاق على أن حكم الأصل معلل، والاتفاق على أن علته كذا.
وهو ما وضحه الشيخ الشربيني في تقريراته على الشرح المذكور (2/122).
وبهذا يتبين أن كلام ابن النجار الفتوحى في شرح الكوكَب المنير (4/100) غير دقيق؛ لأنه قال (... الصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أنه لا يشترط أن يرد نص دال على عين تلك العلة، ولا الاتفاق على أن حكم الأصل معلل، وخالف في ذلك بِشْر المَريسي، فاشترط أحدهما، على ظاهر كلامه في جمع الجوامع، والذي ذكره الرازي في المحصول عن بشر اشتراط الأمرين معاً).
الا أن تكون نسخة المحصول التي أفاد منها صاحب شرح الكوكب قد جاء فيها التعبير بالواو دون أو، فَيَتَّجِه.
وقد وَصفَ ابنُ السبكي قولَ بِشْر بالضعف، ووَصَف من قال به بالشذوذ.
ونقل عن أبي إسحاق إبطاله لهذا القول (بأن قائله إن أراد بالاتفاق الذى اشترط إجماع الأمة كلها أدى إلى إبطال القياس؛ لأن نفاة القياس من جملة الأمة، وأكثرهم يقولون: إن الأصول غير معللة، وإن أراد إجماع القائسين فهم بعض الأمة، وليس قولهم بدليل).
انظر: الابهاج (3/163-164).
(1) آية (2) من سورة الحشر.

(4/1366)


الواحد، متى أمكن أن يستفاد منه حكم، حمل عليه، وإن لم يتفق على قبوله.
واحتج المخالف:
بأن الأصول، لما كان فيها ما هو معلل، وفيها ما ليس بمعلل، وجب أن يكون طريق (1) التفريق بينهما الإجماع الدال عليه، إذا لم يكن طريق إليه (2) غير ذلك.
والجواب: أن الأصل هو تعليل الأصول. وإنما تَرْكُ تعليلها نادر، فصار الأصل هو العام الظاهر، دون غيره (3).
واحتج: بأنه لما لم يجز القياس على الصلوات الخمس؛ لكونها غير متفق على تعليلها وعدم ورود النص بذلك فيها، كذلك كل ما هذه حاله.
والجواب: أن الصلوات إنما لم يجز القياس عليها، لحصول الإجماع على أن ذلك لا يجوز. وقد عدم هذا المعنى في غيرها، فلم يجز أن يكون بمثابتها.
فصل
[جواز القياس فيما لم ينص على حكمه]
ويجوز القياس فيما لم ينص على حكمه، مثل قياسنا على تشبيهه بظهر الأم في أنه ظهار (4).
__________
(1) في الأصل: (الطريق). والتصويب من التمهيد (3/349).
(2) في الأصل: (إلى).
(3) ولا يؤثر ذلك النادر لشذوذه. وهو معنى ما قاله أبو الخطاب في التمهيد (3/440).
(4) انظر: المسوَّدة ص (411).
وقد ذكرها أبو الخطاب ضمن المسألة السابقة، حيث نقل خلاف أبي هاشم في هذه المسألة.
انظر: التمهيد (3/438). =

(4/1367)


خلافاً لبعض المتكلمين (1) أن القياس لا يجوز إلا فيما نص على حكمه في الجملة، وقال: لو لم ينص الله تعالى على ميراث الأخ في الجملة، لم أجوز إثبات مشاركته مع الجد بالمقايسة، ويكون حظ القياس في الإبانة عن تفصيله، والكشف عن موضعه (2).
دليلنا [209/ب]:
أن القياس لما كان طريقاً إلى معرفة الأحكام بخبر الواحد، لم يعتبر أن يكون الحكم الذي ثبت في أحدهما منصوصاً عليه في الجملة، كما لا يعتبر في الآخر.
ولأن الصحابة قد تكلمت في مسائل من جهة القياس، وإن لم يكن منصوصاً عليها في الجملة.
واستدل عمر على إمامة أبي بكر بضرب من الاستدلال (3)، وإن لم يكن
__________
= وقد عَنْون لها أبو الحسين البصرى في كتابه المعتمد (2/809) بقوله: (باب في أن العلة هل يتوصل بها إلى إثبات الحكم في الفرع، وإن لم ينص عليه في الجملة أم لا؟)
وفي رأيي أنها داخلة في المسألة السابقة؛ لأن قول أبي هاشم هذا قول بالتفصيل في المسألة.
(1) المراد به أبو هاشم المعتزلي.
المرجعان السابقان.
(2) هذا معنى كلام أبي هاشم الذي نقله عنه أبو الحسين في المعتمد وأبو الخطاب في التمهيد.
(3) ذكر المؤلف هذا الأثر غير منسوب لأحد في مسألة: جواز انعقاد الإجماع من طريق الاجتهاد ص (1125) وقد خرجته منسوباً إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ونصه: (رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة، وهي عماد الدين، ومن رضيه رسول الله لديننا وجب أن نرضاه لدنيانا).
ونسبه المؤلف إلى عمر - رضي الله عنه - في مسألة: ضوابط رد الفرع إلى الأصل ص (1359).
وفي المسوَّدة ص (405) أن عمر وعلياً قالا ذلك لأبي بكر.

(4/1368)


ذلك منصوصاً عليه، كذلك هاهنا.
وكذلك تكلموا في مسألة الحرام (1)، والبَتَّة، والخَلِيَّة، والبَرِيّة (2)، والتسوية والتفاضل في العطاء (3).
مسألة
[كل مقيس كل الأصل النصوص على علته مراد بالنص]
جميع ما يحكم به من جهة القياس على أصل منصوص عليه، فهو مراد بالنص الذي أوجب الحكم في الأصل (4).
__________
(1) سبق توثيق ذلك ص (1115).
(2) هذه الكلمات الأربع من ألفاظ الطلاق، ذكر الخلاف فيها عن الصحابة رضوان الله عليهم بالسند الإمام عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الطلاق باب: الحرام (6/399-405) وباب البَتَّة والخَلِيّة (6/350). والبيهقي في سننه في كتاب الطلاق، باب: ما جاء في كنايات الطلاق (7/342-344) وباب من قال لامرأته: أنت على حرام (7/350-352).
(3) كان أبو بكر - رضي الله عنه - يرى التسوية في العطاء قائلاً: (فضائلهم عند الله، فأما هذا المعالق فالتسوية فيه خير).
بيما كان عمر - رضي الله عنه - يرى التفاضل قائلاً: (أفأجعل من تكلَّف السفر وابتاع الظهر بمنزلة قوم إنما قاتلوا في ديارهم..)
قال أبو عبيد: (وقد كان رأي عمر الأول التفضيل على السوابق والغناء عن الإسلام، وهذا هو المشهور من رأيه، وكان رأي أبي بكر التسوية، ثم قد جاء عن عمر شىء شبيه بالرجوع إلى رأي أبي بكر).
انظر: الأموال لأبي عبيد ص (335-336).
(4) راجع هذه المسألة في التمهيد: (3/435) وروضة الناظر (2/251) والمسوَّدة =

(4/1369)


خلافاً لبعض المتكلمين في قولهم: لا يصح أن يحكم في جميع ذلك أنه مراد بالنص (1).
دليلنا:
أن ما يحكم به المجتهد من طريق الاجتهاد مراد منه، إذ لو لم يكن كذلك، لم يكن مطيعاً لله تعالى فيه. ولا خلاف أنه مطيع لله تعالى فيما يحكم به مما يؤديه اجتهاده إليه. فإذا كان كذلك، وكان الحكم في الأصل المنصوص عليه مراداً (2) بالنص، وجب أن يكون الحكم في الفرع مثله.
فإن قيل: فهذه العلة بعينها موجودة فيما يحكم به من طريق القياس على أصل غير منصوص عليه؛ لأن المجتهد مطيع لله تعالى فيه، ومع ذلك فلا يحكم
__________
= ص (390-392) وشرح الكوكب المنير (4/223).
وعليه فإن النص هنا يتناول الأفراد لغة.
وبهذا قال أبو الخطاب وابن عقيل وابن حمدان، وهو باب سلكه كثير ممن لا يقول بحجية القياس.
المراجع السابقة، والمعتمد (1/208)، وتيسير التحرير (1/259) وإرشاد الفحول ص (135).
(1) بل بالقياس، وبه قال كثير من الأصوليين وعلى رأسهم الغزالي وابن قدامة.
انظر: المراجع السابقة، والمستصفى (2/272).
وفي المسودة ص (392) تعقيب جيد، حيث قال: (وهذا في العلة المفسرة مستقيم، وأما في العلة المجملة مثل قول الأعرابي: وقعت على أهلي في رمضان، فقال: اعتق رقبة، وأن بريرة أعتقتها عائشة، فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك من المواضع التي علم أن ذلك السبب علة في الحكم، ولم يتبين في العلة أهي عموم الإفطار أم خصوص الوقاع، وأنه عموم العتق أم خصوص العتق تحت عبد...).
(2) في الأصل: (مراد) وحقه النصب خبر كان.

(4/1370)


بأن ما حكم به مراد بالنص، كذلك هاهنا.
قيل: إنما وجب ذلك فيما ذكرت؛ لأنه لا نص (1) هنا يوجب الحكم في الأصل، وإنما أوجب الحكم فيه بالإجماع، أو ما يجري مجراه من الأدلة، مثل فحوى الخطاب كقوله عليه السلام في السَّمن الذي ماتت فيه الفأرة: (إن كان جامداً، فألقوها وما حولها، وإن كان معائعاً، فأهريقوه)، وليست هذه سبيل الأصل المنصوص عليه، لأن الحكم إنما وجب فيه بالنص الوارد به.
يبين صحة ذلك، أن الحكم المجمع عليه، إذا كان له ذكر في الكتاب أو في السنة، صار الإِجماع صادراً عن ذلك النص، وإن كان لو لم يكن له ذكر فيهما لم يكن الإجماع صادراً عن نص، كذلك القياس، إذا كان على أصل منصوص عليه، صار الحكم الذي حكم به من طريق القياس، مراداً بذلك النص. وإن لم يجب أن يكون مراداً بالنص، لو لم يكن الأصل منصوصاً عليه.
واحتج المخالف:
بأنه لما لم يجز أن يراد بالعبادة الواحدة، معنيين مختلفين في حالة واحدة، وكان الحكم المحكوم به من طريق القياس مخالفاً في المعنى لحكم الأصل [210/أ] المنصوص عليه، كقياس الجص على البُر، والزعفران والقطن على الذهب والفضة، لم يجز أن يحكم بأنه مراد بالنص الموجب لحكم الأصل.
والجواب: أن المعنيين إذا كانا مختلفين، جعل النص كأن الله تعالى أمر به في وقتين، فأراد به أحد المعنيين في وقت، والمعنى الآخر في الوقت الآخر.
كما قلنا في آية الصلاة: أنه أريد بها الفرض والنافلة، فقدرناها على هذا الوجه.
__________
(1) في الأصل: (نصر) وهو تصحيف.

(4/1371)


مسألة
[طريق الإلحاق بالعلة المنصوص عليها]
إذا ورد النص بحكم شرعي معللاً، وجب الحكم في غير المنصوص عليه، إذا وجدت فيه العلة المذكورة في النص سواء ورد النص بذلك قبل ثبوت حكيم القياس أو بعد ثبوته، مثل قوله: حرم الخمر لحموضته، وأبحتُ السكَر لحلاوته (1).
وإلى هذا أومأ أحمد -رحمه الله- في رواية الميموني فقال: "إذا كانت الثمرة واحدة فلا يجوز رطب بيابس" واحتج بالرطب بالتمر لحديث النبي (2).
فجعل أحمد -رحمه الله- العلة عامة في جميع ما توجد فيه تلك العلة. وبهذا قال إبراهيم بن سيَّار (3)
__________
(1) راجع في هذا المسألة: التمهيد (3/428)، وروضة الناظر (2/251)، والمسوَّدة ص (390).
(2) إشارة إلى حديث سعد بن أبي وقاص: قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن اشتراء التمر بالرطب، فقال لمن حوله: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك) رواه الخمسة وصححه الترمذي كما في نيل الأوطار (5/224).
وقد سبق تخريجه مفصلاً (1/178).
(3) هو النظام، وقد سبقت ترجمته.
ونقلُ المؤلف عن النظام هو معنى ما نقلَه أبو بكر الجصاص في أصوله ص (141) من الطبعة الباكستانية حيث قال: (الناس في هذا الضرب من التعليل على قولين: منهم من يجعله نصاً على كل ما فيه العلة، ويجريه مجرى لفظ العموم، والنظام ممن يقول بذلك، وهو من نفاة القياس، وقال: لو أن الله تعالى قال: حرمت عليكم الماعز؛ لأنه ذو أربع، عقلنا من اللفظ تحريم كل ذات أربع...).
وهو ما ذكره المؤلف في المسألة التي قبل هذا، غاية ما هنا أنه زاد أن ذلك مطلق، =

(4/1372)


[و] القاشاني (1)، والنَّهْرِيُّون (2).
__________
= سواء أورد النص بذلك قبل ثبوت حكم القياس أم بعد ثبوته.
ويشكل على ما ذكره الجصاص ما نقله أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد (2/753) عن النظَّام من أنه يقول: إن النص على العلة يكفي في التعبد بالقياس بها.
وتابعه على ذلك أبو الخطاب في التمهيد (3/428) حيث قال: (النص على علة الحكم يكفي في التعبد بالقياس بها، وبه قال النظام...).
ولتفسير الجصاص لمذهب النظَّام فسره الغزالي في المستصفى (2/272) وتابعه ابن قدامة في الروضة (2/251).
ولذلك قال صاحب مسلَّم الثبوت (2/316): (مسألة: النص على العلة يكفى في إيجاب تعدية الحكم ولو عدم التعبد بالقياس مطلقاً عند الحنفية وأحمد وأبي إسحاق الشيرازي، وهو المختار، وعليه النظام، لكنه قال: إنه منصوص).
ولم يرتض ذلك تاج الدين السبكى في كتابه الإِبهاج (3/24) ووجَّهه بقوله: (فإنه هنا يقول [يعني النظام] إذا وقع التنصيص على العلة كان مدلول اللفظ الأمر بالقياس، ولم يتعرض لوقوعه من الشارع أو غيره، بل لمدلوله لغة، وهناك أحال وروده من الشارع، فعنده حينئذ أن الشارع لا يقع منه التنصيص على العلة من حيث هو مدلوله ما ذكرناه).
ثم عقب على ذلك بقوله: (فافهم هذا، فإن بعض الشراح ظن مناقضته في مقالته، وذلك سوء فهم، فإن الكلام في مدلول اللفظ إن ورد، غير الكلام في أنه هل يرِد).
(1) هو محمد بن إسحاق أبو بكر، قيل كان ظاهرياً، ثم صار شافعياً، وقد سبقت ترجمته.
ونسبة القول هذا إليه ذكرها أبو الخطاب متابعة للمؤلف (3/428).
ونسبها إليه ابن حزم في الإحكام (8/1110) قائلاً: قال أبو محمد: (وهذا ليس يقول به أبو سليمان -رحمه الله- ولا أحد من أصحابنا، وإنما هو قول لقوم لا يعتد بهم في جملتنا كالقاساني [بالمهملة] وضربائه).
(2) في الأصل (النَّهريين)، وفي التبصرة ص (436) وفي الإِحكام للآمدي (4/47): (النَّهرواني)، وهو نسبة إلى النَّهروان، بُلَيْدة قديمة، قرب بغداد.
انظر: الباب (3/337).

(4/1373)


قال أبو سفيان: وإلى هذا كان يشير شيخنا أبو بكر، يعني الرازي في احتجاجه بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّما هو دمُ عِرْق، وليست الحيضة، فتوضَّئي لكل صلاة) في إيجاب الوضوء من الرُّعاف ونحوه. ويجعله بمنزلة أمر النبي عليه السلام بالوضوء من كل دم عِرْق (1).
وكان يحكيه عن الكرخي (2). ولم يفرق بين ورود النص بذلك قبل ثبوت حكم القياس، أو بعد ثبوته.
وقال أبو سفيان: وذهب بعض شيوخنا (3) إلى أنه لا يجب أن يحكم فيما وُجِدت فيه تلك العلة بحكم المنصوص عليه، قبل ثبوت حكم القياس.
واختار أبو سفيان ذلك (4).
__________
(1) الذي رجَّحه أبو بكر الرازى في كتابه الفصول ص (142) هو القول أن ذلك من باب القياس لا من باب العموم، حيث يقول: (قال أبو بكر: والأظهر أن إلحاق ما يوجب فيه هذه العلة بحكم الأصل، إنما هو من طريق القياس لا من طريق النص والعموم؛ لأن المنصوص عليه هو ما تناوله الاسم، وقوله: "في دم الاستحاضة الوضوء؛ لأنها دم عرق" لم يتناول الاسم منه إلا دم الاستحاضة، وقوله: "إنها دم عرق" ليس بعموم في غير دم الاستحاضة، وإنما هو صفة من صفات المذكور بعينه دون غيره ما لم يذكر...).
وبهذا يعلم أن في نقل أبي سفيان الحنفي وهماً، تابعه عليه المؤلف، مع أن المؤلف رجع إلى كتاب الفصول واستفاد منه كثيراً، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم.
(2) لم أجد في كتاب الفصول لأبي بكر الرازي المشهور بالجصاص نقلاً عن شيخه الكرخي في هذه المسألة.
ولكن ما ذكره المؤلف وجدته منسوباً إليه في التبصرة ص (436)، والإحكام للآمدى (4/47).
(3) يعنى: الحنفية.
(4) الذي نص عليه الكمال بن الهمَام الحنفي في كتابه التحرير (4/111) مطبوع مع شرحه تيسير التحرير: (أن النص على العلة يكفي في إيجاب تعدية الحكم بها، ولو =

(4/1374)


هو قول جعفر بن حرب، وجعفر بن مُبَشِّر (1).
واختلف أصحاب الشافعي. فمنهم من قال مثل قولنا.
ومنهم من قال: لا يجب الحكم بذلك فيما وجدت فيه تلك العلة. وهو اختيار الاسفراييني (2).
دليلنا:
ان النص معلل، فوجب الحكم في غير المنصوص عليه إذا وجدت علته.
أصله: إذا ورد النص بعد ثبوت حكم القياس.
ولا يلزم عليه قوله تعالى: (إِنَ الصلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ...) (3).
ولم يكن النص موجباً لحمل غيرها عليها مما ينهى (4)؛ لأننا لو تُرِكْنا وظاهر هذه الآية لقلنا: أي موضع وُجِدت هذه العلة، تعلق الحكم بها، لكن منع منه [210/ب] الدليل في الموضع الذي لا يجب.
فإن قيل: إنما وجب الحمل هناك لأجل أنه أمر بالقياس، فإذا نص على العلة، وجب القياس عليها، وهذا معدوم قبل ورود التعبد بالقياس.
__________
= لم تثبت شرعية القياس وفاقاً للحنفية...).
وهو ما ذكره صاحب مسلَّم الثبوت عن الحنفية (2/316).
ولم يذكرا خلافاً عن الحنفية في ذلك.
(1) انظر رأيهما في المعتمد (2/753) والتمهيد لأبي الخطاب (3/428).
ولأبي عبد الله البصري المعتزلي تفصيل نقله عنه أبو الحسين البصري في المعتمد الموضع السابق بقوله: (إن كانت العلة المنصوصة علة في التحريم كان النص عليها تعبداً بالقياس بها، وإن كانت علة في إيجاب الفعل أو كونها ندباً لم يكن النص عليها تعبداً بالقياس بها).
(2) انظر في نسبة هذين القولين إلى الشافعية: التبصرة ص (436)، والإِحكام للآمدي (4/48) وصرَّح الآمدي بنسبة القول الثاني إلى أبي إسحاق الإِسفراييني وأكثر الشافعية.
(3) الآية (45) من سورة العنكبوت.
(4) في الأصل: (ما ينهى) بدون إعجام.

(4/1375)


قيل: لو كان الحمل هناك، كما ذكرت، لوجب أن يختص التعدي هناك بهذه العلة، ولجاز أن يتعدى الحكم إلى غير السُّكَّر بعلة هو غير الحلاوة؛ لأن الأمر بالقياس يعم هذه العلة وغيرها. ولما قالوا بأن التعدي يحصل بهذه العلة، دل على أن التعدي كان لأجلها، لا لأجل الأمر بالقياس.
وأيضاً: فإن قوله: "حرَّمتُ السُّكر" قد أفاد الحكم [و] قوله بعد هذا: "لأنه حلو" إنما ذكره (1) لفائدة، وليس فائدته إلا القياس عليها. فلو قلنا: لا يقاس عليها بطلت فائدتها، وهذا لايجوز.
فإن قيل: فائدتها بيان العلة التي ثبت الحكم لأجلها، ولو لم يذكر العلة لكان يكون الحكم ثابتاً بغير علة.
قيل: لو كان التعليل لا يفيد إلا إفادة النص أو الإِجماع، كان وجوده كعدمه، لا يفيد فائدة، فوجب تعديته لتحصل الفائدة.
فإن قيل: فائدته (2) عِلْمُنا بالوجه الذي لأجله صار الفعل مصلحة للمكلف، وإن لم يجب حمل غيره عليه إذا شاركه في العلة.
قيل: فلا فائدة في معرفة ذلك إذا لم يتعد إلى غيره؛ لأنا قد استفدنا الحكم بالنص، وإنما يستفيد المكلف معرفة الوجه بالمصلحة ليعمل عليه، فإذا كان مقصوراً لم يفد؛ لأن ذلك مستفاد بالنص، وهذه طريقة أجود شىء في المسألة.
وأيضاً: فإن العلة وضعت للحكم تنبيهاً على غيره من الأحكام، كالنهي عن الأدنى، تنبيهاً على المنع من الأعلى، نحو قوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لهُمَا أف) (3)، كان فيه تنبيه على المنع من الضرب، ونحو ما يجب أن يكون ذكر العلة ها هنا تنبيهاً على نظيره قبل ورود التعبد بالقياس وبعده، كما قلنا ذلك
__________
(1) في الأصل: (ذكروه).
(2) في الأصل: (فائدة).
(3) الآية (23) من سورة الإسراء.

(4/1376)


في لفظ التنبيه.
فإن قيل: لا نسلم أن العلة وضعت للتنبيه على غيرها من الأحكام.
قيل: لا خلاف أنها بعد ورود التعبد بالقياس [تكون] تنبيهاً على غيرها، فيجب أن تكون قبله تنبيهاً كالتنبيه باللفظ.
فإن قيل: إنما كان النهي عن التأفيف موجباً لما ذكرت؛ لأن هذه اللفظة موضوعة في اللغة لذلك، فليست هذه حال التعليل؛ لأن تعليل الحكم غير موضوع في اللغة يحمل غيره عليه.
قيل: بل هو موضوع يحمل غيره عليه بدليل بعد ورود التعبد بالقياس.
واحتج [211/أ] المخالف:
بأن هذه الشرعيات، إنما حَسُن التعبد بها، لما فيه من المصلحة الداعية، وقد بيَّن الله تعالى ونبَّه على ذلك بقوله: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ). فإذا كان كذلك، وكان ما يدعو إلى فعل الشىء قد لا يدعو إلى فعل أمثاله، بدلالة أن العاقل إذا أكل شيئاً لأنه حلو، لم يأكل جميع ما يشاركه في الحلاوة في تلك الساعة. فلا يمنع أيضاً أن يكون الحكم المنصوص عليه مصلحة للمكلف، ولا يكون ما شاركه في تلك العلة مصلحة له.
والجواب: أن حُسْن التعبد لا يقف عندنا على ما فيه وقد بيَّنا ذلك فيما تقدم.
وعلى أن العلة هاهنا موجودة ممن هو عالم بالمصالح، فوجب تقديمها لوجود المصلحة فيها.
واحتج: بأن مجرد الوصف لا يدل على شىء. ألا ترى أن الحلاوة كانت موجودة في السكَّر قبل (1) أن ينص على تحريمه، ولم تكن دلالة على التحريم.
__________
(1) في الأصل (مثل).

(4/1377)


فلما نص على تحريمه، وذكر العلة، فقد ذكر علة خاصة تقتضي ثبوت الحكم في الأصل المذكور وتعلقه به. وقد تكون العلة خاصة فيه، وقد تكون علة فيه وفي غيره، فلم يكفِ مجرد ذكرها في وجوب رد غيرها إليها، بل احتيج في ذلك إلى دليل.
والجواب: أن هذا باطل بجميع العلل الشرعية، فإن أوصافها كانت موجودة قبل التعبد بالقياس، ولا يتعلق بها حكم، وبعد التعبد بالقياس تعلق بها الحكم، كذلك هاهنا لما ورد النص بها وجب أن يتعلق الحكم بها وإن لم يتعلق بها قبل ذلك.
وقولهم: إن العلة قد تكون خاصة، فوجب التوقف حتى يدل الدليل على التعدي، فلا نسلمه؛ لأنه ليس عندنا علة مقصورة غير متعدية.
وهذا أصل، يأتي الكلام عليه إن شاء الله.
واحتج: بأنه لا يجوز أن يقول: حرمتُ السكَّر لحلاوته، وأحللتُ غيره مما (1) توجد فيه الحلاوة، فلا يكون ذلك تناقضاً. فلو كان النص على العلة يوجب أن يكون كل ما يوجد فيه مشاركاً، لما جاز أن ينص على ثبوت الحكم في بعض ما يوجد فيه العلة، وعلى ضده في بعضها، بل يكون ذلك ضرباً من المناقضة.
فلما جاز هذا، ثبت؛ لأن مجرد النص على العلة والحكم لا يوجب إلحاق الغير به إلا بدليل.
والجواب، أنا لا نسلِّم هذا، وهذا على أصلنا ظاهر. و(2) أن تخصيص العلة لا يجوز، وفي هذا تخصيص لها.
__________
(1) في الأصل (ما).
(2) الواو هذه زائدة، وكان الأولى حذفها، وقد تركناها؛ لأن المؤلف يعبر بها كثيراً.

(4/1378)


وفي الجملة يجوز أن تكون أحكام صاحب الشرع متناقضة (1). فأما تعليله فلا يجوز أن يتناقض.
واحتج: بأن الاعتبار باللفظ دون [211/ب] المعنى. بدليل أنه لو حلف فقال: "والله لا أكلتُ السُّكر لأنه حلو"، لم يحنث بأكل ما عداه.
كذلك ألفاظ صاحب الشريعة.
والجواب: أن الفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أن صاحب الشريعة لا تجوز عليه المناقضة، وغيره تجوز عليه المناقضة.
والثاني: أن صاحب الشريعة قد أمر بالقياس، فإذا نص على العلة وجب القياس عليها، وغيره لم يأمر بذلك. فلو قال لنا قائل: "قيسوا كلامي بعضه على بعض"، ثم قال: "لا أكلتُ السُّكَر لأنه حلو"، شَرَكَه فيه كل حلو.
مسألة
[العلة القاصرة]
العلة الشرعية إذا كانت مقصورة على موضع الوفاق لم تكن صحيحة وكان وجودها كعدمها (2).
__________
(1) الحق أن صاحب الشريعة لا تجوز عليه المناقضة بحال من الأحوال، وهو ما صرح به المؤلف في الجواب عن الدليل الآتي للمخالف، حيث قال: (إن صاحب الشريعة لا تجوز عليه المناقضة، وغيرُه تجوز عليه) فلعله سبقُ قلم. والله أعلم.
(2) راجع هذه السألة في: التمهيد (4/61) والواضح لابن عقيل (2/862)، وروضة الناظر (2/315) والبلبل (152) والمسوَّدة ص (411) وهذا قول أكثر الحنابلة، ومنهم المؤلف.

(4/1379)


وهو قول أصحاب أبي حنيفة (1).
وقال أصحاب الشافعي: هي علة صحيحة كعلة الذهب والفضة (2). العلة في تحريم التفاضل فهما عندهم كونها قيَم المتلفات فلا تتعدى (3).
دليلنا:
أن المتفق على حكمه إنما يجب لأعيانه التي تقاس عليه؛ لأن
__________
= وذهب أبو الخطاب وابن قدامة والمجد إلى أنها صحيحة.
انظر: المراجع السابقة.
وكان الأولى أن يذكر المؤلف محل النزاع، فإن العلة القاصرة قسمان: منصوص عليها ومستنبطة، والخلاف إنما هو في المستنبطة، ولذلك قال أبو الخطاب في التمهيد: (... فقال أصحابنا -رضي الله عنهم- وأصحاب أبي حنيفة: هي باطلة إلا أن ينص عليها صاحب الشرع).
وقال في المسوَّدة: (... فأما القاصرة المنصوصة فيجوز التعليل بها وفاقاً، ذكره أبو الخطاب).
وذكر الآمدي في الاحكام (3/200) أن العلة القاصرة إذا كانت منصوصة أو مجمعاً عليها أنها صحيحة.
وذكر ابن السبكى في الإبهاج (3/154) أن الاتفاق في الحلة المنصوصة نقله جماعة، منهم القاضي أبو بكر.
ثم قال: (وأغربَ القاضي عبد الوهاب في الملخص، فحكى مذهباً ثالثاً: أنها لا تصح على الإطلاق فيه، سواء كانت منصوصة أو مستنبطة... ولم أر هذا القول في شىء مما وقفت عليه من كتب الأصول سوى هذا).
(1) انظر أصول السرخسي (2/158) وتيسير التحرير (4/5) وفواتح الرحموت (2/276) وهو قول جمهورهم كما عبر به صاحب فواتح الرحموت.
(2) انظر: التبصرة ص (452) والبرهان (2/1080)، وشفاء الغليل ص (537)، والمستصفى (2/345)، والمحصول (5/423)، والإحكام للآمدي (3/200) والإبهاج (3/254).
(3) في الأصل (يتعدا) بالمثناة التحتية.

(4/1380)


الأصل قد استغنى بدخوله تحت الإِجماع عن التعليل. ألا ترى أن جميع الأحكام لو كانت مجْمعاً عليها، أو منصوصاً عليها لم يحتج مع ذلك إلى القياس.
فإذا كان التعليل بما لا يتعدى الأصل لا يفيد إلا ما أفاده النص أو الإِجماع وجب أن يكون وجوده وعدمه سواء.
وقد يُعبر عن هذا بعبارة أخرى، فيقال: الأصل معلوم من طريق القطع، فتعليله بما لا يتعدى لا يستفاد به معرفة الأصل؛ لامتناع أن يعلم بما طريقه غلبة الظن، الأمر الذي علم من جهة القطع، وصار كمن قاس القياس الشرعي في الأمور العقلية التي طريقها العلم، أو طلب أخبار آحاد، ليعلم بها ما علم من طريق القطع. وإذا بطل أن يعلم بها حكم الأصل، ولم يجز أن نعرف بها حكم فرع آخر، سقط اعتبارها.
فإن قيل: هذا يبطل بالعلة العقلية والعلة النصوص (1) عليها، فإنها صحيحة وإن كانت مقصورة واستغنى الأصل عنها، فإن العلة العقلية يجوز أن تكون مقصورة، وهو قوله: "لا تسلك طريقاً تهلك فيه إلا أن يكون لك فيه نفع في الآخرة، كالأمر بالمعروف"، والعامة نحو قوله في الظلم: "لا يجوز لكونه قبيحاً" فهذه عامة في كل قبيح.
وكذلك العلة المنصوص عليها، يجوز أن تكون مقصورة، وهو أن يقول الله تعالى أو رسوله: حرمت التفاضل في الدراهم والدنانير لأنها قِيَم [212/أ] الأشياء.
قيل: لا يبطل ما ذكرنا. وذلك أن العلة العقلية يستفاد الموجب بها منها.
وهذا المعنى يحصل بالمتعدية (2) وغيرها، فكان لطلب كل واحد من الأمرين
__________
(1) في الأصل: (المنصوصة).
(2) في الأصل: (بالمتعدي).

(4/1381)


فائدة.
فأما الشرعيات فهي علامات، ومعلوم أنها ليست بعلامة لمعرفة حكم الأصل، وإنما علامتها السمع الوارد. فإذا لم يعلم منها فائدة كانت كعدمها.
أما العلة المنصوص عليها، فإنه يحمل الأمر فيها على أنها بيان لعلة المصلحة التي لأجلها أبيح أو حُظِر. وعِلَلُ المصالح لا تُعلم بالاستخراج، وإنما تُعلم بالتوقيف، وكلامنا في العلة التي تستخرج من عِلَل الأحكام، وليست بمتعدية.
وجواب آخر، وهو: أن قول أصحاب الشريعة يوجب هذا المعنى، فيحصل (1) بالمتعدية (2) وغيرها، تجرى مجرى العلة العقلية، وهذا المعنى معدوم في تعليلنا.
فإن قيل: فيها فائدة، وإن كانت مقصورة، و[هي] أن يُعلم معنى الحكم (3)، وأنه ليس مما استأثر الله بعلمه.
قيل: لا فائدة في معرفة معنى الحكم إذا لم يتعد إلى غيره، لأنه لا يفيد إلا ما أفاده النص. وقد بينَّا هذا في التي قبلها.
فإن قيل: فيه فائدة أخرى، وهو أن نعلم علة المصلحة به.
قيل: علة المصالح لا طريق إلى معرفتها، إلا من جهة التوقيف. ألا ترى أن موسى عليه السلام، أنكر ما حصل من صاحبه من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الحائط الذي أراد أن ينقضَّ، ولم يعرف وجه المصلحة في ذلك حتى
وقف عليه، فلم يكن للتعليل حظ في معرفة علة المصلحة.
وعلى أن الأصل إنما يعلل لطلب علة الحكم دون علة المصلحة؛ لأن علة
__________
(1) في الأصل: (يحصل) بدون الفاء.
(2) في الأصل: (بالمتعدى).
(3) في الأصل: (وإن لم يعلم معنى الحكم) وإثبات (لم) يغير المعنى فحذفناها ليستقيم الكلام.

(4/1382)


الحكم فيما يكون عليه الأصل من الأوصاف، وعلة المصلحة إنما هي في المعبَّدين
دون الحكم، من حيث إن الله تعالى قد علم أنه لو لم يتعبد المكلف بما يتعبده به فَسَد، فكانت مصلحته في التعبد.
فإن قيل: فيه فائدة أخرى، وهو أن يمنع رد غير المنصوص عليه إلى المنصوص عليه، ويعلم أن الحكم مقصور عليه لا يتعداه.
ويفيد أن الحكم ثبت في المنصوص عليه لهذه العلة. فربما حدث ما يوجد فيه تلك العلة فيقاس عليه.
قيل: الشرع ورد في تعليل الأصول ليقاس عليها، لا للمنع من القياس، فلم يصح أن يقال: إن الفائدة منع رد غير المنصوص علمِه إلى المنصوص عليه.
فإن قيل: إنما يعلم أن العلة متعدية أو مقصورة بعد استنباطها، وثبوتها، وصحتها. وقبل [212/ب] ذلك لا يعلم. والخلاف في صحتها في الأصل.
وهل يجوز استنباطها وجعلها (1) علة، فكيف يجوز أن يستدل على جواز استنباطها وجعلها علة، ما لم تثبت بعد استنباطها وثبوتها؟!
قيل: يجوز أن يطلق على العلة الفساد قبل استنباطها، للعلم بفسادها من جهة الشرع، كما يطلق الصحة [عليها] قبل استنباطها، وكما يطلق عليها الفساد قبل استنباطها لعدم الوصف أو الأصل، كذلك هاهنا.
فإن قيل: لا يمتنع أن تكون علة صحيحة، وإن كانت [دالة] على ما دل عليه النص. كما أن خبر الواحد يكون دالاً على ما دل عليه نص القرآن، ويكون صحيحاً.
قيل: نص القرآن وخبر الواحد، كل واحد منهما يدل على نفس الحكم، وما اختلفنا فيه يدل على علته، وعلة الحكم من شأنها أن تكون متعدية مفيدة.
بدليل علة الربا، النص ورد على ستة أشياء، فلما طلبنا علةَ الحكم وجب تعدِّيها،
__________
(1) في الأصل (وجعله).

(4/1383)


فالمخالف يُعدِّيها إلى كل مطعوم. ونحن نُعديها إلى كل مكيل. كذلك هاهنا.
ولهذا رجحوا علتهم بأنها أعَمُّ فروعاً.
وجواب آخر، وهو: أن الآية مع الآية، والخبر مع الخبر، كل واحد منهما دليل مقطوع عليه، بدليل أنه لا يسقط أحد الأجناس. فجاز أن يكون كل واحد منهما دليلاً مع الآخر. والقياس مع الخبر بخلاف ذلك؛ لأنه غير مقطوع عليه؛ لأنه يسقط مع الخبر، فلم يكن حجة معه.
يبين صحة هذا: أنه لو أقر، ثم أقر، ثبت الحق بهما جميعاً، إلا أنهما سواء في المدعي (1)، والبينة لم تسمع؛ لأن الاقرار مقطوع به، والبينة غلبة الظن، كذلك هاهنا.
واحتج المخالف:
بأن هذه أمارة شرعية، فجاز أن تكون عامة وخاصة، كالنص، يكون عاماً
كقوله: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)، ويكون خاصاً كقوله: "اقتلوا المرتد".
والجواب: أنه إنما كان حجة في العموم والخصوص؛ لأنه يفيد في الموضعين جميعاً إثبات الحكم في الموضوع المنصوص عليه. وليس كذلك في مسألتنا، فإنها تفيد في العموم، ولا تفيد في الخصوص من الوجه الذى بينَّا.
واحتج: بأن كل معنى يجوز أن يكون منطوقاً به، جاز أن يكون مستنبطاً كالعلة المتعدية.
وبيانه: أن صاحب الشرع لو نص على العلة المقصورة جاز، كذلك المستنبطة. والجواب عن العلة المنصوص عليها ما ذكرنا، وهو أنها أفادت علة المصلحة، وذلك لا يعلم بالاستخراج، وإنما يعلم بالتوقيف.
وكلامنا في العلل التي تستخرج من الأحكام. [213/أ].
__________
(1) يعني: أن الإقرارين سواء في إثبات المدعي به.

(4/1384)


واحتج: بأن العلة الشرعية أوسع من العقلية؛ لأن الشرعية يوجد الحكم بوجودها وليس من شرطها أن يعدم بعدمها. والعقلية تحتاج أن يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها. فلما ثبت أن العلة العقلية يجوز أن تكون متعدية، وتكون مقصورة، فالشرعية أولى.
والجواب عنه تقدم، وهو أن العلة العقلية يستفاد الحكم الموجب بها منها.
وهذا يحصل بالمتعدي منها وغيره.
والشرعيات علامات، والمقصورة ليست بعلامة لمعرفة حكم الأصل. وإنما علامتها السمع، فإذا لم تُعلم بها فائدة كانت كعدمها.
واحتج: بأن القُيَّاس (1) اختلفوا في الدليل على صحة العلة:
فقال بعضهم: سلامتها على الأصول.
وقال بعضهم: التأثير والمُلاءَمة.
وكل دليل ذكرته طائفة، فهو موجود في العلة المقصورة.
والجواب: أن أحد الأدلة على صحتها، كونها مفيدة، وذلك معدوم هاهنا (2).
__________
(1) يعنى القائلين بحجية القياس.
(2) ليس ذلك معدوماً، بل هناك فوائد منها:
أ) معرفة هذه العلة القاصرة في حد ذاتها فائدة؛ لأن العلم بالشىء خير من الجهل به.
ب) أن النفس البشرية تتوق إلى معرفة علل الاشياء.
ج) أن يمتنع من القياس عليها إذا عرف أنها قاصرة.
د) أن نَظَرَنا الآن إليها جعلها قاصرة، وربما حدث جنس آخر تتوفر فيه هذه العلة، فتكون متعدية والحالة هذه.
انظر: التمهيد لأبى الخطاب (4/64) والاحكام للآمدي (3/201).
وقد تبنَّى أبو الخطاب القول بصحتها، مخالفاً شيخه أبا يعلى، ولذلك تعقبه في أكثر الأدلة وأجاب عنها.

(4/1385)


مسألة
[تخصيص العلة الشرعية]
لا يجوز تخصيص العلة الشرعية (1). وتخصيصُها نقضُها (2).
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية [أحمد بن] الحسين بن حسان "القياس: أن يقاس على الشىء إذا كان مثله في كل أحواله. فأما إذا أشبهه في حال، وخالفه في حال، فهذا خطأ" (3).
__________
(1) راجع هذه المسألة في: المسائل الأصولية من كتاب الروايتين والوجهين للمؤلف ص (71)، والتمهيد لأبي الخطاب (4/69) وروضة الناظر (2/321)، والمسوَّدة ص (412،410).
(2) هذا الذى جزم به المؤلف هنا، ولكن في المسائل الأصولية من كتاب الروايتين ص (71) ذكر رأيين للحنابلة، الجواز وعدمه، ثم قال:
(إن القول بالجواز هو المذهب الصحيح، ومسائل أصحابنا تدل عليه).
وفي المسوَّدة ص (413) : (قلتُ: وقد ذكر القاضي في مقدمة المجرد أن القول بجواز تخصيصها هو ظاهر كلام أحمد في كثير من المواضيع.
قلت: فصارت على روايتين منصوصتين، ولفظه: هي صحيحة حجة فيما عدا المخصوص).
وكان الأولى أن يحرر المؤلف محل النزاع؛
لأن العلة قسمان: منصوصة، ومستنبطة.
وقد حرر محل النزاع أبو الخطاب في التمهيد، فذكر أن العلة المستنبطة فيها قولان، وبكل واحد قال فريق من الحنابلة، وأن كلام الإمام أحمد يحتمل القولين.
ثم ذكر المنصوصة، وقال: من يقول بتخصيص العلة يقول بتخصيصها، ومن منع من تخصيص المستنبطة اختلفوا في ذلك فقال بعضهم بالجواز، وقال بعضهم بعدمه.
وسيأتي في استدلال المؤلف ومناقشته ما يشير إلى ذلك.
(3) هذه الرواية ترددت كثيراً، وقد سبق توثيقها.

(4/1386)


وهذا الكلام يمنع تخصيصها عنده.
وذكر أبو إسحاق (1) في جزء وقع إلي من شرح الخِرَقي فقال: أصحابنا على وجهين:
منهم من يرى تخصيص العلة.
ومنهم من لا يرى ذلك (2).
وقد ذكر أبو الحسن الجزري (3) في جزء فيه مسائل من الأصول قال: لا يجوز تخصيصها.
وهو قول الشافعي (4)، وجماعة من المتكلمين (5).
__________
(1) هو: ابن شاقلا، وقد سبقت ترجمته.
(2) وهو ما صرح به أبو الخطاب في التمهيد (4/69-70) وقال: (وكلام أحمد - رضي الله عنه - يحتمل القولين معاً).
وذكر ذلك في المسودة ص (412)، والروضة (2/321).
والقول بعدم الجواز اختاره القاضي هنا، ونسبه إلى شيخه أبي عبد الله الحسن بن حامد في المسائل الأصولية ص (71).
ونسبه هنا وفي المسوَّدة إلى أبي الحسن الخزري.
والقول بالجواز اختاره أبي الخطاب في التمهيد، وانتصر له.
(3) هو: عبد العزيز بن أحمد بن الحسن أبو الحسن الخرزي، أو الجزري وقد سبقت ترجمته ص (1000).
(4) هكذا جاءت النسبة في جمع الجوامع (2/295).
والآمدي في الاحكام (3/202) ذكرها منسوبة إلى الإِمام الشافعي بصيغة "قيل".
ولكن الغزالي في شفاء الغليل ص (460) صرح بأنه لم يُنْقل عن أبي حنيفة أو الشافعي تصريح بجواز التخصيص أو منعه.
(5) انظر: التبصرة ص (466) والمعتمد (2/822)، والمحصول (5/323)، والإحكام للآمدي الموضع السابق، والإبهاج (3/93).

(4/1387)


وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز تخصيصها (1).
وحكي ذلك عن مالك (2).
وقال أحمد -رحمه الله- في القياس: يقتضي أن لا يجوز شَرْي أرض السواد؛ لأنه لا يجوز بيعها (3) ليس بموجب لتخصيص العلة، لأن تخصيص العلة ما مَنَع من جريانها في حكم خاص.
وما ذكره أحمد -رحمه الله- إنما هو اعتراض النص على قياس الأصول في الحكم العام، وقد يترك قياس الأصول للخبر.
دليلنا:
أن هذه علة يجب وجود الحكم بوجودها. فوجب أن يكون تخصيصها
__________
(1) الظاهر من كلام المؤلف أن أصحاب أبي حنيفة يقولون كلهم بالجواز، ولكن صاحب كشف الأسرار ذكر أن الحنفية قسمان في هذه المسألة، حيث قال (4/1152) : (واختلفوا في تخصيص العلة، فقال القاضي الإمام أبو زيد والشيخ أبو الحسن الكرخي، وأبو بكر الرازي وأكثر أصحابنا العراقيين: إن تخصيص العلة المستنبطة جائز...
وذهب مشايخ ديارنا قديماً وحديثاً إلى أنه لا يجوز...
هذا في العلة المستنبطة.
فأما في العلة المنصوصة فاتفق القائلون بالجوار في المستنبطة على الجواز فيها. ومن لم يجوز التخصيص في المستنبطة فأكثرهم جوزه في المنصوصة، وبعضهم منعه في المنصوصة أيضاً).
وذكر في مسلم الثبوت (2/277) الرأيين عن الحنفية وأن القول بالجواز هو المختار، وقال به الأكثر منهم.
وانظر الفصول في الأصول (144).
(2) انظر شرح تنقيح الفصول للقرافي المالكى ص (400)، فقد صرح بأن القول بالجواز هو المذهب المشهور.
(3) في الأصل (بيعه) والضمير عائد على مؤنث.

(4/1388)


نقضاً لها، قياساً على العلة العقلية. مثل الحركة والسكون، والقدرة والعجز والسواد والبياض، وغير ذلك مما هو علة في العقل للحكم الذي موجبه المحل الذي توجد فيه، فإن تخصيصها [213/ب] يكون نقضاً لها.
كذلك العلة الشرعية.
فإن قيل: العلة العقلية موجبة لما توجبه بنفسها. ألا ترى أنه لا يجوز وجودها في وقت من الأوقات غير موجبة لما توجبه. والشرعية أمارة للحكم بدلالة وجودها قبل الشرع، من غير أن يتعلق بها حكم.
قالوا: يبين صحة هذا: أنه يجوز أن ينص الله تعالى على أن العلة الشرعية هي علة للحكم في موضع دون موضع، ولا يجوز أن ينص على أن العلة العقلية [هي علة] لما توجبه في بعض المواضع دون بعض.
قيل: الشرعية بعد جعلها علة، قد صارت بمنزلة العقلية في اقتضائها للحكم وإيجابها له، ووجوب وجوده بوجودها، وكونها موجبة في زمان دون زمان لا يدل على كونها علة في مكان دون مكان؛ لأنه يجوز أن لا تكون علة ثم تصير (1) علة، فلا يجوز أن تكون علة في مكان ولا تكون علة في مثله؛ لأن وجودها مع زوال الحكم يدل على أنه نقض للعلة، وأنها مقيدة بصفة زائدة تخص ذلك الموضع الذي هي علة فيه، فبان الفرق بين الزمانين والمكانين.
وقد قيل في جواب هذا: إن العلة العقلية سبب كونها علة العقلُ، وذلك السبب يوجد على الاتصال في جميع الأوقات، فلا يخرج عن كونها علة مع وجود سببها.
والعلة الشرعية سببها الشرع. وذلك السبب يختص ببعض الأوقات دون بعض فكانت علة في بعض الأزمنة دون بعض.
__________
(1) في الأصل: (يصير) بالمثناة التحتية فيهما.

(4/1389)


ونحن إنما اعتبرنا إحداهما بالأخرى، مع وجود سببها، وهما متساويان في هذه الحالة، وإن اختلفا في غيرها.
واعترض المخالف على هذا وقال: العلل العقلية لم تصر عللاً بالعقل، وإنما هي علل بأنفسها.
ألا ترى أنها قد كانت عللاً، وإن لم يكن هناك ذو عقل.
وهذا غير صحيح؛ لأنه لا يصح وجود العلة العقلية قبل وجود العقل، لأنها به صارت عامة. وإنما يصح وجودها مع عدم ذي عقل؛ لأن ذلك ليس بعلة لها، وإنما علتها (1) العقل، وهو موجود.
فإن قيل: العلل الشرعية، لما لم تكن موجبة لهذه الأحكام قبل ورود الشرع لم يجز أن يرد الشرع بكونها موجبة. والعلل العقلية لما كانت موجبة لم يجز أن يرد الشرع بكونها غير موجبة.
قيل: لما كانت هذه العلل قبل ورود الشرع غير أمارات للأحكام، ثم لم يمتنع أن يرد الشرع بكونها أمارات [214/أ] لم يمتنع أيضاً أن تكون غير موجبة قبل الشرع ثم يرد الشرع بكونها موجبة لما تعلق بها من الأحكام.
وقد قيل: إن القول بتخصيص العلة يقتضي سد باب الاستدلال على صحة العلة. فإنه لا تثبت العلة إلا بأمارة تدل على صحتها فإن وجد الحكم لوجودها، دلت الأمارة على صحتها. وإن لم يوجد الحكم لوجودها لم تكن تلك الأمارة دلالة على صحتها، فتكون علة تارة، ولا تكون علة أخرى، وتكون بعض العلة، فيجب ضم وصف آخر إليها حتى لا تنتقض.
فثبت أنها لم تكن علة مع عدم الوصف الزائد.
وقد قيل في المسألة: إن تخصيص العلة يؤدي إلى تكافئ الأدلة؛ لأن من
__________
(1) في الأصل: (علبها) بالموحدة التحتية، وهو خطأ.

(4/1390)


قال: يحل شرب النبيذ، لأنه مائع يشتهى (1) شربه، فوجب أن يكون حلالاً، كالماء وسائر الأشربة، وقال: قام الدليل في الخمر فخصصها، لم ينفصل ممن قال: إنه مائع يشتهى (2) شربه فوجب أن يكون حراماً كالخمر.
وقد قام الدليل على الماء وسائر الأشربة فخصصها.
وهذه الطريقة أصح، إذا لم يكن المعلِّل دل على صحة علته.
فأما إذا دل على صحة علته بالتأثير لم يصبح القلب؛ لأن التأثير لا يوجب العلة في الحكمين جميعاً، ولا يجوز أن يؤثر إلا في أحدهما.
وقيل أيضاً: بأنه لو جاز تخصيص العلة لم يوجد في شىء من العلل مناقضة؛ لأن كل واحد من أوصاف علته مع ارتفاع حكمها يمكنه أن يخصصها.
ولا يلزم النقض أبداً، إذ في اتفاقنا على أن من العلل الشرعية ما يتوجه عليها النقض دليلٌ على امتناع جواز تخصيص العلة.
وهذا لا يلزم المخالف؛ لأنه يقول: جواز تخصيص العلة بشرائط وهى:
أن يكون مدلولاً على صحتها في الأصل.
ولا تكون مدعاة.
وأن يكون الموضع الذي خص العلة فيه من المواضع التي دلت الدلالة على تخصيص هذه العلة منها.
ومتى أخل المستدل بشىء من هذه الشرائط، ثم أوجد العلة بجميع أوصافها مع عدم الحكم، كان دليلاً على نقضها (3).
ولأنه لا يخلو إما أن يجب إجراء العلة في الفروع لنفسها أو بدليله. فإن
__________
(1) في الأصل: (شبيهاً) وما أثبتناه موافق لما في التمهيد (4/86).
(2) في الأصل: (ـ ـ ـ ها) بدون إعجام، ووما أثبتناه موافق لما في التمهيد الموضع السابق.
(3) في الأصل: (انقضائها).

(4/1391)


وجب إجراء الحكم بها لنفسها، لم يجز تخصيصها، لأن نفسها موجودة فيما امتنعت من الحكم بها فيه.
وإن احتاج إلى دليل في تعليق الحكم بها في كل فرع استغنى عن العلة، وصار الدليل على الحكم في كل فرع دليلاً على الحكم في العلة.
واحتج[214/ب] المخالف:
بقوله تعالى: (إنَّ لَهُ أباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أحَدَنَا مَكَانَهُ) (1).
قالوا: وكيف يأخذ أحدهم مكانه، وأبوه أيضاً شيخ كبير، لولا جواز القول بتخصيص العلة.
والجواب: أن مضمونه أن أباه يخاف عليه؛ لأنه مأخوذ في جناية، وهو إذا أخذ أخوه لم يكن خائفاً (2).
واحتج: بأن العلل الشرعية أمارة على الأحكام، وليست بموجبة لها. ألا ترى أنها كانت موجودة قبل الشرع غير موجبة.
وإذا جاز أن تكون أمارة في حال دون حال، جاز أن تكون أمارة في موضع دون موضع.
والجواب عنه تقدم، وهو أنه يجوز أن لا تكون علة، وتصير علة.
ولا يجوز أن تكون علة في مكان ولا تكون في مثله؛ لأن وجودها مع زوال الحكم يدل على أنه نقض للعلة، وأنها مقيدة بصفة زائدة تختص ذلك الموضع الذي هي علة (3) فيه. فبان الفرق بين الزمانين والمكانين.
واحتج: بأن هذه العلل، لما كانت أمارات الأحكام، وجب أن يجوز
__________
(1) آية (78) من سورة يوسف.
(2) في الأصل: (خائنا).
(3) في الأصل: (علته).

(4/1392)


تخصيصها، كما يجوز في أسماء العموم. لما كانت الأسماء أمارات لما علق بها من الأحكام جاز تخصيصها.
يبين صحة هذا: أن العموم في الأسماء آكد حالاً وأعلا مرتبة من العلة؛ لأن رد العموم يوجب التكفير، ورد العلة المقتضية لا يوجب ذلك.
فإذا جاز تخصيص العموم، فلأنْ يجوز تخصيص العلة التي هي دونه في الرتبة أولى.
والجواب: أن تخصيصه لا يُسقط دلالتَه، ولا يُسقط شرطه؛ لأنه إنما كان دليلاً على الحكم لكونه قولاً لمن تجب طاعته، فإذا خص منه شىء كان ما يتناوله اللفظ مما عداه داخلاً في اللفظ. فوجب إثبات حكم اللفظ فيه، وليس كذلك في مسألتنا. فإنه إذا وجدناها مع عدم الحكم تبينا أنها ليست كمال العلة، وأن الحكم ليس بتابع لها وإنما هو تابع لها تبع زيادة صفة يجب إضافتها إليها.
واحتج: بأن العلة المنصوص عليها، وهي علة صاحب الشرع يجوز تخصيصها كذلك المستنبطة.
والجواب: أن العلة المنصوص عليها لا يجوز تخصيصها.
وإذا وجدناها مع عدم الحكم، تبينا أنها بعض العلة، وأن الله تعالى نص على بعض العلة، ووكل الباقي إلى اجتهاد أهل العلم.
وإذا كان كذلك، لم يكن بين المنصوص عليها وبين المستنبطة فرق.
وقد قيل: يجب أن تكون منتقضة، ولا يقدح ذلك فيها؛ لأن الدليل على صحتها كونها منصوصاً [215/أ] عليها، وذلك موجود.
واحتج: بأنه يجوز أن يوجد الحكم بوجود العلة، ثم تزول هذه العلة والحكم باق بدليل آخر وعلة أخرى. فإذا صح أن يبقى الحكم ولا هذه العلة، صح أن توجد هذه العلة ولا حكم.
والجواب: أنه إذا وجد الحكم ولا علة لم يمنع أن يجري، دليل صحة العلة

(4/1393)


على معلولها. فلهذا صح أن يوجد الحكم، وليس كذلك هاهنا؛ لأنا إذا وجدنا العلة ولا حكم، منع أن يجري هاهنا؛ لأنا إذا وجدنا العلة ولا حكم، منع أن يجري دليل صحة العلة في معلولاتها. ولأنه إذا وجد الحكم ولا علة لم يفضِ إلى تكافؤ الأدلة، وإيجاب الحكم وضده بعلة واحدة في مسألتنا يفضي إلى ذلك، فبان الفرق بينهما.
فإن قيل: أليس قد قال أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي، وقد قيل: "كيف تشتري ممن لا يملك (1) ؟ فقال: القياس كما تقول، ولكن هو استحسان".
واحتج: بأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّصوا في شَرْي المصاحف، وكَرِهوا بيعها (2). وهذا يدل على تخصيص العلة.
قيل: تخصيص العلة ما يمنع من جريانها في حكم خاص.
وما ذكره أحمد -رحمه الله- إنما هو اعتراض النص على قياس الأصول في الحكم العام، وقد يترك قياس الأصول للخبر (3).
ولأنهم قد يعدلون في الاستحسان عن قياس، فامتنع أن يكون معناه تخصيصاً (4) بدليل.
__________
(1) يعني كيف تقول بجواز شراء أرض السواد والبائع لا يملكها.
(2) وقد سبق الكلام على توثيق هذه الرواية عن أحمد، وتخريج الأثر في ترخيص الصحابة في شراء المصاحف... ص (1182).
(3) وقد تكلم الغزالي على تخصيص العلة كلاماً جيداً في كتابه شفاء الغليل ص (458) وابن السبكي في الإبهاج (3 /92).
(4) في الأصل (تخصيص).

(4/1394)


فصل
[الطرد شرط في صحة العلة]
وهذا الكلام في الطرد وأنه شرط في صحة العلة (1).
فأما العكس فليس بشرط في صحة العلة.
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية ابن القاسم (2)، وسندي: "رطل حديد برطلين، لا يجوز، قياساً على الذهب والفضة" (3).
فقد اعتبر الطرد وإن لم ينعكس؛ لأن علتها ما لا يوزن، ومع هذا قد يجري فيه الربا في المكيلات.
وإنما كان كذلك؛ لأن العلة إذا صحت بما تقدم ذكره من لفظ صاحب
__________
(1) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/30) وروضة الناظر (2/321)، والمسوَّدة ص (427).
والطرد هو: (وجود الحكم لوجود العلة).
أما العكس هنا فهو: (عدم الحكم لعدم العلة).
انظر: الحدود للباجي (ص 74-75) والتعريفات للجرجاني باب الطاء ص (74) وباب العين ص (82).
والقول باشتراط الاطراد هنا متفق مع ما اختاره المؤلف من أن تخصيص العلة نقض لها كما تقدم.
وفي اشراط الاطراد في العلة خلاف اقتصر المؤلف على قول واحد، واستدل له.
وينبغي أن يعلم أن هناك فرقاً بين اشتراط الاطراد في العلة، وبين القول بصحتها لأنها مطردة، فلا تلازم بين الأمرين.
انظر: التمهيد (4/36) وروضة الناظر (2/291) وسيأتي كلام المؤلف على هذا ص (1436).
(2) هو: أحمد بن القاسم، وقد سبقت ترجمته.
(3) انظر في هذا: الروايتين والوجهين للمؤلف (1/318) والإنصاف (5/14).

(4/1395)


الشريعة، نصاً وظاهراً وتنبيهاً، ومن التأثير وشهادة الأصول، جاز أن تجتمع علتان في حكم، فتزول إحداهما، ويبقى الحكم ببقاء العلة الأخرى، كالمُحْرِمة إذا حاضت حرُم وطؤها لحيضها ولإحرامها، فإذا طهرت من حيضها واغتسلت (1) لم يحل وطؤها لبقاء إحرامها.
وقد تَخْلُفُ العلةُ العلة فيبقى الحكم بالعلة التي خلفتها، كالنكاح يزول وتخلفه العدة، فتمنعها العدة من عقد النكاح كما منعها النكاح.
وكذلك الرِّدة علة لإباحة الدم، والزنا مع [215/ب] الإحصان، فإذا اجتمعا تعلقت الإِباحة بهما، وإذا أسلم من الرِّدة لم تزُل الإِباحة للزنا.
فإذا كان كذلك، دل على أن ليس من شرط العلة العكس، هذا إذا كان التعليل لغير الجنس.
فأما إذا كان التعليل للجنس وجب أن تنعكس؛ لأن تعليل جنس الحكم يقتضي حصر الجنس، ويجري مجرى الحدود، فإذا لم ينعكس لم يكن حاصراً للجنس، ولم يكن علة له.
ألا ترى أنه إذا قال: الرِّدة علة لجنس إباحة الدم لم يصح؛ لأن الزنا مع الإِحصان يبيحُه، وقتل النفس بغير النفس يبيحُه. فلا تكون الردة علة لجنس إباحة الدم، لأنها لا توجب نوعين من الإِباحة اللذين يوجبهما الزنا والقتل.
ومتى كانت العلة للجنس أوجب جميع أنواع ذلك الجنس، فانعكست، ألا ترى إذا قلت: البلوغ والعقل علة لجنس التكليف انعكست.
__________
(1) في الأصل: (أو اغتسلت)، والهمزة زائدة، ذلك أن الحائض إذا طهرت ولم تغتسل لا يباح في حقها غير صوم وطلاق.
انظر: شرح منتهى الإرادات (1/45) والروض المربع مع حاشية العنقري (1/108).

(4/1396)


مسألة
[القياس على المخصوص من جملة القياس]
المخصوص من جملة القياس يقاس عليه، ويقاس على غيره (1).
أما القياس عليه، فإن أحمد -رحمه الله- قال في رواية ابن منصور: "إذا نذر أن يذبح نفسه، يُفدي نفسه بذبح كبش" (2).
فقاس من نَذَر ذبح نفسه على من نَذر ذبح ولده. وإن كان ذلك مخصوصاً من جملة القياس، وإنما ثبت بقول ابن عباس (3).
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/444) وروضة الناظر (2/331) والمسوَّدة ص (399).
وقد ألف شيخ الإِسلام ابن تيمية رسالة بين فيها أنه لا يوجد حكم شرعي مخالف للقياس. قام بطبعها الشيخ محب الدين الخطيب.
وكذلك تكلم ابن القيم عن هذه المسألة في كتابه اعلام الموقعين (1/383) مترسماً خطى شيخه ابن تيمية.
(2) هذه رواية في المذهب، ومروية عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وهناك رواية ثانية: أن عليه كفارة يمين، وهذه قاعدة في كل نذر محرم.
وهذه الرواية هي المذهب كما في حاشية المقنع (3/597) وهي منسوبة لابن عباس رضي الله عنهما.
وقد ذكر ابن قدامة في الكافي (4/419) : أن هناك روايتين، الأولى كما ذكرها المؤلف. والثانية: لا يجب عليه الكفارة؛ لأنه نذر معصية.
وفي الاختيارات لابن تيمية ص (331) إن قصد بذلك اليمين، فيمين، وإلا فنذر معصية، فيذبح في مسألة الذبح كبشاً.
(3) سبق تخريج هذا الأثر عن ابن عباس، رضي الله عنهما.
ويلاحظ: أن المخصوص من جملة القياس ثبتت خصوصيته بقول صحابي، هو ابن عباس، رضي الله عنهما.

(4/1397)


وأما قياسه على غيره، فإن أحمد -رحمه الله- قال في رواية المروذى: "يجوز شَرْي أرض السواد، ولا يجوز بيعها. فقيل له: كيف اشتري ممن لا يملك؟! فقال: القياس: كما تقول، ولكن استحسان" (1).
واحتج بأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّصوا في شَرْي المصاحف، وكَرِهوا بيعَها.
وهذا يشبه ذلك (2).
فقد قاس مخصوصاً من جملة القياس على مخصوص من جملة القياس.
وبهذا قال أصحاب الشافعي (3).
وقال أصحاب أبي حنيفة: المخصوص من جملة القياس لا يقاس على غيره.
ولا يقاس غيره عليه، إلا أن يكون معللاً أو مجْمعاً على جواز القياس عليه (4).
__________
(1) قوله هنا: (ولكن استحسان) يدل على أن الإمام أحمد يقول بالاستحسان، وهو هنا العدول عن قياس لقياس آخر.
(2) سبق ذكر هذه الرواية في أكثر من موضع.
(3) وما ذكر المؤلف هنا وجه عند الحنابلة.
وهناك وجه آخر ذكره أبو الخطاب في التمهيد (3/446) والمسوَّدة ص (400) وهو ما حكاه المؤلف عن أصحاب أبي حنيفة، كما سيأتي.
(4) هذا الرأي منسوب لأبي الحسن الكرخي، فإنه قال بجواز ذلك في ثلاث حالات: أن يرِد الخبر بكونه معللاً، أو كانت الأمة مجْمعة على تعليله، أو كان ذلك الحكم موافقاً لبعض الأصول، وإن كان مخالفاً لبعضها.
أما رأي عامة الحنفية -كما عبر صاحب كشف الأسرار- منهم القاضي أبو زيد والشيخان ومن تابعهم من المتأخرين فهو: أن الشرع إذا ورد بما يخالف في نفسه الأصول يجوز القياس عليه إذا كان له معنى يتعداه.
وهنالك رأي ثالث لبعض الحنفية. أنه لا يجوز القياس عليه.
وهناك رأي رابع لمحمد بن شجاع الثلجي الحنفي: (أن الحكم المخالف للقياس إن ثبت بدليل مقطوع به جاز القياس عليه وإلا فلا). =

(4/1398)


أما المعلَّل كقوله عليه السلام في الهر (1) : (إنَّها من الطَوَّافين عليكم والطوَّافات) (2).
فقاسوا عليه كل ما وجدت فيه هذه العلة من ساكني البيوت، مثل الفأرة، والحية، ونحو ذلك.
__________
= انظر: أصول الجصاص ص (113) كشف الأسرار (3/1031-1032) وأصرل السرخسي (2/153).
وبهذا يتبين أن نسبة هذا القول إلى أصحاب أبي حنيفة ليس على إطلاقه، وإنما هو قول أبي الحسن الكرخي منهم.
(1) هكذا في الأصل، والحديث وارد بلفظ (الهرة).
والهر يطلق على الذكر والأنثى، وقد يدخلون الهاء على المؤنث، كما قاله ابن الأنباري.
انظر المصباح (2/985) مادة (هرر).
(2) هذا جزء من حديث رواه أبو قتادة - رضي الله عنه - مرفوعاً بلفظ (إنها ليست بنجَس، إنها من الطَّوافين عليكم والطوافات).
أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة (1/18)، والترمذي في باب: ما جاء في سؤر الهرة (1/153) وقال: (حديث حسن صحيح).
والنسائى في باب سؤر الهرة (1/48) وابن ماجه، في باب الوضوء من سؤر الهرة (1/131) والدارمي في باب الهرة إذا ولغت في الإناء (1/153).
والدارقطني في باب: سؤر الهرة (1/70) والطحاوي في شرح معاني الآثار باب: سؤر الهرة (1/18)، والإِمام مالك في الموطأ باب: الطهور للوضوء ص (40) وابن خزيمة في صحيحه (1/55)، والحاكم في مستدركه، باب: أحكام سؤر الهرة (1/160) وقال: (هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه، على أنهما على ما أصَّلاه في تركه، غير أنهما قد شهدا جميعاً لمالك بن أنس أنه الحكم في حديث المدنيين، وهذا الحديث مما صححه مالك، واحتج به في الموطأ) ووافق الذَّهبي الحاكم على تصحيحه.
وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده (5/296، 303، 309).

(4/1399)


وأما المجْمع على جواز القياس عليه، فمثل التحالف (1) في الإجارة عند الاختلاف على إثباته في التبايعات (2)؛ لاتفاق الناس الذين أوجبوا التحالف (3) في البيع أن حكم الإجارة حكم البيع (4).
وما عدا ذلك لا يجوز القياس عليه، ولا قياسه على غيره.
مثل إيجاب الوضوء من [216/أ] القهقهة في الصلاة، فلا تقاس عليه القهقهة في صلاة الجنازة، وفي سجود التلاوة؛ لأن الأثر ورد بإيجاب الوضوء من القهقهة في صلاة لها ركوع وسجود (5).
__________
(1) في الأصل: (التخالف) بالخاء المعجمة، وهو خطأ بدليل ما بعده.
(2) في الأصل: (التباعات) وهو خطأ.
(3) في الأصل: (التخالف) بالخاء المعجمة، وهو خطأ بدليل السياق.
(4) الاختلاف في الإِجارة يكون في الأجرة أو المدة، فقياس الأصول: أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، ولكن ترك هذا إلى قياس الإِجارة على البيع إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة.
هذا ما أفاده أبو الخطاب في التمهيد (3/555).
ولأبي بكر الجصاص تفصيل ذكره في أصوله ص (122).
وهذا المثال الذي ذكره المؤلف على المجْمع على جواز القياس عليه، ذكره صاحب كشف الأسرار (3/1031) مثالاً على الحالة الثالثة التي استثناها أبو الحسن الكرخي وهي: ما إذا كان ذلك الحكم موافقاً لبعض الأصول وإن كان مخالفاً لبعضها.
ولم يذكر على الحالة الثانية -وهي: ما إذا كانت الأمة مجمعة على التعليل- مثالاً.
وانظر في هذه المسألة: حاشية ابن عابدين (6/75).
محل الشاهد من هذا الأثر هو: (بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس، إذ دخل رجل، فتردى في حفرة كانت في المسجد -وكان في بصره ضرر- فضحك كثير من القوم، وهم في الصلاة، فأمر رسول الله -صلى الله =

(4/1400)


ومثل إسقاط الكفارة في استدعاء القيء، فلا يقاس عليه الأكل (1).
ومثل جواز الوضوء بنبيذ التمر، فلا يقاس عليه غيره من الأنبذة للأثر الوارد (2).
ومثل جواز البناء على الصلاة، إذا سبقه الحدث فيها (3)، لا يقاس عليه من احتلم في صلاته، وفكَّر فأمنى (4) ونحو ذلك.
__________
= عليه وسلم- من ضحك أن يعيد الصلاة، ويعيد الوضوء).
وقد سبق تخريجه (3/895).
وانظر: أصول السرخسي (2/153) فقد ذكر قريباً من نص المؤلف في هذه المسألة.
(1) من استدعى القيء عامداً فعليه القضاء ولا كفارة، وأما من أكل عامداً فعليه القضاء والكفارة عند الحنفية.
انظر: شرح فتح القدير(1/335، 338) وحاشية ابن عابدين (2/414).
(2) الأثر الوارد في ذلك هو: ما رواه ابن مسعود -رضي عنه- قال: (سألني النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما في إداوتك؟ فقلت: نبيذ، فقال: تمرة طيبة وماء طهور. قال: فتوضأ منه).
وقد سبق تخريجه (1/341).
(3) القياس أنه لا يبني على الصلاة السابقة؛ لأن الحدث ينافي الصلاة، والمشي والانحراف يفسدان الصلاة، إلا أنه ترك هذا القياس، وقيل بالبناء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف، وليتوضأ، وليَبْنِ على صلاته ما لم يتكلم).
انظر: أصول الجصاص ص (120) فإن المؤلف نقل هذا عنه، وانظر أيضاً شرح فتح القدير (1/377).
(4) فإن عليه أن يغتسل، ولا يبني على صلاته، بل يستأنف صلاة جديدة حملاً على قياس الأصل.
انظر: أصول الجصاص ص (120).

(4/1401)


دليلنا:
قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى اْلأبصَارِ) (1). وهذا عام في كل موضع إلا ما خصه الدليل.
وأيضًا: فإنا إذا قسنا على الخصوص قسنا الخصوص على غيره. وحملنا النبيذ على غيره من المائعات، والقهقهة على الكلام.
فإن مخالفنا يعترف بصحة القياس، وأنه يجب حمل النبيذ على غيره من المائعات، والقهقهة على الكلام، ويَدَّعي أنه استحسن تركه لما هو أولى منه (2).
وهذا غير صحيح من وجهين:
أحدهما: أنه يلزمه أن يبين الأوْلى، وإلا حكمُ القياس متوجه عليه، وهذا كما لو قال: إن القرآن يدل على كذا، ولكن تركته للسنَّة، فتكون حجة القرآن لازمة له ما لم يبين السنة التي هي أقوى من القرآن.
ولا يكفى في ذلك مجرد دعواه.
والثاني: أنه يدعي أن الاستحسان أقوى من القياس، فلهذا تركَه.
والقياس إذا عارضه دليل أقوى منه كان القياس باطلاً، ولم يكن له حكم كما لو عارضه نص كتاب أو سنة أو إجماع. ولما حكم بصحة القياس هاهنا امتنع أن يكون عارضه أقوى منه ومانع من استعماله.
وأيضاً: فإن المخصوص من جملة العموم يقاس عليه، فالمخصوص من جملة قياس الأصول أوْلى أن يقاس عليه؛ لأن حكم العموم أقوى من قياس الأصول
__________
(1) آية (2) من سورة الحشر.
وذلك لوجود نصوص صحت عندهم، أو لمخالفته قياس الأصول.
انظر: أصول الجصاص الموضع السابق، وأصول السرخسي (2/153).

(4/1402)


له (1)، ولهذا ترك القياس له (2)
وأيضاً: فإن ما ورد به الأثر قد صار أصلاً بنفسه، فوجب القياس عليه، كسائر الأصول (3). وليس رد هذا الأصل لمخالفة تلك الأصول بأوْلى من رد الأصول لمخالفة هذا الأصل، فوجب إعمال كل واحد منهما في مقتضاه وإجراؤه على حكمه.
وأيضآ: فإن القياس يجري مجرى خبر الواحد، بدليل أن كل واحد منهما يثبت بغالب الظن، ثم ثبت أنه يصح أن يرد مخالفاً لقياس الأصول، كذلك القياس قبله.
وأيضاً: لما جاز القياس على الخصوص من جملة القياس إذا [216/ب] كان معللاً بتعليل صاحب الشرع جاز وإن لم يكن معللاً.
دليلُه: سائرُ الأصول.
فإن قيل: إذا ورد معللاً، فإن كل ما وجدت فيه تلك العلة يصير كالمنصوص عليه، كأن النبيَّ امر بالقياس عليه، ويصير [القياس] عليه أوْلى من
__________
(1) قوله: (له) لم أفهم لها معنى، فلعلها خطأ.
(2) قال أبو الخطاب في التمهيد (3/446) : (بل عموم الكتاب أقوى؛ لأنه مقطوع بطريقه، وقياس الأصول غير مقطوع عليه؛ لأنه مقيس على العموم بأمارة مظنونة، ثم العموم لا يمنع، فأوْلى أن لا يمنع المقيس عليه).
وانظر: التبصرة ص (448).
(3) هذا هو الفيصل في الموضوع، فإن أي حكم ورد به نص شرعي صحيح أصبح أصلاً بنفسه، فيقاس عليه، ولا يقال: إنه مخالف لقياس الأصول.
وهذا هو ما بينه ابن القيم في كتابه الجليل: اعلام الموقعين، ومن قبله شيخ الإِسلام ابن تيمية.
وانظر: اعلام الموقعين (2/311).
على أن أبا بكر الجصاص قد أورد هذا الدليل على شكل اعتراض، وأجاب عنه، وذلك في أصوله ص (123).

(4/1403)


قياس الأصول، وليست هذه حال المخصوص العاري عن علة؛ لأنه لا يوجد فيه ما يبطل قياس الأصول.
قيل: لو كان الحكم عندك في المعلل لما ذكرت، لوجب أن تقيس النبيذ على الخمر في التحريم لوجود علة الخمر (1) بقوله تعالى (إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أن يُوقِعَ بِيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ في الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ) (2).
وهذه العلة موجودة في النبيذ، ومع هذا فلم تقيسوا النبيذ على الخمر.
وكذلك كان يجب قياس الخل على النبيذ في جواز الوضوء -كما حُكي عن الأصم (3) جواز الوضوء بسائر المائعات- لوجود العلة في النبيذ بقوله عليه السلام: (ثمرةٌ طيبة، وماء طهور) (4)، وهذه العلة موجودة في الخل.
وكذلك كان يجب أن تقيسوا الآكل والشارب في رمضان لمرض، على الناسي في إسقاط القضاء لوجود العلة فيه، وهو قوله: (اللهُ آطْعمكَ وسقَاكَ) (5).
وهذا التعليل موجود في المريض. وليس لهم أن يقولوا: هذا التعليل لاسقاط
__________
(1) في الأصل: (العلة الخمر) و(ال) زائدة.
(2) آية (91) من سورة المائدة.
(3) هو: عبد الرحمن بن كيسان المعتزلي، وقد سبقت ترجمته.
(4) إشارة إلى حديث النبيذ، وقد سبق تخريجه (1/341).
(5) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه البخاري في كتاب الصيام، باب: الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً (3/38) بلفظ: (عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال إذا نسي فأكل وشرب، فليتمَّ صومَه، فإنما أطْعَمه الله وسقَاه).
وأخرجه عنه مسلم في صحيحه في كتاب الصيام، باب: أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر (2/89).

(4/1404)


المأثم، بل هو تعليل لإسقاط القضاء؛ لأنه روي في بعض الألفاظ (إنَّمَا هو رِزقٌ ساقَه اللهُ تَعَالى إليهِ، فلا قضاءَ عليه) رواه الدارقطنى (1).
فجعل هذه علة في إسقاط القضاء، ومع هذا فلمِ يقيسوا عليه غيره (2).
وكذلك أيضاً قاسوا المجامع ناسياً على الآكل ناسياً، وإن لم يكن الأصل معللاً، ولا مجْمعاً على قياسه عليه (3)؛ لأن أصحابنا منعوا من ذلك، وقالوا في الآكل ناسياً: لا يفطر (4)، وفي المجامع يفطر (5)، فامتنع أن تكون العلة في
__________
(1) الحديث رواه الدارقطنى في كتاب الصيام (2/180) عن أبي هريرة بلفظ قريب من لفظ البخاري.
وأخرجه باللفظ الذي ذكره المؤلف منسوباً إليه (2/179) وقال فيه: مندل وعبد الله بن سعيد، وهما ضعيفان.
كما أخرجه بطرق أخرى وبألفاظ متقاربة. وكلها لا تخلو من مقال.
(2) القياس عندهم أن من أكل أو شرب ناسياً أنه يفطر، وعليه القضاء، ولكن ترك هذا القياس للحديث الصحيح الذي ذكره المؤلف.
انظر: فتح القدير (2/327) مع البداية والهداية.
والقول بأن العلة في الناسي موجودة في المريض فيه نظر ظاهر.
(3) الحنفية لم يقولوا بأن المجامع ناسياً يقاس على الآكل ناسياً، حتى يلزم عليهم ما ذكره المؤلف، بل قالوا ذلك ثابت بالنص لا بالقياس.
وقال البابرتي في شرحه على الهداية (2/327) مطبوع مع فتح القدير: (فإن قيل: سلمنا ذلك، لكن النص ورد في الأكل والشرب على خلاف القياس، فكيف تعدى إلى الجماع؟ أجاب بقوله [يعنى صاحب الهداية]: وإذا ثبت هذا في الأكل والشرب ثبت في الوقاع للاستواء في الركنية يعني: ثبت بالدلالة لا بالقياس؛ لأن كلاً منهما نظير للآخر في كون الكف عن كل منهما ركناً في باب الصوم).
وانظر: أصول الجصاص ص (115) وأصول السرخسي (2/153).
(4) ولا قضاء عليه.
انظر: الإقناع (1/310) والمقنع وحاشيته (1/366).
(5) المجامع في نهار رمضان عليه القضاء والكفارة إن كان عامداً. =

(4/1405)


جواز القياس على المعلل ما ذكروه، وإنما العلة فيه ما ذكرنا.
وأيضاً: لما جاز القياس على ما ورد بخلاف القياس العقلي، وهو الطواف والسعي ورمي الجمار والوضوء (1)، فإن العقل يخالف هذه، ومع هذا يقاس عليها.
فلأنْ يجوز القياس على ما ورد بخلاف القياس الشرعي أوْلى.
فإن قيل: الشرع لا يرد بما يمنع العقل منه، وإنما يرد بما يُجَوِّزه العقل.
فنظيره أن يرد الأثر بما لا تمنع منه الأصول، فيجوز القياس عليه.
قيل: قد ثبت أن الشرع قد ورد بما يمنع العقل منه فلا يصح هذا (2).
فإن قيل: القياس الشرعي وخبر الواحد قد ثبت [217/أ] حكمهما في خلاف قياس العقل ولا يجوز ثبوت حكمهما (3) في خلاف قياس النص، فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً أن يختلف حكم القياس العقلي والقياس الشرعي في باب جواز القياس على المخصوص من جملة أحدهما، وامتناع جواز ذلك في المخصوص من جملة الآخر.
__________
= وإن كان ناسياً ففيه روايتان:
إحداهما: عليه القضاء والكفارة، وهي ظاهر المذهب.
الثانية: عليه القضاء ولا كفارة.
انظر: كتاب الروايتين والوجهين للمؤلف (1/259) والإقناع(1/312) والمقنع وحاشيته (1/368).
(1) فإن هذه الأمور مبنية على التعبد، فالعقل لا يدرك السر في التعبد بها، ولكن الواجب علينا التسليم والامتثال؛ لأنها صادرة ممن نقطع بحكمته وعلمه.
(2) هذا غير مسلم للمؤلف. وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتاباً عظيماً في ذلك سماه: درء تعارض العقل والنقل، بين فيه كثيراً مما يظن أن فيه تعارضاً بين العقل والنقل بأسلوب واضح مبين.
وانظر: اعلام الموقعين (2/311).
(3) في الأصل: (حكمها) والضمير عائد على مثنى.

(4/1406)


قيل: لا نسلِّم هذا؛ لأنه قد ثبت الحكم بخبر الواحد في خلاف قياس النص، ولهذا حكمنا بخبر التَّصْرِية (1) والفَلَس (2) وغير ذلك مما يرده (3) أصحاب أبي حنيفة (4).
وكذلك قياس النص لا يقدم على غيره من قياس، الاصول التي ليست بمنصوص على أصولها.
__________
(1) هذا إشارة إلى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تُصِرُّوا الإبل والغنم. فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردَّها وصاعاً من تمر).
أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب: النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم (3/87). وأخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وتحريم التَصْرِية (3/1155).
وانظر: اعلام الموقعين لابن القيم (2/311) فإنه تكلم على هذه المسألة فأجاد وأفاد.
(2) مثل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدركَ ماله عند رجل أفلس، أو إنسان قد أفلس، فهو أحقُ به من غيره).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض وأداء الديون، باب: إذا وجد ماله عند مفلس (3/147).
وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب: من أدرك ما باعه عند المشترى وقد أفلس فله الرجوع فيه (3/1193).
(3) في الأصل: (ما يرده).
(4) انظر: أصول الجصاص ص (113) وما بعدها، فقد تكلم عن هذه المسألة باستفاضة.
وانظر أيضاً: أصول السرخسي (2/149) وما بعدها.

(4/1407)


واحتج المخالف
بأن إثبات الشىء لا يصح مع وجود ما ينافيه، فلما كان القياس مانعاً مما ورد به الأثر لم يجز لنا استعمال القياس فيه؛ لأنه لو جاز ذلك لم يكن فرق بينه وبين سائر الأصول التي يمنع قياسها منه، فكان يخرج حينئذ من كونه مخصوصاً من جملة القياس.
والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنا لا نسلَّم أن هاهنا ما ينافيه؛ لأن المنافاة تكون بدليل خاص، وما يذكرونه في هذه المسائل ليس بدليل خاص لما نذكره من التأويل.
والثاني: أن المنافاة إنما تحصل بقياسه على غيره في إسقاط حكم النص، فأما قياس غيره فلا ينافيه، لأنه لا يسقط حكم النص، وعندهم لا يصح القياس عليه.
واحتج: بأن قياس الأصول أوْلى من قياس ما ورد به الأثر، وذلك لأن قياس ما ورد به الأثر يختلف فيه، وقياس الأصول متفق عليه، والمتفق عليه أوْلى من المختلف فيه (1). ولهذا كان ما ثبت بخبر التواتر أوْلى مما ثبت بخبر الواحد. وما شهد له أصلان أوْلى مما شهد له أصل واحد، فلما كان قياس الأصول يشهد له جميع الأصول، وكان قياس ما ورد به الأثر لا يشهد له إلا أصل واحد، وهو الأثر، كان قياس الأصول أوْلى بالاعتبار من قياس ما ورد به الأثر.
والجواب: أن هذه المزيَّة موجودة في مقابلة خبر الواحد، ومع هذا فإنه مقدم على قياس الأصول.
وكذلك القياس الشرعي مقدم على مقتضى القياس العقلي، وإن كان للعقل مزيَّة.
ويفارق هذا خبر الواحد مع التواتر؛ لأن أحدهما مقطوع عليه.
__________
(1) انظر: أصول الجصاص (123) فإن هذا الدليل منقول منه بتصرف.

(4/1408)


مسألة
يجوز إثبات الحدود والكفارات والمقدرات والأبدال بالقياس (1).
ويجوز قياسها على المواضع التي أجمع على ثبوت ذلك فيها.
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية الميْموني، فيمن سرق من الذهب أقل من ربع دينار: "أقطعُه. قيل: ولم؟ قال: لأنه لو سرق عروضاً قوَّمتُها بالدراهم، كذلك إذا سرق ذهباً أقل من ربع دينار قوَّمتُه بالدراهم" (2). فقد أثبت القطع بالقياس.
وكذلك نقل الميْموني عنه في النصراني إذا زنا وهو محصَن: "يرجم. قيل له: لم؟ قال: لأنه زانٍ بعد إحصانه" (3).
وكذلك نقل جعفر بن محمد النَّسائي أبو محمد عن أحمد -رحمه الله- في يهودي مرَّ بمؤذن وهو [يؤذن] (4) فقال: كذبتَ، قال: "يقتل،
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/449) والواضح لابن عقيل (2/343) والروضة مع شرحها (2/343) والمسودة ص (398).
(2) هذه الرواية ذكرها المؤلف في كتابه الروايتين والوجهين (2/331). وكون الذهب ليس بأصل وأنه يقوم بالدراهم رواية في المذهب، والرواية الثانية: أن الذهب أصل، ومقداره ربع دينار فصاعداً، نص عليه في رواية صالح والمروذي، فإذا سرق من الذهب أقل من ربع دينار فلا يقطع، حتى لو ساوى ثلاثة دراهم فأكثر.
قال المؤلف في كتابه: الروايتين والوجهين الموضع السابق: (هي أصح).
وهى المذهب كما ذكرها المرداوي في الانصاف (10/262).
(3) ذكر المؤلف معنى هذه الرواية منقولة عن الميموني في كتابه الروايتين والوجهين (2/224).
وراجع هذه المسألة في كتاب الإِنصاف (1/1720) والمغني (18/63).
(4) الزيادة يقتضيها المقام، وهي كذلك في أحكام الذمة لابن القيم (2/797).

(4/1409)


لأنه شتم" (1).
وهو قول أصحاب الشافعي (2).
وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يثبت ذلك بالقياس (3).
دليلنا:
قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى اْلأبْصَارِ) (4) وهذا عام.
وحديث معاذ، لما قال: (أجتهد رأيي) (5)، صوَّبه النبي عليه السلام، ولم يفرق بين هذه الأحكام وبين غيرها، فوجب حمله على عمومه.
ولأنه إجماع الصحابة، قال عمر: (إن الناس قد تتابعوا في شرب الخمر واستحقروا حدَّها، فما ترون فيه؟ فقال علي: إنه إذا شرب سكِر، وإذا سكِر هذى، وإذا هذى افترى، حَدُّه حد المفترين).
فأجمعت الصحابة على إلحاقه بالقاذف قياساً (6).
__________
(1) هذه الروايات الثلاث ذكرت في المسوَّدة ص (398).
والرواية الأخيرة ذكرها ابن القيم في كتابه: أحكام أهل الذمة في الموضع السابق، كما ذكر كثيراً من الروايات عن الإمام أحمد فيما يتعلق بمن تكلم في الله من أهل الذمة، وأورد الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب قتل السَّباب وانتقاض عهده فأجاد وأفاد، رحمه الله تعالى.
(2) انظر: البرهان (2/895) والتبصرة ص (440) والإحكام للآمدي (4/54).
(3) انظر في هذا: أصول الجصاص ص (113) وأصول السرخسي (2/157، 164) وتيسير التحرير (4/103) وفواتح الرحموت (2/317).
(4) آية (2) من سورة الحشر.
(5) هذا جزء من حديث معاذ - رضي الله عنه - المشهور: (بم تحكم إن عرض لك قضاء)؟ الحديث. وقد سبق تخريجه.
(6) حكاية الإجماع هذه إما أن يراد أنهم أجمعوا على استعمال القياس في الحدود، حيث قاس بعضهم حد الخمر على حد القذف، ولم ينكر عليهم استعمال القياس هنا. =

(4/1410)


وأيضاً: فإنه حكم لم يثبت بما يوجب العلم ويقطع العذر، فجاز إثباته بالقياس.
أصله: سائر الأحكام.
ولأن ما جاز إثباته بخبر الواحد جاز إثباته بالقياس.
أصله: ما ذكرنا.
يبين صحة هذا: أن القياس بمنزلة خبر الواحد، بدليل أن كل واحد منهما يثبت بالاستدلال. ثم الحدود تثبت بخبر الواحد، كذلك القياس. ولأن ما جاز أن يثبت به غير هذه الأحكام جاز أن يثبت به هذه الأحكام.
أصله: الكتاب والسنة والإِجماع.
ولأن القياس [على] ما أثر على الأصول، فإذا وجد هذا المعنى في مسألتنا يجب أن يحكم بصحته.
واحتج المخالف:
بأن موجب القياس هو حصول الشبهة من الفرع، ومن بعض الأصول (1).
وهذا العنى متى حصل في الوطء (2) سقط الحد. ألا ترى أن الوطء إذا حصل فيه الشبهة بالوطء المباح والشبهة (3) بالوطء الحرام، كوطء أحد الشريكين الجارية التي بينهما، صار ذلك موجباً لسقوط الحد فلما كان مقتضى القياس [218/أ] مؤثراً
__________
= وإما أن يراد أنهم أجمعوا على أن حد الخمر ثمانون قياساً على حد القذف. فالأول يمكن تسليمه. أما الثاني فلا، لأن الخلاف في حده ذائع وشائع.
انظر في اختلافهم: مراتب الاجماع ص (154).
(1) عبر أبو الخطاب في التمهيد (3/453) عن هذا الدليل بعبارة أوضح حيث قال: (واحتج المخالف: بأن الحد لا يثبت مع الشبهة، والقياس هو: إلحاق الفرع بأشبه الأصلين، وذاك يثبت فيه الشبهة).
(2) في الأصل: (الوطيه).
(3) في الأصل: (والشبه).

(4/1411)


في سقوط الحد، لم يجز أن يكون له مدخل في إثبات الحدود.
والجواب: أن الشبهة التي أسقطت الحد هناك معدومة هاهنا؛ لأن هناك الشبهة في الفعل أو الفاعل أو المفعول فأسقطت الحد، وهذه الشبهة معدومة في مسألتنا، وأكثر ما فيه أنه دليل غير مقطوع عليه.
وهذا يبطل بإثباته بخبر الواحد؛ لأن ما فيه من تجويز (1) الخطأ والسهو والعمد الكذب، لا يصير شبهة في درء الحد وإسقاط الكفارة.
وكذلك يجوز إثباته بشهادة شاهدين، وما فيها من تجويز ذلك على الشاهدين، لا يكون شبهة في الإسقاط.
ولأنه إذا وجب إلحاقه بأحد الأصلين، لقوته ورجحانه، سقط حكم الأصل الآخر، وكان وجوده كعدمه.
واحتج: بأن الحد حق لله تعالى مقدر كالصلاة والزكاة ونحوها، فلما لم يجز إثبات أعداد الركعات والنصاب في الزكوات بالقياس، كذلك لا يجوز إثبات الحدود به (2).
والجواب: أنا لو وجدنا معنى القياس جارياً في ذلك الموضع أثبتناه.
واحتج: بأن مقادير العقوبات على الأجرام لا تعلم إلا من طريق التوقيف، لأن العقوبات إنما تستحق على الأجرام بحسب ما يحصل بها من كفران النعمة.
ومعلوم أن مقادير نعم الله تعالى على عباده لا يعلمها (3) إلا الله تعالى، وكان الحد عقوبة مستحقة على الفعل، ولم يكن لنا سبيل إلى معرفة مقدار العقوبة على ذلك الفعل إلا من جهة التوقيف، لمْ يجز له إثبات الحد بالقياس (4).
__________
(1) في الأصل: (تجوز).
(2) انظر معنى هذا الدليل في أصول الجصاص ص (113).
(3) في الأصل: (لا يعلما).
(4) انظر معنى هذا الدليل في أصول الجصاص ص (114).

(4/1412)


والجواب: أن الحدود يثبت قدرها بالشرع لأجرام معلومة، فإذا وجدنا معنى ذلك الجرم موجوداً في غيره ألحقناه به، قياساً عليه؛ لأن المعنى قد ثبت بالدليل، وما دل عليه الدليل فهو بمنزلة التوقيف.
وعلى أنهم قد أثبتوا الحد بالقياس، وكذلك الكفارات، فقالوا: تجب الكفارة على المفطر بالأكل والشرب قياساً على المجامع (1).
وقالوا: الحد يجب على الرِّدْء (2) في المحاربة (3) قياساً على المباشِر على قتال المشركين (4).
__________
(1) سبق في المسألة التي قبل هذه ذكر قول الحنفية بأن ذلك ليس من باب القياس، بل من باب دلالة النص.
وانظر: أصول الجصاص ص (115).
(2) في الأصل (الرد).
والرِّدْء: المُعِين.
(3) يعني أن المحاربين لو اجتمعوا فباشر أحدهم القتل، والباقي وقوف لم يشتركوا معه، فإن القتل يكون للجميع؛ لأنهم كانوا ردءً له.
وذلك قياساً على الغنيمة، فالرَّدْء في المعركة له ما للمباشر من الغنيمة.
وعبارة الكمال في شرح فتح القدير (5/427) : (قلنا: إنه حكم تعلَّق بالمحاربة، فيستوي فيه المباشر والردْء كالغنيمة).
(4) عبارة المؤلف فيها غموض، فهو يريد أن يلزم الحنفية بأنهم قالوا بالقياس في الحدود فقالوا: إن الردْء في المحاربة يجب عليه الحد قياساً على الردْء في قتال المشركين فإنه يستحق الغنيمة، مثله مثل المباشر لقتال المشركين.
وانظر: التمهيد (3/452).

(4/1413)


مسألة
[قياس العكس]
الاستدلال بالشىء من طريق العكس صحيح، كالاستدلال به على وجه الطرد (1).
وهو مثل استدلالنا على طهارة دم السمك بأنه يؤكل دمه، فدل ذلك على [218/ب] طهارته.
ألا ترى أن سائر الحيوانات التي كانت دماؤها نجسة لم تؤكل بدمائها.
ومثل استدلالنا على قراءة السورة غير مسنون في الأخريين، أنه لو كان من سنة القراءة فيها قراءة السورة لوجب أن يكون من سنته الجهر بها.
ألا ترى أن الأوليين لما كان من سنتها قراءة السورة كان من سنتها الجهر.
ومثل استدلالنا على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مسنون في التشهد الأول، أنه لو كان من سنته الصلاة لكان من سنته الدعاء. ألا ترى أن التشهد الأخير، لما كان من سنته الصلاة، كان من سنته الدعاء.
وقال أصحاب الشافعي: الاستدلال بالعكس غير صحيح (2).
دليلنا:
أن الأصل ليس بدليل على صحة العلة، وإنما (3) الدليل على صحتها الكتاب
__________
(1) راجع في هذه المسألة: التمهيد (3/358)، والواضح (2/836)، والمسوَّدة ص (425).
(2) هذا العزو غير محرر، فالشافعية فريقان، منهم: من قال: لا يصح كما ذكر المؤلف.
ومنهم: من قال: يصح، قال الشيرازى في اللمع ص (57) : (وهو الأصح) يعنى: القول به. ودلَّل على ذلك بقوله: (لأنه قياس مدلول على صحته بشهادة الأصول).
وانظر: شرح اللمع (2/819) فإن فيه كلاماً جيداً عن هذه المسألة.
(3) في الأصل: (ولا نما) وهو خطأ.

(4/1414)


والسنة وشهادة الأصول والتأثير، ودليل العكس قد أثر في الأصول فوجب أن يكون صحيحاً.
ولأن عكسه يدل على صحته، يدل عليه العلة العقلية، لما اطردت وانعكست كان ذلك دليلاً على صحتها، كذلك هاهنا وجب أن يكون العكس دليلاً على صحته.
ولأنه لا خلاف أنه لو عارض في الأصل بعلة ولم يعكسها، وإنما عكس بغيرها، لم يلزم الكلام على علة الأصل؛ لأنهما (1) قد اتفقا على صحتها، وإنما يلزم الكلام على علة الفرع، فدل هذا على أن العكس حجة.
فصل
[التقسيم]
والاستدلال بالتقسيم صحيح، وهو أن يكون في المسألة قسمان أو أكثر فيدل المستدل على إبطال الجميع إلا واحداً منها ليحكم بصحته، ولا يطالب بالدلالة على صحته بأكثر مما ذكره (2).
__________
(1) في الأصل: (لأنها) وهو خطأ، بدليل ما بعده.
(2) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/22) والواضح (3/1085) وروضة الناظر (2/281) والمسودة ص (426) والبلبل ص (161) وشرح الكوكب ص (308).
واشترط أبو الخطاب: أن تجمع الأمة على تعليل الأصل، ثم يختلفون في العلة، فيبطل المستدل جميع ما قاله المخالفون إلا علة واحدة فتكون صحيحة.
وزاد ابن قدامة شرطين هما:
أن يكون سبرُه حاصراً لجميع ما يعلل به. =

(4/1415)


مثاله: أن نقول: لا يخلو إما أن يكون تحريم التفاضل في البُر متعلقاً بكونه مكيلاً، أو مأكولاً، أو مقتاتاً. فلا يجوز أن يكون مأكولاً ولا مقتاتاً لوجود التفاضل فيهما والعقد صحيح، وهو إذا باع مَكوكاً بمَكوك (1)، وأحدهما أخف من الآخر، فإن التفاضل في القوت والطعم موجود والعقد صحيح، ولو تساويا في ذلك وتفاضلا في الكيل لم يصح العقد.
فعلم أن التحريم متعلق بالكيل.
ومثله ما قلنا في الإِيلاء، لا يخلو إما أن يكون صريحاً في الطلاق أو كناية، فلا يجوز أن يكون صريحاً؛ لأنه لو كان كذلك، لوقع الطلاق به منجزاً حالاً كما يقع بصريحه (2). ولا يجوز أن يكون كناية؛ لأنه (219/أ) لو كان كذلك لافتقر إلى النية، كسائر الكنايات.
فلما بطل القسمان، امتنع أن يكون طلاقاً.
ومثله ما نقوله في اللعان: لا يخلو إما أن يكون يميناً أو شهادة، فلا يجوز أن يكون شهادة؛ لأنه يصح من فاسق ومن أعمى، وشهادتهما لا تصح (3).
لم يبق إلا أنه يمين؛ لأن أيمان هؤلاء تُسمع.
__________
= وأن يبطل أحد القسمين، إما ببيان بقاء الحكم بدون ما يحذفه من الأوصاف، وإما ببيان أن ما يحذفه من جنس ما عهد من الشارع عدم الالتفات إليه كالسواد والبياض.
قلت: وفي اشتراط الاجماع على تعليل الأصل نظر؛ لأنه يؤدي إلى إبطال هذا المسلك، أو تقليصه، ولو اكتفى باتفاق الخصمين على أن حكم الأصل معلل لكان أولى. والله أعلم.
(1) المَكوك: مكيال.
انظر المصباح المنير (2/892) مادة (مكك).
(2) في الأصل (ـصره) بدون إعجام.
(3) الِإطلاق في عدم قبول شهادة الأعمى فيه نظر، فقد صرح في المغني (9/189) =

(4/1416)


ومثله ما نقوله في تحريم الخمر: لا يخلو إما أن يكون الاسم أو الشدة المطربة.
ولا يجوز أن يكون للاسم؛ لأن العصير المطبوخ يحرم عندهم إذا حصلت فيه [الشدة]، وإن لم يقع عليه اسم الخمر.
وكذلك نقيع التمر والزبيب محرمان عند مخالفنا، وإن (1) لم يتناولهما الاسم.
فعلم أن التحريم يُعلَّق لوجود الشدة المطربة، وهذا موجود في النبيذ.
ومثل هذا كثير.
والدلالة على صحة هذا: أنه لابد في الحادثة من حكم، فإذا بطل الجميع إلا واحداً، وجب أن يكون ما بقى صحيحاً؛ لأنه لا يجوز أن يبطل الكل.
وأما إذا دل الدليل على صحة كل واحد منها بطلت سائر الأقسام؛ لأن الحق واحد، وما عداه باطل، فإذا صح الواحد منها، وجب أن يحكم ببطلان الباقي.
فصل
[الاستدلال بالأوْلى]
والاستدلال بالأوْلى صحيح (2)، إذا بين أن حكم الأصل في الفرع يجب أن يكون آكد.
__________
= أنه تقبل شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت، وهو المذهب كما في الإنصاف (12/61).
(1) الأصل: (وإذا لم).
(2) هذا ما يسمى بمفهوم الموافقة، وقد عقد له المؤلف فصلاً (2/480) تحدث فيه عن حجيته، كما عقد له فصلاً آخر (3 /827) بين فيه أنه يَنسخ ويُنسخ به. وصرح بأن دلالته من باب النطق لا من باب القياس. =

(4/1417)


مثاله: ما نقول في أن التيمم إذا لم يجز مع وجود الماء لفوت صلاة الجمعة فلأنْ لا يجوز لفوت صلاة الجنازة مع الإِمام أولى؛ لأن صلاة الجنازة فرض على الكفاية.
وكذلك ما نقول في جريان القصاص بين الرجل والمرأة، وبين العبدين في الأطراف، لمَّا جرى بينهم في النفس مع عظم حرمتها وضمانها بالكفارة، فأولى أن يجري في الطرف مع خفة حرمته.
وكذلك نقول في قطع الأطراف بطرف، لمَّا قُتل الجماعة بالواحد مع عِظَم حرمة الأنفس، فأولى أن يفعل ذلك في الأطراف مع خفة حرمتها.
وقد احتج أحمد -رحمه الله- بهذا في رواية بكر بن محمد عن أبيه "لا يقتل الحر بالعبد" (1).
__________
= وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا أعاد الكلام هنا في باب القياس؟
يجاب على ذلك بما في المسوَّدة ص (427) بأن الأوْلى في المعاني نظير الفحوى بما في الخطاب.
ويقول في المسوَّدة أيضاً: (التحقيق عندي: أن الأولوية الواضحة التي يستوي فيها العالم والعامي هي تنبيه الخطاب كما سبق، ولها حكم المنصوص كما سبق.
فأما الأولوية الخفية فكسائر الأقيسة، كما قال الشافعي في مسألة السلَم في الحال وكفارة العمد).
ويدل عليه أيضاً قول المؤلف في آخر المسألة: الأن الأولى فيه ضرب من التنبيه، والتنبيه حجة في الشرع).
(1) هذا هو المذهب.
ويرى الشيخ تقي الدين: أنه يقتل به.
انظر: الإنصاف (9/469) ومسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله ص (409) والمقنع مع حاشيته (3/346) والمغني (7/658).
والمذهب جرى على أنه إذا لم يقتص منه في النفس فمن باب أولى لا يقتص منه =

(4/1418)


وأصحاب أبي حنيفة يقولون: يقتل (1)، ولا يجعلون بين الحر والعبد قصاصاً في الجراح، والنفس أعظم من الجراح (2)، فهذا يدخل عليهم.
والدليل على صحة ذلك:
أن أحد أقسام الدلالة على صحة العلة التأثير وشهادة الأصول. وهذا المعنى موجود في الأوْلى؛ لأنه قد أثر.
ولأن الأوْلى فيه ضرب من التنبيه، والتنبيه حجة في الشرع. وقد دل على ذلك الكتاب في قوله: (فَلاَ تُقُل لَّهُمَا أف) (3) نبه على تحريم الضرب.
وكذلك قوله: (وَمِنْهُم مَّنْ إِنْ تَأمَنْهُ بِدِينَار لا يُؤَدهِ إِلَيْك) (4) تنبيه على الزيادة على ذلك.
__________
= في الطرف.
قال في المغني (7/659) : (ولا يُقطع طرفُ الحر بطرف العبد بغير خلاف علمناه).
وقال أيضاً ص (703) : (وأما من لا يقتل بقتله، فلا يقتص منه فيما دون النفس له، كالمسلم مع الكافر، والحر مع العبد، والأب مع ابنه؛ لأنه لا تؤخذ نفسه بنفسه فلا يؤخذ طرفه بطرفه، ولا يجرح بجرحه كالمسلم مع المستأمن).
وانظر: الإنصاف (10/14).
(1) انظر في هذا: شرح فتح القدير (10/215) مستدلين بالعمومات، ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة، وهي بالدين وبالدار، وهما يستويان فيهما.
(2) الحنفية يمنعون القصاص في الأطراف؛ لأن المساواة لابد من توافرها في الجزء المبان، ولامساواة بين الحر والعبد في الطرف، لأن الرق ثابت في أجزاء الجسم، وعليه فطرف العبد معيب بخلاف طرف الحر، ومعلوم أنه لا يقطع سليم بمعيب.
انظر شرح فتح القدير وشرح العناية وحاشية سعدي جلبي (10/215-217).
(3) آية (22) من سورة الإِسراء.
(4) آية (75) من سورة آل عمران.

(4/1419)


فصل
[الاستدلال بالقِرَان]
الاستدلال بالقِرَان يجوز (1) وهو: أن يذكر الله تعالى أشياء في لفظ واحد ويعطف بعضها على بعض.
نحو قوله تعالى: (أوجَاءَ أحَدٌ مِنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أو لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ) (2)، فيكون اللمس هاهنا يوجب الوضوء؛ لأنه عطف على المجيء من الغائط.
وقد استدل أحمد -رحمه الله- بالقرينة في باب التخصيص، فلولا أنها حجة له لم يخصص اللفظ بها، فقال في قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ) (3) : "المراد به العلم. قال: لأنه افتتح الخبر بالعلم فقال: (ألمْ تَرَ (4) أنَّ اللهَ يَعْلَمُ)، وختمه بالعلم فقال: (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىءٍ عَلِيم)" (5).
وقال في رواية حرب في قوله تعالى: (وَأشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ) (6) فإذا أمِنه فلا بأس أن لا يشهد. انظر إلى آخر الآية(فَإِنْ أمنَ بَعْضُكُم بَعْضًا) (7).
__________
(1) راجع هذه المسألة في: هذا الكتاب (2/614)، والتمهيد (4/169) والمسودة ص (140) وشرح الكوكب المنير (3/259).
(2) آية (43) من سورة النساء.
(3) آية (7) من سورة المجادلة.
(4) في الأصل: (ألم تعلم) وهو خطأ.
(5) هذا من رواية المروذي كما ذكر المؤلف في الموضع السابق، وكما ذكر أبو الخطاب في التمهيد الموضع السابق.
(6) آية (282) من سورة البقرة.
(7) الإشهاد في البيع عند الحنابلة مستحب لهذه الآية، ولأدلة أخرى ذكرها ابن قدامة في كتابه المغني (4/273).

(4/1420)


واختلف أصحاب الشافعي:
فذهب المُزَنى إلى جواز الاستدلال بذلك (1).
وذهب أكثرهم إلى أنه لا يجوز الاستدلال به (2).
دليلنا:
ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يُفَرَّقُ بين مجتَمِع) (3).
وما روي عن أبي بكر في مانعي الزكاة: (لا أفرقُ بين ما جمعَ الله) (4).
وقول ابن عباس لما استدل على وجوب العمرة بكونها قرينة الحج [في] كتاب الله، وتلا قوله: (وأتمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (3).
__________
(1) نسب ذلك إليه الشيرازي في التبصرة ص (229).
(2) وهو ما صدَّر به الشيرازي المسألة في كتابه التبصرة الموضع السابق.
وانظر: اللُّمع ص (24) والتمهيد للإسنوي ص (267).
(3) سبق تخريج الحديث.
وأجاب الشيرازي عن وجه الاستدلال من هذا الحديث في كتابه التبصرة الموضع السابق: (أنه وارد في باب الزكاة، وأن النصاب المجتمع في ملك رجلين لا يفرق بينهما).
قلت: وما قاله الشيرازي هو عين الصواب.
(4) أقرب الألفاظ إلى لفظ المؤلف -فيما رأيت- لفظ البخاري في كتاب الاعتصام، باب قول الله تعالى: (وَأمرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (9/138) ولفظ الشاهد فيه: (فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقصة عزمه - رضي الله عنه - على محاربة مانعي الزكاة، وحواره مع عمر - رضي الله عنه - في هذه المسألة معلومة مشهورة.
وأجاب الشيرازي في المرجع السابق عن وجه الاستدلال بقول أبي بكر - رضي الله عنه - بقوله: (إن أبا بكر - رضي الله عنه- أراد لا أفرق بين ما جمع الله في الايجاب بالأمر).
(5) هذا الأثر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ذكره البخاري تعليقاً في أول =

(4/1421)


ولأن المعطوف في حكم المعطوف عليه، فيجب أن يُعطى الثاني حكم الأول.
ولأن صيغة الأمر تناولتهما.
واحتج المخالف:
بأن جمع لفظ صاحب الشريعة بينهما في حكم من الأحكام لا يدل على اجتماعهما في غيره. ألا ترى أن العلة إذا جمعت الأصل والفرع في حكم، لا يجب أن يجمع بينهما في غيره.
والجواب: أن العلة إذا جمعت بين الأصل والفرع قد أفادت حكماً شرعياً وهو إلحاق الفرع بالأصل في ذلك الحكم، يجب أن يقال مثل هذا في جميع لفظ صاحب الشريعة أن يفيد، وعندهم القرينة هاهنا ما أفادت (1) شيئاً بحال.
واحتج: بأنه يجوز اقتران المتضادين في الأمر والنهي، كقوله: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأتُوهُن مِنْ حَيْثُ) (2) وأمر بوطئهن ولم يكن واجباً، كما كان النهي واجباً.
__________
= باب العمرة (3/2) ولفظه: (إنها لقرينتها في كتاب الله، (وَاتِمُّوا الْحَج وَالْعَمْرَةَ).
وأخرجه الإمام الشافعي في الأم في كتاب الحج، باب: هل تجب العمرة وجوب الحج؟ (2/132).
وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الحج، باب: من قال بوجوب العمرة استدلالاً بقوله تعالى: (وأتِمُّوا الْحَج والْعُمْرَةَ) (4/351).
وأخرجه سعيد بن منصور في سننه كما في التلخيص (2/227) وتغليق التعليق (3/118).
وأخرجه ابن حجر في كتابه تغليق التعليق (3/117) بسنده إلى ابن عباس، رضي الله عنه.
(1) في الأصل (أفاد).
(2) آية (222) من سورة البقرة.

(4/1422)


وكذلك قوله: (كُلُوا مِنْ ثَمِرِهِ إِذَا أثمَرَ وءَاتوُا حَقَهُ يَوْمَ حَصَاده) (1)
والأكل غير واجب [220/أ].
والجواب: أنا لم نقرن (2) هاهنا لدليل منع من ذلك. (*)
__________
(1) آية (141) من سورة الأنعام.
(2) في الأصل: (نفرق) والصواب ما أثبتناه بدليل السياق.
______
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة : هكذا الصفحة في الكتاب الورقي ، بنفس رقم الصفحة السابقة

(4/1423)