العدة في أصول الفقه

باب العلة
الدال على صحة العلة (1) والاعتراض عليها
__________
(1) العلة أهم باب من أبواب القياس، ولذلك نجد علماء الأصول قد اهتموا بها قديماً وحديثاً.
ومن آخر من كتب فيها الدكتور عبد الحكيم بن عبد الرحمن السعدى العراقي بعنوان "مباحث العلة في القياس عند الأصوليين".
ويحسن بنا هنا أن نبين معناها في اللغة والاصطلاح باختصار، فنقول:
العلة في اللغة مأخوذة من (عل) تأتي لمعان، أشهرها ثلاثة:
الأول: تكرار الشىء أو تكريره، ومنه العَلَل، وهي الشربة الثانية، وسميت العلة بذلك -كما يقول ابن بدران في شرح الروضة (2/229)-: "لأن المجتهد يعاود النظر في استخراجها مرة بعد مرة".
الثاني: الضعف في الشىء، ومنه العلة للمرض. وسميت العلة بذلك -كما يقول ابن قدامة في روضته الموضع السابق-: "لأنها غيرت حال المحل أخذاً من علة المريض".
الثالث: السبب، تقول: هذا الشىء علة لهذا الشىء، أى سبب له، وسميت العلة بذلك، لأنها السبب في الحكم.
انظر: معجم مقاييس اللغة (4/12) واللسان (13/495).
أما في الاصطلاح فهناك أقوال كثيرة، أشهرها أربعة:
الأول: أنها المعرف للحكم.
الثاني: أنها المؤثرة بذاتها في الحكم.
الثالث: أنها المؤثرة في الحكم بجعل الله لها ذلك.
الرابع: أنها الباعث على تشريع الحكم. =

(5/1423)


والدلالة على صحتها (1) من وجوه خمسة:
أحدها:
لفظ صاحب [الشريعة] بنص (2) أو ظاهر أو تنبيه، فإنه يدل على صحة العلة كما يدل على صحة الحكم، فلا فرق بينهما.
وذلك ضربان: أحدهما الكتاب. والآخر السنة.
فأما الكتاب:
فمثل قوله تعالى في تحريم الخمر: (إنَّمَا يُرِيدُ الشيطَانُ أن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ في الْخَمْرِ والْمِّيْسَرِ وَيَصُدكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصلاَةِ فَهَلْ أنْتُم مُّنْتَهُونَ) (3) وهذا عبارة عن الإسكار الذي يُحدث هذه الأشياء التي ذكرها الله تعالى.
وقوله: (وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أتأخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإثْماً مبِيناً وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ وَقَدْ أفضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْض وَأخذْنَ مِنْكُما ميثَاقاً غَلِيظاً) (4). والإفضاء هاهنا الوطء. فدل على أنه يقرر المهر ويمنع من سقوط نصفه بالطلاق.
__________
= انظر: المستصفى (1/59) وشفاء الغليل ص (20) والمعتمد (2/704) الإحكام للآمدي (3/186) ونبراس العقول ص (216) ومباحث العلة في القياس عند الأصوليين ص (70).
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/9)، والواضح (3/1082) وروضة الناظر مع شرحها (2/257) والمسودة ص (438) والبُلبل ص (157) وهذا ما يُعبر عنه: بمسالك إثبات العلة.
(2) في الأصل: (بنصه).
(3) آية (91) من سورة المائدة.
(4) آية (20-21) من سورة النساء.

(5/1424)


وقوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اْلأغْنِيَاءِ) (1).
وَالدولَة: ما يتداوله الناس.
فقد جعل لهؤلاء المذكورين حقاً في الفيء كيلا يتداول المال الأغنياء دون الفقراء.
وقوله تعالى: (وَإذَا بَلَغَ الأطفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأذِنُوا) (2) وهذا يدل على تعلق الاستئذان بالبلوغ.
وقوله تعالى: (وَإذَا ضَرَبْتُمْ في اْلأَرْضِ فَلَيْس عَلَيْكُمْ جُنَاح أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ) (3).
وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أوْ رُكْبَاناً) (4) يدل على تعلق القصر بالضرب في الأرض، وصلاة الخوف بالخوف.
كما إذا قال لعبده: إذا فعلتَ كذا فأنت حر، ولزوجته: إذا كان كذا فأنت طالق، فيدل على تعلق الحرية والطلاق بالمعنى الذي ذكره (5).
وكذلك قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطرُّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ) (6) يدل على تعلق إباحة الميتة بالضرورة.
وقوله تعالى: (والْمحْصَنَاتُ مِنَ الذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (7) والمراد
__________
(1) آية (7) من سورة الحشر.
(2) آية (59) من سورة النور.
(3) آية (101) من سورة النساء.
(4) آية (239) من سورة البقرة.
(5) في الأصل: (ذكروه).
(6) آية (173) من سورة البقرة.
(7) آية (5) من سورة المائدة.

(5/1425)


به: الحرائر.
وهذا يدل على اعتبار الحرية في الحلال وأن نكاح الأمة الكتابية لا يجوز؛ لأن ذكر الصفة في الحكم تعليل للحكم بها، ودليل على تعلقه بها.
ومن ذلك قوله تعالى: (فَاعْتَزِلُوا النسَاءَ في الْمَحِيضِ) (1).
وقوله: [220/ب] وَالسَّارِقُ وَالسارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيْدِيَهُمَا) (2).
و(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ منْهُمَآ مِائَةَ جَلْدَةٍ) (3).
لأن تخصيص صفة أو فعل في الحكم يدل على تعلقه بها.
ولهذا قال أحمد -رحمه الله-: "إنه يدل على أن ما عداه بخلافه".
وأما السنة:
فمثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: (أيَنْقُصُ الرطبُ إذا يَبِس؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذاً).
وقوله عليه السلام: (لا يحل دم امرىءٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كُفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتلُ نفس بغير حق) (4).
__________
(1) آية (222) من سورة البقرة.
(2) آية (38) من سورة المائدة.
(3) آية (2) من سورة النور.
(4) هذا الحديث رواه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الشافعي كما في بدائع المنن في كتاب القتل والجنايات، باب: التغليظ في قتل المؤمن (2/242) ولفظه مثل لفظ المؤلف، غير أنه قال في آخره: (أو قتل نفس بغير نفس).
وأخرجه الترمذي في كتاب الديات، باب: ما جاء لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث (4/19).
وأخرجه ابن ماجه في الباب الأول من كتاب الحدود (2/847).
وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده (1/61).
وأخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الحدود، باب: لا يحل دم امرىء مسلم =

(5/1426)


ونهيه عن بيع ما لم يُقبض، ورِبْح ما لم يُضمن (1)، وعن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل (2).
وقوله: (إنما هو دم عِرْق).
وقوله: (إنَّها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوافات).
وقوله: (لا تُمسوه طيباً؛ فإنه ييعثُ يوم القيامة ملبياً) (3).
__________
= إلا بإحدى ثلاث (4/350) وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه).
ومعنى الحديث متفق عليه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب: قول الله تعالى: (إن النَفسَ بِالنفْسِ) (9/6).
وانظر: التلخيص الحبير (4/14) والمنتقي ص (616).
(1) نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض وربح مالم يضمن قد سبق تخريجه.
وانظر: التلخيص الحبير (3/25).
(2) هذا إشارة إلى حديث معمر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الطعام بالطعامِ، مثلاً بمثل).
أخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل (3/1214).
(3) هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفرعاً، أخرجه عنه البخاري في كتاب الجنائز، باب: كيف يكفن المحرم؟ (2/92).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب: ما يفعل بالمحرم إذا مات (2/865).
وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب: المحرم يموت كيف يصنع به؟ (3/560) طبعة بتعليق الدعاس.
وأخرجه الترمذي في كتاب الحج، باب: ما جاء في المحرم يموت في إحرامه (3/277).
وأخرجه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب غسل المحرم بالسدر إذا مات (5/195).
وأخرجه ابن ماجة في كتاب المناسك، باب: المحرم يموت (2/1030)
وأخرجه الدارمي في كتاب مناسك الحج، باب: في المحرم إذا مات ما يصنع به؟ (1/378).

(5/1427)


و(إنَّما نهيتكم من أجل الدَّافَة) يعني الجماعة الذين وفدوا (1).
وقوله للمُحْرِمين (2) : (هل أشرتم؟ هل أعنتم؟) (3).
وقول الرواي: سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد.
وزنا ماعز فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الأعرابي: (هلكتُ وأهلكتُ) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (اعتق رقبة).
وهذا يدل على تعلق (4) الحكم بالسبب المذكور.
وقالت عائشة: عَتَقت بَرِيرة فخيّر[ها] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان زوجها عبداً (5). وذلك يدل على تعلق التخيير برقِّ الزوج.
ومثل ذلك في السنة أكثر.
__________
(1) هذه الجماعة وفدت على المدينة النبوية في أيام العيد يلتمسون ما يأكلون، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ادخار لحوم الأضاحي من أجلهم، فلما وسع الله على المسلمين أجاز لهم الادخار.
(2) غير واضحة في الأصل، والتصويب من مراجع تخريج الحديث الآتية.
(3) هذا الحديث رواه أبو قتادة - رضي الله عنه - وفيه أن أبا قتادة لم يُحْرِم بعد، فرأى حمار وحش، فعقره، فجاء به إلى رفاقه وكانوا مُحرِمين، فأكلوا منه، ثم قالوا: نأكل من لحم صيد، ونحن محرمون؟ فسَألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (هل أشرَتم أو أعنتم؟ قالوا: لا، قال: كلوا).
أخرجه مسلم عنه في كتاب الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم (2/854).
وأخرجه عنه النَّسائي في كتاب مناسك الحج، باب: إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال (5/186).
وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده (5/302).
(4) في الأصل: (نطق).
(5) قد مضى تخريج حديث: أن بَرِيرة -رضي الله عنها- عتقت وكان زوجها عبداً أو أنه كان حراً (13/1027- 1028).

(5/1428)


وإذا ثبت التعليل بلفظ صاحب الشريعة، أو بلفظ الراوي عنه، فإنه ينظر فيه.
فإن كان مطرداً لم يجز أن يزاد فيه، وإن انتقض أضيف إليه وصف آخر يؤثر في ذلك الحكم، وعلم بانتقاضه أنه نصَّ على بعض العلة، وجعل الباقي إلى اجتهاد أهل العلم.
وهنا كما روى بعض المخالفين (1) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبَرِيرة: (ملكْتِ بُضْعَك فاختاري) (2).
وهذا يدلُّ على أنها إذا اعتقت تحت الحر يكون لها الخيار.
فأجبنا عنه: بأن هذا اللفظ غير محفوظ (3).
وقد استقصى الدارقطنى في [سننه] طرق هذا الحديث وألفاظه، ولم يذكر هذا اللفظ فيها (4).
ولو ثبت لكان تقديره، ملكتِ بُضْعَك تحت العبد فاختاري. وهذا متزن.
وقد أضاف إليه بعضهم مصراعاً آخر فقال:
مَلَكتِ بُضْعَكِ تَحْتَ الْعَبْدِ فَاخْتَاري... وَبَدِّلِي الدَّارَ إنْ احبَبْتِ بِالدَّارِ (5)
__________
(1) إشارة إلى الحنفية. انظر: هذا الكتاب (1/182).
(2) هذا الحديث سبق تخريجه (1/182).
ويرى المؤلف أن كونها عتقت بعض العلة، وتمام العلة: كونها: عتقت تحت عبد؛ لأنها لو عتقت تحت حر فلا خيار لها.
(3) وذلك (1/182) من هذا الكتاب.
(4) وذلك في سننه (3/288-294).
وراجع في ذلك أيضاً: التعليق المغني على سنن الدارقطنى الموضع السابق، وفتح الباري (9/406) و(1/601) و(12/39) وتغليق التعليق (5/223).
(5) لم أقف على قائله.

(5/1429)


الثاني: إجماع الأمة
فهو حجة مقطوع بها. فما أجمعوا عليه من حكم أو علة وجب المصير إليه والعمل به.
ومثاله: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (لا يقضي القاضي وهو غضبان) أجمعوا على أن النبي عليه السلام نهى عن ذلك؛ لأن الغضب [221/أ] يشغل قلبه، ويغير طبعه، ويمنعه من التوفير على النظر والاجتهاد، فكان كل داخل على قلب الإِنسان من حزن وفرح، وجوع وعطش، ونوم ومرض بمنزلة الغضب.
وقد يتفق الخصمان على علة، فيلزمهما حكماً في النظر لاعترافهما بصحة ما اتفقا عليه.
وقد يتفق الخصمان على أحد وصفى العلة، ويختلفان في الآخر، فيجب المصير إلى مادل المعلل عليه.
منها أن المعللين اتفقوا على اعتبار الجنس في تحريم التفاضل، واختلفوا في ضم الوصف الآخر إليه.
وقال بعض أهل العلم: البيع لا ينقل الملك في زمان الخيار؛ لأنه إيجاب غير لازم، إذا لم ينضم إليه القبول (1).
__________
(1) وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد، وبه قال مالك.
وقول للشافعى. والرواية الأولى عن الإمام أحمد: أن الملك ينتقل إلى المشتري في بيع الخيار مطلقاً.
أما الحنفية فيقولون: إن كان الخيار للبائع فالمبيع لا يخرج عن ملكه، والثمن يخرج عن ملك المشتري.
وإن كان الخيار للمشتري فالمبيع يخرج عن ملك البائع، والثمن لا يخرج عن ملكه.
وإن كان الخيار لهما فلا يخرج المبيع عن ملك البائع، ولا يخرج الثمن عن ملك المشتري.
انظر: المغني (3/571) وشرح فتح القدير والشروح التي معه (6/305).

(5/1430)


فيقول خصمه: المعنى في الأصل أن الإيجاب لم يصادفه القبول، وفي مسألتنا إيجاب صادفه القبول، فخالفه في الوصف الثاني، وقال: إيجاب غير لازم منتقض بمن اشترى عبداً على أنه صائغ فلم يكن صائغاً، فإن الإيجاب غير لازم، وقد انتقل الملك وكذلك إذا وجد به عيباً.
وقد يختلفان في وصف، فيزيده أحدهما وينقصه الآخر.
مثاله: إذا اشترى عبدين فوجد بأحدهما عيباً لم يكن له رد أحدهما.
وقال أبو حنيفة: يجوز (1).
وعلة من منع رد أحدهما: أن [فيه] تبعيض الصفقة على العاقد من غير رضاه (2)، فوجب أن لا يجوز قياساً على ما قبل القبض (3).
فإن قال: المعنى في الأصل أنه تبعيض الصفقة على العاقد من غير رضاه في الإِتمام (4)، وليس كذلك في الفرع، فإنه تبعيض الصفقة على العاقد من غير
__________
(1) الحنفية تقول بالجواز بعد قبض العبدين خلافاً لزُفَر في المشهور عنه.
أما إذا قُبِض أحدهما ووُجِد بالآخر عيب قبل القبض فلا يجوز التفريق عندهم، فإما أن يأخذهما أو يدعهما.
انظر: شرح فتح القدير (6/386).
(2) لما يلحقه من الضرر؛ لأن العادة في البيع أن يضم الجيد إلى الرديء لترويج الرديء، وهو المشهور عن زفر، كما في المصدر السابق (6/387).
(3) وقياساً على خيار الشرط والرؤية.
انظر: المصدر السابق.
(4) يعني قبل قبضها، ففي رد أحد العبدين بعد قبلت أحدهما فقط تفريق للصفقة قبل تمامها؛ لأن تفريقها قبل القبض كتفريقها في العقد.
انظر: المصدر السابق.
وقد ذكر المؤلف هذه المسألة في كتابه: الروايتين والوجهين (1/337)، وذكر أن فيها روايتين...

(5/1431)


رضاه في الفسخ، والتبعيض في الفسخ يجوز وفي الإِتمام لا يجوز.
فإذا كان كذلك وجب على الزائد أن يقيم عليه الدليل؛ لأن العلة إذا استقلت بما اتفقا عليه فلا تجوز الزيادة، إنما بحسب الحاجة إليها يجب أن يبينها.
الثالث: التأثير
وهو أن يوجد الحكم بوجود معنى ويعدم لعدمه، فيدل ذلك على أن الحكم متعلق به وتابع له، وهذا هو العكس.
وقد بينَّا فيما تقدم أنه ليس بشرط في صحة العلة، لكنه دليل على صحتها.
وقد صرح أحمد - رحمه الله - بهذا في رواية [أحمد بن] الحسين بن حسَّان: "إذا أقبل به وأدبر فكان مثله في كل أحواله، فهذا ليس في نفسي منه شىء".
فقد صرح بأن وجود الحكم بوجوده وعدمه بعدمه دليل واضح على صحة القياس.
وهذا مثل ما نقول: إن عصير العنب حلال، فإذا وجدت فيه الشدة المطرِبة حرُم، وإذا زالت الشدة حلَّ. فلو قدَّرنا عوْد الشدة لقدرنا عوْد التحريم.
وهذا يدل [221/ب] على [أن] صحة التحريم تابع للشدة المطربة، ولأن النبيذ حرام لوجود هذه العلة فيه.
وكذلك قوله: (فَإِذَا أحْصِنَّ فَإِنْ أتيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) (1) والعلة في نقصان أحدهما هو الرق، بدلالة أنه
__________
= ولكنه رجح عدم جواز تفريق الصفقة حيث قال: (وهو أصح، فوجهه: أن السلعة خرجت من ملك البائع جملة بجهة واحدة، فلو أجزنا رد بعضها تبعَّض الملك على البائع، وأضررنا به، فلم يجز لما عليه من الضرر).
ولعل هذا هو الصواب، لما فيه من نفي الضرر عن الطرفين.
(1) آية (25) من سورة النساء.

(5/1432)


يوجد بوجوده ويعدم بعدمه، فإن الرق ما دام موجوداً كان حدها خمسين.
فإذا اعتقت وزال رقها كملت الحد. ولم يعدم بالعتق سوى الرق. فإذا ثبت أن نقصان الحد متعلق بالرق وجب أن يكون حد العبد على النصف قياساً على الأمة لوجود علة النقصان فيه.
ومثل ما نقول في سفر المعصية، إذا كان معصية (1) : إنه معنى يتعلق به تخفيف الصلاة، فإذا كان معصية لم يتعلق به كالقتال (2) وتأثيره في الأصول أنه إذا كان طاعةً أو مباحاً جازت صلاة الخوف، وصلاة شدة الخوف مخرجة عن المعصية، فدل على أن الحكم تابع لذلك.
ومثل ما قلنا: إن العلة في تحريم الربا التفاضل في الكيل دون الطعم، بدليل أن المكيلين متى تساويا من طريق الكيل جاز البيع فيهما وإن كانا مختلفين في الأكل.
وحكى أبو سفيان السرخسي وأبو عبد الله الجرجاني عن أبي الحسن الكرخي أنه كان يمنع أن يكون وجود الحكم بوجودها وعدمه بعدمها دلالة على صحتها (3)، وخالفاه على ذلك.
__________
(1) عبارة (إذا كان معصية) زائدة لا معنى لها.
(2) عدم جواز القصر في سفر المعصية هو المذهب.
وفي مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (1/387) وفي مسائله رواية أبي داود ص (74) وفي مسائله رواية ابن هانىء (1/129) يجيب الإِمام أحمد فيها كلها بعدم الجواز.
وانظر: المغني (2/262) والإنصاف (2/316) والروض المربع بحاشية العنقري (1/271).
(3) هكذا نقله عنه الجصاص في أصوله ص (144).
وقد خالفه الجصاص، ورأى أن ذلك دليل على صحة العلة، وأكد ذلك بقوله ص (145) : (.... هو عندي وجه قوي في هذا الباب، وما ينفك أحد من القائسين من استعماله).

(5/1433)


والدليل على أن ذلك دلالة على صحتها:
أنه دلالة على صحة العلل العقلية، وأن المعنى الموجب لكون المحل أسود (1) وجود السواد فيه وارتفاعه بارتفاعه.
وإذا كان ذلك دلالة العقليات مع كون العلل فيها موجبة، فاولى أن يجري ذلك في الشرعيات مع كونها غير موجبة (2).
فإن قيل: تكفير المُستحِلِّ للخمر قد وُجد بوجود الشدة وعُدِم بعدمها، ولم يدل على أنها العلة في التكفير (3).
قيل: هذا لا يدل على بطلان هذا الأصل؛ لأن العلل الشرعية وما هو دلالة عليها، ليست بموجبة لما يتعلق بها من الأحكام. فغير ممتنع أن يدل على شىء ولا يدل على نظيره، كخبر الواحد يجوز إثبات الحكم به فيما لم يرد القرآن بخلافه، ولا يجوز قبوله (4) فيما يخالف القرآن، والنقل فيهما على وجه واحد (5)
فإن قيل: لو جاز ذلك لوجب أن تصح علل القائسين في تحريم التفاضل في الأشياء المنصوص عليها؛ لأن كلاً منهم يمكنه أن يبين وجود الحكم بوجود علته، وعدمه بعدمها. ولا خلاف أن جميع عللهم غير صحيحة (6).
__________
(1) في الأصل: (الأسود).
(2) هذا الدليل إلزامي لأبي الحسن الكرخي الذي فرق بين العلة العقلية في هذا المقام، فجعل وجود الحكم بوجودها وعدمه بعدمها يدل على صحتها وبين العلة الشرعية فأبى ذلك.
(3) انظر: المصدر السابق ص (144).
هذا الاعتراض هو الدليل الأول لأبي الحسن فيما ما ذهب إليه.
انظر: المصدر السابق.
(4) في الأصل: (قوله).
(5) يعنى أن النقل في خبر الواحد في صورة ما إذا لم يرد القرآن بخلافه، وفي صورة ما خالف القرآن جاء على وجه واحد.
(6) وهذا هو الدليل الثاني لأبي الحسن الكرخي.
انظر: أصول الصدر السابق.

(5/1434)


قيل: الجواب عنه ما تقدم.
وعلى أن [222/أ] ذلك دليل على صحتها ما لم يمنع مانع، كالعموم يدل على الحكم ما لم يمنع مانع، وقد منع هناك مانع.
الرابع: شهادة الأصول
فمثل قولنا: لا تجب الزكاة في إناث الخيل؛ لأنها لا تجب في ذكورها، كالبغال والحمير والفِيَلة وغير ذلك من الحيوانات، وعكسه الإِبل والبقر والغنم.
وإذا كانت الأصول مرتبة على التسوية بين الذكور والإناث في وجوب الزكاة وسقوطها، ووجدنا الخيل لا زكاة في ذكورها إذا انفردت بالاجماع، لم تجب في إناثها. وكان ذلك طريقاً يقتضي غلبة الظن؛ لأن الظن يمنع وجود الحكم في الغالب.
ولهذا نقول: إذا ثبت من عادة الواحد أنه إذا أعطى بناته شيئاً من أمواله أعطى بنيه مثله، وتكرر ذلك من فعله، ثم سمع أنه أعطى بناته شيئاً غلب على ظن من سمع ذلك ممن علِم عادته أنه أعطى بنيه.
ومن ذلك: من صح طلاقه صح ظهاره.
وما جاز بيعه جاز رهنه.
ومن لزمه العُشْر لزمه ربع العُشْر.
وما حرم فيه [التفاضل] حرم فيه التفرق قبل التقابض.
ومثل ذلك كثير.
الخامس: قيام الدلالة على بطلان ما سواها
مثاله: اختلاف الفقهاء في علة فساد البيع حالة التفاضل، مع اتفاقهم أن الأصل يبطل بتعليله بإحدى العلل المذكورة.
فمتى قامت الدلالة على بطلان جميعها إلا واحداً تعين الحق في الحرية في الآخر، كما لما لم يكن هناك من يستحق الحرية غيره.

(5/1435)


فصل
[الطرد لا يدل على صحة العلة]
وأما الطرد فليس بدليل على صحتها، لكنه شرط في صحتها (1).
وقد تقدم الكلام في ذلك، أن الطرد شرط في صحتها، وأن تخصيصها نقض لها.
وهذا ظاهر قول أحمد - رحمه الله - وأن الطرد ليس بدليل على صحتها؛ لأنه قال في رواية [أحمد بن] الحسين بن حسَّان: "القياس: أن يقاس على الشىء إذا كان مثله في كل أحواله، وأقبل به وأدبر".
وقال أيضاً - رضي الله عنه - في رواية الأثرم، مذكور في كتاب الصيام: "إنما يقاس الشىء على الشىء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا شبَّهته به فأشبهه في حال وخالفه في حال، فأردت أن تقيس عليه فقد أخطأت، قد يوافقه في بعض أحواله ويخالفه في بعض، فإذا خالفه في بعض أحواله فليس هو مثله".
وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة: الجرجاني والسرخسي (2)، وأكثر أصحاب الشافعي (3) والمتكلمين.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/30) وروضة الناظر (2/321) والمسوَّدة ص (427) وشرح الكوكب المنير (4/198).
(2) الخلاف واقع في هذه المسألة عند الحنفية، ومن قبله وقع الخلاف في تحديد معنى الطرد.
فانظر: كشف الأسرار (3/1085) وأصول السرخسي (2/176) وميزان العقول ص (599) وتيسير التحرير (4/52).
(3) انظر: التبصرة ص (460) وشرح اللمع (2/864).

(5/1436)


وقال بعض الشافعية: الطرد دليل على صحتها (1).
دليلنا:
أن الطرد لو كان دليلاً على العلة لجاز [222/ب] أن يقتصر على ذكر العلة في الفرع من غير ذكر الأصل وتكون العلة صحيحةً لوجود الطرد على أصله.
مثل: أن يسأل عن تحريم النبيذ فيقول: إنه شراب فيه شدة مُطرِبة، فوجب أن يكون حراماً.
والدليل على أن الشدة المطربة دليل على تحريمه: أن ذلك مطرد فيه، لا ينتقض على أصل. فلما أجمعوا على أنه ليس بدليل، وأنه دعوى لا دليل عليها، دل على أن الطرد ليس بدليل على صحة العلة.
يدل على ذلك أن كل ما هو دليل على صحة العلة فلا فرق بين أن يذكر في الفرع أو في الأصل، مثل قول صاحب الشريعة ونطقه به.
ولأنه إذا لم يكن ذلك دليلاً في الفرع وجب أن لا يكون دليلاً إذا رده إلى الأصل؛ لأن دعواه للطرد فيهما جميعاً واحدة، ولا فرق بينهما.
ولأن جريانها في معلولاتها ليس فيه أكثر من أنها جامعة لفروعها، وهذه الفروع قوله ودعواه، فيكون جامعاً بين دعوتين، فلا يكون من ذلك دليلاً على صحة علته.
__________
(1) ونسبه الشيرازي في المصدرين السابقين إلى أبي بكر الصيرفي. ثم عقَّب عليه في شرح اللُّمع بقوله: (وهو فاسد).
وللشافعية قول ثالث، ذكره الشيرازي في التبصرة بقوله: (وقال بعض أصحابنا: إذا لم يردها نص ولا أصل دل على صحتها).
ولتحقيق مذهب الشافعية انظر: البرهان (2/789) وشفاء الغليل ص (266/303) والمنخول ص (340) والمحصول (5/305) والإِبهاج (3/85).

(5/1437)


وقد قيل: الطرد زيادة في الدعوى؛ لأنه يقال له: ما الدليل على أن العلة ما ذكرته في الأصل؟
قال: لأني أطردها ولا أنقضها في موضع من المواضع. وهو يطالب بالدليل على صحة ما فعله في جميع المواضع، فلا يجوز أن تصح الدعوى بزيادة الدعوى.
وأيضاً: فإن الطرد لو كان دليلاً على صحة العلة لم يجز وجوده مع الفساد.
والعلة الفاسدة تطرد كما تطرد الصحيحة.
مثل ذلك: أن يعلل فيما يخالف الإِجماع بعلة تطَّرد.
ومثال ذلك في إزالة النجاسة بالمائعات: مائع لا يعقد على جنسه القناطر، أو لا تبنى عليه القناطر، أو الجسور (1)، أو لا تكون فيه السباحة، أو لا يصطاد فيه السمك، فوجب أن لا تزال به النجاسة، كاللبن والدهن والمرق، ولا ينتقض بالماء، فإنه يعقد على جنسه الجسور وتبنى عليه القناطر.
أو يقول: كلب، فوجب أن يكون نجساً كالميت.
ويقول: مسَّ ذكرَه، كما لو مسَّ ذكره وبال.
أو يقول في وطء الثيب: شَرَع في نافذ، فلا يمنع الرد بالعيب، كما لو مشى في الشارع وأخرج رأسه من الرَّوْزَنَة (2).
ولا ينتقض بالبكر، فإنه إذا وطأها لم يشرع في نافذ.
ويقول فيه: أدخل المُدخل في المَدخل، فلا يمنع من الرد.
أصله: إذا أدخل رأسه في القَلَنْسُوَة وأدخل رجله في الخف.
وقال بعضهم في القهقهة: اصطكاك الأجرام العلوية، فلا تنقض الطهارة كالرعد.
__________
(1) في الأصل: (الجسورة).
(2) الروْزَنَة: الكوة.
انظر: القاموس (4/227) مادة: (رزن).

(5/1438)


ولا تنتقض بالضُّراط؛ لأنه احتكاك الأجرام السفلية [223/أ].
وهذا مع فساده متناقض فيه إذا منعته امرأته فصفعها (1)، فإن ذلك اصطكاك الأجرام العلوية، وهو ناقض لطهارته (2).
وقال بعضهم في مس الذكر: إنه مس آلة الحرث، فلا ينتقض طهرُه، كما لو مس الفَدَّان (3).
وقال: إنه طويل مشقوق، فأشبه البوق والقلم والمنارة.
وقال في السعي بين الصفا والمروة: إنه سعى بين جبلين، فوجب أن لا يكون ركناً في الحج كالسعي بين جبلى نيسابور (4). ولا يشك عاقل أن هذا فاسد.
ووجه فساده ظاهر؛ لأن المائعات لا تبنى عليها القناطر؛ لأنها لا تكون في طرق الناس. ولا تمنع الاستطراق والاجتياز، والماء الكثير يجعل (5) في الطريق ويمنع جواز الناس، فاحتاجوا إلى بناء القناطر عليه، فلم [يكن] لذلك تعلق بالتطهير، وكذلك لمس الفَدَّان سواء كان يصلح لآلة الحرث أو لم يصلح، وكان البوق على صفته، أو كان قصيراً، أو كان مصمتاً لا شق فيه، لا يثبت الوضوء بمسه، فلم يكن له تعلق بالحكم الذي علته عليه.
__________
(1) في الأصل: (وضعها) والصواب ما أثبتناه استعانة بشرح اللُّمع (2/866).
(2) انظر: المصدر السابق.
(3) الفَدّان بالتشديد آلة الحرث في الزراعة، ويطلق على الثورين يحرث عليهما في قِران واحد.
انظر: المصباح (2/713) مادة: (فدن).
(4) نيسابور: مدينة عظيمة من مدن المشرق الإسلامي. فتحها المسلمون في عهد عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - وقيل: في عهد عمر، رضي الله عنه.
انظر: مراصد الاطلاع (3/1411).
(5) في الأصل: (ويجعل) بزيادة الواو.

(5/1439)


وفي ذلك تنبيه على فساد جميع ما يجانسه إذا كان ذلك فاسداً، وكان مع ذلك مطرداً، دلَّ على أن الطرد ليس بدليل على الصحة.
واحتج المخالف:
بأن عدم الطرد يفسد العلة، فوجب أن يكون وجوده دالاً على صحتها.
ألا ترى أن عدم التأثير عند المخالف، لما كان دالاً على فسادها كان التأثير دالاً على صحتها.
والجواب: أن الطرد شرط في صحة العلة، وليس بدليل على الصحة. وفَقْد شرط من شروط الحكم يبطله، ووجوده لا يدل على صحته.
كالطهارة، فَقْدها يوجب بطلان الصلاة، ووجودها لا يدل على صحتها.
واحتج: بأنها إذا اطَّردت فقد عدم ما يفسدها، فوجب أن لا تكون فاسدة.
وإذا لم تكن فاسدة وجب أن تكون صحيحة؛ لأنه لا قسم بين الصحيح والفاسد، كما أنه إذا لم يكن قديماً وجب أن يكون محدثاً.
والجواب: أنه قد وجد ما يفسده (1)، وهو عدم الدليل على صحته. وعدم ما يصححه دليل على فساده.
يدل على ذلك: أن من ادعى النبوة، وقال: الدليل على صحة قولي عدم ما يفسده. وإذا لم يكن ما يفسده وجب أن يكون صحيحاً.
قلنا: قد وجد ما يفسده، وهو عدم ما يصححه.
وكذلك من قال في كل حكم سُئل عن صحته: ليس هاهنا ما يفسده.
وعدم ما يفسده دليل على أنه ليس بفاسد. وإذا لم يكن فاسداً وجب أن يكون صحيحاً.
كان الجواب عنه: أن عدم ما يصححه دليل على فساده. [223/ب].
__________
(1) في الأصل: (يفسدها) ولمراعاة الضمائر الآتية التي تعود على "الطرد" أثبتنا ما أثبتناه ليستقيم الكلام.

(5/1440)


فصل
[ذكر الوصف للاحتراز من النقض]
فإذا ثبت أن الطرد ليس بدليل على صحتها، (1) فإن علِّق الحكم بوصف، ولم يكن له تأثير في الأصل، لكن دخل للاحتزاز:
فمن قال: الطرد لا يدل على صحتها، قال: لا يجوز تعليق الحكم به.
ومن قال: يدل على صحتها، قال: يجوز ذلك (2).
والدليل على أنه لا يجوز:
أن العلة إنما تستنبط من الأصل ويُعَلَّق (3) الحكم عليها، وإنما يعلم أن الوصف علة للحكم في الأصل، فلم يجز تعليق الحكم عليه، ورد الفرع إليه.
واحتج المخالف:
بأن الأوصاف تحتاج أن تكون مؤثرة ومحترزة، فلما جاز تعليق الحكم على المؤثر جاز تعليقه على المحترز [به].
والجواب: أن المؤثر فيه تأثير واحتراز، فلوجود الشرطين جُعل علة، والوصف المتحرز فُقِد فيه أحد الشرطين، فلم يصح لتعليق الحكم عليه.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/51) والمسوَّدة ص (428) وشرح الكوكب المنير (4/275).
(2) وبه قال بعض الشافعية:
انظر: شرح اللمع (2/876) فقد تكلم عن هذه المسألة باستفاضة.
(3) في الأصل: (تعليق).

(5/1441)


فصل
[في الاعتراض الفاسد على العلة]
وذلك من وجوه:
أحدها: أن يقول المخالف: لو كان الادخار علة في وجوب العُشْر لوجب أن يكون علة في الربا، فلما لم يكن علة في الربا لم يكن علة في وجوب العُشْر (1).
وهذا غير صحيح؛ لأنه لا يجب إذا لم يكن علة في حكم أن لا يكون علة في حكم آخر مخالف له؛ لأن الأحكام المختلفة تختلف عللُها، فإنه قد يكون في أحدها مانع من ضمها ولا يكون في الآخر.
ألا ترى أن نصه في الربا على المِلْح منع من أن يكون القوت علة في الربا، وليس هذا المانع في وجوب العُشْر.
فإن قيل: فقد قلتم: إن ما لا يزيل الحدث لا يزيل الخبث. وإن مالا يصح الوضوء به لا يصح إزالة النجاسة [به]، وهذه مناقضة لما قلتم (2)، لأنهما حكمان مختلفان.
قيل: المقصود بهما الطهارة التي تستباح بها الصلاة، فكان طريقاً واحداً.
فالمانع الذي لا يصح به أحدهما لا يصح به الآخر، وليس كذلك العُشْر والربا، فإنهما حكمان مختلفان متباينان يقصد بكل واحد منهما غير ما يقصد به الآخر.
__________
(1) راجع في هذا الاعتراض: التمهيد (4/182)، والمنهاج في ترتيب الحجاج ص (166) والمعونة في الجدل ص (96) والكافية في الجدل ص (397).
(2) في الأصل: (قلته).

(5/1442)


ولهذا قلنا للمخالف: إن ما ليس من جنس الأثمان لما لم يدل على جواز النَّسَأ فيه لم يدل على جواز التفرق قبل التقابض؛ لأن معناهما واحد، وإذا جاز أحدهما جاز الآخر، وإذا حرُم أحدهما حرُم الآخر.
اعتراض ثانٍ :
على قياس الوضوء على التيمم في وجوب [224/أ] النية بأن الوضوء شُرع قبل التيمم، فلا يجوز أن يكون المتأخر أصلاً للمتقدم (1).
وهذا فاسد (2) ؛ لأن ذلك إنما لا يجوز إذا لم يكن لوجوب النية في الوضوء طريق غير التيمم، فلا يجوز أن يكون وجوب النية في الوضوء سابقاً للتيمم الذي هو طريق ثبوتها.
فأما إذا جاز أن تكون نية الوضوء ثابتة من غير جهة التيمم من آية أو سنة أو قياس على غير التيمم، ثم شرع التيمم وأوجبت النية فيه، وأودع فيه معنى يوجد في الوضوء صار طريقاً لثبوت النية ودليلاً عليها، وتأخره عنه لا يمنع صحته؛ لأن الدليل يجوز أن يَرِد بعد الدليل، وتتجدد الطريق بعد الطريق.
ولهذا نقول: إن الحكم إذا ثبت بقرآن ثم ورد بعده قول النبي - صلى الله عليه وسلم - دالاً عليه، كان كل واحد منهما طريقاً لثبوته، وكان المستدل بالخيار، إن شاء استدل بالقرآن، وإن شاء استدل عليه بالسنة.
__________
(1) راجع هذا الاعتراض في: روضة الناظر مع شرحها (2/313) ومختصر الطوفي ص (152) والمسوَّدة ص (387) وشرح الكوكب (4/111).
(2) هكذا عدَّه المؤلف من الأسئلة الفاسدة. ويرى ابن قدامة والمجْد والطوفي أن ذلك شرط في قياس العلة دون قياس الدلالة.
انظر: المراجع السابقة.

(5/1443)


وكذلك معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظهرت في أوقات مختلفة من نزول القرآن عليه، وتسبيح الحصى في يديه (1)، وحنين الجذع
__________
(1) تسبيح الحصى بين يديه - صلى الله عليه وسلم - أخرجه أبو نعيم في كتابه: دلائل النبوة (2/555) بإسنادين:
أحدهما: بسنده عن جبير بن نفير الحضرمي عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - قال: (إني لشاهد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في حلقة، وفي يده حصيات، فسبحن في يده، وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، يسمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر فسبحن مع أبي بكر، يسمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عمر، فسبحن في يده، يسمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن إلى عثمان، فسبحن في يده، ثم دفعهن إلينا فلم يسبحن مع أحد منا).
قال فيه الهيثمى في مجمع الزوائد (5/179) : (رواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد ابن أبي حميد، وهو ضعيف).
كما ذكره من طريق سويد بن يزيد (8/298) وقال فيه: (رواه البزار بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات، وفي بعضهم ضعف).
ثانيهما: بسنده إلى صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن سويد بن يزيد عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: (كنا جلوساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ حصيات في كفه فسبحن، ثم وضعهن في الأرض فسكتن، ثم أخذهن فسبحن).
وأخرجه البيهقي في كتابه دلائل النبوة (6/64) وقال فيه بعد ذلك: (وكذلك رواه محمد بن بشار عن قريش بن أنس عن صالح بن أبي الأخضر، وصالح لم يكن حافظاً، والمحفوظ رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: ذكر الوليد ابن سويد أن رجلاً من بني سليم كبير السن، كان ممن أدرك أبا ذر بالرَّبَذَة، فذكر هذا الحديث عن أبي ذر).
قال ابن حجر في الفتح (6/592) : (وأما تسبيح الحصى فليست له إلا هذه الطريق الواحدة مع ضعفها).

(5/1444)


إليه (1) ونَبْع الماء من بين أصابعه (2) وكلام الذراع (3) وغير ذلك. وكل واحد منها دليل على صدقه، وطريق ثبوت نبوته.
__________
(1) هو الجذع الذي كان يخطب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجده قبل أن يُتخذ له منبر.
أخرج ذلك البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم (4/237).
وانظر: الفتح (6/610).
وأخرجه بسنده أبو نعيم في كتابه: دلائل النبوة (2/514).
(2) معجزة نبع الماء من بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم - أخرجها البخاري عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وذلك في كتاب المناقب باب علامات النبوة (4/233).
وانظر الفتح (6/580).
وأخرجه أبو نعيم في كتابه: دلائل النبوة (2/521).
كلام الذراع أو الساق أو العضو للنبي - صلى الله عليه وسلم - جاء في قصة الشاة المسمومة، التي أهدتها اليهودية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصل القصة ثابت، أخرجها البخاري في كتاب الهبة، باب: قبول الهدية من المشركين (3/202).
وأخرجها مسلم في كتاب السلام، باب: السم (4/1721).
وأخرجها أبو داود في كتاب الديات، باب: فيمن سقى رجلاً سماً أو أطعمه فمات (4/647).
وأخرجها الإمام أحمد في مسنده (1/305).
أما الروايات التي فيها أن عضواً من أعضائها قد كلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أخرجها البزار والدارقطني من عدة طرق، أحسنها ما جاء في حديث
أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ولفظه: (أن يهودية أهدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة سميطاً، فلما بسط القوم أيديهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمسكوا، فإن عضواً من أعضائها يخبرني أنها مسمومة، فأرسل إلى صاحبتها أسممتِ طعامك هذا؟ قالت: نعم، قال: ما حملكِ =

(5/1445)


اعتراض ثالث:
على القياس في العقد الموقوف (1) بأنه نكاح لا تتعلق به الأحكام المختصة به، أو لا ببعضه استباحة، فكان باطلاً، كما لو تزوجها في العدة، فإن موضوعه فاسد؛ لأن العقد متبوع والأحكام تابعة، ولا يجوز أن يستدل بعدم التابع على عدم المتبوع، وإنما يستدل بعدم المتبوع على عدم التابع.
وهذا فاسد؛ لأن الشريعة قد تقررت، والأصول قد ترتبت على أن النكاح إذا كان صحيحاً تتبعه أحكامه، وإذا كان فاسداً لا تتبعه الأحكام.
فإذا كان كذلك، ووجدنا عقد النكاح لا تتبعه أحكامه، وجب أن يكون (2) فاسداً.
ولأنهم (3) ناقضوا في ذلك، وقالوا: لا يصح ظهار الذمي؛ لأنه لا يصح
__________
= على ذلك؟ قالت: أردت إن كنت كاذباً أن أريح الناس منك، وإن كنت صادقاً علمت أن الله تبارك وتعالى سيطلعك عليه، فبسط يده وقال: كلوا بسم الله، قال فأكلنا، وذكرنا اسم الله، فلم يضر أحدا منا).
قال الهيثمي في مجمع الزوائد في كتاب علامات النبوة، باب: ما جاء في الشاة المسمومة (8/295) : (رواه البزار، ورجاله ثقات).
راجع هذا الاعتراض في: التمهيد (4/184) والكافية في الجدل ص (400).
والمراد بالعقد الموقوف: الموقوف على الإجازة، كما صرح به المؤلف في كتابه: الروايتين والوجهين (2/82).
والمعنى: أن المرأة إذا تزوجت بغير إذن وليها، ثم أذن الولي بعد ذلك، فهل يصح النكاح والحالة هذه؟ روايتان في المذهب الحنبلي:
الأولى: وهي الصحيحة كما يقول المؤلف: لا يصح ذلك، كنكاح المرتدة والمعتدة.
والثانية: يصح، قياساً على الوصية بأكثر من الثلث.
(2) في الأصل: (أن لا يكون).
(3) هذا إشارة إلى الحنفية.

(5/1446)


منه التكفير بالصوم، والتكفير من أحكامه (1).
اعتراض رابع:
أن نفرق بين الأصل والفرع مع وجود العلة الموجبة للمنع بينهما (2).
مثل: أن نقيس النبيذ على الخمر في التحريم لوجود الشدة المطربة.
فيقول الخصم (3) : لا يجوز اعتبار النبيذ بالخمر؛ لأن الخمر؛ يكفر مستحلُّها ويفسق شاربُ قليلِها، ولا يكفر مستحل النبيذ ولا يفسق شارب قليلِه.
وهذا فاسد؛ لأن افتراقهما [224/ب] في حكم لا يوجب افتراقهما في حكم آخر. واجتماعهما في علة الحكم يوجب اشتراكهما في الحكم. فكان الفرق في مقابلة الجمع بالعلة بمنزلة معارضة الدليل بما ليس بدليل.
اعتراض خامس:
أن يبدِّل لفظ العلة بغيره، ثم يفسده (4).
نحو قولنا في الصائم - إذا أكره على الفطر بالأكل والشرب -: إن ما لا يفسد الصوم سهوه لم يفسده إذا كان مغلوباً عليه. أصله: القيء.
فنقول: ليس في كونه مغلوباً عليه أكثر من أنه معذور، والعذر لا يمنع
__________
(1) هذا من ضمن أدلة الحنفية على أن الذمي لا يصح ظهاره. وقد عبر عن ذلك الكاساني في بدائع الصنائع (5/2123) بقوله: (والثاني: أن فيها [يعني آية الظهار] أمراً بتحرير يخلفه الصيام إذا لم يجد الرقبة، والصيام يخلفه الطعام إذا لم يستطع، وكل ذلك لا يتصور في حق غير المسلم...).
وانظر: شرح فتح القدير: (4/245).
(2) راجع في هذا الاعتراض: التمهيد (4/183) والمسوَّدة ص (441) وشرح الكوكب (4/320) والمنهاج في ترتيب الحجاج ص (201) والكافية في الجدل ص (298).
(3) إشارة إلى الحنفية، كما صرح بذلك أبو الخطاب في كتابه التمهيد الموضع السابق.
(4) راجع هذا الاعتراض في: التمهيد (4/181).

(5/1447)


الإفطار، الدليل عليه: المريض والمسافر إذا أكلا.
وهذا فاسد؛ لأن العذر غير (1) الغلبة، ومعناهما يختلف؛ لأن العذر [بالمرض] (2) لا يسلب الاختيار. والغلبة تسلب الاختيار، وإذا نقل لفظ العلة إلى لفظ آخر لا يفيد معنى لفظ العلة، ثم أفسده لم ينفعه إفساده إياه، ولم يكن إفساداً للعلية.
ويدل على ذلك: أن الصائم إذا استقاء عامداً لمرض به كان معذوراً وأفطر بذلك. فإذا ذرعه القيء لم يفطر. فدل هذا على الفرق بين المغلوب وبين المعذور والمختار.
اعتراض سادس:
قول القائل: لا يجوز أن يوجد النفي من الإثبات، والإثبات من النفي (3).
مثاله: قول أصحاب أبي حنيفة (4) : عبد تجب في رقبته زكاة التجارة فلا تجب عليه (5) زكاة الفطر، كالعبد الكافر (6).
__________
(1) في الأصل: (عن) والتصويب من التمهيد الموضع السابق.
(2) زيادة اقتضاها المقام، وقد أثبتها أبو الخطاب في كتابه التمهيد لمَّا نَقَل كلام المؤلف.
(3) راجع هذا الاعتراض في: التمهيد (4/182).
(4) الحنفية لا يرون أن في العبد المعدّ للتجارة زكاة فطر، حتى لا يجتمع على السيد زكاتان؛ لأن ذلك يؤدي إلى الثنى، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك.
أما إذا كان العبد معداً للخدمة فعلى سيده زكاة الفطر فقط.
انظر: بدائع الصنائع (2/964) وتحفة الفقهاء (1/336) وشرح فتح القدير (2/286).
(5) ظاهر هذا: أن الضمير راجع إلى العبد، والحنفية لا يقولون بذلك، وإنما هي على مالك العبد؛ لأن العبد ليس أهلاً للملك، فلا تجب عليه زكاة الفطر.
(6) العبد الكافر - عند الجمهور - لا تجب من أجله زكاة الفطر؛ لأنه كافر، وتجب =

(5/1448)


فقال بعض من لا يُحصل: لا يجوز أن يؤخذ الحكم من ضده ونقيضه.
وهذا فاسد. وقد ورد الشرع بمثل ذلك، قال النبي - عليه السلام -: (لا وصية لوارث) فجعل ثبوت الميراث علَماً على نفي الوصية.
ونهى عن مهر البغي (1) فجعل كونها بَغِياً علة لنفي المهر.
وقول النبي -عليه السلام-: (إنَّها ليست بنجَس، إنها من الطَّوافين عليكم).
ومثل ذلك كثير.
ولأن علل الشرع أمارات بقصد صاحب الشرع وجعله إياها أمارات.
فإذا كان كذلك جاز أن يجعل النفي علة للإثبات، والإثبات علة للنفي، كما يجوز أن يجعل الإثبات علة للإثبات، والنفي علة للنفي، ولا فرق بينهما.
__________
= فيه زكاة التجارة؛ لأنه من عروض التجارة.
أما عند الحنفية: فالعبد الكافر إذا كان معداً للخدمة فتجب على السيد زكاة الفطر من أجله.
أما إذا كان معداً للتجارة، فلا تجب فيه زكاة الفطر، وإنما تجب زكاة التجارة فقط، حتى لا يجتمع على السيد زكاتان.
انظر: المراجع السابقة، والمغني (3/70،56).
(1) هذا إشارة إلى حديث أبي مسعود - رضي الله عنه - الذي أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب: ثمن الكلب (3/105) ولفظه: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن: ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساقاة، باب: تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن... (3/1198) بمثل لفظ البخاري.

(5/1449)


فصل
إذا علَّل المسؤول، فنقض الحكم عليه، ففسر لفظ علته بما يدفع النقض، نُظِر (1) :
فإن كان التفسير مطابقاً للفظ العلة قبل منه، وإن كان مخالفاً للفظ علته لم يقبل منه.
وأما التفسير المطابق فمثل أن يقول (2) في المتولِّد بين الغنم والظباء: لا زكاة فيها؛ لأنها متولدة من أصلين أحدهما لا زكاة فيه (3). فوجب أن لا تجب فيه زكاة. أصله: [225/أ] إذا كان الأمهات من الظباء، وهذا على [قول] أبي حنيفة (4).
فأما على قولنا، فإن الزكاة تجب (5).
فيقول الخصم (6) : هذا ينتقض بالأولاد المتولدة من المعلوفة والسائمة.
فقال: أردت به لا زكاة فيها بحال. والمعلوفة فيها الزكاة بحال، وهي إذا سمنت (7).
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/143) والجدل على طريقة الفقهاء ص (58) وروضة الناظر (2/365) والمسودة ص (436) وشرح الكوكب المنير (4/287) وترتيب الحجاج ص (188).
(2) صرح في التمهيد الموضع السابق بأن القائل شافعي، وهو كذلك كما سيأتي.
(3) هكذا صرح به الشيرازي في مهذبه والنووي في مجموعه (5/291،290).
(4) الحنفية يرون أن المتولد من الوحشي والأهلي فيه الزكاة إذا كانت الأم أهلية؛ لأن الولد يتبع الأم في الرق والحرية، فكذلك في الزكاة.
انظر: بدائع الصنائع (2/872).
(5) عند الحنابلة تجب الزكاة في المتولِّد بين الوحشى والأهلي مطلقاً.
انطر: المغني (2/595).
(6) صرح في التمهيد الموضع السابق: أن المراد به الحنفية.
(7) يعنى: أصبحت عروض تجارة.

(5/1450)


وهذا التفسير يقبل؛ لأن ظاهر قوله: لا زكاة فيه، أنه لا زكاة فيها بحال.
أما التفسير المخالف، فهو أن يقول: مكيل، فوجب أن يحرم فيه التفاضل.
أصله: الأربعة المنصوص عليها.
فيناقض بالجنسين (1).
فيقول: أردت به إذا كان جنساً واحداً، فلا يقبل منه؛ لأن لفظه عام في جنس واحد وجنسين، فيريد أن يجىء بلفظه زيادة، يضيفها إليه ليخرج موضع النقض من لفظ العلة، وهذا لا سبيل له إليه بعد انتقاض ما تناوله لفظ علته.
وقال بعضهم: إذا جاز لصاحب الشريعة أن يطلق لفظاً عاماً ثم يخصه جاز ذلك لمعلل.
وهذا فاسد؛ لأن من يقول: لا يجوز تأخير البيان لا يُجَوِّز ذلك إلا أن يكون البيان سابقاً، ليكون دليل التخصيص بمنزلة القرينة.
ومن يجوِّز تأخير البيان، فإنّما يجوِّزه إلى وقت الحاجة، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. والمعلل قد أخر بيانه عن وقت الحاجة وهذا [غير] جائز (2).
وجواب آخر: وهو أن لصاحب الشريعة النسخ، وله ذكر بعض العلة وترك الباقي.
وهذا لا يجوز للمسؤول القاصد إلى تثبيت الحكم بعلته.
فأما إذا نازعه الحكيم في وصف علته، وامتنع من تسليمه، ففسره بما يوافقه، ويسلم له، وكان اللفظ محتملاً لما فسره به، وتستقل العلة بذكره قُبِل منه.
مثاله أن يقول: الحج لا يسقط بالموت؛ لأنه فعل تدخله النيابة، استقر عليه في حال الحياة، فلا يسقط بالموت، كالدين.
__________
(1) كالبر والتمر، فإن التفاضل بينهما جائز.
(2) انظر: التمهيد (4/145).

(5/1451)


فيقول الخصم: الحج لا تدخله النيابة، ويكون الحج للحاج دون المحجوج عنه.
فيقول المعلل: أردت بالنيابة أن للمحجوج عنه أن يأمره بفعله، ويجوز للفاعل أن يقصد بقلبه أنه يفعله له، أو يجب عليه ذلك.
وهذا يسلمه الخصم، وهو ضرب من النيابة.
فصل
إذا كانت العلة للجواز فلا تنتقض بأعيان المسائل (1).
مثاله أن يقول: تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون؛ لأن من وجب في ماله العُشْر، جاز أن يجب في ماله ربع العُشْر.
فقال: هذا ينتقض بما دون المائتين، وببنات البُدْن والحمير والبغال وسائر الأموال التي لا تجب الزكاة فيها.
أو قال [في الصبي والمجنون]: حر مسلم، فجاز [225/ب] أن تجب الزكاة في ماله قياساً على البالغ العاقل.
فقال: ينتقض بالأموال التي ذكرناها.
وهذا ليس ينتقض؛ لأن النقض وجود العلة مع عدم الحكم، وليس حكم هذه العلة وجوب ربع العُشْر أو وجوب الزكاة في كل ماله، وإنما حكمها وجوب ربع العُشْر أو وجوب الزكاة في مال غير معيَّن.
فإذا وجبت الزكاة في مال من الأموال وأسقطها عن غيره كان حكم العلة موجوداً، ولم يكن النقض داخلاً على العلة.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/148) والمسوَّدة ص (431)، والمنهاج في ترتيب الحجاح ص (188).

(5/1452)


فصل
[التسوية بين الفرع والأصل تدفع النقض]
إذا انتقضت علة المعلل، فقال: قصدت التسوية بين الأصل والفرع (1)، جاز (2).
وهو قول أصحاب أبي حنيفة (3).
وقال أصحاب الشافعي: لا يجوز ذلك (4).
ومثاله: أن نقول في المسح على العمامة: عضو يسقط في التيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين.
فيقول المخالف: هذا ينتقض به في الغسل من الجنابة (5).
__________
(1) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/150) والمسوَّدة ص (431) وشرح الكوكب المنير (4/288).
(2) قيد ذلك أبو الخطاب بمن يقول: إن العلة المخصوصة صحيحة؛ لأنه لا يشترط في العلة: الطرد والجريان.
أما من لا يقول بتخصيص العلة فإن التسوية ليست مانعة من النقض.
ثم ذكر أن ذلك خلاف ما اختاره شيخه أبو يعلى من أن التسوية تمنع من النقض، مع قوله: إن من شرط العلة الاطراد.
(3) وهو كذلك
انظر: أصول السرخسي (2/248) وتيسير التحرير (4/144).
(4) هذا هو المشهور عند الشافعية.
وفصَِّل بعضهم فقال: إن كان قد صرح بالحكم لم يدفع النقض، وإن كان غير مصرح به، بل قد جعل حكم العلة التشبيه فيدفع النقض.
انظر: التبصرة ص (470) وشرح اللُّمع (2/889).
(5) فإن الرأس في الغسل من الجنابة يسقط والتيمم، ولا يمسح على حائله.
انظر: التمهيد (4/150).

(5/1453)


فنقول: قصدنا التسوية بين الرأس والقدمين، والرأس والقدمان يُنْقَضان في غسل الجنابة.
وكذلك السلم، موجود عند المحل، فصح السلم فيه كما لو كان موجوداً حين العقد.
ولا يلزم عليه الجواهر؛ لأنها لو كانت موجودة حين العقد لم يجز السَّلَم فيها.
ومثاله ما قاله الحنفي: من صح قبوله البيع صح قبوله النكاح.
أصله: الحلال.
فقيل له: ينتقض بمن له أربع نسوة، فإنه يصح قبوله للبيع، ولا يصح قبوله للنكاح.
فقال: قصدت التسوية بين المحرم والمحل، والمحرم والحلال يتفقان في ذلك.
أو قال: مائع فجاز إزالة النجاسة به كالماء.
فقال خصمه: ينتقض بالمائع النجس.
فقال: قصدت التسوية بين المائع والماء، والنجس لا يجوز إزالة النجاسة به فيهما.
والدلالة عليه:
أن القصد بالعلة التسوية بين الأصل والفرع، فإذا استويا في الحكم وفي ضده، دل ذلك على قوة الشبه بينهما، وجرى ذلك مجرى قوله: بنو (1) بكر زرق كبني تميم، فبان (2) أن في بني بكر أشهل، وفي بني تميم أشهل، لم يمتنع ذلك من صحة الشبه، كذلك هاهنا.
وأيضاً: فإن الكسر كالنقض، بدليل أن كل واحد منهما يمنع الاحتجاج بالعلة.
__________
(1) في الأصل (بنى).
(2) في الأصل: (بان).

(5/1454)


ثم ثبت أن التسوية في الكسر بين الأصل والفرع يمنع لزومه، كذلك النقض.
ومثاله ما قاله المخالف فيمن وطىء ليلا في كفارة الظهار: إن وطأه لم يصادف صوماً فلم يفسد، كالوطء في كفارة القتل.
فقيل له: لا يمتنع أن لا يصادف الصوم ويفسد، كما لو نوى صيام تطوع أو قضاء، فإن التتابع يفسد، وإن لم يفسد [266/أ] الصوم.
فيقول المخالف في الأصل مثله، وهو كفارة القتل، وأن ذلك يفسد، كذلك في الظهار، فيكون ذلك جواباً سديداً، كذلك هاهنا.
وأيضاً: فإنه ليس من شرط العلة جريانها في جميع المعلول.
بدليل أنه لو كان الخلاف في فصلين، فنصب العلة على أحدهما كانت صحيحة، فإذا لزم على العلة نقضاً، فقال في الأصل مثله، فأكثر ما فيه أنها لم تجر في جميع المعلومات، وذلك جائز.
واحتج المخالف:
بأن النقض، وجود العلة مع عدم حكمها.
وحكم هذه العلة صحة قبول النكاح دون التسوية. وقد وجدت العلة، وحكمها معدوم.
والجواب: أن النقض وجود العلة مع عدم حكمها، مع اختلاف الأصل والفرع في ذلك. فأما مع اتفاقهما، فليس هذا حد النقض وصفته.
واحتج: بأن هذا القائل يسقط الأصل؛ لأن حكم العلة إذا كان التسوية بين الأصل والفرع وجب أن يقيس الحلال على ما ليس بحلال لصحة قبوله للبيع، ويكون حكمهما مساوياً لحكم الحلال، وهذا لا تجده بحال.
والجواب: أنه لا يسقط الأصل؛ لأن الأصل مجمع على حكمه، ولا حاجة بنا إلى قياسه على غيره. والفرع مختلف فيه، فَبِنا حاجة إلى قياسه

(5/1455)


على غيره.
فبان أن الأصل لا يسقط، ووجود [علة] النص فيهما يدل على تأكيد شبهه به في الحكم وضده (1).
واحتج: بأن وجود التسوية إقرار بالنقض في الأصل والفرع.
والجواب: أن هذا إقرار بالأصل والفرع لم يجريا في جميع المعلول.
وقد بينَّا أن جريانهما في جميعه ليس بشرط. ثم هذا يلزم عليه التسوية بين الأصل والفرع في الكسر.
واحتج: بأن ما أفسد إذا لم يمكن التسوية أفسد وإن أمكن التسوية، يدل عليه الممانعة وعدم التأثير.
والجواب: أنه إذا لم يمكن التسوية، فالعلة لم تجر في شىء من المعلول، فإذا أمكن جرت في شىء مثله. ثم يلزم عليه الكسر، فإنه يفسد إذا لم يمكن التسوية، ولا يفسد إذا أمكن.
مسألة
لا يجوز للمسؤول أن ينقض السائل بأصل نفسه (2).
__________
(1) يعني: أن الاستواء بين الأصل والفرع في العلة يدل على تشابههما في ذلك الحكم، كما يدل على تشابههما في ضد الحكم، وعليه فلا نقض.
ويلاحظ: أن أبا الخطاب -تلميذ المؤلف- يخالف شيخه في هذه المسألة، ولذلك أجاب عن أدلة شيخه بما يبطلها.
فانظر: التمهيد (4/151).
(2) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/158) والمسوَّدة ص (432) وشرح الكوكب المنير (4/290).

(5/1456)


وحُكي عن الجرجاني أنه كان يستعمله (1).
وسئل أبو بكر الباقلاني (2) عن ذلك فقال: له وجه في الاحتمال (3).
ومثاله، أن يقول: مهر المثل يتنصَّف بالطلاق قبل الدخول؛ لأنه مهر يستقر بالدخول؛ فوجب أن يتنصَّف بالطلاق قبله. أصله: المسمى في العقد.
فيقول المسؤول من أصحاب أبي حنيفة: هذا ينتقض على أصلي بالمسمى بعد العقد، فإنه يستقر بالوطء، ولا يتنصَّف بالطلاق قبله، وإنما يسقط جميعه يسقط جميع مهر المثل (4). [266/ب].
أو يقول: لا يجب للمتوفى عنها زوجها السكنى؛ لأنه لا نفقة لها، قياساً على الموطوءة بشبهة (5).
فيقول المسؤول من أصحاب الشافعي: هذا ينتقض على أصلي بالمطلقة البائن الحائل (6)، فإنه لا نفقة لها، ويجب لها السكنى (7).
__________
(1) نسب ذلك إليه في المراجع السابقة، وفي: إحكام الفصول للباجى ص (659) والتبصرة ص (472).
(2) نسب إليه ذلك في المسوَّدة وفي إحكام الفصول الموضعين السابقين.
(3) في إحكام الفصول ص (660) : (وله وجه) ولم يزد عليها.
(4) وبذلك تجب لها المتعة.
والطلاق الذي تجب فيه المتعة عند الحنفية نوعان:
أ- أن يكون الطلاق قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه ولا فرض بعده، أو كانت التسمية فيه فاسدة.
ب- أن يكون الطلاق قبل الدخول في نكاح لم يسمّ فيه المهر، وإنما فرض بعده.
انظر تفصيل ذلك في: بدائع الصنائع (3/1482).
(5) القائل هو الحنفية.
انظر: بدائع الصنائع (4/2042).
(6) في الأصل: (الحابل) بالموحدة.
(7) وهو كذلك. انظر: المهذب مع شرحه المجموع (17/157).

(5/1457)


دليلنا:
أن علل المعلل حجة عليه في المواضع التي ينقض عليه بها لوجود علة فيها. ولا يجوز أن يدفع الحجة بدعواه.
ولا يجوز أن يقول: أنا أَدلُّ عليه بدليل أقوى من القياس؛ لأنه انتقال من موضع فرض الكلام فيه إلى غيره، وهذا لا يجوز له. ويكون ذلك انتقالاً منه، كما لا يجوز إذا فرض الكلام في الدليل من الخبر أن ينقله إلى القياس، أو من القياس إلى الخبر.
وإذا لم يجز للسائل أن ينقل الكلام عن الموضع الذي فرضه المسؤول؛ لأنه تابع للمسؤول، فلأنْ لا يجوز للمسؤول أن ينقله عن الموضع الذي فرض الكلام فيه باختياره أولى.
ويخالف هذا في الابتداء، فإن للمسؤول أن يبني على أصله؛ لأنه لم يتعين عليه الكلام في موضع بعينه.
ألا ترى أن له الاختيار في الاحتجاج بما اختار من أنواع الأدلة، فإذا فرض الكلام في شىء منه وعيَّنه لم يجز أن ينتقل عنه، وإذا انتقل كان منقطعاً. فدل على الفرق بينهما.
وأما نقضها على أصل المعلل فصحيح؛ لأنه يعلمه أنها منتقضة على أصله، لوجود علته مع عدم حكمها على أصله.
وإذا بين له ذلك كانت العلة منتقضة باعتراف المعلل، فلزمه النقض.
واحتج المخالف:
بأن المسؤول له أن يبني على أصله في الابتداء، فيقول: إن سلَّمت موضع النقض فقد انتقضت العلة، وإن لم تسلِّم، دَللتُ على صحته (1).
__________
(1) ساق الشيرازي هذا الدليل في كتابه التبصرة ص (472) بأوضح مما هنا حيث قال: (واحتج المخالف: بأنه لو جاز للمسؤول في الابتداء أن يبنى على أصله، فيقول: =

(5/1458)


ولأنه إذا كان للمسؤول أن ينقض علة السائل على أصل السائل، وإن كان المسؤول لا يقول به، كذلك يجوز على أصل نفسه، وإن كان السائل لا يقول به.
والجواب: ما ذكرنا (1).
فصل
ولا يجوز لأحد أن يلزمه خصمه ما لا يقول به إلا النقض (2).
فأما غير النقض، من دليل الخطاب أو القياس أو المرسل أو غير ذلك، فلا يجوز له التزامه؛ لأنه يكون محتجاً بما لا يقول به، ومثبتاً للحكم بما ليس بدليل.
ويخالف الناقض؛ لأنه غير محتج بالنقض، ولا مثبت للحكم به. وإنما يعلم المعلل أصله وينبهه على وجود علته فيه مع عدم حكمها، وهو معروف أن ذلك نقض لعلته وإبطال [227/أ] لها.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقول دليل خطابه يلزمك على أصلك؛ لأنك
__________
= إن سلَّمت هذا الأصل ثبتت علته، وإلا دللتُ عليه، جاز أن ينقض على أصله فيقول: إن سلَّمت هذا انتقضت له العلة، وإن لم تسلِّم دللتُ عليه).
(1) بالنسبة للجواب عن دليل المخالف الأول فهو يشير إلى قوله فيما سبق: (ويخالف هذا في الابتداء....).
وبالنسبهَ للجواب عن دليل المخالف الثاني فهو يشير إلى قوله فيما سبق: (ولا يجوز أن يقول: أنا أَدِلُّ عليه...).
والجواب عن دليلى المخالفين مبين في كتاب التبصرة: الموضع السابق.
(2) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/180) والمسوَّدة ص (432) وشرح الكوكب المنير (4/289).

(5/1459)


تعتقد صحته، وأنه طريق لإِثبات الحكم؟
قيل: لايجوز ذلك؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يطالب خصمه بإثبات الحكم من طريق فاسد عند نفسه [فـ] كما لا يجوز أن يثبته من طريق فاسد لا يجوز أن يطالب خصمه بذلك.
ولأن له أن يقول: أنت لا تقول بدليل الخطاب، وإنما تركته لما هو أقوى منه، فكان تركه في هذا الموضع مجمعاً عليه (1).
ومثال ذلك، أن يحتج على بطلان النكاح من غير ولي بما روت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أَيُّما امرأةٍ نَكَحَت نفسَها بغير إذن وليِّها فنكاحُها باطل).
فيقول خصمه: يجب إذا نكحت بإذن وليها أن يجوز من طريق دليل الخطاب.
والجواب عنه بما ذكرنا.
فصل
إذا لم يسلم النقض، فقال الناقض: أنا (2) أَدِلُّ على صحته، لم يجز ذلك(3)؛ لأنه يريد أن ينقل الكلام عن موضع فيه إلى غيره، وهذا لا يجوز، كما لا يجوز الانتقال من دليل إلى دليل، وإن لم يدل عليه، ولكنه إن أراد أن يكشف عن أصل المعلل يلغى (4) من ذلك ولم يجز للمعلل منعه منه.
__________
(1) يعني: أن دليل الخطاب مُجْمع على ترك الاستدلال به من الطرفين، فالأول لا يقول بحجيته مطلقاً، والآخر لا يقول به في هذا الموضع لوجود دليل أقوى منه.
(2) في الأصل: (إنما).
(3) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/141) والمسوَّدة ص (431) وشرح الكوكب المنير (4/286).
(4) هكذا في الأصل، والمعنى: أن الناقض إذا أراد أن يكشف عن أصل المعلِّل فله ذلك، ولا يجوز منعه.

(5/1460)


مثاله: إذا قال أصحاب أبي حنيفة فيمن تيمَّم لشدة البرد وصلى: لا يعيد؛ لأنه مأمور بالصلاة، فوجب أن لا يؤمر بقضائها، قياساً على الصلاة بالوضوء (1).
أو المريض إذا تيمَّم، فنقض ذلك عليه بالمحبوس في المِصْر عن الماء، فإنه يتيمَّم، ويصلي، ويعيد.
فقال: لا يعيد في إحدى الروايتين.
فقال له: هذا مذهب زُفَر (2) وليس هذا بمذهب أبي حنيفة (3).
وذكره الطحاوي (4) في اختلاف الفقهاء (5).
فصل
إذا نقض على خصمه، ثم رجع إلى مناكرتها لم يقبل منه (6).
__________
(1) انظر تفصيل القول في هذه المسألة: بدائع الصنائع (1/188).
(2) هو: زُفَر بن الهذيْل بن قيس بن سلم أبو الهذيْل العنبري، الفقيه المجتهد.
أحد تلاميذ الإِمام أبي حنيفة المشهورين. كان من أذكياء الوقت. جمع بين العلم والعمل. مات سنة (158 هـ).
له ترجمة في: تاريخ ابن معين (2/172) وسير أعلام النبلاء (8/35) وشذرات الذهب (1/243).
(3) راجع هذه المسألة في: بدائع الصنائع (1/192).
(4) هو: أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر الأزدي الحجري المصري الطحاوي الحنفي، الفقيه المحدث، صاحب التصانيف الكثيرة. أخذ العلم عن أبي جعفر بن عمران وأبي حازم وغيرهما. له مؤلفات منها: شرح معاني الآثار، والشروط، واختلاف العلماء. ولد سنة (238) ومات سنة (321 هـ).
له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (3/808) وسير أعلام النبلاء (15/27)، وطبقات الحفاظ ص (337).
(5) ذكره منسوباً إليه: في سير أعلام النبلاء الموضع السابق، والأعلام (1/206)، وذكر الأخير أنه مخطوط، ويوجد منه الجزء الثاني في دار الكتب المصرية بالقاهرة.
(6) راجع في هذه المسألة: المسوَّدة ص (437).

(5/1461)


مثاله ما قاله بعضهم في فُرْقة اللعان: إنها فُرْقة تتعلق بسبب من جهة الزوج تختص النكاح، فوجب أن تكون طلاقاً. أصله: فُرْقة الطلاق.
فقال له خصمه: إنه منتقض بمن زوج ابن أخيه وهو صغير، فإن له خياراً [عند] بلوغه، وليس بطلاق.
فقال: قد قلت لا يختص النكاح؛ لأنه يثبت مثل ذلك في إجازة المولى عليه؛ لأن الصغير إذا أجَّره أبوه أو وليه ثم بلغ كان له فسخ الاجارة، فلا يختص بالنكاح.
فقال له خصمه: وكذلك عندي لا يختص اللعان بالنكاح؛ لأنه يجوز أن يلاعن في نكاح فاسد ووطء شبهة، إذا كان لها ولد يريد نفيه.
وهذا مناكرة بعد مناقضة.
وإنما لا يقبل منه؛ لأن النقض تسليم للعلة واعتراف بوجودها، فإذا أنكرها بعد الاعتراف بها لم يقبل رجوعه عما اعترف به.
فصل
القول بموجب (1) العلة يبطل احتجاج العلل به (2).
__________
(1) الموجَب بفتح الجيم: ما أوجبه دليل المستدل.
وبكسر الجيم: الدليل لأنه الموجب للحكم.
انظر: شرح الكوكب المنير (4/339).
راجع هذه المسألة في التمهيد (4/186) والواضح (3/1131) وروضة الناظر (2/395) وشرح الكوكب المنير الموضع السابق.
والقول بالموجب هو -كما يقول صاحب الإبهاج (3/141)-: (تسليم مقتضى ما نصبه المستدل دليلاً لحكم، مع بقاء الخلاف بينهما فيه).
(2) العلة هنا ضربان:
أحدهما: أن يستدل بها لإثبات مذهبه. =

(5/1462)


لأنه إذا قال بموجبها كانت العلة في موضع الإِجماع، ولا تكون متناولة لموضع الخلاف.
ومثاله أن يقول في الاعتكاف: لُبْث في مكان مخصوص، فوجب أن لا يكون قُرْبة بمجرده، قياساً على الوقوف بعرفة.
فيقول خصمه: عندنا لا يكون اللُّبْث بمجرده قُرْبة حتى تقترن به النية.
فيكون الحكم الذي علله مجمعاً عليه.
وكذلك إذا قال: لا تجتمع زكاة الفطر وزكاة التجارة؛ لأنهما زكاتان مختلفتان، فلا تجتمعان في مال واحد، كزكاة السَّوْم وزكاة التجارة.
فيقول خصمه: أقول بموجبه؛ لأنهما لا تجتمعان في مال واحد؛ لأن زكاة الفطر تجب عن بَدَن العبد، وزكاة التجارة تجب في قيمته، وهما مختلفتان.
وأما إذا كان حكم علته عاماً، فقال بموجبها في بعض معلولاتها، لم يصح.
مثاله: أن يقول: [القيام] ركن من أركان الصلاة، فلا يكون لركوب السفينة تأثير في سقوطه، كالركوع والسجود.
فيقول الخصم: أقول بموجب العلة؛ لأن عندنا لا تأثير له في سقوطه إذا
__________
= والثاني: أن يستدل بها لإبطال مذهب مخالفه.
والضرب الأول قسمان:
أحدهما: تعليل عام، إثباتاً أو نفياً.
فالإثبات كما مثَّل المؤلف بمسألة القيام في الصلاة في السفينة.
والنفي كقول الحنبلي: (في إزالة النجاسة بالخل: إنه لا يرفع الحدث، فلم يطهر النجس كالدهن.
فيقول المعترض: أقول بموجبه في المائع النجس).
وثانيهما: التعليل للجواز، مثاله: (قول الحنفي في الزكاة في الخيل: إنه حيوان تجوز المسابقة عليه، فجاز أن يتعلق به وجوب الزكاة كالإِبل).
انظر: التمهيد (4/187) والواضح (3/1133).

(5/1463)


كانت السفينة واقفة، فإنه لا يجوز أن يترك القيام، وإنما يجوز إذا كانت سائرة.
فيقال: إلا أن له تأثيراً في حال السير، والعلة عامة في حال الوقوف والسير جميعاً، فلم يكن قائلاً بموجبها. وكانت العلة حجة عليه في حال السير.
وإذا ادعى أنه يقول بموجب العلة، ففسره بغير موجب العلة لم يصح، ووجب على المعلل بيانُه، فإذا بيَّنه سقط السؤال.
وبيانه أن يقول في الحُليِّ: مال تتكرر الزكاة فيه، أو تجب الزكاة فيه بشرطي النصاب والحول. فوجب أن يكون له حالان:
حال وجوب، وحال سقوط، أصله: الماشية.
فيقول خصمه، إني أقول بموجب العلة؛ لأن لها حال سقوط، وهو إذا كان لصبي أو مجنون.
فيقول المعلل: ليس ذلك حال المال، وإنما حال المالك. فليس ذلك قولاً بموجب العلة.
وإن قال: أقول بموجب العلة فيما دون النصاب لم يصح أيضاً؛ لأن الحال يجب أن يكون في النصاب مع الحول، كما يكون للماشية، فلم يكن قولاً بموجب العلة (1) [228/أ].
__________
(1) عدَّ كثير علماء الأصول القول بالموجب من مبطلات العلة؛ لأن تسليم الخصم موجب ما ذكره المستدل من الدليل مع بقاء النزاع بينهما يفضي إلى أن ما ذكره المسؤول لا يصلح دليلاً للحكم.
ولم يرتض هذا التاج السبكى فقال في كتابه الإِبهاج (3/142): (ولقائل أن يقول: هذا التقرير [يعني التوجيه السابق لكوله مبطلاً للعلة] يخرج لفظ القول بالموجب عن إجرائه على قضيته، بل الحق أن القول بموجب الدليل تسليم له، وهذا ما اقتضاه كلام الجدليين، وإليهم المرجع في ذلك، وحينئذ لا يتجه عدُّه من مبطلات العلة).
وانظر: شرح الكوكب المنير (4/347).

(5/1464)