العدة في أصول الفقه

باب أقسام السؤال والجواب والمعارضات
السؤال(1) على أربعة أضرب (2)، يقابل كل ضرب من
__________
(1) راجع في هذا الباب: الواضح لابن عقيل (1/439) والمسوَّدة ص (551) وشرح الكوكب (4/375) والكافية في الجدل ص (69) والمنهاج في ترتيب الحجاج ص (34) والفقيه والمتفقه (2/40) فإن هناك تشابهاً كبيراً بين الكتابين في هذا المبحث، علماً أن الخطيب البغدادي تلميذ للمؤلف.
وقد سبق تعريف الجدل عند المؤلف (1/184)، وقد قال هناك: (والجدل كله سؤال وجواب).
كما سبق تعريف السؤال عنده في الموضع السابق حيث قال: (السؤال هو: الاستخبار) وبمثل تعريفه عرفه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (1/230).
وعرف ابن عقيل السؤال في كتابه الواضح (1/441) بأنه: (الطلب للإِخبار بأداته في الإفهام).
وعرفه إمام الحرمين في كتابه الكفاية ص (69) بأنه (الاستدعاء) ثم ذكر بعد ذلك ثلاثة تعريفات بصيغة قيل هي: (الطلب. وقيل: استدعاء الجواب. وقيل الاستخبار).
(2) وهو ما رآه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (2/40) وإمام الحرمين في الكفاية ص (77-78) وابن عقيل في الواضح (2/450).
لكن ابن عقيل في موضع آخر من كتابه (2/457) زاد خامساً وهو سؤال الإلزام.
وهو ما فعله ابن النجار الفتوحي في كتابه شرح الكوكب المنير (4/375) وحكاه إمام الحرمين في الكافية عن بعضهم.
وزاد الباجي في كتابه: المنهاج في ترتيب الحجاج ص (34) خامساً، هو: السؤال عن إثبات مذهب المسؤول.
ثم قال بعد ذلك: (وعلى مذهب من أجاز التقليد تكون الأسئلة ستة، فالثالث السؤال: هل له دليل في المسألة أم هل يُقلِّد فيها؟).
واستثنى جمهور أهل النظر: إذا كان السائل عالماً بمذهب المسؤول فله أن يبدأ بالسؤال عن الدليل.

(5/1465)


الجواب(1) من جهة المسؤول.
أحدهما: السؤال عن المذهب، فيقول السائل: ما تقول في كذا؟ فيقابله جواب من جهة المسؤول، فيقول: هكذا.
والثاني: السؤال عن الدليل بأن يقول: ما دليلك عليه؟ فيقول المسؤول: كذا.
والثالث: السؤال عن وجه الدليل، فيبينه المسؤول.
الرابع: السؤال (2) على سبيل الاعتراض والقدح فيه، فيجيب المسؤول عنه، ويبين بطلان اعتراضه وصحة ما ذكره من وجه دليله.
فإذا ثبت هذا، فإذا سأل سائل عن حكم مطلق، نظر المسؤول فيما سأله
__________
= انظر: الكافية ص (79).
ومنع ابن عقيل إطلاقه حيث قال في كتابه الواضح (2/465) : (قلت: وقد يجري في حكم الاجتهاد أن لا يسقط السؤال لجواز تغير يطرأ على المذهب الذي عُرف به فيزول ما عرفه، وذلك لعدم الثقة بالبقاء على المذهب، فلا غنى إذاً عن السؤال).
وزاد إمام الحرمين والمرجع السابق ص (80): أن السائل إذا كان عالماً بدليل المسؤول، فله أن يبتدىء بالطعن في دلالته.
قلتُ: ومقتضى كلام ابن عقيل أن لا يسقط هذا السؤال؛ لأنه إذا لم يسقط سؤاله عن مذهبه -مع معرفته به لجواز طريان التغير على المذهب- لم يسقط سؤاله عن الدليل؛ لأن تغير المذهب يستلزم تغير الدليل.
(1) عَرَّف المؤلف (1/184) الجواب بأنه: (الإِخبار).
وبه عرفه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (1/230).
وعرفه إمام الحرمين في كتابه الكافية ص (70) بأنه (الخبر المضمَّن بمعنى السؤال فلا جواب إلا خبر، ومن الخبر ما لا يكون إلا جواباً).
قلتُ: وتعريف إمام الحرمين أدق؛ لأنه ليس كل خبر جواباً، وإن كان كل جواب خبراً.
(2) مكررة في الأصل.

(5/1466)


عنه، فإن كان مذهبه موافقاً لما سأل عنه من غير تفصيل فيه أطلق الجواب عنه.
وإن كان عنده فيه تفصيل، كان بالخيار بين أن يفصِّله في جوابه وبين أن يقول للسائل: هذا مختلف عندي، فمنه كذا، ومنه كذا، فعن أيهما تسأل؟
فإذا ذكر أحدهما أجاب عنه، وإن أطلق الجواب كان مخطئاً (1).
مثاله: أن يُسأل حنبلي عن مس النساء هل ينقض الوضوء؟
وعنده إن كان لشهوة نقض، وإن كان لغير شهوة لم ينقض (2).
فيقول للسائل هذا التفصيل.
وإن شاء قال: منه ما ينقض ومنه ما لا ينقض. [فعن أيهما تساءل]؟
ومثل: أن يُسأل شافعي عن جلد الميتة هل يطهر بالدباغ؟
وعند المسؤول أن جلد الكلب والخنزير لا يطهر، وكذلك ما تولد منهما أو من أحدهما، ويطهر ما عدا ذلك (3).
__________
(1) من أول الباب إلى هنا منقول بنصه في كتاب الفقيه والمتفقه (2/40).
(2) هذا هو المشهور من مذهب الإِمام أحمد، رحمه الله.
وهناك رواية ثانية: أن اللمس لا ينقض الوضوء مطلقاً.
وهناك رواية ثالثة: أن اللمس ينقض الوضوء مطلقاً.
انظر: المغني (1/192).
(3)هذا مذهب الشافعية كما في المجموع (1/254).
ويستدلون بحديث: (أيما إهاب دُبغ فقد طهُر).
ولأن الحياة تدفع النجاسة عن الجلد فكذلك الدباغ.
وأما الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما فلا يطهر بالدباغ؛ لأن الدباغ كالحياة، والحياة لا تدفع النجاسة عنهما فكذلك الدباغ.
انظر: المرجع السابق.

(5/1467)


فيقول للسائل هذا التفصيل.
وإن شاء قال: منه ما يطهر بالدباغ ومنه ما لا يطهر. فعن أيهما تسأل؟
فأمَّا إذا أطلق الجواب وقال: يطهر بالدباغ كان مخطئاً (1).
وإذا صح الجواب من جهة المسؤول قال السائل: ما الدليل عليه؟ وهو السؤال الثاني.
فإذا ذكر المسؤول الدليل، فإذا كان السائل يعتقد أن ما ذكره ليس بدليل.
مثل: أن يكون قد احتج بدليل الخطاب، والسائل حنفي لا يقول بدليل الخطاب، أو بالقياس، والسائل ظاهري لا يقول بالقياس فقال للمسؤول: هذا ليس بدليل.
فإن المسؤول يقول له: هذا عندي دليل، وأنت بالخيار بين أن تُسَلِّمه وبين أن تنقل الكلام إليه [288/ب] فأَدِلُّ على صحته.
فإن قال السائل: لا أسلِّم لك ما احتججت به، ولا أنقل الكلام إلى أصل كان معنتاً ومطالباً بما لا يجب عليه؛ لأن المسؤول لا يلزم أن يثبت مذهبه إلا بما هو دليل عنده، ومن نازعه في دليله، دل على صحته وقال بنصرته.
فإذا فعل ذلك فقد قام بما يجب عليه فيه، وإن عدل إلى دليل غيره لم يكن منقطعاً؛ لأن ذلك لعجز السائل عن الاعتراض على ما احتج به وقصوره عن القدح فيه.
هذا إذا كان الدليل الذي احتج به أصلاً جلياً مشهوراً. فأما إن كان دليلاً خفياً، فنازعه السائل فيه، وامتنع من تسليمه فهو بمنزلة الجلي المشهور.
__________
(1) ذكر هذا المثال بنصه الخطيب البغدادي الشافعي في كتابه الفقيه والمتفقه (2/40).
ثم أضاف بأنه جرى لأبي يوسف مع الإمام أبي حنيفة نحو هذه المسألة ثم ذكرها بسنده إلى الفضل بن غانم، وهي مسألة طريفة فيها عِظَة لطالب العلم فارجع إليها.

(5/1468)


وقال أبو علي الطبري (1) صاحب "الإِفصاح" (2): يكون المسؤول منقطعاً، ولا يجوز أن يستدل بأصل خفي إلا بعد أن يستسلمه منه. فإن سلمه احتج به، وإن لم يسلمه دل عليه.
فأما إذا احتج به، ثم نازعه السائل ولم يسلمه له لم يكن له تبيينه، ويكون ذلك انتقالاً من جهته وانقطاعاً منه، ويخالف الأصل المشهور؛ لأن شهرته تغنيه عن استسلامه وتبيينه (3).
مثاله: أن يُسأل حنبلي عن الحج هل يسقط بالموت؟ فيقول: لا يسقط؛ لأنه حق تدخله النيابة (4)، استقر عليه حال الحياة، فلم يسقط بالموت كالدين (5).
فيقول السائل: لا أسلِّم أن النيابة تدخل الحج.
فقال له المسؤول: إما أن تسلمه، وإما أن تنقلَ الكلام إلى النيابة فأدل على جوازها، فيكون المسؤول مصيباً إلا على قول صاحب "الإِفصاح" (6)؛ لأنه لا
__________
(1) هو: الحسين -وقيل: الحسن بالتكبير- ابن القاسم، أبو علي الطبري الشافعي.
صنف في الفقه وأصوله والجدل. سكن بغداد، وبها كانت وفاته سنة (350 هـ).
له ترجمة في: تاريخ بغداد (8/87) والمنتظم (7/5) وشذرات الذهب (3/3) وطبقات الشافعية (3/280).
(2) نسب إليه في المراجع السابقة، وفي المسوَّدة ص (439).
(3) انظر رأي أبي علي الطبري في: المنهاج في ترتيب الحجاج ص (39) والمسوَّدة ص (439).
(4) خلافاً للمعتزلة.
انظر: الإحكام للآمدي (1/137)، وجمع الجوامع مع شرحه (1/191) وتخريج الفروع على الأصول ص (60).
(5) هذا مذهب الحنابلة.
انظر: المغني (3/242).
(6) في الأصل: (إيضاح) وهو خطأ.

(5/1469)


يلزمه أن يثبت مذهبه إلا بما هو دليل عنده، ومن نازعه فيما هو دليل عنده لا يلزمه أكثر من إقامة الدليل على صحته.
وإذا فعل هذا فقد قام بما وجب عليه، فهو بمنزلة المحتج بدليل جلي مشهور نازعه السائل فيه.
ولأن المسؤول لا يلزمه معرفة مذهب السائل؛ لأنه لا تضره مخالفته؛ ولا تنفعه موافقته، وإنما المعوَّل على الدليل يدل على صحة العلة وأوصافها.
فإذا كان كذلك فخالفه السائل في أوصافها لا يدل على تفريطه إذا أمكنه إقامة الدليل على صحتها ووجوب اعتبارها، فلم يجز أن يكون سبباً لانقطاعه ومنسوباً إلى التقصير لأجله.
وأما السائل إذا عارضه بما هو دليل عنده، وليس بدليل عند المسؤول، مثل: أن يعارض خبره المسند بخبر مرسل، أو خبرَ المعروف بخبر المجهول، وما أشبه ذلك.
وقال المسؤول: إما أن تسلِّم ذلك لي فيكون معارضاً لما رويته، وإما أن تنقل [229/أ] الكلام إلى مسألة المرسل والمجهول. فهذا ليس للسائل أن يقوله ويخالف المسؤول فيه؛ لأن السائل تابع للمستدل فيما يورده المسؤول ويحتج به؛ لأنه لما سأله عن دليله الذي دله على صحة مذهبه والطريق الذي أداه إلى اعتقاده لزمه أن ينظر معه فيما يورده، فإن كان فاسداً بين فساده، وإن لم [يكن] فاسداً صار إليه وسلَّمه له.
ولهذا المعنى جاز للمسؤول: أن يفرض المسألة حيث أجازه، وكان السائل تابعاً له. ولم يجز للسائل أن ينقله إلى جنبة أخرى ويفرضها فيه (1).
__________
(1) للمسؤول في الاستدلال ثلاث طرق:
1- أن يستدل على المسألة بعينها.
2- أن يفرض الاستدلال في بعض شعبها. =

(5/1470)


السؤال الثالث:
وهو السؤال عن وجه الدليل وكيفيته:
فإنه ينظر فيه فإن كان الدليل -الذي استدل به المسؤول- غامضاً يحتاج إلى بيان وجب السؤال عنه.
فإن تجاوزه إلى غيره كان مخطئاً؛ لأنه لا يجوز تسليمه (1) إلا بعد أن ينكشف وجه الدليل منه من جهة المسؤول على ما سأله عنه.
وإن كان ظاهراً جلياً (2) لم يجز هذا السؤال، وكان السائل عنه متعنتاً أو جاهلاً.
مثاله: أن يَسأل سائل عن جلد الميتة هل يطهر بالدباغ؟
فيقول: لا يطهر، لقوله:-(لا تَنْتَفِعُوا من الميتة بإهابٍ ولا عَصَب) (3) (وبجلْدٍ ولا عَصَبٍ) (4).
__________
= 3- أن يبني المسألة على غيرها.
وهذه على ضربين؛ لأنه إما أن يبني على مسألة من مسائل الأصول أو مسألة من مسائل الفروع.
أفاده الباجي في كتابه المنهاج في ترتيب الحجاج ص (37).
(1) في الأصل: (تقسيمه) وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه بالاستعانة بكتاب الفقيه والمتفقه (2/43) فإن الكلام مذكور فيه بنصه.
(2) ذكر الباجى في المنهاج ص (39) أن الظهور هنا، أي: الواضح ثلاثة أوجه: نص وظاهر، وعام.
وإن كنت أرى أن العام من باب الظاهر، وبخاصة إذا خصص.
(3) الحديث بهذا اللفظ سبق تخريجه.
وأزيد هنا: أن الشيخ الألباني خرج الحديث تخريجاً جيداً، وحكم بصحته بعد أن رد العلل التي قيلت فيه.
انظر: إرواء الغليل (1/78).
(4) هذا الحديث أخرجه الطبرانى في "الأوسط" بلفظ: (كتب رسول الله -صلى الله

(5/1471)


فيقول السائل: ما وجه الدليل فيه؟ فيكون مخطئاً لظهور ما سأله، عن بيانه ووضوحه.
وإذا قصد بيانه لم يَزِده على لفظه (1).
السؤال الرابع:
وهو السؤال على سبيل الاعتراض والقدح في الدليل.
فإن ذلك يختلف على حسب اختلاف الدليل.
[الاعتراضات على الاستدلال بالقرآن]
فإن كان دليله من القرآن كان الاعتراض عليه من ثلاثة أوجه (2):
أحدها: أن ينازعَه في كونه مُحْكماً، ويدعي أنه منسوخ.
مثاله: أن يَحتجَّ الحنبلي (3) بقوله، تعالى: (فَإِمَّا مَنّاّ بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ
__________
= عليه وسلم- ونحن في أرض جُهينة: إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فلا تنتفعوا من الميتة بجلْدٍ ولا عَصَب).
قال الزيلعي (1/121): (وفي سنده فضالة بن مفصل بن فضالة المصري، قال أبو حاتم: لم يكن بأهل أن نكتب عنه العلم).
قال الألباني في الإرواء (1/79): (فهو بهذا اللفظ ضعيف).
(1) في الأصل: (لفظ) والتصويب من كتاب الفقيه والمتفقه (2/43).
(2) عدَّها ابن عقيل في كتابه الجدل ص (24) وفي كتابه الواضح (3/927) ثمانية أوجه، هذه الثلاثة التي ذكرها المؤلف، وخمسة أخرى هي:
1- الاعتراض بأن المستدل لا يقول بما استدل به.
2- الاعتراض بالقول بموجب الآية.
3- الاعتراض بدعوى الإجمال.
4- الاعتراض بدعوى المشاركة في الدليل.
5- الاعتراض باختلاف القراءة.
وانظر: المعونة في الجدل ص (40)، والمنهاخ في ترتيب الحجاج ص (42).
(3) يعني: في تخيير الإِمام في الأسرى بين المَنّ والفداء. =

(5/1472)


الْحَربُ أَوْزَارَهَا) (1).
فيدعى المخالف (2) أنه منسوخ بقوله تعالى: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (3).
فيقول المسؤول: إذا أمكن الجمع بينهما لم يجز حمله على النسخ (4).
__________
= وهى مسألة وقع الخلاف فيها:
فالإِمام أبو حنيفة ذهب إلى أنه لا يجوز المن عليهم, كما ذهب في إحدى الروايتينِ عنه أنه لا يجوز المفاداة.
والإِمام مخير في الأسرى بين القتل والاسترقاق وتركهم أحراراً ذمة للمسلمين إلا مشركي العرب والمرتدين، فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف.
وقد أجابوا عن آية: (فَإمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً) بأنها منسوخة بمثل قوله تعالى: (اقْتُلُوا الْمُشرِكِينَ).
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الإِمام مخير فيهم بين أمور أربعة: القتل والاسترقاق والمَن والفداء.
انظر: بدائع الصنائع (9/4349) وشرح فتح القدير (5/473) والأم (4/144)، والكافي لابن قدامة (4/270).
(1) آية (4) من سورة محمد.
(2) هم الحنفية.
(3) آية (5) من سورة التوبة.
(4) ذكر المؤلف هنا وجهاً واحداً من أوجه الاعتراض بالنسخ، وهى: أن يدعي المخالف نسخ آية بآية أخرى.
الوجه الثاني: أن ينقل الناسخ صريحاً.
مثاله: أن يستدل الحنبلي في إيجاب الفدية على الحامل والمرضع إذا أفطرتا في رمضان خوفاً على الجنين أو الولد: بقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين) (البقرة آية 184).
فيقول المخالف: قد نقل عن سلمة بن الأكوع الأسلمي: أنها منسوخة بقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة آية 185).
فيجيب الحنبلي: أنها منسوخة في حق من كان له الإِفطار من غير حمل ولا رضاع،

(5/1473)


والثاني: أن ينازعه في مقتضى لفظه.
مثل أن يَحتجَّ الحنبلي على وجوب الإِِيتاء (1) من مال الكتابة بقوله تعالى: (وَآتُوهُم (2) مِّن مِّالَ اللهِ الَّذي آتَاكُمْ) (3).
فيقول المخالف (4) : إنه إيتاء من الزكاة دون مال الكتابة (5).
__________
= أما في حق الحامل والمرضع فحكمها باق.
الوجه الثالث: أن يدعى نسخها بأنها شرع من قبْلنا، وقد نسخها شرعنا.
مثاله: أن يستدل الحنبلي في إيجاب القصاص في الطرف بين الرجل والمرأة بقوله تعالى: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) (المائدة آية 45). فيقول المخالف: هذا حكم التوراة، فقد صدرت الآية بقوله: (وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيهَا) إلى قوله: (والجُرُوحَ قِصَاصٌ) فقد نسخت التوراة بالقرآن.
فيجيب الحنبلي: بأن شرع من قبْلنا شرع لنا، ويدلِّل على ذلك.
انظر: الجدل لابن عقيل ص (24) والواضح له (3/939).
(1) عند الحنابلة: يجب على السيد إيتاء المكاتب من المال قدر ربع الكتابة، وهو مخير بين وضعه عنه وبين دفعه إليه.
وكذلك عند الشافعية إلا أنهم لم يقدروه بالربع -كما هو عند الحنابلة- بل قالوا: يضع عنه شيئاً من عقد الكتابة.
انظر: الكافي لابن قدامة (2/608) والأم (8/33).
(2) في الأصل: (فآتوهم) وهو خطأ.
(3) آية (33) من سورة النور.
(4) هم الحنفية، فقد ذهبوا إلى أن الإِيتاء غير واجب.
وأجابوا عن الآية بأن المراد الإيتاء من مال الزكاة.
بدليل: أن الله أضافه إليه.
انظر: المبسوط (7/206)، أحكام القرآن للجصاص (5/181).
(5) وممن حمل الآية على الإِيتاء من مال الزكاة: الحسن وعبد الرحمن بن زيد ومقاتل انظر: تفسير ابن كثير (3/288).

(5/1474)


فيقول المسؤول: هو خطاب للسادات؛ لأنه قال: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ) فلا يصلح لإِيتاء الزكاة (1).
وقد يحتج على أن لولي المقتول أن يعفو على مالٍ بقوله تعالى: (فَمَنْ عُفيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَىْء فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) (2).
فيقول [229/ب] المخالف (3): العفو هاهنا هو البذل من القاتل، فكأنه أمر بأخذ المال إذا بذله القاتل.
فيحتاج (4) أن يبين أن المراد به عفو الولي بأن يقول: حقيقة العفو هو: الترك دون البذل (5).
__________
(1) هذا أحد أجوبة المخالفين عن الاستدلال بالآية.
وقد يجاب بأن الأمر في الآية محمول على الندب.
انظر: أحكام القرآن للجصاص (5/181)، والواضح (3/942).
(2) آية (178) من سورة البقرة.
(3) هم الحنفية.
انظر: المعونة في الجدل ص (42)، والواضح (3/431).
(4) المراد بهم الشافعية ومن قال بقولهم.
انظر: المرجعين السابقين.
(5) هذا أحد الجوابين، وخلاصته: أن العفو قد ورد في اللغة بمعنى الإِسقاط والترك أكثر من وروده بمعنى البذل.
ولأن ذلك عُرْف القرآن، وعُرْف التخاطب، قال تعالى: (عَفَا اللَّّهُ عَنْكَ لِمَ أذنْتَ لَهُمْ) (التوبة آية 43).
وقد قرن الله العفو بالغفران في كتابه فقال: (وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً)، (النساء آية 99).
والجواب الثانى: أن يبين بالدليل من سياق الآية أو غيره على أن المراد به ما ذهب إليه. =

(5/1475)


الثالث: أن يعارضه بغيره.
فيحتاج إلى أن يجيب عنه بأن يبين أنه لا يعارضه، أو يرجح دليلَه على ما عارضه به.
مثاله: أن يحتج بقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجَّ (1)) وهذا يقتضى أن يكون جميعُها مواقيتَ للناس [والحج] (2).
فيعارضه المخالف (3) بقوله تعالى: (الْحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَات) (4) والمراد به: إحرام الحج في أشهر معلومات.
أو يحتج على تحريم الجمع بمِلْك اليمين بقوله تعالى: (وَأن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ) (5).
فيعارضه بقوله تعالى: (أوْ مَامَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) (6).
أو يعارضه بالسنة. ويكون جواب المسؤول ما ذكرته (7).
__________
= وعلى هذا فإن أثبت السائل قوة الوضع الذي قال به صح قوله بالموجب، وإن قوى المسؤول قوة الوضع الذى قال به اندفع القول بالموجب.
انظر: المرجعين السابقين.
(1) آية (189) من سورة البقرة.
(2) وعليه فيجوز الإِحرام بالحج قبل أشهره. وهو قول الحنفية.
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/374).
(3) وهم الشافعية، فقد ذهبوا إلى أنه لا ينعقد الإِحرام بالحج إلا في أشهره، فإن أحرم في غيرها انعقد عمرة، استدلالاً بقوله تعالى: (الْحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَات).
انظر: المجموع للنووي (7/118).
(4) آية (23) من سورة البقرة.
(5) آية (23) من سورة النساء.
(6) آية (30) من سورة المعارج.
وانظر في تفسير هاتين الآيتين: أحكام القرآن للجصاص (2/74).
(7) يعنى: أن يين أنه لا معارضة بين الدليلين، أو يرجح دليله على ما عارضه به السائل.

(5/1476)


[الاعتراضات على الاستدلال بالسنّة]
وإن كان دليله من السنة فالاعتراض عليه من خمسة أوجه:
أحدها: أن يطالبه بإسناده (1).
والثاني: القَدْح في إسناده.
والثالث: الاعتراض على متنه.
والرابع: أن يدعى نسخه.
والخامس: أن يعارضه.
فأما المطالبة بإسناده: فهي [صواب] (2)؛ لأنه لا حجة فيه إذا لم يثبت إسناده.
وقد جرت عادة المتأخرين من أهل العلم ترك المطالبة بالإِسناد، وهذا لا بأس به في الألفاظ المشهورة المتداولة بين الفقهاء.
فأما الغريب الشاذ فإنه يجب المطالبة بإسناده.
وذلك مثل ما احتج به أصحاب أبي حنيفة فقالوا: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا ربا بين المسلمين وبين أهل الحرب في دار الحرب) (3).
__________
(1) ذكر ابن عقيل في كتابه الجدل ص (26) وفي كتابه الواضح (3/944) والشيرازي في كتابه المعونة ص (48) وجهاً قبل هذا، وهو: الرد.
ومثلوا له برِّد الرافضة أخبار الآحاد، وردِّ الحنفية أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى أو خالف قياس الأصول، أو ردِّ المالكية لأخبار الآحاد في القسم الأخير، وذكروا طريق الجواب عما تمسكوا به من شُبَه.
(2) بياض في الأصل، وقد صوبه الناسخ في الهامش بما أثبتناه.
(3) هذا الحديث رواه مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم.
قال فيه الزيلعى: غريب. =

(5/1477)


وقال: (المختلعة يلحقها الطلاق ما دامت في العدة) (1).
__________
= وقال فيه الشافعي: ليس بثابت، ولا حجة فيه.
وقال ابن قدامة: مرسل لا نعرف صحته.
انظر: نصب الراية (4/44) والمغني لابن قدامة (4/39).
وانظر: كلام الحنفية في المسألة في: حاشية ابن عابدين (5/186).
(1) هذا الحديث رأيت إليه إشارة في سنن البيهقي في كتاب الخلع والطلاق، باب المختلعة لا يلحقها الطلاق (7/317) فقد ذكر أثراً عن ابن عباس وابن الزبير -رضي الله عنهما- أنهما قالا في المختلعة يطلقها زوجها قالا: لا يلزمها طلاق؛ لأنه طلق ما لا يملك.
ثم ساق بسنده إلى الربيع قال: قال الشافعي: فسألته يعني من يخالفه في هذه المسألة هل يروي في قوله خبراً؟ قال فذكر حديثاً لا تقوم بمثله حجة عندنا، ولا عنده، فقلت: هذا عندنا وعندك غير ثابت.
ثم قال بعد ذلك: (أما الخبر الذى ذكر له فلم يقع لنا إسناده بعد لننظر فيه، وقد طلبته من كتب كثيرة صنفت في الحديث فلم أجده، ولعله أراد ما روِىَ عن فرج ابن فَضَالَة بإسناده عن أبي الدرداء من قوله، وفرج بن فَضَالة ضعيف في الحديث، أو ما روي عن رجل مجهول عن الضحاك بن مزاحم عن ابن مسعود من قوله، وهو منقطع ضعيف).
قلت: وما يشير إليه البيهقي من حديث فضالة بسنده إلى أبي الدرداء أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الطلاق، باب: من قال: يلحقها الطلاق، يعنى المختلعة (5/117) بلفظ: (للمختلعة طلاق مادامت في العدة).
وما يشير إليه من حديث الضحاك بن مزاحم أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في الكتاب والباب المذكورين، ولفظه: (قال: اختلف ابن مسعود وابن عباس في الرجل يخلع امرأته ثم يطلقها، قال أحدهما: ليس طلاقه بشىء. وقال الآخر: ما دامت في العدة فإن الطلاق يلحقها).
وقد ذكر ابن أبي شيبة في مصنفه في الموضع السابق بسنده إلى يحيى بن أبي كثير قال: (كان عمران بن حصين وابن مسعود يقولان في التي تفتدي من زوجها: =

(5/1478)


وقال: (لا قصاص إلا بالسيف) (1). وما أشبه ذلك.
__________
= لها طلاق ما كانت في عدتها).
قال ابن التركماني في الجوهر النقي (7/317) بعد أن ذكر الأثر السابق: (ورجال هذا السند على شرط الجماعة).
وقال ابن قدامة في المغني (7/59) في رده على من قال بموجب الحديث الذى ذكره المؤلف: (وحديثهم لا نعرف له أصلاً، ولا ذكره أصحاب السنن).
(1) هذا الحديث روى من حديث أبي بكرة والنعمان بن بشير وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وعلي بن أبي طالب والحسن البصري مرسلاً.
أما حديث أبي بكرة فأخرجه ابن ماجه في كتاب الديات، باب: لا قود إلا بالسيف (2/889) حديث (2667).
ونقل الشيخ الألباني في كتابه: إرواء الغليل (7/286) عن البزار أنه أخرجه في مسنده من طريق الحر بن مالك العنبري ثنا مبارك بن فضالة به. قال البزار: (لا نعلم أحداً أسنده بأحسن من هذا الإِسناد، ولا نعلم أحداً قال: عن أبي بكرة إلا الحر ابن مالك، وكان لا بأس به، وأحسبه أخطأ في هذا الحديث؛ لأن الناس يروونه عن الحسن مرسلاً).
ثم قال الألباني بعد ذلك: (وقد تابعه في وصله الوليد بن محمد بن صالح الأيلي عن مبارك بن فضالة).
ثم ذكر أن ابن عدي والدارقطني والبيهقي والضياء المقدسي أخرجوه بذلك.
وأعلَّه ابن عدي بالوليد هذا؛ حيث قال فيه: (أحاديثه غير محفوظة).
وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/461): (قال أبي: هذا حديث منكر).
وقال عن الوليد هذا: (سألت أبي عنه فقال: مجهول) على ما في كتاب الجرح والتعديل (4/2/16)
وأعلَّه البيهقي بمبارك بن فضالة عندما أخرج الحديث في سننه في كتاب الجنايات، باب: ما روي في أن لا قود إلا بحديدة (8/63).
أما حديث النعمان بن بشير فقد أخرجه ابن ماجه في الموضع السابق (2667).
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار في كتاب الجنايات، باب: الرجل يقتل

(5/1479)


..................................
__________
= رجلاً كيف يقتل؟ (3/184).
وأخرجه البزار كما في كشف الأستار في كتاب الجنايات، باب: القود بالسيف ولكل شىء خطأ (2/205).
وأخرجه الطيالسي في مسنده، كما في منحة المعبود أبواب القصاص (1/293) بلفظ (لا قود إلا بحديدة).
قال الشيخ الألباني: (وهذا إسناد واهٍ جداً، أبو عازب لا يُعْرف، كما قال الذهبي وغيره. وجابر الجعفي متهم بالكذب).
أما حديث عبد الله بن مسعود فقد أخرجه الدارقطني في كتاب الحدود والديات (3/88) وفي سنده: سليمان بن أرقم، قال فيه الدارقطني: (متروك).
وأخرجه ابن أبي عاصم والطبراني في معجمه الكبير وابن عدي كما ذكر ذلك الشيخ الألباني.
أما حديث أبي هريرة فقد أخرجه الدارقطني في الموضع السابق.
وأخرجه البيهقي في الموضع السابق أيضاً.
كما أخرجه ابن عدي وابن أبي عاصم وأبو عروبة الحرَّاني، ذكر ذلك الشيخ الألباني.
وفي سنده: سليمان بن أرقم، وهو متروك كما سبق في الطريق التي قبل هذا.
أما حديث علي فقد أخرجه الدارقطني في الموضع السابق وقال: (معلَّى بن هلال -أحد رواة الحديث- متروك).
أما حديث الحسن البصري المرسل فقد أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الديات باب: من قال: لا قود إلا بالسيف (9/354).
وأخرجه ابن حزم في المحلَّي في كتاب الدماء (12/57) ثم قال: (هذا مرسل، ولا يحل الأخذُ بمرسل).
كما أخرجه الإِمام أحمد في مسنده، حكى ذلك الزيلعي في نصب الراية (4/341).
قال الشيخ الألباني: (وهذا إسناد صحيح إلى الحسن، ولكنه مرسل، فهو علة هذا الإِسناد، والطرق التي قبلها واهية جداً، ليس فيها ما يمكن تقوية المرسل به).
والخلاصة:
أن هذا الحديث ضعيف بكل طرقه. =

(5/1480)


[الاعتراض على الإِسناد]
الاعتراض الثاني هو القَدْح في الإِسناد فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: رجوع الراوي عنه.
والثاني: عدم عدالته.
والثالث: كونه مجهولاً.
فأما رجوع الراوي عنه فمثل حديث الحسن بن عُمَارة (1)
__________
= ولهذا قال عبد الحق وابن الجوزي -كما في التلخيص (4/19) -(طرقه كلها ضعيفة)
وقال البيهقي: (لم يثبت له إسناد).
وأحسن ما فيه: المرسل، كما قال الشيخ الألباني.
(1) هو: الحسن بن عمارة بن المضرب البَجَلي بالولاء الكوفي أبو محمد. كان قاضياً ببغداد في خلافة المنصور.
روى عن الزهري والأعمش وإسحاق السبيعى وغيرهم. وعنه السفيانان وعبد الرزاق وغيرهم.
قال فيه أحمد وأبو حاتم ومسلم والنسائي والدارقطني والساجي وشعبة والذهبي وابن حجر: (متروك).
وقال عمرو بن على: (رجل صالح صدوق، كثير الوهم والخطأ، متروك الحديث).
مات سنة (153هـ).
وقد رأيت الرامَهُرْمُزي يدافع عنه، ويقول: (إن كلام شعبة فيه كان بسبب لَبْس وقع عنده، وبَين كيف وقع اللَّبس).
وفي أول الجزء الثالث من نصب الراية ص (22) كتبت إدارة المجلس العلمي المُشرِفة على نشر كتاب نصب الراية كتابةً بين فيها منشأ القول بتضعيف الحسن ابن عمارة، وكان مستندهم في ذلك ما ذكره الرامهرمزي في كتابه المحدث الفاصل.
له ترجمة في: تهذيب التهذيب (2/304) وتقريب التهذيب (1/169) والمغنى في =

(5/1481)


روى حديث نُبَيْشَة (1) (حُجَّ عن نُبَيْشَة، ثم حُج عن نفسِك) (2).
ثم رجع إلى الصواب، وهو حديث شُبْرُمَة: (حُجَّ عن نفسك، ثم حُج عن شُبْرُمَة) (3).
__________
= الضعفاء (1/244) وميزان الاعتدال (1/513) والمحدث الفاصل ص (319) وما بعدها.
(1) هو: نُبَيشَة بن عمرو بن عوف بن عبد الله. وقيل: نبيشة الخير بن عبد الله بن عتاب بن الحارث الهذلي. صحابي. روى عنه أبو المليح الهذلي وغيره. له في مسلم حديث واحد.
له ترجمة في: الاستيعاب (4/1524) و(2652) وتهذيب التهذيب (10/417).
(2) حديث الحسن بن عمارة هذا أخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الحج (2/268).
وقال فيه: (تفرد به الحسن بن عُمَارة، وهو متروك الحديث، والمحفوظ عن ابن عباس حديثُ شُبْرُمَة).
ثم روى حديث شُبْرُمَة من طريق الحسن بن عمارة عن عبد الملك عن طاووس عن ابن عباس - رضي الله عنه - وسيأتي تخريجه ثم قال:
(هذا هو الصحيح عن ابن عباس، والذي قبله وَهْم، يقال: إن الحسن بن عُمَارة كان يرويه، ثم رجع عنه إلى الصواب، فحدث به على الصواب موافقاً لرواية غيره عن ابن عباس، وهو متروك الحديث على كل حال).
(3) ما ذكره المؤلف هو معنى ما ذكره الدارقطني فيما سبق.
وحديث شُبْرُمَة أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الحج، باب: الرجل يحج مع غيره (2/403) حديث (1811).
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الحج، باب: الحج عن الميت (2/969) حديث (2903).
وأخرجه البيهقي في كتاب الحج، باب: من ليس له أن يحج عن غيره (4/336).
وقال: (هذا إسناد صحيح، ليس في هذا الباب أصح منه).
وأخرجه ابن حبان في صحيحه. =

(5/1482)


والثاني: عدم عدالته مثل: بَركة بن محمد الحَلَبي (1)، روى عن يوسف ابن أَسباط (2) عن سفيان الثوري عن خالد الحذَّاء عن ابن سيرين (3) عن أبي
هريرة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثاً فريضة،
__________
= انظر: الإِحسان في ترتيب صحيح ابن حبان كتاب الحج، باب: الحج والاعتمار عن الغير (6/120).
وأخرجه ابن الجارود في المنتقي حديث (499).
وأخرجه ابن خزيمة في كتاب الحج، باب: النهي عن أن يحج عن الميت من لم يحج عن نفسه (4/345) حديث (3039).
والحديث صحيح كما قال البيهقي سابقاً، وابن الملِّقن في كتابه: تحفة المحتاج (2/135) حديث (1056) والألباني في الإِرواء (4/171) حديث (994).
وانظر في تخريج الحديث أيضاً: التلخيص الحبير (2/223) ونصب الراية (3/154).
(1) أبو سعيد. روى عن يوسف بن أسباط -كما هنا- والوليد بن مسلم. قال الدارقطني: (كان كذاباً يضع الحديث). وقال ابن عدي: (له أحاديث بواطيل عن الثقات) وقال ابن حبان: (حدثونا عنه، كان يسرق الحديث، وربما قلبَه). وقال الذهبي: (متهم بالكذب) وقال: (معروف بالكذب).
انظر: الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (1/137) والمغني في الضعفاء (1/161) وميزان الاعتدال (1/330).
(2) أبو محمد الشيباني الزاهد الواعظ. روى عن محلّ بن خليفة وسفيان الثوري. وعنه المسيب بن واضح وعبد الله بن حبيق. وثَّقه ابن معين. وقال أبو حاتم: (لا يحتج به، يغلط كثيراً). وقال أبو الفتح الأزدى: (ويوسف دفن كتبه، ثم حدث من حفظه، فلا يجيء حديثه كما ينبغي) وقريب من هذا قول البخاري فيه.
انظر: الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (3/219) والمغنى في الضعفاء (2/436)، والموضوعات لابن الجوزي (2/82) وميزان الاعتدال (4/462).
(3) في الأصل: (ابن شبرمة) وهو خطأ، والتصويب من مراجع التخريج الآتية.

(5/1483)


مسنونتان في الوضوء) (1).
__________
(1) هذا الحديث أخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الطهارة، باب: ما روي في المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة (1/115) وأسقط من سنده ابن سيرين ولم يذكر فيه: (مسنونتان في الوضوء).
ثم قال بعد ذلك: هذا باطل، ولم يحدث به إلا بَرَكة، وبركة هذا يضع الحديث.
والصواب: حديث وكيع الذي كتبناه قبل هذا مرسلاً عن ابن سيرين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنَّ الاستنشاق في الجنابة ثلاثاً، وتابع وكيعاً: عبيدُ الله ابن موسى وغيره).
وأخرجه ابن الجوزي في كتابه: الموضوعات (2/81) من طريقين: إحداهما: التي ذكرها المؤلف، بمثل لفظ المؤلف إلا أنه لم يذكر قوله: (مسنونتان في الوضوء).
الثانية: (.... حدثنا سليمان بن الربيع النَّهدي حدثنا همام بن مسلم عن الثور عن خالد الحذَّاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المضمضة والاستنشاق ثلاثاً فريضة للجنب).
ثم قال: (هذا حديث موضوع لاشك فيه.
أما الطريق الأول: ففيه بَركة بن محمد، وكان كذاباً...
أما الطريق الثاني: ففيه همَّام بن مسلم، ولعله سرقه من يوسف. وقال ابن حبان: كان يروي عن الثقات ما ليس من حديثهم، ويسرق الحديث، فبطل الاحتجاج به.
وفيه: سليمان بن الربيع، قال الدارقطني: ضعيف، غيَّر أسماء مشايخ وروى عنهم مناكير).
ثم قال أيضاً: (ثم هذا الحديث على خلاف إجماع الفقهاء، فإن منهم من يوجب المضمضة والاستنشاق.
ومنهم من يوجب الاستنشاق وحده.
ومنهم من يراهما سنة.
ومنهم من أوجب مرة لا ثلاثاً).
والخلاصة أن الحديث غير ثابت.
والثابت هو مرسل ابن سيرين، ولفظه عند الدارقطني -كما سبق-: (أن النبي =

(5/1484)


قال أصحاب الحديث: بَرَكة الحَلَبي كذاب يضع الحديث (1).
الثالث: كونه مجهولاً: وهو مثل حديث ابن مسعود [230/أ] في الوضوء بالنبيذ، يرويه أبو زيد عن أبي فزارة، و"أبو زيد" مجهول و"أبو فزارة" ضعيف (2).
فإن سألنا المخالف عن هذا السؤال لزمنا أن نجيبَ عنه بما يتبين أنه معروف، وهو أن نبين أنه روى عنه رجلان عدلان، فيخرج بذلك عن حد الجهالة على شرط أصحاب الحديث (3).
ومثال ذلك: ما روى خالد بن أبي الصَّلْت (4) عن عِرَاك
__________
= - صلى الله عليه وسلم - سنَّ الاستنشاق في الجنابة ثلاثاً).
انظر: نصب الراية (1/78) وميزان الاعتدال (1/330) في ترجمة بَرَكة الحلبي.
(1) انظر ترجمته التي ذكرناها آنفاً.
(2) سبق تخريج هذا الحديث مع بيان ما في "أبي زيد" "وأبى فزارة" من مقال (1/341).
(3) هذا قول بعض الفقهاء.
وعند كثير من العلماء: يكفي واحد.
واشترط بعضهم في المزكي الواحد: أن يكون بصفة من يجب قبول تزكيته.
والذى استحبه الحافظ البغدادي: أن يكون من يزكي المحدث اثنين للاحتياط.
انظر: الكفاية في علوم الرواية للخطيب البغدادي ص (160).
(4) البصري. مدني الأصل. كان عاملاً لعمر بن عبد العزيز على واسط. روى عن عمر بن عبد العزيز وابن سيرين وعبد الملك بن عمير وغيرهم. وعنه خالد الحذَّاء والمبارك بن فضالة وسفيان بن حسين وواصل مولى أبي عيينة.
قال عبد الحق: ضعيف.
وقال ابن حزم: مجهول. وتُعُقِّب في ذلك: بأنه مشهور بالرواية، معروف بحمل العلم، ولكن حديثه معلول.
وذكره ابن حبان في الثقات (6/252).
وقال الذهبي في الميزان (1/632): (ما علمتُ أحداً تعرض إلى لِينه، لكن الخبر =

(5/1485)


ابن مالك (1) عن عائشة أنها قالت: (بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ناساً يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم، فقال: أو قد فَعَلُوها؟ حولُوا مقْعَدي إلى القبلة) (2).
__________
= منكر).
وقال ابن حجر في التقريب (1/214) : (مقبول من السادسة).
وانظر أيضاً: تهذيب التهذيب (3/97).
(1) الغفاري الكناني المدني. روى عن أبي هريرة وابن عمر وعائشة وغيرهم. وعنه سليمان بن يسار ويحيى بن سعيد الأنصاري ومكحول الشامي وغيرهم.
ثقة فاضل من الثالثة. مات في خلافة يزيد بن عبد الملك بعد المائة.
انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب (7/172) والتقريب (2/17) وميزان الاعتدال (3/63).
(2) أخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب الطهارة، باب: الرخصة في ذلك في الكَنِيف (1/17) حديث رقم (324)، ولفظه قريب من لفظ المؤلف.
وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الطهارة، باب: استقبال القبلة في الخلاء (1/59).
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/184).
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الطهارة، باب: من رخص في استقبال القبلة بالخلاء (1/151).
وأخرجه ابن المنذر في كتابه الأوسط في كتاب الطهارة، باب: ذكر النهي عن استقبال القبلة واستدبارها بالغائط والبول (1/326) رقم (261).
قال النووي في المجموع (2/82): (إسناده حسن، لكن أشار البخاري في تاريخه في ترجمة خالد بن أبي الصلت إلى أن فيه علة).
لكن قال الإِمام أحمد: (عِراك لم يسمع من عائشة، وكأنه لم يعتبر الروايات التي صرح فيها عِراك بالسماع).
ومثل قوله قال موسى بن هارون.
ونقل ابن رجب في كتابه شرح علل الترمذي (1/312) عن الإمام أحمد قوله: =

(5/1486)


فقال المخالف: "خالد بن أبي الصَّلْت" مجهول (1).
وحكى أبو بكر بن المنذر (2) في كتابه (3) هذا عن أبي ثور (4).
__________
= (وهو أحسن ما روى في الرخصة وإن كان مرسلاً، فإن مخرجه حسن).
ويعني بإرساله: إن عِراكاً لم يسمع من عائشة.
وقال: إنما يروي عن عروة عن عائشة.
فلعله حسَّنه، لأن عراكاً قد عرف أنه يروي حديث عائشة عن عروة عنها).
وقال الترمذي في العلل الكبير ورقة (3/أ) كما في تعليق محقق شرح علل الترمذي (1/313): (سألت محمداً -يعني البخاري- عن هذا الحديث فقال: (هذا حديث فيه اضطراب، والصحيح عن عائشة قولها).
وقال ابن أبي حاتم في كتابه العلل (1/29) : (قال أبي: فلم أزل أقفو أثر هذا الحديث حتى كتبتُ بمصر عن إسحاق بن بكر بن مضر أو غيره عن بكر بن مضر عن جعفر بن ربيعة عن عِراك بن مالك عن عروة عن عائشة موقوف، وهذا أشبه).
وقال الذهبي في الميزان (1/632): (حديث منكر).
وانظر: تهذيب التهذيب (3/98) في ترجمة خالد بن أبي الصلت.
(1) سبق الكلام على هذا في ترجمته قريباً، ومنه تبين أن خالداً هذا غير مجهول، خلافاً لابن حزم، رحمه الله.
(2) هو: محمد بن إبراهيم بن المنذر، أبو بكر النيسابوري الحافظ، الفقيه. ولد سنة (242 هـ) تقريباً.
روى عن الربيع بن سليمان ومحمد بن عبد الله بن الحكم وخلق كثير. وعنه ابن المقرىء ومحمد بن يحيى وغيرهما. له كتاب الإشراف في اختلاف العلماء وكتاب الإجماع، وكتاب المبسوط. توفي سنة (318 هـ) تقريباً.
له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (3/782) وسير أعلام النبلاء (14/490) وميزان الاعتدال (3/450).
(3) هو كتاب: الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف، والمسألة مذكورة فيه (1/327).
(4) حيث قال في المرجع السابق: (ودفع أبو ثور حديث عائشة بأن قال: خالد بن =

(5/1487)


وأجاب عنه فقال: هذا ليس بصحيح؛ لأن أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - قال: "مخرج هذا الحديث حسن" (1).
وفال غيره (2) : [خالد معروف] (3) روى [عنه(3)] خالد الحذَّاء ومبارك بن فَضَالة (4) وواصل مولى أبي (5) عيينة (6)، وهؤلاء ثقات، فوجب أن يكون خالد ابن أبي الصَّلْت معروفاً.
__________
= أبي الصلت ليس بمعروف).
(1) هذه العبارة لم أجدها في المرجع المذكور.
وإنما ذكر قول أحمد: (أما من ذهب إلى حديث عائشة، فإن مخرجه حسن).
قلت: مراد الإمام أحمد: ما روي مرسلاً؛ لأنه لا يرى أن عراكاً سمع من عائشة.
وقد سبق تفصيل هذا في تخريج الحديث.
وانظر: التمهيد لابن عبد البر (1/309).
(2) يعني: غير الإِمام أحمد، كما صرح به في كتابه الأوسط الموضع السابق.
(3) الزيادة في الموضعين من المرجع السابق الذي نقل منه المؤلف.
(4) هو: مبارك بن فضالة بن أبي أمية أبو فضالة البصرى. روى عن الحسن البصري وحُمَيْد الطويل وغيرهما. وعنه وكيع وعفان وخلق. وثَّقه عفان وجماعة. وضعَّفه النسائي وجماعة.
قال الحافظ: (صدوق، يدلس ويسوِّي، من السادسة).
لكنه إذا صرح بالتحديث فهو ثقة، كما يقول أبو داود وأبو زرعة.
مات سنة (166 هـ).
له ترجمة في: تقريب التهذيب (2/227) وتهذيب التهذيب (10/28) وسير أعلام النبلاء (7/281) وميزان الاعتدال (3/431).
(5) في الأصل: (ابن عيينة) وهو خطأ، والتصويب من مراجع الترجمة الآتية.
(6) هو واصل بن عيينة بن المهلَّب الأزدي البصري. روى عن يحيى بن عقيل وأبي الزبير المكي وغيرهما. وعنه حماد بن زيد وشعبة وغيرهما.
وثقه أحمد وابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات. =

(5/1488)


وكذلك حديث ابن أبي عَّياش(1) عن سعد (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيع الرطب بالتمر: (أينقصُ الرطبُ إذا يَبِس؟) (3).
فقال المخالف: "زيد أبو عياش(4)" مجهول (5).
فيجيب عنه بأن الثقات رووا عنه (6).
__________
= وقال الحافظ: (صدوق عابد، من السادسة).
له ترجمة في: تقريب التهذيب (2/329) تهذيب التهذيب (11/105) والثقات لابن حبان (7/558).
(1) غير معجم في الأصل.
وهو: زيد بن عياش أبو عياش الزُّرقي. روى عن سعد بن أبي: وقاص. وعنه عمران ابن أبي أنس وعبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان. روى له الأربعة حديثاً واحداً، هو الذي ذكره المؤلف.
وثقه الدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات. وصحح الترمذي: وابن خزيمة وابن حبان حديثه المذكور.
وقال الحافظ: (صدوق من الثالثة).
وقال الإمام أبو حنيفة وابن حزم: مجهول.
قال الخطَّابي -كما نقل ذلك عنه الزركشي في كتابه المعتبر ص (214)-:
(تكلم بعضهم في إسناده يعني حديث: "أينقص الرطبُ إذا يبس؟" من جهة أبي عياش، وليس الأمر على ما توهمه، وأبو عياش مولى بني زهرة: معروف. وقد ذكره مالك في الموطأ، وهو لا يروى عن متروك).
له ترجمة في: تقريب التهذيب (1/276) وتهذيب التهذيب (3/423) والثقات لابن حبان (3/138) وميزان الاعتدال (2/105).
(2) هو سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: قد سبقت ترجمته.
(3) سبق تخريج الحديث.
(4) بدون إعجام في الأصل.
(5) وبه قال الإِمام أبو حنيفة وابن حزم، كما سبق في ترجمته.
(6) فقد روى عنه: عمران بن أبي أنس القرشي العامري المدني. قال الحافظ فيه: (ثقة =

(5/1489)


فأما الإِرسال فلا يعترض به على الحديث؛ لأنا قد بينا أن المذهب الصحيح جواز الاحتجاج به، فإذا اعترض به المخالف علينا لم نقبله.
وكذلك لا يصح أن يُعترض عليه به.
[الاعتراض على المتن]
الاعتراض الثالث، وهو الاعتراض على متنه: فمن ثمانية أوجه:
أحدها: أن ينازعه في مقتضى لفظه وموجبه، ويدَّعي أنه لا يتناول موضع الخلاف.
مثاله: أن يَحتج حنبلي على أن العُشْر لا يجب في الخضروات (1) بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس في الخضروات زكاة) (2).
فقال المخالف: لا يسمى العُشْر زكاة عندنا، فلا يتناوله الخبر.
فيجاب عنه: بأن هذا خطأ، لما روى عتََّاب بن أُسَيْد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (يُخْرَصُ الكَرْمُ كما يُخرَصُ النَّخْل، ثم يؤدى زكاته زبيباً، كما يؤدى زكاة النخل تمراً) (3).
__________
= من الخامسة).
انظر تقريب التهذيب (2/82) وميزان الاعتدال (3/234).
كما روى عنه عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان. قال الحافظ: (من شيوخ مالك، ثقة من السادسة).
انظر: تقريب التهذيب (1/462).
(1) انظر: المغني (4/158) طبعة هجر.
(2) سبق تخريجه.
(3) حديث عتاب بن أسيد -رضى الله عنه- هذا أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب: في خرص العنب (1/371) عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد.
ثم قال أبو داود: (وسعيد لم يسمع من عتَّاب شيئاً). =

(5/1490)


..................................
__________
= وما أخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب: ما جاء في الخرص (3/27)، وقال: (هذا حديث حسن غريب).
ثم قال: (وقد روى ابن جريج هذا الحديث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة وسألت محمداً عن هذا الحديث، فقال: حديث ابن جريج غير محفوظ, وحديث ابن المسيب عن عتاب بن أسيد أثبت وأصح).
وأخرجه النسائي في كتاب الزكاة، باب: شراء الصدقة (5/82).
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب: خرص النخل والعنب (1/582)، ولفظه: (كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم).
وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الزكاة، باب في قدر الصدقة فيما أخرجته الأرض (2/132) وأخرجه البيهقي في كتاب الزكاة، باب: كيف تؤخذ زكاة النخل والعنب (4/122)؟
قال المنذري: (انقطاعه ظاهر؛ لأن مولد سعيد في خلافة عمر، ومات عتّاب يوم مات أبو بكر).
نقل هذا الحافظ في التلخيص (2/171) ثم قال: (وسبقه إلى ذلك ابن عبد البر. وقال ابن السكن: لم يُرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجه غير هذا).
كما نقل الحافظ عن أبي حاتم قوله: (الصحيح عن سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عتاباً: مرسل).
قال النووي في المجموع (5/407): (هو مرسل).
ثم قال بعد ذلك: وقد سبق في الفصول السابقة في مقدمة هذا الشرح: أن من أصحابنا من قال: يحتج بمراسيل ابن مسيب مطلقاً، والأصح: أنه إنما يحتج به إذا اعتضد بأحد أربعة أمور: أن يسند، أو يرسل من جهة أخرى، أو يقول به بعض الصحابة، أو أكثر العلماء، وقد وجد ذلك هنا، فقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على وجوب الزكاة في التمر والزبيب).
والخلاصة: أن الحديث مرسل. =

(5/1491)


وهذا يدل على أن العُشر ليس يسمى زكاة (1).
الثاني: أن يكون المتن جواباً عن سؤال والجواب مستقل بنفسه، فيدَّعي المخالف قَصْرَه على السؤال.
ويمكن الجواب عن ذلك: بأن الاعتبار بجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - دون سؤال السائل وقد مضى بيانه في موضعه (2).
مثاله: أن يحتج حنبلي على وجوب الترتيب في الوضوء (3) بقوله -عليه السلام-: (ابدأوا بما بدأ الله به) (4)
__________
= وانظر: إرواء الغليل (3/283) ونيل الأوطار (4/162) والمصنف لعبد الرزاق (4/127).
ويلاحظ أنه قد سمَّى في هذا الحديث العنب كرماً، وقد ورد النهي عن ذلك كما رواه البخاري ومسلم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لاتسموا العنب الكَرْم، فإن الكَرْم المسلم).
وفي رواية: (فإن الكَرْم قلب المؤمن).
وعند مسلم من حديث وائل: (لا تقولوا الكَرْم، ولكن قولوا: العنب والحبلة). أجيب من ذلك بأن النهي محمول على التنزيه.
أو أن تسميتها بالكرم هنا من كلام الرواي فلعله لم يبلغه النهي، أو خاطب به من لا يعرفه بغيره، أو بياناً للجواز.
أفاده النووي في كتابه المجموع (5/408).
(1) هكذا في الأصل بإثبات "ليس" ويظهر أن حرف "ليس" هنا زائدة؛ لأن غرض المؤلف إثبات أن العشر يسمى زكاة.
(2) وذلك في مباحث العموم (2/596).
(3) انظر: المغني (1/136).
(4) هذا الحديث رواه جابر - رضي الله عنه - في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكره المؤلف بصيغة الأمر: (ابدأوا). =

(5/1492)


..................................
__________
= وبهذا اللفظ أخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الحج، باب: المواقيت (2/254) بعدة طرق.
وأخرجه ابن حزم في كتابه المحلَّى في كتاب الطهارة (2/92) مسألة (206).
وقال في (2/67) مسألة (197): (وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ابدأوا بما بدأ الله به).
وأخرجه النَّسائي في كتاب المناسك، باب: القول بعد ركعتي الطواف (5/236).
طبعة الشيخ أبي غدة.
وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الطهارة باب: الترتيب في الوضوء (1/85).
وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده (3/394).
وقال النووي في شرح صحيح مسلم (8/177): (وقد ثبت في رواية النَّسائي هذا الحديث بإسناد صحيح).
وقال ابن الملقن في كتابه تحفة المحتاج (2/174) حديث (1115). (روى النَّسائي بإسناد على شرط الصحيح، لا جَرَم صححه ابن حزم في محلاه).
وبهذا يتبين سهو الشيخ الألباني في الإِرواء (4/317) حيث نفى أن تكون رواية هذا اللفظ في السنن الصغرى للنَّسائي.
وقد نبه إلى ذلك محقق كتاب تحفة المحتاج.
وراجع في هذا أيضاً نصب الراية (3/54) والتلخيص (2/250) حديث (1034). والإرواء (4/316).
وهناك لفظان آخران، هما: (أَبْدَأُ) و(نَبْدأُ).
فقد أخرجه مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - في كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (2/888) الحديث (1218).
وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب المناسك، باب في سنة الحج (1/376).
وأخرجه ابن الجارود في باب المناسك ص (166) حديث (469).
وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه في كتاب المناسك، باب: الخروج إلى الصفا بعد استلام الركن (4/230) حديث رقم (2757). =

(5/1493)


فيقول المخالف: إنه خارج عن البداءة بالصفا (1).
__________
= أما لفظ (نَبْدَأ):
فقد أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب: صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (2/459) حديث رقم (1905).
وأخرجه الترمذي في كتاب الحج، باب: ما جاء أنه يبدأ بالصفا قبل المروة (3/207) وقال: (حديث حسن صحيح) حديث رقم (862).
وأخرجه النَّسائي في سننه الموضع السابق (5/235) حديث رقم (2961).
وأخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب المناسك، باب: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (2/1022). حديث ((3074).
وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الطهارة باب الترتيب في الوضوء (1/85).
وأخرجه ابن الجارود في المنتقى باب المناسك ص (163) حديث (465).
وأخرجه ابن حبان في صحيحه.
انظر: الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان في كتاب الحج، باب: ذكر وصف حجة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (6/99) حديث (3932).
وعليه فقد ثبت للحديث ثلاثة ألفاظ (ابْدَؤُأ) و(أبْدَأُ) و(نَبْدَأُ) فأي هذه الألفاظ هو الراجح؟
يرى الحافظ في التلخيص (2/250) أن رواية (نبدأ) بالنون هي الراجحة.
لأنه قد اجتمع على روايتها: مالك وسفيان ويحيى بن سعيد القطان، وهم أحفظ من الباقين.
وهو ما رجحه الشيخ الألباني في الإِرواء (4/318) وحكم على رواية (ابدَأوا) بصيغة الأمر أنها شاذة لتفرد الثوري وسليمان به، مخالفين فيه سائر الثقات الذين سبق ذكرهم، وقد قالوا: (نَبْدَأُ) فهو الصواب، ولا يمكن القول بتصحيح اللفظ الآخر؛ لأن الحديث واحد، وتكلم به - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة عند صعوده على الصفا، فلا بدّ من الترجيح، وهو ما ذكرنا).
(1) وذلك لأن العبرة بخصوص السبب عند هؤلاء.
ولأن العموم يخص بالقرائن، نصّ عليه بعض الأصوليين. =

(5/1494)


فيقول المسؤول: إنه عام في جميع ما بدأ الله به (1).
الثالث: أن يكون الجواب غير مستقل بنفسه، ويكون مقصوراً على السؤال، ويكون السؤال عن فعل خاص يحتمل موضع الخلاف وغيره، فيلزم السائلُ المسؤولَ التوقفَ فيه حتى يقوم الدليل على المراد به.
مثاله: ما احتج به أصحابنا في وجوب الكفارة على الوطء ناسياً في رمضان (2) بحديث الأعرابى لما قال للنبى - صلى الله عليه وسلم - وقعت على امرأتي. قال: (اعتق رقبة) (3).
فيقول المخالف: يحتمل أن يكون عمداً بدليل أنه قال: (هَلَكْتُ وأهلَكْتُ).
ويكون الجواب عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل وأطلق، فوجب أن يكون وجود الوطء موجباً للكفارة على أي وجه كان.
وقوله: (هَلْكْتُ وأهلَكْتُ) لا يمنع النسيان؛ لأنه يحصل هالكاً، فوجب
__________
= وهنا قرينتان:
حاليَّة، وهى بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما مست الحاجة إليه من البدء بالصفا والمروة.
ومقاليَّة، وهى: تلاوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: (إنْ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِر الله) بعد قوله: (نبدأ بما بدأ الله به).
انظر: الجوهر النَقي لابن التركماني بحاشية السنن الكبرى للبيهقي (1/85).
(1) لأن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب.
(2) هذا المشهور من المذهب.
وهناك رواية أخرى: أنه توقف، وقال: أَجْبُنُ أن أقول فيه شيئاً.
ونقل عنه أحمد بن القاسم ما يقتضي أنه لا كفارة عليه.
انظر: المغني (2/121)، وكتاب الروايتين والوجهين للمؤلف (1/259).
(3) سبق تخريجه بهذا اللفظ.

(5/1495)


القضاء والكفارة وإن لم يكن آثماً.
الرابع: ما روي عن أنس بن مالك أنه قال: (أُمِرَ بلال أن يشْفعَ الأذانَ ويوترَ الإِقامة) (1).
قال المخالف: ليس فيه ذكر الآمر من هو، ويحتمل أن يكون أمر به بعض أمراء بني أمية.
وهذا غلط؛ لأنه لا يجوز أن يأمره بعض الأمراء بتغيير إقامة فعلها بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - زماناً طويلاً وبين يدي أبي بكر وعمر، فلو أمره بذلك أحد لم يقبله بلال، ولو قبله لم يرض به سائر الصحابة -رضي الله عنهم-.
__________
(1) حديث أنس - رضي الله عنه - هذا أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: بدء الأذان (1/148).
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب: الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة (1/286) حديث رقم (378).
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: في الإقامة (1/349) رقم الحديث (508).
وأخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب: ما جاء في إفراد الإقامة (1/269) حديث رقم (193).
وأخرجه ابن ماجة في كتاب الأذان، باب: إفراد الإقامة (1/241) حديث رقم (730).
وأخرجه ابن حبان في صحيحه. كما جاء في كتاب الإِحسان بترتيب صحيح ابن حبان، كتاب الصلاة، باب: الأذان- (3/92) رقم الحديث (1673).
وأخرجه البيقى في السنن الكبرى في كتاب الصلاة، باب: بدء الأذان (1/390).

(5/1496)


وعلى أنه روى عبد الوهاب (1) الثقفي وإسماعيل بن عُلَيَّة (2) وابن لَهِيعة (3) أن أنس بن مالك قال: (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالاً أن يشفَع الأذان ويوترَ الإقامةَ) (4)، وهذا نص.
__________
(1) هو: عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي، أبو محمد المصري. روى عن حُميْد الطويل وخالد الحذَّاء وغيرهما. وعنه الشافعي وأحمد وغيرهما. قال فيه الحافظ: (ثقة، تغيَّر قبل موته بثلاث سنين من الثامنة، مات سنة أربع وتسعين، عن نحو ثمانين سنة).
انظر ترجمته في: تقريب التهذيب (1/528)، وتهذيب التهذيب (6/449).
والحديث الذي ذكره المؤلف أخرجه من طريقه النَّسائي والدارقطني والحاكم كما سيأتي في تخريج الحديث، إن شاء الله تعالى.
(2) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم الأسدي مولاهم، أبو بشر البصري، المشهور بابن عُلَيَّة. روى عن حُميْد الطويل وأيوب السختياني وغيرهما. وعنه شعبة وابن جريج وغيرهما. قال فيه الحافظ: (ثقة حافظ، من الثامنة. مات سنة ثلاث وتسعين ومائة، وهو ابن ثلاث وثمانين).
انظر ترجمته في: تقريب التهذيب (1/66) وتهذيب التهذيب (1/275).
والحديث الذي ذكره المؤلف أخرجه من طريقه الدارقطني في سننه، كما سيأتي في تخريج الحديث، إن شاء الله تعالى.
(3) هو عبد الله بن لَهِيعة بن عقبة الحضرمي، أبو عبد الرحمن المصري الفقيه القاضي وقد سبقت ترجمته.
والحديث الذي ذكره المؤلف ذكره ابن أبي حاتم في العلل من طريقه إلى ابن لَهِيعة وسيأتي ذكره في تخريج الحديث، إن شاء الله.
(4) حديث أنس - رضي الله عنه - بهذا اللفظ، أخرجه عنه مرفوعاً النَّسائي من طريق عبد الوهاب الثقفي في كتاب الأذان، باب: تثنية الأذان (2/3) رقم الحديث (627) طبعة الشيخ أبي غدة.
وأخرجه عنه ابن حبان في صحيحه كما في الإِحسان بترتيب صحيح ابن حبان، كتاب الصلاة، باب الأذان (3/92) رقم الحديث (1674). =

(5/1497)


الخامس: ما روي عن سمرة بن جندب أنه قال: (أما بعد: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمُرنا أن نخرجَ الصدقةَ من الذي نُعِدُّه للبيع (1)
__________
= وأخرجه عنه الحاكم في مستدركه من طريق عبد الوهاب الثقفي في كتاب الصلاة، باب: يشفع الأذان ويوتر الإقامة (1/198) بطريقين إلى عبد الوهاب الثقفي إحداهما من طريق الدوري، حدثنا يحيى بن معين حدثنا عبد الوهاب الثقفي إلى آخر سنده.
ثم قال الحاكم بعدها: (هذا حديث أسنده إمام أهل الحديث ومزكي الرواة بلا مدافعة) يعني: يحيى بن معين.
والثانية من طريق قتيبة بن سعيد حدثنا عبد الوهاب الثقفي إلى آخر سنده. ثم قال الحاكم بعدها: (والشيخان لم يخرجاه بهذه السياقة، وهو صحيح على شرطهما).
وأخرجه عنه الدارقطني في سننه في كتاب الصلاة، باب ذكر الإقامة واختلاف الروايات فيها (1/240) من طريق عبد الوهاب الثقفي، ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم ابن عُلَيّة.
وفي كتاب العلل لابن أبي حاتم في كتاب الصلاة، باب: علل أخبار رويت في الأذان (1/194) حديث رقم (557) قال: (سئل أبو زُرعة عن حديث رواه عثمان بن أبي صالح المصري عن ابن لهيعة عن عقيل عن الزهري عن أنس بن مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإِقامة". قال أبو زُرعة هذا حديث منكر).
والذي يظهر لي: أن الحديث صحيح، ويشهد له روايات أخرى مذكورة في مواطنها. ولعل أبا زرعة نظر إلى أن في الإِسناد ابن لَهِيعة فأنكره. والله أعلم.
انظر: التلخيص (1/198).
(1) هذا الحديث أخرجه أبو داود في سننه عن سمرُة بن جندب - رضي الله عنه - بمثل لفظ المؤلف، في كتاب الزكاة، باب: العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة (2/211-212) وسكت عنه. =

(5/1498)


وقال المخالف: هذا لا يدل على الوجوب؛ لأن الاستحباب يسمى أمراً. وقد اختلف الناس في ذلك، فيجوز أن يكون سماه أمراً على اعتقاده.
ويجاب عنه: بأنه يجب حمله على الوجوب عندنا. وقد تقدم بيانه (1).
السادس: أن يدَّعى المخالفُ أن المتن متردد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين غيره، فلا يجوز أن ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير دليل.
مثاله: ما روي عن سَهْل بن سعْد الساعِدِي (2) أنه قال: (مضت السُّنَة: أن يُفرَّق بين المتلاعنين) (3).
__________
= وأخرجه عنه البيهقي في سننه في كتاب الزكاة، باب: زكاة التجارة (4/146) بمثل لفظ المؤلف.
وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الزكاة، باب: زكاة مال التجارة وسقوطها عن الخيل والرقيق (2/127- 128) ولفظه: (بسم الله الرحمن الرحيم من سمُرة ابن جندب إلى بنيه، سلام عليكم، أما بعد: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرنا برقيق الرجل أو المرأة الذين هم تِلادٌ لهُ، وهم عَمَلة لا يريد بيعهم فكان يأمرنا أن لا نخرج عنهم من الصدقة شيئاً، وكان يأمرنا أن نخرج من الرقيق الذي يُعدُّ للبيع).
(1) انظر: (1/224) من هذا الكتاب.
(2) هو: سهل بن سعد بن مالك الساعدي الأنصاري، أبو العباس. صحابي جليل.
توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس عشرة سنة. قيل: إنه آخر الصحابة موتاً بالمدينة. مات سنة (88 هـ). وقيل غير ذلك.
انظر: ترجمته في: الاستيعاب (2/664).
(3) أخرج هذا أبو داود في سننه في كتاب الطلاق، باب: في اللعان (2/683) حديث رقم (2250) ولفظه: (.. فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً).
ورواه الجَوْزَجاني كما نقل ذلك الشيخ الألباني في الإِرواء (7/187) رقم الحديث (2104) ثم قال: (صحيح).

(5/1499)


فقال المخالف: السنة قد تكون لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي).
فيجاب عنه: بأن السنة إذا أطلقت اقتضت سنة [231/أ] النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم بيانه (1).
السابع: أن يدَّعي المخالفُ أن بعض لفظ الحديث من قول الراوي، أدرجه (2) في لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا حجة فيه.
مثاله: ما يحتج به على أن فُرْقة اللعان فسخ بما روى عبد الله بن عباس بقصة هلال بن أميَّة (3) إلى أن قال: (ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وقضى أن لا يُدْعى ولدُها لأب، ولا تُرْمى ولا يُرْمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد. وقضى أن لا بَيْت لها عليه، ولا قوت، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها زوجها (4)).
__________
(1) انظر: (3/991) من هذا الكتاب.
(2) والمدرج هو: أن يذكر الراوي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يعقبه بكلام لنفسه أو لغيره، ثم يأتي من بعده فيرويه متصلاً، فيتوهم أنه من الحديث.
انظر: تدريب الراوي للسيوطي (1/268).
(3) هو: هلال بن أميَّة الأنصاري الواقفي البدري. أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك.
انظر: ترجمته في: الاستيعاب (4/1542).
(4) هذه الكلمة أعنى (زوجها) لم أجدها في مراجع التخريج الآتية.
حديث ابن عباس - رضي الله عنه - هذا الذي ذكر المؤلف جزءً منه، أخرجه عنه أبو داود في سننه في كتاب الطلاق، باب: في اللعان (2/688) رقم الحديث (2256). =

(5/1500)


وقال المخالف: هذا من قول عبد الله بن عباس أدرجه في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا نص في أن فُرْقة اللعان ليست بطلاق.
ويجاب عنه: بأن ظاهره أنه من قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه عطفه على ما قبله من قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الثامن: أن يكون المتن فعلاً جرى في حياة النبي.
فيقول المخالف: يحتمل أن لا يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه، فلا يكون حجة.
مثاله: ما روى أبو سعيد قال: (كنا نخرج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من تمر، صاعاً من شعير، صاعاً من دقيق) (1).
__________
= وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/6) رقم الحديث (2131) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر حيث قال في تعليق على هذا الحديث: (إسناده صحيح).
وأخرجه البيهقي في كتاب اللعان، باب: الزوج يقذف زوجته... (7/393).
وأخرجه الطيالسى في أول كتاب اللعان، (1/393).
(1) هذا الحديث أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الزكاة، باب: كم يؤدى في صدقة الفطر؟ (2/269) رقم الحديث (1618) ولفظه: (.. عن ابن عجلان سمع عياضاً، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: لا أخرج أبداً إلا صاعاً، إنا كنا نخرج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعَ تمرٍ أو شعير أو أقط أو زبيب) هذا حديث يحيى، زاد سفيان: (أو صاعاً من دقيق) قال حامد: فأنكروا عليه، فتركه سفيان.
قال أبو داود: (فهذه الزيادة وَهْم من ابن عيينة).
وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الزكاة، باب: من قال يجزىء إخراج الدقيق في زكاة الفطر (4/172) عن أبي داود بمثل لفظه.
ثم قال البيهقي بعد ذلك: (رواه جماعة عن ابن عجلان، منهم: حاتم بن إسماعيل، ومن ذلك الوجه أخرجه مسلم في الصحيح، ويحيى القطان وأبو خالد الأحمر وحماد ابن مسعدة وغيرهم، فلم يذكر أحد منهم الدقيق، غير سفيان وقد أنكر عليه، =

(5/1501)


فقال مخالفنا: يحتمل أن يكون فعلوا ذلك بغير علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخراجهم الدقيق.
فنجيب عنه: بأنه لا يجوز أن يخفى ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الصدقات كانت تحمل إليه.
ولأن هذا إخبار عن دوام الفعل فيقتضي زماناً طويلاً.
ومن جوز أن يخفى على النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، فقد ادعى خلاف ما جرت به العادة.
ولأنه لا يجوز أن يسقطوا فرضاً وجب عليهم بآرائهم.
الاعتراض الرابع وهو دعوى النسخ
مثل ما روي عن النبي -عليه السلام- أنه قال: (هل هو إلا بَضْعة منك، أو مُضْغة منك) (1).
__________
= فتركه، وروي عن محمد بن سيرين عن ابن عباس مرسلاً موقوفاً على طريق التوهم، وليس بثابت. وروى من أوجه ضعيفة لا تَسْوى ذكرها).
وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب زكاة الفطر (2/146) بلفظين، أحدهما: عن أبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم في صدقة الفطر: (صاع من زبيب، صاع من تمر، صاع من أقط، صاع من دقيق).
واللفظ الثاني ذكر فيه موضع الشاهد، وهو: (صاع من دقيق).
وفي آخره: أن أبا الفضل قال: (فقال له علي بن المديني، وهو معنا: با أبا محمد [يعنى: سفيان بن عيينة] أحد لا يذكر في هذا الدقيق؟ قال: بلى هو فيه).
وهذا يدل على أن سفيان بن عيينة لم يترك هذه الزيادة كما ذكر في المراجع السابقة.
وانظر: نيل الأوطار (4/201).
(1) هذا الحديث سبق تخريجه، وقد ذكره المؤلف بلفظ: (لا وضوء من مسِّه) (3/832).

(5/1502)


فيقول: إنه منسوخ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أفضى أحدم بيده إلى ذَكَره ليس بينه وبينه شىء فليتوضأ) (1). لأنه رواه أبو هريرة وهو متأخر.
قال أبو هريرة: (صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنوات) (2).
وقوله: (هل هو إلا بَضْعة منك) متقدم.
فإن قيس بن طَلْق روى عن أبيه (3) أنه قال: (قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يؤسس مسجدَ المدينة (4).
فوجب أن يُنسخَ المتقدمُ بالمتأخر.
وكذلك قوله: (يستأنف الفريضة) (5). منسوخ بقوله: (فإذا زادت الإِبلُ
__________
(1) سبق تخريجه (3/832) وقد ذكره المؤلف بلفظ: (وجوب الوضوء من مسِّه).
وهناك بينّا أقوال العلماء في المسألة.
وانظر: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ للحازمي ص (7).
(2) أخرج هذا الأثر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ابن سعد في طبقاته في ترجمة أبي هريرة - رضي الله عنه - (4/327) وفيه زيادة: (ما كنت سنوات قط أعقل مني، ولا أحب إلىَّ من أن أعِي ما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني فيهن).
وأخرجه بسند آخر بلفظ (..... عن حميد بن عبد الرحمن قال: صحب أبو هريرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين).
(3) هو: طَلْق بن علي، وقد سبقت ترجمته وترجمة ابنه قيس.
(4) أخرج هذا ابن سعد في طبقاته (5/552) في ترجمة طَلْق بن علي، - رضي الله عنه -.
وانظر: تهذيب التهذيب (5/33).
(5) سبق تخريجه (1/1013).

(5/1503)


على عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لَبُون، وفي كل خمسين حِقّة) (1)؛ لأنه عمل به أبو بكر [231/ب] وعمر- رضي الله عنهما-. فدل على أنه غير منسوخ، فوجب نسخ الاستئناف لذلك.
ومثل هذا كثير.
الاعتراض الخامس وهو معارضته بغيره
ويكون الجواب عنه بأن يُسقط معارضتَه، أو يرجح خبرَه على ما تقدم بيانُه.
__________
(1) هذا جزء من حديث رواه أنس - رضي الله عنه - أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: (بسم الله الرحمن الرحيم.
هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين.....). الحديث.
أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب: زكاة الغنم (2/139).
وأخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب: في زكاة السائمة (2/214) رقم الحديث (1567).
وأخرجه النَّسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة الإبل (5/17) رقم الحديث (2445).
وأخرجه ابن ماجة في كتاب الزكاة، باب: إذا أخذ المصدق سناً دون سن أو فوق سن (1/575) رقم الحديث (1800).
وأخرجه البيهقي في كتاب الزكاة، باب: كيف فرض الصدقة (4/86).
وأخرجه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب: زكاة الإبل والغنم (2/113).
وأخرجه الحاكم في كتاب الزكاة، (1/390).
وانظر: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ للحازمي ص (10).

(5/1504)


[الاعتراض على الاستدلال بالإجماع]
فإن كان دليله الإِجماع فالاعتراض عليه بثلاثة أوجه: (1)
أحدها: بأن يطالبه ببيان ظهور القول لكل مجتهد من الصحابة.
ومثاله: ما روي عن عمر أنه كتب إلى عمّاله في خمور أهل الذمة (ولُّوهم بيعَها، وخذوا منهم عُشْر أثمانِها) (2).
فيحتج به أصحاب أبي حنيفة على أن الخمر مال في حق أهل الذمة، يصح
__________
(1) ذكر بعض الأصوليين كالشيرازي: أن الاعتراضات هنا على أربعة أوجه، ترك المؤلف الوجه الأول منها، وهو: الرد، وهو من ثلاثة أوجه:
الأول: رد الرافضة الإِجماع؛ فإنه عندهم ليس بحجة، ويرد عليهم: بأن الإِجماع أصل من أصول الدين.
الثاني: رد أهل الظاهر إجماع غير الصحابة، ورد عليهم بأن ذلك أصل.
الثالث: رد أهل الظاهر الإجماع السكوتى، ويرد عليهم: أنه حجة.
انظر: المعونة في الجدل ص (79).
(2)هذا الأثر أخرجه البيهقي عن ابن عباس عن عمر -رضي الله عنهما- في كتاب الجزية، باب: لا يَأخذ منهم في الجزية خمراً ولا خنزيراً (9/206) ولفظ الشاهد فيه: (لا تأخذوا في جزيتهم الخمر والخنازير، ولكن خلوا بينهم وبين بيعها، فإذا باعوها، فخذوا أثمانها في جزيتهم).
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن سويد بن غفلة عن عمر في كتاب أهل الكتاب باب: أخذ الجزية من الخمر (6/23) رقم الأثر (9886)، وليس فيه: (خذوا منهم عُشْر أثمانها).
وأخرجه أيضاً في الموضع السابق، رقم (9887) بلفظ: (عن إبراهيم قال: إذا مرّ أهل الذمة بالخمر أخذَ منها العاشرُ العشرَ، يقومها، ثم يأخذ من قيمتها).
وقد أعاده عبد الرزاق (10/369) برقم (19396) ورقم (19397).
وأخرجه الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه (2/49).

(5/1505)


بيعهم لها، وتملكهم لثمنها (1).
فإن كان الاحتجاج بإجماعهم على ذلك طولبوا بظهور هذا القول من عمر وإنتشاره حتى عرفه كل مجتهد منهم، وسكت عن مخالفته. وإذا لم يتمكنوا من ذلك بطل دعوى الإِجماع.
الثاني: أن يبين ظهور خلاف بعضهم للقائل.
وإذا اختلفوا وجب الرجوع إلى الدليل.
وذلك مثل: دعوى المخالف إجماع الصحابة على منع صيام يوم الشك، فروي تحريمه عن علي وعائشة وابن عباس خلاف ذلك (2) وأن بعضهم قال: (لأن أصومَ يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان) (3).
__________
(1) وهو كما قال.
انظر: حاشية ابن عابدين (5/56).
(2) النص هنا فيه خلل، فعليّ - رضي الله عنه - نُقل عنه القول بالجواز - كما سيأتى في تخريج الأثر. وهو ما ذكره ابن قدامة في المغني (3/90)، ونقله عنه ابن القيم في زاد المعاد (2/42)، كما حُكي عنه القول بالمنع (2/46)، وهو ما رواه البيهقي في سننه (4/209).
أما عائشة فالمنقول عنها الجواز، كما في تخريج الأثر الآتي، وكما في المراجع السابقة.
وأما ابن عباس فقد نقل عنه البيهقي أنه كان يمنع ذلك (4/207).
هذا الأثر قالته عائشة -رضي الله عنها- أخرجه عنها الإمام أحمد في مسنده (6/125) ضمن حديث سئلت فيه عن مسائل عدة، ومنها مسألة صيام يوم الشك.
قال الألباني: في الإرواء (4/11) (سنده صحيح).
وذكر الألباني في المرجع السابق أن سعيد بن منصور روى هذا الأثر، ثم قال: (لا يصح سنده).
وأخرجه عنها البيهقي في سننه في كتاب الصيام، باب: من رخَّص من الصحابة في صوم يوم الشك (4/211). =

(5/1506)


الثالث: أن يعترض على قول المجمعين أن يكونوا صرحوا بالحكم بمثل ما يعترض على لفظ السنة.
[الاعتراض على الاستدلال بالقياس]
وإذا كان دليله الذي احتج به هو القياس، فإن الاعتراض عليه من اثني عشر (1) وجهاً:
أحدها: إنكار علة الأصل على مذهب نفسه، أو على مذهب المعلِّل.
الثاني: إنكار علة الفرع.
الثالث: إنكار العلة فيهما (2).
الرابع: إنكار حكم الأصل.
الخامس: أن لا يتعدى حكم الأصل إلى الفرع.
__________
= وأخرجه أيضاً بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه.
وأخرجه عن علي - رضي الله عنه - الإِمام الشافعي، كما في بدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن (1/251) ولفظه: (أن رجلاً شهد عند علي - رضي الله عنه - على رؤية هلال رمضان، فصام، وأحسبه قال: وأمر الناس أن يصوموا وقال: أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان).
قال محققا زادِ المعاد (2/43) هامش (2): (فيه انقطاع).
ولقد بحث الإمام ابن القيم هذه المسألة بحثاً قيماً في كتابه المذكور آنفاً، فارجع إليه فإنه مفيد.
(1) راجع في هذه الاعتراضات: الجدل لابن عقيل ص (38) والمعونة ص (90) والمنهاج في ترتيب الحجاج ص (148).
وقد ترك المؤلف الاعتراض من جهة الرد، إما برده مطلقاً، كما هو مذهب الظاهرية.
وإما برده في بعض المواضع.
انظر المراجع السابقة.
(2) في الأصل: (فيها) والمراد: إنكار العلة في الأصل والفرع.

(5/1507)


السادس: أن يطالب بتصحيح العلة في الأصل.
السابع: أن يقول بموجب العلة.
الثامن: أن ينقض علته.
التاسع: أن يطالب بتفسير علته.
العاشر: أن يقول: إنه مخالف للقرآن أو السنة أو الإِجماع أو قول الصحابي على قول من يقدمه على القياس، وإذا كان يوجب زيادة في النص.
الحادي عشر: أن يقلب علته.
والثاني عشر: أن يعارضه بعلة أخرى من أصله أو بقياس مبتدأ على أصل غيره.
فأما إنكار علة الأصل، فمثل: أن يقول أصحاب أبي حنيفة في وجوب إخراج زكاة الفطر عن العبد الكافر. أصله: زكاة التجارة (1).
والعلة في الأصل غير مسلَّمة؛ لأن زكاة التجارة لا يجب إخراجها عن العبد، وإنما يجب إخراجها عن قيمته [232/أ].
ألا ترى أن قيمته لو كانت في متاع التجارة لوجب عليه إخراج الزكاة عليها.
__________
(1) العلة عند الحنفية هنا هي: المؤنة والولاية، سواء أكان العبد مسلماً أم كافراً، ولا يحملون المطلق في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أمر بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والعبد ممن تمونون) على المقيد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر في رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين).
وتعليلهم في ذلك: أن الأسباب إذا تعددت لا تزاحم بينها، كالملك يثبت بالبيع والهبة والإرث ونحو ذلك.
انظر: شرح فتح القدير (2/284) وحاشية ابن عابدين (2/263).
وراجع: الجدل لابن عقيل ص (45).

(5/1508)


وإن قال: يجب إخراجها بسبب العبد.
قيل: لا يجب بسبب العبد وإنما يجب بسبب قيمته.
وأما عدم العلة في الأصل على مذهب المعلِّل فإنه يقل وجوده.
وذلك مثل قول أصحاب أبي حنيفة في تحريم اللعان: فُرْقة يختص بالقول، فوجب أن لا يتأبَّدَ تحريمه. أصله: الطلاق (1).
وعلة الأصل معدومة عنده؛ لأن عند المخالف الطلاق لا يختص بالقول، فإنه يقع بالكتابة مع النية ممن هو ناطق متمكن من القول.
وهذا الإِنكار على الأصلين جميعاً؛ لأن عندنا أن الطلاق لا يختص بالقول، ويقع بالكتابة من غير نية.
وأما إنكار العلة في الفرع، فمثل: قول أصحاب أبي حنيفة في القارن إذا قتل الصيد: إنه أدخل النقصَ على إحرامين بقتل الصيد، فلزمه جزاءان (2).
أصله: إذا قتل صيداً في إحرام الحج، ثم قتل صيداً في إحرام العمرة.
فالعلة معدومة في الفرع؛ لأن القارن مُحرِم بإحرام واحد، ويكون ذلك بمنزلة من باع عبدين بثمن واحد، فيكون البيع واحداً وإن كان المبيع اثنين، وكذلك إذا عقَد إحراماً واحداً (3)، وإن كان المعقود عليه اثنين.
________
(1) هذه المسألة فيها خلاف
انظر: تحفة الفقهاء (2/222) وشرح فتح القدير (4/286) وحاشية ابن عابدين (3/483).
وراجع: الجدل ص (45).
(2) هو كذلك في شرح فتح القدير (3/104) وحاشية ابن عابدين (2/577).
(3) في الأصل: (إذا عقد الإحرام واحد).

(5/1509)


وأما إنكار العلة في الأصل والفرع، فمثل: قول أصحاب أبي حنيفة: إذا لم يصم المتمتع في الحج سقط الصوم (1)؛ لأنه بدل موجب، فوجب أن يسقط بفوات وقته. أصله: الجمعة.
وعلة الأصل غير مسلَّمة؛ لأن الجمعة ليست ببدل عن الظهر، وإنما الظهر بدل عن الجمعة؛ لأن البدل ما وجب الانتقال إليه لتعذر غيره.
وكذلك علة الفرع غير مسلمة؛ لأن صوم الثلاثة بدل غير مؤقت؛ لأنه مأمور في الحج دون الزمان، والمؤقت ما حصر فعله بوقت بعينه.
ومثل قولهم في إخراج زكاة الفطر عن العبد الكافر: عبدٌ يجب إخراج زكاة التجارة عنه، فوجب إخراج زكاة الفطر عنه. أصله: العبدُ المسلم (2).
ووجوب زكاه التجارة عن العبد المسلم وعن العبد الكافر غير مسلَّم.
وأما إنكار الحكم في الأصل، مثل: أن يقول أصحاب أبي حنيفة في جلد الكلب: بأنه حيوان يجوز الانتفاع به من غير ضرورة، فيطهر جلدُه بالدباغ (3). أصله: ما يؤكل لحمه.
__________
(1) عبارة صاحب الهداية (2/530) مطبوع مع شرح فتح القدير: (فإن فاته الصوم حتى أتى يوم النحر لم يجزه إلا الدم).
(2) انظر: شرح فتح القدير (2/284) وحاشية ابن عابدين (2/263).
(3) الكلب عند الإمام أبي حنيفة ليس بنجس العين، وعلى هذا جرت الفتوى، وعليه فيباع، ويؤجر، ويضمن، ويتخذ جلده مصلى ودلواً، يعني: إذا دبغ. هكذا في الدر المختار وشرحه تنوير الأبصار (1/208) مع حاشية ابن عابدين.
وذكر السمرقندى في تحفته (1/53) أن هناك قولين لأصحابه:
الأول: أنه نجس العين، فهو والخنزير سواء.
والثاني: ليس بنجس العين، فهو وسائر الحيوانات سواء، ثم قال: (وهذا أصح).
ثم قال في ص (71) : (أما الدباغ، فتطهير في الجلود كلها، إلا في جلد الإنسان والخنزير عند عامة العلماء).

(5/1510)


الحكم غير مسلَّم في الأصل؛ لأن ما يؤكل لحمُه لا يطهر جلدُه بالدباغ عندنا (1).
وأما حكم الأصل إذا لم يتعدَّ إلى الفرع، فمثل: قول أصحاب أبي حنيفة [232/ب] في ضم الذهب إلى الوَرق: إنهما قِيَم المتلفات، فوجب ضمُّ أحدهما إلى الآخر (2) قياساً على الصحاح والمكسَّرة، والضمُّ في الأصل بالأجزاء، والضمُّ عندهم بالقيمة (3)، وهما ضمَّان مختلفان، ولا يجوز أن يثبت في الفرع غير حكم (4) الأصل؛ لأن علة الأصل تتعدى إلى الفرع، فيتعدى بها الحكم المتعلِّق بها، وهذا على أصلنا يصح؛ لأن الضم يحصل في الأصل والفرع بالأجزاء (5).
__________
(1) هكذا نقل الجماعة عن الإمام أحمد، منهم صالح وعبد الله والأثرم وحنبل وابن منصور وأبو الصقر.
ونقل الصاغاني عنه: أنه يطهر بالدباغ جلد كل حيوان طاهر حال الحياة.
انظر: كتاب الروايتين والوجهين للمؤلف (1/66).
(2) هو كذلك.
انظر التحفة (1/266).
(3) هذا هو رأى الإمام أبي حنيفة -رحمه الله-.
أما عند أبي يوسف ومحمد فالضم باعتبار الأجزاء وانظر: المرجع السابق (1/267).
(4) ويمكن الجواب عن هذا بأن يقال: (ألحقت حكم الفرع بالأصل في وجوب الضم، فلا يلزمني استواؤهما في صفة الضم).
أفاده ابن عقيل في كتابه: الجدل ص (44).
(5) هو كذلك.
قال في الروض المربع (1/381): (ويضم جيد كل جنس ومضروبه إلى رديئه وتبره، ويخرج من كل نوع بحصته، والأفضل من الأعلى، ويجزىء إخراج رديء عن أعلى مع الفضل). =

(5/1511)


وأما المطالبة بتصحيح العلة في الأصل فنقضها والقول بموجبها. وقد سبق الكلام عليه في باب العلم الدال على صحة العلة والاعتراض عليها.
وأما المطالبة بتفسير لفظ العلة، فمثل: قول أصحاب الشافعي في صوف الميتة: متصل بذي روح ينمو بنمائه، فوجب أن ينجس بنجاستِه بموته (1).
قلنا لهم: قولك: "بموته" إما أن تريد به موت الأصل أو موت الشَّعَر.
فإن أردت به موت الشعر، لم نسلِّمه؛ لأن الشعر لا حياة فيه فيموت.
وإن أردت به موت الأصل لم يصح على أصلك؛ لأن عندك إنما ينجس بمفارقة الروح، كما ينجس العضو بمفارقة الروح له، لا بمفارقة الجملة.
فكانت المطالبة به صحيحة، والإِجابة واجبة.
وأما إذا كان مخالفاً لنص القرآن أو نص السنة أو الإِجماع فإنه غير صحيح؛ لأن ذلك كله أقوى من القياس وأولى به، فوجب تقديمها عليه، وإذا كان كذلك كان نقضاً للعلة.
وأما إذا كان موجباً للزيادة في النص، فإنه لا يصح على مذهب أبي حنيفة؛ لأن الزيادة في النص نسخ، فلا يجوز النسخ بالقياس (2).
__________
= هذا إذا كان من جنس واحد.
أما إذا كان من جنسين كالذهب والفضة، فهل يضم بعضها إلى بعض؟ فيه روايتان:
الأولى: يضم؛ لأن زكاتهما ربع العشر؛ ولأنهما من جنس الأثمان.
الثانية: لا يضم؛ لأنهما جنسان، أشبه التمر والزبيب.
وعلى القول بالضم، يكون ذلك بالأجزاء، فلو ملك عشرة مثاقيل ومائة درهم، فكل منهما نصف نصاب، ومجموعهما نصاب.
وانظر: كتاب الروايتين والوجهين (1/241).
(1) هكذا عند الشافعية.
وقد فصَّل القول في هذه المسألة النووي في المجموع (1/275).
(2) سبق أن تكلم المؤلف عن هذه المسألة (3/814) من هذا الكتاب.

(5/1512)


ومثاله: أن بعضهم سُئِل عن سهم ذوي القربى فقال: سهم من الخمس، فوجب أن يُستحق بالحاجة والفقر قياساً على سائر السهام (1).
فقيل له: فهذا يوجب الزيادة في قوله: (وَلِذِى الْقُرْبَى) (2).
والزيادة في النص نسخ عندك، ولا يجوز نسخ القرآن بالقياس.
وكذلك إذا كان قياسه مخالفاً لقول الصحابي.
وأما قلب العلة على المعلِّل فيأتي بيانه، وكذلك بيان المعارضة من أصله ومن غير أصله، إن شاء الله تعالى.
وهذا الذي ذكرنا جميع الاعتراضات الصحيحة.
فأما الاعتراضات الفاسدة فقد تقدم ذكرها في باب الاعتراضات.
[المعارضة]
وأما المعارضة (3) فعلى أربعة أضرب:
معارضة النطق بالنطق.
__________
(1) فالخمس عندهم يقسم أثلاثاً لليتيم والمسكين وابن السبيل، ويجوز صرفه لصنف واحد، وذلك عند توفر سبب الاستحقاق، وهو الفقر.
انظر: التحفة (3/302) وحاشية ابن عابدين (4/149).
(2) آية (41) من سورة الأنفال.
(3) راجع هذا الموضوع في: الجدل لابن عقيل ص (67) والواضح له (2/574) والمعونة في الجدل للشيرازي ص (66, 76) ويضرح اللُّمع له (2/936) والمسودة ص (441) ولم يتعرض المؤلف لتعريف المعارضة، وتتميماً للفائدة نذكر ذلك باختصار.
المعارضة في اللغة: الممانعة، تقول، سرت في الطريق فعرض لي عارض، أي: مانع.
ومنه اعترض لي. وسميت المعارضة بهذا، لأنها تمنع من التمسك بالدليل.
انظر: المصباح المنير (2/616) مادة (عرض).
أما المعارضة في الاصطلاح فقد عَّرفها ابن عقيل في كتابه الواضح (2/594) =

(5/1513)


ومعارضة العلة بالعلة.
ومعارضة النطق بالعلة.
ومعارضة العلة بالنطق.
فأما معارضة [233/أ] النطق بالنطق فقد سبق الكلام عليه في باب الخصوص والعموم ويقيده (1)، وذلك لا يخلو من أمرين:
إما أن يكونا سواء في العموم والخصوص، أو كان أحدهما عاماً والآخر خاصاً.
فإن كانا سواء نُظِر، فإن أمكن استعمالهما وجب ذلك.
وإن استعمل المسؤول على وجه، واستعمل السائل على وجه آخر، وتعارضا في الظاهر، وجب على المسؤول أن يرجح استعماله، فإن عجز عنه كان منقطعاً.
وذلك (2) مثل أن يحتج على المنع من الجمع بين الأختين بملك اليمين بقوله تعالى: (وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُختَيْنِ) (3) ويعارضه المخالف بقوله تعالى: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمَانُهُم فَإِنَهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ) (4).
__________
= بقوله: (وهى الجمع بين الشيئين للتسوية بينهما في الحكم).
وعرفها إمام الحرمين في كتابه: الكافية ص (69) بأنها في عرف الفقهاء (ممانعة الخصم بدعوى المساواة. أو مساواة الخصم في دعوى الدلالة).
وعرفها الجرجاني في كتابه التعريفات ص (115) بأنها: (إقامة الدليل على خلاف ما أقام الدليل عليه الخصم).
وهناك تعريفات كثيرة، انظرها في: إرشاد الفحول ص (232) والحدود للباجى ص (79) والكافية في الجدل ص (418).
(1) في الأصل بدون إعجام، ولعل الصواب: (ومطلق اللفظ ومقيده).
(2) كلمة (وذلك) مكررة في الأصل.
(3) آية (23) من سورة النساء.
(4) آية (30) من سورة المعارج، وكلمة (ملكت) ساقطة من الأصل، وهو خطأ.

(5/1514)


فيقول المسؤول: معناه: أو ما ملكت أيمانهم في غير الجمع بين الأختين في غير ملك اليمين.
فيحتاج المسؤول أن يرجح استعماله، ويقدمه على استعمال خصمه، بأن يقول: روي عن عثمان أنه قال: (حرمتهما آية، وأحلتهما آية) والتحريم أولى.
ولأن قوله: (وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ اْلأُخْتَيْنِ) قصد به بيان التحريم، وليس كذلك قول: (أَو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) فإنه قصد به مدح قوم. فكان ما قصد به بيان التحريم وبيان الحكم أولى بالتقديم، فيجب حمله على ظاهره وترتيب الآية الأخرى عليه.
وإن تعذر استعمالهما، فإن عرف التاريخ وجب تقديم المتأخر منهما لما روى ابن عباس أنه قال: (كنا نأخذ من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأحدث فالأحدث) (1).
__________
(1) هذا الأثر أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر... (2/784) رقم الحديث (1113) ولفظه: (... عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الفتح في رمضان. فصام حتى بلغ الكُدَيد، ثم أفطر. وكان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره).
وأخرجه بسند آخر، ثم قال: (قال يحيى: قال سفيان: لا أدري من قول من هو؟ وكان يؤخذ بالآخر من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).
وأخرجه الإِمام مالك في الموطأ في كتاب الصيام باب: الصوم في السفر (1/341) رقم (1715) بمثل لفظ مسلم.
وأخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: غزوة الفتح في رمضان، كما في الفتح (8/3) رقم الحديث (4276) وجعل الأثر من قول الزهري حيث قال في آخر الحديث: (قال الزهري: وإنما يؤخذ من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الآخر فالآخر). =

(5/1515)


ولأن المتأخر أقوى من المتقدم؛ لأن المتقدم يجوز أن يكون منسوخاً بالمتأخر، ولا يجوز أن يكون المتأخر منسوخاً بالمتقدم، فوجب تقديم المتأخر.
وإن جهل التاريخ وجب تقديم أحدهما على الآخر بضرب من ضروب الترجيحات التي ذكرناها في باب ترجيحات الأخبار. وقد تقدم ذلك (1).
وأما إذا كان أحدهما عاماً والآخر خاصاً فلا يخلو الخاص من أحد أمرين:
إما أن يكون موافقاً للعام أو منافياً له.
فإن كان منافياً له وجب تخصيص العام به، سواء تقدم العام على الخاص، أو تأخر عنه، أو جُهل التاريخ.
وذلك مثل قوله: (وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَى يُؤْمِنَّ) (2) وقوله:
(وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (3) وقوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيْدِيَهُمَا) (4) وقول النبي -عليه السلام-: (لا قطع إلا في ربع دينار) وقد حكينا الخلاف في ذلك فيما تقدم (5).
وإن كان الخاص موافقاً للعام فلا يخلو من أحد أمرين:
إما أن يكونا في حكمين، أو في حكم واحد.
__________
= وما جزم به البخاري هنا جزم به الحافظ بن حجر في الفتح (4/181)، وحكم بأنها وقعت مدرجة عند مسلم.
وعلى هذا فالأثر ليس لابن عباس، وإنما هو من قول الزهري. والله أعلم.
وقد سبق أن ذكر المؤلف هذا الأثر عن ابن عباس - رضي الله عنه - (3/1040) ولكن فاتني تخريجه هناك.
(1) انظر: (3/1019) من هذا الكتاب.
(2) آية (221) من سورة البقرة.
(3) آية (5) من سورة المائدة.
(4) آية (38) من سورة المائدة.
(5) انظر: (2/615) من هذا الكتاب.

(5/1516)


فإن كانا في حكمين: مثل قوله في كفارة الظهار: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (1) مع قوله تعالى في كفارة القتل: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) (2). فإنه يحمل المطلق على المقيد من طرّيق اللغة وقد حكينا أيضاً الخلاف في ذلك (3).
وإن كانا في حكم واحد فلا يخلو الخاص من أحد أمرين:
إما أن يكون له دليل خطاب، أو لا دليل له.
فإن لم يكن له دليل خطاب كان الخاص داخلاً في العام، وكان ذكراً لبعض ما شمله العموم، فيكون ما تناوله الخاص ثابتاً بالخاص والعام، وما زاد على ذلك ثابتاً بالعام دون الخاص.
مثاله: ما روي عن النبي -عليه السلام- أنه قال: (من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر).
وقضى في الذي وقع على امرأته بتحرير رقبة (4) فثبتت الكفارة بالخبر.
وإن كان له دليل خطاب، فإنه يقضى بدليل خطابه على العام، فيخرج ما تناوله منه دليله.
وقد ذكرنا مثال ذلك، والوجه فيه ما تقدم في باب الخصوص والعموم بما فيه كفاية (5).
ومثاله: قوله: (في أربعين شاةً شاةٌ) مع قوله: (في سائمة الزكاة) فتخرج المعلوفة من قوله: (في أربعين شاةً شاةٌ).
__________
(1) آية (3) من سورة المجادلة.
(2) آية (92) من سورة النساء.
(3) انظر: (2/637) من هذا الكتاب.
(4) هذه إشارة إلى حديث الأعرابي الذي واقع زوجته في نهار رمضان، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: (هلكتُ وأهلكتُ)، وقد سبق تخريجه.
(5) انظر: (2/578) من هذا الكتاب.

(5/1517)


وأما معارضة النطق بالعلة ومعارضة العلة بالنطق:
فإنه ينظر في النطق: فإن كان نصاً لا يحتمل إلا معنى واحداً، فإنه يجب ترك القياس له، سواء كان النطق من القرآن أو من السنة المتواترة أو من خبر الواحد.
وقد حكينا خلاف أصحاب مالك وأن القياس مقدم على خبر الواحد (1).
وإن كان النطق عاماً أو ظاهراً: فقد حكينا اختلاف الروايتين، واختلاف الفقهاء، وأن منهم من قال: يجب ترك القياس.
ومنهم من قال: يخص العام به، ويصرف الظاهر عن ظاهره. وذكرنا الوجه في ذلك (2).
وأما معارضة العلة بالعلة:
فلا يخلو من أحد أمرين:
إما أن تكون من أصلين، أو من أصل واحد.
فإن كانت من أصلين: مثل أن يقول أصحاب أبي حنيفة: طهارة بالماء، فوجب أن لا تفتقرَ إلى النية قياساً على إزالة النجاسة.
ونعارضه، فنقول: طهارة من خبث، فلا يصح بغير نية. أصله: التيمم.
ومثل ذلك كثير.
والجواب عن ذلك: أن [نبطل] قياس المخالف بوجه من وجوه الإِفساد التي ذكرناها، أو يرجح قياسه بوجه من وجوه الترجيحات التي نذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وإن كانت من أصل واحد فلا يخلو: من أن تكون بعلة غير علته أو بعلته، وإن تعلق عليها غير حكمها.
__________
(1) انظر: (3/889) من هذا الكتاب.
(2) انظر: (2/559) من هذا الكتاب.

(5/1518)


فإن كانت بعلة أخرى فلا يخلو من أحد أمرين:
إما أن يكون بعلة [234/أ] واقفة، أو علة متعدية.
فإن كانت واقفة، مثل أن يقول: يصح ظهار (1) الذمي؛ لأنه زوج يصح طلاقه، فوجب أن يصح ظهاره كالمسلِم.
فيقول الخصم: المعنى في الأصل أنه يصح تكفيره بالصوم فصح ظهاره، وليس كذلك الذمي، فإنه لا يصح تكفيره بالصوم فلا يصح ظهاره.
فإن المبتدىء بالعلة ينظر فيه، فإن كان المعارض لا يقول بعلة واقفة لم تصح المعارضة؛ لأنه لا يجوز أن يحتج بما لا يقول به.
والمعارض يقول: ليست العلة التي نصبها الله تعالى وعلَّق حكمَه عليها ما ذكره المبتدىء بالعلة، وإنما هي غيرها، فلا يجوز أن يذكر ما يقرُّ هو بفساده.
وإن كان المعارض يقول بالعلة الواقفة: قد قيل إن المبتدىء بالعلة يقول: أنا أقول بالعلتين جميعاً؛ لأنهما لا يتعارضان، فإن موجب العكس في الأصل واجب في الفرع، يوجد أحدهما وهي المتعدية، ولا يوجد الأخرى وهي الواقفة، فيجب أن يحكم بالمتعدية إليه، ولا تعارضه الواقفة؛ لأنها غير موجودة فيه.
وقيل: لا ينبغي أن يقول: أقول بالعلتين؛ لأنه إقرار بصحة علة الخصم والشهادة لها. ولا حاجة به إلى ذلك. ولكنه يقول: علتك لا تعارض علتي لما قدمته، وهو أن موجبهما أصل واحد، وفي الفرع توجد المتعدية، ولا توجد الواقفة، فلا يجوز أن يتعارضا في الأصل ولا في الفرع، فلا يكون الخصم بهذه العلة معارضاً.
فإن قيل: العلة الواقفة تعارض المتعدية في الفرع؛ لأن زوال العلة يوجب
__________
(1) في الأصل: (ظهاره).

(5/1519)


زوال الحكم، فيوجب أن يكون الذمي لا يصح ظهاره.
قيل: زوال العلة يوجب زوال الحكم المتعلق بها ولا يوجب ضد حكمها.
فإذا كان الحكم متعلقاً بعلتين فزالت إحداهما زال الحكم المتعلق بها، وبقي الحكم متعلقاً بالعلة الأخرى لا تعارضها العلة الزائلة، ولا يوجب ضد حكمها.
ألا ترى أن الحائض والمُحْرِمة بالحج يحرمُ وطؤها لحيضها ولإحرامها، فإذا انقطع حيضُها بقي تحريم وطئها متعلقاً بالإحرام.
وإن عارضه بعلة متعدية فلا يخلو من أحد أمرين:
إما أن تكون داخلة في علته أو غير داخلة فيها.
فإن كانت داخلة في علته: مثل تعليل مالك تحريم التفاضل بالقوت (1)، مع تعليل أحمد -رحمه الله- بالكيل.
والجواب عنه كالجواب عن العلة الواقفة؛ لأن القوت داخل في الكيل.
وإن كانت خارجة عن علته ومتعدية إلى فروع لا يقول بها، لأنها (2) تتعدى إلى فروع لا يجري فيها (3) الربا عند مالك (4) والشافعي (5) مثل الخُضَر وغيرها (6).
فإذا [234/ب] كان كذلك كان الجواب عنه إفساد علته أو يرجح (7) علته على علة خصمه، كما قلنا في العلة المعارضة من غير أصلها.
__________
(1) انظر في هذا: الكافي لابن عبد البر (1/304).
(2) في الأصل: (لأنه).
(3) في الأصل: (فيه).
(4) انظر: المرجع السابق (1/307) حيث قال: (ولا زكاة في البقول، ولا في الخضر، ولا فيما لا يدخر ولا يقتات من الفواكه وغيرها).
(5) انظر: المجموع للنووى (5/444).
(6) في الأصل: (وغيره).
(7) في الأصل (يرجع).

(5/1520)


وأما معارضة العلة بتلك العلة بعينها (1)، فإنها تسمى قلباً (2) وتسمى المشاركة في الدليل.
ومثاله: أن يقول: صلاة فرض لا تقضى في السفر، فوجب أن ينفصل وقتُها عن وقت الصلاة التي بعدها قياساً على صلاة الصبي.
فيقول له: وجب أن يكون لها وقتان أو وقت ممتد قياساً على صلاة الصبح.
أو يقول المخالف: لُبْثٌ في مكان مخصوص، فلا يكون قُرْبة بنفسه قياساً على الوقوف بعرفة.
فيقال له: وجب أن لا يكون من شرطه الصوم قياساً على الوقوف بعرفة.
ومثل هذا كثير.
فهو صحيح (3).
ومن أصحاب الشافعي من قال: لا يصح (4).
__________
(1) راجع في هذا: التمهيد (4/202) والواضح (3/1138) والمسوَّدة ص (445) وشرح اللُّمع (2/916) والتبصرة ص (475).
(2) عرفه الشيرازي في كتابه شرح اللُّمع الموضع السابق بقوله: (أن يعلق على علة المستدل نقيض حكمه، ويقيس على الأصل الذى قاس عليه، ولا يغير من أوصافه شيئاً) كما قسمه إلى قسمين: مصرح بحكم، وبمبهم، وهو قلب التسوية.
انظر: المرجع السابق (2/921).
وقسمه أبو الخطاب في كتابه التمهيد (4/208) وابن عقيل في الواضح (3/1150) إلى ثلاثة أقسام، وكلام المؤلف يدل عليه:
أ - القلب بحكم مقصود غير حكم المعلل.
ب - قلب التسوية.
جـ - جعل المعلول علة والعلة معلولاً.
(3) وبه قال أبو الخطاب والشيرازى وأبو علي الطبري.
انظر: التمهيد، وشرح اللُّمع، والتبصرة والواضح، المواضع السابقة.
(4) انظر: التبصرة وشرح اللُّمع، في الموضعين السابقين.

(5/1521)


والدلاله على صحته: أن هذه معارضة صحيحة؛ لأن المبتدىء بالعلة لا يمكنه أن يجمع بينهما ويعلقهما على علته. وإذا كان كذلك كانا متعارضين، وكان ذلك بمنزلة المعارضة من أصل آخر. فإنه لما تعذر الجمع بين حكم الأصلين في الفرع كانا متعارضين، كذلك هاهنا.
وأيضاً: فإن المخالف استدل على المنع من نقض البناء في مسألة السَّاجَة (1) بقوله -عليه السلام-: (لا ضرر ولا إضرار في الإِسلام) (2) وفي نقض بنائه إضرار به؛ لأنه إفساد لآلته، وإبطال لنفقته، فوجب أن يمنع منه.
__________
(1) السَّاجَة، بالجيم: خشبة عظيمة تنبت بالهند.
والمراد بذلك: أن الإنسان لو غصب ساجة وبنى عليها، فهل ينقض البناء وترد الساجة إلى صاحبها مطلقاً، أو ترد إليه إذا كانت قيمتها أكثر من قيمة البناء، فإن كانت قيمتها أقل من قيمة البناء فله ثمنها.
بالأول قالت الشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد، والأصح عند الحنابلة، وبالثاني قالت الحنفية، وهو رواية عن الإمام أحمد.
انظر: شرح اللُّمع (2/917)، وكتاب الروايتين والوجهين للمؤلف (2/418)، وحاشية ابن عابدين (6/192).
(2) هذا الحديث رواه عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب: من بنى في حقه ما يضر بجاره (2/784) رقم الحديث (2340). بلفظ: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى: أن لا ضرر ولا ضرار).
وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده (5/326).
وأخرجه أبو نعيم في كتابه أخبار أصبهان في ترجمة: شعيب بن محمد الدبيلي (1/344).
ورواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً، أخرجة عنه ابن ماجة في الموضع السابق رقم الحديث (2341).
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (1/313). =

(5/1522)


..................................
__________
= وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير على ما في إرواء الغليل (4/409).
وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الأقضية والأحكام وغير ذلك (4/228) ورواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الدارقطني في الموضع السابق.
وأخرجه الحاكم في كتاب البيوع (2/57-58) وقال: (صحيح الإسناد على شرط مسلم) ووافقه الذهبي.
وأخرجه البيهقي في كتاب الصلح، باب: لا ضرر ولا ضرار (6/69).
وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد كما في نصب الراية (4/385).
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الأقضية، باب: الأقضية في المرافق ص (464). عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه مرفوعاً.
قال الألباني في الإرواء (قلت: وهذا مرسل صحيح الإسناد، وهذا هو الصواب من هذا الوجه).
ورواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الدارقطني في سننه في الموضع السابق بلفظ: (لا ضرر ولا ضرورة، ولا يمنعن أحدُكم جارَه أن يضع خشبته على جداره).
ورواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الطبراني في الأوسط، كما في الإرواء.
وروته عائشة -رضي الله عنها- أخرجه عنها الدارقطني في سننه ص (227).
ورواه ثعلبة بن أبي مالك القرظي - رضي الله عنه - أخرجه عنه الطبراني في المعجم الكبير، كما في الإرواء.
ورواه أبو لبابة - رضي الله عنه - أخرجه عنه أبو داود في كتابه المراسيل ص (176) رقم (367).
وقد صدر الشيخ الألباني كلامه عن هذا الحديث بقوله: (صحيح).
وفي آخر الكلام عن الحديث قال: (قلت: فهذه طرق كثيرة لهذا الحديث قد جاوزت العشر، وهي وإن كانت ضعيفة مفرداتها، فإن كثيراً منها لم يشتد ضعفها، فإذا ضم بعضها إلى بعض تقوى الحديث بها وارتقى إلى درجة الصحيح إن شاء =

(5/1523)


فقال أصحاب الشافعي وجب رد ساجَتِه وما غصبه من آلته؛ لأن في منع ذلك منه إضراراً (1) به.
وإذا كان هذا صحيحاً كان القلب صحيحاً؛ لأنه يشاركه في دليله.
واحتج المخالف:
بأنها معارضة في غير الحكم الذي علله، فلا يلزمه الجواب عنه.
ألا ترى أنه إذا استأنف قياساً في حكم آخر لم يصح لهذا المعنى، كذلك لا يصح القلب.
والجواب: أنه يبطل بالمشاركة في دلالة الخبر على ما بيناه في مسألة السَّاجَة، فإنه معارضة في غير حكمه وقد صح.
وعلى أن مثل هذا جائز للمعارض، وإن كان من أصل آخر؛ لأنه في معنى ضد حكمه؛ لأنه لا يمكنه الجمع بينهما كما (2) لا يمكنه الجمع بين
__________
= الله تعالى).
ثم قال: (قلت: وقد احتج به الإمام مالك، وجزم بنسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال (2/805) من الموطأ: وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ضرر ولا ضرار.
وكذلك احتج به محمد بن الحسن الشيباني في مناظرة جرت بينه وبين الإمام الشافعي، وأقره الإمام عليه).
ئم ذكر بعد ذلك شواهد للحديث.
ورمز له السيوطي في الجامع الصغير (6/431) رقم الحديث (9899) بالحسن.
وقال المناوي في تعليقه على هذا الحديث: (والحديث حسَّنه النووي في الأربعين.
قال: ورواه مالك مرسلاً. وله طرق يقوى بعضها بعضاً، وقال العلائي: للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به).
(1) في الأصل: (اضرار).
(2) في الأصل: (فيما).

(5/1524)


الحكم وضده.
واحتج بأن أوصاف علة المعلِّل لا تصلح للحكم الذي نقلتها فيه، فلا تكون مؤثرة في وجوده، فلم يصح القلب.
والجواب أن هذا في بعضه دون بعض.
ألا ترى أنه إذا قال (1): عضو من أعضاء الوضوء، فلا يجوز في إيصال الماء إليه ما يقع الاسم عليه (2).
فقلبه الخصم على أبي حنيفة [235/أ] وقال: وجب أن لا يقدَّر بالربع (3)، كانت العلة في الحكمين سواء، ولم يكن فرق بين أن يجعل عضواً من أعضاء الوضوء علة لإِجزاء اليسير وبين أن يجعل علة لنفي التقدير.
وفي القلب نوع أحسن، وهو الذي يسمى قلب التسوية (4).
مثاله: أن يقول المخالف (5): إيقاع طلاق من مكلف مالك للطلاق، موجب أن يقع الطلاق. أصله: المختار.
فيقلبه الخصم عليه فيقول: وجب أن يكون حكم الإِيقاع والإِقرار سواء قياساً على المختار.
__________
(1) يعني: إذا قال في مسح الرأس.
(2) لأن الشافعي يقول يجزىء في ذلك ما يقع عليه اسم المسح.
انظر: شرح اللُّمع (2/917).
(3) عند الحنفية في القدر الذى يمسح من الرأس ثلاث روايات:
الأولى: يقدر بثلاث أصابع مطلقاً. وهو ظاهر الرواية.
الثانية: يقدر بربع الرأس.
الثالثة: مقدار الناصية.
انظر: تحفة الفقهاء (1/9).
(4) سبق تعريفه عند الشيرازي بأنه القلب بحكم مبهم.
(5) يعني: أن يقول الحنفي في طلاق المكره: إنه طلاق.. الخ.

(5/1525)


وهو صحيح (1).
ومن أصحاب الشافعي من منع صحته (2).
والدلالة على صحته: أن الجمع بين الحكم المبتدىء بالعلة وبين حكم القالب لا يصح، فكان بمنزلة القلب الأول.
فعلى هذا حكم الفرع موافق لحكم الأصل؛ لأن الحكم هو الاستواء، وهذا في الأصل والفرع واحد. وإنما يختلفان في كيفية الاستواء، والكيفية حكم غير الاستواء.
ألا ترى أن النبي -عليه السلام- لو قال: حكم الإيقاع والإقرار سواء، كانت التسويةُ واجبة بالنص، وكيفية التسوية غير منصوص عليها، فإذا دل الدليلُ على أنهما يستويان في الأصل في الصحة وفي الفرع في البطلان كانت الكيفية مجتهداً فيها، والاستواء منصوصاً عليه.
فعلى هذا يجوز قياس أصحاب أبي حنيفة: مالان من جنس الأثمان، فوجب ضم أحدهما إلى الآخر قياساً على ضم المكسرة والصحاح، وإن كان الضم في الأصل في الأجزاء وفي الفرع في القيمة على قولهم (3).
ومن قال: لا يصح هذا القلب لا يُجوِّز هذا القياس؛ لأنهما يختلفان، ويجب أن يكون الفرع موافقاً لحكم الأصل.
واحتج في ذلك: بأن حكم الفرع في ذلك مخالف لحكم الأصل؛ لأن
__________
(1) يعني: أن قلب التسوية صحيح.
وبه قال أبو الخطاب كما في التمهيد (4/208)، والشيرازي كما في شرح اللُّمع (2/922) والتبصرة (477).
(2) انظر: شرح اللُّمع والتبصرة في الموضعين السابقين.
(3) سبق التعليق على هذه المسألة ص (1115) وانظر المسوَّدة ص (374).

(5/1526)


الاستواء [في الأصل] في الصحة وفي الفرع في البطلان عند القالب. ويجب أن يكون حكم الفرع مثل حكم الأصل؛ لأن حكم الأصل يجب أن يتعدى إلى الفرع لتعدي علة الأصل عليه.
والجواب عنه ما ذكرنا، وهو أن الجمع بين حكم المبتدىء بالعلة وبين حكم القالب لا يصح، فلم يجب اعتبارهما في القلب.
نوع ثالث:
وهو أن يجعل المعلول علة والعلة معلولاً (1).
والمراد بالمعلول هو الحكم، فكأنه يجعل حكم المبتدىء بالعلة علة وعلته حكماً.
مثاله: أن يقول (2): زوج يصح طلاقُه، فوجب أن يصح ظهارُه (3) قياساً على المسلِم.
فيقول المخالف: ما ينكر على من قال: إنما صح طلاقُ المسلِم؛ لأنه صح ظهارُه.
قيل له: هذا القلب بمنزلة المعارضة بعلة واقفة وأصل عليه.
ويكون الجواب عنه ما ذكرنا من القول بهما. أو قوله: إنهما لا يتعارضان، فلا يصح القلب.
وقد قيل: يصح هذا القلب؛ لأنه لا يجوز [235/ب] أن يثبت الحكم لما
__________
(1) وهذا القلب لا يفسد العلة عند الحنابلة وأكثر الشافعية، خلافاً للحنفية وبعض المتكلمين.
انظر: التمهيد (4/311) والتبصرة ص (479) وشرح اللُّمع (2/944) والمسوَّدة ص (446) وتيسير التحرير (4/161).
(2) يعني: في ظهار الذمى.
(3) في الأصل: (طهارته).

(5/1527)


هومثبت له.
فإذا كان ثبوت الظهار لثبوت الطلاق في الأصل لم يجز أن يكون كل واحد منهما أمارة على الآخر من الأمارات الشرعية (1).
فيقول (2) صاحب الشريعة: إذا وجدتم صحة الطلاق فاحكموا بصحة الظهار، وإذا وجدتم صحة الظهار فاحكموا بصحة الطلاق، فيكون كل واحد منهما أمارة على الآخر.
وقد وجد مثل ذلك؛ لأن صاحب الشريعة أمرنا إذا أعطينا الابن عطية أن نعطي الابنة، وإذا أعطينا الابنة عطية أن نعطيَ الابن أيضاً (3)، فصارت (4) عطية كل واحد منهما أمارة على عطية الآخر.
__________
(1) هذا أهم دليل للحنفية ومن قال بقولهم.
انظر بقية الأدلة في المراجع السابقة.
(2) يظهر أنه يوجد سقط قبل هذا؛ لأن الكلام الآتي هو استدلال الذين لا يقولون بفساد العلة، وليس بقية دليل الحنفية.
وبمراجعة: التمهيد (4/211) والتبصرة ص (479) يتضح ذلك جلياً. والله أعلم.
(3) هذا إشارة إلى مثل حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - أنه أتى بابنه محمد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نَحَلتُ ابني هذا غلاماً، فقال: (أكل ولدك نحلتَ مثله؟ قال: لا، قال: فارجعه).
بهذا اللفظ أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب الهبة للولد (3/195).
وأخرجه مسلم في كتاب الهبات، باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (3/1241) رقم الحديث (1623).
(4) في الاصل: (وصارت).

(5/1528)


فصل
[في ترجيحات العلل]
فأما ترجيحات العلل (1) فمن وجوه:
أحدها: أن ترجح إحدى العلتين على الأخرى بأن تكون موافقة لكتاب الله تعالى.
والثاني: بأن تكون موافقة للخبر عن رسول - صلى الله عليه وسلم -.
والثالث: بأن تكون موافقة لأثر عن الصحابة.
والرابع: أن تكون إحداهما منصوصاً عليها والأخرى مستنبطة.
والخامس: بأن تشهد لإحداهما الأصول.
والسادس: بأن تكون إحداهما مطردة منعكسة، فيدل ذلك على تعليق الحكم بهذه العلة.
والسابع: بأن تكون إحداهما مؤثرة في أصلها، فيوجد الحكم بوجودها ويرتفع بارتفاعها، والأخرى تؤثر في غير أصلها.
الثامن: أن يكون الفرع موجوداً بإحدى العلتين في جنسه وشكله فتكون أولى.
التاسع: بأن تكون إحداهما مردودة إلى ما يكثر شبهه به، مثل اللعان، يُرَد إلى اليمين، فإن شبهه بها أكثر من شبهه بالشهادة.
__________
(1) راجع في هذا الفصل: التمهيد (4/226) والواضح (3/1180) والمسوَّدة ص (376) وشرح الكوكب المنير (4/712) وشرح اللَّمع (2/950) والتبصرة ص (481) والمعونة في الجدل ص (125) وكتاب المنهاج في ترتيب الحجاج ص (234).

(5/1529)


العاشر: بأن تكون إحداهما لا تخص الاسم المنهي عنه منه، والأخرى تخصه كتعليل أبي حنيفة تحريم التفاضل بالكيل، ويبيح تمرةً بتمرتين وبُرةً ببرتين (1)، ونحن لا نخص الاسم، ويجرى الربا في القليل، والكثير (2) فيكون الذي لا يخصه أوْلى؛ لأن العموم يشهد لها.
ويمكن أن لا يكون ذلك من الترجيح، وتكون العلة باطلة؛ لأن المطلوب علة الحكم الذي دلَّ عليه الاسم، فلا يجوز إسقاط شىء منه بالعلة. ويخالف تخصيص اسم آخر؛ لأنه إنما يخصه بخصوص الاسم الذي انتزعت العلة منه بذلك، فيكون القضاء بالعلة عليه نقضاً للاسم الخاص عليه.
والحادي عشر: بأن يكون حكم إحداهما (3) سابقاً لها، وحكم الأخرى غير سابق لها، فالتي لا يسبقها حكمها أوْلى؛ لأن ذلك يدل على تأثيرها، كقولنا: بائن [236/أ] فلا نفقة لها كالمطلقة قبل الدخول (4).
وقال المخالف (5): معتدة من طلاق، فوجب أن تكون لها النفقة كالرجعية؛ لأن النفقة سابقة للعلة في الأصل والفرع، وعلتنا غير سابقة؛ لأن العلة هي البينونة، ولم تسبق سقوط النفقة.
__________
(1) وهو كذلك عند الحنفية.
انظر: تحفة الفقهاء (2/26).
(2) هذا مذهب الحنابلة كما ذكر المؤلف.
وبه قال الثوري وإسحاق وابن المنذر.
انظر: المغني (6/59) طبعة هجر.
(3) في الأصل: (أحدهما).
(4) عند الحنابلة البائن لا نفقة لها ولا سكنى إلا إذا كانت حاملاً.
انظر: الروض المربع بحاشية العنقري (3/228).
(5) المراد بهم الحنفية، فهم يقولون بأن لها النفقة مطلقاً.
انظر: حاشية ابن عابدين (3/609).

(5/1530)


الثاني عشر: أن تكون إحداهما صفة ثابتة في الحال والأخرى توجد في الثاني، كقولنا [في رهن المشاع] (1): عين يصح بيعها فصح رهنها كالمفرد (2).
وقولهم (3): قارَنَ العقد معنى يوجب استحقاق [رفع] (4) يده في الثاني، فهو تجوّز (5) غير موجود (6).
الثالث عشر: أن تكون إحداهما صفة محسوسة، والأخرى حكماً شرعياً، فتكون الصفة المحسوسة [أوْلى] لقوة وجودها (7).
الرابع عشر: أن تكون إحداهما إثبات صفة، والأخرى نفيها، فيكون إثبات الصفة أوْلى.
الخامس عشر: أن تكون إحداهما حكماً متفقاً عليه، والأخرى حكماً مختلفاً فيه، وإن كان الخصمان قد اتفقا عليه.
السادس عشر: أن تكون إحداهما مردودة إلى أصل ثابت بكتاب أو سنة متواترة أو إجماع أو نص صريح، والأخرى بخلاف ذلك، فتكون أوْلى؛ لأن الفرع يقوى بقوة الأصل.
__________
(1) الزيادة من التمهيد (4/230) والمسوَّدة ص (382).
(2) هو كذلك عند الحنابلة.
انظر: المغني (6/451) طبعة هجر، والروض المربع مع حاشية العنقري (2/162).
(3) يعني: الحنفية، فإنهم يقولون بعدم جواز رهن المشاع.
انظر: تحفة الفقهاء (3/40) وحاشية ابن عابدين (6/489).
(4) الزيادة من التمهيد (4/230) والمسوَّدة ص (382)، وهى زيادة يقتضيها المقام.
(5) في الأصل (يجوز) بدون إعجام للحرفين الأولين، وقد أعجمناهما بما ترى.
(6) يعني: أن علة الحنابلة متحققة الوجود، وما ذكره المخالفون غير متحققة، فيجوز أن توجد، ويجوز أن لا توجد، فكانت علة الحنابلة أولى.
انظر: التمهيد الموضع السابق.
(7) في الأصل: (وجوده).

(5/1531)


السابع عشر: أن تكون إحداهما مفسَّرة، والأخرى مجملة، فتكون المفسر[ة] أوْلى، كقولنا (1): أفطر بغير مباشرة.
وقول أصحاب أبي حنيفة (2): أفطر بأعلى ما في جنسه أو بممنوع نوعه (3).
الثامن عشر: أن يكون في إحداهما احتياط للغرض فتكون أولى.
التاسع عضر: أن تكون إحداهما ناقلة عن العادة والأخرى مبقية، كانت الناقلة عن العادة أوْلى؛ لأنها تفيد حكماً شرعياً.
وقال بعضهم (4): المبقية على حكم ما قبله [أولى] (5)؛ لأن النفي أمر (6) [معتبر] عند اعتراض الشك بالبناء على ما قبله.
وهذا لا يشبه ما ذكرنا؛ لأن البقاء هناك احتياط للعبادة، وأن لا يحكم
__________
(1) يعني: قول الحنابلة فيمن أكل في رمضان: إنه لا كفارة عليه، لأنه أفطر بغير مباشرة، أشبه ما لو بَلَع حصاة.
انظر: التمهيد (4/245) والمسوَّدة ص (382).
(2) يعني: أن أصحاب أبي حنيفة يقولون: إن من أكل في رمضان فعليه الكفارة. وعلل ذلك السمرقندي في تحفته (1/361) بقوله: (إنها تجب بمعقول المعنى، وهو تكفير جناية إفساد الصوم من كل وجه، وهذا المعنى موجود في الأكل والشرب؛ لأن الصوم هو الإمساك عن الأكل والجماع، فكان الإِفساد بأحدهما نظير الإفساد بالآخر، وإذا استويا في الإفساد [واستويا] في الإثم فيجب أن يستويا في وجوب (الرافع للإثم).
وانظر: حاشية ابن عابدين (2/411).
(3) في الأصل: (بمتبوع) والكلمة غير مستقيمة في التمهيد، والعبارة في المسوَّدة ص (383): (وقول الحنفية: أفطر بأعلى ما في الباب من جنسه، أو أفطر بممتنع جنسه).
(4) هم بعض الشافعية كما في اللُّمع ص (67).
(5) الزيادة من اللُّمع الموضع السابق. وهي زيادة يقتضيها المقام.
(6) هكذا في الأصل: (أمر) ولكن الكلام لا يستقيم، فاجتهدنا، فزدنا كلمة (معتبر).

(5/1532)


ببراءة ذمته بالشك. والاحتياط هاهنا في الانتقال؛ لأنه يفيد حكماً شرعياً.
العشرون: أن تكون إحداهما تزيد في الحكم، مثل أن توجب إحداهما، وتندب الأخرى، أو تندب إحداهما، وتبيح الأخرى، فتكون: الزائد[ة] أوْلى.
وكذلك إذا كانت إحداهما تزيد في القدر.
الحادي والعشرون: أن تكون إحداهما حاظرة، فتكون أوْلى.
وقد بينا ذلك في ترجيح الأخبار.
الثاني والعشرون: أن تكون إحداهما تستوعب معلولها، كقولنا (1) : من جرى بينهما القصاص في النفس جرى بينهما القصاص في الأطراف كالحُرَّين الرجلين، وهذا يستوعب [236/ب] جميع المعلول.
وقولهم (2) : التكافؤ معتبر في الأطراف، ولا يوجد ذلك بين الرجل والمرأة لعدم التساوي في البدل. وهذا لا يعم المعلول؛ لأن العبدين لا يجري بينهما عنده، وإن تساويا في البدل (3).
الثالث والعشرون: أن تكون إحداهما من باب الأوْلى فيجب تقديمها.
الرابع والعشرون: أن تكون إحداهما متعدية إلى فرع مختلف فيه، والأخرى غير متعدية، فتكون المتعدية أوْلى، ولهذا تركنا علة الأثمان في الربا؛ لأنها لا تنعقد (4).
__________
(1) يعني: قول الحنابلة في جريان القصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف.
انظر: التمهيد (4/245) والروض المربع (3/272).
(2) يشير إلى قول الحنفية في هذه المسألة.
انظر: تحفة الفقهاء (3/104).
في الأصل: (البذل) بالذال المعجمة، وقد عبر في المسوَّدة ص (385) بالقيمة.
هكذا في الأصل، ولعل الصواب: (لا تتعدى).

(5/1533)


الخامس والعشرون: أن يكون أصل إحداهما ما يعارضها، وهو القلب.
فأما كون إحداهما أعم من الأخرى فلا تكون أوْلى.
وحكي عن بعض الشافعية أن الأعم أولى (1).
ولهذا قالوا: العلة الطعم؛ لأنها أعم من الكيل، فإنها تجري فيما لا يكال.
دليلنا:
أن أحد العمومين إذا اشتمل على مسميات أكثر من المسميات التي اشتمل عليها العموم الآخر، لم يكن أكثرهما عددا في المسميات أوْلى بالاستعمال من أقلهما(2) عدداً، كذلك هاهنا.
يبين صحة هذا: أنه ليس في كون إحداهما (3) أكثر من كون فروعها أكثر، وهذا لا يوجب ترجيحها، كما لم يوجب ذلك في العمومين.
على أنهم قد ناقضوا في ذلك، فإنهم لم يجعلوا العلة في تحريم التفاضل في الذهب: الوزن، مع كونها أعم من الأثمان.
وهذه الترجيحات قد كانت تستعمل في المناظرات، وقد عدل عنها في هذا الزمان إلى معانٍ وتأثيرات، وهو أوْلى؛ لأنه طريق الفقه واستخراج الأمارات الظاهرة المغلبة على الظن المميزة بين الصحيح منها وبين الفاسد.
فإذا ثبت ما ذكرنا، فإن من عجز عن ترجيح دليله على ما عارضه خصمه به، أو إفساده بما يفسده فإنه منقطع.
__________
(1) انظر: البرهان لإِمام الحرمين (2/1291).
(2) في الأصل: (أقلها).
(3) في الأصل: (أحدهما).

(5/1534)


[معنى الانقطاع]
والانقطاع في المناظرة (1) هو: العَجْز عن بلوغ الغرض المطلوب بالمناظرة (2). وذلك مأخوذ من قولهم: انقطع في السفر: إذا عجِز عن السير وبلوغ الغاية المقصودة به (3).
[انقطاع المسؤول]
وانقطاع المسؤول بسبعة أشياء:
أحدها: العجز عن بيان المذهب.
والثاني: العجز عن بيان الدليل.
والثالث: العجز عن الانفصال عن المعارضة.
والرابع: بجحده مذهبَه.
والخامس: بجحده ما ثبت بإجماع أو نص.
والسادس: بالانتقال.
والسابع: بتخليط كلامه بما لا يُفهم.
__________
(1) راجع هذا الموضوع في: التمهيد (4/249) والواضح (2/692) والجدل ص (71) وشرح الكوكب المنير (4/378) والفقيه والمتفقه (2/57) والكافية في الجدل ص (551).
(2) وعرفه الباجي في كتابه الحدود ص (79) بقوله: (عجز أحد المتناظرين عن تصحيح قوله).
(3) قال ابن فارس في معجمه (5/101): (قَطَع، القاف والطاء والعين أصل صحيح واحد، يدل على صرم وإبانة شىء من شىء).
وفي القاموس (3/70).. (... وقطِع بزيد كعني فهو مقطوع به عجز عن سفره بأي سبب كان، أو حيل بينه وبين ما يؤمله).

(5/1535)


[انقطاع السائل]
وانقطاع السائل بثمانية أشياء.
[الأول]: بالعجز عن بيان السؤال.
والثاني: بالعجز عن المطالبة [237/أ] بالدليل.
والثالث: بالعجز عن المطالبة بتقرير الدليل.
والرابع: بالعجز عن المعارضة.
والخامس: بالعجز عن المنع من الترجيح.
والسادس: بالانتقال عما شرَع فيه قبل إتمامه.
والسابع: بجحد ما ثبت بنص أو إجماع.
والثامن: بتخليط كلامه على وجه لا يُفهم (1).
مسألة
لا يجوز أن يعتدل قياسان على أصل واحد مع كون أحدهما موجباً للحظر وكون الآخر موجباً للإِباحة (2)، ولابد من وجود المزية في أحدهما. وقد
__________
(1) ويضيف أبو الخطاب في كتابه التمهيد (4/250) أشياء تدل على الانقطاع، يشترك فيها السائل والمسؤول وهي جديرة بالذكر، وهي:
1- أن يسكت سكوت حيرة، من غير عذر.
2- أن يتشاغل بذكر حديث أو شعر أو نحوهما.
3- أن يغضب في غير موضع الغضب.
4- أن يقوم في غير موضع القيام.
5- أن يسفِّه خصمه.
على أن أبا الخطاب قسَّم ما يدل على الانقطاع ثلاثة أقسام، قسم يختص بالسائل وقسم يختص بالمسؤول، وقسم مشترك بينهما.
(2) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/349) وروضة الناظر (2/463) والمسوَّدة ص (446) وشرح الكوكب المنير (4/608).

(5/1536)


تظهر تلك المزية وقد تخفى.
فإذا خفيت وجب أن يجتهد في طلب ترجيح أحدهما والوقْف إلى أن يتبين ذلك.
وكذلك الأخبار، لا يجوز أن يرد خبران متعارضان من جميع الوجوه، ليس مع أحدهما ترجيح يُقدَّم به.
وقد قال أبو بكر الخلاَّل في كتاب العلم: "لم أجد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً متضاداً إلا وله وجهان، أحدهما إسناد جيد، والآخر إسناد ضعيف".
وإلى هذا ذهب الكرخي من أصحاب أبي حنيفة (1) وأبي سفيان.
وحكاه الإسفراييني عن أصحابه أيضاً (2).
وذهب الرازي إلى جواز ذلك وقال: إذا اعتدل قياسان في نفس المجتهد، وأحدهما يوجب الحظر والآخر يوجب الإباحة، فإن المجتهد يكون مخيراً في أن يحكم بأيهما شاء (3).
وبه قال قوم من المتكلمين (4).
وإليه ذهب الجرجاني أيضاً (5)، وحَكى قول الكرخي وقال:
هذا خلاف ما قاله أبو حنيفة في سؤر الحمار: إن دليل الحظر والإِباحة
__________
(1) انظر في هذا: مسلّم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت (2/189).
(2) انظر في مذهب الشافعية: التبصرة ص (510) والمحصول (5/506) والإحكام للآمدى (4/197) طبعة مؤسسة النور بالرياض.
(3) انظر كتابه الفصول ص (169) من الطبعة الباكستانية.
(4) كالقاضي أبي بكر والجبَّائي وابنه والآمدي.
انظر: المعتمد (2/853) والاحكام لللآمدي (4/197) طبعة مؤسسة النور بالرياض.
(5) انظر رأيه في التمهيد (4/349) والمسوَّدة ص (446).

(5/1537)


تساويا، فتوقَفَ فيه (1).
دليلنا:
اتفاقهم على أن الحكم في الحادثة يتبع كونها ببعض الأصول أشبه منها بغيره.
وإذا كان كذلك لم يجز أن تكون الحادثة بكل واحد من الأصلين أشبه منها بالآخر.
فلم (2) يجز أن يعتدل قياسان، ولابدَّ من وجود الرجحان في أحدهما.
ولأن كل واحد من القياسين لو انفرد لم يوجب التخيير، كذلك إذا اجتمعا؛ لأن التخيير معنى زائد، فلا يجوز إثباته إلا بدلالة.
وإذا سقط اعتبار التخيير لم يجز للمجتهد أن يقيس الفرع عليهما، ويلزمه أن يجتهد في طلب ترجيح أحدهما، والوقف إلى أن يتبين ذلك.
كما لو لم يعرف في الابتداء أصلاً يقيس الفرع عليه لزمه التوقف.
ولأن هذا يوجب تكافؤ الأدلة وتعارضها، وهذا خلاف موضوع الشريعة.
واحتج المخالف:
بأنه لا يستحيل في العقل تكافؤ (237/ب) جهات القياس بدلالة أنه قد يصح أن تتساوى جهات القبلة عند الخطأ.
__________
(1) سؤر الحمار مشكوك فيه في ظاهر الروايهَ عند الحنفية.
وروى الكرخي: أنه نجس.
قال السمرقندي في تحفته (1/54) : (والسؤر المشكوك فيه لا يجوز التوضؤ به إن وجد ماء مطلقاً، وإن توضأ به جاز مع الكراهة، وإن لم يجد يتوضأ به ويتيمم؛ لأن أحدهما مطهر بيقين، وأيهما قدم أو أخر، جاز عندنا.
وعند زُفَر: لا يجوز، ما لم يقدم الوضوء على التيمم حتى يصير عادماً للماء).
وانظر تفصيل هذا في حاشية ابن عابدين (1/226).
(2) في الأصل: (لم).

(5/1538)


وإذا كان ذلك جائزاً وجب أن يكون المجتهد بالخيار في حمل الفروع على أي الأصلين شاء كالمكفِّر عن يمينه، لما استوت الأشياء الثلاثة في جواز التكفير، فبأيها شاء كان له أن يكفِّر بما شاء منها.
والجواب: أن [هناك] فرقاً بين القبلة وبين مسألتنا، وذلك أنه لا يجوز للمجتهد أن يعدل عن حمل الحادثة على الأصل الذي هي أشبه به منها بغيره على وجه من الوجوه، ويجوز ذلك في جهات القبلة عند المسايَفَة (1) والراحلة.
وأما الأشياء الثلاثة في كفارة اليمين، فإنما كان المكفر مخيراً فيها؛ لأن كلاً منها منصوص عليه على طريق التخيير، وليس بينها (2) تضاد.
ألا ترى أنه يجوز ورود العبادة بوجوب التكفير بهما جميعاً، ولا يجوز ورود التعبد باعتبار الحظر والإباحة في الشىء الواحد على المكلف الواحد.
واحتج: بأن القياس طريق إلى إثبات الحكم كالنص، فلما جاز ورود النص بحكمين مختلفين، كذلك القياس.
والجواب: أنه لا يجوز أن يرد النص بحكمين متضادين في الشىء الواحد في الوقت الواحد على المكلف الواحد، كما قلنا في القياس فلا فرق بينهما.
__________
(1) في الأصل: (المسابقة) بالقاف، وهو خطأ، والمراد المسايفة بالفاء كما أثبتناه.
والمسايفة: المجالدة بالسيوف.
(2) في الأصل: (بينهما).

(5/1539)