الغيث الهامع شرح جمع الجوامع

تعريف الفقه
ص: والفقه: العلم بالأحكام الشرعية العملية، المكتسب من أدلتها التفصيلية.
ش: هذا حد الفقه من جهة الاصطلاح، فـ (العلم) جنس، وقال الشيخ تقي الدين: لو عبر بالمعرفة لكان أحسن، فإن العلم يطلق بمعنى حصول المعنى في الذهن، ويطلق على أخص من ذلك، وهو الاعتقاد الجازم المطابق

(1/26)


لموجب، ولهذا جاء سؤال الفقه من باب الظنون.
وأجاب المصنف عن هذا بأن المراد بالعلم هنا الصناعة، كقولك: علم النحو أي صناعته، فيندرج فيه الظن أيضاً، ولا يرد السؤال، لكن جوابهم عن ذلك السؤال يدل على أن مرادهم بالعلم اليقين.
وخرج بقوله: (بالأحكام) العلم بالذوات والصفات والأفعال، والمراد (بالحكم) نسبة أمر إلى آخر، بالإيجاب/ أو السلب.
وخرج بقوله: (الشرعية) العقلية واللغوية، والمراد بالشرعية المتوقفة على الشرع.
وخرج بقوله: (العملية) العلمية، كأصول الدين.
قاله القرافي ...............

(1/27)


وساعده الباجي، وخالفه السبكي فقال: أصول الدين منه ما ثبت بالعقل وحده، كوجود الباري، ومنه ما ثبت بالعقل والسمع كالوحدانية، وما ثبت بالسمع وحده ككثير من أحوال يوم القيامة، فخرج ما ثبت بالعقل بقولنا: (الشرعية) وأما المتوقف على السمع، فقد يقال بدخوله في حد الشرعية، وفي (المحصول): أن الاحتراز بالعملية عن كون الإجماع حجة، والقياس حجة، فإنه ليس علماً بكيفية عمل، واستشكله ابن دقيق العيد، لأن جميع هذه القواعد التي ذكر أنه يحترز عنها، فإنما الغاية المطلوبة منها العمل.
وقوله: (المكتسب) مرفوع صفة للعلم، وخرج به علم الله تعالى، وما يلقيه في قلوب الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام: (3أ/د) من الأحكام.
وخرج بقوله: (من أدلتها التفصيلية) اعتقاد المقلد، كما قال الإمام وغيره، فإنه مكتسب من دليل إجمالي، وهو أنه أفتاه به المجتهد، وكل ما أفتاه به فهو حكم الله في حقه، لكن الحق أن اعتقاد المقلد لم يدخل في الحد حتى يحتاج إلى إخراجه فإنه ليس علماً كما صرح به في (المحصول) وجعله قسيماً للعلم، فلذلك قال المصنف: الأولى/ (3ب/م) أن يخرج به علم الخلاف، لأن الجدلي، لا يقصد صورة بعينها، وإنما يضرب الصورة مثالاً لقاعدة

(1/28)


كلية، فيقع علمه مستفاداً من الدليل الإجمالي، لا من التفصيلي.
وقال الشارح: الظاهر أن ذكرها ليس للاحتراز عن شيء فإن اكتساب الأحكام لا يكون من غير أدلتها التفصيلية، وإنما ذكر للدلالة على المكتسب منه بالمطابقة، فالصواب عدم وصفها بالتفصيلية، لئلا يوهم أنه قيد زائد.
قلت: لا يقال في الموهم: إنه غير الصواب، وقد علم أنه لبيان الواقع، والله أعلم.

تعريف الحكم
ص: والحكم: خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف،
ش: لما ذكر الحكم في تعريف الفقه، أخذ في تعريفه، فالخطاب جنس والمراد المخاطب به، من إطلاق المصدر على اسم المفعول، وهو: ما يقصد به إفهام من هو متهيئ للفهم، وبإضافته إلى الله تعالى خرج خطاب الملائكة والإنس والجن.
وقوله: (المتعلق) أي: الذي من شأنه أن يتعلق، فهو مجاز من تسمية الشيء، بما يؤول إليه.
والمراد بفعل المكلف، الصادر منه، ليشمل القول والنية، و (المكلف) هو البالغ العاقل، ومن هنا يعلم أن الصبي لا يتعلق بفعله حكم.
وأما قول الفقهاء: إنه يثاب، ويندب له، فهو عند الأصوليين تجوز، قاله المصنف، وسبقه إليه الهندي، قال: والمعني بتعلق الضمان بإتلاف

(1/29)


الصبي أمر الولي بإخراجه من ماله.
والمراد بالمكلف الجنس، وعبر المصنف بالإفراد ليتناول الأحكام المتعلقة بفعل مكلف واحد، كالخصائص، وإجزاء العتاق عن أبي بردة بن نيار.
وخرج بالمتعلق بفعل المكلف أربعة أمور: ما تعلق بذاته تعالى، نحو: {الله لا إله إلا هو} وبفعله نحو: {خالق كل شيء}، وبالجمادات نحو: {ويوم نسير الجبال} وبذوات المكلفين نحو: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم}.
وقوله (من حيث إنه مكلف) يخرج ما تعلق بفعل المكلف، لا من حيث تكليفه، كخبر الله تعالى عن أفعال المكلفين، نحو: {والله خلقكم وما تعملون} وقوله عليه الصلاة والسلام: ((صلة الرحم تزيد في العمر)) واكتفى المصنف بذلك عن قول غيره بالاقتضاء أو التخيير، واختار والده أن يقال: (على وجه الإنشاء ليدخل فيه خطاب الوضع، ولا يرد عليه ما

(1/30)


أوردته المعتزلة من الترديد، وهو عندي/ (4أ/ م) أحسن من تعبير المصنف، لأن اعتبار التكليف يخرج ما لا تكليف فيه، كالإباحة وهي أحد أقسام الحكم، وهي مندرجة في الإنشاء.
وقد أورد على المصنف: أنه كان ينبغي/ (3ب/ د) أن يزيد: (به) فيقول: (من حيث إنه مكلف به).
وأجاب عنه: بأنه لو قال: به، لاقتضى أن المكلف لا يخاطب إلا بما هو مكلف به، وليس كذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بما كلف به الأمة بمعنى تبليغهم وكذا جميع المكلفين بفرض الكفاية، وإن كان المكلف به بعضهم، لا الكل على المختار، انتهى.
وهو عجيب، فإنه عليه الصلاة والسلام مخاطب بما كلف به الأمة على سبيل التبليغ لا على سبيل الفعل، فالذي كلف به غير الذي كلفوا به، ولا يمكن القول بأن الإنسان يكلف بفعل غيره.
وكلامه في فرض الكفاية متناقض، كيف يقول أولاً: إن الخطاب للجميع، ثم يقول (إن المكلف البعض) هذا لم يقل به أحد، والخلاف في أن فرض الكفاية يتعلق بالجميع أو بالبعض مشهور.
ص: ومن ثم لا حكم إلا لله.
ش: هذا فرع لما سبق، أي: لأجل أن الحكم خطاب الله، فحيث لا

(1/31)


خطاب لا حكم، لم يكن الحكم إلا لله تعالى، خلافاً للمعتزلة في دعواهم أن العقل يدرك الحكم بالحسن والقبح، فهو عندهم طريق إلى العلم بالحكم الشرعي، فهم لم يجعلوا لغير الله حكماً، بل قالوا: إنه يمكن إدراك حكمه بالعقل من غير ورود سمع، وعبارة المصنف توهم خلاف ذلك، و (ثم) هنا للمكان المجازي.