الغيث الهامع شرح جمع الجوامع

ص: المطلق والمقيد
المطلق: الدال على الماهية بلا قيد، وزعم الآمدي وابن الحاجب دلالته على الوحدة الشائعة توهماه النكرة، ومن ثم قالا: الأمر بمطلق الماهية أمر بجزئي وليس بشيء وقيل بكل جزئي وقيل: إذن فيه.
ش: لما كان معنى المطلق والمقيد قريبا من معنى العام والخاص ذكرهما في ذيل مسائلهما، وعرف المطلق بأنه الدال على الماهية بلا قيد، أي: من غير اعتبار عارض من عوارضهما كقولنا الرجل خير من المرأة.
وقولنا: (بلا قيد) مخرج للمعرفة والنكرة، لأن الأول يدل عليها مع وحدة معينة كزيد، والثانية/ (79أ/د) مع وحدة غير معينة/ (97/أ/م) كرجل، وهذا صريح في الفرق بين المطلق والنكرة.
وذهب الآمدي وابن الحاجب إلى أنهما بمعنى واحد، فقال الآمدي: المطلق النكرة في سياق الإثبات، وقال ابن الحاجب: ما دل على شائع في جنسه فقوله: شائع، أي لا يكون متعينا، بحيث يمتنع صدقه على كثيرين، وقوله: (في جنسه) أي له أفراد تماثله، فيدخل فيه الدال على الماهية من حيث هي، والدال على واحد غير معين وهي النكرة.
قال الشارح: وقول المصنف: (توهماه النكرة) ممنوع، بل تحققاه

(1/341)


وما صنعاه خير مما صنعه المصنف، فإن مفهوم الماهية بلا قيد، ومفهومها مع قيد الوحدة، لا يخفى تغايرهما على أحد، ولكن لم يفرق الأصوليون بينهما لعدم الفرق بينهما في تعليق التكليف، فإن التكليف لا يتعلق إلا بالموجود في الخارج، والمطلق الموجود في الخارج واحد غير معين في الخارج، لأن المطلق لا يوجد في الخارج إلا في ضمن الآحاد، ووجوده في ضمنه هو صيرورته عينه/ بانضمام مشخصاته إليه، فيكون المطلق الموجود واحدا غير معين، وذلك هو مفهوم النكرة، والأصولي إنما يتكلم فيما يقع به التكليف، وأما الاعتبارات العقلية كما فعله المصنف فلا تكليف بها، إذ لا وجود لها في الخارج، لأن المكلف به يجب إيقاعه والإتيان بما لا يقبل الوجود في الخارج لا يمكن، فلا يكلف به ثم زاد ذلك بسطا.
وقوله: (ومن ثم) أي ولأجل هذا التأصيل، قال الآمدي، وابن الحاجب: إن الأمر بمطلق الماهية أمر بجزئي من جزئيات الماهية لا بالكلي المشترك، فإذا قيل اضرب من غير تعيين فالمطلوب الفعل الجزئي الممكن المطابق للماهية الكلية المشتركة، لا أن الماهية هي المطلوبة لأن الماهية الكلية يستحيل وجودها في الأعيان فلا تطلب.
وقال المصنف: إنه ليس بشيء، لأنا نفرق بين الماهية بشرط شيء وبشرط لا شيء ولا بشرط شيء وإذا فرقت بينهما علمت أن المطلوب الماهية من حيث هي لا بقيد الجزئية ولا الكلية، وهو غير مستحيل، بل موجود في الجزئيات وذهب الإمام فخر الدين إلى أنه أمر بالماهية المشتركة بين الأفراد لا بجزئي معين، وحكاه أبو المناقب الزنجاني عن مذهب الشافعي، وإليه أشار

(1/342)


بقوله: (وقيل بكل جزئي) ووجه بناء هذه المسألة على هذا الأصل أن من قال: الأمر بمطلق الماهية أمر بواحد من جزئياتها – فالمطلق عنده عبارة عن جزئي ممكن مطابق للماهية لا عين الماهية، ومن قال: إنه أمر بالماهية من حيث هي فالمطلق عنده عبارة عن الماهية من حيث هي.
وقوله: (وقيل إذن فيه) أشار به إلى بحث/ (79ب/د) الصفي الهندي حيث قال: ويمكن أن الأمر بالماهية الكلية وإن لم يقتض الأمر بجزئياتها لكن يقتضي تخيير المكلف في الإتيان بكل واحد من تلك الجزئيات بدلا عن الآخر عند عدم القرينة المعينة لواحد منهما والتخيير بينهما يقتضي جواز فعل كل منها وهو الذي أشار المصنف إليه بالإذن، والله أعلم.
ص: مسألة: المطلق والمقيد كالعام والخاص، وزيادة أنهما إن اتحد حكمهما وموجبهما وكانا مثبتين وتأخر المقيد عن وقت العمل بالمطلق فهو ناسخ، وإلا حمل المطلق عليه، وقيل: المقيد ناسخ إن تأخر، وقيل: يحمل المقيد على المطلق وإن كانا منفيين فقائل المفهوم يقيده به، وهي خاص وعام، وإن كان أحدهما أمرا والآخر نهيا فالمطلق مقيد بضد الصفة، وإن اختلف السبب فقال أبو حنيفة: لا يحمل وقيل: يحمل لفظا، وقال الشافعي: قياسا، وإن اتحد الموجب واختلف حكمهما فعلى الخلاف.
ش: المطلق والمقيد كالعام والخاص في جريان الأحكام المتقدمة هناك اتفاقا واختلافا ويزيد هنا الكلام في تعارض المطلق والمقيد وله أحوال:
أحدها: أن يتحد حكمهما وموجبهما – بكسر الجيم، أي: سببهما – ويكونا مثبتين كتقييد الرقبة في كفارة القتل في موضع وإطلاقها في موضع آخر، فإن تأخر المقيد عن وقت العمل بالمطلق فهو ناسخ وإن تقدم عليه أو تأخر

(1/343)


عنه لا عن وقت العمل ففيه مذاهب:
أصحها: حمل المطلق عليه جمعا بين الدليلين، ويكون المقيد بيانا للمطلق أي بين أنه المراد منه، وقد حكى الآمدي وغيره الاتفاق على هذا لكن/ (98أ/م) الخلاف فيه موجود عند الحنفية كما حكاه ابن السمعاني في (القواطع) والمالكية كما حكاه الطرطوشي.
الثاني: كالذي قبله في الأخذ بالمقيد، لكن لا يجعل بيانا للمطلق إن تأخر عنه بل هو ناسخ له.
الثالث:/ (80أ/د) أنه يحمل المقيد على المطلق، فيبقى المطلق على إطلاقه ويكون المقيد ذكر فرد من أفراد الماهية.
الحالة الثانية: كالتي قبلها في اتحاد الحكم والسبب، لكنهما منفيان نحو: لا تعتق مكاتبا، ولا تعتق مكاتبا كافرا، فالقائل، بأن المفهوم حجة يقيد قوله: (لا تعتق/مكاتبا) بمفهوم قوله: (لا تعتق مكاتبا كافرا) فيجوز إعتاق المكاتب المسلم، وبهذا صرح الإمام فخر الدين في (المنتخب) وهو مقتضى كلام (المحصول) ومن لا يقول بالمفهوم يعمل بالإطلاق، ويمنع إعتاق المكاتب مطلقا، وبهذا قال الآمدي وابن الحاجب، وهذا من باب الخاص والعام لكونه نكرة في سياق النهي، فإن الأفعال في معنى النكرات وليس من باب المطلق والمقيد كما توهمه ابن الحاجب.

(1/344)


وقال الشيخ تقي الدين في (شرح العمدة) في قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول)) هذا يقتضي تقييد النهي بحالة البول وفي رواية أخرى النهي عن مسه باليمين من غير تقييد فمن الناس من أخذ بهذا المطلق – وقد يسبق إلى الفهم أن العام محمول على الخاص – فيخص النهي بهذه الحالة، وفيه بحث لأن هذا يتجه في باب الأمر والإثبات، فإنه لو جعلنا الحكم للمطلق والعام في صورة الإطلاق أو العموم كان فيه إخلال باللفظ الدال على طلب القيد وقد تناوله الأمر، وذلك غير، جائز وأما في باب النهي فإنا إذا جعلنا الحكم للمقيد أخللنا بمقتضى اللفظ المطلق مع تناول النهي له، وذلك غير سائغ، وهذا كله بعد النظر في تقديم المفهوم على ظاهر العموم. انتهى.
قلت: وقد يقال في هذا الحديث: إنه من مفهوم الموافقة لأنه إذا نهى عن إمساكه حالة البول من الاحتياج لذلك ففي غير هذه الحالة مع عدم الاحتياج لإمساكه أولى بالنهي، وقد يقال: لا مفهوم له أصلا لأنه خرج مخرج الغالب، والله أعلم/ (98/ب/م).
الحالة الثالثة: كالتي قبلها أيضا لكن أحدهما أمر، والآخر نهي، كأن يقول: أعتق رقبة، ويقول: لا تملك رقبة كافرة، فلا يعتق كافرة لاستحالة ذلك لعدم ملكها، وتقييد المطلق بضد الصفة التي هي الكفر، وهو الإيمان، وليس من حمل المطلق على المقيد، وقد ذكر هذه الصورة الآمدي وابن الحاجب.
الحالة الرابعة: أن يختلف السبب ويتحد الحكم كإطلاق الرقبة في كفارة

(1/345)


الظهار وتقييدها بالإيمان في القتل ففيه مذاهب:
أحدها: وبه قال أبو حنيفة: أنه لا يحمل عليه أصلا.
الثاني: أنه يحمل عليه، من جهة اللفظ، وحكي عن جمهور أصحابنا وقال الماوردي/ (80ب/د) والروياني وسليم الرازي: إنه ظاهر مذهب الشافعي.
الثالث: أنه يحمل عليه من جهة القياس إن اقتضى ذلك بأن يشتركا في المعنى، وعزاه المصنف تبعا للآمدي للشافعي.
قال الشارح: وأصحابه أعرف بمذهبه، وصحح هذا الثالث الإمام والآمدي وغيرهما.
وقال الشارح: تخصيص الحمل بالقياس تبع فيه ابن الحاجب مع أن القائل بأنه لا يحمل بنفس اللفظ يقول: لا بد من دليل، إما قياس أو غيره ولا نخصه بالقياس انتهى.
وقال الماوردي: عندي أنه يعتبر أغلظ الحكمين فإن كان حكم المطلق أغلظ حمل على إطلاقه ولم يقيد إلا بدليل.
الحالة الخامسة: أن يختلف الحكم ويتحد السبب كآية الوضوء فإنه قيد فيها غسل اليدين إلى المرفقين، وأطلق في التيمم الأيدي، وسببهما واحد، وهو الحدث، ففيها الخلاف، أي في الحالة التي قبلها كما ذكره أبو الوليد الباجي وأبو بكر بن العربي، وحكى القرافي عن أكثر الشافعية حمل المطلق

(1/346)


هنا على القيد، لكن قال ابن الحاجب: إن اختلف حكمهما مثل اكس ثوبا، وأطعم طعاما نفيسا، فلا يحمل أحدهما على الآخر بوجه اتفاقا، أي سواء اتحد السبب أو اختلف.
قال المصنف: وأومأ غيره إلى المخالفة، فقال: ينبغي أن يكون الثوب نفيسا كالطعام.
ص: والمقيد بمتنافيين يستغنى عنهما إن لم يكن أولى بأحدهما من الآخر قياسا.
ش: محل حمل المطلق على المقيد إذا لم يكن هناك قيدان متنافيان/ (99أ/م) فمتى كان كذلك استغنى عن القيدين وسقطا وتمسكنا بالإطلاق هذا إذا قلنا بالحمل من جهة اللفظ، فإن قلنا به من جهة/القياس حمل على ما حمله عليه أولى، فإن لم يكن قياسا رجع إلى أصل الإطلاق، وقد جعل القرافي من هذا الترتيب في غسل ولوغ الكلب عند القائل به، فإنه ورد مطلقا في قوله: (إحداهن بالتراب) وتعارض فيه قيدان:
أحدهما: (أولاهن) والآخر: (السابعة) والحق التخيير بين الغسلتين وأن القيد كونه في أحدهما لا بعينها بدليل قوله في رواية أخرى (أولاهن) أو (أخراهن بالتراب) وهو ظاهر نص الشافعي فليس هذا من تنافي القيدين بل من التخيير، والله أعلم.

(1/347)