الغيث الهامع شرح جمع الجوامع ص: الظاهر
والمؤول
الظاهر ما دل دلالة ظنية: والتأويل حمل الظاهر على المحتمل
المرجوح، فإن حمل لدليل فصحيح، أو لما يظن دليلا ففاسد، أو لا
لشيء فلعب، لا تأويل ومن البعيد تأويل أمسك على ابتدئ وستين
مسكينا على ستين مدا/ (81أ/د) و ((أيما امرأة نكحت نفسها)) على
الصغيرة والأمة والمكاتبة و ((لا صيام لمن لم يبيت)) على
القضاء والنذر، و ((ذكاة الجنين ذكاة أمه)) على التشبيه و
{إنما الصدقات} على بيان المصرف و (من ملك ذا رحم) على الأصول
والفروع، (والسارق يسرق البيضة) على الحديد (وبلال يشفع
الأذان) على أن يجعله شفعا لأذان ابن أم مكتوم.
ش: الظاهر في الاصطلاح ما دل على معنى دلالة ظنية.
وخرج بالظنية القطعية وهي دلالة النص.
قال الشارح: وهذا التعريف أعم مما ذكره المصنف في باب المنطوق
والمفهوم، حيث قال: (ظاهر إن احتمل مرجوحا كالأسد) فإن المراد
هنا ما يفيد معنى سواء أفاد معه معنى آخر إفادة مرجوحة أو لم
يفده.
قلت: لو لم يدل على معنى آخر دلالة مرجوحة لكان نصا، فإنه إذا
لم يحتمل معنى آخر كانت دلالته قطعية فلا تفاوت بين التعبيرين،
والله أعلم.
وأما التأويل فإنه حمل الظاهر على المحتمل المرجوح أي يكون
للفظ دلالتان راجحة ومرجوحة، فيحمل على المرجوحة، وهذا يشمل
الصحيح والفاسد، فإن كان ذلك الحمل لدليل صيره راجحا فهو صحيح،
وإن كان لما يظن دليلا وليس بدليل فهو فاسد، أو لا لشيء فهذا
لعب/ (99ب/م) غير معتد به، لأنه
(1/348)
إنما سمي مؤولا لأنه يؤول إلى الظهور عند
قيام الدليل عليه، فإذا لم يكن دليل قائم ولا مظنون فلا تأويل،
ثم ذكر المصنف صورا من التأويلات البعيدة:
أحدها: تأويل الحنفية قوله عليه الصلاة والسلام لغيلان بن سلمة
لما أسلم على عشرة نسوة: ((أمسك أربعا وفارق سائرهن)) على أن
معنى الإمساك ابتداء نكاح أربع منهن، وإنما كان بعيدا لأنه لم
ينقل عنه ولا عن غيره تجديد نكاح مع كثرة إسلام الكفار
المتزوجين.
الثانية: تأويلهم أيضا قوله تعالى: {فإطعام ستين مسكينا} على
أن المراد إطعام طعام ستين مسكينا وهو ستون مدا، فيجزي عندهم
ذلك ولو أعطاه لمسكين واحد، فيلزم على تقديرهم، الذي لا دليل
عليه، إلغاء المنصوص عليه وهو ستون مسكينا، ولا يجوز أن يستنبط
من النص معنى يبطله، ولا يقال حاجة واحد في ستين يوما مثل حاجة
ستين في يوم واحد، لأنه يفوت منه دعاء الجمع الكثير وهو أقرب
إلى الإجابة.
الثالثة: حملهم أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: ((أيما امرأة
نكحت نفسها فنكاحها باطل)) على الصغيرة والأمة والمكاتبة، ووجه
بعده في الصغيرة أنها لا تسمى في/ (81ب/د) العرف امرأة، مع أنه
عندهم صحيح، موقوف على إجازة الولي، وفي الأمة أنه قال في بقية
الحديث ((فإن دخل بها فلها المهر)) ومهر
(1/349)
الأمة ليس لها، وإنما هو لسيدها، وفي
المكاتبة أنها صورة نادرة قليلة الوقوع، فحمل اللفظ العام
المؤكد عليها بعيد.
الرابعة: حملهم أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا صيام لمن
لم يبيت الصيام من الليل)) على القضاء والنذر، فإن صوم الفرض
يصح عندهم بنية من النهار، فحملوا صيغة العموم على النادر.
الخامسة: حملهم أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: ((ذكاة الجنين
ذكاة
(1/350)
أمه)) على أنه يذكى كما تذكى أمه، فرووا
الحديث بالنصب وقرروا دلالته على مدعاهم/بوجهين:
أحدهما: أن التقدير كذكاة أمه، حذفت الكاف فانتصب.
ثانيهما: أنه أعمل فيه الذكاة الأولى لأنها مصدر فكأنه قال:
ذكاة الجنين ذكاة مثل ذكاة أمه، والخبر محذوف أي واجبة.
وقال أصحابنا: إن النصب غلط، والمحفوظ في الرواية الرفع
وقوله:/ (100أ/م) (ذكاة الجنين) خبر مقدم، وقوله (ذكاة أمه)
مبتدأ مؤخر، أي: إن ذكاة أم الجنين ذكاة له، لا يحتاج مع
تذكيتها إلى تذكيته، أي: إذا لم يدرك ذكاته، وادعى الحنفية أن
رواية الرفع تشهد لهم أيضا لأن تقديرها: مثل ذكاة أمه، وهو
بعيد، لأن الجنين ما دام في البطن، لا يمكن تذكيته، فإذا خرج
واستقل وأمكنت تذكيته صار كبقية الحيوانات في التذكية فلا مزية
للجنين على غيره في ذلك حتى يخص بالذكر، ويدل لما قلناه رواية
البيهقي: ((ذكاة الجنين في ذكاة أمه)) وفي رواية: (بذكاة).
السادسة: حمل المالكية قوله تعالى {إنما الصدقات للفقراء}
الآية على أن المراد بيان المصرف، فجوزوا إعطاء صنف واحد وفي
ذلك حرمان للباقين، وقد ملكهم الله تعالى بلام التملك وشركهم
بواو التشريك.
السابعة: حمل بعض الشافعية قوله عليه الصلاة والسلام: ((من ملك
ذا رحم محرم عتق عليه)) على الأصول والفروع دون بقية الأرحام
المحارم
(1/351)
لاختصاص العتق عندهم بالأصول والفروع وهو
بعيد، لأن للأب والابن اسما يعرف به، هو أبلغ في تعريفه
فالعدول عنه إلى لفظ عام لا معنى له إلا شمول الحكم لجميع ما
دل عليه اللفظ، والمعتمد عند أصحابنا في الجواب عن ذلك ضعف
الحديث، فقد قال الترمذي: لا يتابع راويه عليه، وهو خطأ عند
أهل الحديث، وقال النسائي: إنه حديث منكر.
الثامنة: حمل بعضهم قوله عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله
السارق/ (82/أ/د) يسرق البيضة)) على بيضة الحديد، وهي الخوذة
دون بيضة الدجاجة ونحوها، حكاه ابن قتيبة عن يحيي بن أكثم،
وقال: هو باطل، وليس هذا موضع تكثير لما يأخذه السارق إنما هو
موضع تقليل وكأنه أورد على ظاهر الآية، ثم أعلم بعد أن القطع
إنما يكون في ربع دينار فصاعدا.
قلت: والأحسن الجواب بأنه ينجر به سرقة القليل إلى أن يسرق
نصابا فيقطع، والله أعلم.
التاسعة: حمل بعضهم قوله: أمر بلال أن يشفع الأذان على أن
المراد أن يجعله شفعا لأذان ابن أم مكتوم، وهنا قول بعض السلف:
إن كلمات الأذان مفردة وهو بعيد، لأن بلالا كان أذانه متقدما
على أذان ابن أم مكتوم لقوله عليه الصلاة والسلام ((إن بلالا
يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا
(1/352)
أذان ابن أم مكتوم)) فكيف يكون أذانه شفعا/
(100ب/م) لأذان ابن أم مكتوم، وهو متقدم عليه؟
ص: المجمل ما لم تتضح دلالته فلا إجمال في آية السرقة ولا في
نحو {حرمت عليكم أمهاتكم} {وامسحوا برؤوسكم} ((لا نكاح إلا
بولي)) ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)) ((لا صلاة إلا بفاتحة
الكتاب)) لوضوح دلالة الكل وخالف قوم.
ش: عبر بـ (ما) ليتناول القول والفعل كتركه عليه الصلاة
والسلام التشهد الأول فإنه يحتمل العمد فيكون غير واجب، والسهو
فلا يدل على أنه غير واجب سواء تركه عمدا أو سهوا، فلا إجمال
فيه، واحترز بقوله: لم تتضح دلالته، عن المهمل فإنه لا دلالة
له أصلا، وهذا له دلالة غير واضحة، ثم ذكر صورا ادعى فيها
الإجمال، والأصح خلافه:
الأولى: آية السرقة قال بعض الحنفية: فيها إجمال في القطع،
لأنه يحتمل الشق والإبانة وفي اليد لاحتمالها الجميع إلى
المنكب، وإلى الكوع والأصح خلافه والقطع هو الإبانة وإطلاقه
على الشق لأن فيه إبانة لانفصال بعض أجزاء اللحم عن بعضها،
واليد حقيقة إلى المنكب وإطلاقها هنا إلى الكوع مجاز من إطلاق
الكل على الجزء، دل عليه فعل النبي صلى الله عليه وسلم
والإجماع.
(1/353)
الثانية: لا إجمال أيضا في قوله تعالى:
{حرمت عليكم أمهاتكم} لأن العرف دال على التعميم فيتناول العقد
والوطء، وقد تقدم هذا في قول المصنف: في العموم: (وقد يعم
اللفظ عرفا كالفحوى) {حرمت عليكم أمهاتكم} وحمله الكرخي على
ظاهره وقال: الحكم متعلق بالعين، ومعناه خروجها عن أن يكون/
(82ب/د) محلا شرعا كما أن حرمة الفعل خروج عن الاعتبار شرعا.
الثالثة: قال الحنفية أو بعضهم: قوله تعالى في آية الوضوء:
{وامسحوا برؤوسكم} مجمل لاحتماله مسح الكل والبعض على السواء،
وبينت السنة المراد بمسحه عليه الصلاة والسلام على الناصية:
وقال الجمهور: لا إجمال فيه. ثم قال المالكية: هو حقيقة في مسح
الكل.
وقال الشافعية: إنه حقيقة في القدر المشترك بين الكل والبعض
وهو ما ينطلق عليه الاسم.
الرابعة: مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا نكاح إلا بولي))
وقوله:
(1/354)
((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)) وقوله: ((لا
صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل)) ذهب قوم إلى أنه مجمل ثم
اختلفوا في سبب إجماله على أقوال:
أحدها: أنه ليس المراد نفي الوقوع، فإن وقوعها مشاهد ولم يعلم
المراد منها فكانت مجملة.
ثانيها: أنها مترددة بين نفي الجواز ونفي الكمال.
الثالث: أنها ظاهرة في نفي الوجوب ونفي الحكم فسارت مجملة،
وقال الجمهور: لا إجمال فيها وهو مبني على ثبوت الحقائق
الشرعية وتقديمها على اللغوية واختصاصها بالصحيح، والحقائق
الشرعية الصحيحة منتفية في هذه الصورة لانتفاء جزئها أو شرطها.
الخامسة: قوله عليه الصلاة والسلام: ((رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان)) ذهب البصريان أبو الحسين وأبو عبد الله إلى أنه
مجمل وقال الجمهور: لا إجمال فيه، بل معناه نفي المؤاخذة
والعقاب، لكن هل هو بالعرف أو اللغة؟ جزم ابن الحاجب بالأول
وابن السمعاني بالثاني.
وقال الشارح: نفى المصنف في باب العموم أن يكون هذا عاما حيث
قال: (لا المقتضى) وهنا نفى أن يكون مجملا، وهو في الاضطراب
متابع لابن الحاجب.
قلت: لا اضطراب في ذلك فلا عموم فيه، ولا إجمال وإنما معناه
رفع شيء مخصوص وهو العقاب بدليل اقتضى ذلك، والله أعلم.
وقول المصنف: (خالف قوم) أي في جميع ما تقدم كما أوضحناه.
ص: إنما الإجمال في مثل القرء والنور والجسم ومثل المختار
(1/355)
لتردده بين الفاعل والمفعول وقوله تعالى:
{أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح} {إلا ما يتلى عليكم} {وما
يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به}
وقوله عليه السلام: ((لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة في
جداره)) وقولك: زيد طبيب ماهر الثلاثة زوج وفرد.
ش: ذكر في هذه الجملة أمثلة للمجمل، والإجمال تارة يكون في
المفرد وتارة في/ (83/أ/د) المركب، فالأول قد يكون لوضع اللفظ
لكل منهما كالقرء، فإنه وضع في اللغة للطهر وللحيض، ولهذا جعل
الشافعي العدة بالأطهار وأبو حنيفة بالحيض، وقد يكون لصلاحيته
لمتماثلين كالنور للعقل ونور الشمس وغيرها، والجسم للسماء
والأرض وغيرهما، وقد يكون لصلاحيته للفاعل والمفعول، كالمختار
تقول: اخترت فلانا، فأنا مختار، وهو مختار، قال العسكرى:
ويتميز بحرف الجر فتقول في الفاعل: مختار لكذا،/ (101ب/م) وفي
المفعول: مختار من كذا ثم ذكر للثاني أمثلة:
أحدها: قوله تعالى: {أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح} فإنه
(1/356)
محتمل للزوج والولي، وقد حمله الشافعي على
الأول ومالك على الثاني كذا ذكره ابن الحاجب من المجمل ولا
إجمال فيه عندنا، لقيام الدليل على أن المراد به الزوج، وذلك
مبسوط في موضعه.
ثانيهما: قوله تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى
عليكم} فهو مجمل لكونه دخله استثناء لمجهول، والمجهول إذا أخرج
من المعلوم صار الجميع مجهولا.
ثالثها: قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في
العلم} فإن الواو فيه مترددة بين العطف والقطع ولهذا اختلفوا
في أن الوقف على قوله: {إلا الله} أم لا؟ وقد سبق ذلك، وأن
الأصح أنه لا إجمال فيه.
رابعها: قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يمنع أحدكم جاره أن
يضع خشبة في جداره)) فقد وقع التردد في مرجع الضمير في قوله:
(جداره) هل يعود على صاحب الخشبة، لأنه أقرب مذكور أو على
الجار ويوافق الأول منع الشافعي في الجديد إجبار الجار على وضع
جذوع جاره على جداره.
خامسها: قول القائل: زيد طبيب ماهر، قد ترجع المهارة إلى
الصنعة وهي الطب وإلى الموصوف وهو زيد، فتكون مهارته في غير
الطب.
سادسها: قول القائل: الثلاثة زوج وفرد، متردد من حيث اللفظ بين
أن يكون المراد أن مجموع أجزائه زوج وفرد، وأن يكون المراد أنه
موصوف
(1/357)
بالزوجية والفردية، وإن كان الواقع هو
الأول لصدق اللفظ، ولو حمل على الثاني لكان كذبا، وفي عد هذا
من المجمل نظر لا يخفى.
ص: والأصح وقوعه في الكتاب والسنة.
ش: المخالف في وقوع المجمل في القرآن والسنة داود الظاهري، قال
الصيرفي: لا أعلم قال به غيره، والحجة عليه ما سبق من الآيات
والأحاديث.
ص: وأن المسمى الشرعي أوضح من اللغوي/ (83/ب/د) وقد تقدم فإن
تعذر حقيقة فيرد إليه بتجوز أو مجمل أو يحمل على اللغوي أقوال.
ش: لما كان المسمى الشرعي أوضح من اللغوي قدم عليه، فيحمل
اللفظ على مدلوله الشرعي، إلا أن يقوم دليل على إرادة اللغوي،
وقد تقدم ذلك في فصل الحقيقة والمجاز.
فإن تعذرت الحقيقة الشرعية فهل يرد إليها بتجوز أو يحمل على
الحقيقة اللغوية أو يجعل مجملا؟ فيه أقوال، أصحها/ (102/أ/م)
الأول، ومثاله قوله عليه الصلاة والسلام: ((الطواف بالبيت
صلاة)) فإنه ليست فيه حقيقة الصلاة الشرعية فكان مجازا،
والمراد أن حكمه حكم الصلاة في الطهارة وستر العورة، ويدل لذلك
قوله في بقية الحديث: ((إلا أن الله أحل فيه الكلام)) فدل على
أن المراد كونه صلاة في الحكم إلا ما استثني لا في الحقيقة.
ومن حمله على اللغوي قال: الصلاة هنا بمعنى الدعاء، ومن قال
بالإجمال فللتردد بينهما أي بين المجاز الشرعي والحقيقة
اللغوية.
(1/358)
ص: والمختار أن اللفظ المستعمل لمعنى تارة
ولمعنيين ليس ذلك المعنى أحدهما مجمل فإن كان أحدهما فيعمل به
ويوقف الآخر؟
ش: إذا ورد من الشارع لفظ له استعمالان أحدهما لمعنى واحد،
والثاني لمعنيين ففيه مذهبان:
أحدهما – وهو المختار: أنه مجمل إذا لم تقم قرينة على المراد.
والثاني – واختاره الآمدي: أنه يحمل على ما يفيد معنيين كما لو
دار بين ما يفيد وما لا يفيد، وأطلق الغزالي وغيره المسألة،
وقيدها المصنف بما إذا لم يكن ذلك المعنى المنفرد أحد ذينك
المعنيين، فإن كان أحدهما عمل به قطعا لأنه إن كان هو تمام
المراد باللفظ فلا إشكال، وإلا فهو أحد المرادين ويوقف الآخر
عن العمل به، فإنه محل نظر.
(1/359)
|