الفروق = أنوار البروق في أنواء الفروق [الفرق بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَعْصِيَةِ
الَّتِي هِيَ كَبِيرَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ
وَقَاعِدَةِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِكَبِيرَةٍ
مَانِعَةٍ مِنْ الشَّهَادَةِ]
(الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْفَرْقُ
الثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَعْصِيَةُ
الَّتِي هِيَ كَبِيرَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ
وَقَاعِدَةِ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِكَبِيرَةٍ
مَانِعَةً مِنْ الشَّهَادَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُبَاحِ
الْمُخِلِّ بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالْمُبَاحِ الَّذِي لَا
يُخِلُّ بِقَبُولِهَا) :
اعْلَمْ أَنَّ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ رُكْنَيْنِ: (الرُّكْنُ
الْأَوَّلُ) الْعَدَالَةُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي
بِدَايَتِهِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ
شَهَادَةِ الشَّاهِدِ بِدُونِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَلِقَوْلِهِ
تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْفَاسِقِ لَا تُقْبَلُ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] الْآيَةَ، وَلَمْ
يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْفَاسِقَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا
عُرِفَتْ تَوْبَتُهُ إلَّا مَنْ كَانَ فِسْقُهُ مِنْ قَبْلِ
(4/109)
وَلَمْ يَحْكُمْ الشَّرْعُ بِصِدْقِهِمْ
وَلَا بِكَذِبِهِمْ.
(الْحَادِيَ عَشَرَ) أَخْذُ السُّرَّاقِ الْمُتَّهَمِينَ
بِالتُّهَمِ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ
الْأُمَرَاءُ الْيَوْمَ دُونَ الْإِقْرَارِ الصَّحِيحِ
وَالْبَيِّنَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ الْغَالِبُ مُصَادَفَتُهُ
لِلصَّوَابِ، وَالنَّادِرُ خَطَؤُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ أَلْغَاهُ
الشَّرْعُ صَوْنًا لِلْأَعْرَاضِ وَالْأَطْرَافِ عَنْ
الْقَطْعِ
(الثَّانِيَ عَشَرَ) أَخْذُ الْحَاكِمُ بِقَرَائِنِ
الْأَحْوَالِ مِنْ التَّظَلُّمِ وَكَثْرَةِ الشَّكْوَى
وَالْبُكَاءِ مَعَ كَوْنِ الْخَصْمِ مَشْهُورًا بِالْفَسَادِ
وَالْعِنَادِ الْغَالِبُ مُصَادَفَتُهُ لِلْحَقِّ،
وَالنَّادِرُ خَطَؤُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ مَنَعَهُ الشَّارِعُ
مِنْهُ وَحَرَّمَهُ، وَلَا يَضُرُّ الْحَاكِمَ ضَيَاعُ حَقٍّ
لَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ.
(الثَّالِثَ عَشَرَ) الْغَالِبُ عَلَى مَنْ وُجِدَ بَيْنَ
فَخِذَيْ امْرَأَةِ، وَهُوَ مُتَحَرِّكٌ حَرَكَةَ الْوَاطِئِ،
وَطَالَ الزَّمَانُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ أَوْلَجَ،
وَالنَّادِرُ عَدَمُ ذَلِكَ فَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ
أَلْغَى الشَّارِعُ هَذَا الْغَالِبَ سَتْرًا عَلَى عِبَادِهِ،
وَلَمْ يَحْكُمْ بِوَطْئِهِ، وَلَا بِعَدَمِهِ
(الرَّابِعَ عَشَرَ) شَهَادَةُ الْعَدْلِ الْمُبَرَّزِ
لِوَلَدِهِ الْغَالِبُ صِدْقُهُ، وَالنَّادِرُ كَذِبُهُ،
وَقَدْ أَلْغَاهُ الشَّارِعُ، وَأَلْغَى كَذِبَهُ، وَلَمْ
يَحْكُمْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.
(الْخَامِسَ عَشَرَ) شَهَادَةُ الْعَدْلِ الْمُبَرَّزِ
لِوَالِدِهِ الْغَالِبُ صِدْقُهُ، وَلَمْ يَحْكُمْ الشَّرْعُ
بِصِدْقِهِ وَلَا بِكَذِبِهِ بَلْ أَلْغَاهُمَا جُمْلَةً.
(السَّادِسَ عَشَرَ) شَهَادَةُ الْعَدْلِ الْمُبَرَّزِ عَلَى
خَصْمِهِ الْغَالِبُ صِدْقُهُ، وَقَدْ أَلْغَى الشَّارِعُ
صِدْقَهُ وَكَذِبَهُ.
(السَّابِعَ عَشَرَ) شَهَادَةُ الْحَاكِمِ عَلَى فِعْلِ
نَفْسِهِ إذَا عُزِلَ، وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ
مُطْلَقًا إذَا وَقَعَتْ مِنْ الْعَدْلِ الْمُبَرَّزِ
الْغَالِبُ صِدْقُهُ، وَقَدْ أَلْغَاهُ الشَّارِعُ فِي
صِدْقِهِ وَكَذِبِهِ
(الثَّامِنَ عَشَرَ) حُكْمُ الْقَاضِي لِنَفْسِهِ، وَهُوَ
عَدْلٌ مُبْرِزٌ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ
الْغَالِبُ أَنَّهُ إنَّمَا حَكَمَ بِالْحَقِّ، وَالنَّادِرُ
خِلَافُهُ، وَقَدْ أَلْغَى الشَّرْعُ ذَلِكَ الْحُكْمَ
بِبُطْلَانِهِ وَصِحَّتِهِ مَعًا
(التَّاسِعَ عَشَرَ) الْقُرْءُ الْوَاحِدُ فِي الْعَدَدِ
الْغَالِبُ مَعَهُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَالنَّادِرُ
شَغْلُهُ، وَلَمْ يَحْكُمْ الشَّارِعُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا
حَتَّى يَنْضَافَ إلَيْهِ قُرْءَانِ آخَرَانِ.
(الْعِشْرُونَ) مَنْ غَابَ عَنْ امْرَأَتِهِ سِنِينَ ثُمَّ
طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا الْغَالِبُ بَرَاءَةُ
رَحِمِهَا، وَالنَّادِرُ شُغْلُهُ بِالْوَلَدِ، وَقَدْ
أَلْغَاهُمَا صَاحِبُ الشَّرْعِ مَعًا، وَأَوْجَبَ عَلَيْهَا
اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ بَعْدَ الْوَفَاءِ أَوْ الطَّلَاقِ
لِأَنَّ وُقُوعَ الْحُكْمِ قَبْلَ سَبَبِهِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ
بِهِ، وَنَظَائِرُ فِي الشَّرْعِ كَثِيرَةٌ مِنْ الْغَالِبِ
أَلْغَاهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ، وَتَارَةً
بَالَغَ فِي إلْغَائِهِ فَاعْتُبِرَ نَادِرُهُ دُونَهُ كَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَهَذِهِ أَرْبَعُونَ مِثَالًا قَدْ
سَرَدْتهَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعِينَ جِنْسًا فَهِيَ
أَرْبَعُونَ جِنْسًا قَدْ أُلْغِيَتْ (فَإِنْ قُلْت) أَنْتَ
تَعَرَّضْت لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا أُلْغِيَ مِنْهُ، وَمَا لَمْ
يَلْغُ، وَلَمْ تَذْكُرْهُ بَلْ ذَكَرْت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْقَذْفِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُ، وَإِنْ تَابَ، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ
تُقْبِلُ إذَا تَابَ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ يَعُودُ
الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ
شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]
{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور: 5] إلَى
أَقْرَبِ مَذْكُورٍ إلَيْهِ أَوْ عَلَى الْجُمْلَةِ إلَّا مَا
خَصَّصَهُ الْإِجْمَاعُ، وَهُوَ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا
تَسْقُطُ عِنْدَ الْحَدِّ اهـ.
قَالَ الْبَاجِيَّ قَالَ مَالِكٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ
تَوْبَةِ الْقَاذِفِ وَلَا قَبُولِ شَهَادَتِهِ تَكْذِيبُهُ
لِنَفْسِهِ بَلْ صَلَاحُ حَالِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ،
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ كَسَائِرِ الذُّنُوبِ، وَقَالَ
الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيُّ لَا بُدَّ فِي
تَوْبَةِ الْقَاذِفِ مِنْ تَكْذِيبِهِ نَفْسَهُ لِأَنَّا
قَضَيْنَا بِكَذِبِهِ فِي الظَّاهِرِ، وَإِلَّا لَمَا
فَسَّقْنَاهُ فَلَوْ لَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ لَكَانَ مُصِرًّا
عَلَى الْكَذِبِ الَّذِي فَسَّقْنَاهُ لِأَجْلِهِ فِي
الظَّاهِرِ، وَعَلَيْهِ إشْكَالَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ
قَدْ يَكُونُ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ فَتَكْذِيبُهُ لِنَفْسِهِ
كَذِبٌ فَكَيْفَ تُشْتَرَطُ الْمَعْصِيَةُ فِي التَّوْبَةِ،
وَهِيَ ضِدُّهَا، وَكَيْفَ نَجْعَلُ الْمَعَاصِيَ سَبَبَ
صَلَاحِ الْعَبْدِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَرِفْعَتِهِ،
وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ إنْ كَانَ كَاذِبًا فِي قَذْفِهِ فَهُوَ
فَاسِقٌ أَوْ صَادِقًا فَهُوَ عَاصٍ لِأَنَّ تَعْبِيرَ
الزَّانِي بِزِنَاهُ مَعْصِيَةٌ فَكَيْفَ يَنْفَعُهُ تَكْذِيبُ
نَفْسِهِ مَعَ كَوْنِهِ عَاصِيًا بِكُلِّ حَالٍ.
(وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ) أَنَّ الْكَذِبَ لِأَجْلِ
الْحَاجَةِ جَائِزٌ كَالرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ،
وَلِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَهَذَا التَّكْذِيبُ فِيهِ
مَصْلَحَةُ السَّتْرِ عَلَى الْمَقْذُوفِ، وَتَقْلِيلُ
الْأَذِيَّةِ وَالْفَضِيحَةِ عِنْدَ النَّاسِ، وَقَبُولُ
شَهَادَتِهِ فِي نَفْسِهِ وَعَوْدُهُ إلَى الْوِلَايَةِ
الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَالَةُ، وَتَصَرُّفُهُ فِي
أَمْوَالِ أَوْلَادِهِ، وَتَزْوِيجُهُ لِمَنْ يَلِي عَلَيْهِ،
وَتَعَرُّضُهُ لِلْوِلَايَاتِ الشَّرْعِيَّةِ
(وَعَنْ الثَّانِي) تَعْيِيرُ الزَّانِي بِزِنَاهُ صَغِيرَةٌ
لَا تَمْنَعُ الشَّهَادَةَ اهـ، وَقَالَ فِي الْبِدَايَةِ
قَبْلَ مَا ذُكِرَ، وَإِنَّمَا تَرَدَّدَ الْفُقَهَاءُ فِي
مَفْهُومِ اسْمِ الْعَدَالَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلْفِسْقِ
فَقَالَ الْجُمْهُورُ هِيَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى
الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا لِوَاجِبَاتِ
الشَّرْعِ وَمُسْتَحَبَّاتِهِ مُجْتَنِبًا لِلْمُحَرَّمَاتِ
وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَكْفِي فِي
الْعَدَالَةِ ظَاهِرُ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ لَا تُعْلَمُ
مِنْهُ جُرْحَةٌ اهـ وَقَالَ الْأَصْلُ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ
عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ تَخْتَلِفُ بِالْقَدْحِ فِي
الْعَدَالَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ يَسْقُطُ
بِهَا الْعَدْلُ عَنْ مَرْتَبَةِ الْعَدَالَةِ، وَإِنَّمَا
وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْإِطْلَاقِ فَقَطْ
فَمَنَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي أُصُولِ الدِّينِ مِنْ
إطْلَاقِ لَفْظِ الصَّغِيرَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَاصِي
اللَّهِ، وَكَذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَقَالُوا
لَا يُقَالُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ صَغِيرَةً بَلْ
جَمِيعُ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ لِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى
فَيَكُونُ جَمِيعُ مَعَاصِيهِ كَبَائِرَ.
وَقَالَ غَيْرُهُمْ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَ الْكِتَابُ
الْعَزِيزُ بِالْإِشَارَةِ إلَى الْفَرْقِ فِي قَوْله تَعَالَى
{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}
[الحجرات: 7] فَجَعَلَ لِلْمَعْصِيَةِ رُتَبًا ثَلَاثًا
كُفْرًا وَفُسُوقًا وَهُوَ الْكَبِيرَةُ، وَعِصْيَانًا وَهِيَ
الصَّغِيرَةُ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا لَكَانَ
اللَّفْظُ فِي الْآيَةِ
(4/110)
أَجْنَاسًا أُلْغِيَتْ خَاصَّةً فَمَا
الْفَرْقُ، وَكَيْفَ الِاعْتِمَادُ فِي ذَلِكَ
(قُلْت) الْفَرْقُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامُ لَا يَتَيَسَّرُ
عَلَى الْمُبْتَدَئِينَ، وَلَا عَلَى ضَعَفَةِ الْفُقَهَاءِ،
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَصْلَ
اعْتِبَارُ الْغَالِبِ، وَهَذِهِ الْأَجْنَاسُ الَّتِي ذَكَرْت
اسْتِثْنَاؤُهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَإِذَا وَقَعَ لَك
غَالِبٌ، وَلَا تَدْرِي هَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا أُلْغِيَ
أَوْ مِنْ قَبِيلِ مَا اُعْتُبِرَ فَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ
أَنْ تَسْتَقْرِيَ مَوَارِدَ النُّصُوصِ، وَالْفَتَاوَى
اسْتِقْرَاءً حَسَنًا مَعَ أَنَّك تَكُونُ حِينَئِذٍ وَاسِعَ
الْحِفْظِ جَيِّدَ الْفَهْمِ فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ لَك
إلْغَاؤُهُ فَاعْتَقِدْ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ، وَهَذَا الْفَرْقُ
لَا يَحْصُلُ إلَّا لِمُتَّسِعٍ فِي الْفِقْهِيَّاتِ
وَالْمَوَارِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْت هَذِهِ
الْأَجْنَاسَ حَتَّى تَعْتَقِدَ أَنَّ الْغَالِبَ وَقَعَ
مُعْتَبَرًا شَرْعًا، وَنَجْزِمُ أَيْضًا بِشَيْئَيْنِ
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إذَا دَارَ الشَّيْءُ
بَيْنَ النَّادِرِ وَالْغَالِبِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُ
بِالْغَالِبِ
(ثَانِيهِمَا) قَوْلُ الْفُقَهَاءِ إذَا اجْتَمَعَ الْأَصْلُ،
وَالْغَالِبُ فَهَلْ يَغْلِبُ الْأَصْلُ عَلَى الْغَالِبِ أَوْ
الْغَالِبُ عَلَى الْأَصْلِ قَوْلَانِ فَقَدْ ظَهَرَ لَك
أَجْنَاسٌ كَثِيرَةٌ اتَّفَقَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى تَقْدِيمِ
الْأَقَلِّ، وَأَلْغَاهُ الْغَالِبُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ
الَّذِي اعْتَبَرْنَا رَدَّهُ فَلَا تَكُونُ تِلْكَ الدَّعْوَى
عَلَى عُمُومِهَا، وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ أَيْضًا عَلَى
تَقْدِيمِ الْغَالِبِ عَلَى الْأَوَّلِ فِي أَمْرِ
الْبَيِّنَةِ فَإِنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهَا، وَالْأَصْلُ
بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ تَقَدُّمُ الْبَيِّنَةِ
إجْمَاعًا فَهُوَ أَيْضًا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ تِلْكَ
الدَّعْوَى فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ بَيَانِ هَذَا
الْفَرْقِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاطِنِ.
(الْفَرْقُ الْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ
مَا يَصِحُّ الْإِقْرَاعُ فِيهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا
يَصِحُّ الْإِقْرَاعُ فِيهِ)
اعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى تَعَيَّنَتْ الْمَصْلَحَةُ أَوْ
الْحَقُّ فِي جِهَةٍ لَا يَجُوزُ الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِأَنَّ فِي الْقُرْعَةِ ضَيَاعَ ذَلِكَ
الْحَقِّ الْمُتَعَيَّنِ أَوْ الْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَيِّنَةِ،
وَمَتَى تَسَاوَتْ الْحُقُوقُ أَوْ الْمَصَالِحُ فَهَذَا هُوَ
مَوْضِعُ الْقُرْعَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ دَفْعًا
لِلضَّغَائِنِ وَالْأَحْقَادِ، وَالرِّضَا بِمَا جَرَتْ بِهِ
الْأَقْدَارُ، وَقَضَى بِهِ الْمَلِكُ الْجَبَّارُ فَهِيَ
مَشْرُوعَةٌ بَيْنَ الْخُلَفَاءِ إذَا اسْتَوَتْ فِيهِمْ
الْأَهْلِيَّةُ لِلْوِلَايَةِ، وَالْأَئِمَّةِ
وَالْمُؤَذِّنِينَ إذَا اسْتَوَوْا، وَالتَّقَدُّمُ لِلصَّفِّ
الْأَوَّلِ عِنْدَ الِازْدِحَامِ وَتَغْسِيلِ الْأَمْوَاتِ
عِنْدَ تَزَاحُمِ الْأَوْلِيَاءِ، وَتَسَاوِيهِمْ فِي
الطَّبَقَاتِ وَبَيْنَ الْحَاضِنَاتِ وَالزَّوْجَاتِ فِي
السَّفَرِ وَالْقِسْمَةِ وَالْخُصُومِ عِنْدَ الْحُكَّامِ،
وَفِي عِتْقِ الْعَبِيدِ إذَا أَوْصَى بِعِتْقِهِمْ أَوْ
بِثُلُثِهِمْ فِي الْمَرَضِ ثُمَّ مَاتَ، وَلَمْ يَحْمِلْهُمْ
الثُّلُثُ عَتَقَ مَبْلَغُ الثُّلُثِ مِنْهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مُتَكَرِّرًا لَا بِمَعْنًى مُسْتَأْنَفٍ، وَهُوَ خِلَافُ
الْأَصْلِ اهـ.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالضَّابِطُ لِمَا تُرَدُّ بِهِ
الشَّهَادَةُ مِنْ الْمَعَاصِي الَّذِي بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ
الْقَاعِدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ هُوَ مَا دَلَّ عَلَى
الْجُرْأَةِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ الشَّارِعَ فِي أَوَامِرِهِ
وَنَوَاهِيهِ أَوْ احْتَمَلَ الْجُرْأَةَ كَمَا اخْتَارَهُ
أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ قَالَ فَمَنْ دَلَّتْ
قَرَائِنُ حَالِهِ عَلَى الْجُرْأَةِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ
كَمُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ الْمَعْلُومِ مِنْ دَلَائِلِ
الشَّرْعِ أَنَّهَا كَبِيرَةٌ أَوْ الْمُصِرُّ عَلَى
الصَّغِيرَةِ إصْرَارًا يُؤْذِنُ بِالْجُرْأَةِ، وَمَنْ
احْتَمَلَ حَالُهُ إنْ فَعَلَ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ جُرْأَةً
أَوْ فَلْتَةً تُوَقِّفَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَمَنْ
دَلَّتْ دَلَائِلُ حَالِهِ أَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَهُ مِنْ
ذَلِكَ أَعْنِي مَا لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ مَعْلُومَةِ الْكِبَرِ
مِنْ الشَّرْعِ فَلْتَةً غَيْرَ مُتَّصِفٍ بِالْجُرْأَةِ
قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبَبَ رَدُّ
الشَّهَادَةِ لَيْسَ إلَّا التُّهْمَةَ بِالِاجْتِرَاءِ عَلَى
الْكَذِبِ كَالِاجْتِرَاءِ عَلَى مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ
الْمُخَالَفَةِ فَإِذَا عَرِيَ عَنْ الِاتِّصَافِ
بِالْجُرْأَةِ وَاحْتِمَالِ الِاتِّصَافِ بِهَا بِظَاهِرِ
حَالِهِ سَقَطَتْ التُّهْمَةُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
اهـ.
قَالَ الْأَصْلُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ، وَبِالْجُمْلَةِ
فَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الْمُقْتَرِنَةِ
وَالْقَرَائِنِ الْمُصَاحِبَةِ وَصُورَةِ الْفَاعِلِ
وَهَيْئَةِ الْفِعْلِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ مَا
يُؤَدِّي إلَى مَا يُوجَدُ فِي الْقَلْبِ السَّلِيمِ عَنْ
الْأَهْوَاءِ الْمُعْتَدِلِ الْمِزَاجِ وَالْعَقْلِ
وَالدِّيَانَةِ الْعَارِفِ بِالْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ
فَهَذَا هُوَ الْمُتَعَيَّنُ لِوَزْنِ هَذِهِ الْأُمُورِ
فَإِنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّسَاهُلُ فِي طَبْعِهِ لَا
يَعُدُّ الْكَبِيرَةَ شَيْئًا، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ
التَّشْدِيدُ فِي طَبْعِهِ يَجْعَلُ الصَّغِيرَةَ كَبِيرَةً
فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي
الْعَقْلِ الْوَازِنِ بِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ اهـ.
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَالْإِصْرَارُ الْمُصَيِّرُ
لِلصَّغِيرَةِ كَبِيرَةً مَانِعَةً مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ
إنَّمَا هُوَ الْمُعَاوَدَةُ لَهَا مُعَاوَدَةً تُشْعِرُ
بِالْجُرْأَةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ لَا الْمُعَاوَدَةُ
الْمُقْتَرِنَةُ بِالْعَزْمِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْعَزْمَ
مِمَّا لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ
كَالْجُرْأَةِ نَفْسِهَا بِخِلَافِ الْإِشْعَارِ بِهَا الَّذِي
اشْتَرَطْته فَإِنَّهُ مِمَّا يُدْرِكُهُ مَنْ يَتَأَمَّلُ
أَحْوَالَ الْمَوَاقِعِ لِلْمُخَالَفَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ يُنْظَرُ إلَى مَا يَحْصُلُ مِنْ مُلَابَسَةِ
أَدْنَى الْكَبَائِرِ مِنْ عَدَمِ الْوُثُوقِ بِمُلَابَسَتِهَا
فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ
تَعَالَى ثُمَّ يُنْظَرُ لِذَلِكَ التَّكَرُّرِ فِي
الصَّغِيرَةِ فَإِنْ حَصَلَ فِي النَّفْسِ مِنْ عَدَمِ
الْوُثُوقِ مَا حَصَلَ مِنْ أَدْنَى الْكَبَائِرِ كَانَ هَذَا
الْإِصْرَارُ كَبِيرَةً تُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ إلَخْ اهـ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. قَالَ الْأَصْلُ وَمَتَى تَخَلَّلَتْ
التَّوْبَةُ الصَّغَائِرَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا تَقْدَحُ
فِي الْعَدَالَةِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي إذَا كَانَتْ مِنْ
أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الشَّبَهُ
وَاللُّبْسُ إذَا تَكَرَّرَتْ مِنْ النَّوْعِ الْوَاحِدِ،
وَهُوَ مَوْضِعُ النَّظَرِ اهـ
(الرُّكْنُ الثَّانِي) الْوُثُوقُ بِالضَّبْطِ فَلِذَا
اشْتَرَطُوا الْبُلُوغَ فِيهَا وَالْحُرِّيَّةَ وَنَفْيَ
التُّهْمَةِ أَمَّا الْبُلُوغُ فَقَالَ فِي الْبِدَايَةِ
اتَّفَقُوا عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِيهَا
(4/111)
بِالْقُرْعَةِ، وَلَوْ لَمْ يَدَعْ
غَيْرَهُمْ عَتَقَ ثُلُثُهُمْ أَيْضًا بِالْقُرْعَةِ،
وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- لَا تَجُوزُ الْقُرْعَةُ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِهِمْ
وَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ، وَيُسْتَسْعَى فِي
بَاقِي قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا
فَيَعْتَقَ، لَنَا وُجُوهٌ:
(الْأَوَّلُ) مَا فِي الْمُوَطَّإِ «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ
عَبِيدًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَأَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَعْتَقَ ثُلُثَ
الْعَبِيدِ» قَالَ مَالِكٌ، وَبَلَغَنِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ
لِذَلِكَ الرَّجُلِ مَالٌ غَيْرَهُمْ
(الثَّانِي) فِي الصِّحَاحِ أَنَّ «رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ
مَمَالِيكَ لَهُ فِي مَرَضِهِ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ
فَدَعَاهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَجَزَّاهُمْ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ
وَرَقَّ أَرْبَعَةً»
(الثَّالِثُ) إجْمَاعُ التَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - عَلَى ذَلِكَ قَالَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ
وَابْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُمْ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ مِنْ
عَصْرِهِمْ أَحَدٌ
(الرَّابِعُ) وَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - فِي قِسْمَةِ الْأَرْضِ لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ،
وَذَلِكَ هُنَا مَوْجُودٌ فَثَبَتَ قِيَاسًا عَلَيْهِ
(الْخَامِسُ) أَنَّ فِي الِاسْتِسْعَاءِ مَشَقَّةً وَضَرَرًا
عَلَى الْعَبِيدِ بِالْإِلْزَامِ، وَعَلَى الْوَرَثَةِ
بِتَأْخِيرِ الْحَقِّ وَتَعْجِيلِ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ،
وَالْقَوَاعِدُ تَقْتَضِي تَقْدِيمَ حَقِّ الْوَارِثِ لِأَنَّ
لَهُ الثُّلُثَيْنِ
(السَّادِسُ) أَنَّ مَقْصُودَ الْوَصِيِّ كَمَالُ الْعِتْقِ
فِي الْعَبْدِ لِيَتَفَرَّغَ لِلطَّاعَاتِ، وَيَجُوزُ
الِاكْتِسَابُ وَالْمَنَافِعُ مِنْ نَفْسِهِ، وَتَجْزِئَةُ
الْعِتْقِ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ
الْكَمَالُ أَبَدًا احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ: (الْأَوَّلُ) قَوْلُ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا عِتْقَ
إلَّا فِيمَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» ، وَالْمَرِيضُ مَالِكُ
الثُّلُثِ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ،
وَلِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا
عُمُومَ فِيهَا، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ اثْنَيْنِ يَحْتَمِلُ
شَائِعَيْنِ لَا مُعَيَّنَيْنِ، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّ
الْعَادَةَ تُحْصِي اخْتِلَافَ قِيَمِ الْعَبِيدِ
فَيَتَعَذَّرُ أَنْ يَكُونَ اثْنَانِ مُعَيِّنَانِ ثُلُثِ
مَالِهِ.
(الثَّانِي) أَنَّ الْقُرْعَةَ عَلَى خِلَافِ الْقُرْآنِ
لِأَنَّهَا مِنْ الْمُيَسَّرِ، وَعَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ
لِأَنَّ فِيهِ نَقْلُ الْحُرِّيَّةِ بِالْقُرْعَةِ.
(الثَّالِثُ) أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ كُلِّ وَاحِدٍ
صَحَّ فَيَنْفُذُ هَاهُنَا قِيَاسًا عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى
حَالِ الصِّحَّةِ.
(الرَّابِعُ) أَنَّهُ لَوْ بَاعَ ثُلُثَ كُلِّ عَبْدٍ جَازَ،
وَالْبَيْعُ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، وَالْعِتْقُ لَا يَلْحَقُهُ
الْفَسْخُ فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْقُرْعَةِ لِأَنَّ فِيهَا
تَحْوِيلَ الْعِتْقِ. (الْخَامِسُ) أَنَّهُ لَوْ كَانَ
مَالِكًا لِثُلُثِهِمْ فَأَعْتَقَهُ لَمْ يَجْتَمِعْ ذَلِكَ
فِي اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَالْمَرِيضُ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَ
الثُّلُثِ فَلَا يَجْتَمِعُ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ
عَدَمِ الْمَالِكِ، وَالْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي نُفُوذِ
الْعِتْقِ.
(السَّادِسُ) أَنَّ الْقُرْعَةَ إنَّمَا تَدْخُلُ فِي جَمِيعِ
الْحُقُوقِ فِيمَا يَجُوزُ التَّرَاضِي عَلَيْهِ لِأَنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
حَيْثُ تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ، وَاخْتَلَفُوا فِي شَهَادَةِ
الصِّبْيَانِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْجِرَاحِ، وَفِي
الْقَتْلِ فَرَدَّهَا جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ لِمَا
قُلْنَاهُ مِنْ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ
الشَّهَادَةِ الْعَدَالَةُ، وَمِنْ شَرْطِ الْعَدَالَةِ
الْبُلُوغُ، وَلَك لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ شَهَادَةٌ عِنْدَ
مَالِكٍ، وَإِنَّمَا هِيَ قَرِينَةُ حَالٍ، وَلِذَلِكَ
اشْتَرَطَ فِيهَا أَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا لِئَلَّا
يُجَنَّبُوا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ هَلْ تَجُوزُ إذَا
كَانَ بَيْنَهُمْ كَبِيرٌ أَمْ لَا، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا
أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِدَّةُ الْمُشْتَرَطَةُ فِي
الشَّهَادَةِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهَا
الذُّكُورَةُ أَمْ لَا، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ تَجُوزُ
فِي الْقَتْلِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمْ، وَلَا عُمْدَةَ
لِمَالِكٍ فِي هَذَا إلَّا أَنَّهُ مِنْ بَابِ إجَازَتِهِ
قِيَاسَ الْمَصْلَحَةِ، وَإِمَّا أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ
الزُّبَيْرِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ
رَدَّهَا، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهَا نَعَمْ
قَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَقَوْمٌ مِنْ
التَّابِعِينَ اهـ.
بِتَصَرُّفٍ، وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَفِي الْبِدَايَةِ
أَيْضًا جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى اشْتِرَاطِهَا
فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ تَجُوزُ
شَهَادَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْأَصْلَ إنَّمَا هُوَ
اشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ، وَالْعُبُودِيَّةُ لَيْسَ لَهَا
تَأْثِيرٌ فِي الرَّدِّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ مِنْ
كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ، وَكَأَنَّ
الْجُمْهُورَ رَأَوْا أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ أَثَرٌ مِنْ
أَثَرِ الْكُفْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي
رَدِّ الشَّهَادَةِ اهـ.
وَأَمَّا نَفْيُ التُّهْمَةِ فَأَمَّا التُّهَمُ
بِالِاجْتِرَاءِ عَلَى الْكَذِبِ الَّتِي سَبَبُهَا ارْتِكَابُ
بَعْضِ الْمَعَاصِي فَقَدْ تَضَمَّنَهَا اشْتِرَاطُ
الْعَدَالَةِ كَمَا عَرَفَتْ، وَأَمَّا التُّهْمَةُ الَّتِي
سَبَبُهَا الْمَحَبَّةُ وَالْقَرَابَةُ أَوْ الْبِغْضَةُ
لِلْعَدَاوَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَفِي الْبِدَايَةِ أَجْمَعُوا
عَلَى أَنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي إسْقَاطِ الشَّهَادَةِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْعَدْلِ بِالتُّهْمَةِ
لِمَوْضِعِ الْمَحَبَّةِ أَوْ الْبِغْضَةِ الَّتِي سَبَبُهَا
الْعَدَاوَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَقَالَ بِرَدِّهَا فُقَهَاءُ
الْأَمْصَارِ إلَّا أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا فِي مَوَاضِعَ عَلَى
أَعْمَالِ التُّهْمَةِ، وَفِي مَوَاضِعَ عَلَى إسْقَاطِهَا،
وَاخْتَلَفُوا فِي مَوَاضِعَ فَأَعْمَلَهَا بَعْضُهُمْ،
وَأَسْقَطَهَا بَعْضُهُمْ اهـ.
الْمُرَادُ فَانْظُرْهَا، وَسَيَأْتِي فِي الْفَرْقِ بَعْدَ
تَوْضِيحِ ذَلِكَ فَتَرَقَّبْ، وَأَمَّا التُّهْمَةُ
الْمُشْعِرَةُ بِخَلَلٍ فِي عَقْلِهِ فَبِفِعْلِ بَعْضِ
الْمُبَاحِ الْمُخِلِّ بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ كَالْأَكْلِ فِي
الْأَسْوَاقِ وَنَحْوِهِ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ
الشَّاطِّ، وَالضَّابِطُ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْعَادَةِ
الْجَارِيَةِ مِنْ الشَّاهِدِ فِي أُمُورِهِ الْمُبَاحَةِ
رُبَّمَا أَشْعَرَتْ بِخَلَلٍ فِي عَقْلِهِ فَيَتَطَرَّقُ
الْخَلَلُ إلَى ضَبْطِهِ، وَرُبَّمَا لَمْ تُشْعِرْ، وَذَلِكَ
بِحَسَبِ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ فَإِنْ أَشْعَرَ بِذَلِكَ
أَوْ احْتَمَلَ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ أَوْ تُوُقِّفَ فِي
قَبُولِهَا، وَإِلَّا فَلَا اهـ بِلَفْظِهِ.
(تَنْبِيهٌ) قَالَ الْأَصْلُ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا قَبُولُ
شَهَادَةِ الْقَاذِفِ قَبْلَ جَلْدِهِ بِدُونِ تَوْبَتِهِ،
وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ كَبِيرَةً اتِّفَاقًا، وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَدَّهَا عَبْدُ
الْمَلِكِ وَمُطَرِّفٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَنَا أَنَّهُ قَبْلَ الْجَلْدِ
غَيْرُ فَاسِقٍ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ جَلْدِهِ
يَجُوزُ رُجُوعُ الْبَيِّنَةِ أَوْ تَصْدِيقُ الْمَقْذُوفِ
لَهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْفِسْقُ إلَّا بَعْدَ
(4/112)
الْحُرِّيَّةَ حَالَةَ الصِّحَّةِ لَمَّا
لَمْ يَجُزْ التَّرَاضِي عَلَى انْتِفَاضِهَا لَمْ تَجُزْ
الْقُرْعَةُ فِيهَا، وَالْأَمْوَالُ يَجُوزُ التَّرَاضِي
فِيهَا فَدَخَلَتْ الْقُرْعَةُ فِيهَا. وَالْجَوَابُ (عَنْ
الْأَوَّلِ) أَنَّ الْعِتْقَ إنَّمَا وَقَعَ فِيمَا يَمْلِكُ،
وَمَا قَالَ الْعِتْقُ فِي كُلِّ مَا يَمْلِكُ فَإِذَا نَفَذَ
الْعِتْقُ فِي عَبْدَيْنِ وَقَعَ الْعِتْقُ فِيمَا يَمْلِكُ.
وَقَوْلُهُمْ إنَّهَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ فَنَقُولُ هِيَ
وَرَدَتْ فِي تَمْهِيدِ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ كَالرَّجْمِ
وَغَيْرِهِ فَتَعُمُّ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
«حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» ،
وَقَوْلُهُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شَائِعًا بَاطِلًا
بِالْقُرْعَةِ لِأَنَّهَا لَا مَعْنَى لَهَا مَعَ
الْإِشَاعَةِ، وَاتِّفَاقُهُمْ فِي الْقِيمَةِ لَيْسَ
مُتَعَذَّرًا عَادَةً لَا سِيَّمَا مَعَ الْجَلْبِ وَوَخْشِ
الرَّقِيقِ (وَعَنْ الثَّانِي) أَنَّ الْمَيْسِرَ هُوَ
الْقِمَارُ، وَتَمْيِيزُ الْحُقُوقِ لَيْسَ قِمَارًا، وَقَدْ
أَقْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- بَيْنَ أَزْوَاجِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتُعْمِلَتْ
الْقُرْعَةُ فِي شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ
السَّلَامُ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] الْآيَةَ، وَ {إِذْ يُلْقُونَ
أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]
وَلَيْسَ فِيهَا نَقْلُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ عِتْقَ
الْمَرِيضِ لَمْ يَتَحَقَّقْ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ عَتَقَ
الْجَمِيعُ، وَإِنْ طَرَأَتْ دُيُونٌ بَطَلَ، وَإِنْ مَاتَ،
وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ مِنْ الثُّلُثِ فَلَمْ
يَقَعْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْعِتْقِ إلَّا مَا
أَخْرَجَتْهُ الْقُرْعَةُ (وَعَنْ الثَّالِثِ) أَنَّ مَقْصُودَ
الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ التَّمْلِيكُ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي
مِلْكِ الشَّائِعِ كَغَيْرِهِ، وَمَقْصُودُ الْعِتْقِ
التَّخْلِيصُ لِلطَّاعَاتِ.
وَالِاكْتِسَابُ، وَلَا يَحْصُلُ مَعَ التَّبْعِيضِ، وَلِأَنَّ
الْمِلْكَ شَائِعًا لَا يُؤَخِّرُ حَقَّ الْوَارِثِ كَمَا
تَقَدَّمَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَهَاهُنَا يَتَأَخَّرُ
بِالِاسْتِسْعَاءِ (وَعَنْ الرَّابِعِ) أَنَّ الْبَيْعَ لَا
ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْوَارِثِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي
الْوَصِيَّةِ، وَلَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْجَلْدِ، وَالْأَصْلُ اسْتِصْحَابُ الْعَدَالَةِ
وَالْحَالَةُ السَّابِقَةُ، وَاحْتَجُّوا بِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ
الْأَوَّلُ أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ تَرْتِيبَ الْفِسْقِ
عَلَى الْقَذْفِ.
وَقَدْ تَحَقَّقَ الْقَذْفُ فَيَتَحَقَّقُ الْفِسْقُ سَوَاءٌ
جُلِدَ أَمْ لَا، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ
صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَبُطْلَانَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فَرَتَّبَ رَدَّ
الشَّهَادَةِ وَالْفِسْقَ عَلَى الْجَلْدِ، وَتَرْتِيبُ
الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى عَلِيَّةِ ذَلِكَ
الْوَصْفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَيَكُونُ الْجَلْدُ هُوَ
السَّبَبُ الْمُفَسِّقُ فَحَيْثُ لَا جَلْدَ لَا فُسُوقَ،
وَهُوَ مَطْلُوبُنَا، وَعَكْسُ مَطْلُوبِكُمْ، وَالْوَجْهُ
(الثَّانِي) أَنَّ الْجَلْدَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْفِسْقِ فَلَوْ
تَوَقَّفَ الْفِسْقُ عَلَيْهِ لَزِمَ الدَّوْرُ، وَالْوَجْهُ
(الثَّالِثُ) أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ
إلَى حَيْثُ تَيَقُّنِ الْعَدَالَةَ، وَلَمْ تُتَيَقَّنْ هُنَا
فَتُرَدُّ، وَجَوَابُهُمْ أَنَّ كَوْنَ الْجَلْدِ فَرْعُ
ثُبُوتِ الْفِسْقِ ظَاهِرٌ ظُهُورًا ضَعِيفًا لِجَوَازِ
رُجُوعِ الْبَيِّنَةِ أَوْ تَصْدِيقِ الْمَقْذُوفِ فَإِذَا
أُقِيمَ الْجَلْدُ قَوِيَ الظُّهُورُ بِإِقْدَامِ الْبَيِّنَةِ
وَتَصْمِيمِهَا عَلَى أَذِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَقْذُوفُ،
وَحِينَئِذٍ نَقُولُ أَنَّ مُدْرَكَ رَدِّ الشَّهَادَةِ
إنَّمَا هُوَ الظُّهُورُ الْقَوِيُّ لِأَنَّهُ الْمُجْمَعُ
عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْعَدَالَةِ السَّابِقَةِ اهـ
بِإِصْلَاحٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ
قَاعِدَةِ التُّهْمَةِ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ
بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا
يُرَدُّ بِهِ)
قَدْ عَلِمْت مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ التُّهْمَةَ ثَلَاثَةُ
أَقْسَامٍ: (الْأَوَّلُ) تُهْمَةُ الِاجْتِرَاءِ عَلَى
الْكَذِبِ الَّتِي سَبَبُهَا ارْتِكَابُ بَعْضِ الْمَعَاصِي،
وَقَدْ تَضَمَّنَهَا الرُّكْنُ الْأَوَّلُ مِنْ رُكْنَيْ
الشَّهَادَةِ، وَالثَّانِي تُهْمَةُ خَلَلِ الْعَقْلِ الَّتِي
سَبَبُهَا فِعْلُ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ، وَالثَّالِثُ تُهْمَةُ
الِاجْتِرَاءِ عَلَى الْكَذِبِ الَّتِي سَبَبُهَا الْمَحَبَّةُ
بِنَحْوِ الْقَرَابَةِ أَوْ الْبِغْضَةِ بِالْعَدَاوَةِ،
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ الرُّكْنُ الثَّانِي
مِنْهُمَا، وَالْمُرَادُ هُنَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ،
وَالْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى رَدِّ الشَّهَادَةِ بِتُهْمَةٍ
سَبَبُهَا مَا ذُكِرَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ إلَّا أَنَّ
هَذِهِ التُّهْمَةَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أَيْضًا:
(الْقِسْمُ الْأَوَّلُ) مُجْمَعٌ عَلَى اعْتِبَارِهَا
لِفَوْتِهَا كَشَهَادَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ،
وَكَشَهَادَةِ الْأَبِ لِابْنِهِ، وَالْأُمِّ لِابْنِهَا،
وَبِالْعَكْسِ فَقَدْ ذَهَبَ شُرَيْحٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد
إلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ تُقْبَلُ فَضْلًا
عَمَّنْ سِوَاهُ إذَا كَانَ الْأَبُ عَدْلًا لِوَجْهَيْنِ
الْأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ
عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}
[النساء: 135] فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي
إجْرَاءَ الْمَأْمُورِ إلَّا مَا خَصَّصَهُ الْإِجْمَاعُ مِنْ
شَهَادَةِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ الثَّانِي إنْ رَدَّ
الشَّهَادَةَ بِالْجُمْلَةِ إنَّمَا هُوَ لِمَوْضِعِ اتِّهَامِ
الْكَذِبِ، وَهَذِهِ التُّهْمَةُ إنَّمَا اعْتَمَلَهَا
الشَّرْعُ فِي الْفَاسِقِ، وَمَنَعَ إعْمَالَهَا فِي
الْعَادِلِ فَلَا تَجْتَمِعُ الْعَدَالَةُ مَعَ التُّهْمَةِ
(وَالْقِسْمُ الثَّانِي) مُجْمَعٌ عَلَى إلْغَائِهَا
لِخِفَّتِهَا كَشَهَادَةِ الْإِنْسَانِ لِرَجُلٍ مِنْ
قَبِيلَتِهِ قَالَ فِي الْبِدَايَةِ، وَمِنْهُ شَهَادَةُ
الْأَخِ لِأَخِيهِ مَا لَمْ يَدْفَعْ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ
عَارًا عَلَى مَا قَالَ مَالِكٌ وَمَا لَمْ يَكُنْ مُنْقَطِعًا
إلَى أَخِيهِ يَنَالُهُ بِرُّهُ، وَصِلَتُهُ فَقَدْ اتَّفَقُوا
عَلَى إسْقَاطِ التُّهْمَةِ فِيهَا مَا عَدَا الْأَوْزَاعِيَّ
فَإِنَّهُ قَالَ لَا يَجُوزُ، وَمُفَادُ كَلَامِ الْأَصْلِ
أَنَّ التُّهْمَةَ فِيهَا تُلْغَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَنْبَلٍ، وَتُعْتَبَرُ عِنْدَنَا
مُطْلَقًا، وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ فَانْظُرْ ذَلِكَ
(وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ) مُخْتَلَفٌ فِيهَا هَلْ تَلْحَقُ
بِالرُّتْبَةِ الْعُلْيَا فَتُمْنَعُ أَوْ بِالرُّتْبَةِ
الدُّنْيَا فَلَا تُمْنَعُ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ شَهَادَةُ
الزَّوْجَيْنِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ فَإِنَّ مَالِكًا وَأَبَا
حَنِيفَةَ وَابْنَ حَنْبَلٍ رَدُّوهَا، وَأَجَازَهَا
الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْحَسَنُ، وَقَالَ ابْنُ
أَبِي لَيْلَى تُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتَيْهِ،
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا لَهُ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ،
وَمِنْهَا شَهَادَةُ الشَّاهِدِ لِصَدِيقِهِ الْمُلَاطِفِ
فَتُرَدُّ عِنْدَنَا، وَتُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
(4/113)
يَحْصُلُ تَحْوِيلُ الْعِتْقِ كَمَا
تَقَدَّمَ (وَعَنْ الْخَامِسِ) أَنَّهُ إذَا مَلَكَ الثُّلُثَ
فَقَطْ لَمْ يَحْصُلْ تَنَازُعُ الْعِتْقِ فِي، وَلَا
حِرْمَانَ مِنْ تَنَاوُلِهِ لَفْظَ الْعِتْقِ (وَعَنْ
السَّادِسِ) أَنَّ الْوَارِثَ لَوْ رَضِيَ بِتَنْفِيذِ عِتْقِ
الْجَمِيعِ لَصَحَّ فَهُوَ يَدْخُلُهُ الرِّضَا فَهَذِهِ
الْمَبَاحِثُ، وَهَذِهِ الِاخْتِلَافَاتُ وَالِاتِّفَاقَاتُ
يَتَخَلَّصُ مِنْهَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا
تَدْخُلُهُ الْقُرْعَةُ، وَمَا لَا تَدْخُلُهُ الْقُرْعَةُ،
وَأَنَّ ضَابِطَهُ التَّسَاوِي مَعَ قَبُولِ الرِّضَا
بِالنَّقْلِ، وَمَا فُقِدَ فِيهِ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ
تَعَذَّرَتْ فِيهِ الْقُرْعَةُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ.
(الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ
قَاعِدَةِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ كُفْرٌ وَقَاعِدَةِ مَا
لَيْسَ بِكُفْرٍ) :
اعْلَمْ أَنَّ النَّهْيَ يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ كَمَا أَنَّ
الْأَوَامِرَ تَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ فَأَعْلَى رُتَبِ
الْمَفَاسِدِ الْكُفْرُ، وَأَدْنَاهَا الصَّغَائِرُ
وَالْكَبَائِرُ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ،
وَأَكْثَرُ الْتِبَاسِ الْكُفْرِ إنَّمَا هُوَ بِالْكَبَائِرِ
فَأَعْلَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ يَلِيهَا أَدْنَى رُتَبِ
الْكُفْرِ، وَأَدْنَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ يَلِيهَا أَعْلَى
رُتَبِ الصَّغَائِرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ
بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ كُفْرٌ
وَقَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ إلَى قَوْلِهِ وَالْكَبَائِرُ
مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ) :
قُلْتُ: إنْ أَرَادَ الْمَفَاسِدَ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ فَلَا
شَكَّ أَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ، وَمَا عَدَاهُ
تَتَفَاوَتْ رُتَبُهُ. قَالَ: (وَأَكْثَرُ الْتِبَاسِ
الْكُفْرِ إنَّمَا هُوَ بِالْكَبَائِرِ إلَى قَوْلِهِ،
وَأَدْنَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ يَلِيهَا أَعْلَى رُتَبِ
الصَّغَائِرِ) قُلْتُ: مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ أَكْثَرَ
الْتِبَاسِ الْكُفْرِ إنَّمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَنْبَلٍ، وَمِنْهَا شَهَادَةُ
الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تُقْبَلُ
مُطْلَقًا، وَقَالَ مَالِكٌ لَا تُقْبَلُ مُطْلَقًا، وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ لَا تُقْبَلُ إلَّا أَنْ تَكُونَ فِي الدَّيْنِ.
لَنَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ»
الثَّانِي مَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ
بَدَوِيٍّ عَلَى حَضَرِيٍّ» لِقِلَّةِ شُهُودِ الْبَدَوِيِّ
مَا يَقَعُ فِي الْمِصْرِ الثَّالِثِ الْقِيَاسُ عَلَى مَا
أَجْمَعَ الْجُمْهُورُ عَلَيْهِ مِنْ تَأْثِيرِ الْعَدَاوَةِ
فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلُ إجْمَاعِهِمْ عَلَى
عَدَمِ تَوْرِيثِ الْقَاتِلِ الْمَقْتُولَ، وَعَلَى تَوْرِيثِ
الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ،
وَاحْتَجُّوا بِظَوَاهِرَ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى
{شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وقَوْله
تَعَالَى {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَالْفِقْهُ
مَعَ مَنْ كَانَتْ الْقَوَاعِدُ وَالنُّصُوصُ مَعَهُ أَظْهَرُ،
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ
لِفِسْقِهِ أَوْ كُفْرِهِ أَوْ صِغَرِهِ أَوْ رِقِّهِ ثُمَّ
أَدَّاهَا بَعْدَ زَوَالِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ
يَتَّهِمُ فِي تَنْفِيذِ مَا رُدَّ فِيهِ فَنَحْنُ وَابْنُ
حَنْبَلٍ مَنَعْنَاهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُقْبَلُ الْكُلُّ
إلَّا الْفَاسِقَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْفَاسِقَ تُسْمَعُ
شَهَادَتُهُ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي عَدَالَتِهِ فَيَتَحَقَّقُ
الرَّدُّ بِالظُّهُورِ عَلَى الْفِسْقِ، وَأُولَئِكَ لَمْ
تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمْ لِمَا عُلِمَ مِنْ صِفَاتِهِمْ فَلَا
يَتَحَقَّقُ الرَّدُّ الْبَاعِثُ عَلَى التُّهْمَةِ، وَلَنَا
وُجُوهٌ الْأَوَّلُ شَهَادَةُ الْعَوَائِدِ الثَّانِي أَنَّهُ
مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(الثَّالِثُ) أَنَّ الْعِلْمَ بِفِسْقِهِمْ لَوْ وَقَعَ قَبْلَ
الْأَدَاءِ لَمَا وَقَعَ الْأَدَاءُ، وَإِنَّمَا مَنَعْنَا
حَيْثُ وَقَعَ الْأَدَاءُ فَصِفَاتُهُمْ حِينَئِذٍ تَكُونُ
مَجْهُولَةً فَسَقَطَ الْفَرْقُ، وَعَكْسُهُ لَوْ حَصَلَ
الْبَحْثُ عَنْ الْفِسْقِ قَبْلَ الْأَدَاءِ قُبِلَتْ
شَهَادَتُهُ إذَا لَمْ تُرَدَّ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ
شَهَادَةُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ إذَا قَصَدُوا فِي التَّحَمُّلِ
دُونَ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ فَنَحْنُ مَنَعْنَاهَا فِي
الْبِيَاعَاتِ وَالنِّكَاحِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ
الْعُدُولَ إلَيْهِمْ مَعَ إمْكَانِ غَيْرِهِمْ تُهْمَةٌ فِي
إبْطَالِ مَا شَهِدُوا بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ
عَلَى قَرَوِيٍّ مُطْلَقًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيُّ تُقْبَلُ مُطْلَقًا لَنَا، وَجْهَانِ
الْأَوَّلُ حَدِيثُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ إلَخْ،
وَالثَّانِي حَمْلُ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد عَلَى مَوْضِعِ
التُّهْمَةِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُمُومَاتِ
الْمُتَقَدِّمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قَبُولِ الشَّهَادَةِ،
وَحُجَّتُهُمْ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ حَمْلُ حَدِيثِ أَبِي
دَاوُد عَلَى مَنْ لَمْ تُعْلَمْ عَدَالَتُهُ مِنْ
الْأَعْرَابِ قَالُوا: وَهُوَ أَوْلَى لِقِلَّةِ التَّخْصِيصِ
حِينَئِذٍ فِي تِلْكَ الْعُمُومَاتِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ
جَمْعَنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَجْلِ عَدَمِ
الْعَدَالَةِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ بِصَاحِبِ الْقَرْيَةِ
بَلْ لِلتُّهْمَةِ، وَالثَّانِي مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ
أَعْرَابِيًّا شَهِدَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَقَبِلَ
شَهَادَتَهُ عَلَى النَّاسِ» ، وَجَوَابُهُ أَنَّا نَقْبَلُهُ
فِي الْهِلَالِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ الْمُتَقَدِّمِ
ذِكْرُهَا، وَالثَّالِثُ أَنَّ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي
الْجِرَاحِ قُبِلَتْ فِي غَيْرِهَا كَالْحَضَرِيِّ، وَلِأَنَّ
الْجِرَاحَ آكَدُ مِنْ الْمَالِ فَفِي الْمَالِ أَوْلَى،
وَجَوَابُهُ أَنَّ الْجِرَاحَ يَقْصِدُ لَهَا الْخِلْوَاتِ
دُونَ الْمُعَامَلَاتِ فَكَانَتْ التُّهْمَةُ فِي
الْمُعَامَلَاتِ مَوْجُودَةً دُونَ الْجِرَاحِ هَذَا خُلَاصَةُ
مَا قَالَهُ الْأَصْلُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مَعَ
زِيَادَةٍ مِنْ بِدَايَةِ الْحَفِيدِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ
وَقَاعِدَةِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ]
(الْفَرْقُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ
قَاعِدَتَيْ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ، وَالدَّعْوَى
الْبَاطِلَةِ) وَهُوَ أَنَّ الْبَاطِلَةَ مَا كَانَتْ غَيْرَ
مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا بِأَنْ اخْتَلَّ مِنْهَا شَرْطٌ مِنْ
شُرُوطِهَا، وَالصَّحِيحَةُ مَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا
بِأَنْ اسْتَوْفَتْ شُرُوطَهَا وَشُرُوطُهَا خَمْسَةٌ:
(الشَّرْطُ الْأَوَّلُ) بَيَانُ الْمُدَّعِي فِيهِ بِأَنْ
يَكُونَ مُتَصَوَّرًا فِي ذِهْنِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى
عَلَيْهِ وَالْقَاضِي
(4/114)
وَأَصْلُ الْكُفْرِ إنَّمَا هُوَ
انْتِهَاكٌ خَاصٌّ لِحُرْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ إمَّا
بِالْجَهْلِ بِوُجُودِ الصَّانِعِ أَوْ صِفَاتِهِ الْعُلَى
وَيَكُونُ الْكُفْرُ بِفِعْلٍ كَرَمْيِ الْمُصْحَفِ فِي
الْقَاذُورَاتِ أَوْ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
هُوَ بِالْكَبَائِرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَكَيْفَ يَلْتَبِسُ
الْكُفْرُ بِالْكَبَائِرِ وَالْكُفْرُ أَمْرٌ اعْتِقَادِيٌّ
وَالْكَبَائِرُ أَعْمَالٌ، وَلَيْسَتْ بِاعْتِقَادٍ سَوَاءٌ
كَانَتْ أَعْمَالًا قَلْبِيَّةً أَوْ بَدَنِيَّةً. قَالَ:
(وَأَصْلُ الْكُفْرِ أَنَّهُ انْتِهَاكٌ خَاصٌّ لِحُرْمَةِ
الرُّبُوبِيَّةِ) قُلْتُ: لَيْسَ الْكُفْرُ انْتِهَاكَ
حُرْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ الْجَهْلُ
بِالرُّبُوبِيَّةِ فَلَا يَصْدُرُ عَادَةً مِمَّنْ يَدِينُ
بِالرُّبُوبِيَّةِ. قَالَ: (أَمَّا الْجَهْلُ بِوُجُودِ
الصَّانِعِ أَوْ صِفَاتِهِ الْعُلَى) قُلْتُ: الْجَهْلُ
بِذَلِكَ هُوَ الْكُفْرُ خَاصَّةً عِنْدَ مَنْ لَا يُصَحِّحُ
الْكُفْرَ عِنَادًا، وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يُصَحِّحُهُ
فَالْكُفْرُ إمَّا الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا
جَحْدُهُ وَانْتِهَاكُ الْحُرْمَةِ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ
الْجَهْلِ أَمَّا مَعَ الْعِلْمِ فَيَتَعَذَّرُ عَادَةً
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ: (وَيَكُونُ الْكُفْرُ بِفِعْلٍ كَرَمْيِ الْمُصْحَفِ
فِي الْقَاذُورَاتِ) قُلْتُ: رَمْيُ الْمُصْحَفِ فِي
الْقَاذُورَاتِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعَ الْعِلْمِ
بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ فَإِنْ كَانَ
مَعَ الْجَهْلِ فَالْكُفْرُ هُوَ الْجَهْلُ لَا عَيْنُ
رَمْيِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى
فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعَ التَّكْذِيبِ بِهِ أَوْ لَا
فَإِنْ كَانَ مَعَ التَّكْذِيبِ بِهِ فَهُوَ كُفْرٌ، وَإِلَّا
فَهُوَ مَعْصِيَةٌ غَيْرُ كُفْرٍ. قَالَ: (وَالسُّجُودُ
لِلصَّنَمِ) قُلْتُ: إنْ كَانَ السُّجُودُ لِلصَّنَمِ مَعَ
اعْتِقَادِ كَوْنِهِ إلَهًا فَهُوَ كُفْرٌ، وَإِلَّا فَلَا،
بَلْ يَكُونُ مَعْصِيَةً إنْ كَانَ لِغَيْرِهِ إكْرَاهٌ أَوْ
جَائِزٌ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
بِأَحَدِ نَوْعَيْنِ:
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ) بِبَيَانِ عَيْنِهِ كَدَعْوَى أَنَّ
هَذَا الثَّوْبَ أَوْ الْفَرَسَ اشْتَرَاهُ مِنْهُ أَوْ أَنَّ
هَذِهِ الدَّرَاهِمَ غُصِبَتْ مِنْهُ أَوْ بَيَانُ صِفَتِهِ
كَلِيِّ فِي ذِمَّتِهِ ثَوْبٌ أَوْ فَرَسٌ صِفَتُهُمَا كَذَا
أَوْ دَرَاهِمُ يَزِيدِيَّةٌ أَوْ مُحَمَّدِيَّةٌ أَوْ
سَبَّنِي أَوْ شَتَمَنِي أَوْ قَذَفَنِي بِلَفْظِ كَذَا إذْ
لَيْسَ كُلُّ سَبٍّ وَشَتْمٍ يُوجِبُ الْحَدَّ
(وَالنَّوْعُ الثَّانِي) بَيَانُ سَبَبِ الْمُدَّعِي فِيهِ
الْمُعَيَّنُ كَدَعْوَى الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ أَوْ
الرِّدَّةَ لِتَحَرُّرِ نَفْسِهَا، وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ أَوْ
بَيَانُ سَبَبِ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُعَيَّنِ كَدَعْوَى
الْمَرْأَةِ الْمَسِيسَ أَوْ الْقَتْلَ خَطَأً لِيَتَرَتَّبَ
الصَّدَاقُ أَوْ الدِّيَةُ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ أَوْ
الْعَاقِلَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِالنَّوْعِ قَالَ تَسْتَوِي
الْعَاصِمِيَّةُ، وَهَذَا النَّوْعُ بِمِثَالَيْهِ رَاجِعٌ فِي
الْمَعْنَى لِلنَّوْعِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ
يَقُولُ فِيهِمَا أَحْرَزْت نَفْسِي لِأَنَّك طَلَّقْتنِي،
وَلِي عَلَيْك صَدَاقٌ أَوْ دِيَةٌ لِأَنَّك مَسِسْتنِي أَوْ
قَتَلَتْ وَلِيِّي، وَكَذَا لَوْ قَالَ بِعْت لَك دَارِي أَوْ
أَجَرْتهَا مِنْك فَادْفَعْ لِي ثَمَنَهَا أَوْ أُجْرَتَهَا،
وَلِذِكْرِ السَّبَبِ فِي هَذَا النَّوْعِ لَا يَحْتَاجُ
الْمُدَّعِي فِيهِ لِبَيَانِ السَّبَبِ بِخِلَافِ النَّوْعِ
الْأَوَّلِ فَإِنَّ فِي كَوْنِ بَيَانِ السَّبَبِ فِيهِ كَانَ
يَقُولُ مَنْ تَعَدٍّ أَوْ بِيعَ قَالَ خَلِيلٌ وَكَفَى بِعْت
وَتَزَوَّجْت، وَحَمَلَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِلَّا
فَلْيَسْأَلْهُ الْحَاكِمُ عَنْ السَّبَبِ ثُمَّ قَالَ
وَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ السُّؤَالُ عَنْ السَّبَبِ اهـ.
لَيْسَ مِنْ تَمَامِ صِحَّةِ الدَّعْوَى أَوْ مِنْ تَمَامِ
صِحَّتِهَا خِلَافَانِ الْأَوَّلُ لِلْحَطَّابِ قَالَ
بِدَلِيلِ قَوْلِ خَلِيلٍ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَخْ،
وَالثَّانِي الرَّمَّاحِيُّ مُحْتَجًّا بِكَلَامِ
الْمَجْمُوعَةِ وَابْنِ عَرَفَةَ قَالَ التَّسَوُّلِيُّ،
وَاعْتِرَاضُ بَنَّانِيٍّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ
شَرْطًا لَبَطَلَتْ الدَّعْوَى مَعَ عَدَمِ ادِّعَاءِ
النِّسْيَانِ سَاقِطٌ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ هَذَا إنَّمَا
هُوَ شَرْطُ صِحَّةٍ إذَا لَمْ يَدَّعِ النِّسْيَانَ كَمَا
أَنَّ الدَّعْوَى بِالْمَجْهُولِ سَاقِطَةٌ مَعَ الْقُدْرَةِ
عَلَى التَّفْسِيرِ عِنْدَ الْمَازِرِيِّ، وَغَيْرِهِ كَمَا
يَأْتِي ثُمَّ قَالَ وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ بَيَانَ
السَّبَبِ مِنْ تَمَامِ صِحَّةِ الدَّعْوَى أَنَّهُ يُمْكِنُ
أَنْ يَكُونَ سَبَبُ مَا يَدَّعِيهِ فَاسِدًا كَوْنُهُ ثَمَنَ
خَمْرٍ أَوْ رِبًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَارِثٍ إذَا لَمْ يَسْأَلْهُ الْقَاضِي
عَنْهُ أَيْ السَّبَبِ كَانَ كَالْخَابِطِ خَبْطَ عَشْوَاءَ
قَالَ فَإِنْ سَأَلَهُ الْحَاكِمُ أَوْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
عَنْهُ، وَامْتَنَعَ مِنْ بَيَانِهِ لَمْ يُكَلَّفْ
الْمَطْلُوبُ بِالْجَوَابِ فَإِنْ ادَّعَى نِسْيَانَهُ قُبِلَ
بِغَيْرِ يَمِينٍ اهـ.
قَالَ التَّسَوُّلِيُّ وَيَنْبَنِي عَلَى بَيَانِهِ أَنَّ
الْمَطْلُوبَ إذَا قَالَ فِي جَوَابِهِ لَا حَقَّ لَك عَلَيَّ
لَا يُكْتَفَى مِنْهُ بِذَلِكَ بَلْ حَتَّى يَنْفِيَ السَّبَبَ
الَّذِي بَيَّنَهُ الْمُدَّعِي اهـ. وَفِي الْأَصْلِ قَالَتْ
الشَّافِعِيَّةُ، وَلَا يَلْزَمُ ذِكْرُ سَبَبِ مِلْكِ
الْمَالِ بِخِلَافِ سَبَبِ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ
لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ هَاهُنَا بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ،
وَهَلْ قَتَلَهُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ بِخِلَافِ
الْمَالِ، وَلِأَنَّ إتْلَافَهُ لَا يُسْتَدْرَكُ بِخِلَافِ
الْمَالِ، وَهَذَا لَا يُخَالِفُهُ أَصْحَابُنَا
وَقَوَاعِدُنَا تَقْتَضِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا تُسْمَعُ الدَّعَاوَى فِي النِّكَاحِ
حَتَّى يَقُولَ تَزَوَّجْتهَا بِوَلِيٍّ وَرِضَاهَا
وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ بِخِلَافِ دَعْوَى الْمَالِ وَغَيْرِهِ
مُحْتَجِّينَ بِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ
النِّكَاحَ خَطَرٌ كَالْقَتْلِ إذْ الْوَطْءُ لَا
يُسْتَدْرَكُ. الثَّانِي أَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا اخْتَصَّ
بِشُرُوطٍ زَائِدَةٍ عَلَى الْبَيْعِ مِنْ الصِّدْقِ
وَغَيْرِهِ خَالَفْت دَعْوَاهُ الدَّعَاوَى قِيَاسًا
لِلدَّعْوَى عَلَى الْمُدَّعَى بِهِ الثَّالِثُ أَنَّ
الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الْعُقُودِ يَدْخُلُهُ الْبَدَلُ
وَالْإِبَاحَةُ بِخِلَافِهِ فَكَانَ خَطَرًا فَيُحْتَاطُ فِيهِ
فَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِنَا مِنْ أَنَّ الدَّعْوَى فِي
النِّكَاحِ تُسْمَعُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ تَزَوَّجْتُهَا
بِوَلِيٍّ، وَبِرِضَاهَا بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ هِيَ
زَوْجَتِي.
وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَنَا
وَجْهَانِ الْأَوَّلُ الْقِيَاسُ عَلَى الْبَيْعِ وَالرِّدَّةُ
وَالْعِدَّةُ فَلَا يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لَهُمَا
فَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا الثَّانِي أَنَّ ظَاهِرَ عُقُودِ
الْمُسْلِمِينَ الصِّحَّةُ وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ
فَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ غَالِبَ دَعْوَى
الْمُسْلِمِ الصِّحَّةُ كَمَا عَلِمْت فَالِاسْتِدْرَاكُ
حِينَئِذٍ نَادِرٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَالْقَتْلُ خَطَرُهُ
أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ النِّكَاحِ
(4/115)
أَوْ التَّرَدُّدِ لِلْكَنَائِسِ فِي
أَعْيَادِهِمْ بِزِيِّ النَّصَارَى، وَمُبَاشَرَةِ
أَحْوَالِهِمْ أَوْ جَحْدِ مَا عُلِمَ مِنْ الدِّينِ
بِالضَّرُورَةِ فَقَوْلُنَا انْتِهَاكٌ خَاصٌّ احْتِرَازٌ مِنْ
الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ فَإِنَّهَا انْتِهَاكٌ،
وَلَيْسَتْ كُفْرًا وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا الْخُصُوصِ
بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَجَحْدُ مَا عُلِمَ
مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَجَحْدِ الصَّلَاةِ
وَالصَّوْمِ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْوَاجِبَاتِ
وَالْقُرُبَاتِ بَلْ لَوْ جَحَدَ بَعْضَ الْإِبَاحَاتِ
الْمَعْلُومَةِ بِالضَّرُورَةِ كَفَرَ كَمَا لَوْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (أَوْ التَّرَدُّدُ إلَى الْكَنَائِسِ فِي
أَعْيَادِهِمْ، وَمُبَاشَرَةُ أَحْوَالِهِمْ) قُلْتُ: هَذَا
لَيْسَ بِكُفْرٍ إلَّا أَنْ يَعْتَقِدَ مُعْتَقَدَهُمْ. قَالَ:
(أَوْ جَحَدَ مَا عُلِمَ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ)
قُلْتُ: هَذَا كُفْرٌ إنْ كَانَ جَحَدَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ
فَيَكُونُ تَكْذِيبًا، وَإِلَّا فَهُوَ جَهْلٌ وَذَلِكَ
الْجَهْلُ مَعْصِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ بِإِزَالَةِ مِثْلِ
هَذَا الْجَهْلِ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ. قَالَ: (فَقَوْلُنَا
انْتِهَاكٌ خَاصٌّ احْتِرَازٌ مِنْ الْكَبَائِرِ
وَالصَّغَائِرِ فَإِنَّهَا انْتِهَاكٌ، وَلَيْسَتْ كُفْرًا
وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا الْخُصُوصِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى) قُلْتُ: لَيْسَتْ الْكَبَائِرُ
وَالصَّغَائِرُ انْتِهَاكًا لِحُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَإِنَّمَا هِيَ جُرْأَةٌ عَلَى مُخَالَفَةٍ تُحْمَلُ
عَلَيْهَا الْأَغْرَاضُ وَالشَّهَوَاتُ. قَالَ: (وَجَحْدُ مَا
عُلِمَ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ إلَى قَوْلِهِ، وَإِنْ
كُنَّا نُكَفِّرُ بِذَلِكَ الْجَحْدِ غَيْرَهُ) قُلْتُ مَا
قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ إلَّا كَوْنَهُ اقْتَصَرَ عَلَى
اشْتِرَاطِ شُهْرَةِ ذَلِكَ الْأَمْرِ مِنْ الدِّينِ بَلْ لَا
بُدَّ مِنْ اشْتِهَارِ ذَلِكَ مِنْ وُصُولِ ذَلِكَ إلَى هَذَا
الشَّخْصِ وَعِلْمِهِ بِهِ فَيَكُونُ إذْ ذَاكَ مُكَذِّبًا
لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ فَيَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا
أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَكَانَ مِنْ
مَعَالِمِ الدِّينِ الْمُشْتَهِرَةِ فَهُوَ عَاصٍ بِتَرْكِ
التَّسَبُّبِ إلَى عِلْمِهِ لَيْسَ بِكَافِرٍ، وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَالنَّذْرِ وَهُوَ الْفَرْقُ الْمَانِعُ مِنْ الْقِيَاسِ
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ دَعْوَى الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ
شُرُوطَهُ بِدَلِيلِ الْبَيْعِ فَكَمَا لَا يَحْتَاجُ
الْبَيْعُ فِي دَعْوَاهُ إلَى الشُّرُوطِ كَذَلِكَ النِّكَاحُ
لَا يَحْتَاجُ فِي دَعْوَاهُ إلَيْهَا وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ
الرِّدَّةَ وَالْعُدَّةَ لَا يَدْخُلُهُمَا الْبَدْلَ
وَيَكْفِي الْإِطْلَاقُ فِيهِمَا اهـ.
قَالَ تُسُولِيُّ الْعَاصِمِيَّةِ وَخَرَجَ بِهَذَا الشَّرْطِ
الدَّعْوَى بِمَجْهُولِ الْعَيْنِ أَوْ الصِّفَةِ كَلِيِّ
عَلَيْهِ شَيْءٌ لَا يَدْرِي جِنْسَهُ وَنَوْعَهُ أَوْ أَرْضٌ
لَا يَدْرِي حُدُودَهَا أَوْ ثَوْبٌ لَا يَدْرِي صِفَتَهُ أَوْ
دَرَاهِمُ لَا يَدْرِي صِفَتَهَا وَلَا قَدْرَهَا وَنَحْوَ
ذَلِكَ فَلَا نَسْمَعُ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ لَوْ أَقَرَّ
وَقَالَ نَعَمْ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ أَوْ أَنْكَرَ وَقَامَتْ
الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِهَذَا
الْإِقْرَارِ وَلَا بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ إذْ الْكُلُّ
مَجْهُولٌ وَالْحُكْمُ بِهِ مُتَعَذِّرٌ فَلَيْسَ الْحُكْمُ
بِالْهَرَوِيِّ بِأَوْلَى مِنْ الْمَرْوِيِّ مَثَلًا وَلَا
بِالْيَزِيدِيَّةِ بِأَوْلَى مِنْ الْمُحَمَّدِيَّةِ إذْ مِنْ
شَرْطِ صِحَّةِ الْحُكْمِ تَعْيِينُ الْمَحْكُومِ بِهِ وَلَا
تَعْيِينَ هَاهُنَا وَهَكَذَا نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَهُوَ
ظَاهِرٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِ ابْنِ عَاصِمٍ:
وَمَنْ لِطَالِبٍ بِحَقٍّ شَهِدَا
وَلَمْ يُحَقَّقْ عِنْدَ ذَاكَ الْعَدَدُ إلَخْ وَقَالَ
الْمَازِرِيُّ تُسْمَعُ الدَّعْوَى بِالْمَجْهُولِ
الْبِسَاطِيِّ وَهُوَ الصَّوَابُ لِقَوْلِهِمْ يَلْزَمُ
الْإِقْرَارُ بِالْمَجْهُولِ وَيُؤْمَرُ بِتَفْسِيرِهِ
فَكَذَلِكَ هَذَا يُؤْمَرُ بِالْجَوَابِ لَعَلَّهُ يُقِرُّ
فَيُؤْمَرُ بِالتَّفْسِيرِ وَيُسْجَنُ لَهُ.
فَإِنْ ادَّعَى الْمُقِرُّ الْجَهْلَ أَيْضًا فَانْظُرْ مَا
يَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ وَمَنْ لِطَالِبٍ بِحَقٍّ شَهِدَا
إلَخْ وَانْظُرْ شَرْحَنَا لِلشَّامِلِ أَوَّلَ بَابِ
الصُّلْحِ قَالَ الْحَطَّابُ مَسَائِلُ الْمُدَوَّنَةِ
مُرِيحَةٌ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى بِالْمَجْهُولِ
الْمَازِرِيِّ وَلَيْسَ مِنْهُ الدَّعْوَى عَلَى سِمْسَارٍ
دَفَعَ إلَيْهِ ثَوْبًا لِيَبِيعَهُ بِدِينَارَيْنِ
وَقِيمَتُهُ دِينَارٌ وَنِصْفٌ لِأَنَّ الدَّعْوَى هُنَا
تَعَلَّقَتْ بِأَمْرٍ مَعْلُومٍ فِي الْأَصْلِ وَلَا يَضُرُّهُ
كَوْنُهُ لَا يَدْرِي مَا يَجِبُ لَهُ عَلَى السِّمْسَارِ هَلْ
الثَّمَنُ الَّذِي سَمَّاهُ إنْ بَاعَ أَوْ قِيمَتُهُ إنْ
اسْتَهْلَكَهُ أَوْ غَيَّبَهُ إنْ لَمْ يَبِعْ اهـ إلَخْ.
قُلْتُ الدَّعْوَى هُنَا إنَّمَا هِيَ فِي الثَّوْبِ وَهُوَ
مُعَيَّنٌ فَهُوَ يُطَالِبُهُ بِرَدِّهِ لَكِنْ إنْ
اسْتَهْلَكَ أَوْ بَاعَ فَيُرَدُّ الثَّمَنُ أَوْ الْقِيمَةُ
لِقِيَامِهِمَا مَقَامَهُ تَأَمَّلْ. اهـ. كَلَامُ
التَّسَوُّلِيِّ وَفِي الْأَصْلِ قَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ لَا
يَصِحُّ دَعْوَى الْمَجْهُولِ إلَّا فِي الْإِقْرَارِ
وَالْوَصِيَّةِ لِصِحَّةِ الْقَضَاءِ بِالْوَصِيَّةِ
الْمَجْهُولَةِ كَثُلُثِ الْمَالِ وَالْمَالُ غَيْرُ مَعْلُومٍ
وَصِحَّةُ الْمِلْكِ فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ مِنْ
غَيْرِ حُكْمٍ وَيُلْزِمُهُ الْحَاكِمُ بِالتَّعْيِينِ
وَقَالَهُ أَصْحَابُنَا وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ إنْ ادَّعَى
بِدَيْنٍ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَثْمَانِ ذَكَرَ الْجِنْسَ
دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ وَالنَّوْعَ مِصْرِيَّةً أَوْ
مَغْرِبِيَّةً وَالصِّفَةَ صِحَاحًا أَوْ مُكَسَّرَةً
وَالْمِقْدَارَ وَالسِّكَّةَ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ
الْأَثْمَانِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا تَضْبِطُهُ الصِّفَةُ ذَكَرَ
الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةَ فِي السَّلَمِ وَالْأَحْوَطُ أَنْ
يَذْكُرَ مَعَهَا الْقِيمَةَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا
تَضْبِطُهُ الصِّفَةُ كَالْجَوَاهِرِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ
الْقِيمَةِ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَيَذْكُرُ فِي
الْأَرْضِ وَالدَّارَ اسْمَ الصُّقْعِ وَالْبَلَدِ وَفِي
السَّيْفِ الْمُحَلَّى بِالذَّهَبِ قِيمَتَهُ فِضَّةً
وَبِالْفِضَّةِ قِيمَتَهُ ذَهَبًا أَوْ بِهِمَا قَوَّمَهُ
بِمَا يَشَاءُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ وَهَذَا لَا
يُخَالِفُهُ أَصْحَابُنَا وَقَوَاعِدُنَا تَقْتَضِيهِ اهـ.
(الشَّرْطُ الثَّانِي) تَحَقُّقُ الدَّعْوَى بِالْمُدَّعَى
فِيهِ أَيْ جَزْمُهَا وَقَطْعُهَا بِأَنْ يَقُولَ لِي عَلَيْهِ
كَذَا احْتِرَازًا مِنْ نَحْوِ أَشُكُّ أَوْ أَظُنُّ أَنَّ لِي
كَذَا فَإِنَّهَا لَا تَسْمَعُ قَالَ الْأَصِيلُ وَفِي
اشْتِرَاطِ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيَّةُ هَذَا نَظَرٌ
لِأَنَّ مَنْ وَجَدَ وَثِيقَةً فِي تَرِكَةِ مَوْرُوثِهِ أَوْ
أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِحَقٍّ لَهُ فَلَا يُفِيدُهُ ذَلِكَ إلَّا
الظَّنَّ وَمَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ الدَّعْوَى بِهِ وَإِنْ
شَهِدَ بِالظَّنِّ كَمَا لَوْ شَهِدَ بِالِاسْتِفَاضَةِ
وَالسَّمَاعِ وَالْفَلَسِ وَحَصَرَ الْوَرَثَةَ وَصَرَّحَ
بِالظَّنِّ الَّذِي هُوَ مُسْتَنَدُهُ فِي الشَّهَادَةِ فَلَا
يَكُونُ قَادِحًا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لِأَنَّ مَا جَازَ
الْإِقْدَامُ مَعَهُ لَا يَكُونُ النُّطْقُ بِهِ قَادِحًا
قَالَ التَّسَوُّلِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ وَأَجَابَ
بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الظَّنَّ هَاهُنَا لِقُوَّتِهِ نُزِّلَ
مَنْزِلَةَ الْقَطْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ جَازَ لَهُ
الْحَلِفُ مَعَهُ.
قَالَ خَلِيلٌ وَاعْتَمَدَ الْبَابَ عَلَى ظَنٍّ قَوِيٍّ
كَخَطِّهِ أَوْ خَطِّ
(4/116)
قَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبِحْ
التِّينَ، وَلَا الْعِنَبَ، وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّ جَاحِدَ
مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ يَكْفُرُ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ لَا
بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ مُشْتَهِرًا فِي
الدِّينِ حَتَّى صَارَ ضَرُورِيًّا فَكَمْ مِنْ الْمَسَائِلِ
الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا إجْمَاعًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا
خَوَاصُّ الْفُقَهَاءِ فَجَحْدُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ
الَّتِي يَخْفَى الْإِجْمَاعُ فِيهَا لَيْسَ كُفْرًا بَلْ قَدْ
جَحَدَ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ
الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ كَالنَّظَّامِ، وَلَمْ أَرَ
أَحَدًا قَالَ بِكُفْرِهِمْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ جَحَدُوا
أَصْلَ الْإِجْمَاعِ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ بَذَلُوا
جُهْدَهُمْ فِي أَدِلَّتِهِ فَمَا ظَفِرُوا بِهَا كَمَا ظَفِرَ
بِهَا الْجُمْهُورُ فَكَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي حَقِّهِمْ.
كَمَا أَنَّ مُتَجَدِّدَ الْإِسْلَامِ إذَا قَدِمَ مِنْ أَرْضِ
الْكُفْرِ وَجَحَدَ فِي مَبَادِئِ أَمْرِهِ بَعْضَ شَعَائِرِ
الْإِسْلَامِ الْمَعْلُومَةِ لَنَا مِنْ الدِّينِ
بِالضَّرُورَةِ لَا نُكَفِّرُهُ لِعُذْرِهِ بِعَدَمِ
الِاطِّلَاعِ، وَإِنْ كُنَّا نُكَفِّرُ بِذَلِكَ الْجَحْدِ
غَيْرَهُ وَبِهَذَا التَّقْرِيبِ نُجِيبُ عَنْ سُؤَالِ
السَّائِلِ كَيْفَ تُكَفِّرُونَ جَاحِدَ الْمَسَائِلِ
الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، وَلَا تُكَفِّرُونَ جَاحِدَ أَصْلِ
الْإِجْمَاعِ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ الْفَرْعُ أَقْوَى مِنْ
الْأَصْلِ؟ . وَالْجَوَابُ بِأَنْ نَقُولَ إنَّا لَمْ
نُكَفِّرْ بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُجْمَعٌ
عَلَيْهِ بَلْ مِنْ حَيْثُ الشُّهْرَةُ الْمُحَصِّلَةُ
لِلضَّرُورَةِ فَمَتَى انْضَافَتْ هَذِهِ الشُّهْرَةُ
لِلْإِجْمَاعِ كَفَرَ جَاحِدُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَإِذَا
لَمْ تَنْضَفْ لَمْ نُكَفِّرْهُ وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ
لَمْ يُجْعَلْ الْفَرْعُ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا
يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَفَّرْنَا بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ
مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ مُشْتَهِرٌ فَمَنْ
جَحَدَ إبَاحَةَ الْفَرَائِضِ لَا نُكَفِّرُهُ مِنْ حَيْثُ
إنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ
فِيهِ إنَّمَا يَعْلَمُهُ خَوَاصُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ نُجِيبُ عَلَى سُؤَالِ
السَّائِلِ إلَى قَوْلِهِ الْإِجْمَاعُ فِيهِ إنَّمَا
يَعْلَمُهُ خَوَاصُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
أَبِيهِ إلَخْ ثُمَّ عَدَمُ سَمَاعِهَا فِي الظَّنِّ الَّذِي
لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَطْعِ بِأَنَّ
يَمِينَ التُّهْمَةِ لَا تَتَوَجَّهُ أَبُو الْحَسَنِ
وَالْمَشْهُورُ تَوَجُّهُهَا ابْنُ فَرْحُونٍ يُرِيدُ بَعْدَ
إثْبَاتِ كَوْنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ تَلْحَقُهُ
التُّهْمَةُ اهـ.
وَعَلَيْهِ فَتُسْمَعُ فِيمَنْ ثَبَتَتْ تُهْمَتُهُ، وَإِلَّا
فَلَا خَلِيلٌ، وَاسْتَحَقَّ بِهِ بِيَمِينٍ إنْ حَقَّقَ
وَيَمِينِ تُهْمَةٍ بِمُجَرَّدِ النُّكُولِ إلَخْ.
وَقَالَ ابْنُ عَاصِمٍ وَتُهْمَةٍ إنْ قَوِيَتْ بِهَا تَجِبْ
يَمِينُ مَتْهُومٍ إلَخْ قَالَ التَّسَوُّلِيُّ وَلِقَائِلٍ
أَنْ يَقُولَ إنَّ الدَّعْوَى تُسْمَعُ هَاهُنَا، وَلَوْ
قُلْنَا بِعَدَمِ تَوَجُّهِ عَيْنِ التُّهْمَةِ فَيُؤْمَرُ
بِالْجَوَابِ لَعَلَّهُ يُقِرُّ فَتَأَمَّلْهُ فَلَوْ قَالَ
أَظُنُّ أَنَّ لِي عَلَيْهِ أَلْفًا فَقَالَ الْآخَرُ أَظُنُّ
أَنِّي قَضَيْته لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لِتَعَذُّرِ
الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ إذْ كُلٌّ مِنْهَا شَاكٌّ فِي
وُجُوبِ الْحَقِّ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ فَلَيْسَ الْقَضَاءُ
بِقَوْلِ الْمُدَّعِي بِأَوْلَى مِنْ الْقَضَاءِ بِقَوْلِ
الْآخَرِ فَلَوْ قَالَ الْمَطْلُوبُ نَعَمْ كَانَ لَهُ
الْأَلْفُ عَلَيَّ، وَأَظُنُّ أَنِّي قَضَيْته لَزِمَهُ
الْأَلْفُ قَطْعًا، وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ قَضَاهُ
ثُمَّ قَالَ التَّاوَدِيُّ وَالتُّسُولِيُّ، وَالتَّحَقُّقُ
فِي هَذَا الشَّرْطِ رَاجِعٌ لِلتَّصْدِيقِ، وَالْعِلْمُ
وَالْبَيَانُ فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ رَاجِعٌ لِلتَّصَوُّرِ
فَلَا يُغْنِي أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ كَمَا لِابْنِ عَبْدِ
السَّلَامِ فِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ اهـ.
(الشَّرْطُ الثَّالِثُ) كَوْنُ الْمُدَّعَى فِيهِ ذَا غَرَضٍ
صَحِيحٍ أَيْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نَفْعٌ شَرْعِيٌّ
احْتِرَازٌ مِنْ الدَّعْوَى بِقَمْحَةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ أَوْ
عُشْرِ سِمْسِمَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِذَا لَا يُمَكَّنُ
الْمُسْتَأْجِرُ لِلْبِنَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ قَلْعِ مَا لَا
قِيمَةَ لَهُ.
(الشَّرْطُ الرَّابِعُ) كَوْنُ الْمُدَّعِي فِيهِ مِمَّا لَوْ
أَقَرَّ بِهِ الْمَطْلُوبُ لَقَضَى عَلَيْهِ بِهِ احْتِرَازًا
مِنْ الدَّعْوَى بِأَنَّهُ قَالَ دَارِي صُدِّقُوا بِيَمِينٍ
مُطْلَقًا أَوْ بِغَيْرِهَا، وَلَمْ يُعَيِّنْ إلَخْ، وَمِنْ
الدَّعْوَى عَلَيْهِ بِالْوَصِيَّةِ لِلْمَسَاكِينِ، وَمِمَّا
يُؤْمَرُ فِيهِ بِالطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ كَقَوْلِهِ
إنْ كُنْت تُحِبِّينِي أَوْ تُبْغِضِينِي، وَمِنْ الدَّعْوَى
عَلَى الْمَحْجُورِ بِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ
فَلَا يَلْزَمُهُ، وَلَوْ ثَبَتَ بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ مَا
إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الِاسْتِهْلَاكُ أَوْ الْغَصْبُ،
وَنَحْوُهُمَا خَلِيلٌ، وَضَمِنَ مَا أَفْسَدَ إنْ لَمْ
يُؤْمَنْ عَلَيْهِ اهـ.
قَالَ التَّسَوُّلِيُّ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْمَحْجُورَ
لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَيْهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلَوْ
نَصَبَهُ وَلِيُّهُ لِمُعَامَلَاتِ النَّاسِ بِمَالٍ دَفَعَهُ
إلَيْهِ لِلتِّجَارَةِ لِيَخْتَبِرَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ إذْ
الدَّيْنُ اللَّاحِقُ لَا يَلْزَمُهُ لَا فِيمَا دُفِعَ
إلَيْهِ، وَلَا فِيمَا بَقِيَ، وَلَا فِي ذِمَّتِهِ لِأَنَّهُ
لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ مِنْ الْوِلَايَةِ قَالَهُ فِي
الْمُدَوَّنَةِ، وَقِيلَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْمَالِ
الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ خَاصَّةً، وَهَذَا إذَا لَمْ يُصَنْ بِهِ
مَالُهُ، وَإِلَّا فَيَضْمَنُ فِي الْمَالِ الْمَصُونِ، وَهُوَ
مَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ التَّصْوِينِ، وَانْظُرْ مَا يَأْتِي
لَنَا عِنْدَ قَوْلِهِ " وَجَارٍ لِلْوَصِيِّ فِيمَا حَجَرَا
إعْطَاءُ بَعْضِ مَالِهِ مُخْتَبَرًا " قَالَ وَالظَّاهِرُ
أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُغْنِي عَنْ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَا
يَحْتَرِزُ بِهِ عَنْ دَعْوَى الْهِبَةِ وَالْوَعْدِ لِأَنَّهُ
يُؤْمَرُ بِالْجَوَابِ فِيهِمَا، وَلَوْ عَلَى الْقَوْلِ
بِعَدَمِ لُزُومِهِمَا بِالْقَوْلِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقِرَّ،
وَلَا يَرْجِعُ عَنْ الْهِبَةِ، وَلَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ اهـ
كَلَامُ التَّسَوُّلِيِّ قُلْت وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ وَلَا
يُحْتَرَزُ بِهِ إلَخْ لِدَفْعِ قَوْلِ التَّاوَدِيِّ أَنَّهُ
احْتِرَازٌ مِنْ دَعْوَى الْهِبَةِ عَلَى الْقَوْلِ الشَّاذِّ،
وَهُوَ أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ بِالْقَوْلِ اهـ.
(الشَّرْطُ الْخَامِسُ) كَوْنُ الْعَادَةِ لَا تُكَذَّبُ
الدَّعْوَى بِالْمُدَّعَى فِيهِ قَالَ التَّسَوُّلِيُّ
وَاحْتُرِزَ بِهِ مِنْ الدَّعْوَى بِالْغَصْبِ وَالْفَسَادِ
عَلَى رَجُلٍ صَالِحٍ خَلِيلٌ وَأَدَبٍ مُمَيَّزٍ كَمُدَّعِيهِ
عَلَى صَالِحٍ اهـ وَمِنْ مَسْأَلَةِ الْحِيَازَةِ
الْمُعْتَبَرَةِ فَإِنَّ الدَّعْوَى لَا تُسْمَعُ فِيهَا،
وَقِيلَ تُسْمَعُ، وَيُؤْمَرُ الْمَطْلُوبُ بِجَوَابِهَا
لَعَلَّهُ يُقِرُّ أَوْ يُنْكِرُ فَيَحْلِفُ قَالَهُ
الْحَطَّابُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ اهـ.
وَفِي الْأَصْلِ أَنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ الدَّعْوَى الَّتِي
تُكَذِّبُهَا الْعَادَةُ كَدَعْوَى الْحَاضِرِ الْأَجْنَبِيِّ
مِلْكَ دَارٍ فِي يَدِ زَيْدٍ، وَهُوَ حَاضِرٌ يَرَاهُ
يَهْدِمُ وَيَبْنِي وَيُؤَاجِرُ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ مِنْ
غَيْرِ وَازِعٍ يَزَعُهُ عَنْ الطَّلَبِ مِنْ رَهْبَةِ أَوْ
رَغْبَةٍ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِظُهُورِ كَذِبِهَا،
وَالسَّمَاعُ إنَّمَا هُوَ لِتَوَقُّعِ الصِّدْقِ فَإِذَا
تَبَيَّنَ الْكَذِبُ عَادَةً امْتَنَعَ تَوَقُّعُ الصِّدْقِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي طُولِ الزَّمَانِ الَّذِي تُكَذِّبُ بِهِ
الْعَادَةُ دَعْوَى
(4/117)
الْفُقَهَاءِ أَوْ الْفُقَهَاءُ دُونَ
غَيْرِهِمْ، وَأَلْحَقَ الْأَشْعَرِيُّ بِالْكُفْرِ إرَادَةَ
الْكُفْرِ كَبِنَاءِ الْكَنَائِسِ لِيَكْفُرَ فِيهَا أَوْ
قَتْلِ نَبِيٍّ مَعَ اعْتِقَادِهِ صِحَّةَ رِسَالَتِهِ
لِيُمِيتَ شَرِيعَتَهُ، وَمِنْهُ تَأْخِيرُ إسْلَامِ مَنْ
أَتَى لِيُسْلِمَ عَلَى يَدَيْك فَتُشِيرُ عَلَيْهِ
بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ إرَادَةٌ لِبَقَاءِ
الْكُفْرِ.
وَلَا يَنْدَرِجُ فِي إرَادَةِ الْكُفْرِ الدُّعَاءُ بِسُوءِ
الْخَاتِمَةِ عَلَى مَنْ تُعَادِيهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ
إرَادَةُ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
الْفُقَهَاءِ أَوْ الْفُقَهَاءُ دُونَ غَيْرِهِمْ) قُلْتُ: مَا
قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ إلَّا مَا نَقَضَهُ مِنْ شَرْطِ
عِلْمِ هَذَا الشَّخْصِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُشْتَهَرِ.
قَالَ: (وَأَلْحَقَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِالْكُفْرِ إرَادَةَ
الْكُفْرَ كَبِنَاءِ الْكَنَائِسِ لِيَكْفُرَ فِيهَا) قُلْتُ:
إنْ كَانَ بَنَاهَا الشَّخْصُ لِاعْتِقَادِهِ رُجْحَانَ
الْكُفْرِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَهُوَ كُفْرٌ لَا شَكَّ، وَإِنْ
كَانَ بَنَاهَا الْكَافِرُ إرَادَةَ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ
وَالتَّوَدُّدِ لَهُ بِذَلِكَ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرٌ.
قَالَ: (أَوْ قَتْلِ نَبِيٍّ مَعَ اعْتِقَادِهِ صِحَّةَ
رِسَالَتِهِ لِيُمِيتَ شَرِيعَتَهُ) قُلْتُ: ذَلِكَ كُفْرٌ،
وَلَكِنْ لَا يَتَأَتَّى فَرْضُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ مِنْ
يُجَوِّزُ الْكُفْرَ عِنَادًا. قَالَ: (وَمِنْهُ تَأْخِيرُ
إسْلَامِ مَنْ أَتَى لِيُسْلِمَ عَلَى يَدَيْكَ فَتُشِيرُ
عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ إرَادَةٌ
لِبَقَاءِ الْكُفْرِ) قُلْتُ: ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا إنْ
كَانَ إنَّمَا أَشَارَ بِالتَّأْخِيرِ لِاعْتِقَادِهِ
رُجْحَانَ الْكُفْرِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كُفْرًا إنْ كَانَ
إنَّمَا أَرَادَ بِالتَّأْخِيرِ لِكَوْنِهِ لَا يُرِيدُ
لِهَذَا الْإِسْلَامِ لِحِقْدٍ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ نَحْوِ
ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَعْتَقِدَ الْمُشِيرُ
رُجْحَانَ الْكُفْرِ. قَالَ: (وَلَا يَنْدَرِجُ فِي إرَادَةِ
الْكُفْرِ الدُّعَاءُ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ عَلَى مَنْ
تُعَادِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ إرَادَةُ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ
لَيْسَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْحَاضِرِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَمْ يَحُدَّهُ مَالِكٌ
بِالْعَشِيرَةِ بَلْ قَالَ مَنْ أَقَامَتْ بِيَدِهِ دَارٌ
سِنِينَ يَكْرِي وَيَهْدِمُ وَيَبْنِي فَأَقَمْت بِبَيِّنَةِ
أَنَّهَا لَك أَوْ لِأَبِيك أَوْ لِجَدِّك، وَثَبَتَتْ
الْمَوَارِيثُ، وَأَنْتَ حَاضِرٌ تَرَاهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ
فَلَا حُجَّةَ لَك فَإِنْ كُنْت غَائِبًا أَفَادَك إقَامَةُ
الْبَيِّنَةِ وَالْعُرُوضِ، وَالْحَيَوَانُ وَالرَّقِيقُ
كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَصْحَابُ فِي كِتَابِ
الْإِجَارَاتِ إذَا ادَّعَى بِأُجْرَةٍ مِنْ سِنِينَ لَا
تُسْمَعُ دَعْوَاهُ إنْ كَانَ حَاضِرًا، وَلَا مَانِعَ لَهُ،
وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى بِثَمَنِ سِلْعَةٍ مِنْ زَمَنٍ
قَدِيمٍ، وَلَا مَانِعَ مِنْ طَلَبِهِ، وَعَادَتُهَا تُبَاعُ
بِالنَّقْدِ، وَشَهِدَتْ الْعَادَةُ أَنَّ هَذَا الثَّمَنَ لَا
يَتَأَخَّرُ، وَقَالَ رَبِيعَةُ عَشْرُ سِنِينَ تَقْطَعُ
الدَّعْوَى لِلْحَاضِرِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بِبَيِّنَةٍ
أَنَّهُ أَكْرَى أَوْ أَسْكَنَ أَوْ أَعَارَ، وَلَا حِيَازَةَ
عَلَى غَائِبٍ، وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَازَ شَيْئًا
عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ لَهُ» ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى
{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] فَكُلُّ شَيْءٍ
يُكَذِّبُهُ الْعُرْفُ وَجَبَ أَنْ لَا يُؤْمَرَ بِهِ بَلْ
يُؤْمَرُ بِالْمِلْكِ لِحَائِزِهِ لِأَنَّ الْعُرْفَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْحِيَازَةُ مِنْ الثَّمَانِيَةِ
إلَى الْعَشَرَةِ، وَأَمَّا فِي الْأَقَارِبِ فَقَالَ مَالِكٌ
الْحِيَازَةُ الْمُكَذِّبَةُ لِلدَّعْوَى فِي الْعَقَارِ
نَحْوُ الْخَمْسِينَ سَنَةً لِأَنَّ الْأَقَارِبَ
يَتَسَامَحُونَ لِبِرِّ الْقَرَابَةِ أَكْثَرَ مِنْ
الْأَجَانِبِ إمَّا لِدُونِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الطُّولِ
فَلَا تَكُونُ الدَّعْوَى كَاذِبَةً، وَخَالَفَنَا
الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَسَمِعَ الدَّعْوَى
فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ لَنَا النُّصُوصُ
الْمُتَقَدِّمَةُ، وَهَذَا قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الدَّعْوَى
الثَّلَاثَةِ، وَيَبْقَى قِسْمَانِ دَاخِلَانِ تَحْتَ
قَاعِدَةِ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ: (الْأَوَّلُ) مَا
تُصَدِّقُهَا الْعَادَةُ كَدَعْوَى الْقَرِيبِ الْوَدِيعَةَ.
(وَالثَّانِي) مَا لَمْ تَقْضِ الْعَادَةُ بِصِدْقِهَا، وَلَا
بِكَذِبِهَا كَدَعْوَى الْمُعَامَلَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا
الْخُلْطَةُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى فِي بَيَانِ قَاعِدَتَيْ مَنْ يَحْلِفُ وَمَنْ لَا
اهـ كَلَامُ الْأَصْلِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ.
(تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ) قَالَ التَّسَوُّلِيُّ عُلِمَ
مِمَّا مَرَّ أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ كُلَّهَا مَبْحُوثٌ
فِيهَا مَا عَدَا الشَّرْطَ الرَّابِعَ اهـ فَافْهَمْ.
(التَّنْبِيهُ الثَّانِي) قَالَ التَّاوَدِيُّ عَلَى
الْعَاصِمِيَّةِ هَذِهِ شُرُوطُ الدَّعْوَى، وَأَمَّا
الدَّعْوَى نَفْسُهَا فَقَالَ الْقَرَافِيُّ هِيَ طَلَبٌ
مُعَيَّنٌ كَهَذَا الثَّوْبِ، وَمَا فِي ذِمَّةِ مُعَيَّنٌ
كَالدَّيْنِ وَالسَّلَمِ، وَادِّعَاءِ مَا يَتَرَتَّبُ
عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا أَيْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
الْمُعَيَّنُ كَدَعْوَى الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا
الطَّلَاقَ أَوْ الرِّدَّةَ لِتُحَرِّرَ نَفْسَهَا، وَهِيَ
مُعَيَّنَةٌ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا فِي ذِمَّةِ
مُعَيَّنٍ كَدَعْوَى الْمَسِيسِ أَوْ الْقَتْلِ لِيَتَرَتَّبَ
الصَّدَاقُ وَالدِّيَةُ فِي ذِمَّةِ الْعَاقِلَةِ
الْمُعَيَّنَةِ بِالنَّوْعِ اهـ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى تُسْمَعُ الدَّعَاوَى فِي النِّكَاحِ
وَإِنْ لَمْ يَقُلْ تَزَوَّجْتهَا بِوَلِيٍّ وَبِرِضَاهَا]
(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ
قَاعِدَتَيْ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ) :
وَفِيهِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَةُ الْعُلَمَاءِ تَحْقِيقًا لِمَنْ
هُوَ الْمُدَّعِي الَّذِي عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَلِمَنْ هُوَ
الْمُدَّعِي الَّذِي يَحْلِفُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى
وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» لِأَنَّ بَيْنَهُمَا
الْتِبَاسًا، وَعِلْمُ الْقَضَاءِ يَدُورُ عَلَى التَّمْيِيزِ
بَيْنَهُمَا لِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ عَرَفَ
وَجْهَ الْقَضَاءِ كَمَا فِي تُسُولِيِّ الْعَاصِمِيَّةِ
فَقِيلَ كُلُّ طَالِبٍ فَهُوَ مَدْفُوعٌ، وَكُلُّ مَطْلُوبٍ
فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُلُّ
مَنْ قَالَ قَدْ كَانَ فَهُوَ مُدَّعٍ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ
لَمْ يَكُنْ فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ اهـ.
وَلِلْأَصْحَابِ فِيهِ عِبَارَتَانِ تُوَضِّحُ ثَانِيَهُمَا
الْأُولَى أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ أَبْعَدُ
الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ
أَقْرَبُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا، وَالثَّانِيَةُ أَنَّ
الْمُدَّعِيَ مَنْ كَانَ قَوْلُهُ عَلَى خِلَافِ أَصْلٍ أَوْ
عُرْفٍ أَيْ مُجَرَّدًا عَنْهُمَا مَعًا فَأَوْ هُنَا
بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ كَانَ
قَوْلُهُ عَلَى وَفْقِ أَصْلٍ أَوْ عُرْفٍ قَالَ
التَّسَوُّلِيُّ
(4/118)
مَقْصُودًا فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ
اللَّهِ تَعَالَى بَلْ إذَايَةُ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ،
وَلَيْسَ مِنْهُ أَيْضًا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ عَقْدَ
الْجِزْيَةِ عَلَى الْأُسَارَى عَلَى الْقَتْلِ الْمُوجِبِ
لِمَحْوِ الْكُفْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَفِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ
إرَادَةُ اسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ فَهُوَ فِيهِ
إرَادَةُ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَوَقُّعُ
الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ إذَا بَقُوا
أَحْيَاءَ وَفِي تَعْجِيلِ الْقَتْلِ عَلَيْهِمْ سَدُّ بَابِ
الْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ فَالْمَقْصُودُ
تَوَقُّعُ الْإِيمَانِ وَحُصُولُ الْكُفْرِ وَقَعَ بِالْعَرَضِ
فَهُوَ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَاجِبٌ عِنْدَ تَعْيِينِ
مُقْتَضِيهِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَالْفَاعِلُ لَهُ
بِخِلَافِ الدُّعَاءِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
مَقْصُودًا فِيهِ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ
إذَايَةَ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ) قُلْتُ: هَذَا الَّذِي
قَالَهُ هُنَا مُوَافِقٌ لِمَا قُلْتُهُ فِي مَسْأَلَةِ
الْإِشَارَةِ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ
لَمْ يُشِرْ بِذَلِكَ عَلَيْهِ إلَّا بِقَصْدِ إذَايَتِهِ لَا
لِاعْتِقَادِهِ رُجْحَانَ الْكُفْرِ.
قَالَ: (وَلَيْسَ مِنْهُ أَيْضًا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ عَقْدَ
الْجِزْيَةِ عَلَى الْأُسَارَى عَلَى الْقَتْلِ الْمُوجِبِ
لِمَحْوِ الْكُفْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَفِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ
إرَادَةُ اسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ فَهُوَ فِيهِ
إرَادَةُ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَوَقُّعُ
الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ إذَا بَقُوا
أَحْيَاءَ وَفِي تَعْجِيلِ الْقَتْلِ عَلَيْهِمْ سَدُّ بَابِ
الْإِيمَانِ مِنْهُمْ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ فَالْمَقْصُودُ
تَوَقُّعُ الْإِيمَانِ، وَحُصُولُ الْكُفْرِ وَقَعَ
بِالْعَرَضِ) قُلْتُ: مَا حَامَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ
كُلُّهُ صَحِيحٌ وَهُوَ أَنَّ اسْتِبْقَاءَ الْأُسَارَى
وَضَرْبَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ لَا يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ
إيثَارٌ لِاسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ
أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كُفْرًا. قَالَ: (فَهُوَ
مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَاجِبٌ عِنْدَ تَعْيِينِ
مُقْتَضِيهِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الْفَاعِلُ لَهُ
بِخِلَافِ الدُّعَاءِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَبِمَعْنَى الْعُرْفِ الْعَادَةُ، وَالشَّبَهُ، وَالْغَالِبُ
كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا سَيَأْتِي مِنْ الْأَمْثِلَةِ، وَأَوْ
هُنَا مَانِعَةُ خُلُوٍّ فَقَطْ فَتَجُوزُ الْجَمْعُ، وَمِنْ
أَمْثِلَةِ مَا وَافَقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِ الْأَصْلَ
وَحْدَهُ، وَخَالَفَهُ الْمُدَّعِي مَنْ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ
دَيْنًا أَوْ غَصْبًا أَوْ جِنَايَةً، وَنَحْوَهُمَا فَإِنَّ
الْأَصْلَ عَدَمُ هَذِهِ الْأُمُورِ.
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ
لِأَنَّ الْأَصْلَ يُعَضِّدُهُ، وَيُخَالِفُ الطَّالِبَ،
وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الْيَتِيمِ
بَعْدَ بُلُوغِهِ وَرُشْدِهِ مَعَ وَصِيَّةٍ فِي الدَّفْعِ
فَإِنَّ الْيَتِيمَ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ الَّذِي هُوَ
عَدَمُ الدَّفْعِ فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ
طَالِبًا فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَالْوَصِيُّ مُدَّعٍ، وَإِنْ
كَانَ مَطْلُوبًا لِأَنَّهُ غَيْرُ أَمِينٍ فِي الدَّفْعِ
عِنْدَ التَّنَازُعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَمِنْ
أَمْثِلَةِ مَا وَافَقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِ الْعُرْفَ
وَحْدَهُ مَنْ ادَّعَى الشِّرَاءَ أَوْ الْهِبَةَ مِنْ حَائِزٍ
لِلْمُدَّعِي فِيهِ مُدَّةَ الْحِيَازَةِ فَالْحَائِزُ
مُدَّعًى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَقَوَّى جَانِبُهُ
بِالْحِيَازَةِ، وَالْقَائِمُ مُدَّعٍ، وَمِنْهَا جَزَّارٌ
وَدَبَّاغٌ تَدَاعَيَا جِلْدًا تَحْتَ يَدِهِمَا، وَلَا يَدَ
عَلَيْهِ فَالْجَزَّارُ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَالدَّبَّاغُ
مُدَّعٍ فَإِنْ كَانَتْ تَحْتَ يَدِ أَحَدِهِمَا فَالْحَائِزُ
مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَمِنْهَا قَاضٍ وَجُنْدِيٌّ تَدَاعَيَا
رُمْحًا تَحْتَ يَدِهِمَا أَوْ لَا يَدَ عَلَيْهِ
فَالْجُنْدِيُّ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَالْقَاضِي مُدَّعٍ،
وَمِنْهَا عَطَّارٌ وَصَبَّاغٌ تَدَاعَيَا مِسْكًا وَصِبْغًا
فَالْعَطَّارُ مُدَّعٍ فِي الصِّبْغِ مُدَّعًى عَلَيْهِ فِي
الْمِسْكِ وَالصَّبَّاغُ بِالْعَكْسِ، وَمِنْهَا اخْتِلَافُ
الزَّوْجَيْنِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَلِلْمَرْأَةِ
الْمُعْتَادُ لِلنِّسَاءِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى نَقْدِ
صَدَاقِهَا، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِالْفَقْرِ، وَمِنْهُ
النُّكُولُ، وَدَعْوَى الشَّبَهِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي
الصَّدَاقِ أَوْ الْبَيْعِ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَمِنْهَا
دَعْوَى الْعَامِلِ فِي الْقِرَاضِ أَوْ الْمُودَعِ عِنْدَهُ
الرَّدُّ حَيْثُ قُبِضَا بِغَيْرِ إشْهَادٍ فَالْمُدَّعَى
عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ هُوَ مِنْ تَقْوَى
جَانِبُهُ بِسَبَبٍ مِنْ حِيَازَةٍ أَوْ شَبَهٍ أَوْ نُكُولِ
صَاحِبِهِ أَوْ أَمَانَةٍ أَوْ كَوْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ
مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ، وَالْمُدَّعِي مَنْ
تَجَرَّدَ قَوْلُهُ عَنْ ذَلِكَ السَّبَبِ كَمَا فِي
التَّسَوُّلِيِّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا وَافَقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِ
الْأَصْلَ وَالْعُرْفَ مَعًا طَالِبُ الْوَدِيعَةِ الَّتِي
سَلَّمَهَا لِلْمُودِعِ عِنْدَهُ بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ لَوْ
ائْتَمَنَ
الْمُودِعُ عِنْدَهُ لَمَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ
قَوْلُ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ بِيَمِينِهِ فَهُوَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ طَالِبًا وَالْمُودِعُ عِنْدَهُ
مُدَّعٍ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا
لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِ لَمَّا قَبَضَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ
لَا يُعْطِي إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَالْأَصْلُ أَيْضًا عَدَمُ
الدَّفْعِ فَالْأَصْلُ، وَالْغَالِبُ مَعًا يُعَضِّدَانِ
صَاحِبَ الْوَدِيعَةِ وَيُخَالِفَانِ الْمُودَعَ عِنْدَهُ،
وَكَذَلِكَ الْقِرَاضُ إذَا قُبِضَ بِبَيِّنَةٍ قَالَ
التَّسَوُّلِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ، وَإِذَا تَمَسَّكَ
كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْعُرْفِ كَمَا إذَا أَشْبَهَا مَعًا
فِيمَا يَرْجِعُ فِيهِ لِلشَّبَهِ كَتَنَازُعِ جَزَّارٍ مَعَ
جَزَّارٍ فِي جِلْدٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ بِيَدِ
أَحَدِهِمَا حَلَفَا وَقُسِمَ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا تَمَسَّكَ
كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْأَصْلِ كَدَعْوَى الْمُكْتَرِي لِلرَّحَى
أَوْ الدَّارِ أَنَّهُ انْهَدَمَتْ أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ
عَنْهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَقَالَ الْمُكْتَرِي شَهْرَانِ
فَقَطْ اخْتَلَفَ فِيمَنْ يَكُونُ مُدَّعًى عَلَيْهِ مِنْهُمَا
فَقِيلَ الْمُكْتَرِي لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ
مِنْ الْغَرَامَةِ فَيُسْتَصْحَبُ ذَلِكَ، وَقِيلَ الْمُكْرِي
لِأَنَّ عَقْدَ الْكِرَاءِ أَوْجَبَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ
الْمُكْتَرِي، وَهُوَ يَدَّعِي إسْقَاطَ بَعْضِهِ فَلَا
يَصْدُقُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَ شَخْصٌ مِنْ رَجُلٍ
دَنَانِيرَ فَلَمَّا طَلَبَهُ بِهَا الدَّافِعُ زَعَمَ أَنَّهُ
قَبَضَهَا مِنْ مِثْلِهَا الْمُرَتَّبِ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ
فَإِنْ اعْتَبَرْنَا كَوْنَ الدَّافِعِ بَرِيءُ الذِّمَّةِ
مِنْ سَلَفِ هَذَا الْقَابِضِ كَانَ الدَّافِعُ مُدَّعًى
عَلَيْهِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ كَمَا لِابْنِ رُشْدٍ وَأَبِي
الْحَسَنِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا حَالَ
الْقَابِضِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَيْضًا بَرَاءَةُ
الذِّمَّةِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ
جَعَلْنَاهُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَافْهَمْ فَبِهَذِهِ
الْوُجُوهِ صَعُبَ عِلْمُ الْقَضَاءِ قَالَ وَإِذَا تَعَارَضَ
الْأَصْلُ، وَالْغَالِبُ قَدَّمَ الشَّافِعِيَّةُ الْأَصْلَ
فِي جَمِيعِ صُوَرِ التَّعَارُضِ.
وَقَدَّمَ الْمَالِكِيَّةَ الْغَالِبَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] فَكُلُّ أَصْلٍ
كَذَّبَهُ الْعُرْفُ كَمَا إذَا شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ
بِدَيْنٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ الْغَالِبَ
(4/119)
بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ
عَنْهُ وَيَأْثَمُ قَائِلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ بِذَلِكَ.
وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْفَرْقَ بَيْنَ
السُّجُودِ لِلشَّجَرَةِ وَالسُّجُودِ لِلْوَالِدِ فِي أَنَّ
الْأَوَّلَ كُفْرٌ دُونَ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ السَّاجِدُ
فِي الْحَالَتَيْنِ مُعْتَقِدًا مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى،
وَمَا يَسْتَحِيلُ، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا
أَرَادَ التَّشْرِيكَ فِي السُّجُودِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ
بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا
يَعْتَقِدُهُ السَّاجِدُ لِلْوَالِدِ وَقَدْ قَالَتْ عَبَدَةُ
الْأَوْثَانِ {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى
اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَيَأْثَمُ
قَائِلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ بِذَلِكَ) قُلْتُ: مَا
قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ عِنْدَ
تَعَيُّنِ مُقْتَضِيهِ كَذَلِكَ يَكُونُ لَوْ تَعَيَّنَ
الْمُقْتَضِي، وَمَتَى يَتَعَيَّنُ الْمُقْتَضِي عِنْدَنَا
وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ عَاقِبَةَ أَمْرِ الْأَسِيرِ
(وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْفَرْقَ بَيْنَ
السُّجُودِ لِلشَّجَرَةِ وَالسُّجُودِ لِلْوَالِدِ: فِي
الْأَوَّلِ كُفْرٌ دُونَ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ السَّاجِدُ
فِي الْحَالَتَيْنِ مُعْتَقِدًا مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَمَا يَسْتَحِيلُ، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا
أَرَادَ التَّشْرِيكَ فِي السُّجُودِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ
بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا
يَعْتَقِدُهُ السَّاجِدُ لِلْوَالِدِ وَقَدْ قَالَتْ عَبَدَةُ
الْأَوْثَانِ {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى
اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]
قُلْتُ السَّاجِدُ لِلشَّجَرَةِ وَالسَّاجِدُ لِلْوَالِدِ إنْ
سَجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ
الْمَسْجُودَ لَهُ شَرِيكُ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كُفْرٌ،
وَإِنْ سَجَدَ لَا مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ بَلْ تَعْظِيمًا
عَارِيًّا عَنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ لَا
كُفْرٌ، وَإِنْ سَجَدَ السَّاجِدُ لِلشَّجَرَةِ مَعَ
اعْتِقَادِ أَنَّهُ شَرِيكٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَسَجَدَ
السَّاجِدُ لِلْوَالِدِ لَا مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ بَلْ
تَعْظِيمًا فَالْأَوَّلُ كُفْرٌ وَالثَّانِي مَعْصِيَةٌ غَيْرُ
كُفْرٍ أَوْ بِالْعَكْسِ إلَّا أَنْ نَقُولَ أَنَّ مُجَرَّدَ
السُّجُودِ لِلشَّجَرَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
صِدْقُهَا، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمَشْهُودِ
عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَعْمَلَ بِهِ إلَّا فِي مَسْأَلَةِ
مَا إذَا ادَّعَى الصَّالِحُ التَّقِيُّ الْكَبِيرُ الْعَظِيمُ
الْمَنْزِلَةِ وَالشَّأْنِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ بَلْ
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَوْ عُمَرُ الْفَارُوقُ ابْنُ
الْخَطَّابِ عَلَى أَفْسَقِ النَّاسِ وَأَدْنَاهُمْ دِرْهَمًا
وَاحِدًا فَإِنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهُ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ
الذِّمَّةِ فَيُقَدَّمُ الْأَصْلُ عَلَى الْغَالِبِ فِي هَذِهِ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اهـ بِتَصَرُّفٍ وَتَوْضِيحٍ.
لَكِنْ قَالَ الْأَصْلُ أَنَّ إلْغَاءَ الْأَصْلِ فِي
الْبَيِّنَةِ إذَا شَهِدَتْ بِدَيْنٍ وَنَحْوِهِ أَجْمَعَتْ
عَلَيْهِ الْأُمَّةُ كَمَا أَنَّ إلْغَاءَ الْغَالِبِ فِي
مُجَرَّدِ دَعْوَى الدَّيْنِ، وَنَحْوُهُ، وَإِنْ كَانَ
الطَّالِبُ أَصْلَحَ النَّاسِ وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى
عَلَى أَفْسَقِ النَّاسِ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ كَذَلِكَ
أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فَلَيْسَ فِي كَوْنِ
الْمُلْغَى الْأَصْلَ أَوْ الْغَالِبَ عِنْدَ تَعَرُّضِهِمَا
عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَبِهَذَا الْإِجْمَاعِ احْتَجَّ
الشَّافِعِيَّةُ عَلَيْنَا فِي تَقْدِيمِ الْغَالِبِ عَلَى
الْأَصْلِ فِي دَعْوَى الْمَرْأَةِ الْمَسِيسَ وَعَدَمَ
الْإِنْفَاقِ وَنَحْوَهُمَا مِمَّا شَهِدَ الْعُرْفُ فِيهِ
لِلْمُدَّعِي كَمَا مَرَّ، وَيُوَضِّحُهُ مَا فِي حَاشِيَةِ
الْعَطَّارِ عَلَى مَحَلِّي جَمْعِ الْجَوَامِعِ قَالَ
زَكَرِيَّا، وَفِي قَوَاعِدِ الزَّرْكَشِيّ تَعَارَضَ
الْأَصْلُ، وَالْغَالِبُ فِيهِ قَوْلَانِ، وَلِجَرَيَانِ
الْقَوْلَيْنِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ
(أَحَدُهَا) أَنْ لَا تَطَّرِدَ الْعَادَةُ بِمُخَالَفَةِ
الْأَصْلِ، وَإِلَّا قُدِّمَتْ قَطْعًا، وَلِذَا حَكَمَ
بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْهَارِبِ فِي الْحَمَّامِ لِاطِّرَادِ
الْعَادَةِ بِالْبَوْلِ فِيهِ الثَّانِي أَنْ تَكْثُرَ
أَسْبَابُ الظَّاهِرِ فَإِنْ نَدَرَتْ لَمْ يُنْظَرْ إلَيْهِ
قَطْعًا، وَلِذَا اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ بِالْأَخْذِ
بِالْوُضُوءِ فِيمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ، وَغَلَبَ عَلَى
ظَنِّهِ الْحَدَثُ مَعَ إجْزَائِهِمْ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا
يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ نَجَاسَتُهُ هَلْ يُحْكَمُ
بِنَجَاسَتِهِ، وَفَرَّقَ الْإِمَامُ بِأَنَّ الْأَسْبَابَ
الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا النَّجَاسَةُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَهِيَ
فِي الْأَحْدَاثِ قَلِيلَةٌ، وَلَا أَثَرَ لِلنَّادِرِ،
وَالتَّمَسُّكُ بِاسْتِصْحَابِ الْيَقِينِ أَوْلَى.
(الثَّالِثُ) أَنْ لَا يَكُونَ مَعَ أَحَدِهِمَا مَا
يَعْتَضِدُ بِهِ، وَإِلَّا فَالْعَمَلُ بِالتَّرْجِيحِ
مُتَعَيَّنٌ، وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الظَّاهِرُ
حُجَّةً يَجِبُ قَبُولُهَا شَرْعًا كَالشَّهَادَةِ
وَالرِّوَايَةِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَصْلِ قَطْعًا،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ سَنَدُهُ، الْعُرْفُ
أَوْ الْقَرَائِنُ أَوْ غَلَبَةُ الظَّنِّ فَهَذِهِ
يَتَفَاوَتُ أَمْرُهَا فَتَارَةً يُعْمَلُ بِالْأَصْلِ،
وَتَارَةً يُعْمَلُ بِالظَّاهِرِ وَتَارَةً يُخَرَّجُ خِلَافٌ
فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ الْأَوَّلُ مَا قَطَعُوا فِيهِ
بِالظَّاهِرِ كَالْبَيِّنَةِ الثَّانِي مَا فِيهِ خِلَافٌ،
وَالْأَصَحُّ تَقَدُّمُ الظَّاهِرِ كَمَا فِي اخْتِلَافِ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فَالْقَوْلُ
لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ عَلَى الْأَظْهَرِ
لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْعُقُودِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ الصِّحَّةُ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَهَا
الثَّالِثُ مَا قَطَعُوا فِيهِ بِالْأَصْلِ وَإِلْغَاءِ
الْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ كَمَا لَوْ اشْتَبَهَ مُحْرِمَةٌ
بِنِسْوَةِ قَرْيَةٍ كَبِيرَةٍ فَإِنَّ لَهُ نِكَاحَ مَنْ
شَاءَ مِنْهُنَّ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ.
الرَّابِعُ مَا فِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ تَقْدِيمُ
الْأَصْلِ كَمَا فِي ثِيَابِ مُدْمِنِي النَّجَاسَةِ وَطِينِ
الشَّارِعِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ اخْتِلَاطُهُ
بِالنَّجَاسَةِ، وَالْمَقَابِرِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى
الظَّنِّ نَبْشُهَا فَإِنَّ الْأَصَحَّ فِيهَا الطَّهَارَةُ
اهـ الْمُرَادُ بِتَلْخِيصٍ فَافْهَمْ.
هَذَا، وَاَلَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ بَيَانِ مَا لِلْأَصْحَابِ
مِنْ الْفَرْقَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ بَيْنَ الْمُدَّعِي،
وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ،
وَأَنَّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنَّهُمَا مُطَّرِدَانِ،
وَأَنَّ الْفَرْقَ الْأَوَّلَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِنَقْضِهِ
بِمَا تَقَدَّمَ فِي الْوَدِيعَةِ مَعَ الْإِشْهَادِ
وَالْيَتِيمِ مَعَ وَصِيَّةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَدَعْوَى
الْمَرْأَةِ الْمَسِيسَ عَلَى زَوْجِهَا فِي خَلْوَةِ
الِاهْتِدَاءِ، وَادَّعَى هُوَ عَدَمُهُ فَإِنَّ كُلًّا
مِنْهُمْ طَالِبٌ مَعَ أَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَلِذَا
قَالَ الْأَصْلُ فَلَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ مُدَّعِيًا، وَلَيْسَ
كُلُّ مَطْلُوبٍ مِنْهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ اهـ وَسَلَّمَهُ
ابْنُ الشَّاطِّ.
وَأَمَّا فَرْقُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فَكَذَلِكَ قِيلَ أَنَّهُ
غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِنَقْضِهِ بِدَعْوَى الْمَرْأَةِ عَلَى
زَوْجِهَا الْحَاضِرِ أَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا،
وَقَالَ هُوَ أَنْفَقْت، وَبِدَعْوَى الْمَرْأَةِ الْمَسِيسَ
عَلَى زَوْجِهَا فِي خَلْوَةِ الِاهْتِدَاءِ، وَادَّعَى
عَدَمَهُ فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ فِي
(4/120)
مَعَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْفَرْقَ
بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْكَبِيرَةِ إنَّمَا هُوَ بِعِظَمِ
الْمَفْسَدَةِ وَصِغَرِهَا لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِي
الْمَفْسَدَةِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ، وَمَا بَيْنَ
هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي
نَعْلَمُهَا مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ
الْأُخْرَى وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ
بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَسَجَدُوا لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ قِبْلَةً
عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَلْ هُوَ الْمَقْصُودُ
بِالتَّعْظِيمِ بِذَلِكَ السُّجُودِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ هُنَالِكَ بِمَا نَهَى عَنْهُ
مِنْ الْكُفْرِ، وَلَا أَنَّهُ أَبَاحَ الْكُفْرَ لِأَجْلِ
آدَمَ، وَلَا أَنَّ فِي السُّجُودِ لِآدَمَ مَفْسَدَةً
تَقْتَضِي كُفْرًا.
وَلَوْ فَعَلَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ رَبِّهِ، وَلَا يُمْكِنُ
أَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ عَنْهُمَا سَبَبَا
الْمَفَاسِدِ وَالْمَصَالِحِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
كُفْرٌ؛ لِأَنَّهَا قَدْ عُبِدَتْ مُدَّةً، وَمُجَرَّدُ
السُّجُودِ لِلْوَالِدِ لَيْسَ بِكُفْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَعْبُدْ مُدَّةً فَيَفْتَقِرُ ذَلِكَ إلَى تَوْقِيفٍ. قَالَ:
(مَعَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكُفْرِ
وَالْكَبِيرَةِ إنَّمَا هُوَ بِعِظَمِ الْمَفْسَدَةِ
وَصِغَرِهَا لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِي الْمَفْسَدَةِ
وَالنَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ، وَمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ
الصُّورَتَيْنِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي نَعْلَمُهَا مَا
يَقْتَضِي الْكُفْرَ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى وَقَدْ
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ
فَسَجَدُوا لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ قِبْلَةً عَلَى أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ بَلْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّعْظِيمِ بِذَلِكَ
السُّجُودِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَمَرَ هُنَالِكَ بِمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْكُفْرِ، وَلَا
أَنَّهُ أَبَاحَ الْكُفْرَ لِأَجْلِ آدَمَ، وَلَا أَنَّ فِي
السُّجُودِ لِآدَمَ مَفْسَدَةً تَقْتَضِي كُفْرًا لَوْ فَعَلَ
مِنْ غَيْرِ أَمْرِ رَبِّهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ
الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ عَنْهُمَا سَبَبَا الْمَفَاسِدِ
وَالْمَصَالِحِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْأُولَى لِشَهَادَةِ الْعُرْفِ لَهُ، وَهِيَ مُدَّعِيَةٌ،
وَهُمَا فِي الثَّانِيَةِ عَلَى الْعَكْسِ، وَفَرْقُ ابْنِ
الْمُسَيِّبِ يَقْتَضِي أَنَّهَا فِي الْأُولَى مُدَّعًى
عَلَيْهَا لِأَنَّهَا تَقُولُ لَمْ يَكُنْ، وَفِي الثَّانِيَةِ
مُدَّعِيَةٌ لِأَنَّهَا تَقُولُ قَدْ كَانَ كَمَا فِي
التَّسَوُّلِيِّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ قَالَ وَأُجِيبُ
بِأَنَّ الرَّدَّ الْمَذْكُورَ لِلتَّعْرِيفَيْنِ أَيْ
لِلْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ أَيْ
الْفَرْقُ الْأَوَّلُ.
وَفَرَقُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ إنَّمَا يَتِمُّ وَلَوْ كَانَ
الْقَائِلُ بِهِمَا يُسَلِّمُ أَنَّ الطَّالِبَ، وَمَنْ
يَقُولُ قَدْ كَانَ فِيمَا ذُكِرَ أَيْ مِنْ الْمَسَائِلِ
الَّتِي تَقْضِي بِهَا الرَّادُّ كُلًّا مِنْ التَّعْرِيفَيْنِ
الْمَذْكُورَيْنِ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَقُولُ
إنَّهُ مُدَّعٍ قَامَ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ عُرْفٍ أَوْ أَصْلٍ،
وَلَا يُحْتَجُّ عَلَى الْإِنْسَانِ بِمَذْهَبٍ مِثْلِهِ،
وَاخْتَارَ هَذَا الْجَوَابَ ابْنُ رَحَّالٍ
وَالْحَاصِلُ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَهُوَ
الَّذِي يُوجِبُهُ النَّظَرُ أَنَّ الْمُتَدَاعِيَيْنِ أَنْ
يَتَمَسَّكَ أَحَدُهُمَا بِالْعُرْفِ فَقَطْ كَالِاخْتِلَافِ
فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ، وَدَعْوَى الشَّبَهِ وَاخْتِلَافِ
الْقَاضِي وَالْجُنْدِيِّ فِي الرُّمْحِ، وَالْجَزَّارِ
وَالدَّبَّاغِ فِي الْجِلْدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ
يَتَعَارَضْ فِيهِ الْعُرْفُ وَالْأَصْلُ، وَأَمَّا أَنْ
يَتَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ فَقَطْ كَالِاخْتِلَافِ فِي أَصْلِ
الدَّيْنِ وَفِي قَضَائِهِ، وَفِي دَعْوَى الْحَائِزِ نَفْسَهُ
الْحُرِّيَّةَ، وَدَعْوَى رَبِّ الْمَالِ وَالْمُودِعِ عَدَمَ
الرَّدِّ مَعَ دَفْعِهِمَا بِإِشْهَادٍ، وَدَعْوَى الْيَتِيمِ
عَدَمَ الْقَبْضِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي
هَذَيْنِ أَيْ أَمْثِلَةُ شَهَادَةِ الْعُرْفِ فَقَطْ أَوْ
الْأَصْلِ فَقَطْ، هُوَ الْمُتَمَسِّكُ بِذَلِكَ الْعُرْفِ
أَوْ الْأَصْلِ عَلَى تَعْرِيفِ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ
الْمَطْلُوبُ، وَمَنْ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ عَلَى
التَّعْرِيفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَمَسَّكَ
أَحَدُهُمَا بِالْأَصْلِ، وَالْآخَرُ بِالْعُرْفِ فَيَأْتِي
الْخِلَافُ كَدَعْوَى الزَّوْجِ عَلَى سَيِّدِ الْأَمَةِ
أَنَّهُ غَرَّهُ بِتَزْوِيجِهَا فَالْأَصْلُ عَدَمُ
الْغُرُورِ، وَبِهِ قَالَ سَحْنُونٌ، وَالْغَالِبُ عَدَمُ
رِضَا الْحُرِّ بِتَزْوِيجِ الْأَمَةِ، وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ،
وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَكَمَسْأَلَةِ اخْتِلَافِ
الْمُتَرَاهِنَيْنِ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الرَّهْنَ
شَاهِدٌ عُرْفِيٌّ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ،
وَكَمَسْأَلَةِ الْحِيَازَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَدَعْوَى
عَامِلِ الْقِرَاضِ وَالْمُودِعِ عِنْدَهُ الرَّدَّ مَعَ
عَدَمِ الْإِشْهَادِ لِأَنَّ الْغَالِبَ صِدْقُ الْأَمِينِ،
وَدَعْوَى الْمَرْأَةِ الْمَسِيسَ، وَعَدَمَ الْإِنْفَاقِ،
وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا
عَلَى تَعْرِيفِ الْأَصْحَابِ هُوَ الْمُتَمَسِّكُ بِالْعُرْفِ
لِأَنَّ قَوْلَهُمْ أَوْ عُرْفٌ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ
عَارَضَهُ أَصْلٌ أَمْ لَا، وَعَلَى التَّعْرِيفَيْنِ
الْأَوَّلَيْنِ.
هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَمَنْ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ لَكِنْ لَمَّا
تَرَجَّحَ جَانِبُ الْمُدَّعِي فِيهَا بِشَهَادَةِ الْعُرْفِ
لِأَنَّهُ أَقْوَى صَارَ الْمُدَّعِي مُدَّعًى عَلَيْهِ،
وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُ ابْنِ رُشْدٍ مَا نَصُّهُ الْمَعْنَى
الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وَجَبَ عَلَى الْمُدَّعِي إقَامَةَ
الْبَيِّنَةِ تُجَرَّدُ دَعْوَاهُ مِنْ سَبَبٍ يَدُلُّ عَلَى
صِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ يَدُلُّ
عَلَى صِدْقِهِ أَقْوَى مِنْ سَبَبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
كَالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ أَوْ الرَّهْنِ، وَمَا أَشْبَهَ
ذَلِكَ مِنْ إرْخَاءِ السِّتْرِ وَجَبَ أَنْ يَبْدَأَ
بِالْيَمِينِ دُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اهـ.
وَنَقَلَهُ الْقَلْشَانِيُّ، وَغَيْرُهُ فَتَأَمَّلْ كَيْفَ
سَمَّاهُ مُدَّعِيًا، وَجَعَلَ الرَّهْنَ وَإِرْخَاءَ
السُّتُورِ وَالشَّاهِدَ الْحَقِيقِيَّ سَبَبًا
لِصَيْرُورَتِهِ مُدَّعًى عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ فِي ذَلِكَ
أَقْوَى مِنْ سَبَبِ خَصْمِهِ الْمُتَمَسِّكِ بِالْأَصْلِ،
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْعُرْفِ هَلْ هُوَ شَاهِدٌ أَوْ
كَشَاهِدٍ أَنَّ الْبُرْزُلِيَّ الْقَاعِدَةُ إحْلَافُ مَنْ
شَهِدَ لَهُ الْعُرْفُ فَيَكُونُ بِمَثَابَةِ الشَّاهِدِ،
وَقِيلَ هُوَ كَالشَّاهِدَيْنِ اهـ. وَقَدْ دَرَجَ خَلِيلٌ فِي
مَوَاضِعَ عَلَى أَنَّهُ كَالشَّاهِدِ مِنْهَا قَوْلُهُ فِي
الرَّهْنِ، وَهُوَ كَالشَّاهِدِ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ، وَقَدْ
عَقَدَ فِي التَّبْصِرَةِ بَابًا فِي رُجْحَانِ قَوْلِ
الْمُدَّعِي بِالْعَوَائِدِ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ أَجْمَعُوا
عَلَى اعْتِبَارِ الْغَالِبِ وَإِلْغَاءِ الْأَصْلِ فِي
الْبَيِّنَةِ إذَا شَهِدَتْ فَإِنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهَا،
وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ اهـ
فَهَذَا كُلُّهُ يُوَضِّحُ لَك الْجَوَابَ الْمُتَقَدِّمَ
عَمَّا وَرَدَ عَلَى التَّعْرِيفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ.
وَيَدُلُّك عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّعَارِيفِ
الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ يَنْقَلِبُ مُدَّعًى
عَلَيْهِ لِقِيَامِ سَبَبٍ أَقْوَى مِنْ سَبَبِ خَصْمِهِ كَانَ
ذَلِكَ السَّبَبُ حَقِيقِيًّا أَوْ عُرْفِيًّا
(4/121)
فَإِنْ نَهَى عَنْ السُّجُودِ كَانَ
مَفْسَدَةً، وَإِنْ أَمَرَ بِهِ كَانَ مَصْلَحَةً؛ لِأَنَّ
هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ
تَكُونُ حِينَئِذٍ تَابِعَةً لِلنَّهْيِ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ
يَتْبَعُ الْمَفْسَدَةَ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
تَابِعًا لِصَاحِبِهِ فَيَلْزَمْ الدَّوْرَ بَلْ الْحَقُّ
أَنَّ الْمَفْسَدَةَ يَتْبَعُهَا النَّهْيُ، وَمَا لَا
مَفْسَدَةَ فِيهِ لَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ
وَاسْتِقْرَاءُ الشَّرَائِعِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ
السَّرِقَةَ لَمَّا كَانَ فِيهَا ضَيَاعُ الْمَالِ نَهَى
عَنْهَا، وَلَمَّا كَانَ فِي الْقَتْلِ فَوَاتُ الْحَيَاةِ
نَهَى عَنْهُ وَلَمَّا كَانَ فِي الزِّنَا مَفْسَدَةُ
اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ نَهَى عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ فِي
الْخَمْرِ ذَهَابُ الْعُقُولِ نَهَى عَنْهُ فَلَا جَرَمَ
لَمَّا صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا ذَهَبَ عَنْهُ النَّهْيُ
وَلَمَّا كَانَ عَصِيرًا لَا يُفْسِدُ الْعَقْلَ لَمْ يَكُنْ
مَنْهِيًّا عَنْهُ فَالِاسْتِقْرَاءُ دَلَّ عَلَى أَنَّ
الْمَفَاسِدَ وَالْمَصَالِحَ سَابِقَةٌ عَلَى الْأَوَامِرِ
وَالنَّوَاهِي، وَالثَّوَابَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
فَإِنْ نَهَى عَنْ السُّجُودِ كَانَ مَفْسَدَةً، وَإِنْ أَمَرَ
بِهِ كَانَ مَصْلَحَةً؛ لِأَنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ
الدَّوْرُ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ تَكُونُ حِينَئِذٍ تَابِعَةً
لِلنَّهْيِ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ يَتْبَعُ الْمَفْسَدَةَ
فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَابِعًا لِصَاحِبِهِ
فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ بَلْ الْحَقُّ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ
يَتْبَعُهَا النَّهْيُ، وَمَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ لَا
يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَاسْتِقْرَاءُ الشَّرَائِعِ
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ السَّرِقَةَ لَمَّا كَانَ فِيهَا
ضَيَاعُ الْمَالِ نَهَى عَنْهَا وَلَمَّا كَانَ فِي الْقَتْلِ
فَوَاتُ الْحَيَاةِ نَهَى عَنْهُ وَلَمَّا كَانَ فِي الزِّنَا
مَفْسَدَةُ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ نَهَى عَنْهُ وَلَمَّا
كَانَ فِي الْخَمْرِ ذَهَابُ الْعُقُولِ نَهَى عَنْهُ فَلَا
جَرَمَ لَمَّا صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا ذَهَبَ النَّهْيُ
عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ عَصِيرًا لَا يُفْسِدُ الْعَقْلَ لَمْ
يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَالِاسْتِقْرَاءُ دَلَّ عَلَى أَنَّ
الْمَفَاسِدَ وَالْمَصَالِحَ سَابِقَةٌ عَلَى الْأَوَامِرِ
وَالنَّوَاهِي، وَالثَّوَابُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
إلَّا أَنَّ الْعُرْفِيَّ لَا يَقْوَى عِنْدَهُمْ قُوَّةَ
الْحَقِيقِيِّ فَلَيْسَتْ الْيَمِينُ مَعَهُ تَكْمِلَةً
لِلنِّصَابِ حَتَّى يُؤَدِّيَ ذَلِكَ لِنَفْيِ يَمِينِ
الْإِنْكَارِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ شَاهِدٌ
حَقِيقِيٌّ لَا يَثْبُتُ الْحَقُّ بِدُونِ الْيَمِينِ كَمَا
نَقَلَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ الْمُتَيْطِيِّ عِنْدَ قَوْلِ
خَلِيلٍ، وَهُوَ كَالشَّاهِدِ إلَخْ فَاعْتِرَاضُ
التَّاوَدِيِّ عَلَى الْجَوَابِ السَّابِقِ بِكَوْنِهِ
يُؤَدِّي لِنَفْيِ يَمِينِ الْإِنْكَارِ إلَخْ سَاقِطٌ اهـ
بِتَوْضِيحِ الْمُرَادِ فَانْهَمْ.
(تَنْبِيهٌ) قَالَ الْأَصْلُ خُولِفَتْ قَاعِدَةُ الدَّعَاوَى
أَيْ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ الْمَطْلُوبِ دُونَ الطَّالِبِ فِي
خَمْسِ مَوَاطِنَ يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الطَّالِبِ:
(أَحَدُهَا) اللِّعَانُ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ
لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الرَّجُلَ يَنْفِي عَنْ زَوْجِهِ
الْفَوَاحِش فَحَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى رَمْيِهَا بِالْفَاحِشَةِ
مَعَ أَيْمَانِهِ أَيْضًا قَدَّمَهُ الشَّرْعُ.
(وَثَانِيهَا) فِي الْقَسَامَةِ يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ
الطَّالِبِ لِتَرَجُّحِهِ بِاللَّوْثِ.
(وَثَالِثُهَا) قَبُولُ قَوْلِ الْأُمَنَاءِ فِي التَّلَفِ
لِئَلَّا يَزْهَدَ النَّاسُ فِي قَبُولِ الْأَمَانَاتِ
فَتَفُوتَ مَصَالِحُهَا الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى حِفْظِ
الْأَمَانَاتِ، وَالْأَمِينُ قَدْ يَكُونُ أَمِينًا مِنْ
جِهَةِ مُسْتَحِقِّ الْأَمَانَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ
الشَّرْعِ كَالْوَصِيِّ وَالْمُتَلَقِّطِ، وَمَنْ أَلْقَتْ
الرِّيحُ ثَوْبًا فِي بَيْتِهِ.
(وَرَابِعُهَا) قَبُولُ قَوْلِ الْحَاكِمِ فِي التَّجْرِيحِ
وَالتَّعْدِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحْكَامِ لِئَلَّا
تَفُوتُ الْمَصَالِحُ الْمُرَتَّبَةُ عَلَى الْوِلَايَةِ
لِلْأَحْكَامِ.
(وَخَامِسُهَا) قَبُولُ قَوْلِ الْغَاصِبِ فِي التَّلَفِ مَعَ
يَمِينِهِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ لِئَلَّا يَخْلُدَ فِي
الْحَبْسِ اهـ، وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ لَكِنْ قَالَ
التَّسَوُّلِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ فَتَأَمَّلْ عَدَّهُ
اللِّعَانَ وَالْقَسَامَةَ وَالْأَمَانَةَ فَإِنَّ الظَّاهِرَ
أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا قُدِّمَ فِيهِ الْغَالِبُ عَلَى الْأَصْلِ
كَمَا مَرَّ فَلَمْ تَكُنْ فِيهِ مُخَالَفَةٌ، وَبَعْضُهُمْ
يُعَبِّرُ عَنْ الْأَمِينِ أَنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهُ أَيْ فِي
الرَّدِّ وَالتَّلَفِ، وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَهَا
الْمِكْنَاسِيُّ فِي مَجَالِسِهِ قَالَ، وَمِنْهَا اللُّصُوصُ
إذَا قَدِمُوا بِمَتَاعٍ، وَادَّعَى شَخْصٌ أَنَّهُ لَهُ،
وَأَنَّهُمْ نَزَعُوهُ مِنْهُ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ
يَمِينِهِ، وَيَأْخُذُهُ، وَمِنْهَا السِّمْسَارُ إذَا ادَّعَى
عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيَّبَ مَا أَعْطَى لَهُ لِلْبَيْعِ،
وَكَانَ مَعْلُومًا بِالْعَدَاءِ، وَبِإِنْكَارِ النَّاسِ
فَيَصْدُقُ الْمُدَّعِي بِيَمِينِهِ، وَيَغْرَمُ السِّمْسَارُ،
وَمِنْهَا السَّارِقُ إذَا سَرَقَ مَتَاعَ رَجُلٍ، وَانْتَهَبَ
مَالَهُ، وَأَرَادَ قَتْلَهُ، وَقَالَ الْمَسْرُوقُ أَنَا
أَعْرِفُهُ فَيُصَدَّقُ الْمَسْرُوقُ بِيَمِينِهِ، وَهَذِهِ
الْمَسَائِلُ الَّتِي زَادَهَا لَا تَحْمِلُهَا الْأُصُولُ
كَمَا لِأَبِي الْحَسَنِ، وَلَا يُخَالِفُ مَا
لِلْمِكْنَاسِيِّ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ مَنْ ادَّعَى عَلَى
اللُّصُوصِ أَنَّهُمْ أَخَذُوا مَا قَدِمُوا بِهِ مِنْهُ،
وَيَأْخُذُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَرَافِيِّ الْآتِي
فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُقَدَّمُ فِيهِ النَّادِرُ عَلَى
الْغَالِبِ، وَمَا لَا مَا نَصُّهُ: أَخْذُ السُّرَّاقِ
الْمَنْهُومِينَ بِالتُّهَمِ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ كَمَا
يَفْعَلُهُ الْأُمَرَاءُ الْيَوْمَ دُونَ الْإِقْرَارِ
الصَّحِيحِ، وَالْبَيِّنَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ الْغَالِبُ
مُصَادَفَتُهُ لِلصَّوَابِ، وَالنَّادِرُ خَطَؤُهُ، وَمَعَ
ذَلِكَ أَلْغَى الشَّارِعُ هَذَا الْغَالِبَ صَوْنًا
لِلْأَعْرَاضِ وَالْأَطْرَافِ عَنْ الْقَطْعِ اهـ.
فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَلْغَى الشَّارِعُ
هَذَا الْغَالِبَ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَعْرَاضِ وَالْأَطْرَافِ
لَا بِالنِّسْبَةِ لِلْغَرَامَةِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ
فَيُوَافِقُ مَا لِلْمِكْنَاسِيِّ، وَلِهَذَا دَرَجَ نَاظِمُ
الْعَمَلِ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ:
لِوَالِدِ الْقَتِيلِ مَعَ يَمِينِ ... الْقَوْلُ فِي
الدَّعْوَى بِلَا تَبْيِينِ
إذَا ادَّعَى دَرَاهِمًا وَأَنْكَرَا ... الْقَاتِلُونَ مَا
ادَّعَاهُ وَطَرَا
فَلَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ الْقَتِيلِ بَلْ الْمَدَارُ عَلَى
كَوْنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعْرُوفًا بِالْغَصْبِ
وَالْعَدَاءِ اُنْظُرْ شَرْحُهُ، وَانْظُرْ مَا يَأْتِي فِي
الْغَصْبِ وَلَا بُدَّ اهـ.
وَفِي الْغَصْبِ لَمَّا ذَكَرَ كَلَامَ نَاظِمٍ الْعَمَلُ فِي
شَرْحِهِ لِلْبَيْتَيْنِ، وَنَقَلَهُ عَنْ ابْنِ النَّعِيمِ
مَا نَصُّهُ الَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ عِنْدَنَا فِي
هَذِهِ
(4/122)
وَالْعِقَابَ تَابِعٌ لِلْأَوَامِرِ
وَالنَّوَاهِي فَمَا فِيهِ مَفْسَدَةٌ يَنْهَى عَنْهُ فَإِذَا
فَعَلَ حَصَلَ الْعِقَابُ، وَمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَمَرَ بِهِ
فَإِذَا فَعَلَ حَصَلَ الثَّوَابُ فَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ
فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى فَلَوْ عَلَّلَ الْأَمْرَ
وَالنَّهْيَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَزِمَ تَقَدُّمُ
الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِرُتْبَتَيْنِ وَلِذَلِكَ يَقُولُ
الْأَغْبِيَاءُ مِنْ الطَّلَبَةِ مَصْلَحَةُ هَذَا الْأَمْرِ
أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ فَيُعَلِّلُونَ بِالثَّوَابِ
وَالْعِقَابِ وَهُوَ غَلَطٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
وَالْعِقَابُ تَابِعٌ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَمَا فِيهِ
مَفْسَدَةٌ نَهَى عَنْهُ فَإِذَا فَعَلَ حَصَلَ الْعِقَابُ،
وَمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَمَرَ بِهِ فَإِذَا فَعَلَ حَصَلَ
الثَّوَابُ فَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فِي الرُّتْبَةِ
الثَّالِثَةِ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي الرُّتْبَةِ
الثَّانِيَةِ، وَالْمَفْسَدَةُ وَالْمَصْلَحَةُ فِي
الرُّتْبَةِ الْأُولَى فَلَوْ عَلَّلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ
بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَزِمَ تَقَدُّمُ الشَّيْءِ عَلَى
نَفْسِهِ بِرُتْبَتَيْنِ وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْأَغْبِيَاءُ
مِنْ الطَّلَبَةِ مَصْلَحَةُ هَذَا الْأَمْرِ أَنَّهُ يُثَابُ
عَلَيْهِ فَيُعَلِّلُونَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَهُوَ
غَلَطٌ) .
قُلْتُ: تَبَعِيَّةُ الْأَمْرِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ الْوَاجِبِ
مَثَلًا لِمَصْلَحَتِهِ إنَّمَا مَعْنَاهَا وَالْمُرَادُ بِهَا
أَنَّهُ لَوْلَا الْقَصْدُ إلَى تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ مَا
شُرِعَ وَتَبَعِيَّةُ الْمَصْلَحَةِ لِلْأَمْرِ إنَّمَا
مَعْنَاهَا وَالْمُرَادُ بِهَا أَنَّهُ لَوْلَا شَرْعِيَّةُ
الْأَمْرِ الْبَاعِثِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَا
حَصَلَتْ فَالْمَأْمُورُ بِهِ تَابِعٌ لِلْمَصْلَحَةِ وُجُوبًا
وَالْمَصْلَحَةُ تَابِعَةٌ لَهُ وُجُودًا، وَلَا غَرْوَ أَنْ
يَكُونَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ تَابِعًا لِلثَّانِي مِنْ وَجْهٍ
وَيَكُونَ الثَّانِي تَابِعًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ
كَالشَّجَرَةِ وَالثَّمَرَةِ، الشَّجَرَةُ تَابِعَةٌ
لِلثَّمَرَةِ أَيْ لَوْلَا الْمَقْصِدُ إلَى تَحْصِيلِ
الثَّمَرَةِ مَا زُرِعَتْ الشَّجَرَةُ وَالثَّمَرَةُ تَابِعَةٌ
لِلشَّجَرَةِ أَيْ لَوْلَا زَرْعُ الشَّجَرَةِ مَا حَصَلَتْ
الثَّمَرَةُ وَعَلَى هَذَيْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
النَّازِلَةِ، وَمِثْلُهَا أَنَّ الْقَوْلَ لِوَالِدِ
الْقَتِيلِ مَعَ يَمِينِهِ أَيْ إذَا ادَّعَى دَرَاهِمَ مِنْ
جُمْلَةِ الْمَنْهُوبِ، وَأَنْكَرَهَا الْقَاتِلُونَ،
وَالظَّالِمُ أَحَقُّ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ
الْمَشْهُورُ خِلَافَهُ أَيْ مِنْ الْقَوْلِ لِلْغَاصِبِ فِي
الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ كَمَا فِي خَلِيلٍ، وَكَمْ مِنْ
مَسْأَلَةٍ جَرَى الْحُكْمُ فِيهَا بِخِلَافِ الْمَشْهُورِ،
وَرَجَّحَهَا الْعُلَمَاءُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ اهـ،
وَعَنْ الْعَرَبِيِّ الْفَاسِيِّ فِي تَأْيِيدِهِ سَاقَ
بَعْدَهُ كَلَامًا طَوِيلًا فَرَاجِعْهُ، وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ
قَاعِدَةِ مَا يَحْتَاجُ لِلدَّعْوَى وَقَاعِدَةِ مَا لَا
يَحْتَاجُ إلَيْهَا)
وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يَحْتَاجُ لِلدَّعْوَى، وَيَجُوزُ
أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ إلَى الْحَاكِمِ هُوَ مَا
اجْتَمَعَتْ فِيهِ خَمْسَةُ قُيُودٍ الْقَيْدُ الْأَوَّلُ أَنْ
يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَى ثُبُوتِهِ. الْقَيْدُ الثَّانِي أَنْ
يَتَعَيَّنَ الْحَقُّ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ
لِلِاجْتِهَادِ وَالتَّحْرِيرِ فِي تَحْقِيقِ سَبَبِهِ
وَمِقْدَارِ مُسَبِّبِهِ. الْقَيْدُ الثَّالِثُ أَنْ لَا
يُؤَدِّيَ أَخْذُهُ لِفِتْنَةٍ وَشَحْنَاءَ. الْقَيْدُ
الرَّابِعُ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى فَسَادِ عِرْضٍ أَوْ
عُضْوٍ. الْقَيْدُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى
خِيَانَةِ الْأَمَانَةِ، وَمَثَّلَ لَهُ الْأَصْلُ بِمَنْ
وَجَدَ عَيْنَ سِلْعَتِهِ الَّتِي اشْتَرَاهَا أَوْ وَرِثَهَا
فَأَخَذَهَا أَوْ أَخَذَ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَهُوَ
لَا يَخَافُ مِنْ الْأَخْذِ ضَرَرًا تُسُولِيُّ
الْعَاصِمِيَّةِ نَقْلًا عَنْ ابْنِ فَرْحُونٍ بِتَحْرِيمِ
الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَرَدِّ الْوَدَائِعِ
وَالْغُصُوبِ قَالَ وَمِنْهُ الْعِتْقُ بِالْقَرَابَةِ، وَمَنْ
أَعْتَقَ جُزْءًا فِي عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ
فَيَكْمُلُ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ عَلَى الْمَشْهُورِ اهـ، وَمَا
يَحْتَاجُ لِلدَّعْوَى، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُهُ إلَّا بَعْدَ
الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ هُوَ مَا خَلَا عَنْ قَيْدٍ مِنْ
الْقُيُودِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ فَهُوَ خَمْسَةُ
أَنْوَاعٍ
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ) مَا اخْتَلَفَ فِي كَوْنِهِ ثَابِتًا
أَمْ لَا فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ حَتَّى
يَتَوَجَّهَ بِثُبُوتِهِ لَعَمَّ افْتِقَارُ هَذَا النَّوْعِ
إلَى الْحَاكِمِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَإِلَّا
فَالْكَثِيرُ مِنْ مَسَائِلِهِ لَا يَفْتَقِرُ لِلْحَاكِمِ
مِنْهَا مَنْ وُهِبَ لَهُ مُشَاعٌ فِي عَقَارٍ أَوْ غَيْرِهِ
أَوْ اشْتَرَى مَبِيعًا عَلَى الصِّفَةِ أَوْ أَسْلَمَ فِي
حَيَوَانٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ
الْمُعْتَقِدَ لِصِحَّةِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَتَنَاوَلُ
هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ، وَالْمُفْتَقِرُ مِنْ
مَسَائِلِهِ لِلْحَاكِمِ قَلِيلٌ مِنْهَا اسْتِحْقَاقُ
الْغُرَمَاءِ لِرَدِّ عِتْقِ الْمِدْيَانِ، وَتَبَرُّعَاتِهِ
قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُثْبِتُ لَهُمْ حَقًا فِي ذَلِكَ
وَمَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُثْبِتُ فَيَحْتَاجُ
لِقَضَاءِ الْحَاكِمِ بِذَلِكَ، وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَا
يَفْتَقِرُ مِنْ مَسَائِلِهِ لِلْحَاكِمِ وَمَا لَا يَفْتَقِرُ
مِنْهَا لَهُ عُسْرٌ
(النَّوْعُ الثَّانِي) مَا يَحْتَاجُ لِلِاجْتِهَادِ
وَالتَّحْرِيرِ فِي تَحْقِيقِ سَبَبِهِ وَمِقْدَارِ
مُسَبِّبِهِ فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى الْحَاكِمِ، وَمِنْ
أَمْثِلَتِهِ الطَّلَاقُ بِالْإِعْسَارِ، وَالطَّلَاقُ
بِالْإِضْرَارِ، وَالطَّلَاقُ عَلَى الْمُولِي، وَعَلَى نَحْوِ
الْغَالِبِ وَالْمُعْتَرِضِ قَالَ الْأَصْلُ فَإِنَّ فِي
الطَّلَاقِ عَلَى الْمُولِي تَحْرِيرَ عَدَمِ فَيْئَتِهِ،
وَعَلَى الْمُعْسِرِ مَعَ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ بِمَنْعِهِ
تَحْرِيرَ إعْسَارِهِ، وَتَقْدِيرَهُ، وَمَا مِقْدَارُ
الْإِعْسَارِ الَّذِي يُطْلَقُ بِهِ فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ
فِيهِ فَعِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُطْلَقُ
بِالْعَجْزِ عَنْ أَصْلِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ
اللَّتَيْنِ تُفْرَضَانِ بَلْ بِالْعَجْزِ عَنْ الضَّرُورِيِّ
الْمُقِيمِ لِلْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَفْرِضُهُ
ابْتِدَاءً اهـ.
وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي التَّبْصِرَةِ لِأَنَّهُ
يَفْتَقِرُ إلَى تَحْقِيقِ الْإِعْسَارِ، وَهَلْ هُوَ مِمَّنْ
يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ بِعَدَمِ النَّفَقَةِ أَمْ لَا كَمَا
لَوْ تَزَوَّجَتْ فَقِيرًا عَلِمَتْ بِفَقْرِهِ فَإِنَّهَا لَا
تَطْلُقُ عَلَيْهِ بِالْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ، وَكَذَلِكَ
تَحْقِيقُ حَالِهِ، وَهَلْ هُوَ مِمَّا يُرْجَى لَهُ شَيْءٌ
أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ تَحْقِيقُ صُورَةِ الْإِضْرَارِ،
وَكَذَلِكَ يَمِينُ الْمُولِي يُنْظَرُ هَلْ هِيَ لِعُذْرٍ
أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ كَمَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَهَا،
وَهِيَ مُرْضِعٌ خَوْفًا عَلَى، وَلَدِهِ فَيُنْظَرُ فِيمَا
ادَّعَاهُ فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الْإِضْرَارَ طَلُقَتْ
عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَةٍ لَمْ تَطْلُقْ عَلَيْهِ،
وَكَذَلِكَ التَّطْلِيقُ عَلَى الْغَائِبِ، وَكَذَلِكَ
التَّطْلِيقُ عَلَى الْمُفْتَرِضِ، وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ ثُمَّ
نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَتَّابٍ مَا خُلَاصَتُهُ أَنَّ الْحَقَّ
إذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ خَالِصًا فَإِنْقَاذُ الطَّلَاقِ
إلَيْهَا مَعَ إبَاحَةِ الْحَاكِمِ لَهَا ذَلِكَ بِأَنْ
يَقُولَ لِلْقَائِمَةِ عِنْدَهُ بِعَدَمِ النَّفَقَةِ بَعْدَ
كَمَالِ نَظَرِهِ بِمَا يَجِبُ إنْ شِئْت أَنْ تُطَلِّقِي
نَفْسَك
(4/123)
وَأَمَّا الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى
عَشَرَةُ أَقْسَامٍ (أَحَدُهَا) مَا لَمْ نُؤْمَرْ
بِإِزَالَتِهِ أَصْلًا، وَلَمْ نُؤَاخَذْ بِبَقَائِهِ؛
لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَنَا لَا يُمْكِنُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ
وَهُوَ جَلَالُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ الَّتِي لَمْ
تَدُلَّ عَلَيْهَا الصَّنْعَةُ، وَلَمْ يَقْدِرْ الْعَبْدُ
عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالنَّظَرِ فَعَفَا عَنْهُ لِعَجْزِنَا
عَنْهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ
كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِك» وَقَوْلِ الصِّدِّيقِ
الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إدْرَاكٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
التَّقْرِيرَيْنِ يَبْطُلُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الدَّوْرِ
وَيَصِحُّ مَا قَالَهُ الْأَغْبِيَاءُ مِنْ أَنَّ الثَّوَابَ
هِيَ الْمَصْلَحَةُ وَهِيَ تَابِعَةٌ وُجُودَ الْفِعْلِ
الْوَاجِبِ وَفِعْلُ الْوَاجِبِ تَابِعٌ وُجُوبًا لِتَحْصِيلِ
الْمَصْلَحَةِ، وَالْمُوجِبُ لِتَوَهُّمِهِ الدَّوْرُ
الْمُمْتَنِعُ إنَّمَا هُوَ الْغَفْلَةُ عَنْ تَغَايُرِ
جِهَتَيْ التَّبَعِيَّةِ، وَقَدْ انْزَاحَ الْإِشْكَالُ
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الْمَنِّ وَالْإِفْضَالِ.
قَالَ (وَأَمَّا الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ
عَشَرَةُ أَقْسَامٍ أَحَدُهُمَا مَا لَمْ نُؤْمَرُ
بِإِزَالَتِهِ أَصْلًا، وَلَمْ نُؤَاخَذْ بِبَقَائِهِ؛
لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَنَا لَا يُمْكِنُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ
وَهُوَ جَلَالُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ الَّتِي لَمْ
تَدُلَّ عَلَيْهَا الصَّنْعَةُ، وَلَمْ يَقْدِرْ الْعَبْدُ
عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالنَّظَرِ فَعَفَا عَنْهُ لِعَجْزِنَا
عَنْهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ
كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِك» وَقَوْلُ الصِّدِّيقِ -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ
الْإِدْرَاكِ إدْرَاكٌ) .
قُلْتُ كَلَامُهُ هَذَا يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِأَنَّ هُنَاكَ
صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الصَّنْعَةُ
لَكِنَّا لَا نَعْلَمُهَا فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا
نَعْلَمُهَا لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا فَقَدْ تَنَاقَضَ
كَلَامُهُ إذْ مَسَاقُهُ يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِثُبُوتِهَا
عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُهَا عَلَى
التَّفْصِيلِ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنَّا لَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَإِنْ شِئْت التَّرَبُّصَ عَلَيْهِ فَإِنْ طَلُقَتْ
أَشْهَدَتْ عَلَى ذَلِكَ، وَحُجَّةُ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ
حَدِيثُ بَرِيرَةَ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتِ أَمْلَكُ بِنَفْسِك إنْ
شِئْت أَقَمْت مَعَ زَوْجِك، وَإِنْ شِئْت فَارَقْتِيهِ» ،
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي امْرَأَةِ
الْمُعْتَرِضِ تَقُولُ لَا تُطَلِّقُونِي، وَأَنَا أَصْبِرُ
إلَى أَجَلٍ آخَرَ قَالَ ذَلِكَ لَهَا ثُمَّ تُطَلِّقُ
نَفْسَهَا مَتَى شَاءَتْ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ، وَكَذَلِكَ
الَّذِي يَحْلِفُ لَيَقْضِيَنَّ فُلَانًا حَقَّهُ أَنَّهُ
يُوقَفُ عَنْ امْرَأَتِهِ فَإِذَا جَاءَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
قِيلَ لَهُ فَيْءٌ، وَإِلَّا طَلَّقْنَا عَلَيْك فَتَقُولُ
امْرَأَتُهُ أَنَا أُنْظِرُهُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً
فَذَلِكَ لَهَا ثُمَّ تَطْلُقُ مَتَى شَاءَتْ بِغَيْرِ أَمْرِ
سُلْطَانٍ اهـ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ
الْمَرْأَةَ تُطَلِّقُ نَفْسَهَا، وَلَا اعْتِرَاضَ بِمَا فِي
السُّؤَالِ مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ لَا تُطَلِّقُونِي
لِأَنَّهَا جَهِلَتْ أَنَّ ذَلِكَ لَهَا، وَلِأَنَّهُ أَعْقَبَ
ذَلِكَ بِالْبَيَانِ بِأَنَّهَا هِيَ الْمُطَلِّقَةُ بَعْدَ
التَّأْخِيرِ فَكَذَلِكَ تَكُونُ هِيَ الْمُطَلِّقَةُ فِي
الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ إنْ أَحَبَّتْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ
لَا اعْتِرَاضَ بِقَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُولِي، وَإِلَّا
طَلَّقْنَا عَلَيْك لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّا نَجْعَلُ ذَلِكَ
إلَى الْمَرْأَةِ فَتُنَفِّذُ هِيَ طَلَاقَهَا إنْ شَاءَتْ،
وَطَلَاقُ الْمُولِي عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ تُوقِعُهُ
الْمَرْأَةُ، وَهُوَ فِي الصُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ،
وَقِسْمٌ يُوقِعُهُ الْحَاكِمُ.
وَهُوَ إذَا قَالَ لَهَا إنْ وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ
ثَلَاثًا فَفِيهَا أَقْوَالٌ (أَحَدُهَا) أَنَّهُ مُولٍ، وَلَا
يُمَكَّنُ مِنْ وَطْئِهَا لِأَنَّ بَاقِيَ وَطْئِهِ بَعْدَ
الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ حَرَامٌ فَإِذَا رَفَعَتْهُ إلَى
الْحَاكِمِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُنَجِّزُ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ
قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَإِنْ لَمْ تَرْفَعْهُ وَرَضِيَتْ
بِالْمَقَامِ بِلَا وَطْءٍ فَلَهَا ذَلِكَ قَالَ ابْنُ سَهْلٍ
سَمِعْت أَبَا مَرْوَانَ بْنَ مَالِكٍ الْقُرْطُبِيَّ
يَسْتَحْسِنُ إيرَادَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الشَّيْخِ
ابْنِ عَتَّابٍ وَيَقُولُ: لَوْ كَانَتْ لِأَحَدٍ مِنْ
الْمُتَقَدِّمِينَ لَعُدَّتْ مِنْ فَضَائِلِهِ قَالَ ابْنُ
سَهْلٍ، وَفِي سَمَاعِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ
تَزَوَّجَ حُرَّةً عَلَى أَنَّهُ حُرٌّ فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ
قَالَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ قَبْلَ أَنْ تَرْفَعَ ذَلِكَ إلَى
السُّلْطَانِ فَمَا طَلَّقَتْ بِهِ نَفْسَهَا جَازَ عَلَيْهِ،
وَأَمَّا الْمَجْزُومُ فَلَا خِيَارَ لَهَا حَتَّى تَرْفَعَ
ذَلِكَ إلَى السُّلْطَانِ ثُمَّ لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ
يُفَوِّضَ إلَيْهَا أَمْرَهَا تَطْلُقُ مَتَى شَاءَتْ،
وَلَكِنْ عَلَى السُّلْطَانِ إذَا كَرِهَتْهُ، وَأَرَادَتْ
فِرَاقَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا بِوَاحِدَةٍ إذَا يَئِسَ
مِنْ بُرْئِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ إلَّا أَنَّهُ
يَضْرِبُ لَهُ أَجَلَ سَنَةٍ كَانَ مُوَسْوِسًا أَوْ يَغِيبُ
مَرَّةً، وَيُفِيقُ أُخْرَى، وَهَذَا يُوَضِّحُ الْمَعْنَى
الَّذِي قَصَدَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ مِنْ
تَقْسِيمِ الطَّلَاقِ الْمَحْكُومِ بِهِ إلَى قِسْمَيْنِ
قِسْمٌ تُوَقِّعُ الْمَرْأَةُ خَاصَّةً دُونَ الْحَاكِمِ،
وَقِسْمٌ يُنَفِّذُهُ الْحَاكِمُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَرْأَةِ،
وَإِنْ كَرِهَتْ إيقَاعَهُ كَزَوَاجِهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ
وَتَزْوِيجِهَا مِمَّنْ لَيْسَ بِكُفْءٍ، وَنِكَاحِهَا
لِلْفَاسِقِ، وَمَنْ تَزَوَّجَتْ مَعَ وُجُودِ وَلَدِهَا،
وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهُ وَلِيُّهَا الَّذِي زَوَّجَهَا عَلَى
مَا فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ وَأَنْوَاعِ الْأَنْكِحَةِ
الْفَاسِدَةِ، وَهُوَ بَابٌ يَطُولُ تَعَدُّدُهُ اهـ كَلَامُ
ابْنِ فَرْحُونٍ قَالَ وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْعِ
أَيْضًا تَفْلِيسُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ، وَكَذَا
بَيْعٌ أَعْتَقَهُ الْمِدْيَانُ لِتَعَارُضِ حَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى فِي الْعِتْقِ، وَحَقِّ الْغُرَمَاءِ فِي
الْمَالِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ إذَا هَرَبَ الْجَمَّالُ، وَكَانَ الزَّمَانُ
غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَلَمْ يَفُتْ الْمَقْصُودُ فَإِذَا رَفَعَ
ذَلِكَ إلَى السُّلْطَانِ نَظَرَ فِي ذَلِكَ فَيَفْسَخُهُ
عَنْهُ إنْ كَانَ فِي الصَّبْرِ مَضَرَّةٌ، وَلَا يَنْفَسِخُ
بِغَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ مِنْ كِتَابِ قَيْدِ الْمُشْكِلِ
وَحَلِّ الْمُعْضَلِ لِابْنِ يَاسِين، وَمِنْهَا مَنْ أَعْتَقَ
نِصْفَ عَبْدِهِ فَإِنَّهُ لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ
الْعَبْدِ إلَّا بِالْحُكْمِ لِتَعَارُضِ حَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى فِي الْعِتْقِ، وَحَقِّ السَّيِّدِ فِي الْمِلْكِ،
وَحَقِّ الْعَبْدِ فِي تَخْلِيصِ الْكَسْبِ، وَأَيْضًا
لِقُوَّةِ الْخِلَافِ فِي التَّكْمِيلِ عَلَيْهِ (وَمِنْهَا)
تَعْجِيزُ الْمُكَاتَبِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ لَا
يَكُونُ إلَّا بِالْحُكْمِ فَلَوْ رَضِيَ بِتَعْجِيزِ
نَفْسِهِ، هُوَ وَسَيِّدُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ذَلِكَ
(وَمِنْهَا) مَا إذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ ضَرْبًا
مُبَرِّحًا
(4/124)
وَقِسْمٌ) أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
أَنَّهُ كُفْرٌ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ
الشِّفَاءِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ
جَحَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ أَوْ مُتَكَلِّمٌ أَوْ
غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ فَإِنْ جَهِلَ
الصِّفَةَ، وَلَمْ يَنْفِهَا كَفَّرَهُ الطَّبَرِيُّ
وَغَيْرُهُ وَقِيلَ لَا يَكْفُرُ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ
الْأَشْعَرِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَمِّمْ عَلَى اعْتِقَادِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
نَعْلَمَهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَإِنْ عَلِمْنَاهَا عَلَى
الْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ ذَلِكَ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا
وَهَذَا الْمَقَامُ مِمَّا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا صِفَةَ
وَرَاءَ مَا عَلِمْنَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ
أَنَّ هُنَاكَ صِفَاتٌ لَا نَعْلَمُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقْتَضِي كَلَامُهُ الْوَقْفَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الصَّحِيحُ
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ لَا تَكْلِيفَ بِإِزَالَةِ
هَذَا الْجَهْلِ، وَلَا مُؤَاخَذَةَ بِبَقَائِهِ كَمَا قَالَ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَلَا دَلِيلَ لَهُ فِي قَوْلِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ لَا أَسْتَطِيعُ الْمُدَاوَمَةَ
وَالِاسْتِمْرَارَ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْكَ لِلْقَوَاطِعِ
عَنْ ذَلِكَ كَالنَّوْمِ وَشَبَهِهِ، وَلَا فِي كَلَامِ
الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِاحْتِمَالِ
أَنْ يُرِيدَ: الْعَجْزُ عَنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى جَمِيعِ
مَعْلُومَاتِ اللَّهِ تَعَالَى اطِّلَاعٌ عَلَى الْفَرْقِ
بَيْنَ الرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ وَالْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ
وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَذَلِكَ هُوَ صَرِيحُ
الْإِيمَانِ، وَصَحِيحُ الْإِيقَانِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ.
قَالَ: (وَقِسْمٌ أَجْمَعُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ
كُفْرٌ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ
انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ جَحَدَ أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ أَوْ مُتَكَلِّمٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ
مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ فَإِنْ جَهِلَ الصِّفَةَ، وَلَمْ
يَنْفِهَا كَفَّرَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ لَا
يَكْفُرُ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ الْأَشْعَرِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يُصَمِّمْ عَلَى اعْتِقَادِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فَعِتْقُهُ عَلَيْهِ يَفْتَقِرُ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ
لَا يَدْرِي هَلْ ثَمَّ جِنَايَةٌ تَقْتَضِي مِثْلَ هَذَا
الضَّرْبِ أَمْ لَا، وَيَحْتَاجُ بَعْدَ وُقُوعِ الضَّرْبِ
مِنْ السَّيِّدِ إلَى تَحْقِيقِ كَوْنِ ذَلِكَ الضَّرْبِ
مُبَرِّحًا بِذَلِكَ الْعَبْدِ، وَهَلْ السَّيِّدُ عَاصٍ بِهِ
فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحَلِفَ
عَلَى الْمَعْصِيَةِ يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْعِتْقِ أَوْ لَيْسَ
عَاصِيًا فَلَا يَلْزَمُهُ عِتْقٌ اهـ (وَمِنْهَا) كَمَا فِي
الْأَصْلِ تَقْدِيرُ النَّفَقَاتِ لِلزَّوْجَاتِ
وَالْأَقَارِبِ.
(النَّوْعُ الثَّالِثُ) مَا يُؤَدِّي أَخْذُهُ لِلْفِتْنَةِ
وَالشَّحْنَاءِ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي التَّبْصِرَةِ،
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ الْحُدُودُ فَإِنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى
حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَإِنْ كَانَتْ مَقَادِيرُهَا مَعْلُومَةً
لِأَنَّ تَفْوِيضَهَا لِجَمِيعِ النَّاسِ يُؤَدِّي إلَى
الْفِتَنِ وَالشَّحْنَاءِ وَالْقَتْلِ وَفَسَادِ الْأَنْفُسِ
وَالْأَمْوَالِ قَالَ وَمِنْهَا قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ.
وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الْمَقَادِيرِ وَأَسْبَابِ
الِاسْتِحْقَاقَاتِ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْحَاكِمِ إذْ
لَوْ فُوِّضَتْ لِجَمِيعِ النَّاسِ لَدَخَلَهُمْ الطَّمَعُ،
وَأَحَبَّ كُلُّ إنْسَانٍ لِنَفْسِهِ مِنْ كَرَائِمِ
الْأَمْوَالِ مَا يَطْلُبُهُ غَيْرُهُ فَيُؤَدِّي إلَى
الْفِتَنِ، وَمِنْهَا جِبَايَةُ الْجِزْيَةِ، وَأَخْذُ
الْخُرَاجَاتِ مِنْ أَرَاضِي الْعَنْوَةِ، وَلَوْ جُعِلَتْ
لِلْعَامَّةِ لَفَسَدَ الْحَالُ اهـ، وَمِنْهَا كَمَا فِي
الْأَصْلِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَالْأَعْضَاءِ إذْ لَوْ
لَمْ يُرْفَعْ لِلْأَئِمَّةِ لَأَدَّى بِسَبَبِ تَنَاوُلِهِ
تَمَانُعٌ وَقَتْلٌ وَفِتْنَةٌ أَعْظَمُ مِنْ الْأُولَى،
وَكَذَلِكَ التَّعْزِيرُ، وَفِيهِ أَيْضًا الْحَاجَةُ
لِلِاجْتِهَادِ فِي تَحْرِيرِ مِقْدَارِ الْجِنَايَةِ، وَحَالُ
الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ فِي
الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ.
(النَّوْعُ الرَّابِعُ) مَا يُؤَدِّي إلَى فَسَادِ عِرْضٍ أَوْ
عُضْوٍ كَمَنْ ظَفِرَ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ أَوْ
الْمُشْتَرَاةِ أَوْ الْمَوْرُوثَةِ، وَخَافَ مِنْ أَخْذِهَا
بِنَفْسِهِ أَنْ يُنْسَبَ إلَى السَّرِقَةِ فَلَا يَأْخُذُهَا
إلَّا بَعْدَ رَفْعِهَا لِلْحَاكِمِ دَفْعًا لِهَذِهِ
الْمَفْسَدَةِ.
(النَّوْعُ الْخَامِسُ) مَا يُؤَدِّي إلَى خِيَانَةِ
الْأَمَانَةِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا إذَا أَوْدَعَ عِنْدَك
مَنْ لَك عَلَيْهِ حَقٌّ، وَعَجَزْتَ عَنْ أَخْذِهِ مِنْهُ
لِعَدَمِ اعْتِرَافِهِ أَوْ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ
فَفِي مَنْعِ جَحْدِ وَدِيعَتِهِ إذَا كَانَتْ قَدْرَ حَقِّك
مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لِقَوْلِهِ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ
ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» ، وَهُوَ لِمَالِكٍ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِجَازَتِهِ لِقَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدَ ابْنَةِ
عُتْبَةَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا شَكَتْ إلَيْهِ
أَنَّهُ بَخِيلٌ لَا يُعْطِيهَا وَوَلَدَهَا مَا يَكْفِيهِمَا
فَقَالَ لَهَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خُذِي لَك،
وَلِوَلَدِك مَا يَكْفِيك بِالْمَعْرُوفِ» بِنَاءً عَلَى
أَنَّهُ فُتْيَا، وَهُوَ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى -، وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ قَضَاءٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - فَيَصِحُّ مَا قَالَهُ مَالِكٌ قَوْلَانِ
ثَالِثُهَا لِبَعْضِهِمْ الْجِوَازُ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ
حَقِّك.
وَالْمَنْعُ إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ هَذَا تَوْضِيحُ
مَا قَالَهُ الْأَصْلُ، وَصَحَّحَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ
الشَّاطِّ بِزِيَادَةٍ مِنْ تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ
(وَبَقِيَ مَا اُخْتُلِفَ) فِي كَوْنِهِ يَحْتَاجُ إلَى
الْحَاكِمِ أَوْ لَا قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي تَبْصِرَتِهِ
(وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ) قَبْضُ الْمَغْصُوبِ مِنْ الْغَاصِبِ
إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ غَائِبًا أَيْ فِي
افْتِقَارِهِ إلَى الْحَاكِمِ، وَعَدَمِ افْتِقَارِهِ خِلَافٌ
(وَمِنْهَا) مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قَالَ
ابْنُ يُونُسَ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ بَاقِيَهُ
يَعْتِقُ بِمُجَرَّدِ التَّقْوِيمِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى
حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَقَالَ غَيْرُهُ يَفْتَقِرُ عِتْقُ
بَاقِيهِ إلَى الْحَاكِمِ (وَمِنْهَا) عِتْقُ الْقَرِيبِ إذَا
مَلَكَهُ الْحُرُّ الْمَلِيءُ الْمَشْهُورُ عَدَمُ
افْتِقَارِهِ لِلْحُكْمِ، وَقِيلَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ
الْحُكْمِ (وَمِنْهَا) الْعِتْقُ بِالْمُثْلَةِ قَالَ مَالِكٌ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُعْتَقُ إلَّا بِالْحُكْمِ،
وَقَالَ أَشْهَبُ لَا يَفْتَقِرُ (وَمِنْهَا) فَسْخُ الْبَيْعِ
بَعْدَ تَخَالُفِ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ
(وَمِنْهَا) فَسْخُ النِّكَاحِ بَعْدَ التَّخَالُفِ فِيهِ
الْخِلَافُ أَيْضًا.
(وَمِنْهَا) الْيَتِيمُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِوَصِيٍّ مِنْ
قِبَلِ الْأَبِ هَلْ يَكْفِي إطْلَاقُهُ لِلْيَتِيمِ مِنْ
الْحَجْرِ دُونَ مُطَالَعَةِ الْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ أَوْ لَا
بُدَّ مِنْ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ
إطْلَاقُ الْوَصِيِّ لَهُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ فِيهِ خِلَافٌ
(وَمِنْهَا) وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ
(4/125)
ذَلِكَ وَيَعْضُدُهُ حَدِيثُ الْقَائِلِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ
عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِّي الْحَدِيثَ. وَحَدِيثُ «السَّوْدَاءِ
لَمَّا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَيْنَ اللَّهُ قَالَتْ فِي السَّمَاءِ» قَالَ،
وَلَوْ كُوشِفَ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى الصِّفَاتِ لَمْ
يَعْلَمْهَا (قُلْتُ) فَنَفْيُ الصِّفَاتِ وَالْجَزْمُ
بِنَفْيِهَا هُوَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ
نَفْيَ الْعِلْمِ أَوْ الْكَلَامِ أَوْ الْإِرَادَةِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ بَلْ الْعَالِمُ وَالْمُتَكَلِّمُ وَالْمُرِيدُ فَمَنْ
نَفَى أَصْلَ الْمَعْنَى وَحُكْمَهُ هُوَ الْمُجْمَعُ عَلَى
كُفْرِهِ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ
الْفَلَاسِفَةِ وَالدَّهْرِيَّةِ دُونَ أَرْبَابِ
الشَّرَائِعِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار
الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
ذَلِكَ وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ الْقَائِلِ لَئِنْ قَدَرَ
اللَّهُ عَلَيَّ لِيُعَذِّبَنِّي، الْحَدِيثَ. وَحَدِيثُ
«السَّوْدَاءِ لَمَّا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْنَ اللَّهُ فَقَالَتْ فِي
السَّمَاءِ» قَالَ وَلَوْ كُوشِفَ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى
الصِّفَاتِ لَمْ يَعْلَمْهَا قَالَ شِهَابُ الدِّينِ قُلْتُ:
فَنَفْيُ الصِّفَاتِ وَالْجَزْمُ بِنَفْيِهَا هُوَ الْمُجْمَعُ
عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ نَفْيَ الْعِلْمِ أَوْ
الْكَلَامِ أَوْ الْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ الْعَالِمُ
وَالْمُتَكَلِّمُ وَالْمُرِيدُ فَمَنْ نَفَى أَصْلَ الْمَعْنَى
وَحُكْمَهُ هُوَ الْمُجْمَعُ عَلَى كُفْرِهِ وَهَذَا هُوَ
مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالدَّهْرِيَّةِ دُونَ
أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ) قُلْتُ: أَكْثَرُ ذَلِكَ كُلِّهِ
نَقْلٌ لَا كَلَامَ فِيهِ إلَّا الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ
فَإِنَّهُ مَوْضِعٌ لَا يَكْفِي فِي مِثْلِهِ الظَّوَاهِرُ
مَعَ تَعَيُّنِ التَّأْوِيلِ فِي الْحَدِيثَيْنِ مِنْ جِهَةِ
أَنَّ حَدِيثَ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ ظَاهِرُهُ
يَنْفِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ وَاحْتِمَالُ أَنْ
يَكُونَ تَارَةً قَادِرًا وَتَارَةً غَيْرَ قَادِرٍ، وَلَيْسَ
ظَاهِرُهُ نَفْيَ أَنَّهُ قَادِرٌ بِقُدْرَةٍ وَكَذَلِكَ
حَدِيثُ السَّوْدَاءِ ظَاهِرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
مُسْتَقِرٌّ فِي السَّمَاءِ اسْتِقْرَارَ الْأَجْسَامِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ
وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ
بِتَمَامِ التَّحَالُفِ دُونَ حُكْمِ حَاكِمٍ، وَقَالَ ابْنُ
حَبِيبٍ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِتَمَامِ تَلَاعُنِهِمَا
حَتَّى يُفَرِّقَ الْإِمَامُ بَيْنَهُمَا.
(وَمِنْهَا) مَا إذَا تَزَوَّجَتْ الْحَاضِنَةُ فَهَلْ
يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنْ الْحَضَانَةِ بِالدُّخُولِ أَوْ
بِالْحُكْمِ بِأَخْذِ الْوَلَدِ مِنْهَا قَوْلَانِ (وَمِنْهَا)
مَا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ إنْ لَمْ تَحِيضِي فَأَنْتِ
طَالِقٌ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَعَلَيْهِ
فَهَلْ يَفْتَقِرُ الطَّلَاقُ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ
يَقَعُ بِمُجَرَّدِ نُطْقِهِ قَوْلَانِ اخْتَارَ اللَّخْمِيُّ
أَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا بِالْحُكْمِ (وَمِنْهَا) السَّلَمُ
الْمُخْتَلَفُ فِي فَسَادِهِ اُخْتُلِفَ هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى
حُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ لَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ
كَالسَّلَمِ الصَّحِيحِ حَتَّى يُبَاشِرَهُ الْحُكْمُ
بِالْفَسْخِ (وَمِنْهَا) مَا إذَا هَرَبَ الْجَمَّالُ، وَكَانَ
الْكِرَاءُ لِقَصْدِ أَمْرٍ لَهُ أَبَانَ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ
كَالْحَجِّ وَالْخُرُوجِ إلَى الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ مَعَ
الرُّفْقَةِ الْعَظِيمَةِ فَجَاءَهُ الْجَمَّالُ بِالْجِمَالِ
بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ قِيلَ يَنْفَسِخُ بِفَوَاتِ ذَلِكَ
كَالزَّمَنِ الْمُعَيَّنِ، وَقِيلَ لَا يَنْفَسِخُ لِتَوَقُّعِ
الْحَجِّ وَالسَّفَرِ فِي وَقْتٍ ثَانٍ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ
لَا يَنْفَسِخُ إلَّا فِي الْحَجِّ وَحْدَهُ، وَلَا يَخْتَلِفُ
أَنَّهُ إذَا رَفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ فَفَسَخَهُ أَنَّهُ
يَنْفَسِخُ مِنْ كِتَابِ قَيْدِ الْمُشْكِلِ (وَمِنْهَا)
الْقَاضِي إذَا فَسَقَ هَلْ يَنْعَزِلُ بِمُجَرَّدِ فِسْقِهِ
أَوْ لَا حَتَّى يَعْزِلَهُ الْإِمَامُ قَوْلَانِ.
(وَمِنْهَا) الْمُفْلِسُ إذَا قَسَّمَ مَالَهُ، وَحَلَفَ
أَنَّهُ لَمْ يَكْتُمْ شَيْئًا، وَوَافَقَهُ الْغُرَمَاءُ
عَلَى ذَلِكَ فَهَلْ يَنْفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ، وَيَكُونُ
لَهُ التَّصَرُّفُ فِيمَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْمَالِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يُزِيلَ عَنْهُ الْحَاكِمُ حَجْرَ
التَّفْلِيسِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ نُصُوصِهِمْ، وَاخْتَارَهُ
اللَّخْمِيُّ أَوْ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ إلَّا بِحُكْمِ
حَاكِمٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ
وَالْقَاضِي أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَصَّارِ، وَتَتَبُّعُ
هَذَا يُخْرِجُ عَنْ الْمَقْصُودِ اهـ كَلَامَ ابْنِ
فَرْحُونٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. |