الفصول في الأصول

 [بَابٌ الْكَلَامُ فِي قَوْلِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي أُمُورِ الدِّيَانَات]
بَابٌ
الْكَلَامُ فِي قَوْلِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: نَتَكَلَّمُ بِعَوْنِ اللَّهِ فِي تَثْبِيتِ وُجُوبِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ، وَاحِدًا كَانَ الْمُخْبِرُ، أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُ بِالْكَلَامِ عَلَى مَنْ أَبَى إلَّا قَبُولَ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ، ثُمَّ نَتَكَلَّمُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي فُرُوعِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَشُرُوطِهَا، بِمَا يُسَهِّلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْقَوْلِ فِيهَا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَرِضْوَانِهِ: قَدْ احْتَجَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِذَلِكَ بِحُجَجٍ كَافِيَةٍ مُغْنِيَةٍ، وَأَنَا ذَاكِرٌ جُمْلَةً، وَنَتْبَعُهَا بِمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَمَا احْتَجَّ بِهِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} [البقرة: 159] .
فَنَقُولُ: إنَّ دَلَالَةَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ظَاهِرَةٌ فِي لُزُومِ قَبُولِ الْخَبَرِ الْمُقَصِّرِ عَنْ الْمَنْزِلَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْبَيَانِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الْكِتْمَانِ، فَثَبَتَ وُقُوعُ الْبَيَانِ مِنْهُمْ لِلنَّاسِ إذَا أَخْبَرُوا، فَدَلَّ وُجُوبُ الْعِلْمِ بِهِ، لِوُقُوعِ بَيَانِ أَحْكَامِ اللَّهِ بِخَبَرِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونُوا أُمِرُوا بِالْبَيَانِ لِيَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ وَيَنْتَشِرَ فَيُوجِبَ الْعِلْمَ.
قِيلَ لَهُ: لَمَّا ذَمَّهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ وَأَمَرَهُمْ بِالْبَيَانِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ تَنَاوَلَ مَنْ لَا يَتَوَاتَرُ بِهِ الْخَبَرُ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ وُقُوعَ الْبَيَانِ بِخَبَرِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ جَازَ عَلَيْهِمْ الْكِتْمَانُ فِي خَبَرِهِمْ جَازَ وُقُوعُ التَّوَاطُؤِ (فَلَا يُوجِبُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ)

(3/75)


فَإِنْ قِيلَ: لَا دَلَالَةَ مِنْهُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِخْبَارِ. فَمَا الدَّلَالَةُ مِنْهُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] إخْبَارًا مِنْهُ بِوُقُوعِ بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا أُخْبِرُوا - دَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ، وَوُجُوبِ الْتِزَامِ حُكْمِهِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَا أُمِرُوا بِالْإِخْبَارِ بَيَانًا لَهُمْ فِيمَا تَعَبَّدُوا بِهِ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ مَا يُوصَفُ بِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِهِ، لُزُومُ الْعَمَلِ بِهِ، إذَا لَمْ يُوجِبْ الْعِلْمَ.
وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلْيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] وَالْفِرْقَةُ اسْمٌ لِجَمَاعَةٍ، وَأَقَلُّ الْجَمَاعَةِ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ جَعَلَ الطَّائِفَتَيْنِ الْفِرْقَةَ، وَهِيَ بَعْضُهَا، فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ مَنْ دُونَ الثَّلَاثَةِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الطَّائِفَةَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَتَنَاوَلَ الْوَاحِدَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] وَقَدْ يَتَنَاوَلُ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ.
أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] قَدْ قِيلَ: إنَّ أَقَلَّهَا وَاحِدٌ، فَكَيْفَ مَا تَصَرَّفَتْ الْحَالُ فَالطَّائِفَةُ اسْمٌ قَدْ يَتَنَاوَلُ مَنْ لَا يَتَوَاتَرُ بِهِ الْخَبَرُ، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ إيجَابَ قَبُولِ خَبَرِهَا.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا أَمَرَ الطَّوَائِفَ بِالْإِنْذَارِ لِيَتَوَاتَرَ بِهِمْ الْخَبَرُ، فَيَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ إذَا أَخْبَرَتْ.
قِيلَ لَهُ: لَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {وَلْيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ} [التوبة: 122] أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ رُجُوعَ الطَّوَائِفِ وَدَوَرَانَهَا عَلَى كُلِّ قَوْمٍ عَلَى حِيَالِهِمْ، أَوْ رُجُوعَ كُلِّ طَائِفَةٍ إلَى قَوْمِهَا دُونَ قَوْمِ طَائِفَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا. فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ تَنْفِرْ الطَّائِفَةُ مِنْهُمْ: إنَّهَا رَجَعَتْ إلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْمٍ: إنَّهُ رَجَعَ إلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِمْ. صَحَّ أَنَّ

(3/76)


الْمُرَادَ رُجُوعُ كُلِّ طَائِفَةٍ أُفْرِدَتْ مِنْ قَوْمٍ رُجُوعُهَا إلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا أَوْجَبَ الْإِنْذَارَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ لِقَوْمِهَا وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَذَرَ بِخَبَرِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى لُزُومِهِمْ قَبُولَ خَبَرِهَا وَإِنْذَارَهَا.
وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ اجْتِمَاعَ الطَّوَائِفِ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، ثُمَّ دَوَرَانَ جَمِيعِهَا فِي الْقَبَائِلِ عَلَى فِرْقَةٍ، لَكَانَ دَلَالَةُ الْآيَةِ قَائِمَةً عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ جَازَ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ امْتَنَعَ وُقُوعُ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ.
وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي الْآيَةِ لَظَهَرَ الْعَمَلُ بِهَا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ لَا مَحَالَةَ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ، لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ بِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالِاجْتِمَاعِ لِلتَّفَقُّهِ، ثُمَّ الدَّوَرَانِ عَلَى الْقَبَائِلِ لِلْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ عَنْهُ، بَلْ كَانَ يَقْتَصِرُ لِكُلِّ قَوْمٍ عَلَى مَا تَنْقُلُهُ إلَيْهِمْ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ مِنْهُمْ، وَالْوَافِدُ الْوَارِدُ مِنْ قِبَلِهِمْ. دَلَّ ذَلِكَ: عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ كَانَتْ تَقُومُ عَلَيْهِمْ فِي إبْلَاغِهِمْ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ، بِمَا تَنْقُلُهُ إلَيْهِمْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ إنَّمَا أُمِرَتْ بِإِنْذَارِ قَوْمِهَا وَإِبْلَاغِهَا مَا سَمِعَتْهُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِيَنْتَشِرَ الْخَبَرُ عَنْهَا، وَيَسْتَفِيضَ، فَلَا يَكُونُ فِي أَمْرِ كُلِّ طَائِفَةٍ بِالْإِنْذَارِ دَلَالَةٌ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِهَا، كَمَا أَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى حِيَالِهِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَحْدَهُ.
قِيلَ لَهُ: ظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِهِ وَحْدَهُ، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُقُوفِهِ عَلَى مَعْنًى آخَرَ غَيْرِهِ.
أَلَا تَرَى: أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْإِنْذَارِ قَدْ اقْتَضَى لُزُومَ قَبُولِ خَبَرِهِ، دُونَ مَعْنًى آخَرَ يَنْضَافُ إلَيْهِ.
أَلَا تَرَى: أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]

(3/77)


وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَمْرِ بِالشَّهَادَةِ وَبِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ مُوجِبَيْنِ - لِقَبُولِهَا وَلُزُومِ الْحُكْمِ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى وُجُوبِ الْحُكْمِ بِهَا، إذْ كَانَ مَعْقُولًا مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ أَنَّ (أَمْرَنَا بِإِقَامَتِهَا) وَأَدَائِهَا - مُوجِبٌ لِقَبُولِهَا، فَكَذَلِكَ أَمْرُهُ تَعَالَى كُلَّ طَائِفَةٍ عَلَى حِيَالِهَا بِإِنْذَارِ قَوْمِهَا قَدْ اقْتَضَى لُزُومَ حُكْمِ الْإِنْذَارِ بِقَوْلِهَا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حُكْمًا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِبْلَاغِهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مُنْفَرِدًا بِسَمَاعِهِ، أَوْ مُشَارِكًا لِغَيْرِهِ فِيهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى: أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَعَلَّقَ لُزُومُهُ بِخَبَرِهِ، وَأَمَّا الشَّاهِدُ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَاهِدٌ غَيْرُهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ: عَلَى أَنَّ مِنْ حُكْمِ الْخَبَرِ تَعَلُّقَ قَوْلِهِ بِإِخْبَارِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ تَعَلُّقَ صِحَّتِهَا بِهِ وَبِغَيْرِهِ.
وَأَيْضًا: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {وَلْيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] وَمَعْنَاهُ لِكَيْ يَحْذَرُوا، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَذَرَ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ مَا سَمِعُوهُ، كَمَا قَالَ {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] دَلَّ ذَلِكَ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي إيجَابِهِ الْحَذَرَ بِإِنْذَارِ طَائِفَةٍ دَلَالَةٌ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِهَا، لِأَنَّ الْحَذَرَ لَيْسَ مِنْ الْحُكْمِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ خَبَرُ الطَّائِفَةِ فِي شَيْءٍ، وَقَدْ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ الْحَذَرُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ، مِنْ تَقْصِيرٍ يَقَعُ مِنْهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
قِيلَ لَهُ: إنَّمَا الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِكَيْ يَحْذَرُوا مِنْ مُخَالَفَةِ مَا أُنْذِرَتْ الطَّائِفَةُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . فَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْحَذَرِ مِنْ الْعُقُوبَةِ فِي مُخَالَفَتِهِمْ مَا أُخْبِرَتْ بِهِ الطَّائِفَةُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ - لَمَا كَانَ الْإِنْذَارُ قَدْ أَلْزَمَهُ شَيْئًا، إذْ كَانَ الْحَذَرُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَاجِبًا قَبْلَ إنْذَارِ الطَّائِفَةِ وَبَعْدَهُ

(3/78)


فَإِنْ قِيلَ: الْمَعْنَى لِكَيْ يَحْذَرُوا، فَلَا يَأْمَنُوا أَنْ يَكُونَ الْإِنْذَارُ صَحِيحًا، فَأَلْزَمَهُ بِذَلِكَ الْبَحْثَ عَنْهُ، حَتَّى يَعْلَمَهُ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ إنْ كَانَ صَحِيحًا، فَيَصِيرَ حِينَئِذٍ إلَى مُوجِبِ حُكْمِهِ.
قِيلَ لَهُ: إنْ لَمْ يَكُنْ إنْذَارُ الطَّائِفَةِ قَدْ أَلْزَمَهُ حُكْمًا فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ قَبْلَ إنْذَارِهَا وَبَعْدَهُ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ: احْذَرْ وَاطْلُبْ الْآثَارَ وَالسُّنَنَ، لِتَعْرِفَ الْمُتَوَاتِرَ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ رُوِيَ لَهُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَيْءٌ.
وَهَذَا يُوجِبُ إسْقَاطَ فَائِدَةِ الْإِنْذَارِ، وَإِيجَابَ الْحَذَرِ بِهِ، وَمَا أَدَّى إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ الْإِنْذَارِ فَهُوَ سَاقِطٌ، وَفَائِدَةُ الْآيَةِ ثَابِتَةٌ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] .
وقَوْله تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] وقَوْله تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35] وَنَحْوِهِ مِنْ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ حُكْمِ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ.
فَمِنْهُمْ: مَنْ يَحْتَجُّ بِمُجَرَّدِهَا فِي لُزُومِ خَبَرِ الْعَدْلِ لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّانَا بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ ثَبَتَ خَبَرُ الْفَاسِقِ غَيْرَ مَقْبُولٍ، فَوَجَبَ قَبُولُ خَبَرِ الْعَدْلِ، لِتَحْصُلَ التَّفْرِقَةُ.
وَمِنْهُمْ: مَنْ يَضُمُّ إلَيْهَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فَتَوَكَّدَ قَبُولُ خَبَرِ الْعَدْلِ بِمَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ، وَأَوْجَبَ التَّثَبُّتَ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، دَلَّ بِذَلِكَ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ، وَتَرْكِ التَّثَبُّتِ فِيهِ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْحِجَاجِ غَيْرُ مُعْتَمَدٍ عِنْدَنَا، لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا إيجَابُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ خَاصَّةً مَوْجُودَةً بَعْدَ وُرُودِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَقَبْلَهَا فِي وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. فَالْمَعْقُولُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَاتِ: إيجَابُ التَّفْرِقَةِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، ثُمَّ لَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ الْوُجُوهُ الَّتِي أَوْجَبَ بِهَا التَّفْرِقَةَ مَعْلُومَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ مَقْصُورًا

(3/79)


عَلَيْهِمَا دُونَ غَيْرِهَا، وَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ. كَأَنَّهُ قَالَ: أَوْ خَبَرُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَكُلُّ بَعْضٍ أَشَرْنَا إلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الْبَيَانِ فِيهِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَمْ يُفَرَّقْ بِهِ بَيْنَهُمَا، فَالِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِهِ فِيمَا وَصَفْنَا سَاقِطٌ لَا مَعْنَى لَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فَلَمَّا أَمَرَ بِالتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِي خَبَرِ الْعَدْلِ، فَوَجَبَ قَبُولُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْحِجَاجِ لَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] قَالَ: فَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ إجَابَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَعَاهُ وَهُوَ وَاحِدٌ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ مُشَافَهَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إيَّاهُ لَيْسَ هُوَ دُعَاءَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْحَقِيقَةِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْآيَةِ مَنْ عَدَا النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَّا بِدَلَالَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَا جَازَ فِي الْمُتَعَارَفِ أَنْ يُقَالَ: دَعَانِي فُلَانٌ، وَإِنَّمَا أَرْسَلَ إلَيْهِ بِرَسُولٍ تَنَاوَلَ لَفْظَ الْآيَةِ، دَعَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إيَّاهُمْ شِفَاهًا، وَبِإِرْسَالِهِ مَنْ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ.
قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ دُعَاءَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إيَّاهُمْ شِفَاهًا مُرَادٌ بِالْآيَةِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ، وَمَا ذَكَرْته فَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ، فَلَا يَجُوزُ دُخُولُهُ فِي اللَّفْظِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّفْظَ مَتَى حَصَلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ انْتَفَى دُخُولُ الْمَجَازِ فِيهِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ لِخَصْمِهِ أَنْ يَقُولَ: ثَبَتَ أَنَّ الْوَاحِدَ إذَا جَاءَ فَذَكَرَ أَنَّهُ (مَدْعُوٌّ مِنْ) رَسُولِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ هُنَاكَ دُعَاءٌ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إذْ لَيْسَ يَثْبُتُ عِنْدِي أَنَّهُ دُعَاءٌ مِنْ الرَّسُولِ، دُونَ أَنْ يَنْقُلَهُ مَنْ يُوجِبُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ، فَيَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، بِدَلَالَةٍ تَحْتَاجُ أَنْ تُثْبِتَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ هُنَاكَ دُعَاءٌ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

(3/80)


وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ احْتَجَّ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] قَالَ وَالْآذِنُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ مَا يُقَالُ لَهُ، فَمَدَحَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ.
قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ قَوْلَهُ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، أَنَّهُ قَالَ: {يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ فِيمَا حَكَيْنَا عَنْهُمْ شَيْءٌ أَوْهَى مِنْ هَذَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ كَانَ مِنْ قِبَلِ أَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ، أَوْ الشَّهَادَاتِ، فِي إثْبَاتِ الْحُقُوقِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، بَلْ كَانَ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ اتِّبَاعُهُ، وَالْأَخْذُ عَنْهُ، فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ.
وَلَيْسَ يَجُوزُ أَيْضًا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَبُولَ الشَّهَادَاتِ فِي إثْبَاتِ الْحُقُوقِ، لِأَنَّ الشَّهَادَاتِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَعْدَادٍ مَعْلُومَةٍ، لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى مَا دُونَهُ مِنْ الْأَعْدَادِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا.
وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الشَّهَادَاتِ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِهَا هَاهُنَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوُهَا، وَالْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ.

فَأَمَّا قَبُولُ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، فَإِذًا لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ، فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ.
فَمِنْهَا: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ يَسْمَعُهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» .
وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ: «لِيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ تَبْلُغُهُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ.
وَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ «أَمَرَ أَنْ يُنَادَى فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: إنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ

(3/81)


وَبِعَالٍ» وَأَنَّهُ «أَمَرَ بِالْغَدَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ، نَهَى عَنْ لُحُومِ الْأَهْلِيَّةِ» «وَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ أَنْ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ» .
وَأَنَّهُ «قَبِلَ شَهَادَةَ أَعْرَابِيٍّ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ» وَأَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ كَنَحْوِهَا تُوجِبُ قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَإِنْ كَانَ وُرُودُهَا فِي طَرِيقِ الْآحَادِ فَإِنَّهَا مِنْ الْأَخْبَارِ الشَّائِعَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ فِي الْأُمَّةِ، وَقَدْ تَلَقَّتْهَا وَاسْتَعْمَلَتْهَا فِي نَقْلِ الْعِلْمِ وَأَدَائِهِ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ، وَفِي قَبُولِ نِدَاءِ الْمُنَادِي وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ.
وَقَدْ احْتَجَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِذَلِكَ، وَرَوَى بَعْضَهَا مُرْسَلًا، وَمِنْ الْجُهَّالِ مَنْ يَتَعَجَّبُ مِنْ احْتِجَاجِهِ بِذَلِكَ وَيَقُولُ: كَيْفَ يُحْتَجُّ عَلَى مُبْطِلِي خَبَرِ الْوَاحِدِ بِخَبَرٍ مُرْسَلٍ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ قَائِلُو خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي قَبُولِهِ، فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَنْ لَا يَقْبَلُ أَخْبَارَ الْآحَادِ رَأْسًا.
وَإِنَّمَا وَجْهُ احْتِجَاجِهِ بِهِ: أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَرْفَعْهَا، بَلْ جَمِيعُ الْأُمَّةِ قَدْ اسْتَعْمَلَتْهَا، وَتَلَقَّتْهَا بِالْقَبُولِ فِي لُزُومِ نَقْلِ الْعِلْمِ، وَدَلَالَتُهَا وَاضِحَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّهُ قَالَ: «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» فَأَخْبَرَ: أَنَّ الَّذِي يَحْمِلُهُ الْوَاحِدُ وَيُؤَدِّيهِ إلَى غَيْرِهِ فِقْهٌ، وَلَيْسَ يَكُونُ فَقِيهًا إلَّا وَقَدْ لَزِمَ الْمَنْقُولَ إلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ.
وَكَذَلِكَ النِّدَاءُ، لَوْ لَمْ يَلْزَمْ الْعَمَلُ بِقَوْلِ الْمُنَادِي - وَهُوَ وَاحِدٌ - لَمَا كَانَ لِلْأَمْرِ بِهِ مَعْنًى.
وَضَرْبٌ آخَرُ مِنْ ذَلِكَ: وَهُوَ رُسُلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ، أَرْسَلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى كُلِّ مَلِكٍ مِنْهُمْ رَسُولًا وَكِتَابًا، وَكَانَ فِي كُتُبِهِ إلَيْهِمْ، الدُّعَاءُ إلَى التَّوْحِيدِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالرِّسَالَةِ، وَجُمَلٌ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ لَزِمَهُمْ قَبُولُهَا، وَالْعَمَلُ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْحُكْمِ لَمَا كَانَ لِإِرْسَالِهِمْ وَكَتْبِ الْكُتُبِ مَعَهُمْ مَعْنًى.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: التَّصْدِيقُ وَالتَّوْحِيدُ بِالرِّسَالَةِ لَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهَا بِالْخَبَرِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا التَّوْحِيدُ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ اعْتِقَادُهُ بِالدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لَهُ قَبْلَ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(3/82)


وَأَمَّا الرِّسَالَةُ: فَقَدْ كَانَ الْخَبَرُ تَوَاتَرَ عَنْهُمْ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النَّاسَ إلَى تَصْدِيقِهِ، وَظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ عَلَى يَدِهِ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِمْ النَّظَرُ فِي أَمْرِهِ وَمَا يَدْعُو إلَيْهِ، وَفِي مُعْجِزَاتِهِ وَدَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ قَبْلَ بَعْثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرُّسُلَ، لِلْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا كُتُبُهُ وَرَسَائِلُهُ إلَيْهِمْ.
وَبَعْدَ تَقَدُّمِهِ الدُّعَاءَ إلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ بِالرِّسَالَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ: أَنَّهُمْ إنْ أَجَابُو فَلَهُمْ كَذَا، وَإِنْ لَمْ يُجِيبُوا فَعَلَيْهِمْ كَذَا، فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَمْرًا لَهُمْ بِحَمْلِ الشَّرَائِعِ.
وَضَرْبٌ آخَرُ: وَهُوَ تَوْجِيهُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عُمَّالَهُ إلَى الْآفَاقِ، كَتَوْجِيهِهِ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ إلَى الْيَمَنِ، وَاسْتِعْمَالِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُمَّالِ الصَّدَقَاتِ.
وَقَدْ كَانَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمْ بِجُمَلِ الْفُرُوضِ وَالْأَحْكَامِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِتَعْلِيمِهَا لِلنَّاسِ، وَحَمْلِهِمْ عَلَيْهَا، وَإِلْزَامِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ قَبُولَهَا، فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْخَبَرَ كَانَ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ بِاسْتِعْمَالِ الْعَامِلِ عَلَيْهِمْ، كَمَا يَتَوَاتَرُ الْخَبَرُ الْآنَ بِتَوْلِيَةِ الْخَلِيفَةِ أَمِيرًا مِنْ الْأُمَرَاءِ بَعْضَ الْبُلْدَانِ.
قِيلَ لَهُ: أَجَلْ قَدْ كَانَ يَتَوَاتَرُ الْخَبَرُ عِنْدَهُمْ بِالْوِلَايَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ الْخَبَرُ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي يَقْدُمُ بِهَا إلَيْهِمْ، فَأَمَرَهُمْ بِأَدَائِهَا إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ كُلَّمَا بَعَثَ عَامِلًا بَيَّنَ لِسَائِرِ النَّاسِ كُلَّ حُكْمٍ أَمَرَهُ بِإِنْفَاذِهِ، وَكُلَّ شَرِيعَةٍ أَمَرَهُ بِأَدَائِهَا إلَيْهِمْ، لَنَقَلَ النَّاسُ ذَلِكَ إلَيْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، فَمَا كَانَ الْمَنْقُولُ إلَيْنَا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ: تَوْجِيهُ الْعُمَّالِ دُونَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ بِهَا، وَقَدْ عَلِمْنَا مَعَ ذَلِكَ: أَنَّهُ كَانَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمْ بِأَشْيَاءَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِأَدَائِهَا إلَى الْمَبْعُوثِينَ إلَيْهِمْ، ثَبَتَ أَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَكُنْ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَقْلَهَا إلَيْهِمْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا أَلْزَمَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ، قَبُولَ خَبَرِ الْمَوْلَى فِي الْأَحْكَامِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

(3/83)


قَدْ كَانَ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ عَنْهُ إلَّا مَا كَانَ حَقًّا، وَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْوُلَاةِ، يَتَوَارَثُهَا أَعْقَابُهُمْ، كَسَائِرِ الْفَضَائِلِ الَّتِي خُصَّ بِهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ، نَحْوُ " مَا خُصَّ جَعْفَرٌ بِأَنَّ لَهُ جَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ "، وَأَنَّ الْمَلَائِكَة غَسَّلَتْ حَنْظَلَةَ "، وَنَحْوَهَا مِنْ الْأُمُورِ. فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ وُلَاتَهُ مَعْصُومُونَ لَا يَقُولُونَ إلَّا الْحَقَّ، عَلِمْنَا بُطْلَانَ هَذَا الْقَائِلِ.
وَضَرْبٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا لَا يُشَكُّ فِيهِ مِنْ وُجُودِ الرِّوَايَاتِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ فِي الْأَحْكَامِ مُخْتَلِفَةً، قَدْ عَلِمْنَا ضَرُورَةً: وُقُوعَ الْحُكْمِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَعْضِهَا، وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ حَكَمَ بِهِ، كَمَا عَلِمْنَا ضَرُورَةَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنْهَا: أَنَّهُ قَوْلُ قَائِلٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، وَكَمَا نَعْلَمُ ضَرُورَةً إذَا أَخْبَرَنَا النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُمْ مُنْصَرِفُونَ فِي طَرِيقِ الْجَامِعِ قَدْ صَلَّوْا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ، أَنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ قَدْ اشْتَمَلَ خَبَرُهَا عَلَى صِدْقٍ، وَإِنْ

(3/84)


لَمْ يُقْطَعْ بِصِحَّةِ خَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، إذَا قَرَّرْنَاهُ فِي أَنَّهُ صَلَّى الْجُمُعَةَ مَعَهُمْ، وَإِذَا كُنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِاضْطِرَارٍ: أَنَّ رِوَايَاتِ الْأَفْرَادِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِدْقٍ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ وَرَوَتْهُ، ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْهُ الْحُكْمُ فِي بَعْضِ أُمُورِ الدِّينِ، يُخْبِرُ بِهِ الْخَاصَّ مِنْ النَّاسِ الَّذِي لَا يُوجِبُ نَقْلُهُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُخْبَرِهِ، وَلَا يُشِيعُهُ فِي سَائِرِ النَّاسِ، عَلَى مَا كَانَ يَحْدُثُ مِنْ الْحَوَادِثِ، وَيُبْلَى بِهَا خَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ، فَيَكُونُ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهَا مَوْقُوفَةً عَلَى مَنْ بُلِيَ بِهَا، دُونَ كَافَّةِ النَّاسِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَلَوْلَا أَنَّ خَبَرَ ذَلِكَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِمُوجِبِ حُكْمِهِ، لَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَلِكَ الْحُكْمَ مِنْ إشَاعَتِهِ وَإِظْهَارِهِ لِلنَّاسِ حَتَّى يَتَوَاتَرَ الْحُكْمُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكِلَهُمْ إلَى اجْتِهَادِ رَأْيِهِمْ، مَعَ وُجُودِ النَّصِّ مِنْهُ فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا وَكَّلَهُمْ إلَى الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ الَّذِي أَوْدَعَهُ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ، وَمَنْ لَا يُوجِبُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ.
وَمِنْ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ، وَأَتْبَاعِهِمْ، فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ.
وَاَلَّذِي نُبَيِّنُهُ مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَأَخْبَارِ الْآحَادِ فِي ذَلِكَ، وَالْعَمَلِ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَائِلِهَا، وَلَا رَدَّ لَهَا.
وَقَدْ أَوْرَدَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ مِنْ ذَلِكَ جُمَلًا.
مِنْهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: كُنْت إذَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي عَنْهُ غَيْرِي اسْتَحْلَفْته، فَإِنْ حَلَفَ صَدَّقْته، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يُصَلِّي وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، إلَّا غَفَرَ لَهُ اللَّهُ»

(3/85)


وَقَبِلَ أَبُو بَكْرٍ شَهَادَةَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي «إعْطَاءِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ» وَعَمِلَ بِهِ النَّاسُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا
" وَقَبِلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَبَرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ» وَقَبِلَ أَيْضًا خَبَرَ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا» . وَقَبِلَ خَبَرَ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ، وَالْمُغِيرَةِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دِيَةِ الْجَنِينِ ".
وَقَبِلَتْ الْأَنْصَارُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَقَبِلَ أَهْلُ مَسْجِدِ الْقِبْلَتَيْنِ حِينَ نَسْخِ الْقِبْلَةِ، فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: «كُنَّا لَا نَرَى بِالْمُخَابَرَةِ بَأْسًا، حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهَا، فَتَرَكْنَاهَا» وَكَانَتْ الصَّحَابَةُ تَسْأَلُ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أُمُورٍ، كَانَ الْغَالِبُ فِيهَا أَنَّهُنَّ مَخْصُوصَاتٌ بِعِلْمِهَا.
وَفِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِمَّا قَبِلُوا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ مُسْتَفِيضٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَعَلَيْهِ جَرَى أَيْضًا أَمْرُ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، إلَى أَنْ نَشَأَتْ فِرْقَةٌ فَاجِرَةٌ، قَلِيلَةُ الْفِقْهِ، جَاهِلَةٌ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ، فَخَالَفَتْ دَلَائِلَ الْقُرْآنِ، وَسُنَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي ذَلِكَ، إلَى

(3/86)


آرَائِهِمْ، وَعَارَضُوهَا بِنَظَرٍ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ مُعَارَضَةِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَمَا أَمْكَنَهُمْ بِهِ تَصْحِيحُ مَقَالَتِهِمْ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى إجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى قَبُولِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَفَرُّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِرِوَايَةِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ، وَدُعَاءُ النَّاسِ إلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَنْكَرًا لَأَنْكَرُوهُ عَلَى رُوَاتِهَا، وَمَنَعُوهُمْ مِنْهَا، إذْ كَانُوا كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: 112] .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا الَّذِي رَوَيْته عَنْ الصَّحَابَةِ فِي تَثْبِيتِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ: هُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَكَيْفَ جَعَلْته أَصْلًا فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى خَصْمِك وَهُوَ نَفْسُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نُنَازِعُك فِيهَا.
قِيلَ لَهُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَقْلَ ذَلِكَ وَظُهُورَهُ فِي الْأُمَّةِ وَتَلَقِّيَهُمْ إيَّاهُ بِالْقَبُولِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا كَوْنَ ذَلِكَ وَوُجُودَهُ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنَّا الْقَطْعُ عَلَى صِحَّةِ كُلِّ خَبَرٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ، كَمَا قُلْنَا آنِفًا فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، (إلَّا) أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِاضْطِرَارٍ: أَنَّهَا قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِدْقٍ فِي بَعْضِ مُخْبَرَاتِهَا، وَإِنْ لَمْ نَعْرِفْهُ بِعَيْنِهِ.
وَلَعَلِمْنَا بِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي حَوَادِثِ الْمَسَائِلِ، وَإِنْ لَمْ نَقْطَعْ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ فِيهَا.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: بِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ

(3/87)


- عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ إذَا حَدَثَتْ لَهُنَّ حَوَادِثُ فِيمَا خَصَّهُنَّ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ: أَنَّ الَّذِي كَانَ يَسْأَلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ أَزْوَاجُهُنَّ، وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُنَّ، وَأَنَّهُنَّ كُنَّ يَقْتَصِرْنَ فِيهَا عَلَى أَخْبَارٍ مِنْ خَبَرِهِنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُكَلِّفُهُنَّ الْحُضُورَ لِذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ.
وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ: اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ لِلْمُسْتَفْتِي بِمَا يُخْبِرُ بِهِ الْمُفْتِي، مِنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ، وَعَلَى أَنَّ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ الْتِزَامَ حُكْمِ الْحَاكِمِ إذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ، وَقَدْ ضَمِنَ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ اعْتِقَادِهِ، وَمَذْهَبُهُ الْحُكْمُ الَّذِي أَمْضَاهُ عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ اعْتِقَادُهُ بِخِلَافِ مَا أَظْهَرَ لَمَا جَازَ حُكْمُهُ، وَقَدْ قَبِلَ الْجَمِيعُ خَبَرَهُ عَنْ اعْتِقَادِهِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، فَصَارَ أَصْلًا فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، عَلَى الشَّرَائِطِ الَّتِي يَجِبُ قَبُولُهُ عَلَيْهَا.
وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَفْتِي يَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِ الْمُفْتِي، وَيَلْزَمُ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا أَخْبَرَا عَنْ رَأْيِهِمَا وَاعْتِقَادِهِمَا، فَإِذَا أُخْبِرَ حُكْمَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِ، فَهُوَ أَوْلَى (مِنْ قَبُولِ) خَبَرِهِمَا.
أَلَا تَرَى: أَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا قَالَ: إنَّ هَذَا أَثَرٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ: كَيْتَ وَكَيْتَ، لَزِمَ الْمُسْتَفْتِيَ قَبُولُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْمُسْتَفْتِي لَزِمَ السَّامِعَ حُكْمُهُ، وَالْعَمَلُ بِهِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ قَالَ الْمُسْتَفْتِي لِلْمُفْتِي: إنَّ هَذَا الْحُكْمَ فِي الْقُرْآنِ، لَزِمَهُ قَبُولُ قَوْلِهِ، وَأَنْتَ لَا تُثْبِتُ الْقُرْآنَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ كَمَا ذَكَرْت.
قِيلَ لَهُ: لَا يَثْبُتُ الْقُرْآنُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِخَبَرٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِهِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ: فَإِنِّي أُثْبِتُهُ، وَكَلَامُنَا فِي الْحُكْمِ لَا فِي غَيْرِهِ.
فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا لَزِمَ الْمُسْتَفْتِيَ قَبُولُ خَبَرِ الْمُفْتِي، لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ

(3/88)


الْحُكْمِ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ فَإِنَّهُمْ مَتَى فَقَدُوا الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ، رَجَعُوا إلَى اسْتِعْمَالِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ.
قِيلَ لَهُ: إنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ لَا يُفْضِي بِنَا إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ غَالِبُ الظَّنِّ. وَالْأَثَرُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، لِأَنَّ الْمُخْبِرَ يَقُولُ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْضًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَهُ فِي الِاجْتِهَادِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا كَانُوا يَفْزَعُونَ إلَى الْقِيَاسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَثَرِ عَنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَعْمِلُونَ النَّظَرَ مَعَ الْأَثَرِ، وَقَدَّمْنَا الْأَثَرَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا عَلَيْهِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَى قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، فَانْتَفَى قَبُولُهُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وإنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] .
وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عِنْدَ قَائِلِيهِ مَوْقُوفٌ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِرَاوِيهِ.
وَقَدْ نَفَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ الْحُكْمَ بِالظَّنِّ، فَانْتَفَى بِهَا قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِهِ فِي (بَدْءِ دُعَائِهِ) النَّاسَ إلَى التَّصْدِيقِ بِثُبُوتِهِ، إلَّا بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدَيْهِ، وَإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ

(3/89)


لِصِدْقِهِ، فَمَنْ دُونَهُ مِنْ النَّاسِ أَحْرَى أَنْ لَا يَقْبَلَ خَبَرًا إلَّا بِمُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ، وَبِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَوْ كَانَ مَقْبُولًا مِنْ قَائِلِهِ بِلَا دَلَالَةٍ تُوجِبُ صِحَّتَهُ، لَكَانَتْ مَنْزِلَةُ الْمُخْبِرِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ، إذْ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِهِ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِدْقِهِ، وَجَازَ قَبُولُ خَبَرِ غَيْرِهِ بِلَا دَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ.
وَالْجَوَابُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَنْفِي قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ: أَنَّ الْحُكْمَ بِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا حُكْمٌ يُعْلَمُ مِنْ حَيْثُ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ لِقَبُولِهِ، وَالْحُكْمَ بِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْحُكْمَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ حُكْمٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنَّهُ قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَيْسَ هَذَا أَيْضًا حُكْمٌ بِالظَّنِّ، لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ لِلْحُكْمِ بِهِ قَدْ أَوْقَعَتْ لَنَا الْعِلْمَ بِلُزُومِ قَبُولِهِ، فَهُوَ حُكْمٌ بِعِلْمٍ، كَمَا نَقُولُ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ: إنَّهُ حُكْمٌ بِعِلْمٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ حُكْمٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنَّهُ اتِّبَاعُ ظَنٍّ بِلَا حَقِيقَةٍ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ صِدْقَ الشُّهُودِ مِنْ كَذِبِهِمْ، إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِقَبُولِهَا وَالْحُكْمِ بِهَا، كَذَلِكَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا قَدْ عَلِمْنَاهُ، وَحَكَمَ بِالْحَقِّ دُونَ الظَّنِّ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْعِلْمَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَالْآخَرُ: حُكْمُ الظَّاهِرِ وَغَلَبَةُ الظَّنِّ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ - وَأَنَّهُ يُسَمَّى عِلْمًا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] وَمَعْلُومٌ أَنَّا لَا نُحِيطُ عِلْمًا بِمَا فِي ضَمَائِرِهِنَّ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَمْرِهِنَّ عِلْمًا، وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ: {إنَّ ابْنَك سَرَقَ، وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا، وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81] فَسَمَّوْا مَا غَلَبَ فِي ظُنُونِهِمْ مِنْ غَيْرِ إحَاطَةٍ مِنْهُمْ بِغَيْبِهِ وَحَقِيقَتِهِ عِلْمًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْرِقُ فِي الْحَقِيقَةِ، «وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ حَقًّا فِي أَمْوَالِهِمْ، يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَيُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» فَسَمَّى إخْبَارَهُمْ إعْلَامًا، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُمْ الْعِلْمُ بِحَقِيقَةِ مُخْبِرِهِ.
وَكَالشُّهُودِ إذَا شَهِدُوا بِحَقٍّ، حَكَمْنَا بِقَوْلِهِمْ بِظَاهِرِ الْعِلْمِ، حَسَبَ مَا يَغْلِبُ فِي ظُنُونِنَا مِنْ صِدْقِهِمْ، وَإِذَا كَانَ اسْمُ الْعِلْمِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَكَانَ خَبَرُ

(3/90)


الْوَاحِدِ إنَّمَا يُوجِبُ عِنْدَنَا الْعِلْمَ الظَّاهِرَ دُونَ الْحَقِيقَةِ، لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا السَّائِلُ مَا يَنْفِي قَبُولَهُ، إذَا كَانَ مَا أَوْجَبَهُ ضَرْبًا مِنْ الْعِلْمِ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَضِيَهُ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ، لِيَكُونَ الْحُكْمُ بِهِ حُكْمًا لِمُوجِبِهَا وَمُقْتَضَاهَا، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُوجِبَةً لِمَا ادَّعَاهُ السَّائِلُ - لَمَنَعَتْ قَبُولَ قَوْلِ الرَّسُولِ فِي الْهَدِيَّةِ، وَلَسَقَطَتْ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ كُلِّهَا، لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ.
وَمَعْلُومٌ: أَنَّ أَكْثَرَ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ تَشْتَمِلُ عَلَى إبَاحَةِ مَا كَانَ مَحْظُورًا قَبْلَ الْخَبَرِ، وَحَظْرِ مَا كَانَ مُبَاحًا.
فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ فِي إبَاحَةِ مَا كَانَ مَحْظُورًا، وَحَظْرِ مَا كَانَ مُبَاحًا، مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهَا، بَطَلَ بِذَلِكَ اسْتِدْلَالُ مَنْ اسْتَدَلَّ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى نَفْيِ قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ، مِنْ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْ عِلْمًا لِمُخْبِرِهَا.
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، لَمْ يَتَعَدَّدْ ذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] وَنَحْوُ ذَلِكَ قَدْ اقْتَضَى الْحُكْمَ بِمَا يَجُوزُ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ حُكْمٌ بِعِلْمٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَقِّ، وَكَانَ مَا يُخْبِرُ بِهِ الْعَدْلُ مُوجِبًا لِضَرْبٍ مِنْ الْعِلْمِ، أَوْجَبَ ذَلِكَ دُخُولَهُ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَلَزِمَ الْحُكْمُ بِهِ بِعُمُومِهَا.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَخْبَارُ الْآحَادِ الْوَارِدَةُ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ مُخَالِفَةٌ لِلشَّهَادَاتِ، وَالْإِقْرَارَاتِ، وَأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّا إنَّمَا كُلِّفْنَا الشَّهَادَةَ فِي الْإِقْرَارِ مِنْ عِلْمِ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ بِهِمَا، وَلَمْ نُكَلَّفْ عِلْمَ مَا كَانَ بِهِ الْإِقْرَارُ، وَلَا عِلْمَ مَا قَامَتْ بِهِ الشَّهَادَةُ.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] إنَّمَا كُلِّفْنَا فِيهِنَّ عِلْمَ ظُهُورِ ذَلِكَ مِنْهُنَّ، لَا عِلْمَ الْمُضَمَّنِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الدِّينِ، لِأَنَّا كُلِّفْنَا فِيهِ عِلْمَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] وقَوْله تَعَالَى: {وإنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]

(3/91)


قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّا نَقُولُ: إنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَلَا نُكَلَّفُ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ، وَمِنْهَا مَا اقْتَصَرْنَا فِيهِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَمَا قَبِلْنَا فِيهِ أَخْبَارَ الْآحَادِ - فَهُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَهُمَا سَوَاءٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] لَا يَنْفِي لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ كَمَا ظَنَّهُ هَذَا السَّائِلُ، لَوَجَبَ أَنْ نَقْبَلَ أَخْبَارَ الْمُعَامَلَاتِ فِي الْهَدَايَا وَالْوَكَالَاتِ وَنَحْوِهَا، وَهِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَشْيَاءُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ: مِنْ حَظْرِ مُبَاحٍ، أَوْ إبَاحَةِ مَحْظُورٍ، فَلَمَّا كَانَتْ أَخْبَارُ الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولَةً مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، عَلِمْنَا أَنَّا لَمْ نُكَلَّفْ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ إصَابَةَ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ قَضِيَّةَ هَذَا السَّائِلِ يَمْنَعُ الْمُسْتَفْتِيَ قَبُولَ قَوْلِ الْمُفْتِي إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ حُكْمَ الْحَاكِمِ إذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَأَخْبَرَ عَنْ اعْتِقَادِهِ وَمَذْهَبِهِ فِيهِ، إذْ لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ.
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ إذَا قَالَتْ: قَدْ طَهُرْتُ مِنْ حَيْضِي، أَوْ قَدْ حِضْت، فِي إبَاحَةِ الْوَطْءِ وَحَظْرِهِ، لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، فَلَمَّا كَانَتْ أَخْبَارُ هَؤُلَاءِ مَقْبُولَةً مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ مُخْبَرَاتِهَا، عَلِمْنَا بِهِ فَسَادَ هَذَا السُّؤَالِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ أَخْبَارَ الشَّرْعِ لَوْ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى مَا يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ، لَمَا سَاغَ الِاسْتِدْلَال وَالنَّظَرُ فِي إثْبَاتِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ يُفْضِيَ إلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَغْلِيبُ الظَّنِّ وَأَكْثَرُ الرَّأْيِ فِي أُمُورِ الدِّينِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ: مِنْ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ ضَرْبًا مِنْ الْعِلْمِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا، فَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ مَا عَارَضَ بِهِ السَّائِلُ مِنْ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا لَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ فِي الِابْتِدَاءِ إلَّا بِمُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ

(3/92)


الْمُوجِبَةِ لِتَصْدِيقِهِ، فَكَانَ غَيْرُهُ بِمَثَابَتِهِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى خَبَرِهِ عَارِيًّا مِنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ صِدْقَهُ. فَلَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا مَعْنًى يَقْتَضِي الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَدْءٌ فَإِنَّمَا كَانَ مَعَ دُعَائِهِ لِلنَّاسِ إلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَكُلِّ مَنْ دَعَا إلَى الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهِ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي (كُلِّ مَا) كَانَ سَبِيلُهُ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى الْخَبَرِ مُجَرَّدًا دُونَ مُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّتِهِ. ثُمَّ إذَا صَحَّتْ نُبُوَّتُهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّهُ لَهُ، صَارَتْ تِلْكَ الدَّلَائِلُ مُوجِبَةً لِصِدْقِ إخْبَارِهِ فِي جَمِيعِ مَا يُخْبِرُ بِهِ.
وَأَمَّا أَخْبَارُ الْآحَادِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُنَا بِهَا الْعَمَلُ دُونَ الْعِلْمِ.
فَالْمُسْتَدِلُّ بِأَخْبَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى نَفْيِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مُعْتَقِدٌ لِمَا وَصَفْنَا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُنْتَقَضٌ عَلَى قَائِلِهِ فِي الشَّهَادَاتِ، وَأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ، فِي الْفُتْيَا، وَحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، مَعَ تَفَرُّدِهَا مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِحَّتِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَ الْمُخْبِرِ أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ قُلْنَا: إنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِهِ، حَتَّى تُقَارِنَهُ دَلَائِلُ غَيْرِهِ تُوجِبُ صِحَّتَهُ، وَخَبَرُ غَيْرِهِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِهِ، دُونَ مُقَارَنَةِ الدَّلَائِلِ لَهُ.
فَأَمَّا إذَا قُلْنَا: إنَّمَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْمُخْبِرِ غَيْرَهُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي لُزُومِ الْعَمَلِ بِهِ، دُونَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ، وَالْقَطْعِ عَلَى عَيْنِهِ.
وَقُلْنَا: إنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا اقْتَضَى وُقُوعَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهِ، وَمَا دَعَا إلَيْهِ، احْتَاجَ إلَى الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِصِدْقِهِ، فَلَمْ نَجْعَلْ الْمُخْبِرَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي خَبَرِهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا ظَنَّ السَّائِلُ لَلَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ بِأَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْفُتْيَا وَالْحُكْمِ - أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِقَبُولِ خَبَرِهِمْ بِلَا دَلَالَةٍ تُقَارِنُهُ مُوجِبَةٍ لِتَصْدِيقِهِ، وَامْتِنَاعِهِ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى صِدْقِهِ.

(3/93)


فَصْلٌ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جَمِيعُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا دَلَالَةَ مَعَهُ مُوجِبُ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ، مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، فَهُوَ دَالٌّ: عَلَى أَنَّهُ بَيْنَ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ.
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إلَى قَبُولِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ، وَرَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَاحْتَجَّ فِيهَا بِأَشْيَاءَ أَنَا ذَاكِرُهَا، وَمُبَيِّنٌ وَجْهَ الْقَوْلِ فِيهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاعْتُرِضَ أَيْضًا عَلَى بَعْضِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَأَنَا أَذْكُرُ مَوْضِعَ اعْتِرَاضَاتِهِ، وَأُبَيِّنُ عَنْ صِحَّةِ مَا قَدَّمْنَا فِي ذَلِكَ.
فَمَا اُعْتُرِضَ بِهِ عَلَى اسْتِدْلَالِ مَنْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] .
أَنَّ الطَّائِفَةَ اسْمٌ لِجَمَاعَةٍ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُسَمَّى طَائِفَةً، وَأَنَّ الْفِرْقَةَ الَّتِي أَمَرَ الطَّائِفَةَ بِالنُّفُورِ مِنْهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: فَلَوْ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، عُلِمَ أَنَّ الْفِرْقَةَ الْمُرَادَةَ بِهَذَا الْقَوْلِ: أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الطَّائِفَةَ اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ، فَلَا سَبِيلَ إلَى تَثْبِيتِهِ مِنْ أَدِلَّةٍ، وَلَا شَرْعٍ، بَلْ الدَّلَائِلُ مِنْ الْقُرْآنِ، وَقَوْلِ السَّلَفِ ظَاهِرَةٌ: أَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يَتَنَاوَلُ

(3/94)


اسْمَ الطَّائِفَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] . وَرُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ: أَنَّ أَقَلَّهُ وَاحِدٌ. فَقَدْ تَأَوَّلَ السَّلَفُ اسْمَ الطَّائِفَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَلَوْلَا أَنَّهَا اسْمٌ لَهُ لَمَا تَأَوَّلَهَا عَلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] ثُمَّ قَالَ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] فَدَلَّ: أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ بِالطَّائِفَةِ الْوَاحِدَ. وَمَوْجُودٌ أَيْضًا: فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ: أَنَّ اسْمَ الطَّائِفَةِ وَالْبَعْضِ وَالْخَبَرِ يَجْرِي مَجْرًى وَاحِدًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ: أَنَّهُ يُعْطِيهِ مَا شَاءَ مِنْهَا، مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ بَعْضُهَا، أَوْ جُزْءٌ مِنْهَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، كَانَتْ الطَّائِفَةُ بِمَعْنَى الْبَعْضِ، فَتَنَاوَلَ الْوَاحِدَ مِنْهَا.
وَقَالَ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْوَاحِدَ بِالْأَدَاءِ عَنْهُ: إنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَدَاءِ لَا يَخْتَصُّ بِالْعُدُولِ دُونَ الْفُسَّاقِ.
وَإِذَا كَانَ الْفَاسِقُ مَأْمُورًا بِالْأَدَاءِ وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ، وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ مَأْمُورٌ بِإِقَامَةِ شَهَادَتِهِ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، كَذَلِكَ لَيْسَ فِي أَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْعَدْلِ بِأَدَاءِ مَا سَمِعَ مِنْ الْحُكْمِ - دَلَالَةٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ وَحْدَهُ، وَإِنْ أُمِرَ بِالْأَدَاءِ لِيَنْتَشِرَ وَلِيَسْتَفِيضَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا سَلَفَ.
وَنَقُولُ أَيْضًا: إنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ وَالْإِبْلَاغِ يَقْتَضِي قَبُولَ خَبَرِهِ، وَمَا يُؤَدِّيهِ، كَمَا اقْتَضَى قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] قَبُولَ شَهَادَتِهِمَا، هَذَا ظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ

(3/95)


الْأَمْرُ بِالْأَدَاءِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ التَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ بَعْضِ الْمَأْمُورِينَ بِالْأَدَاءِ، وَهُمْ الْفُسَّاقُ، كَمَا أَنَّ لِلشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِمَا إقَامَةَ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ، إذَا دُعِيَا لِلشَّهَادَةِ، (وَأَنَّهُ وَاجِبُ) التَّثَبُّتِ فِي شَهَادَتِهِمَا، وَلَا يَقْدَحُ وُجُوبُ التَّثَبُّتِ فِي شَهَادَةِ بَعْضِ الْمَأْمُورِينَ بِالْأَدَاءِ، فِي صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ كَمَا يَقُولُ فِي الْعُمُومِ: إنَّهُ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِمَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُهُ، ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى تَخْصِيصِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ مِنْ جُمْلَتِهِ.
وَذَكَرَ: أَنَّهُ لَيْسَ تَوْجِيهُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْعُمَّالَ عَلَى الْبُلْدَانِ وَاسْتِعْمَالُ السُّعَاةِ عَلَى الصَّدَقَاتِ - دَلِيلًا عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ كَانَتْ تَثْبُتُ عِنْدَهُمْ بِالتَّوَاتُرِ.
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِقَوْلِهِمْ، لِأَنَّ قَبُولَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَاجِب عَلَى رَعِيَّتِهِ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ الِاجْتِهَادُ فِي مُخَالَفَةِ رَأْيِهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَبَيْنَ قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذْ قَدْ وَافَقَ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ حَكَمَ بِكَذَا، أَوْ أَمَرَ بِكَذَا - يُوجِبُ الْعِلْمَ بِخَبَرِهِ، فَغَيْرُهُ مِنْ الْمُخْبِرِينَ بِمَنْزِلَتِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوُلَاةَ الَّذِينَ كَانَ يَبْعَثُهُمْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُونُوا يَقْتَصِرُونَ فِي تَعْلِيمِ رَعَايَاهُمْ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِالْوُلَاةِ وَالْحُكَّامِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمْ بِدُعَاءِ النَّاسِ إلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ إنْ أَجَابُوا أَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَجُمَلِ الْفُرُوضِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْكَافَّةُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رَعَايَا الْوُلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهَا قَبُولُ أَخْبَارِ الْوُلَاةِ مِنْ حَيْثُ كَانُوا حُكَّامًا عَلَيْهِمْ يَلْزَمُهُمْ الْتِزَامُ أَحْكَامِهِمْ، وَإِنَّمَا لَزِمَهَا ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ أَخْبَرَتْ بِهِ الْوُلَاةُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وَذُكِرَ فِي شَأْنِ مَسْجِدِ الْقِبْلَتَيْنِ وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ: أَنَّهُ جَائِزٌ قَدْ كَانَ تَقَدَّمَ عِنْدَهُمْ الْخَبَرُ بِذَلِكَ مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى، غَيْرِ خَبَرِ الْمُخْبِرِ الَّذِي حَكَى إخْبَارَهُ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ عَمِلُوا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ.

(3/96)


وَهَذَا عِنْدَنَا لَا يَصِحُّ، وَلَا يَحْتَمِلُ مَا رُوِيَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ مُخْبِرٌ آخَرُ وَقَدْ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ لَنُقِلَ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ إلَّا خَبَرُ مُخْبِرٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ صَارَتْ إلَى حُكْمِ خَبَرِهِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ.
وَلَوْ سَاغَ هَذَا التَّأْوِيلُ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَرْجُمْ مَاعِزًا بِإِقْرَارِهِ، وَإِنَّمَا رَجَمَهُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ شُهُودٍ عَلَيْهِ بِالزِّنَا، وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَرْجُمْهُ لِلزِّنَا وَحْدَهُ، وَلَكِنْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَبِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الرَّجْمَ، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ فَحَسْبُ، لَكِنْ لِأَنَّ زَوْجَهَا خَيَّرَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ إلَيْنَا، وَلُزُومُ هَذَا الِاعْتِبَارِ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ السُّنَنِ كُلِّهَا، لِأَنَّهُ جَائِزٌ فِي حُكْمٍ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَكَمَ بِهِ لِحُدُوثِ حَادِثَةٍ - أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِأَسْبَابٍ أُخْرَى لَمْ تُنْقَلْ إلَيْنَا.
وَعَلَى أَنَّ الْقَائِلَ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ لَا يَصِحُّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ بِفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا قَبِلَ خَبَرَ جَمَاعَةٍ بِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا إلَّا خَبَرُ الِاثْنَيْنِ فِي نَحْوِ تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ.
وَذُكِرَ: أَنَّ رَاوِيَ خَبَرِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَكَانَ صَغِيرًا يَوْمئِذٍ، لِأَنَّهُ بَلَغَ عَامَ الْخَنْدَقِ، فَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَضْبِطُ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا لَا مُتَعَلِّقَ لَهُ فِيهِ، لِأَنَّ خَبَرَ مَسْجِدِ قُبَاءَ قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَشْهَرَ فِي الْأُمَّةِ مِنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى إسْنَادٍ، حَتَّى قَدْ صَارَ يُسَمَّى مَسْجِدَ الْقِبْلَتَيْنِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا فِيهِ بَعْضَ صَلَاتِهِمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبَعْضَهَا إلَى الْكَعْبَةِ، فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ.
وَعَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ صَغِيرًا يَوْمَئِذٍ - فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الصِّغَرِ فِي حَدٍّ لَا يَضْبِطُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ سِنَّهُ فِي وَقْتِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ كَانَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَنَحْوَهَا، لِأَنَّ الْقِبْلَةَ حُوِّلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، وَكَانَ سِنُّ ابْنِ عُمَرَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَ

(3/97)


عَشْرَةَ سَنَةً، لِأَنَّهُ قَالَ: عُرِضْت يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي، وَأَجَازَنِي يَوْمَ أُحُدٍ، وَبِي خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَمَنْ رَوَى: أَنَّ سِنَّهُ كَانَتْ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَيَوْمَ الْخَنْدَقِ خَمْسَ عَشْرَةَ فَقَدْ غَلِطَ، لِأَنَّ بَيْنَ أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ سَنَتَيْنِ، وَعَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَدْ رَوَى قِصَّةَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ: أَنَّهَا غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ لَمَا رَوَاهَا، وَلَا قَطَعَ بِهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إنَّمَا يَرْوِي مَا يَرْوِيهِ مِمَّا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَوْ مِنْهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ، هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْ الْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ، وَيُقَالُ: إنَّ مَا يَرْوِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَمَاعًا بِضْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَالْبَاقِي سَمَاعًا مِنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يُطْعَنْ فِي رِوَايَتِهِ لِمَا رَوَاهُ سَمَاعًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صِغَرِهِ، بَلْ قَدْ قَبِلَهُ النَّاسُ وَجَعَلُوهُ أُصُولًا.
رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صِفَةِ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَأَحْكَامِهَا، فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي بَاتَ فِيهَا عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ خَالَتُهُ - لِيَعْرِفَ صَلَاتَهُ بِاللَّيْلِ، وَكَانَ أَصْلًا يُعْمَلُ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْ قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ مِنْ أَجْلِ صِغَرِهِ.
وَمِمَّنْ كَانَ صَغِيرًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَرَوَى عَنْهُ الرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةَ، فَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَتِهِ، وَبَيْنَ رِوَايَاتِ غَيْرِهِ: زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ، فَلَا اعْتِبَارَ إذًا فِيمَا يَرْوِيهِ الصَّحَابِيُّ بِالسِّنِّ فِي وَقْتِ الْقِصَّةِ الَّتِي يَحْكِيهَا.
وَذُكِرَ: أَنَّ الْأَنْصَارَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَرَاقُوا شَرَابَهُمْ حِينَ أَخْبَرَهُمْ مُخْبِرٌ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، عَلَى وَجْهِ التَّنَزُّهِ وَالِاحْتِيَاطِ، كَمَا كَسَرُوا الْأَوَانِيَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا تَأْوِيلٌ لَا يَجُوزُ حَمْلُ أَمْرِهِمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّرَابَ كَانَ مَالًا لَهُمْ قَبْلَ سَمَاعِ الْخَبَرِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْخَبَرُ قَدْ أَوْجَبَ عِنْدَهُمْ تَحْرِيمَهُ لَمَّا أَسْرَعُوا إلَى إتْلَافِهِ، وَإِنَّمَا كَسَرُوا الْجِرَارَ تَأْكِيدًا لِأَمْرِ التَّحْرِيمِ، وَلِلْمُبَالَغَةِ فِي قَطْعِ الْعَادَةِ فِي شُرْبِهَا، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَقِّ رَوَايَا الْخَمْرِ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى صَبِّهَا، تَأْكِيدًا لِأَمْرِ تَحْرِيمِهَا، وَتَغْلِيظًا

(3/98)


عَلَيْهِمْ فِي قَطْعِ عَادَاتِهِمْ عَنْهَا.
وَذُكِرَ فِي قَبُولِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَبَرَ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ فِي «تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا» : أَنَّهُ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَكَانَ صَغِيرًا فِي عَهْدِ عُمَرَ. وَمَعَ ذَلِكَ إنَّ الضَّحَّاكَ ذَكَرَ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ فِي رَجُلٍ مَعْرُوفٍ، فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ وَاحِدٍ النَّكِيرُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ اسْتَدَلَّ عُمَرُ بِذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا كَوْنُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ صَغِيرًا فِي عَهْدِ عُمَرَ فَإِنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ رِوَايَتِهِ، عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي رِوَايَةِ الْأَحْدَاثِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ يَقُولُ هَذَا إلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ مَحَلَّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِنْ الْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ، وَقَدْ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يُسَمَّى رَاوِيَةَ عُمَرَ، وَكَانَ يُقَالُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ: مَا أَحَدٌ أَعْلَمُ بِقَضَايَا عُمَرَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَعَلَى أَنَّ عَامَّةَ الْفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى اسْتِعْمَالِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْمَصِيرِ إلَى حُكْمِهِ. فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الضَّحَّاكَ حَكَى لِعُمَرَ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ فِي رَجُلٍ مَعْرُوفٍ، فَإِنَّ الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ هَذِهِ الْقِصَّةُ لَمْ يَكُونُوا حَضَرُوا عِنْدَ عُمَرَ وَقْتَ رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ لِذَلِكَ، إنَّمَا كَانُوا فِي قَبَائِلِهِمْ وَدِيَارِهِمْ، وَالضَّحَّاكُ إنَّمَا ذَكَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَتَبَ إلَيْهِ بِذَلِكَ، فَكَانَ غَائِبًا عَنْ حَضْرَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَلَا مَعْنَى إذًا لِاعْتِبَارِ شُهْرَةِ الْقِصَّةِ، وَتَرْكِ النَّكِيرِ مِمَّنْ كَانَتْ فِيهِمْ عَلَى رَاوِي الْخَبَرِ، إذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَهْلَهَا الَّذِينَ كَانَتْ الْقِصَّةُ فِيهِمْ كَانُوا حَضَرُوا عِنْدَهُ وَقْتَ رِوَايَتِهِ.
وَذُكِرَ فِي خَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ: أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْضِ بِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ وُلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَحْرَيْنِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا تَظَنِّي وَحُسْبَانٌ، وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ، وَلَا بِرِوَايَتِهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا ذَكَرَ: أَنَّ عُمَرَ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَخْبَارِ إلَّا بِرِوَايَةٍ، وَذَكَرَ: أَنَّ رُجُوعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ الْحَائِضَ تَنْفِرُ قَبْلَ طَوَافِ الصَّدْرِ، حِينَ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ فَأَخْبَرَتْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ: أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ مِنْ غَيْرِهَا أَيْضًا، وَلِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأُمَّ سَلَمَةَ قَدْ أَخْبَرَاهُ جَمِيعًا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدْ أَفْسَدْنَا عَلَيْهِ هَذَا الِاعْتِبَارَ. وَهُوَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي جَمِيعِ

(3/99)


مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ مِمَّا يَرْوِيهِ عَنْ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا جَمَاعَةً تَوَاتَرَ الْخَبَرُ عِنْدَهُمْ بِهَا، فَلِذَلِكَ حَكَمُوا بِهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ أَخْبَرَهُ مَعَ أُمِّ سَلَمَةَ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَرْوِهِ لَهُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنَّمَا أَفْتَى بِهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَذَكَرَ أَخْبَارًا أُخَرَ اسْتَدَلَّ بِهَا مُثْبِتُو خَبَرِ الْوَاحِدِ بِتَنَاوُلِهَا عَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَّا الْقَوْلُ فِي إفْسَادِهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ وَتَكْرَارِهِ.
ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ، وَنَفْيِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] قَالَ: وَنَزَلَ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُصَدِّقًا. عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ ثِقَةٌ عَدْلٌ، فَجَاءَ وَادَّعَى: أَنَّهُمَا أَرَادُوا قَتْلَهُ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَبُولِ قَوْلِ الْوَلِيدِ.
فَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ فِسْقَهُ وَجَعْلَهُ فَاسِقًا بِإِخْبَارِهِ بِالْكَذِبِ - فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا مِنْهُ الظَّاهِرُ، لِأَنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُ فَسَقَ فِي إخْبَارِهِ، كَمَا فَسَقَ الْوَلِيدُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذُكِرَ، بَلْ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ ثِقَةٌ عِنْدَهُ، فَقَدْ جَعَلَهُ بِمَحَلِّ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَحْدَهُ.
فَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ اسْتَعْمَلَهُ فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّدَقَاتِ، وَمَقَادِيرِهَا، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ. وَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ لَمَا اسْتَعْمَلَهُ. ثُمَّ لَمَّا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِفِسْقِهِ حِينَ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ كَذِبٍ، أُمِرَ بِالتَّثَبُّتِ فِي قَبُولِ خَبَرِهِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى نَفْيِ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ؟
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ لَعَلَّهُ قَدْ فَسَقَ فِي قَوْلِهِ.
قِيلَ لَهُ: فَهَذِهِ الْعِلَّةُ تَمْنَعُ قَبُولَ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ، لِأَنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُمَا قَدْ فَسَقَا، وَتَمْنَعُ فِي

(3/100)


قَبُولِ الشَّهَادَاتِ كُلِّهَا، وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ عُدُولًا عِنْدَنَا، يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ فَسَقُوا، فَهَذَا اعْتِبَارٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ.
وَاسْتَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ: أَنَّ الشَّهَادَاتِ عَلَى الْحُقُوقِ لَا يُقْبَلُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ الِاثْنَيْنِ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِشَهَادَتِهِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ، ثُمَّ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا لِعِلَّةٍ تُوجِبُ قِيَاسَ الْأَخْبَارِ عَلَى الشَّهَادَاتِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَيْسَتْ الشَّهَادَةُ أَصْلًا لِلْأَخْبَارِ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْعَبِيدِ، وَالْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ، وَخَبَرِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ.
وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ أَيْضًا: عَلَى أَنَّ الشَّهَادَاتِ فِي الْأَمْوَالِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، إلَّا مِنْ الْأَحْرَارِ غَيْرِ الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ، وَأَنَّ (شَهَادَةَ) النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ مَقْبُولَةٌ فِي الْوِلَادَةِ، وَنَحْوِهَا، فَثَبَتَ أَنَّ الشَّهَادَاتِ لَيْسَتْ بِأَصْلٍ لِلْأَخْبَارِ.
وَلَوْ كَانَتْ الشَّهَادَاتُ أَصْلًا لِذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ الْخَبَرُ فِي إثْبَاتِ حَدِّ الزِّنَا إلَّا أَرْبَعَةٌ، كَمَا لَا يُقْبَلُ عَلَى الزِّنَا إلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ، وَلَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ خَبَرُ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَثُرْنَ، مَعَ الرِّجَالِ فِي الْحُدُودِ، كَمَا لَا يُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهَا، فَدَلَّ عَلَى مَا وَصَفْنَا: أَنَّ الْأَخْبَارَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِالشَّهَادَاتِ.
وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا أَنْ يَعْتَبِرَ فِي الْأَخْبَارِ، رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ: أَنَّ الشَّهَادَاتِ كَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ فِي الْأَخْبَارِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا وَصَفْنَا.
وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى الْمُعَايَنَةِ. وَالْأَخْبَارُ يُقْبَلُ فِيهَا: فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، وَيُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَاتِ ذِكْرُ لَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ يَصِحُّ نَقْلُهُ عَنْ السَّامِعِ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالنَّقْلِ عَنْهُ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا تَصِحُّ، إلَّا بِتَحْمِيلِ الشَّاهِدِ إيَّاهُ، وَأَمْرِهِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَتِهِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَدَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ، وَقَبِلَ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ، بِأَخْبَارٍ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ الطَّرِيقِ

(3/101)


الَّتِي يَعْتَبِرُهَا قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ. بَلْ لَا يُمْكِنُهُ حَتَّى إثْبَاتُ خَبَرٍ يَرْوِيهِ اثْنَانِ، عَنْ اثْنَيْنِ، حَتَّى يُبْلِغُوهُ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَكَيْفَ يَصِحُّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا فِي اعْتِبَارِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ؟
مِنْهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ قِصَّةَ «ذِي الْيَدَيْنِ حِينَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالَا: نَعَمْ» قَالَ: فَلَمَّا لَمْ يَكْتَفِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَوْلِ ذِي الْيَدَيْنِ وَحْدَهُ - دَلَّ عَلَى أَنَّ خَبَرَهُ لَمْ يُوجِبْ حُكْمًا، وَلَوْ كَانَ يُوجِبُ حُكْمًا لَمَا احْتَاجَ إلَى مَسْأَلَةِ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ.
فَيُقَالُ لَهُ: إنَّ لِأَخْبَارِ الْآحَادِ عِنْدَنَا شَرَائِطَ فِي قَبُولِهِ.
مِنْهَا: أَنَّ الْمُخْبِرَ إذَا حَكَى شَيْئًا ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُهُ جَمَاعَةٌ، ثُمَّ لَمْ تَعْرِفْهُ الْجَمَاعَةُ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَنَا مُوجِبًا لِلتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِهِ، وَقِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَامْتَنَعَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَخْفَى مَا ذَكَرَهُ عَلَى جَمَاعَةِ الْحَاضِرِينَ، وَيَنْفَرِدَ هُوَ بِمَعْرِفَتِهِ دُونَهُمْ، فَلِذَلِكَ سَأَلَ غَيْرَهُ.
أَلَا تَرَى: أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِلْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: إنَّك صَلَّيْت رَكْعَةً، لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ مَنْ خَلْفَهُ مَعَ كَثْرَتِهِمْ، أَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَى خَبَرِهِ، وَكَمَا نَقُولُ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ: إنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِ إذَا لَمْ تَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ، لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَحْضُرَ جَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ لِطَلَبِ الْهِلَالِ، فَيَنْفَرِدَ بِرُؤْيَتِهِ وَاحِدٌ دُونَهُمْ، مَعَ تَسَاوِيهِمْ فِي صِحَّةِ الْإِبْصَارِ، وَاتِّفَاقِ هِمَمِهِمْ فِي الطَّلَبِ.
وَذَكَرَ أَيْضًا: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُشْهِدْ فِي عُهُودِهِ وَالْإِقْطَاعَاتِ لِلنَّاسِ أَقَلَّ مِنْ رَجُلَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي الْأَخْبَارِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَمَّا الْعُهُودُ وَالْإِقْطَاعَاتُ: فَإِنَّ فِيهَا حُقُوقًا لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، كَسَائِرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَاحْتَاجَ إلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ تَوْثِقَةً لَهُمْ، وَحُجَّةً يَصِلُونَ بِهَا إلَى إثْبَاتِهَا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ فِي شَيْءٍ.
أَلَا تَرَى: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ كَتَبَ كُتُبًا فِي الْأَحْكَامِ، وَلَمْ يُشْهِدْ فِيهَا أَحَدًا، نَحْوَ كِتَابِهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي ضُرُوبٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَكِتَابِهِ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الصَّدَقَاتِ، وَكِتَابِهِ إلَى الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ، وَكِتَابِهِ إلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ، وَلَمْ يُشْهِدْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا شُهُودًا، لِأَنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِهَا كَانَ لِلْخَبَرِ، لَا لِلشَّهَادَةِ

(3/102)


وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ يَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ: أَنْ لَا يَقْبَلَ خَبَرَ اثْنَيْنِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اقْتَصَرَ فِي كُتُبِ عُهُودِهِ وَإِقْطَاعَاتِهِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فَحَسْبُ، بَلْ الْمُسْتَفِيضُ: أَنَّهُ كَانَ يُشْهِدْ فِيهَا جَمَاعَةً أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يَدُلَّ إشْهَادُهُ عَلَى هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ اثْنَيْنِ عَلَى بُطْلَانِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ، كَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ خَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَاسْتَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ مِنْ فِعْلِ الْأَئِمَّةِ: بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ، أَخْبَرَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهَا السُّدُسَ. وَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك، فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَحَكَمَ لَهَا بِالسُّدُسِ، وَأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَدَّ خَبَرَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي الِاسْتِئْذَانِ، حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَرَدَّ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي الْحَبْسِ، حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَلَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ فَاطِمَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ فِي إسْقَاطِ نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ وَسُكْنَاهَا، وَقَالَ: " لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا، بِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لَا أَدْرِي أَصَدَقَتْ، أَمْ كَذَبَتْ " وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُوجِبَةٌ فِي سَائِرِ أَخْبَارِ الْآحَادِ.
وَلَمْ يَقْبَلْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خَبَرَ عُثْمَانَ فِي رَدِّ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ إلَى الْمَدِينَةِ، وَطَلَبَا مُخْبِرًا آخَرَ مَعَهُ، وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ ذَكَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَدَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى الْمَدِينَةِ.
وَلَمْ يَقْبَلْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، خَبَرَ أَبِي سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ

(3/103)


فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةِ (وَ) ذَكَرَ أَخْبَارًا مِنْ نَحْوِهَا، لَمْ يَقْبَلْهَا قَوْمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ.
وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا: عَلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا رَدُّوهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَخْبَارَ آحَادٍ، وَأَنَّ الْمُخْبِرَ بِهَا لَوْ كَانَ اثْنَيْنِ لَقَبِلُوهَا.
وَذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَعْنَى: أَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي سُورَتَيْ الْقُنُوتِ، وَلَا قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي إسْقَاطِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، «وَأَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: لَمْ يَقْبَلْ قِرَاءَةَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ

(3/104)


حِينَ سَمِعَهُ يَقْرَأُ خِلَافَ قِرَاءَتِهِ، حَتَّى خَاصَمَهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعُمَرَ: اقْرَأْ، فَقَرَأَ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ أَمَرَ هِشَامًا فَقَرَأَ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ» .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَأَوَّلُ مَا يُقَالُ فِي هَذَا: إنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَنْ قَالَ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ إثْبَاتُ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِنَقْلِ اثْنَيْنِ، حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ أَقْصَاهُ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ إذًا الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي دَفْعِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَاعْتِبَارِ الِاثْنَيْنِ.
فَإِنْ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إثْبَاتُهَا بِنَقْلِ اثْنَيْنِ عَنْ اثْنَيْنِ، فَإِنَّهَا أَخْبَارٌ مَشْهُورَةٌ، فَيَجُوزُ إثْبَاتُهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.
قِيلَ لَهُ: فَإِذَا كَانَتْ أَخْبَارًا وَارِدَةً مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ وَقَدْ قَبِلَتْهَا الْأُمَّةُ وَأَثْبَتَتْهَا، فَهَلَّا اسْتَدْلَلْتَ بِذَلِكَ: عَلَى أَنَّهَا قَدْ قَبِلَتْ أَخْبَارَ الْآحَادِ؟ وَأَنَّهَا لَمْ تَعْتَبِرْ رِوَايَةَ الِاثْنَيْنِ؟ ثُمَّ نَقُولُ مَعَ ذَلِكَ: إنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ قَبُولَ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَإِنَّمَا كَأَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ دَلَالَةً عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَرَى قَبُولَ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا، وَلَا يَرَى رَدَّهَا لِعِلَلٍ تُوجِبُ رَدَّهَا.
فَأَمَّا مَنْ اعْتَبَرَ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ شَرَائِطَ مَتَى خَرَجَتْ عَنْهَا لَمْ تُوجِبْ قَبُولَهَا، فَقَوْلُهُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ السَّلَفِ، وَلَيْسَ فِي رَدِّ السَّلَفِ لِبَعْضِ الْأَخْبَارِ مَا يُوجِبُ خِلَافَ قَوْلِهِ، وَكُلُّ خَبَرٍ مِنْ ذَلِكَ رَدُّوهُ فَهُوَ مِنْ الْقَبِيلِ الَّذِي يَجِبُ رَدُّهُ لِلْعِلَلِ الَّتِي يَجِبُ بِهَا رَدُّ الْآحَادِ، كَمَا تُرَدُّ شَهَادَةُ

(3/105)


الشَّاهِدَيْنِ، وَإِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ، لِلْعِلَلِ الَّتِي يَجِبُ بِهَا رَدُّ الْأَخْبَارِ، كَمَا تُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ، وَإِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ لِلْعِلَلِ الَّتِي تُوجِبُ رَدَّهَا، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ: عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ تَعْرِيَتِهِمَا مِنْ الْعِلَلِ الْمُوجِبَةِ لِرَدِّهَا، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا الْقَائِلَ أَنْ يُثْبِتَ عَنْهُمْ فِي رَدِّهِمْ لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرُوهَا: أَنَّهُمْ رَدُّوهَا لِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ، دُونَ أَنْ يَكُونُوا رَدُّوهَا لِعِلَلٍ أُخَرَ غَيْرِهَا، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي نَقُولُهُ.
ثُمَّ لَوْ كَانَ ظَاهِرُ مَا وَرَدَ عَنْهُمْ مِنْ رَدِّهِمْ لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونُوا رَدُّوهَا لِعِلَلٍ أَوْجَبَتْ رَدَّهَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ سَقَطَ احْتِجَاجُهُ بِهَا، إذْ لَيْسَ هُوَ أَسْعَدَ بِدَعْوَاهُ هَذِهِ مِنَّا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى خَصْمِهِ بِغَيْرِهَا، وَعَلَى أَنَّ الدَّلَائِلَ ظَاهِرَةٌ: عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرُدُّوهَا لِأَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ، لِأَنَّهُمْ قَدْ اسْتَفَاضَ عِنْدَهُمْ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا وَصَفْنَا. وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مَعَ ذَلِكَ وَجْهَ كُلِّ خَبَرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ تَعَرَّتْ مِمَّا رُوِيَ عَنْهُمْ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ، لَمَا دَلَّتْ: عَلَى أَنَّهُمْ رَدُّوا مَا رَدُّوا مِنْهَا لِمَا ذَكَرَهُ.
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْمُغِيرَةِ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ: ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك، حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّ عِيسَى بْنَ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَطْلُبْ مِنْ الْمُغِيرَةِ هَذَا إلَّا احْتِيَاطًا، وَإِلَّا قَدْ ضَعُفَ الْخَبَرُ عِنْدَهُ.
إمَّا: لِعِلَّةٍ لَمْ يَعْرِفْهَا، وَإِمَّا: أَنْ يَكُونَ الْمُغِيرَةُ أَخْبَرَ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِحَضْرَةِ قَوْمٍ سَمِعُوهُ مَعَهُ، أَوْ أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَ: بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتٍ قَرِيبٍ بِالْمَدِينَةِ، بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَلَمْ تَكُنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ. وَلَا يُمْكِنُ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَفَرَّقَ مَنْ حَضَرَهُ وَعَلِمَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنْ تَأْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَك عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْعُدْ، أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَدَّ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ لِعِلَّةٍ أَوْجَبَتْ رَدَّهُ، لَوْ قَدْ زَالَتْ لَقَدْ كَانَ خَبَرُهُ عِنْدَهُ مَقْبُولًا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَضَى بِقَضِيَّةٍ بَيْنَ قَوْمٍ.
فَقَالَ بِلَالٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَشْهَدُ أَنَّهُمْ اخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَضَى فِي ذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَرَدَّهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَنَقَضَ قَضَاءَهُ، وَقَضَى بَيْنَهُمْ بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَقَدْ قَضَى أَبُو بَكْرٍ بِخَبَرِ بِلَالٍ وَحْدَهُ،

(3/106)


وَنَقَضَ بِهِ قَضَاءً كَانَ قَضَى بِهِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي خَبَرِ الْمُغِيرَةِ عِلَّةٌ لَيْسَ فِي خَبَرِ بِلَالٍ مِثْلُهَا لَأَجْرَاهُمَا مَجْرًى وَاحِدًا.
وَأَمَّا رَدُّ عُمَرَ لِخَبَرِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي الِاسْتِئْذَانِ - فَإِنَّ وَجْهَهُ: أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا بِالنَّاسِ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ، لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ فَاسْتَنْكَرَ وُرُودَهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، وَهَذَا عِنْدَنَا إحْدَى الْعِلَلِ الَّتِي يُرَدُّ بِهَا أَخْبَارُ الْآحَادِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي رِوَايَةِ الْهِلَالِ، وَخَبَرُ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ فِتْنَةٍ وَقَعَتْ فِي الْجَامِعِ، أَوْ فِي عَرَفَاتٍ، قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ، فَلَا يُخْبِرُ أَحَدٌ بِمِثْلِ خَبَرِهِ فَنَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِهِ.
وَأَمَّا رَدُّ عُمَرَ لِخَبَرِ الْمُغِيرَةِ فِي الْجَدِّ حَتَّى شَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ (بْنُ) مَسْلَمَةَ، فَإِنَّهُ إنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ - كَانَ وَجْهُهُ بَعْضَ مَا ذُكِرَ فِي تَثَبُّتِ أَبِي بَكْرٍ فِي خَبَرِ الْمُغِيرَةِ، فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ.
عَلَى (أَنَّ) مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَالْمُغِيرَةِ: أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَهُ فِي خَبَرِ حُكْمِ الْجَنِينِ مُضْطَرِبٌ، وَإِنَّمَا يَرْوِيهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ لَمْ يَشْهَدْ هَذِهِ الْقِصَّةَ، وَلَا كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى اضْطِرَابِهِ أَنَّهُ مَشْهُورٌ عَنْ «عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ أُذَكِّرْ اللَّهَ امْرَأً سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَنِينِ شَيْئًا، فَقَامَ إلَيْهِ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ: كُنْت بَيْنَ جَارَتَيْنِ لِي فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا بَطْنَ الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغُرَّةٍ» . فَقَالَ عُمَرُ: " كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِي مِثْلِ هَذَا بِرَأْيِنَا ". وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا - لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا. فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ خَبَرَ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ وَقَدْ قَبِلَهُ عُمَرُ وَعَمِلَ بِهِ - فَالْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ: أَنَّهُ سَأَلَ الْمُغِيرَةَ، مَنْ يَشْهَدُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُ الْمُغِيرَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ مُقَدَّمًا لِخَبَرِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، فَكَيْفَ سَأَلَ النَّاسَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ قَضِيَّةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْخَبَرِ، مَعَ تَقَدُّمِ سَمَاعِهِ لِحُكْمِهِ، وَثُبُوتِهِ عِنْدَهُ بِخَبَرِ اثْنَيْنِ؟ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْخَبَرِ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ سُؤَالٌ عَنْ الْمُغِيرَةِ مَنْ يَشْهَدُ مَعَهُ

(3/107)


وَأَمَّا خَبَرُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَإِنَّمَا رَدَّهُ عُمَرُ، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ خِلَافَ الْكِتَابِ، فِي إبْطَالِهِ السُّكْنَى، وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْنَا فِي الْكِتَابِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] .
فَلَمَّا كَانَ عِنْدَهُ: أَنَّهَا قَدْ أَوْهَمَتْ فِي خَبَرِهَا فِي إبْطَالِ السُّكْنَى، وَكَانَتْ النَّفَقَةُ بِمَنْزِلَةِ السُّكْنَى - لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَهَا، وَسَوَّغَ الِاجْتِهَادَ فِي رَدِّهِ.
وَعَلَى أَنَّهُ: قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ " أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ: لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ» رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عُمَرَ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَإِنَّمَا رَدَّ خَبَرَهَا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، لَا لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ عُمَرَ جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي رَدِّ خَبَرِهَا: أَنَّهُ لَا يَدْرِي صَدَقَتْهُ أَمْ كَذَبَتْ. فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ فِي الِاعْتِلَالِ لِرَدِّهِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا، لِخَبَرِ مَنْ يَجُوزُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ فِي خَبَرِهِ، وَمَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ، لَا يَسَعُ الشَّكُّ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ مَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ لَا يُعْتَرَضُ بِهَا عَلَى الْكِتَابِ، وَلَا عَلَى السُّنَنِ الثَّابِتَةِ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ، وَعَلَى أَنَّ جَوَازَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ عَلَى الْمُخْبِرِ بِانْفِرَادِهِ لَوْ كَانَ عِلَّةً لِرَدِّهِ - لَوَجَبَ رَدُّ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ أَيْضًا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَلَوَجَبَ رَدُّ الشَّهَادَاتِ كُلِّهَا أَيْضًا لِذَلِكَ.
وَأَمَّا رَدُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ خَبَرَ عُثْمَانَ فِي رَدِّ الْحَكَمِ بْنِ الْعَاصِ إلَى الْمَدِينَةِ - فَإِنَّ عُثْمَانَ

(3/108)


ذَكَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَطْمَعَهُ فِي رَدِّهِ، وَلَمْ يَحْكِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِرَدِّهِ، وَلَوْ كَانَا هُمَا سَمِعَا النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُطْمِعُهُ فِي رَدِّهِ ثُمَّ لَمْ يَرُدَّهُ - لَمَا جَازَ لَهُمَا أَنْ يَرُدَّاهُ، إذَا لَمْ يَأْمُرْهُمَا بِذَلِكَ، فَلَيْسَ فِي هَذَا تَعَلُّقٌ بِمَا ذَكَرَهُ.
وَأَمَّا رَدُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِخَبَرِ أَبِي سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ، فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةِ فَإِنَّ قِصَّةَ بِرْوَعَ قَدْ شَهِدَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْجَعَ، مِنْهُمْ: أَبُو سِنَانٍ، وَأَبُو الْجَرَّاحِ، وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ الْمُخْبِرُ بِهَا وَاحِدًا، فَلَا تَعَلُّقَ فِيهِ، لِمَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَعَلَى أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَرُدَّ خَبَرَهُ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: لَا نَقْبَلُ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَ: أَنَّهُ إنَّمَا رَدَّهُ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً - لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُمْ لِكَثْرَةِ وَهْمِهِمْ، وَقِلَّةِ ضَبْطِهِمْ، لِأَنَّهُمْ أَعْرَابٌ، فَكَانَ ذَلِكَ إحْدَى الْعِلَلِ الَّتِي رَدَّ خَبَرَهُمْ لَهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ أُبَيِّ سُورَتَيْ الْقُنُوتِ، وَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْبَلْ قِرَاءَةَ الرَّجُلِ الَّذِي قَرَأَ خِلَافَ قِرَاءَتِهِ.
فَإِنَّ مِنْ أَصْلنَا: أَنَّا لَا نُثْبِتُ الْقِرَاءَةَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَلَا مَعْنَى لِلِاعْتِرَاضِ بِهِ فِيمَا وَصَفْنَا.

(3/109)