الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي بَابُ الْقَوْلِ فِي أَفْعَالِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْلُو فِعْلُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ
يَكُونَ قُرْبَةٌ أَوْ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
قُرْبَةٌ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ , كَمَا:
(1/349)
أنا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّرَّاجُ , أنا بِشْرُ
بْنُ أَحْمَدَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ , أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ , نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى , نا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ , قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَأْكُلُ الْقِثَّاءَ
بِالرُّطَبِ» وَلَيْسَ تَخْلُو سُنَّةٌ رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَائِدَةٍ أَوْ
فَوَائِدَ , فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّ
قَوْمًا مِمَّنْ سَلَكَ طَرِيقَ الصَّلَاحِ وَالتَّزَهُّدِ
قَالُوا: لَا يَحِلُّ لِلْآكِلِ أَنْ يَأْكُلَ تَلَذُّذًا ,
وَلَا عَلَى سَبِيلِ التَّشَهِّي وَالْإِعْجَابِ , وَلَا
يَأْكُلُ إِلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ إِلَّا لِإِقَامَةِ
الرَّمَقِ , فَلَمَّا جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ سَقَطَ قَوْلُ
هَذِهِ الطَّائِفَةِ , وَصَلُحَ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَ
تَشَهِّيًا وَتَفَكُّهًا وَتَلَذُّذًا [ص:350] وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَيْضًا: إِنَّهُ لَيْسَ
لِأَحَدٍ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مِنَ الطَّعَامِ ,
وَلَا بَيْنَ أَدَمَيْنِ عَلَى خِوَانٍ , فَكَانَ هَذَا
الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَى صَاحِبِ هَذَا الْقَوْلِ , وَيُبِيحُ
أَنْ يَجْمَعَ الْإِنْسَانُ بَيْنَ لَوْنَيْنِ مِنَ الطَّعَامِ
, وَبَيْنَ أَدَمَيْنِ وَأَكْثَرَ وَكُلُّ مَا رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَفْعَالِ
الَّتِي لَيْسَتْ قُرُبَاتٍ , نَحْوُ الشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ
وَالْقُعُودِ وَالْقِيَامِ , فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى
الْإِبَاحَةِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِعْلَ قُرْبَةٍ: فَلَا
يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِغَيْرِهِ , أَوِ
ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَإِنْ كَانَ بَيَانًا
لِغَيْرِهِ , فَحُكْمُهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُبَيَّنِ , فَإِنْ
كَانَ الْمُبَيَّنُ وَاجِبًا , كَانَ الْبَيَانُ وَاجِبًا ,
وَإِنْ كَانَ الْمُبَيَّنُ نَدْبًا , كَانَ الْبَيَانُ نَدْبًا
وَإِنْ كَانَ فِعْلًا مُبْتَدًا , مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَفِيهِ
ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى الْوُجُوبِ ,
إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِهِ وَالثَّانِي:
أَنَّهُ عَلَى النَّدْبِ , إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ
أَنَّهُ عَلَى الْوُجُوبِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى
الْوَقْفِ , فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ وَلَا عَلَى
النَّدْبِ إِلَّا بِدَلِيلٍ , وَهُوَ الْأَصَحُّ , لِأَنَّ
الْفِعْلَ لَا يُعْلَمُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فَعَلَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِهِ دُونَ أُمَّتِهِ , وَإِذَا لَمْ
يُعْلَمْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَوْقَعَهُ وَجَبَ التَّوَقُّفُ
فِيهِ , حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ وَإِذَا فَعَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا , وَعُرِفَ
أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ [ص:351] أَوِ
النَّدْبِ , كَانَ ذَلِكَ شَرْعًا لَنَا , إِلَّا أَنْ يَدُلَّ
الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِذَلِكَ , وَالْحُجَّةُ فِيهِ
قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وَلِأَنَّ
الصَّحَابَةَ كَانُوا يَرْجِعُونَ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ
إِلَى أَفْعَالِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ,
فَيَقْتَدُونَ بِهِ فِيهَا , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا شَرْعٌ
فِي حَقِّ الْجَمِيعِ
(1/349)
أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْمُعَدِّلُ , نا أَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ النِّجَادُ
, إِمْلَاءً , نا الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمٍ , نا أَبُو عُمَرَ
الْحَوْضِيُّ , نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ , عَنْ أَيُّوبَ ,
عَنْ نَافِعٍ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ , قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ
قَبَّلَ الْحَجَرَ , وَقَالَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ
أَنَّكَ حُجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ , وَلَوْلَا أَنِّي
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ»
(1/351)
أنا عَلِيُّ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ , نا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ
الْمَادَرَائِيُّ , نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ , نا
بِشْرُ بْنُ عُبَيْسٍ , نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
أَبِي فُدَيْكٍ , عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ , عَنْ زَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ , عَنْ أَبِيهِ , قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ , يَقُولُ [ص:352]: " فِيمَ الرَّمَلَانُ
وَالْكَشْفُ عَنِ الْمَنَاكِبِ , وَقَدْ أَطَّأَ اللَّهُ
الْإِسْلَامَ , وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ , وَمَعَ ذَلِكَ
لَا نَتْرُكُ شَيْئًا كُنَّا نَصْنَعُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَقَعُ بِالْفِعْلِ
جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ مَعَ بَيَانِ الْمُجْمَلِ ,
وَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَالنَّسْخِ وَإِنْ تَعَارَضَ قَوْلٌ
وَفِعْلٌ فِي الْبَيَانِ: فَفِيهِ أَوْجُهٌ ثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَوْلَ أَوْلَى وَالثَّانِي: أَنَّ
الْفِعْلَ أَوْلَى وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ , لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيَانِ هُوَ
الْقَوْلُ , أَلَا تُرَاهُ يَتَعَدَّى بِصِيغَتِهِ؟
وَالْفِعْلُ لَا يَتَعَدَّى إِلَّا بِدَلِيلٍ , فَكَانَ
الْقَوْلُ أَوْلَى
(1/351)
|