الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي بَابُ الْقَوْلِ فِي الصَّحَابِيِّ يَرْوِي
حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ يَعْمَلُ بِخِلَافِهِ إِذَا رَوَى
الصَّحَابِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَدِيثًا , ثُمَّ رَوَى عَنْ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ
خِلَافَ لَمَّا رَوَى , فَإِنَّهُ يَنْبَغِي الْأَخْذُ
بِرِوَايَتِهِ , وَتَرْكُ مَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ فِعْلِهِ ,
أَوْ فُتْيَاهُ , لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا قَبُولُ
نَقْلِهِ وَنَذَارَتِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ , لَا قَبُولَ رَأْيِهِ كَمَا:
(1/370)
أنا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ
الدَّلَّالُ , نا أَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ النِّجَادُ , نا
هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ , بِالرَّقَّةِ , نا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ جَعْفَرٍ , نا الْمُعْتَمِرُ , عَنْ أَبِي شُعَيْبٍ
الْبُنَانِيِّ , عَنِ ابْنِ سِيرِينَ , قَالَ: حَدَّثَنِي
أَفْلَحُ , أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ , كَانَ
يُفْتِيهِمْ بِالْمَسْحِ وَيَخْلَعُ , فَقِيلَ لَهُ , فَقَالَ:
«رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَمْسَحُ وَلَكِنْ حُبِّبَ إِلَيَّ الْغَسْلُ» وَقَالَ
النِّجَادُ: نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ
قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ: قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ فَذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ ,
وَلِأَنَّ الصَّاحِبَ قَدْ يَنْسَى مَا رُوِيَ فِي وَقْتِ
فُتْيَاهُ كَمَا:
(1/370)
أنا أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادٍ الْوَاعِظُ , نا
الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْمَحَامِلِيُّ إِمْلَاءً فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ , نا عُبَيْدِ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ
الزُّهْرِيُّ , نا عَمِّي , نا أَبِي [ص:371] عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ , عَنِ
الْمُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ , عَنِ الشَّعْبِيِّ , عَنْ
مَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ قَالَ: رَكِبَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ مِنْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ مَا
إِكْثَارُكُمْ فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ , فَقَدْ كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ , وَإِنَّمَا الصَّدَقَاتُ فِيمَا بَيْنَ
أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَ ذَلِكَ , وَلَوْ كَانَ
الْإِكْثَارُ فِي ذَلِكَ تَقْوًى أَوْ مَكْرُمَةً لَمْ
تَسْبِقُوهُمْ إِلَيْهَا , فَلَا أَعْرِفَنَّ مَا زَادَ رَجُلٌ
فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ» قَالَ:
ثُمَّ نَزَلَ فَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ ,
فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَهَيْتَ النَّاسَ
أَنْ يَزِيدُوا النِّسَاءَ فِي صَدُقَاتِهِنَّ عَلَى
أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالَتْ:
أَوَ مَا سَمِعْتَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
الْقُرْآنِ؟ قَالَ: «وَأَنَّى ذَلِكَ؟» قَالَ: فَقَالَتْ: أَوَ
مَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَآتَيْتُمْ
إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا
أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20]
؟ قَالَ: فَقَالَ: «اللَّهُمَّ غَفْرًا , كُلُّ إِنْسَانٍ
أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ» , ثُمَّ رَجَعَ فَرَكِبَ الْمِنْبَرَ ,
ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي كُنْتُ قَدْ
نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَزِيدُوا النِّسَاءَ فِي صَدُقَاتِهِنَّ
عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ , فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُعْطِيَ
مِنْ مَالِهِ مَا أَحَبَّ وَطَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ
فَلْيَفْعَلْ»
(1/370)
وَكَمَا أنا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ
الْحِيرِيُّ , وَأَبُو سَعِيدٍ الصَّيْرَفِيُّ قَالَا: نا
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ , نا مُحَمَّدُ بْنُ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ , نا يُونُسُ: هُوَ ابْنُ
مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبُ , نا حَيَّانُ يَعْنِي ابْنَ عُبَيْدِ
اللَّهِ الْعَدَوِيَّ , قَالَ: سُئِلَ لَاحْقُ بْنُ حُمَيْدٍ
أَبُو مِجْلَزٍ , وَأَنَا شَاهِدٌ , عَنِ الصَّرْفِ , فَقَالَ:
كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا زَمَانًا مِنْ
عُمْرِهِ , حَتَّى لَقِيَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ,
فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ
حَتَّى مَتَى تَوَكِّلُ النَّاسَ الرِّبَا؟ أَمَا بَلَغَكَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَتِهِ:
«إِنِّي أَشْتَهِي تَمْرَ عَجْوَةٍ» وَإِنَّهَا بَعَثَتْ
بِصَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ عَتِيقٍ إِلَى مَنْزِلِ رَجُلٍ مِنَ
الْأَنْصَارِ , فَأُوتِيَتْ بَدَلَهُمَا تَمْرَ عَجْوَةٍ ,
فَقَدَّمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَعْجَبَهُ , فَتَنَاوَلَ تَمْرَةً ثُمَّ أَمْسَكَ
فَقَالَ: «مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا؟» قَالَتْ: بَعَثْتُ
بِصَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ عَتِيقٍ إِلَى مَنْزِلِ فُلَانٍ ,
فَأَتَيْنَا بَدَلَهُمَا مِنْ هَذَا الصَّاعِ الْوَاحِدِ ,
فَأَلْقَى التَّمْرَةَ مِنْ يَدِهِ , وَقَالَ: «رُدُّوهُ
رُدُّوهُ , لَا حَاجَةَ فِيهِ , التَّمْرُ بِالتَّمْرِ
وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ , وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ ,
وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ , وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ , يَدًا
بِيَدٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا
نُقْصَانٌ , فَمَنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَرْبَا ,
فَكُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ» فَقَالَ: ذَكَّرْتَنِي يَا
أَبَا سَعِيدٍ أَمْرًا نَسِيتُهُ , اسْتَغْفِرُ اللَّهَ
[ص:373] وَأَتُوبُ إِلَيْهِ , وَكَانَ يَنْهَى بَعْدَ ذَلِكَ -
يَعْنِي عَنْهُ - أَشَدَّ النَّهْيِ وَلِأَنَّ الصَّحَابِيَّ
قَدْ ذَكَرَ مَا رُوِيَ إِلَّا أَنَّهُ يَتَأَوَّلُ فِيهِ
تَأْوِيلًا يَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ , كَمَا تَأَوَّلَتْ
أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ فِي إِتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي
السَّفَرِ , وَهَى الَّتِي رَوَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ
رَكْعَتَيْنِ , فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ , وَأَقَرَّتْ
صَلَاةَ السَّفَرِ , وَلِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُظَنَّ
بِالصَّاحِبِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نَسْخٌ لَمَّا رَوَى أَوْ
تَخْصِيصٌ فَيَسْكُتُ عَنْهُ , وَيُبَلِّغُ إِلَيْنَا
الْمَنْسُوخَ وَالْمَخْصُوصَ دُونَ الْبَيَانِ , لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدَ مَا
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ
اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] وَقَدْ
نَزَّهَ اللَّهُ صَحَابَةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا
(1/372)
|