الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي

بَابُ الْقَوْلِ فِي أَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ وَأَنَّهُ لَا يَقِفُ عَلَى الصَّحَابَةِ خَاصَّةً إِذَا أَجْمَعَ أَهْلُ عَصْرٍ عَلَى شَيْءٍ , كَانَ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً , وَلَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: الْإِجْمَاعُ: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ , وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] , وَبِقَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] قَالَ: وَهَذَا خِطَابُ مُوَاجِهَةٍ لِلصَّحَابَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ , فَلَا مَدْخَلَ فِيهِ لِمَنْ سِوَاهُمْ قَالَ: وَلِأَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ الْخَطَأَ عَلَى الْعَدَدِ الْكَثِيرِ وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الْعِصْمَةُ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ , وَقَدْ ثَبَتَ الشَّرْعُ بِعِصْمَةِ الصَّحَابَةِ فِي إِجْمَاعِهِمْ , وَلَمْ يَثْبُتْ بِعِصْمَةِ غَيْرِهِمْ , فَمَنِ ادَّعَى عِصْمَةَ غَيْرِهِمْ فَعَلَيْهِ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَتَّبِعُ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ , فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ , وَقَوْلُهُ: إِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَقَوْلُهُ: مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ مَاتَ مَيْتَةً جَاهِلِيَّةً وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا , وَهِيَ عَامَّةٌ فِي الصَّحَابَةِ وَفِي غَيْرِهِمْ

(1/427)


فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَتَيْنِ فَهُوَ: أَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] , {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 190] , {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] , وَكُلُّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ , فَكَذَلِكَ هَاهُنَا , يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ صِغَارَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بَلَغُوا وَصَارُوا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَتَيْنِ دَاخِلُونَ فِيهِمَا , فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ وَأَمَّا قَوْلِهِ: إِنَّ الشَّرْعَ خَصَّ الصَّحَابَةَ بِالْعِصْمَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ كُلَّ شَرْعٍ أَثْبَتْنَا بِهِ حُجَّةَ الْإِجْمَاعِ , فَهُوَ عَامٌّ فِي الصَّحَابَةِ , وَغَيْرِهِمْ , فَلَمْ يَصِحُّ مَا قَالَهُ

(1/428)