الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي بَابُ الْكَلَامِ فِي التَّقْلِيدِ وَمَا
يَسُوغُ مِنْهُ وَمَا لَا يَسُوغُ قَدْ ذَكَرْنَا الْأَدِلَّةَ
الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا الْمُجْتَهِدُ فِي مَعْرِفَةِ
الْأَحْكَامِ , وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي بَيَانِ مَا يَرْجِعُ
إِلَيْهِ الْعَامِّيُّ فِي الْعَمَلِ وَهُوَ التَّقْلِيدُ
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ التَّقْلِيدَ هُوَ: قَبُولُ الْقَوْلِ مِنْ
غَيْرِ دَلِيلٍ وَالْأَحْكَامُ عَلَى ضَرْبَيْنِ عَقْلِيٍّ
وَشَرْعِيٍّ، فَأَمَّا الْعَقْلِيُّ: فَلَا يَجُوزُ فِيهِ
التَّقْلِيدُ , كَمَعْرِفَةِ الصَّانِعِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ
وَمَعْرِفَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَصِدْقِهِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ
الْعَقْلِيَّةِ وَحُكِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ
الْعَنْبَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي
أُصُولِ الدِّينِ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا
تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا
تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا
يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا
قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ
جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}
[الزخرف
(2/128)
: 24] فَمَنَعَهُمُ الِاقْتِدَاءَ
بِآبَائِهِمْ مِنْ قَبُولِ الْأَهْدَى فَقَالُوا: {إِنَّا
بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34] وَقَالَ
تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ
لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ
أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ
يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ
يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ
يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 69] فَتَرَكُوا جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ
لِانْقِطَاعِهِمْ عَنْهُ , وَكَشَفَتِ الْمَسْأَلَةُ عَنْ
عَوَارِ مَذْهَبِهِمْ , فَذَكَرُوا مَا لَمْ يَسْأَلْهُمْ
عَنْهُ مِنْ فِعْلِ آبَائِهِمْ وَتَقْلِيدِهِمْ إِيَّاهُمْ ,
وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا
سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيَلَا}
[الأحزاب: 67] , وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]
(2/129)
أنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
الْوَاعِظِ , أنا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيُّ , نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ , نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ ,
نا عَبْدُ السَّلَامِ , نا غُطَيْفُ بْنُ أَعْيَنَ
الْمُحَارِبِيُّ , عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ , عَنْ عَدِيِّ
بْنِ حَاتِمٍ , قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ ,
قَالَ: فَقَالَ لِي: «يَا ابْنَ حَاتِمٍ أَلْقِ هَذَا
الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ» قَالَ: فَأَلْقَيْتُهُ , قَالَ:
ثُمَّ افْتَتَحَ بِسُورَةِ بَرَاءَةَ , فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ
إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا كُنَّا نعَبْدُهُمْ ,
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَلَيْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَكُمُ الْحَرَامَ
فَتَسْتَحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْكُمُ الْحَلَالَ
فَتُحَرِّمُونَهُ؟» , قَالَ: قُلْتُ: بَلَى , قَالَ [ص:130]:
«فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ»
(2/129)
أنا الْقَاضِي أَبُو الْعَلَاءِ
الْوَاسِطِيُّ , أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ
بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ , نا بِشْرُ بْنُ مُوسَى , نا
مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو , عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ , عَنِ
الْأَعْمَشِ , عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ , عَنْ أَبِي
الْبَخْتَرِيِّ , قَالَ: سُئِلَ حُذَيْفَةُ عَنْ هَذِهِ
الْآيَةِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] أَكَانُوا
يَعْبُدُونَهُمْ؟ قَالَ: «كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا
حَرَّمَ اللَّهُ , فَيُحِلُّونَهُ , وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ
مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَيُحَرِّمُونَهُ»
(2/130)
أنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ
الدِّمَشْقِيُّ , أنا جَدِّي: أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْوَلِيدِ السُّلَمِيُّ , أنا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ [ص:131] بِشْرٍ الْهَرَوِيُّ ,
أنا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الطِّهْرَانِيُّ , أنا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ , أنا الثَّوْرِيُّ , عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي
ثَابِتٍ , عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ , قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ
حُذَيْفَةَ , فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ
قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]
أَكَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ , قَالَ: «لَا , وَلَكِنَّهُمُ
كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ ,
وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ»
(2/130)
أنا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ
مَكِّيِّ بْنِ عُثْمَانَ الْأَزْدِيُّ الْمِصْرِيُّ بِصُورَ ,
أنا أَبُو مُسْلِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ
الْكَاتِبُ , أنا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
أَخُو زُبَيْرٍ , نا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ , نا ابْنُ
فُضَيْلٍ , نا عَطَاءٌ , عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ
دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] وَقَالَ: «أَطَاعُوهُمْ فِيمَا
أَمَرُوهُمْ بِهِ مِنْ تَحْلِيلِ حَرَامٍ وَتَحْرِيمِ حَلَالٍ
, عَبَدُوهُمْ بِذَلِكَ»
(2/131)
أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ
جَعْفَرٍ الْمُعَدِّلُ , نا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ الْقَاضِي ,
نا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ ,
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ , نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
دَاوُدَ , قَالَ: ذَكَرَ الْأَعْمَشُ , عَنْ أَبِي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ , قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ [ص:132]: «لَا
يُقَلِّدَنَّ رَجُلٌ دِينَهُ رَجُلًا , إِنْ آمَنَ آمَنَ ,
وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ» قُلْتُ: وَلِأَنَّ طَرِيقَ الْأُصُولِ
الَّتِي ذَكَرْنَاهَا الْعَقْلُ , وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ
يَشْتَرِكُونَ فِي الْعَقْلِ , فَلَا مَعْنَى لِلتَّقْلِيدِ
فِيهِ وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ , فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْلَمُ ضَرُورَةً مِنْ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ,
وَالزَّكَوَاتِ , وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ , وَالْحَجِّ ,
وَتَحْرِيمِ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَمَا أَشْبَهَ
ذَلِكَ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ , لِأَنَّ
النَّاسَ كُلَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي إِدْرَاكِهِ ,
وَالْعِلْمِ بِهِ , فَلَا مَعْنَى لِلتَّقْلِيدِ فِيهِ
وَضَرْبٌ آخَرُ: لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالنَّظَرِ
وَالِاسْتِدْلَالِ: كَفُرُوعِ الْعِبَادَاتِ ,
وَالْمُعَامَلَاتِ , وَالْفُرُوجِ , وَالْمُنَاكَحَاتِ ,
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ , فَهَذَا يُسَوَّغُ فِيهِ
التَّقْلِيدُ , بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
[النحل: 43] وَلِأَنَّا لَوْ مَنَعْنَا التَّقْلِيدَ فِي
هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي هِيَ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ
لَاحْتَاجَ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ ذَلِكَ , وَفِي
إِيجَابِ ذَلِكَ قَطْعٌ عَنِ الْمَعَايِشِ , وَهَلَاكُ
الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ , فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ
(2/131)
|