اللمع في أصول الفقه الكلام في القياس
باب بيان حد القياس
واعلم أن القياس حمل فرع على أصل في بعض أحكامه بمعنى يجمع
بينهما وقال بعض أصحابنا: القياس هو الأمارة على الحكم وقال
بعض الناس: هو فعل القائس وقال بعضهم القياس هو اجتهاد والصحيح
هو الأول لأنه يطرد وينعكس ألا ترى أنه يوجد بوجوده القياس
وبعدمه يعدم القياس فدل على صحته فأما الأمارة فلا تطرد ألا
ترى أن زوال الشمس أمارة على دخول الوقت وليس بقياس وفعل
القائس أيضا لا معنى له لأنه لو كان ذلك صحيحا لوجب أن يكون كل
فعل يفعله القائس من المشي والقعود قياسا وهذا لا يقوله أحد
فبطل تحديده بذلك وأما الاجتهاد فهو أعم من القياس لأن
الاجتهاد بذل المجهود في طلب الحكم وذلك يدخل فيه حمل المطلق
على المقيد وترتيب العام على الخاص وجميع الوجوه التي يطلب
منها الحكم وشيء من ذلك ليس بقياس فلا معنى لتحديد القياس به.
(1/96)
باب إثبات القياس
وما جعل حجة فيه
وجملته أن القياس حجة في إثبات الأحكام العقلية وطريق من طرقها
وذلك مثل حدوث العالم وإثبات الصانع وغير ذلك ومن الناس من
أنكر ذلك والدليل على فساد قوله إن إثبات هذه الأحكام لا يخلو
إما أن يكون بالضرورة أو بالاستدلال، والقياس لا يجوز أن يكون
بالضرورة، لأنه لو كان كذلك لم يختلف العقلاء فيها، فثبت أن
إثباتها بالقياس والاستدلال بالشاهد على الغائب.
(1/96)
فصل
وكذلك هو حجة في الشرعيات وطريق لمعرفة الأحكام ودليل من
أدلتها من جهة الشرع. وقال أبو بكر الدقاق: هو طريق من طرقها
يجب العمل به من جهة العقل والشرع وذهب النظام والشيعة وبعض
المعتزلة البغداديين إلى أنه ليس بطريق للأحكام الشرعية، ولا
يجوز ورود التعبد به من جهة العقل وقال داود وأهل الظاهر: يجوز
أن يرد التعبد به من جهة العقل إلا أن الشرع ورد بحظره والمنع
منه والدليل على أنه لا يجب العمل به من جهة العقل أن تعليق
تحريم التفاضل على الكيل أو الطعم في العقل ليس بأولى تعليق
التحليل عليهما ولهذا يجوز أن يرد الشرع بكل واحد من الحكمين
بدلا عن الآخر، وإذا استوى الأمران في التجويز بطل أن يكون
العقل موجبا لذلك. وأما الدليل على جواز ورود التعبد به من جهة
العقل هو أنه إذا جاز أن يحكم في الشيء بحكم لعلة منصوص عليها
جاز أن يحكم فيه بعلة غير منصوص عليها وينصب عليها دليلا يتوصل
به إليها ألا ترى أنه لما جاز أن يؤمر من عاين القبلة بالتوجه
إليها جاز أيضا أن يؤمر من غاب عنها أن يتوصل بالدليل أليها
وأما الدليل على ورود الشرع به ووجوب العمل فإجماع الصحابة.
وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان إذا ورد عليه حكم نظر
في كتاب الله عز وجل ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فإن لم يجد جمع رؤساء الناس فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على
شيء قضى به وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رحمه
الله في الكتاب الذي اتفق الناس على صحته: الفهم الفهم فيما
أدى إليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قس الأمور عند ذلك. وقال
لعثمان رضي الله عنه: إني رأيت في الجد رأيا فاتبعوني فقال له
عثمان إن نتبع رأيك فرأيك رشيد وإن نتبع رأي من قبلك فنعم ذا
الرأي كان.
وقال علي كرم الله وجهه: كان رأيي ورأي أمير المؤمنين عمر رضي
الله عنه أن لا تباع أمهات الأولاد ورأيي الآن أن يبعن فقال له
عبيدة السلماني: رأي
(1/97)
ذوي عدل أحب إلينا من رأيك وحدك، وفي بعض
الروايات من رأي عدل واحد، فدل على جواز العمل بالقياس.
فصل
ويثبت بالقياس جميع الأحكام الشرعية جملها وتفصيلها وحدودها
وكفاراتها ومقدراتها وقال أبو هاشم: لا يثبت بالقياس إلا تفصيل
ما ورد النص عليه وإما إثبات جمل لم يرد بها النص فلا يجوز
بالقياس وذلك كميراث الأخ لا يجوز أن يبتدأ إيجابه بالقياس
ولكن إذا ثبت بالنص ميراثه جاز إثبات إرثه مع الجد بالقياس
وقال أصحاب أبي حنيفة: لا مدخل للقياس في إثبات الحدود
والكفارات والمقدرات كالنصب في الزكوات والمواقيت في الصلوات
وهو قول الجبائي، ومنهم من قال: يجوز ذلك بالاستدلال دون
القياس، والدليل على ما قلناه أن هذه الأحكام يجوز إثباتها
بخبر الواحد فجاز إثباتها بالقياس كسائر الأحكام.
فصل
فأما الأسماء واللغات فهل يجوز إثباتها بالقياس فيه وجهان:
أصحهما أنه يجوز وقد مضى في أول الكتاب.
فصل
وأما ما طريقه العادة والخلقة كأقل الحيض وأكثره وأقل النفاس
وأكثره، وأقل الحمل وأكثره فلا مجال للقياس فيه لأن معناها لا
يعقل بل طريق إثابتها خبر الصادق، وكذلك ما طريقه الرواية
والسماع كقران النبي صلى الله عليه وسلم وإفراده ودخوله إلى
مكة صلحا أو عنوة فهذا كله لا مجال للقياس فيه.
(1/98)
باب أقسام القياس
قال الشيخ الإمام الأوحد نور الله قبره وبرد مضجعه: قد ذكرت في
الملخص في الجدل أقسام القياس مشروحا وأنا أعيد القول في ذلك
هاهنا على
(1/98)
ما يقتضيه هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
فأقول وبالله التوفيق: إن القياس على ثلاثة اضرب: قياس علة.
وقياس دلالة. وقياس شبه.
فأما قياس العلة: فهو أن يرد الفرع إلى الأصل بالبينة التي علق
الحكم عليها في الشرع، وقد يكون ذلك معنى يظهر وجه الحكمة فيه
للمجتهد كالفساد الذي في الخمر وما فيها من الصد عن ذكر الله
عز وجل وعن الصلاة وقد يكون معنى استأثر الله عز وجل بيانه فيه
بوجه الحكمة كالطعم في تحريم الربا والكيل وهذا الضرب من
القياس ينقسم قسمين جلي وخفي.
فأما الجلي فهو ما لا يحتمل إلا معنى واحدا وهو ما ثبتت علّيته
بدليل قاطع لا يحتمل التأويل وهو أنواع بعضها أجلى من بعض
فأجلاها ما صرح فيه بلفظ التعليل كقوله تعالى: {كَيْ لا
يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} 1. وكقوله
صلى الله عليه وسلم: "إنما نهيتكم لأجل الدافة" فصرح بلفظ
التعليل ويليه ما دل عليه التنبيه من جهة الأولى كقوله تعالى:
{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فنبه على أن الضرب أولى بالمنع
وكنهيه عن التضحية بالعوراء فإنه يدل على أن العمياء أولى
بالمنع ويليه ما فهم من اللفظ من غير جهة الأولى كنهيه عن
البول في الماء الراكد الدائم والأمر بإراقة السمن الذائب إذا
وقعت فيه الفأرة فإنه يعرف من لفظه أن الدم مثل البول والشيرج
مثل السمن وكذلك كل ما استنبط من العلل وأجمع المسلمون عليها
فهو جلي كإجماعهم على أن الحد للردع والزجر عن ارتكاب المعاصي
ونقصان حد العبد عن حد الحر لرقه فهذا الضرب من القياس لا
يحتمل إلا معنى واحدا وينقض به حكم الحاكم إذا خالفه كما ينقض
إذا خالف. النص والإجماع.
فصل
وأما الخفي: فهو ما كان محتمل وهو ما ثبت بطريق محتمل وهو
أنواع بعضها أظهر من بعض فأظهرها ما دل عليه ظاهر مثل الطعم في
الربا فإنه
__________
1 سورة الحشر, الآية: 7
(1/99)
علم من نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع
المطعوم في قوله: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثل بمثل"
فإنه علق النهي على الطعم فالظاهر أنه علة وكما روى أن بريرة
أعتقت فكان زوجها عبدا فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فالظاهر أنه خيرها لعبودية الزوج ويليه ما عرف بالاستنباط ودل
عليه التأثير كالشدة المطربة في الخمر فإنه لما وجد التحريم
بوجودها وزال بزوالها دل على أنها هي العلة، وهذا الضرب من
القياس لأنه محتمل أن يكون الطعام أراد به ما يطعم ولكن حرم
فيه التفاضل لمعنى غير الطعم وكذلك حديث بريرة يحتمل أنه أثبت
الخيار لرقه ويحتمل أن يكون لمعنى آخر ويكون ذكر رق الزوج
تعريفا وكذلك التحريم في الخمر يجوز أن يكون للشدة المطربة
ويجوز أن يكون لاسم الخمر فإن الاسم يوجد بوجود الشدة ويزول
بزوالها فهذا لا ينقض به حكم الحاكم.
فصل
وأما الضرب الثاني من القياس: وهو قياس الدلالة فهو أن ترد
الفرع إلى الأصل بمعنى غير المعنى الذي علق عليه الحكم في
الشرع إلا أنه يدل على وجود علة الشرع وهذا على اضرب: منها أن
يستدل بخصيصة من خصائص الحكم على الحكم وذلك مثل أن يستدل على
منع وجوب سجود التلاوة بجواز فعلها على الراحلة فإن جوازه على
الراحلة من أحكام النوافل ويليه ما يستدل بنظير الحكم على
الحكم كقولنا في وجوب الزكاة في مال الصبي أنه يجب العشر في
زرعه فوجبت الزكاة في ماله كالبالغ وكقولنا في ظهار الذمي إنه
يصح طلاقه يصح ظهاره فيستدل بالعشر على ربع العشر وبالطلاق على
الظاهر لأنهما نظيران فيدل أحدهما على الآخر وهذا الضرب من
القياس يجري مجرى الخفي من قياس العلة في الاحتمال إلا أن يتفق
فيه ما يجمع على دلالته فيصير كالجلي في نقض الحكم به.
فصل
والضرب الثالث: هو قياس الشبه وهو أن تحمل فرعاً على الأصل
بضرب
(1/100)
من الشبه وذلك مثل أن يتردد الفرع بين
أصلين يشبه أحدهما في ثلاثة أوصاف ويشبه الآخر في وصفين فيرد
إلى أشبه الأصلين به وذلك كالعبد يشبه الحر في أنه آدمي مخاطب
مثاب معاقب ويشبه البهيمة في أنه مملوك مقوم فيلحق بما هو أشبه
به وكالوضوء يشبه التيمم في إيجاب النية من جهة أنه طهارة عن
حدث ويشبه إزالة النجاسة في أنه طهارة بمائع فيلحق بما هو أشبه
به فهذا اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال إن ذلك يصح وللشافعي
ما يدل عليه ومنهم من قال: لا يصح وتأول ما قال الشافعي على
أنه أراد به أنه يرجح به قياس العلة بكثرة الشبه. واختلف
القائلون بقياس الشبه فمنهم من قال الشبه الذي يرد الفرع إلى
الأصل يجب أن يكون حكما ومنهم من قال: يجوز أن يكون حكما ويجوز
أن يكون صفة قال الشيخ الإمام رحمه الله: والأشبه عندي قياس
الشبه لا يصح لأنه ليس بعلة الحكم عند الله تعالى ولا دليل على
العلة، فلا يجوز تعليق الحكم عليه.
فصل
وأما الاستدلال فإنه يتفرع على ما ذكرنه من أقسام القياس وهو
على أضرب منها الاستدلال ببيان العلة وذلك ضربان:
أحدهما: أن يبين علة الحكم في الأصل ثم يبين أن الفرع يساويه
في العلة مثل أن يقول إن العلة إيجاب القطع والردع والزجر عن
أخذ الأموال فهذا المعنى موجودٌ في سرقة الكفن فوجب أن يجب فيه
القطع. والثاني: أن يبين علة الحكم في الأصل ثم يبين أن الفرع
يساويه في العلة ويزيد عليه مثل أن يقول أن الكفارة إنما وجبت
القتل بالقتل الحرام هذا المعنى يوجد في العمد ويزيد عليه
بالإثم فهو بإيجاب الكفارة أولى. فهذا حكمه حكم القياس في جميع
أحكامه وفرق أصحاب أبي حنيفة رحمه الله بين القياس وبين
الاستدلال فقالوا الكفارة لا يجوز إثابتها بالقياس ويجوز
إثباتها بالاستدلال، وذكروا في إيجاب الكفارة بالأكل أن
الكفارة تجب بالإثم ومأثم الأكل كمأثم الجماع وربما قالوا هو
أعظم فهو بالكفارة أولى. وهذا سهو عن
(1/101)
معنى القياس وذلك أنهم حملوا الأكل على
الجماع لتساويهما في العلة التي تجب فيها الكفارة وهذا حقيقة
القياس.
ومنها الاستدلال بالتقسيم وذلك ضربان:
أحدهما: أن يذكر جميع أقسام الحكم فيبطل جميعها ليبطل الحكم له
كقولنا في الإيلاء إنه لا يوجب وقوع الطلاق بانقضاء المدة لأنه
لا يخلو إما أن يكون صريحا أو كناية فلا يجوز أن يكون صريحا
ولا يجوز أن يكون كناية فإذا لم يكن صريحا ولا كناية لم يجز
إيقاع الطلاق به.
والثاني: أن يبطل جميع الأقسام إلا واحدا ليصح ذلك الواحد وذلك
مثل أن يقول أن القذف يوجب رد الشهادة لأنه إذا حد ردت شهادته
فلا يخلو إما أن يكون ردت شهادته للحد أو للقذف أولهما فلا
يجوز أن يكون للحد ولا لهم فثبت أنه إنما رد للقذف وحده.
ومنها: الاستدلال بالعكس وذلك مثل أن يقول لو كان دم الفصد
ينقض الوضوء لوجب أن يكون قليله ينقض الوضوء كما نقول في البول
والغائط والنوم وسائر الأحداث. واختلف أصحابنا فيه فمنهم من
قال: إنه لا يصح لأنه استدلال على الشيء بعكسه ونقضه ومنهم من
قال: يصح وهو الأصح لأنه قياس مدلول على صحته بشهادة الأصول.
(1/102)
باب الكلام في بيان
ما يشتمل القياس عليه على التفصيل
وجملته أن القياس يشتمل على أربعة أشياء: على الأصل، والفرع،
والعلة، والحكم. فأما الفرع فهو ما ثبت حكمه بغيره وقد بينا
ذلك في باب إثبات القياس وما جعل القياس حجة فيه والكلام هنا
في بيان الأصل والعلة والحكم وفي كل واحد من ذلك باب مفرد.
(1/102)
باب بيان الأصل وما
يجوز أن يكون أصلا وما لا يجوز
اعلم أن الأصل تستعمله الفقهاء في أمرين: أحدهما في أصول
الأدلة
(1/102)
وهي الكتاب والسنة والإجماع. ويقولون: هي
الأصل وما سوى ذلك من القياس ودليل الخطاب وفحوى الخطاب معقول
الأصل وقد بينت هذا في الملخص في الجدل ويستعملونه في الشيء
الذي يقاس عليه كالخمر أصل النبيذ والبر أصل للأرز وحده ما عرف
حكمه بلفظ تناوله أو ما عرف حكمه بنفسه. وقال بعض أصحابنا: ما
عرف به حكم غيره وهذا لا يصح لأن الأثمان أصل في الربا وإن لم
يعرف بها حكم غيرها.
فصل
واعلم أن الأصل قد يعرف بالنص وقد يعرف بالإجماع فما عرف بالنص
فضربان ضرب يعقل معناه وضرب لا يعقل معناه فما لا يعقل معناه
كعدد الصلوات والصيام وما أشبههما لا يجوز القياس عليه لأن
القياس لا يجوز إلا بمعنى يقتضي الحكم فإذا لم يعقل ذلك المعنى
لم يصح القياس وأما ما يعقل معناه فضربان ضرب يوجد معناه في
غيره وضرب لا يوجد معناه في غيره فما لا يوجد معناه في غيره لا
يجوز قياس غيره عليه وما يوجد معناه في غيره فما لا يوجد معناه
في غيره لا يجوز قياس غيره عليه وما يوجد معناه في غيره جاز
القياس عليه سواء كان ما ورد به النص مجمعا على تعليله أو
مختلفا فيه مخالفا لقياس الأصول أو موافقا له وقال بعض الناس:
لا يجوز القياس إلا على أصل مجمع على تعليله. وقال الكرخي
وغيره من أصحاب أبي حنيفة: لا يجوز القياس على أصل مخالف
للقياس إلا أن يثبت تعليله بنص أو إجماع أو هناك أصل آخر
يوافقه ويسمون ذلك القياس على موضع الاستحسان فالدليل على جواز
القياس على الأصل وإن لم يكن مجمعا على تعليله هو أنه لا يخلو
إما أن يعتبر إجماع الأمة كلها فهذا يوجب إبطال القياس لأن
نفاة القياس من الأمة وأكثرهم على أن الأصول غير معللة أو
يعتبر إجماع مثبتي القياس فذلك لا معنى له لأن إجماعهم ليس
بحجة على الانفراد فكان القياس على ما اجمعوا عليه كالقياس على
ما اختلفوا فيه. وأما الدليل على الكرخي ومن قال بقوله: هو أن
ما ورد به النص مخالفا للقياس أصل ثابت كما أن ما ورد به النص
موافقا للقياس أصل ثابت فإذا جاز القياس على ما كان موافقا
للقياس جاز على ما كان مخالفا.
(1/103)
فصل
وأما ما عرف بالإجماع فحكمه حكم ما ثبت بالنص في جواز القياس
عليه على التفصيل الذي قدمه في النص ومن أصحابنا من قال لا
يجوز القياس عليه ما لم يعرف النص الذي أجمعوا لأجله وهذا غير
صحيح لأن الإجماع أصل في إثبات الأحكام كالنص فإذا جاز القياس
على ما ثبت بالنص جاز على ما ثبت بالإجماع.
فصل
وأما ما ثبت بالقياس على غيره فلا خلاف أنه يجوز أن يستنبط منه
المعنى الذي ثبت به ويقاس عليه غيره وهل يجوز أن يستنبط منه
معنى غير المعنى الذي قيس به على غيره ويقاس عليه غيره مثل أن
يقاس الأرز على البر في الربا بعلة أنه مطعوم ثم يسقط من الأرز
أنه نبت لا يقطع الماء عنه ثم يقاس عليه النيلوفر فيه وجهان:
من أصحابنا من قال: يجوز ومن أصحابنا من قال: لا يجوز وهو قول
أبي الحسن الكرخي وقد نصرت في التبصرة جواز ذلك، والذي يصح
عندي أنه لا يجوز لأنه إثبات حكم في الفرع بغير علة الأصل وذلك
أن علة الأصل هي الطعم، فمتى قسنا النيلوفر عليه بما ذكرناه
رددنا الفرع إلى الأصل بغير علة وهذا لا يجوز.
فصل
وأما ما لم يثبت من الأصول بأحد هذه الطرق أو كان قد ثبت ثم
نسخ فلا يجوز القياس عليه لأن الفرع إنما يثبت بأصل ثابت فإذا
كان الأصل غير ثابت لم يجز إثبات الفرع من جهته.
(1/104)
باب القول في بيان
العلة وما يجوز أن يعلل به وما لا يجوز
واعلم أن العلة في الشرع هي المعنى الذي يقتضي الحكم وأما
المعلول ففيه وجهان: من أصحابنا من قال: هو العين التي تحلها
العلة كالخمر والبر. ومنهم
(1/104)
من يقول: هو الحكم. وأما المعلل فهو الأصل.
وأما المعلل له فهو الحكم. وأما المعلل فهو الناصب للعلة وأما
المعتل فهو المستدل بالعلة.
فصل
واعلم أن العلة الشرعية أمارة على الحكم ودلالة عليه ومن
أصحابنا من قال: موجبة للحكم بعدما جعلت علة ألا ترى أنه يجب
إيجاد الحكم بوجودها ومنهم من قال: ليست بموجبة لأنها لو كانت
موجبة لما جاز أن توجد في حال ولا توجه كالعلل العقلية ونحن
نعلم أن هذه العلل كانت موجودة قبل الشرع ولم تكن موجبة للحكم
فدل على أنها غير موجبة.
فصل
ولا تدل العلة إلا على الحكم الذي نصبت له. فإن نصبت للإثبات
لم تدل على النفي أو أن نصبت للنفي لم تدل على الإثبات وإن
نصبت للنفي والإثبات وهي العلة الموضوعة لجنس الحكم دلت على
النفي والإثبات فيجب أن يوجد الحكم بوجودها ويزول بزوالها ومن
الناس من قال: إن كل علة تدل على حكمين على الإثبات والنفي
فإذا نصبت للإثبات اقتضت الإثبات عند وجودها والنفي عند عدمها
وإن نصبت للنفي اقتضت النفي عند وجودها والإثبات عند عدمها
وهذا خطأ لأن العلة الشرعية دليل ولهذا كان يجوز أن لا يوجب ما
علق عليها من الحكم والدليل العقلي الذي يدل بنفسه يجوز أن يدل
على وجود الحكم في الموضع الذي وجد فيه ثم يعدم ويثبت الحكم
بدليل آخر والدليل الشرعي الذي صار دليلا بجعل جاعل أولى بذلك.
فصل
ويجوز أن يثبت الحكم الواحد بعلتين وثلاثة وأكثر. كالقتل يجب
بالقتل والزنا والردة وتحريم الوطء يثبت بالحيض والإحرام
والصوم والاعتكاف والعدة.
(1/105)
فصل
وكذلك يجوز أن يثبت بعلة واحدة أحكام متماثلة كالإحرام يوجب
تحريم الوطء والطيب واللباس وغير ذلك وكذلك يجوز أن يثبت
بالعلة الواحدة أحكام مختلفة كالحيض يوجب تحريم الوطء وإحلال
ترك الصلاة، ولكن لا يجوز أن يثبت بالعلة الواحدة أحكام متضادة
كتحريم الوطء وتحليله لتنافيهما.
فصل
وكذلك يجوز أن تكون العلة لإثبات الحكم في الابتداء كالعدة في
منع النكاح وقد تكون بعلة الابتداء والاستدامة كالرضاع في
إبطال النكاح.
فصل
ولا بد في رد الفرع إلى الأصل من علة يجمع بها بينهما. وقال
بعض الفقهاء من أهل العراق: يكفي في القياس تشبيه الفرع بالأصل
بما يغلب على الظن أنه مثله فإن كان المراد بهذا أنه لا يحتاج
إلى علة موجبة للحكم يقطع بصحتها كالعلل العقلية فلا خلاف في
هذا وإن أرادوا أنه يجوز بضرب من الشبه على ما يقول القائلون
بقياس الشبه فقد بينا ذلك في أقسام القياس وإن أرادوا أنه ليس
ها هنا معنى مطلوب يوجب إلحاق الفرع بالأصل فهذا خطأ لأنه لو
كان الأمر على هذا لما احتيج إلى الاجتهاد بل كان يجوز رد
الفرع إلى كل أصل من غير فكر. وهذا مما لا يقوله أحد فبطل
القول به.
فصل
والعلة التي يجمع بها بين الفرع والأصل ضربان منصوص عليها
ومستنبطة.
فالمنصوص عليها مثل أن يقول: حرمت الخمر للشدة المطربة فهذا
يجوز أن يجعل علة والنص عليها يغني عن طلب الدليل على صحتها من
جهة الاستنباط والتأثير، ومن الناس من قال: لا يجوز أن يجعل
المنصوص عليه علة وهو قول بعض نفاة القياس، ومن الناس من قال:
هو علة في العين المنصوص
(1/106)
عليها ولا يكون علة في غيرها إلا بأمر ثان.
فالدليل على أنه علة هو أنه إذا جاز أن يعرف بالاستنباط أن
الشدة المطربة علة للتحريم في الخمر ويقاس غيرها عليها جاز
بالنص ويقاس غيرها عليها. وأما الدليل على من قال أنه علة في
العين التي وجد فيها دون غيرها هو أنه إذا لم يصر علة فيها وفي
غيرها إلا بالنص عليها سقط النظر والاجتهاد لأنه إذا نص على
انه علة فيها وفي غيرها استغنينا بالنص عن الطلب والاجتهاد.
فصل
وأما المستنبطة فهو كالشدة المطربة في الخمر فإنها عرفت
بالاستنباط فهذا يجوز أن يكون علة، ومن الناس من قال: لا يجوز
أن تكون العلة إلا ما ثبت بالنص أو الإجماع وهذا خطأ لما روى
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ رحمه الله: "بم
تحكم قال بكتاب الله" قال: فإن لم تجد قال: بسنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: فإن لم تجد قال: "اجتهد رأيي" فلو كان لا
يجوز التعليل إلا بما ثبت بنص أو إجماع لم يبق بعد الكتاب
والسنة ما يجتهد فيه.
فصل
وقد تكون العلة معنى مؤثرا في الحكم يوجد الحكم بوجوده ويزول
بزواله كالشدة المطربة في تحريم الخمر والإحرام بالصلاة في
تحريم الكلام وقد تكون دليلا ولا تكون نفس العلة كقولنا في
إبطال النكاح الموقوف إنه نكاح لا يملك الزوج المكلف إيقاع
الطلاق فيه وفي ظهار الذمي إنه يصح طلاقه فصح ظهاره كالمسلم،
وهل يجوز أن يكون شبها لا يزول الحكم بزواله ولا يدل على الحكم
كقولنا في الترتيب في الوضوء إنه عبادة يبطلها النوم فوجب فيها
الترتيب كالصلاة على ما ذكرناه من الوجهين في قياس الشبه.
فصل
وقد يكون وصف العلة معنى يعرف به وجه الحكمة في تعلق الحكم به
(1/107)
كالشدة المطربة في الخمر وقد يكون معنى لا
يعرف وجه الحكمة في تعلق الحكم به كالطعم في البر.
فصل
وقد يكون وصف العلة صفة كقولنا في البر إنه مطعوم وقد يكون
اسما كقولنا تراب وماء وقد يكون حكما شرعيا كقولنا يصح وضوءه
أو تصح صلاته ومن الناس من قال: لا يجوز أن يكون الاسم علة
وهذا خطأ لأن كل معنى جاز أن يعلق الحكم عليه من جهة النص جاز
أن يستنبط من الأصل ويعلق الحكم عليه كالصفات والأحكام.
فصل
ويجوز أن يكون الوصف نفيا أو إثباتا فالإثبات كقولنا لأنه وارث
والنفي كقولنا لأنه ليس بوارث وليس بتراب، ومن الناس من قال:
لا يجوز أن يجعل النفي علة والدليل على ما قلناه أن ما جاز أن
يعلل به نصا جاز أن يعلل به استنباطا كالإثبات.
فصل
ويجوز أن تكون العلة ذات وصف ووصفين وأكثر وليس لها عدد محصور،
وحكى عن بعض الفقهاء أنه قال لا يزاد على خمسة أوصاف وهذا لا
وجه له لأن العلل شرعية فإذا جاز أن يعلق الحكم في الشرع على
خمسة أوصاف جاز أن يعلق على ما فوقها.
فصل
ويجوز أن تكون العلة واقفة كعلة أصحابنا في الذهب والفضة ويجوز
أن تكون متعدية وقال بعض أصحاب أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز أن
تكون الواقفة علة وهذا غير صحيح لما بينا أن العلل إمارات
شرعية فيجوز أن تجعل الأمارة معنى لا يتعدى، كما يجوز أن تجعل
معنى يتعدى.
(1/108)
باب بيان الحكم
اعلم أن الحكم هو الذي تعلق على العلة من التحليل والتحريم
والإسقاط وهو على ضربين مصرح به ومبهم.
فالمصرح به أن نقول: فجاز أن يجب أو فوجب أن يجب وما أشبهه ذلك
والمبهم على أضرب منها أن نقول فأشبه كذا فمن الناس من قال: إن
ذلك لا يصح لأنه حكم مبهم ومنهم من قال: إنه يصح وهو الأصح لأن
المراد به فأشبه، كذا في الحكم الذي وقع السؤال عنه وذلك حكم
معلوم بين السائل والمسؤول فيجوز أن يمسك عن بيانه اكتفاء
بالعرف القائم بينهما ومنها أن يعلق عليها التسوية بين حكمين
كقولنا في إيجاب النية في الوضوء إنه طهارة فاستوى جامدها
ومائعها في النية كإزالة النجاسة ومن أصحابنا من قال: إن ذلك
لا يصح لأنه يريد به التسوية بين المائع والجامد في الأصل في
إسقاط النية وفي الفرع في إيجاب النية وهما حكمان متضادان،
والقياس أن يشتق حكم الشيء من نظيره لا من ضده ونقيضه ومنهم من
قال: إن ذلك يصح وهو الصحيح لأن حكم العلة هو التسوية بين
المائع والجامد في أصل النية والتسوية بين المائع والجامد في
النية موجود في الأصل والفرع من غير اختلاف، وإنما نظهر
الاختلاف بينهما في التفصيل وليس ذلك حكم علته؛ ومنها أن يكون
حكم العلة إثبات تأثير لمعنى مثل قولنا: في السواك للصائم أنه
تطهير يتعلق بالفم من غير نجاسة، فوجب أن يكون للصوم تأثير فيه
كالمضمضة فهذا يصح لأن للصوم تأثيرا في المضمضة وهو منع
المبالغة كما أن للصوم تأثيرا في السواك وهو في المنع منه بعد
الزوال وإن كان تأثيرهما مختلفا واختلافهما في كيفية التأثير
لا يمنع صحة الجمع لأن الغرض إثبات تأثير الصوم في كل واحد
منهما وقد استويا في التأثير فلا يضر اختلافهما في التفصيل.
(1/109)
باب بيان ما يدل على
صحة العلة
وجملته أن العلة لا بد من الدلالة على صحتها لأن العلة شرعية
كما أن الحكم شرعي فكما لا بد من الدلالة على الحكم فكذلك لا
بد من الدلالة على صحة العلة.
(1/109)
فصل
والذي يدل على صحة العلة شيئان: أصل واستنباط فأما الأصل فهو
قول الله عز وجل وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله
والإجماع فأما قول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم فدلالتهما من وجهين: أحدهما: من جهة النطق. والثاني: من
جهة الفحوى والمفهوم فأما دلالتهما من جهة النطق فمن وجوه
بعضها أجلى من بعض فأجلاها ما صرح فه بلفظ التعليل كقوله
تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ}
1. وكقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما نهيتكم لأجل الدافة"
وقوله: "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر". وقوله: "أينقص
الرطب إذا يبس فقيل نعم فقال: فلا إذن". أي من أجله فهذا صريح
في التعليل ويليه في البيان والوضوح أن يذكر صفة لا يفيد ذكرها
غير التعليل كقوله تعالى في الخمر: {إِنَّمَا يُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ} 2. الآية وقوله صلى الله عليه وسلم في دم
الاستحاضة: "إنه دم عرق". وكقوله في الهرة: "إنها من الطوافين
عليكم والطوافات". وقوله صلى الله عليه وسلم حين قيل له: إن في
دار فلان هرة فقال: "الهرة سبع". وفي بعضها: "الهرة ليست
بنجسة". فهذه الصفات وإن لم يصرح فيها بلفظ التعليل إلا أنها
خارجة مخرج التعليل إذ لا فائدة في ذكرها سوى التعليل. ويليه
في البيان أن يعلق الحكم على عين موصوفة بصفة فالظاهر أن تلك
الصفة علة وقد يكون هذا بلفظة الشرط كقوله تعالى: {وَإِنْ
كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} 3 وكقوله صلى
الله عليه وسلم: "من باع نخلا بعد أن يؤبر فثمرتها للبائع إلا
أن يشترطها المبتاع" فالظاهر أن الحمل علة لوجوب النفقة
والتأبير علة لكون الثمرة للبائع وقد تكون بغير لفظ الشرط
كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا} 4 وكقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا
الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل" فالظاهر أن السرقة علة لوجوب
القطع والطعم علة لتحريم التفاضل وأما دلالتهما من
__________
1 سورة المائدة الآية: 32.
2 سورة المائدة الآية: 91.
3 سورة الطلاق الآية: 6.
4 سورة المائدة الآية: 38.
(1/110)
جهة الفحوى والمفهوم فبعضها أيضا أجلى من
بعض فأجلاها ما دل عليه التنبيه كقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ
لَهُمَا أُفٍّ} وكنهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء
فيدل بالتنبيه عند سماعه أن الضرب أولى بالمنع وأن العمياء
أولى بالمنع ويليه في البيان أن يذكر صفة فيفهم من ذكرها
المعنى التي تتضمنه تلك الصفة من غير جهة التنبيه كقوله صلى
الله عليه وسلم: "لا يقض القاضي وهو غضبان" وكقوله صلى الله
عليه وسلم في الفأرة تقع في السمن: "إن كان جامدا فالقوها وما
حولها وإن كان مائعا فأريقوه". فيفهم بضرب من الفكر أنه إنما
منع الغضبان من القضاء لاشتغال قلبه وأن الجائع والعطشان مثله
وإنه إنما أمر بإلقاء ما حول الفأرة من السمن إن كان جامدا
وإراقته إن كان مائعا لكونه جامدا أو مائعا وإن الشيرج والزيت
مثله.
فصل
وأما دلالة أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أن يفعل شيئا
عند وقوع معنى من جهته أو من جهة غيره فيعلم أنه لم يفعل ذلك
إلا لما ظهر من المعنى فيصير ذلك علة فيه وهذا مثل ما روي: أنه
سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد فيعلم أن السهو علة
للسجود وأن أعرابيا جامع في رمضان فأوجب عليه عتق رقبة فيعلم
أن الجماع علة لإيجاب الكفارة.
فصل
وأما دلالة الإجماع فهو أن تجمع الأمة على التعليل به كما روى
عن عمر رضي الله عنه أنه قال في قسمة السواد: لو قسمت بينكم
لصارت دولة بين أغنيائكم ولم يخالفوه وكما قال علي كرم الله
وجهه في شارب الخمر إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى
افترى فأرى أن يحد حد المفترى فلم يخالفه أحد في هذا التعليل.
فصل
وأما الضرب الثاني من الدليل على صحة العلة فهو الاستنباط وذلك
من وجهين أحدهما التأثير والثاني شهادة الأصول فأما التأثير
فهو أن يوجد
(1/111)
الحكم بوجود معنى فيغلب على الظن أنه لأصله
ثبت الحكم، ويعرف ذلك من وجهين.
أحدهما" بالسلب والوجود وهو أن يوجد الحكم بوجوده ويزول بزواله
وذلك مثل قوله: "في الخمر إنه شراب فيه شدة مطربة" فإنه قبل
حدوث الشدة كان حلالا. ثم حدثت الشدة فحرم ثم زالت الشدة فحل
فعلم أنه هو العلة.
والثاني" بالتقسيم وهو أن يبطل كل معنى في الأصل إلا واحداً:
فيعلم أنه هو العلة وذلك مثل أن يقول في الخبز إنه يحرم فيه
الربا فلا يخلو إما أن يكون للكيل أو للطعم أو للوزن ثم يبطل
أن يكون للكيل والوزن فيعلم أنه للطعم.
فصل
وأما شهادة الأصول فيختص بقياس الدلالة وهو أن يدل على صحة
العلة شهادة الأصول وذلك أن يقول في القهقهة إن ما لا ينقض
الطهر خارج الصلاة لم ينقض داخل الصلاة كالكلام فيدل عليها بأن
الأصول تشهد بالتسوية بين داخل الصلاة وخارجها ألا ترى أن ما
ينقض الوضوء داخل الصلاة ينقض خارجها كالأحداث كلها وما لا
ينقض خارج الصلاة لا ينقض داخلها فيجب أن تكون القهقهة مثلها.
فصل
وما سوى هذه الطرق فلا يدل على صحة العلة، وقال بعض الفقهاء:
إذا لم يجد ما يعارضها ولا ما يفسدها دل على صحتها، وقال أبو
بكر الصيرفي في طردها يدل على صحتها فأما الدليل على من قال أن
عدم ما يفسدها دليل على صحتها فهو أنه لو جاز أن يجعل هذا
دليلا على صحتها لوجب إذا استدل بخير لا يعرف صحته أن يقال عدم
ما يعارضه وما يفسده يدل على صحته وهذا لا يقوله أحد وأما
الدليل على الصيرفي فهو أن الطرد فعل القائس وفعل القائس ليس
بحجة في الشرع ولأن قوله إنها مطردة معناه أنه ليس هاهنا نقض
يفسدها وقد بينا أن عدم ما يفسد لا يدل على الصحة
(1/112)
باب بيان ما يفسد
العلة
قال الشيخ الإمام الأوحد رحمه الله ورضي عنه: قد ذكرت في
الملخص في الجدل فيما يفسد العلة خمسة عشر نوعا وأنا أذكرها
هنا ما يليق بهذا الكتاب إن شاء الله تعالى فأقول إن الذي يفسد
العلة عشرة أشياء:
أحدها: أن لا يكون على صحتها دليل فيدل ذلك على فسادها لأني قد
بينت في الباب قبله أن العلة شرعية فإذا لم يكن على صحتها دليل
من جهة الشرع دل على أنها ليست بعلة فوجب الحكم بفسادها.
فصل
والثاني: أن تكون العلة منصوبة لما لا يثبت بالقياس كأقل الحيض
وأكثره وإثبات الأسماء واللغات على قول من لا يجيز إثابتها
بالقياس وغير ذلك من الأحكام التي لا مدخل للقياس فيها على ما
تقدم شرحها فيدل ذلك على فسادها.
فصل
والثالث: أن تكون العلة منتزعة من أصل لا يجوز انتزاع العلة
منه مثل أن يقيس على أصل غير ثابت كأصل منسوخ أو أصل لم يثبت
الحكم فيه لأن الفرع لا يثبت إلا بالأصل فإذا لم يثبت الأصل لم
يجز إثبات الفرع من جهته، وهكذا لو كان الأصل قد ورد الشرع
بتخصيصه ومنع القياس عليه مثل قياس أصحاب أبي حنيفة رحمه الله
غير رسول الله صلى الله عليه وسلم على رسول الله صلى الله عليه
وسلم في جواز النكاح بلفظ الهبة، وقد ورد الشرع بتخصيصه بذلك
فهذا أيضا لا يجوز القياس عليه لأن القياس إنما يجوز على ما لم
يرد الشرع بالمنع منه، فأما إذا ورد الشرع بالمنع منه فلا
يجوز، ولهذا لا يجوز القياس إذا منع منه نص أو إجماع.
فصل
والرابع: أن يكون الوصف الذي جعل علة لا يجوز التعليل به مثل
أن تجعل
(1/113)
العلة اسم لقب أو نفي صفة على قول من يجيز
ذلك أو شبها على قول من لا يجيز قياس الشبه أو وصفا لمن يثبت
وجوده في الأصل وفي الفرع فيدل على فسادها لأن الحكم تابع
للعلة وإذا كانت العلة لا تفيد الحكم أو لم تثبت لم يجز إثبات
الحكم من جهتها.
فصل
والخامس: أن لا تكون العلة مؤثرة في الحكم فيدل ذلك على فسادها
ومن أصحابنا من قال: إن ذلك لا يوجب فسادها وهي طريقة من قال:
إن طردها يدل على صحتها وقد دللت على فساده ومن أصحابنا من
قال: إن دفعه للنقض تأثير صحيح وهذا خطأ لأن المؤثر ما تعلق
الحكم به في الشرع ودفع النقض عن مذهب المعلل ليس بدليل على
تعلق الحكم به في الشرع وإنما يدل على تعلق الحكم به عنده وليس
المطلوب علة المعلل وإنما المطلوب علة الشرع فسقط هذا القول
وفي أي موضع يعتبر تأثير العلة فيه وجهان من أصحابنا من قال:
يطلب تأثيرها في الأصل لأن العلة تتفرع من الأصل أولا ثم يقاس
الفرع عليه فإذا لم يؤثر في الأصل لم تثبت العلة فيه فكأنه رد
الفرع إلى الأصل بغير علة الأصل ومنهم من قال: يكفي أن يؤثر في
وضع من الأصول وهو اختيار شيخنا القاضي أبي الطيب الطبري رحمه
الله وهو الصحيح عندي لأنها إذا أثرت في موضع من الأصول دل على
صحتها وإذا صحت في موضع وجب تعليق الحكم عليها حيث وجدت.
فصل
والسادس: أن تكون منتقضة وهي أن توجد ولا حكم معها وقال أصحاب
أبي حنيفة وجود العلة من غير حكم ليس بنقض لها بل هو تخصيص لها
وليس بنقض والدليل على فساد ذلك هو أنها علة مستنبطة فإذا وجدت
من غير حكم وجب الحكم بفسادها دليله العلل العقلية وأما وجود
معنى العلة ولا حكم وهو الذي سمته المتفقهة الكسر والنقض من
طريق المعنى وهو أن تبدل العلة أو بعض أوصافها بما هو في معناه
ثم يوجد ذلك من
(1/114)
غير حكم فهذا ينظر فيه فإن كان الوصف الذي
أبدله غير مؤثر في الحكم دل على فساد العلة لأنه إذا لم يكن
مؤثرا وجب إسقاطه وإذا سقط لم يبق شيء فأما أن لا يبقى شيء
فيسقط الدليل أو يبقى شيء فينتقض فيكون الفساد راجعا إلى عدم
التأثير أو النقض وقد بيناهما وإن كان الوصف الذي أبدله مؤثرا
في الحكم لم تفسد العلة لأن المؤثر في الحكم لا يجوز إسقاطه
فلا يتوجه على العلة من جهته فساد، فأما وجود الحكم من غير علة
فينظر فيه فإن كانت العلة لجنس الحكم فهو نقض وذلك مثل أن
نقول: العلة في وجوب النفقة التمكين في الاستمتاع فأي موضع
وجبت النفقة من غير تمكين فهو نقض وأي موضع وجد التمكين من غير
نفقة فهو نقض لأنه زعم أن التمكين علة هذا الحكم أجمع لا علة
له سواه فكأنه قال: أي موضع وجد وجب وأي موضع فقد سقط فإذا وجد
ولم يجب أو فقد ولم يسقط فقد أنتقض التعليل وإن كانت العلة
للحكم في أعيان لا لجنس الحكم لم يكن ذلك نقضا لأنه يجوز أن
يكون في الموضع الذي وجدت العلة يثبت الحكم بوجود هذه العلة
وفي الموضع الذي عدمت يثبت لعلة أخرى كقولنا في الحائض يحرم
وطؤها للحيض ثم يعدم الحيض في المحرمة والمعتدة ويثبت التحريم
لعلة أخرى.
فصل
والسابع: أن يمكن قلب العلة وهو أن يعلق عليها نقيض ذلك الحكم
ويقاس على الأصل فهذا قد يكون بحكم مصرح وقد يكون بحكم مبهم.
فأما المصرح فهو أن نقول عضو من أعضاء الوضوء فلا يتقدر فرضه
بالربع كالوجه فيقول المخالف عضو من أعضاء الوضوء فلا يجز فيه
ما يقع عليه الاسم كالوجه فهذا يفسد العلة، ومن أصحابنا من
قال: إن ذلك لا يفسد العلة ولا يقدح فيها لأنه فرض مسألة على
المعلل، ومنهم من قال إن ذلك كالمعارضة بعلة أخرى فيصار فيهما
إلى الترجيح والصحيح أنه يوجب الفساد. والدليل على أنه يقدح
أنه عارضه بما لا يمكن الجمع بينه وبين علته فصار كما لو عارضه
بعلة مبتدأة والدليل على أنه يوجب الفساد أنه يمكن أن يعلق
عليها حكمان متنافيان فوجب الحكم بالفساد. وأما القلب بحكم
مبهم فهو قلب التسوية
(1/115)
وذلك مثل أن يقول الحنفي: طهارة بمائع فلم
يفتقر إلى النية كإزالة النجاسة فيقول الشافعي رحمه الله:
طهارة بمائع فكان مائعها كجامدها في وجوب النية كإزالة النجاسة
فمن أصحابنا من قال: أن ذلك لا يصح لأنه يريد التسوية بين
المائع والجامد في الأصل في إسقاط النية وفي الفرع في إيجاب
النية، ومنهم من قال إن ذلك يصح وهو الأصح لأن التسوية بين
المائع والجامد تنافى علة المستدل في إسقاط النية فصار كالحكم
المصرح به.
فصل
والثامن: أن لا يوجب العلة حكمها في الأصل وذلك على ضربين:
أحدهما: أن يفيد الحكم في الفرع بزيادة أو نقصان عما يفيدها في
الأصل ويدل على فسادها وذلك مثل أن يقول الحنفي في إسقاط تعيين
النية في صوم رمضان لأنه مستحق العين فلا يفتقر إلى التعيين
كرد الوديعة فهذا لا يصح لأنه يفيد في الفرع غير حكم الأصل
لأنه يفيد في الأصل إسقاط التعيين مع النية رأسا وفي الفرع
يفيد إسقاط التعيين ومن حكم العلة أن يثبت الحكم في الأصل ثم
يتعدى إلى الفرع فينقل حكم الأصل إليه فإذا لم ينقل ذلك الحكم
إليه دل على بطلانها.
والثاني: أن لا يفيد الحكم في نظائره على الوجه الذي أفاد في
الأصل وذلك مثل أن يقول الحنفي في إسقاط الزكاة في مال الصبي
أنه غير معتقد للإيمان فلا تجب الزكاة في مال كالكافر فإن هذا
فاسد لأنه لا يوجب الحكم في النظائر على الوجه الذي يوجب في
الأصل، ألا ترى أنه لا يوجب إسقاط العشر في زرعه ولا زكاة
الفطر في ماله، كما يوجب في الأصل فدل على فسادها لأنها لو
كانت توجب الحكم في الفرع لأوجبت الحكم في نظائره على الوجه
الذي أوجب في الأصل.
فصل
والتاسع: أن يعتبر حكما يحكم مع اختلافها في الموضع وهو الذي
تسميه المتفقهة فساد الاعتبار ويعرف ذلك من طريقين من جهة
النطق بأن يرد
(1/116)
الشرع بالتفرقة بينهما فيدل ذلك على بطلان
الجمع بينهما مثل أن يعتبر الطلاق بالعدة في أن الاعتبار فيه
في رق المرأة وحريتها فهذا فاسد لأن النبي صلى الله عليه وسلم
فرق بينهما في ذلك فقال: "الطلاق بالرجال والعدة بالنساء"
فيكون الجمع باطلا بالنص ويعرف بالأصول. وهو أن يعتبر ما بني
على التخفيف في إيجاب التخفيف كاعتبار العمد بالسهو والضمان
بالحد، أو ما بني على التأكيد في الإسقاط بما بنى على التضعيف
كاعتبار العتق بالرق والضمان بالحد، أو بما بني على التغليظ في
التغليظ كاعتبار السهو بالعمد أو ما بني على التغليظ بما بني
على التخفيف، أو ما بني على التضعيف بما بنى على التأكيد في
الإيجاب كاعتبار الرق بالحرية والحد بالضمان، فيدل ذلك على
فسادها لأن اختلافهما في الوضع يدل على اختلاف علتهما، وقد
قيل: إن ذلك لا يدل على الفساد إذا دلت الدلالة على صحة العلة.
فصل
والعاشر: أن يعارضها ما هو أقوى منها من نص كتاب أو سنة أو
إجماع، فيدل ذلك على فسادها لأن هذه الأدلة مقطوع بصحتها فلا
يثبت القياس معها.
(1/117)
باب القول في تعارض
العلتين
إذا تعارضت العلتان لم يخل إما أن يكونا من أصل واحد أو من
أصلين فإن كانتا من أصلين وذلك مثل علتنا في إيجاب النية
والقياس على التيمم وعلتهم في إسقاط النية والقياس على إزالة
النجاسة وجب إسقاط إحداها بما ذكرناه من وجوه الإفساد أو ترجيح
إحداهما على الأخرى بما نذكره إن شاء الله تعالى، وإن كانتا من
أصل واحد لم يخل إما أن تكون إحداهما داخلة في الأخرى أو تتعدى
إحداهما إلى ما لا تتعدى إليه الأخرى، فإن كانت إحداهما داخلة
في الأخرى نظرت فإن أجمعوا على أنه ليس له إلا علة واحدة وذلك
مثل أن يعلل الشافعي رضي الله عنه البر بأنه مطعوم جنس ويعلل
المالكي بأنه مقتات جنس لم يجز القول بالعلتين بل يصار إلى
الإبطال أو الترجيح. وإن لم يجمعوا على أن له علة واحدة مثل أن
يعلل الشافعي رضي الله في مسألة ظهار
(1/117)
الذمي بأنه يصح طلاقه فصح ظهاره كالمسلم،
ويعلل الحنفي في المسلم بأنه يصح تكفيره وقد اختلف أصحابنا فيه
على وجهين: فمنهم من قال: نقول بالعلتين لأنهما لا يتنافيان بل
هما متفقان على إثبات حكم واحد. ومنهم من قال: لا نقول بهما بل
يصار إلى الترجيح والأول أصح لأنه يجوز أن يكون في الحكم علتان
وثلاثة وبعضها يتعدى وبعضها لا يتعدى، وإن كانت كل واحدة منهما
تتعدى إلى فروع لا تتعدى إليها الأخرى مثل أن يعلل الشافعي
البر بأنه مطعوم جنس، ويعلل الحنفي بأنه مكيل جنس فهاتان
مختلفتان في فروعهما فلا يمكن القول بهما فيكون حكمهما حكم
العلتين من أصلين، فإما أن يفسد إحداهما إما أن ترجح إحداهما
على الأخرى.
(1/118)
باب القول في ترجيح
إحدى العلتين على الأخرى
واعلم أن الترجيح لا يقع بين دليلين موجبين للعلم ولا بين
علتين موجبتين للعلم لأن العلم لا يتزايد إن كان بعضه أقوى من
بعض، وكذلك لا يقع الترجيح بين دليل موجب للعلم أو علة موجبة
للعلم وبين دليل أو علة موجبة للظن لما ذكرناه ولأن المقتضى
للظن لا يبلغ رتبة الموجب للعلم ولو رجح بما رجح لكان الموجب
للعلم مقدما عليه فلا معنى للترجيح.
فصل
ومتى تعارضت علتان واحتيج فيهما إلى الترجيح رجح إحداهما على
الأخرى بوجه من وجوه الترجيح وذلك من وجوه.
أحدها: أن تكون إحداهما منتزعة من أصل مقطوع به والأخرى من أصل
غير مقطوع به والمنتزعة من المقطوع به أولى لأن أصلها أقوى.
والثاني: أن يكون أصل إحداهما مع الإجماع عليه قد عرف دليله
على التفصيل فيكون أقوى ممن أجمعوا عليه ولم يعرف دليله على
التفصيل لأن ما عرف دليله يمكن النظر في معناه وترجيحه على
غيره.
والثالث: أن يكون أصل إحداهما قد عرف بنطق الأصل وأصل الأخرى
بمفهوم أو استنباط فما عرف بالنطق أقوى والمنتزع منه أقوى.
(1/118)
والرابع: أن يكون أصل إحداهما عموما ما يخص
وأصل الأخرى عموم دخله التخصيص فالمنتزع مما لم يدخله التخصيص
أولى لأن ما دخله التخصيص أضعف لأن من الناس من قال قد صار
مجازا بدخول التخصيص فيه.
والخامس: أن يكون أصل إحداهما قد نص على القياس عليه وأصل
الأخرى لم ينص على القياس عليه فما ورد النص بالقياس عليه
أقوى.
والسادس: أن يكون أصل إحداهما من جنس الفرع فقياسه عليه أولى
على ما ليس من جنسه. والسابع أن تكون إحداهما مردودة إلى أصل
والأخرى إلى أصول فما ردت إلى أصول أولى ومن أصحابنا من قال
هما سواء والأول أظهر لأن ما كثرت أصوله أقوى.
والثامن: أن تكون إحدى العلتين صفة ذاتية والأخرى صفة حكمية
فالحكمية أولى. ومن أصحابنا من قال الذاتية أولى لأنها أقوى
والأول أصح لأن الحكم بالحكم أشبه فهو بالدلالة عليه أولى.
والتاسع: أن تكون إحداهما منصوصا عليها والأخرى غير منصوص
عليها فالعلة المنصوص عليها أولى لأن النص أقوى من الاستنباط.
والعاشر: أن تكون إحداهما نفيا والأخرى إثباتا فالإثبات أولى
لأن النفي مختلف في كونه علة أو تكون إحداهما صفة والأخرى اسما
فالصفة أولى لأن من الناس من قال الاسم لا يجوز أن يكون علة.
والحادي عشر: أن تكون إحداهما أقل أوصافا والأخرى أكثر أوصافا
فمن أصحابنا من قال القليلة الأوصاف أولى لأنها اسلم. ومنهم
قال ما كثرت أوصافه أولى لأنها أكثر مشابهة للأصل.
والثاني عشر: أن تكون إحداهما أكثر فروعا من الأخرى فمن
أصحابنا من قال ما كثرت فروعه أولى لأنها أكثر فائدة، ومنهم من
قال هما سواء.
(1/119)
والثالث عشر: أن تكون إحداهما متعدية
والأخرى واقفة فالمتعدية أولى لأنها مجمع على صحتها والواقفة
مختلف في صحتها.
والرابع عشر: أن تكون إحداهما تطرد وتنعكس والأخرى تطرد ولا
تنعكس فالتي تطرد وتنعكس أولى لأن العكس دليل على الصحة بلا
خلاف والطرد ليس بدليل على قول الأكثر.
والخامس عشر: أن تكون إحداهما تقتضي احتياطا في فرض والأخرى لا
تقتضي الاحتياط فالتي تقتضي الاحتياط أولى لأنها أسلم في
الموجب.
والسادس عشر: أن تكون إحداهما تقتضي الحظر والأخرى تقتضي
الإباحة فمن أصحابنا من قال هما سواء ومنهم من قال التي تقتضي
الحظر أولى لأنها أحوط.
والسابع عشر: أن تكون إحداهما تقتضي النقل عن الأصل إلى شرع
والأخرى أولى تقتضي البقاء على الأصل فالناقلة أولى. ومن
أصحابنا من قال المبقية أولى والأول أصح لأن الناقلة تفيد حكما
شرعيا. والثامن عشر: أن تكون إحداهما توجب حدا والأخرى تسقطه
أو إحداهما توجب العتق والأخرى تسقطه فمن الناس من قال إن ذلك
يرجح لأن الحد مبني على الدرء والعتق على الإيقاع والتكميل،
ومنهم من قال إنه لا يرجح لأن إيجاب الحد وإسقاطه والعتق والرق
في حكم الشرع سواء. والتاسع عشر: أن تكون إحداهما يوافقها عموم
والأخرى لا يوافقها فما يوافقها العموم أولى ومن الناس من قال
التي توجب التخصيص أولى والأول أصح، لأن العموم دليل نفسه فإذا
انضم إلى القياس قواه. والعشرون: أن يكون مع إحداهما قول صحابي
فهو أولى لأن قول الصحابي حجة في قول بعض العلماء فإذا انضم
إلى القياس قواه.
(1/120)
باب القول في
الاستحسان
الاستحسان المحكي عن أبي حنيفة رحمه الله هو الحكم بما يستحسنه
من غير دليل. واختلف المتأخرون من أصحابه في معناه، فقال
بعضهم: هو تخصيص العلة بمعنى يوجب التخصيص وقال بعضهم: تخصيص
بعض الجملة بدليل يخصها. وقال بعضهم: هو قول بأقوى الدليلين
وقد يكون هذا الدليل إجماعا وقد يكون نصا وقد يكون قياسا وقد
يكون استدلالا.
فالنص: مثل قولهم: إن القياس أن لا يثبت الخيار في البيع لأنه
غرر ولكن استحسناه للخبر.
والإجماع: مثل قولهم: إن القياس أن لا يجوز دخول الحمام إلا
بأجرة معلومة لأنه انتفاع مكان ولا الجلوس فيه إلا قدرا معلوما
ولكن استحسناه للإجماع.
والقياس: مثل قولهم: فيمن حلف أنه لا يصلي: أن القياس انه يحنث
بالدخول في الصلاة لأنه يسمى مصليا ولكن استحسنا أنه لا يحنث
إلا أن يأتي بأكثر الركعة لأن ما دون أكثر الركعة لا يعتد به
فهو بمنزلة ما لو لم يكبر. والاستدلال مثل قولهم إن القياس أن
من قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أنه لا يكون حالفا
لأنه لم يحلف بالله تعالى ولكن استحسنا أنه يحنث بضرب من
الاستدلال وهو أن الهاتك للحرمة بهذا القول بمنزلة الهاتك
لحرمة قوله والله وهذا أيضا قياسا إلا أنهم يزعمون أن هذا
استدلال ويفرقون بين القياس والاستدلال فإن كان الاستحسان هو
الحكم بما يهجس في نفسه ويستحسنه من غير دليل فهذا ظاهر الفساد
لأن ذلك حكم بالهوى واتباع للشهوة والأحكام مأخوذة من أدلة
الشرع لا مما يقع في النفس وإن كان الاستحسان ما يقوله أصحابه
من أنه تخصيص العلة فقد مضى القول في ذلك ودللنا على فساده وإن
كان تخصيص بعض الجملة من الجملة بدليل يخصها أو الحكم بأقوى
الدليلين فهذا مما لا ينكره أحد فيسقط الخلاف في المسألة ويحصل
الخلاف في أعيان الأدلة التي يزعمون أنها أدلة خصوا بها الجملة
أو دليل أوقى من دليل.
(1/121)
باب القول فبي بيان
الأشياء قبل الشرع واستصحاب الحال والقول بأقل ما قيل وإيجاب
الدليل على الباقي
واختلف أصحابنا في الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع، فمنهم
من قال أنها على الوقف لا يقضي فيها بحظر ولا إباحة وهو قول
أبي علي الطبري وهو مذهب الأشعرية، ومن أصحابنا من قال هو على
الإباحة وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق، فإذا رأى شيئا جاز له
تملكه وتناوله وهو قول المعتزلة البصريين، ومنهم من قال هو على
الحظر فلا يحل له الانتفاع بها ولا التصرف فيها وهو قول أبي
علي بن أبي هريرة وهو قول المعتزلة البغداديين والأول أصح لأنه
لو كان العقل يوجب في هذه الأعيان حكما من حظر أو إباحة لما
ورد الشرع فيها بخلاف ذلك ولما جاز ورود الشرع بالإباحة مرة
وبالحظر مرة أخرى دل على أن العقل لا يوجب في ذلك حظرا ولا
إباحة.
فصل
وأما استصحاب الحال فضربان: استصحاب حال العقل واستصحاب حال
الإجماع.
فأما استصحاب حال العقل فهو الرجوع إلى براءة الذمة في الأصل
وذلك طريق يفزع إليه المجتهد عند عدم أدلة الشرع ولا ينتقل
عنها إلا بدليل شرعي ينقله عنه فإن وجد دليلا من أدلة الشرع
انتقل عنه سواء كان ذلك الدليل نطقا أو مفهوما أو نصا أو ظاهرا
لأن هذه الحال إنما استصحبها لعدم دليل شرعي فأي دليل ظهر من
جهة الشرع حرم عليه استصحاب الحال بعده.
فصل
والضرب الثاني: استصحاب حال الإجماع وذلك مثل أن يقول الشافعي
رضي الله عنه في المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته إنه
يمضي فيها لأنهم أجمعوا قبل رؤية الماء على انعقاد صلاته فيجب
أن تستصحب هذه الحال بعد
(1/122)
رؤية الماء حتى يقوم دليل ينقله عنه فهذا
اختلف أصحابنا فيه. فمنهم من قال: أن ذلك دليل وهو قول أبي بكر
الصيرفي من أصحابنا. ومنهم من قال: إن ذلك ليس بدليل وهو
الصحيح لأن الدليل هو الإجماع والإجماع إنما حصل قبل رؤية وإذا
رأى الماء فقد زال الإجماع فلا يجوز أن يستصحب حكم الإجماع في
موضع الخلاف من غير علة تجمع بينهما.
فصل
فأما القول بأقل ما قيل فهو أن يختلف الناس في حادثة على قولين
أو ثلاثة فقضى بعضهم فيها بقدر وقضى بعضهم فيها بأقل من ذلك
القدر وذلك مثل اختلافهم في دية اليهودي والنصراني. فمنهم من
قال: تجب فيه دية مسلم. ومنهم من قال: تجب فيه نصف دية مسلم.
ومنهم من قال: تجب فيه ثلث دية مسلم، فهذا الاستدلال به من
وجهين أحدهما من جهة استصحاب الحال في براءة الذمة وهو أن يقول
الأصل براءة الذمة إلا فيما دل الدليل عليه من جهة الشرع، وقد
دل الدليل على اشتغال ذمته بثلث الدية وهو الإجماع وما زاد
عليه باق على براءة الذمة فلا يجوز إيجابه إلا بدليل فهذا
استدلال صحيح لأنه استصحاب حال العقل في براءة الذمة. والثاني
أن يقول هذا القول متيقن وما زاد مشكوك فيه فلا يجوز إيجابه
بالشك، فهذا لا يصح لأنه لا يجوز إيجاب الزيادة بالشك فلا يجوز
أيضا إسقاط الزيادة بالشك.
فصل
وأما النافي للحكم فهو كالمثبت في وجوب الدليل عليه ومن
أصحابنا من قال النافي لا دليل عليه. ومن الناس من قال إن كان
ذلك في العقليات فعليه الدليل وإن كان في الشرعيات لم يكن عليه
دليل والدليل على ما قلناه هو أن القطع بالنفي لا يعلم إلا عن
دليل كما أن القطع بالإثبات لا يعلم إلا عن دليل وكما لا يقبل
الإثبات إلا بدليل فكذلك النفي.
(1/123)
باب في بيان ترتيب
استعمال الأدلة واستخراجها
واعلم أنه إذا نزلت بالعالم نازلة وجب عليه طلبها في النصوص
والظواهر في منطوقها ومفهومها وفي أفعال الرسول صلى الله عليه
وسلم وإقراره وفي إجماع علماء الأمصار فإن وجد في شيء من ذلك
ما يدل عليه قضى به وإن لم يجد طلبه في الأصول والقياس عليها
وبدأ في طلب العلة بالنص فإن وجد التعليل منصوصا عليه عمل به،
وإن لم يجد المنصوص عليه ضم إليه غيره من الأوصاف التي دل
الدليل عليها فإن لم يجد في النص عدل إلى المفهوم فإن لم يجد
في ذلك نظر في الأوصاف المؤثرة في الأصول من ذلك الحكم
واختبرها منفردة ومجتمعة فما سلم منها منفردا أو مجتمعا علق
الحكم عليه وإن لم يجد علل بالأشباه الدالة على الحكم على ما
قدمناه فإن لم يجد علل بالأشبه وإن كان ممن يرى مجرد الشبه وإن
لم تسلم له علة في الأصل علم أن الحكم مقصور على الأصل لا
يتعداه فإن لم يجد في الحادثة دليلا يدله عليها من جهة الشرع
لا نصا ولا استنباطا أبقاه على حكم الأصل في العقل على ما
قدمناه.
(1/124)
|