المحصول لابن العربي الِاسْتِثْنَاء
وَفِيه سِتّ مسَائِل
الْمَسْأَلَة الأولى فِي حُرُوفه
وَهِي خَمْسَة
إِلَّا وخلا وَعدا وَسوى وَغير
وَأمّهَا إِلَّا وَهِي تَأتي بعد الْإِثْبَات وَالنَّفْي
فَأَما إِثْبَاتهَا بعد الْإِثْبَات فعملها النصب نقُول جَاءَ
الْقَوْم إِلَّا زيدا وَقد قَالَ بعض النَّاس إِن عَملهَا
الرّفْع وَالصَّحِيح الأول
وَمَا احْتج بِهِ من الشّعْر قد تكلمنا عَلَيْهِ فِي التمحيص
وَأما إِثْبَاتهَا بعد النَّفْي فقد تَأتي وَالْفِعْل بعْدهَا
كَقَوْلِك مَا جَاءَنِي أحد إِلَّا زيد وفيهَا لُغَتَانِ
وَالْقَوْل فِي سَائِر الْحَرْف مَعْلُوم
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من شُرُوط الِاسْتِثْنَاء
أَن يكون مُتَّصِلا بالْكلَام بِخِلَاف التَّخْصِيص فَإِنَّهُ
يجوز أَن يرد بعد سنة
وعزى إِلَى حبر الْأمة ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَن
الِاسْتِثْنَاء كالتخصيص وَاحْتَجُّوا لَهُ بقوله تَعَالَى
(وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا أخر وَلَا يقتلُون
النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون وَمن
يفعل ذَلِك يلق أثاما يضعف لَهُ الْعَذَاب
(1/82)
يَوْم الْقِيَامَة ويخلد فِيهِ مهانا) نزلت
هَذِه الْآيَة فَلَمَّا كَانَ بعد سنة نزل قَوْله تَعَالَى
(إِلَّا من تَابَ) وَذَلِكَ بعيد وَالرِّوَايَة غير صَحِيحَة
وَالدَّلِيل على صِحَة ذَلِك بعيد وَالرِّوَايَة غير صَحِيحَة
وَالدَّلِيل على صِحَة ذَلِك الْقَوَاعِد الشَّرِيعَة من
الْأَيْمَان والعهود فَلَو كَانَت منحلة بِالِاسْتِثْنَاءِ بعد
عَام وَأكْثر مِنْهُ لما كَانَ لعقد الْيَمين مَحل وَلَا كَانَ
لأخذ العهود مَوضِع وَلَا كَانَ لِلْكَفَّارَةِ إِجْزَاء وَمثل
هَذِه الْقَاعِدَة لَا تنهدم بِمَا احْتَجُّوا بِهِ من
تَأْخِير الِاسْتِثْنَاء عَن الْآيَة لِأَنَّهَا كَانَت
مَوْصُولَة فِي أم الْكتاب وَفِي الْعلم الأول وفصلت فِي
إعلامنا لحكمة بَالِغَة ومثاله لَو أَن رجلا كتب يَمِينه
مستثناه وَأشْهد عَلَيْهَا ثمَّ إِنَّه أخبر بهَا مفصولة عَن
مَا كتبهَا لم يضرّهُ ذَلِك
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من شَرط الِاسْتِثْنَاء أَلا يرجع
إِلَى جَمِيع الْكَلَام السَّابِق
فَإِن رَجَعَ إِلَى معظمه قَالَ القَاضِي لَا يجوز
وَالصَّحِيح جَوَازه وَأما رُجُوعه إِلَى الْجمع فمحال
لِأَنَّهُ تناقص فِي الْكَلَام
وَقَالَ القَاضِي رُجُوعه إِلَى الْمُعظم مثله وَلَيْسَ
بِصَحِيح لِأَنَّهُ قد أبقى مَا اسْتَقل بالْخبر بلَى إِنَّه
قَبِيح لَكِن أَمر قبحه لَا يمْنَع جَوَازه كَقَوْلِه عِنْدِي
عشرَة إِلَّا خَمْسَة وَربع ثمن وَثمن سدس عشر ثمن سدس وَمَا
أشبه ذَلِك من التجزئة الرَّكِيكَة وَذَلِكَ قببيح لكنه جَائِز
المسالة الرَّابِعَة الِاسْتِثْنَاء من الِاسْتِثْنَاء جَائِز
خلافًا لبَعض النَّاس وَهُوَ إبْقَاء على الْحَالة الأولى ورد
الْكَلَام إِلَى أَوله كَقَوْلِه عِنْدِي عشرَة إِلَّا
أَرْبَعَة اثْنَيْنِ وَكَقَوْلِه لزوجته أَنْت طَالِق
(1/83)
ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَيْنِ إِلَّا وَاحِدَة
فَتكون ثِنْتَيْنِ وَقد اخبر الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن
فَقَالَ (إِلَّا الوط إِلَّا امْرَأَته)
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من شَرط الِاسْتِثْنَاء أَن يكون من
الْجِنْس
فَإِن كَانَ من غير الْجِنْس لم يفهم لُغَة وَلَا جَازَ حكما
وَقد رُوِيَ عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ فِي رجل قَالَ لَهُ
عِنْدِي مائَة دِينَار إِلَّا ثوب فَإِنَّهُ يقبل مِنْهُ ويفسر
قيمَة الثَّوْب ويحط من جملَة الْمِائَة لِأَن الْمَالِيَّة
تجمعهما وَهَذَا ضَعِيف فَإِن الِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا هُوَ
مَأْخُوذ من التَّثْنِيَة وَهُوَ التّكْرَار تَقول ثنيت كَذَا
إِذا جعلته اثْنَيْنِ وَكَيف يَصح أَن يكون ذَلِك فِي غير
الْجِنْس وَلَو سَمِعت الْعَرَب اسْتثِْنَاء من غير الْجِنْس
لما عدته من كَلَامهَا وَلَا راجعت عَلَيْهِ مخاطبها
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة
الِاسْتِثْنَاء إِذا عقب جملا اخْتلف النَّاس فِيهَا من قَالَ
إِنَّهَا ترجع إِلَى الْجمل كلهَا وهم الْأَكْثَر وَمِنْهُم من
قَالَ ترجع إِلَى آخر جملَة وَهُوَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه
وَيظْهر ذَلِك فِي مَسْأَلَتَيْنِ
أَحدهمَا شَهَادَة الْقَاذِف إِذا تَابَ قَالَ الله تَعَالَى
(فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة وَلَا تقبلُوا لَهُم
شَهَادَة أبدا) الْآيَة ثمَّ قَالَ (إِلَّا الَّذين تَابُوا)
(1/84)
وَكَذَلِكَ أَيْضا لَو قَالَ فِي
الْوَصِيَّة ثلث مَالِي للْفُقَرَاء بني بكر وتغلب وزهرة
إِلَّا من كَانَ ملحفا فِي مَسْأَلته رَجَعَ هَذَا
الِاسْتِثْنَاء عندنَا إِلَى الْجَمِيع وَرجع عِنْده إِلَى
زهرَة خَاصَّة وَهِي مَسْأَلَة نحوية لَا حَظّ لغير النَّحْو
فِيهَا وَذَلِكَ إِنَّه لَا خلاف أَن الْمَعْطُوف يُشْرك
الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فِيمَا وَقع الْخَبَر بِهِ عَنهُ وَظن
أَبُو حنيفَة أَن ذَلِك بِمَنْزِلَة الضَّمِير الَّذِي يرجع
إِلَى اقْربْ مَذْكُور فَيخْتَص بِهِ وَمِنْهَا مَا يحْتَمل
الرُّجُوع إِلَى مَا تقدم فَيحكم كَذَلِك بِهِ وَبَاب الْعَطف
بِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ لَا احْتِمَال فِيهِ لغير الِاشْتِرَاك
(1/85)
|