المحصول للرازي الكلام في العموم
والخصوص وهو مرتب على أقسام
القسم الأول في العموم وهو مرتب
على شطرين
(2/307)
الشطر الأول في
ألفاظ العموم وفيه مسائل
المسألة الأولى في العام هو
اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد كقولنا الرجال
فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له ولا يدخل عليه النكرات كقولهم
رجل لأنه يصلح لكل واحد من رجال الدنيا ولا يستغرقهم
(2/309)
ولا التثنية و (لا) الجمع لأن لفظ رجلان
ورجال يصلحان لكل اثنين وثلاثة ولا يفيدان الاستغراق ولا ألفاظ
العدد كقولنا خمسة لأنه صالح لكل خمسة ولا يستغرقه
وقولنا بحسب وضع واحد احتراز عن اللفظ المشترك أو الذي له
حقيقة ومجاز فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معا وقيل في
حده أيضا إنه اللفظة الدالة على شيئين فصاعدا من غير حصر
واحترزنا باللفظة عن المعاني العامة وعن الألفاظ المركبة
وبقولنا الدالة عن الجمع المنكر فإنه يتناول جميع الأعداد لكن
(2/310)
على وجه الصلاحية لا على وجه الدلالة
وبقولنا على شيئين عن النكرة في الإثبات وبقولنا من غير حصر عن
أسماء الأعداد والله أعلم المسألة الثانية المفيد للعموم إما
أن يفيد لغة أو عرفا أو عقلا أما الذي يفيده لغة فإما أن يفيده
على الجمع أو على البدل والذي يفيده على الجمع فإما أن يفيده
كونه اسما موضوعا للعموم أو لأنه اقترن به ما أوجب عمومه وأما
الموضوع للعموم فعلى ثلاثة أقسام الأول ما يتناول العالمين
وغيرهم وهو لفظ أي في الاستفهام والمجازاة تقول أي رجل وأي ثوب
وأي جسم في الاستفهام والمجازاة وكذا لفظ كل وجميع الثاني ما
يتناول العالمين فقط وهو من في المجازاة والاستفهام
الثالث ما يتناول غير العالمين وهو قسمان أحدهما ما يتناول كل
ما ليس من العالمين وهو صيغة ما
(2/311)
وقيل إنه يتناول العالمين أيضا كقوله تعالى
ولا أنتم عابدون ما أعبد وثانيهما ما يتناول بعض ما ليس من
العالمين وهو صيغة متى فإنها مختصة بالزمان وأنى وحيث فإنهما
مختصان بالمكان وأما الاسم الذي يفيد العموم لأجل أنه دخل عليه
ما جعله كذلك فهو إما في الثبوت أو في العدم أما الثبوت فضربان
لام الجنس الداخلة على الجمع كقولك الرجال والإضافة كقولك ضربت
عبيدي وأما العدم فكالنكرة به في النفي وأما الاسم الذي يفيد
العموم على البدل فأسماء النكرات على اختلاف مراتبها في العموم
والخصوص وأما القسم الثاني وهو الذي يفيد العموم عرفا كقوله
تعالى حرمت عليكم أمهاتكم فإنه يفيد في العرف تحريم جميع وجوه
الاستمتاع
(2/312)
وأما القسم الثالث وهو الذي يفيد العموم
عقلا فأمور ثلاثة أحدها أن يكون اللفظ مفيدا للحكم ولعلته
فيقتضي ثبوت الحكم أينما وجدت العلة
والثاني أن يكون المفيد للعموم ما يرجع إلى سؤال السائل كما
إذا سئل النبي عليه الصلاة والسلام عمن أفطر فيقول عليه
الكفارة فنعلم أنه يعم كل مفطر والثالث دليل الخطاب عند من
يقول به كقوله عليه الصلاة والسلام في سائمة الغنم زكاة فإنه
يدل على أنه لا زكاة في كل ما ليس بسائمة والله أعلم
المسألة الثالثة في الفرق بين
المطلق والعام اعلم أن كل شئ فله حقيقة وكل أمر يكون
المفهوم منه مغايرا للمفهوم من تلك الحقيقة كان لا محالة أمرا
آخر سوى تلك الحقيقة سواء كان ذلك المغاير لازما لتلك الحقيقة
أو مفارقا وسواء كان سلبا أو إيجابا
(2/313)
فالإنسان من حيث إنه إنسان ليس إلا أنه
إنسان فأما أنه واحد أو لا واحد أو كثير أو لا كثير فكل ذلك
مفهومات منفصلة عن الإنسان من حيث إنه إنسان وإن كنا نقطع بأن
مفهوم الإنسان لا ينفك عن كونه واحدا أو لا واحدا إذا عرفت ذلك
فنقول اللفظة الدالة على الحقيقة من حيث إنها هي هي من غير أن
تكون فيها دلالة على شئ من قيود تلك الحقيقة سلبا كان ذلك
القيد أو إيجابا فهو المطلق وأما اللفظ الدال على تلك الحقيقة
مع قيد الكثرة فإن كانت الكثرة كثرة معينة بحيث لا يتناول ما
يزيد عليها فهو اسم العدد وإن لم تكن الكثرة كثرة معينة فهو
العام
وبهذا التحقيق ظهر خطأ من قال المطلق هو الدال على واحد لا
بعينه فإن كونه واحدا وغير معين قيدان زائدان على الماهية
والله أعلم
(2/314)
المسألة الرابعة اختلف الناس في صيغة كل
وجميع وأي وما ومن في المجازاة والاستفهام فذهبت المعتزلة
وجماعة من الفقهاء إلى أنها للعموم فقط وهو المختار وأنكرت
الواقفية ذلك ولهم قولان فالأكثرون ذهبوا إلى أنها مشتركة بين
العموم والخصوص والأقلون قالوا لا ندري أنها حقيقة في العموم
فقط أو الخصوص فقط أو الاشتراك فقط والكلام في هذه المسألة
مرتب على فصول خمسة
(2/315)
الفصل الأول في أن
من وما وأين ومتى في الاستفهام للعموم
فنقول هذه الصيغ إما أن تكون للعموم فقط أو للخصوص فقط أولهما
على سبيل الاشتراك أو لا لواحد منهما والكل باطل إلا الأول أما
أنه لا يجوز أن يقال إنها موضوعة للخصوص فقط فلأنه لو كان كذلك
لما حس من المجيب أن يجيب بذكر كل العقلاء لأن الجواب
يجب أن يكون مطابقا للسؤال لكن لا نزاع في حسن ذلك وأما أنه لا
يجوز القول بالاشتراك فلأنه لو كان كذلك لما حسن الجواب إلا
بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قيل من
عندك فلا بد أن تقول تسألني عن الرجال أو عن النساء فإذا قال
عن الرجال فلا بد أن تقول تسألني عن العرب أو عن
(2/317)
العجم فإذا قال عن العرب فلا بد أن تقول
تسألني عن ربيعة أو عن مضر وهلم جرا إلى أن تأتي على جميع
التقسيمات الممكنة وذلك لأن اللفظ إما أن يقال أنه مشترك بين
الاستغراق وبين مرتبة معينة في الخصوص أو بين الاستغراق وبين
جميع المراتب الممكنة والأول باطل لأن أحدا لم يقل به والثاني
يقتضي أن لا يحسن من المجيب ذكر الجواب إلا بعد الاستفهام عن
كل تلك الأقسام لأن الجواب لا بد وأن يكون مطابقا للسؤال فإذا
كان السؤال محتملا لأمور كثيرة فلو أجاب قبل أن يعرف ما عنه
وقع السؤال لاحتمل أن لا يكون الجواب مطابقا للسؤال وذلك غير
جائز فثبت أنه لو صح الاشتراك لوجبت هذه الاستفهامات لكنها غير
واجبة أما أولا فلأنه لا عام إلا وتحته عام آخر وإذا كان كذلك
كانت التقسيمات الممكنة غير متناهية والسؤال عنها على سبيل
التفصيل محال وأما ثانيا فلأنا نعلم بالضرورة من عادة أهل
اللسان أنهم يستقبحون مثل هذه الاستفهامات وأما أنه لا يجوز أن
تكون هذه الصيغة غير موضوعة للعموم
ولا للخصوص فمتفق عليه
(2/318)
فبطلت هذه الأقسام الثلاثة ولم يبق إلا
القسم الأول وهو الحق فإن قيل لا نسلم أنها غير موضوعة للخصوص
قوله لو كان كذلك لما حسن الجواب بذكر الكل قلنا متى إذا وجدت
مع اللفظ قرينة تجعله للخصوص أو إذا لم توجد الأول ممنوع
والثاني مسلم بيانه أن من الجائز أن تكون هذه الصيغة موضوعة
للخصوص إلا أنه قد يقترن بها من القرائن ما يصير المجموع
للعموم لجواز أن يكون حكم المركب مخالفا لحكم المفرد سلمنا ذلك
فلم لا يكون مشتركا قوله لو كان كذلك لوجبت الاستفهامات قلنا
لم لا يجوز أن يقال هذه اللفظة لا تنفك عن قرينة دالة على
(2/319)
المراد بعينه فلا جرم لا يحتاج إلى تلك
الاستفهامات سلمنا إمكان خلوه عن تلك القرينة لكن متى يقبح
الجواب بذكر الكل إذا كان ذكر الكل مفيدا لما هو المطلوب
بالسؤال على كل التقديرات أو إذا لم يكن الأول ممنوع والثاني
مسلم بيانه أن السؤال إما أن يكون قد وقع عن الكل أو عن البعض
فإن وقع عن الكل كان ذكر الكل هو الواجب
وإن وقع عن البعض فذكر الكل يأتي على ذلك البعض فيكون ذكر الكل
مفيدا لحصول المقصود على كل التقديرات وذكر البعض ليس كذلك
فكان ذكر الكل أولى سلمنا أن الاشتراك يوجب تلك الاستفهامات
لكن لا نسلم أنها لا تحسن ألا ترى أنه إذا قيل من عندك حسن منه
أن يقول أعن الرجال تسألني أم عن النساء أعن الأحرار أم عن
العبيد غاية ما في الباب أن يقال الاستفهام عن كل الأقسام
الممكنة غير جائز لكنا نقول
(2/320)
ليس الاستدلال بقبح بعض تلك الاستفهامات
على عدم الاشتراك أولى من الاستدلال بحسن بعضها على الاشتراك
وعليكم الترجيح سلمنا أن ما ذكرتم يدل على قولكم لكنه معارض
بأن هذه الصيغ لو كانت للعموم فقط لما حسن الجواب إلا بقوله لا
أو نعم لأن قوله من عندك تقديره أكل الناس عندك ومعلوم أن ذلك
لا يجاب إلا بلا أو بنعم فكذلك ها هنا والجواب قوله الصيغة وإن
كانت حقيقة في الخصوص لكن لم لا يجوز أن يقترن بها ما يصير
المجموع للعموم قلنا لثلاثة أوجه الأول أن هذا يقتضي أنه لو لم
توجد تلك القرينة أن لا يحسن الجواب بذكر الكل ونحن نعلم
بالضرورة من عادة أهل اللغة حسن ذلك سواء وجدت قرينة أخرى أم
لم توجد الثاني أن هذه القرينة لا بد وأن تكون معلومة للسامع
والمجيب معا
لأنه يستحيل أن تكون تلك القرينة طريقا إلى العلم بكون هذه
الصيغة للعموم مع أنا لا نعرف تلك القرينة
(2/321)
ثم تلك القرينة إما أن تكون لفظا أو غيره
والأول باطل لأنه إذا قيل لنا من عندك حسن منا أن نجيب بذكر كل
من عندنا وإن لم نسمع من السائل لفظة أخرى والثاني باطل أيضا
لأنا لا نعقل قسما آخر وراء اللفظ يدل على مقصود المتكلم إلا
الإشارة وما يجري مجراها من تحريك العين والرأس وغيرهما وكل
ذلك مما لا يطلع الأعمى عليه مع أنه يحسن منه أن يجيب بذكر
الكل الثالث أن من كتب إلى غيره فقال من عندك حسن منه الجواب
بذكر الكل مع أنه لم يوجد في الكتبة شئ من القرائن وبهذه
الوجوه خرج الجواب أيضا عن قوله إنما لم يحسن الاستفهام عن
جميع الأقسام لأن اللفظ لا ينفك عن القرينة الدالة وأيضا فقد
إنعقد الإجماع على أن اللفظ المشترك يجوز خلوه عن جميع القرائن
المعينة قوله إنما حسن الجواب بذكر الكل لأن المقصود حاصل على
كل التقديرات قلنا يلزم منه لو قال من عندك من الرجال أن يحسن
منه ذكر النساء مع الرجال لأن تخصيص الرجال بالسؤال عنهم لا
يدل على أنه لا حاجة
(2/322)
به إلى السؤال عن النساء فلما لم يحسن في
هذا فكذا فيما ذكرتموه وأيضا فكما أنه يحتمل أن يكون غرضه من
السؤال ذكر الكل أمكن أن يكون غرضه السؤال عن البعض مع السكوت
عن الباقين قوله قد يحسن الاستفهام عن بعض الأقسام فليس
الاستدلال بقبح البعض على نفي الاشتراك أولى من الاستدلال بحسن
البعض على ثبوت الاشتراك قلنا قد ذكرنا أنه ليس في الأمة أحد
يقول بأن هذه الصيغ مخصوصة ببعض مراتب الخصوص دون البعض فلو
كانت حقيقة في الخصوص لكانت حقيقة في كل مراتب الخصوص ولو كان
كذلك لوجب الاستفهام عن كل تلك المراتب فلما لم يكن كذلك علمنا
فساد القول بالاشتراك فأما حسن بعض الاستفهامات فلا يدل على
وقوع الاشتراك لما سنذكر إن شاء الله تعالى أن للاستفهام فوائد
أخر سوى الاشتراك قوله لو كانت هذه الصيغة للعموم لما حسن
الجواب إلا بلا أو نعم قلنا لا نسلم وذلك لأن السؤال ها هنا ما
وقع عن التصديق
(2/323)
حتى يكون جوابه بلا أو بنعم بل إنما وقع عن
التصور فقوله من عندك معناه اذكر لي جميع من عندك من الأشخاص
ولا تبق أحدا إلا وتذكره لي ومعلوم أنه يحسن الجواب عن هذا
السؤال بلا أو بنعم والله أعلم
(2/324)
الفصل الثاني
في أن صيغة من وما في المجازاة للعموم ويدل عليه ثلاثة أوجه
الأول أن قوله من دخل داري فأكرمه لو كان مشتركا بين الخصصوص
والاستغراق لما حسن من المخاطب أن يجري على موجب الأمر إلا عند
الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة لكنه حسن فدل على عدم
الاشتراك وتقريره ما تقدم في الفصل الأول الوجه الثاني إنه إذا
قال من دخل داري فأكرمه حسن منه استثناء كل واحد من العقلاء
والعلم بحسن ذلك من عادة أهل اللغة ضروري والاستثناء يخرج من
الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك لأنه لا نزاع في
(2/325)
أن المستثنى من الجنس لا بد وأن يصح دخوله
تحت المستثنى منه فإما أن لا يعتبر مع الصحة الوجوب أو يعتبر
والأول باطل وإلا لكان يبقى بين الاستثناء من الجمع المنكر
كقوله جاءني فقهاء إلا زيدا وبين الاستثناء من الجمع المعرف
كقوله جاءني الفقهاء إلا زيدا فرق لصحة دخول زيد في الخطابين
لكن الفرق معلوم بالضرورة من عادة العرب فعلمنا أن الاستثناء
من الجمع المعرف يقتضي إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ
وهو المطلوب فإن قيل ينتقض دليلكم بأمور ثلاثة أحدها جموع
القلة كالأفعل والأفعال والأفعلة والفعلة
وجمع السلامة فإنه للقلة بنص سيبوية مع أنه يصح استثناء كل
واحد من أفراد ذلك الجنس عنها
(2/326)
وثانيها أنه يصح أن يقال اصحب جمعا من
الفقهاء إلا فلانا ومعلوم أن ذلك المستثنى لا يجب أن يكون
داخلا تحت ذلك المنكر وثاليها ثم إنه يصح أن يقال صل إلا اليوم
الفلاني ولو كان الاستثناء يقتضي إخراج ما لولاه لدخل لكان
الأمر مقتضيا للفعل في كل الأزمنة فكان الأمر يفيد الفور
والتكرار وأنتم لا تقولون بهما سلمنا سلامته عن النقض لكن لا
نسلم أن قوله من دخل داري أكرمه يحسن استثناء وكل واحد من
العقلاء منه فإنه لا يحسن منه أن يستثنى الملائكة والجن
واللصوص ولا يحسن أن يقول إلا ملك الهند وملك الصين سلمنا حسن
ذلك ولكن لم يدل على العموم قوله المستثنى يجب صحة دخوله تحت
المستثنى منه فإما أن يكون الوجوب معتبرا مع هذه الصحة أو لا
يكون قلنا لا نسلم أن المستثنى يجب صحة دخوله تحت المستثنى منه
فإن استثناء الشئ من غير جنسه جائز
(2/327)
سلمناه لكن لم قلت إنه لا بد من الوجوب
قوله لو لم يكن الوجوب معتبرا لما بقي فرق بين الاستثناء من
الجمع المنكر وبين الاستثنا من الجمع المعرف قلنا نسلم أنه لا
بد من فرق لكن لا نسلم أنه لا فرق إلا ما
ذكرتموه سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على الوجوب لكن معنا ما يدل
على أن الصحة كافية وبيانه من وجهين الأول أن الصحة أعم من
الوجوب فيكون حمل اللفظ على الصحة حملا له على ما هو أعم فائدة
الثاني أن القائل اذا قال لغيره أكرم جمعا من العلماء واقتل
فرفة من الكفار حسن أن يستثنى كل واحد من العلماء والكفار
فيقول إلا فلانا وفلانا ولو كان الاستثناء يخرج ما لولاه لوجب
دخوله فيه لوجب أن يكون اللفظ المنكر للاستغراق سلمنا أن ما
ذكرتموه يقتضي أن تكون صيغة من للعموم لكن لا يجب أن يكون
الأمر كذلك بيانه أن الاستدلال بالمقدمتين المذكورتين على
النتيجة إنما يصح لو ثبت أنه لا تجوز المناقضة على واضع اللغة
إذا لو جازت المناقضة عليه
(2/328)
جاز ان يقال إنهم حكموا بهاتين المقدمتين
اللتين توجبان عليهم أن يحكموا بأن صيغة من للعموم ولكنهم
لعلهم لم يحكموا بها لأنهم لم يحترزوا عن المناقضة بلى لو ثبت
أن اللغات توفيقية اندفع هذا السؤال سلمنا أن صحة الاستثناء من
هذه الصيغ دالة على أنها للعموم لكنها تدل على أنها ليست
للعموم من وجه آخر وذلك لأنها لو كانت للعموم لكان الاستثناء
نقضا على ما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى والجواب أما النقض
بجموع القلة فلا نسلم أنه يحسن استثناء أي عدد شئنا منه مثلا
لا يجوز أن يقول أكلت الأرغفة إلا ألف
رغيف وتوافقنا على أنه يجوز استثناء أي عدد شئنا من صيغة من في
المجازاة مثل أن يقول من دخل داري أكرمته إلا أهل البلدة
الفلانية قوله ينتقض بقوله اصحب جمعا من الفقهاء إلا زيدا قلنا
هب أن الاستثناء من الجمع المنكر يخرج من الكلام ما لولاه لصح
دخوله فيه فلم قلت إن في سائر الصور كذلك قوله يلزم أن تكون
صيغة الأمر للتكرار قلنا لم لا يجوز أن يكون اقتران الاستثناء
بلفظ الأمر قرينة دالة على دلالة الأمر على التكرار
(2/329)
قوله لا يحسن استثناء الملائكة واللصوص
وملك الهند وملك الصين قلنا لأن المقصود من الاستثناء خروج
المستثنى من الخطاب وقد علم من دون الاستثناء خروج هذه الأشياء
من الخطاب ولهذا لو لم يعلم خروجها منه لحسن الاستثناء ألا ترى
أنه لو كان الخطاب صادرا عن الله تعالى لحسن منه تعالى هذا
الاستثناء مثل أن يقول إني أطعم من خلقت إلا الملائكة وأنظر
بعين الرحمة إلى جميع خلقي إلا الملوك المتكبرين قوله لم قلت
إنه يجب صحة دخول المستثنى تحت المستثنى منه قلنا لأن الإجماع
منعقد على ذلك في استثناء الشئ من جنسه فلا يتوجه جواز
الاستثناء من غير الجنس
(2/330)
ولأن الاستثناء مشتق من الثني وهو الصرف
وإنما يحتاج إلى الصرف لو كان بحيث لولا الصارف لدخل قوله لم
قلت إنه لا فرق بين الاستثناء من الجمع المنكر ومن الجمع
المعرف إلا ما ذكرت قلنا لأن الجمع المنكر هو لاذي يدل على جمع
يصلح أن يتناول كل واحد من الأشخاص فلو كان الجمع المعرف كذلك
لم يبق بين الأمرين فرق وحينئذ لا يبقى بين الاستثناء من
الجمعين فرق قوله حمل الاستثناء على الصحة أولى لكونها أعم
فائدة قلنا يعارضه أن حمله على الوجوب أولى لأن الصحة جزء من
الوجوب فلو حملناه على الوجوب لكنا قد أفدنا به الصحة والوجب
معا ولو حملناه على الصحة وحدها لم نفد به الوجوب أصلا والجمع
بين الدليلين بقدر الإمكان واجب قوله الاستثناء من الجمع
المنكر ليس إلا لدفع الصحة
(2/331)
قلنا هب أنه كذلك فلم قلت أن الاستثناء من
صيغة من وما في المجازاة كذلك قوله لم قلت إن التناقض على
الواضعين لا يجوز قلنا لأن الأصل عدم التناقض على العقلاء لا
سيما وقد قرر الله تعالى ذلك الوضع قوله لو كانت الصيغة للعموم
لكان الاستثناء نقضا قلنا سيجئ الجواب عنه إن شاء الله تعالى
فهذا أقصى ما يمكن تمحله رسول في هذه الطريقة الوجه الثالث لما
أنزر ولا الله تعالى قوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب
جهنم قال ابن الزبعري لأخصمن محمدا ثم أتى النبي ص فقال يا
محمد أليس قد عبدت الملائكة أليس قد عبد عيسى فتمسك بعموم
اللفظ ولم ينكر النبي ص ذلك حتى نزل قوله تعالى إن الذين سبقت
لهم منا الحسنى
(2/332)
فإن قلت السؤال كان خطأ لأن ما لا تتناول
العقلاء قلت لا نسلم لقوله تعالى والسماء وما بناها والأرض وما
طحاها ونفس وما سواها والله أعلم
(2/335)
الفصل الثالث في أن صيغة الكل والجميع
تفيدان الاستغراق ويدل عليه وجوه الأول أن قوله جاءني كل فقيه
في البلد يناقضه قوله ما جاءني كل فقيه في البلد ولذلك يستعمل
كل واحد منهما في تكذيب الآخر والتناقض لا يتحقق إلا إذا أفاد
الكل الاستغراق لأن النفي عن البعض لا يناقض الثبوت في البعض
الثاني أن صيغة الكل مقابلة في اللفظ لصيغة البعض ولولا أن
صيغة الكل غير محتملة للبعض وإلا لما كانت مقابلة لها الثالث
أن الرجل إذا قال ضربت كل من في الدار وعلم أن في الدار
عشرة ولم يعرف سوى هذه اللفظة أعني أنه لم يعرف أن في الدار
أباه وغيره ممن يغلب على الظن أنه لا يضربه بل جوز أن يضربهم
كلهم فإن الأسبق إلى الفهم الاستغراق ولو كانت لفظة الكل
مشتركة بين الكل
(2/337)
والبعض لما كان كذلك لأن اللفظ المشترك لما
كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية امتنع أن تكون مبادرة
الفهم إلى أحدهما أقوى منها إلى الآخر الرابع أن يتمسك بسقوط
الاعتراض عن المطيع وتوجهه على العاصي أما الأول فهو أن السيد
إذا قال لعبده كل من دخل اليوم داري فأعطه رغيفا فلو أعطى كل
داخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه حتى أنه لو أعطى رجلا قصيرا
فقال له لم أعطيته مع أني أردت الطوال فللعبد أن يقول ما
أمرتني بإعطاء الطوال وإنما أمرتني بإعطاء من دخل وهذا قد دخل
وكل عاقل سمع هذا الكلام رأي اعتراض السيد ساقطا وعذر العبد
متوجها وأما الثاني فهو أن العبد لو أعطى الكل إلا واحدا فقال
له السيد لم لم تعطه فقال لأنه طويل وكان لفظك عاما فقلت لعلك
أردت القصار استوجب التأديب بهذا الكلام
(2/338)
الخامس إذا قال أعتقت كل عبيدي وإمائي ومات
في الحال ولم يعلم منه أمر آخر سوى هذه الألفاظ حكم بعتق كل
عبيده وإمائه
ولو قال غانم حر وله عبدان اسمهما غانم وجبت المراجعة
والاستفهام فعلمنا عدم الاشتراك السادس إنا ندرك تفرقة بين
قولنا جاءني فقهاء وبين قولنا جاءني كل الفقهاء ولولا دلالة
الثاني على الاستغراق وإلا لما بقي الفرق السابع معلوم أن أهل
اللغة إذا أرادوا التعبير عن معنى الاستغراق فزعوا إلى استعمال
لفظة الكل والجميع ولا يستعملون الجموع المنكرة ولولا أن لفظة
الكل والجميع موضوعة للاستغراق وإلا لكان استعمالهم هاتين
اللفظتين عند إرادة الاستغراق كاستعمالهم للجموع المنكرة فإن
قلت في جميع هذه المواضع إنما حكمنا بالعموم للقرينة قلت كل ما
تفرضونه من القرائن أمكننا فرض عدمه مع بقاء الأحكام المذكورة
وأيضا لو قيل كل من قال لك جيم فقل له دال فها هنا لا قرينة
تدل على هذه الأحكام مع أن العموم مفهوم منه
(2/339)
وأيضا فلو كتب في كتاب وقال اعملوا بما فيه
حكم بالعموم مع عدم القرينة وأيضا الأعمى يفهم العموم من هذه
الألفاظ مع أنه لا يعرف القرائن المبصرة وأما المسموعة فهي
منفية لأنا فرضنا الكلام فيمن سمع هذه الألفاظ ولم يسمع شيئا
آخر الثامن لما سمع عثمان رضي الله عنه قول لبيد
وكل نعيم لا محالة زائل قال كذبت فإن نعيم الجنة لا يزول فلولا
أن قوله أفاد العموم وإلا لما توجه عليه التكذيب والله أعلم
(2/340)
الفصل الرابع في أن النكرة في سياق النفي
تعم وذلك لوجهين الأول أن الإنسان إذا قال اليوم أكلت شيئا فمن
أراد تكذيبه قال ما أكلت اليوم شيئا فذكرهم هذا النفي عند
تكذيب ذلك الإثبات يدل على اتفاقهم على كونه مناقضا له ولو كان
قوله ما أكلت اليوم شيئا لا يقتضي العموم لما ناقضه لأن السلب
الجزئي لا يناقض الإيجاب الجزئي مثاله من كتاب الله أن اليهود
لما قالت ما أنزل الله على بشر من شئ قال تعالى قل من أنزل
الكتاب الذي جاء به موسى وإنما أورد الله تعالى هذا الكلام
نقضا لقولهم الثاني لو لم تكن النكرة في النفي للعموم لما كان
قولنا لا إله إلا الله نفيا لجميع الآلهة سوى الله تعالى.
(2/343)
تنبيه النكرة في الآيات إذا كانت خبرا لا
تقتضي العموم كقولك جاءني رجل وإذا كان أمرا فالأكثرون على أنه
للعموم كقوله أعتق رقبة
والدليل عليه أنه يخرج عن عهدة الأمر بفعل أيها كان ولولا أنها
للعموم وإلا لما كان كذلك
(2/344)
الفصل الخامس في شبه
منكري العموم احتجوا بأمور أولها العلم
بكون هذه الصيغ موضوعة للعموم إما أن يكون ضروريا وهو باطل
وإلا وجب اشتراك العقلاء فيه أو نظريا وحينئذ لا بد فيه من
دليل وذلك الدليل إما أن يكون عقليا وهو محال لأنه لا مجال
للعقل في اللغات أو نقليا وهو إما أن يكون متواترا أو آحادا
والمتواتر باطل وإلا لعرفه الكل والآحاد باطل لأنه لا يفيد إلا
الظن والمسألة علمية وثانيها أن هذه الألفاظ مستعملة في
الاستغرا لم تارة وفي الخصوص أخرى وذلك يدل على الاشتراك بيان
المقدمة الأولى أن القائل اذا قال من دخل داري أهنته أو أكرمته
فإنه قلما يريد به العموم وإذا قال لقيت العلماء وقصدت الشرفاء
فقد يريد به العموم تارة والخصوص أخرى
(2/345)
بيان المقدمة الثانية من وجهين الأول أن
الظاهر من استعمال اللفظ في شئ كونه حقيقة فيه إلا أن يدلونا
بدليل قاطع على أنهم باستعماله فيه متجوزون لأنا
لو لم نجعل ذلك طريقا إلى كون اللفظ حقيقة في المسمى لتعذر
علينا أن نحكم بكون لفظ ما حقيقة في معنى ما إذ لا طريق إلى
كون اللفظ حقيقة سوى ذلك الثاني هو أن هذه الألفاظ لو لم تكن
حقيقة في الاستغراق والخصوص لكان مجازا في أحدهما واللفظ لا
يستعمل في المجاز إلا مع قرينة وذلك خلاف الأصل وأيضا فتلك
القرينة إما أن تعرف ضرورة أو نظرا والأول باطل وإلا لامتنع
وقوع الخلاف فيه والثاني أيضا باطل لأنا لما نطرنا ابن في أدلة
المثبتين لهذه القرينة لم نجد فيها ما يمكن التعويل عليه
(2/346)
وثالثها أن هذه الألفاظ لو كانت موضوعة
للاستغراق لما حسن أن يستفهم المتكلم به لأن الاستفهام طلب
الفهم وطلب الفهم عند حصول المقتضى للفهم عبث لكن من المعلوم
أن من قال ضربت كل من في الدار أنه يحسن أن يقال اضربتهم قوله
بالكلية وأن يقال أضربت أباك فيهم ورابعها أنها لو كانت
للاستغراق لكان تأكيدها عبثا لأنها تفيد عين الفائدة الحاصلة
من المؤكد وخامسها أنها لو كانت للاستغراق لكان الاستثناء نقضا
وبيانه من وجهين الأول أن المتكلم قد دل على الاستغراق بأول
كلامه ثم بالاستثناء رجع عن الدلالة على الكل إلى البعض فكان
نقضا وجاريا
مجرى ما يقال ضربت كل من في الدار لم أضرب كل من في الدار
الثاني أن لفظة العموم لو كانت موضوعة للاستغراق لجرت لفظة
العموم مع الاستثناء مجرى تعديد الأشخاص واستثناء الواحد منهم
بعد ذلك في القبح كما اذا قال ضربت زيدا ضربت عمرا وضربت
(2/347)
خالدا ثم يقول إلا زيدا فلما لم يكن كذلك
دل حسن الاستثناء على أن جنس هذه الصيغ ليست للاستغراق وسادسها
أن صيغة من وما وأي في المجازاة يصح إدخال لفظ الكل عليها تارة
والبعض أخرى تقول كل من دخل داري فأكرمه بعض من دخل داري
فأكرمه ولو دلت تلك الصيغة على الاستغراق لكان إدخال الكل
عليها تكريرا وسابعها لو كانت لفظة من للاستغراق لامتنع جمعها
لأن الجمع يفيد أكثر مما يفيده الواحد ومعلوم أنه ليس بعد
الاستغراق كثرة فيفيدها الجمع لكن يصح جمعها لقول الشاعر أتوا
ناري فقلت منون أنتم فقالوا الجن قلت عموا ظلاما والجواب عن
الأول لا نسلم أنه غير معلوم بالضرورة فإنا بعد
(2/348)
استقراء اللغات نعلم بالضرورة أن صيغ كل
وجميع ومن وما وأي في الاستفهام والجزاء للعموم سلمناه فلم لا
يجوز أن يعرف بالعقل قوله لا مجال للعقل في اللغات
قلنا ابتداء أم بواسطة الاستعانة بمقدمات نقلية الأول مسلم
والثاني ممنوع فلم قلت إنه لم توجد مقدمات نقلية يستنتج العقل
منها ثبوت الحكم في هذه المسألة سلمناه فلم لا يجوز أن يعرف
ذلك بالآحاد قوله المسألة قطعية قلنا لا نسلم كيف وقد بينا أن
القطع لا يوجد في اللغات إلا نادرا والجواب عن الثاني لا نزاع
في أن هذه الألفاظ قد تستعمل في الخصوص ولكنك إن ادعيت أنه لا
يوجد الاستعمال إلا إذا كان حقيقة بطل قولك بالمجاز
(2/349)
وإن سلمت أنه قد يوجد الاستعمال حيث لا
حقيقة فحينئذ تعذر الاستدلال بالاستعمال على كونه حقيقة فإن
قلت أستدل بالاستعمال مع أن المجاز خلاف الأصل على كونه حقيقة
فيه قلت قولك المجاز خلاف الأصل لا يفيد إلا الظن وعندك
المسألة قطعية يقينية وأيضا فكما أن المجاز خلاف الأصل فكذلك
الاشتراك وقد تقدم في كتاب اللغات أنه إذا وقع التعارض بينهما
كان دفع الاشتراك أولى وأما قوله أولا لو لم يجعل هذا طريقا
إلى كون اللفظ حقيقة لم يبق لنا إليه طريق أصلا
قلنا قد بينا فساد هذا الطريق فإن لم يكن ها هنا طريق آخر إلى
الفرق بين الحقيقة والمجاز وجب أن يقال إنه لا طريق إلى ذلك
الفرق لأن ما ظهر فساده لا يصير صحيحا لأجل فساد غيره قوله
ثانيا ذلك الطريق إما أن يعرف بالضرورة أو بالدليل والضرورة
باطلة لوقوع الخلاف والدليل باطل لأنا لم نجد في أدلة الخالفين
ما يدل عليه
(2/350)
قلنا الضروري لا ينكره الجمع العظيم من
العقلاء وقد ينكره النفر اليسير ولا نسلم أن الجمع العظيم من
أهل اللغة نازعوا في أن لفظ الكل وأي للعموم سلمنا ذلك لكن لا
نسلم أنه لو يوجد ما يدل على كونها مجازا في الخصوص قوله نظرنا
في أدلة المخالفين فلم نجد فيها ما يدل على ذلك قلنا عدم
الوجدان لا يدل على عدم الوجود واعلم أن الشريف المرتضى عول
على هذه الطريقة ومن تأمل كلامه فيها علم أنه في أكثر الأمر
يدور على المطالبة بالدلالة على كون هذه الصيغة مجازا في
الخصوص مع أنه شرع فيها شروع المستدل على كونها حقيقة في
الاستغراق والخصوص والجواب عن الثالث لا نسلم أن حسن الاستفهام
لا يكون إلا عند
(2/351)
الاشتراك فما الدليل عليه ثم الدليل على
أنه قد يكون لغيره وجهان الأول أنه لو كان حسن الاستفهام لأجل
الاشتراك لوجب أن لا
يحسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة على ما
قررناه في الفصل الأول الثاني أن الاستفهام قد يجاب عنه بذكر
ما عنه وقع الاستفهام كما لو قال القائل ضربت القاضي فيقال له
أضربت القاضي فيقول نعم ضربت القاضي ولا شك في حسن هذا
الاستفهام في العرف فثبت بهذين الوجهين أن الاستفهام قد يحسن
لا مع الاشتراك ثم نقول الاستفهام إما أن يقع ممن يجوز عليه
السهو أو ممن لا يجوز عليه ذلك والأول قد يحسن لوجوه أربعة
أخرى غير الذي ذكروه أحدها أن السامع ربما ظن أن المتكلم غير
متحفظ في كلامه أو هو كالساهي فيستفهمه ويستبينه له حتى إن كان
ساهيا زال سهوه وأخبره عن تيقظ ولذلك يحسن أن يجاب عن
الاستفهام بعين ما وقع عنه الاستفهام
(2/352)
وثانيها أن يظن السامع لأجل أمارة أن
المتكلم قد أخبر بكلامه العام عن جماعة على سبيل المجازفة
ويكون السامع شديد العناية بذلك فتدعوه شدة عنايته إلى
الاستفهام عن ذلك الشئ لكي يعلم المتكلم اهتمام السامع به فلا
يجازف في الكلام ولهذا قد يقول القائل رأيت كل من في الدار
فإذا قيل له أرأيت زيدا فيهم فقال نعم زالت التهمة لأن اللفظ
الخاص أقل إجمالا وربما لم يتحقق رؤيته فيدعوه ما رآه من
اهتمام المستفهم إلى أن يقول لا أتحقق رؤيته
وثالثها أن يستفهم طلبا لقوة الظن ورابعها أن توجد هناك قرينة
تقتضي تخصيص ذلك العموم مثل أن يقول ضربت كل من في الدار وكان
فيها الوزير فغلب على الظن أنه ما ضربه فإذا حصل التعارض
استفهمه ليقع الجواب عنه بلفظ خاص لا يحتمل التخصيص
(2/353)
وأما إن وقع ممن لا يجوز عليه السهو فذاك
لأن دلالة الخاص أقوى من دلالة العام فيطلب الخاص بعد العام
تحصيلا لتلك القوة والجواب عن الرابع من حيث المعارضة ومن حيث
التحقيق أما المعارضة فمن ثلاثة أوجه أحدها تأكيد الخصوص
كقولهم جاء زيد نفسه وثانيها تأكيد ألفاظ العدد كقوله تعالى
تلك عشرة كاملة وثالثها إن التأكيد تقوية ما كان حاصلا فلو كان
الحاصل هو الاشتراك لتأكد ذلك الاشتراك بهذا التأكيد فإن قلت
التأكيد يعين اللفظ لأحد مفهوميه قلت هذا لا يكون تأكيدا بل
بيانا وأما من حيث التحقيق فهو أن المتكلم إما أن يجوز عليه
السهو أو
(2/354)
لا يجوز فإجاز ذلك كان حسن التأكيد لوجوه
أحدها أن السامع إذا سمع اللفظ بدون تأكيد جوز مجازفة المتكلم
فإذا أكده صار ذلك التجويز أبعد
وثانيها أنه ربما حصل هناك ما يقتضي تخصيص العام فإذا اقترن به
التأكيد كان احتمال الخصوص أبعد وثالثها تقوية بعض ألفاظ
العموم ببعض وأما إن لم يجز السهو على المتكلم لم يكن للتأكيد
فائدة إلا تقوية الظن والجواب عن الخامس أنه منقوض بألفاظ
العدد فإنها صريحة في ذلك العدد المخصوص ثم يتطرق الاستثناء
إليها ثم الفرق بين ما ذكروه من الصورتين وبين مسألتنا ان
الاستثناء إذا اتصل بالكلام صار جزءا من الكلام فتصير الجملة
شيئا واحدا مفيدا لأنه لا يستقل بنفسه في الإفادة فيجب تعليقه
بما يقدم عليه فإذا علقناه به صار جزءا من الكلام فتصير الجملة
شيئا واحدا مفيدا وفائدته محمد إرادة ما عدا المستثنى بخلاف
قوله ضربت كل من في الدار لم أضرب كل من في الدار لأن ها هنا
كل واحد من الكلامين مستقل بنفسه فلا حاجة إلى تعليقه بما تقدم
عليه وإذا لم يتعلق به أفاد الأول ضرب جميع من في الدار وأفاد
الآخر نفي ذلك فكان نقضا وأما الثاني فنطالبهم بالجامع
(2/355)
ثم الفارق أن الاستثناء إخراج جزء من كل
فإذا قال ضربت زيدا وضربت عمرا إلا زيدا انصرف قوله إلا زيدا
إلى زيد لا إلى عمرو لأن زيدا ليس بجزء منهم فكان نقضا بخلاف
قوله رأيت الكل إلا زيدا لأن زيدا جزء من الكل فظهر الفرق
والجواب عن السادس أن حكم المفرد يجوز أن يخالف حكم
المركب فيجوز أن يكون شرط إفادة لفظة من للعموم انفرادها عن
لفظ البعض معها بل لم يكن شرط إفادتها للعموم حاصلا فلا جرم لم
يلزم النقض والجواب عن السابع أن أهل اللغة اتفقوا على أن ذلك
ليس جمعا وإنما هو إشباع الحركة لسبب آخر مذكور في كتب النحو
المسألة الخامسة لا خلاف في أن الجمع المعرف بلام الجنس ينصرف
إلى المعهود لو كان هناك معهود
(2/356)
أما إذا لم يكن فهو للاستغراق خلافا
للواقفية وأبي هاشم لنا وجوه الأول أن الأنصار لما طلبوا
الإمامة احتج عليهم أبو بكر رضي الله عنه بقوله ص الأئمة من
قريش والأنصار سلموا تلك الحجة ولو لم يدل الجمع المعرف بلام
الجنس على الاستغراق لما صحت تلك الدلالة لأن قوله ص الأئمة من
قريش لو كان معناه بعض الأئمة من قريش لوجب أن لا ينافي وجود
إمام من قوم آخرين أما كون كل الآئمة من قريش فينافي كون بعض
الأئمة من غيرهم
(2/357)
وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأبي بكر
رضي الله عنه لما هم بقتال مانعي الزكاة أليس قال النبي ص أمرت
أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله احتج عليهم بعموم
اللفظ ثم لم يقل أبو
بكر ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم إن اللفظ لا يفيده بل
عدل إلى الاستثناء فقال أليس أنه عليه السلام قال إلا بحقها
وإن الزكاة من حقها الثاني إن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي
الاستغراق فوجب أن يفيد في أصله الاستغراق أما انه يؤكد فلقوله
تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون وأما أنه بعد التأكيد يقتضي
الاستغراق فبالإجماع
(2/358)
وأما أنه متى كان كذلك وجب أن يكون المؤكد
في أصله للاستغراق فلأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد إجماعا
والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتا في الأصل فلو لم يكن
الاستغراق حاصلا في الأصل وإنما حصل بهذه الألفاظ ابتداءا لم
يكن تأثير هذه الألفاظ في تقوية هذ الحكم الأصلي بل في إعطاء
حكم جديد فكانت مبينة للمجمل لا مؤكدة وحيث اجمعوا على انها
مؤكدة اعلمنا اقتضاء الاستغراق كان حاصلا في الاصل فإن قيل هذا
الاستدلال على خلاف النص لأن سيبويه نص على أن جمع السلامة
للقلة وما يكون للقلة لا يكون للاستغراق ثم ينتقض بجمع القلة
فإنه يجوز تأكيده بهذه المؤكدات وأيضا فعند الكوفيين يجوز
تأكيد النكرات كقوله قد صرت البكرة يوما أجمعا
(2/359)
والنكرة لا تفيد الاستغراق والجواب أنه لا
بد من التوفيق بين نص سيبويه وبين ما ذكرناه من الدليل فنصرف
قول سيبويه إلى جمع السلامة إذا كان منكرا وما ذكرناه من
الدليل إلى المعرف ونمنع جواز تأكيد جمع القلة وكذا تأكيد
النكرات على قول البصريين الثالث الألف واللام إذا دخلا في
الاسم صار معرفة كذا نقل عن أهل اللغة فيجب صرفه إلى ما به
تحصل المعرفة وإنما تحصل المعرفة عند إطلاقه بالصرف إلى الكل
لأنه معلوم للمخاطب فأما الصرف إلى ما دونه فانه لا يفيد
المعرفة لأن بعض الجموع ليس أولى من بعض فكان مجهولا فإن قلت
إذا أفاد جمعا من هذا الجنس فقد أفاد تعريف ذلك الجنس قلت هذه
الفائدة كانت حاصلة بدون الألف واللام لأنه لو قال رأيت رجالا
أفاد تعريف ذلك الجنس وتمييزه عن غيره فدل أن للألف واللام
فائدة زائدة وما هي إلا الاستغراق
(2/360)
الرابع أنه يصح استثناء أي واحد كان منه
وذلك يفيد العموم على ما تقدم الخامس الجمع المعرف في اقتضاء
الكثرة فوق المنكر لأنه يصح انتزاع المنكر من المعرف ولا ينعكس
فإنه يجوز أن يقال رجال من الرجال ولا يجوز أن يقال الرجال من
رجال ومعلوم بالضرورة أن المنتزع منه أكثر من المنتزع
وإذا ثبت هذا فنقول المفهوم من الجمع المعرف إما الكل أو ما
دونه والثاني باطل لأنه ما من عدد دون الكل إلا ويصح انتزاعه
من الجمع المعرف وقد عرفت أن المنتزع منه أكثر ولم بطل ذلك ثبت
أنه للكل والله أعلم احتجوا بأمور أولها لو كانت هذه الصيغة
للاستغراق لكانت إذا استعملت في العهد لزم إما الاشتراك وإما
المجاز وهما على خلاف الأصل فوجب أن لا يفيد الاستغراق البتة
وثانيها ولكان قولنا رأيت كل الناس أو بعض الناس خطأ لأن الأول
تكرير والثاني نقض وثالثها يقال جمع الأمير الصاغة مع أنه ما
جمع الكل والأصل في الكلام الحقيقة فهذه الألفاظ حقيقة فيما
دون الاستغراق فوجب أن لا تكون حقيقة في الاستغراق دفعا
للاشتراك
(2/361)
والجواب عن الأول أن الألف واللام للتعريف
فينصرف إلى ما السامع به أعرف فإن كان هناك عهد فالسامع به
أعرف فانصرف إليه وإن لم يكن هناك عهد كان السامع أعرف بالكل
من البعض لأن الكل واحد والبعض كثير مختلف فانصرف إلى الكل
وأيضا لا يبعد أن يقال إذا أريد به العهد كان مجازا إلا أنه لا
يحمل عليه إلا بقرينة وهي العهد بين المتخاطبين وهذا أمارة
المجاز وعن الثاني أن دخول لفظتي الكل والبعض لا يكون تكريرا
ولا
نقضا بل يكون تأكيدا أو تخصيصا وعن الثالث أن ذلك تخصيص بالعرف
كما في قوله من دخل داري أكرمته فإنه لا يتناول الملائكة
واللصوص والله أعلم المسألة السادسة الجمع المضاف كقولنا عبيد
زيد للاستغراق والدليل عليه ما تقدم وأما الكناية كقوله فعلوا
فإنه يقتضي مكنيا عنه والمكني
(2/362)
عنه قد يكون للاستغراق وقد لا يكون كذلك
فالكناية عنه أيضا تكون كذلك المسألة السابعة إذا أمر جمعا
بصيغة الجمع أفاد الاستغراق فيهم والدليل عليه ان السيد إذا
أشار إلى جماعة من غلمانه بقوله قوموا فليس يتخلف عن القيام
أحد إلا استحق الذم وذلك يدل على أن اللفظ للشمول ولا يجوز أن
يضاف ذلك إلى القرينة لأن تلك القرينة أن كانت من لوازم هذه
الصيغة فقد حصل مرادنا وإلا فلنفرض هذه الصيغة مجردة عنها
ويعود الكلام والله أعلم
(2/363)
الشطر الثاني من هذا القسم فيما ألحق
بالعموم وليس منه
(2/365)
المسألة الأولى
الواحد المعرف بلام الجنس لا يفيد العموم خلافا للجبائي
والفقهاء والمبرد لنا وجوه الأول أن الرجل إذا قال لبست الثوب
وشربت الماء لا يتبادر إلى الفهم الاستغراق الثاني لا يجوز
تأكيده بما يؤكد به الجمع فلا يقال جاءني الرجل كلهم أجمعون
الثالث لا ينعت بنعوت الجمع فلا يقال جاءني الرجل القصار وتكلم
الفقيه الفضلاء فأما ما يروى من قولهم أهلك الناس الدرهم البيض
والدينار الصفر فمجاز بدليل أنه لا يطرد وأيضا فالدينار الصفر
إن كان حقيقة فالدينار الأصفر مجاز كما أن الدينار الصفر لما
كان حقيقة كان الدينار الأصفر إما خطأ أو مجازا الرابع البيع
جزء من مفهوم هذا البيع وإحلال هذا البيع يتضمن إحلال البيع
فلو كان لفظ البيع مقتضيا للعموم لزم من إحلال هذا البيع إحلال
كل بيع ومعلوم أن ذلك باطل
(2/367)
فإن قلت لم لا يجوز أن يقال اللفظ المطلق
إنما يفيد العموم بشرط العراء عن لفظ التعيين أو يقال اللفظ
المطلق وإن اقتضى العموم إلا أن لفظ التعيين يقتضي خصوصه قلت
أما الأول فباطل لأن العدم لا مدخل له في التأثير
وأما الثاني فلأنه يقتضي التعارض وهو خلاف الأصل الخامس هو أنا
قد بينا أن الماهية غير ووحدتها غير وكثرتها غير والاسم المعرف
لا يفيد إلا الماهية وتلك الماهية تتحقق عند وجود فرد من
أفرادها لأن هذا الإنسان مشتمل على الإنسان مع قيد كونه هذا
فالآتي بهذا الإنسان آت بالإنسان فالإتيان بالفرد الواحد من
تلك الماهية يكفي في العمل بذلك النص فظهر أن هذا اللفظ لا
دلالة له على العموم البته احتجوا بوجوه أحدها أنه يجوز أن
يستثنى منه الآحاد التي تصلح أن تدخل تحته لقوله تعالى إن
الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا والاستثناء يخرج من الكلام ما
لولاه لوجب دخوله فيه وذلك يدل على كون هذا اللفط
(2/368)
وثانيها أن الألف واللام للتعريف وليس ذلك
لتعريف الماهية فإن ذلك قد حصل بأصل الاسم ولا لتعريف واحد
بعينه فإنه ليس في اللفظ دلالة عليه اللهم إلا عند المعهود
السابق وكلامنا فيما إذا لم يوجد ذلك ولا لتعريف بعض مراتب
الخصوص فإنه ليس بعض تلك المراتب أولى من بعض فلا بد من الصرف
إلى الكل وثالثها أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعملية
فقوله تعالى وأحل الله البيع مشعر بأنه إنما صار حلالا لكونه
بيعا وذلك يقتضي أن يعم الحكم لعموم العلة
ورابعها أنه يؤكد بما يؤكد به العموم كقوله كل الطعام كان حلا
لبني إسرائيل وذلك يدل على أنه للعموم وخامسها أنه ينعت بما
ينعت به العموم كقوله تعالى والنخل باسقات وكقوله أو الطفل
الذين وكل ذلك يدل على أنه للعموم والجواب عن الأول أن ذلك
الاستثناء مجاز بدليل أنه يقبح أن
(2/369)
يقال رأيت الإنسان إلا المؤمنين ولو كان
حقيقة لاطرد ويمكن أن يقال إن الخسران لما لزم كل الناس إلا
المؤمنين جاز هذا الاستثناء وعن الثاني أن لام الجنس تفيد
تعيين الماهية لا تعيين الكلية وقد عرفت أن نفس الماهية لا
تقتضي الكلية وعن الثالث أن ذلك اعتبار مغاير للتمسك بنفس
اللفظ ونحن لا ننكر ذلك والله أعلم المسألة الثانية الكلام في
الجمع المنكر ينفرع على الكلام في أقل الجمع وقد اختلفوا فيه
فذهب القاضي والأستاذ أبو اسحاق وجمع من الصحابة والتابعين إلى
أن أقل الجمع اثنان وقال أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله ثلاثة
وهو المختار
(2/370)
لنا وجوه الأول أن أهل اللغة فصلوا بين
التثنية والجمع كما فصلوا بين الواحد والجمع فكما فرقنا بين
الواحد والجمع وجب أن نفرق بين التثنية
والجمع الثاني أن صيغة الجمع تنعت بالثلاثة فما فوقها وبالعكس
يقال جاءني رجال ثلاثة وثلاثة رجال ولا تنعت بالاثنين فلا يقال
رجال اثنان ولا اثنان رجال الثالث أن أهل اللغة فصلوا بين ضمير
التثنية وضمير الجمع فقالوا في الاثنين فعلا وفي الثلاثة فعلوا
وفي الأمر الاثنين افعلا وفي الجمع افعلوا اجتجوا أبو بالقرآن
والخبر والمعقول أما القرآن فبقوله تعالى وكنا لحكمهم شاهدين
والمراد داود وسليمان
(2/371)
وبقوله تعالى إذ تسوروا المحراب وكانا
اثنين لقوله تعالى خصمان وبقوله إذ دخلوا على داوود ففزع منهم
قالوا لا تخف خصمان وبقوله عز وجل في قصة موسى وهارون إنا معكم
مستمعون وبقوله تعالى حكاية عن يعقوب عسى الله أن يأتيني بهم
جميعا والمراد يوسف وأخوه وبقوله تعالى وإن طائفتان من
المؤمنين اقتتلوا وبقوله تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت
قلوبكما وأما الخبر فقوله ص الاثنان فما فوقهما جماعة
(2/372)
وأما المعقول فهو أن معنى الاجتماع حاصل في
الاثنين
والجواب عن الأول أنه تعالى كنى عن المتحاكمين مضافا إلى
كنايته عن الحاكم عليهما فإن المصدر قد يضاف إلى المفعول وإذا
اعتبرنا المتحاكمين مع الحاكم كانوا ثلاثة وأما قوله تعالى إذ
تسوروا المحراب مع قوله خصمان فجوابه أن الخصم في اللغة للواحد
والجمع كالضيف يقال هذا خصمي وهؤلاء خصمي وهذا ضيفي وهؤلاء
ضيفي قال الله تعالى إن هؤلاء ضيفي
(2/373)
وهو الجواب عن التمسك بقوله تعالى هذان
خصمان اختصموا وقوله ففزع منهم وأما قوله تعالى إنا معكم
مستمعون فالمراد موسى وهارون وفرعون وأما قوله تعالى عسى الله
أن يأتيني بهم جميعا فالمراد به يوسف وأخوه والأخ الثالث الذي
قال فلن أبرح الآرض حتى يأذن لي أبي وقوله تعالى وإن طائفتان
من المؤمنين اقتتلوا فكل طائفة جمع وأما قوله تعالى فقد صغت
قلوبكما فجوابه أنه قد يطلق اسم القلب على الميل الموجود في
القلب فيقال للمنافق إنه ذو لسانين وذو وجهين وذو قلبين ويقال
للذي لا يميل إلا إلى الشئ الواحد له قلب واحد ولسان واحد ولما
خالفتا أمر الرسول ص ونمتا أو بأمر مارية وقع في قلبيهما دواع
مختلفة وأفكار متباينة فصح أن يكون المراد من القلوب هده
الدواعي وإذا صح ذلك وجب حمل اللفظ عليها لأن القلب لا يوصف
بالصغو) وإنما يوصف الميل به
(2/374)
وأما الحديث فهو محمول على إدراك فضيلة
الجماعة وقيل إنه ص نهى عن السفر إلا في جماعة ثم بين أن
الاثنين فما قوقهما عبد جماعة في جواز السفر وأما المعقول
فجوابه أن البحث ما وقع عما تفيده لفظة الجمع بل عما يتناوله
لفظ الرجال والمسلمين عليه فأين أحدهما من الآخر والله أعلم
المسألة الثالثة الجمع المنكر يحمل عندنا على أقل الجمع وهو
الثلاثة خلافا للجبائي فإنه قال يحمل على الاستغراق
(2/375)
لنا أن لفظ رجال يمكن نعته بأي جمع شئنا
فيقال رجال ثلاثة وأربعة وخمسة فمفهوم قولك رجال يمكن جعله
مورد التقسيم لهذه الأقسام والمورد للتقسيم بالأقسام يكون
مغايرا لكل واحد من تلك الأقسام وغير مستلزم لها فاللفظ الدال
على ذلك المورد لا يكون له إشعار بتلك الأقسام فلا يكون دالا
عليها وأما الثلاثة فهي مما لابد منها فثبت أنها تفيد الثلاثة
فقظ احتج الجبائي بأن حمله على الاستغراق حمل له على جميع
حقائقه وذلك أولى من حمله على بعض حقائقه
(2/376)
والجواب أن مسمى هذا الجمع الثلاثة من غير
بيان عدم الزائد
ووجوده ولا شك أنه قدر مشترك بين الثلاثة فقط وبين الآربعة وما
فوقها وقد بينا أن اللفظ الدال على ما به الاشتراك بين أنواع
لا دلالة فيه البتة على شئ من تلك الأنواع فضلا عن أن يكون
حقيقة فيها فبطل قوله إن حمل هذا اللفظ على الاستغراق يقتضي
حمله على جميع حقاقه أبي والله أعلم المسألة الرابعة قوله
تعالى لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يقتضي نفي
الاستواء في جميع الأمور حتى في القصاص لوجهين الأول أن نفي
الاستواء أعم من نفي الاستواء من كل الوجوه أو من بعضها والدال
على القدر المشترك بين القسمين لا إشعار فيه بهما الثاني أنه
إما أن يكفي في إطلاق لفظ المساواة الاستواء من بعض الوجوه أو
لا بد فيه من الاستواء من كل الوجوه
(2/377)
والأول باطل وإلا لوجب إطلاق لفظ
المتساويين على جميع الأشياء لأن كل شيئين فلا بد وأن يستويا
في بعض الأمور من كونهما معلومين ومذكورين وموجودين وفي سلب ما
عداهما عنهما ومتى صدق عليه المساوي وجب أن يكذب عليه غير
المساوي لأنهما في العرف كالمتناقضين (فإن من قال هذا يساوي
ذاك فمن أراد تكذيبه قال إنه لا يساويه والمتناقضان لا يصدقان
معا فوجب أن لا يصدق على شيئين البته أنهما متساويان وغير
متساويين ولما كان ذلك باطلا علمنا أنه
يعتبر في المساواة المساواة من كل الوجوه وحينئذ يكفي في نفي
المساواة نفي الاستواء من بعض الوجوه لأن نقيض الكلي هو الجزئي
فإذن قولنا لا يستويان لا يفيد نفي الاستواء من جميع الوجوه
والله أعلم
(2/378)
المسألة الخامسة إذا قال الله تعالى يا
أيها النبي فهذا لا يتناول الأمة
(2/379)
وقال قوم ما يثبت في حقه يثبت في حق غيره
إلا ما دل الدليل على أنه من خواصه وهؤلاء إن زعموا أن ذلك
مستفاد من اللفظ فهو جهالة وإن زعموا أنه مستفاد من دليل آخر
وهو قوله تعالى وما آاتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
وما يجري مجراه فهو خروج عن هذه المسألة لأن الحكم عنده إنما
وجب على الأمة لا بمجرد الخطاب المتناول للنبي فقط بل بالدليل
الآخر وإذا ثبت ذلك ثبت أيضا أن الخطاب المتناول بوضعه للأمة
لا يتناول الرسول ص المسألة السادسة اللفظ الذي يتناول المذكر
والمؤنث إما أن يكون مختصا بهما وهو كلفظ الرجال للذكور
والنساء للإناث أو لا يكون وهو على قسمين أحدهما ما لا يتبين
فيه تذكير ولا تأنيث كصيغة من وهذا يتناول الرجال والنساء
ومنهم من أنكره لنا انعقاد الإجماع على إنه إذا قال من دخل
الدار من أرقائي
(2/380)
فهو حر فهذا لا يتخصص بالعبيد وكذا لو أوصى
بهذه الصيغة أو ربط بها توكيلا أو إذنا في قضية من القضايا
احتجوا بقول العرب من منان منون منة منتان منات والجواب أن ذلك
وإن كان جائزا إلا أنهم اتفقوا على أن الأصح استعمال لفظ من في
الذكور والإناث القسم الثاني ما تتبين فيه علامات التذكير
والتأنيث كقولنا قام قاما قاموا قامت قامتا قمن واتفقوا على أن
خطاب الإناث لا يتناول الذكور واختلفوا في أن خطاب الذكور هل
يتناول الإناث والحق لا لنا أن الجمع تضعيف الواحد وقولنا قام
لا يتناول المؤنث فقولنا قاموا الذي هو تضعيف قولنا قام وجب أن
لا يتناول المؤنث
(2/381)
احتجوا بأن أهل اللغة قالوا إذا اجتمع
التذكير والتأنيث غلب التذكير والجواب ليس المراد ما ذكرتموه
بل المراد أنه متى أراد مريد أن يعبر عن الفريقين بعبارة واحدة
كان الواجب هو التذكير والله أعلم المسألة السابعة إذا لم يمكن
إجراء الكلام على ظاهر إلا بإضمار شئ فيه ثم هناك أمور كثيرة
يستقيم الكلام بإضمار أيها كان لم يجز إضمار جميعها وهذا
هو المراد من قولنا المقتضي لا عموم له مثاله قوله عليه السلام
رفع عن أمتي الخطأ والنسيان فهذا الكلام لا يمكن إجراؤه على
ظاهره بل لابد وأن نقول المراد رفع عن أمتي حكم الخطأ ثم ذلك
الحكم قد يكون في الدنيا كإيجاب الضمان وقد يكون في الآخرة
كرفع التأثيم فنقول إنه لا يجوز إضمارهما لا معا
(2/382)
لنا أن الدليل ينفي جواز الإضمار خالفناه
في الحكم الواحد لأجل الضرورة ولا ضرورة في غيره فيقى على
الأصل وللمخالف أن يقول ليس إضمار أحد الحكمين بأولى من الآخر
فإما أن لا تضمر حكما أصلا وهو غير جائز أو تضمر الكل وهو
المطلوب المسألة الثامنة المشهور من قول فقهائنا أنه لو قال
والله لا آكل فإنه يعم جميع المأكولات والعام يقبل التخصيص فلو
نوى مأكولا دون مأكول صحت نيته وهو قول أبي يوسف
(2/383)
وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يقبل
التخصيص ونظر أبي حنيفة رحمه الله فيه دقيق وتقريره أن نية
التخصيص لو صحت لصحت إما في الملفوظ أو في غيره والقسمان
باطلان فبطلت تلك النية
وإنما قلنا أنه لا يصح اعتبار نية التخصيص في الملفوظ لأن
الملفوظ هو الأكل والأكل ماهية واحدة لأنها قدر مشترك بين أكل
هذا الطعام وأكل ذلك الطعام وما به الاشتراك غير ما به
الامتياز وغير مستلزم له فالأكل من حيث إنه أكل مغاير لقيد
كونه هذا الأكل وذاك وغير مستلزم له والمذكور إنما هو الأكل من
حيث هو أكل وهو بهذا الاعتبار ماهية واحدة والماهية من حيث
إنها هي لا تقبل العدد فلا تقبل التخصيص بل الماهية إذا اقترنت
بها العوارض الخارجية حتى صارت هذا أو ذاك تعددت فهناك صارت
محتملة للتخصيص ولكنها قبل تلك العوارض لا تكون متعددة فلا
تكون محتملة للتخصيص فالحاصل أن الملفوظ ليس إلا الماهية وهي
غير قابلة للتخصيص فأما إذا أخذت الماهية مع قيود زائدة عليها
تعددت وحينئذ
(2/384)
تصير محتملة للتخصيص لكن تلك الزوائد غير
ملفوظة فالمجموع الحاصل منها ومن الماهية غير ملفوظ فيكون
القابل لنية التخصيص شيئا غير ملفوظ وهذا هو القسم الثاني
فنقول هذا القسم وأن كان جائزا عقلا إلا أنا نبطله بالدليل
الشرعي فنقول إضافة ماهية الأكل إلى الخبز تارة وإلى اللحم
أخرى إضافات تعرض لها بحسب اختلاف المفعول به وإضافتها إلى هذا
اليوم وذلك وهذا الموضع وذاك إضافات عارضة لها بحسب اختلاف
المفعول فيه ثم أجمعنا على أنه لو نوى التخصيص بالمكان والزمان
لم يصح فكذا التخصيص بالمفعول به والجامع رعاية الاحتياط في
تعظيم
اليمين حجة أصحاب الشافعي رضي الله عنه أجمعنا على أنه لو قال
إن أكلت أكلا أو غسلت غسلا صحت نية التخصيص فكذا إذا قال إن
أكلت لأن الفعل مشتق من المصدر والمصدر موجود فيه
(2/385)
والجواب أن المصدر هو الماهية وقد بينا
أنها لا تحتمل التخصيص وأما قوله أكلت أكلا فهذا في الحقيقة
ليس مصدرا لأنه يفيد أكلا واحدا منكرا والمصدر ماهية الأكل
وقيد كونه واحدا منكرا ليس وصفا قائما به بل معناه أن القائل
ما عينه والذي يكون متعينا في نفسه لكن القائل ما عينه فلا شك
أنه قابل للتعيين فإذا نوى التعيين فقد نوى ما يحتمله اللفظ
فهذا ما عندي في هذا الفصل المسألة التاسعة قال الشافعي رضي
الله عنه ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل
منزلة العموم في المقال
(2/386)
مثاله أن ابن غيلان أسلم على عشر نسوة فقال
عليه الصلاة والسلام أمسك أربعا وفارق سائرهن ولم يسأله عن
كيفية ورود عقده عليهن في الجمع أو الترتيب فكان إطلاقه القول
دالا على أنه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معا أو على
الترتيب وهذا فيه نظر لاحتمال أنه ص عرف خصوص الحال فأجاب بناء
(2/387)
على معرفته ولم يستفصل والله أعلم المسألة
العاشرة العطف على العام لا يقتضي العموم لأن مقتضى العطف مطلق
الجمع وذلك جائز بين العام والخاص قال الله تعالى والمطلقات
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وهذا عام وقوله تعالى وبعولتهن أحق
بردهن خاص المسألة الحادية عشرة كل حكم يدل عليه بصيغة
المخاطبة كقوله تعالى يأيها الذين
(2/388)
آمنوا يأيها الناس فهو خطاب مع الموجودين
في عصر الرسول ص وذلك لا يتناول من يحدث بعدهم إلا بدليل منفصل
يدل على أن حكم من يأتي بعد ذلك كحكم الحاضرين لأن الذين
سيوجدون بعد ذلك ما كانوا موجودين في ذلك الوقت ومن لم يكن
موجودا في ذلك الوقت لا يكون إنسانا ولا مؤمنا في ذلك الوقت
ومن لا يكون كذلك لا يتناوله الخطاب المتناول للإنسان والمؤمن
فإن قيل وما الذي يدل على العموم قلنا الحق أنه معلوم بالضرورو
أن في دين محمد ص وذكروا فيه طريقين آخرين الأول التمسك بقوله
تعالى وما أرسلناك إلا كافة للناس وقوله عليه السلام بعثت إلى
الناس كافة وقوله بعثت إلى الأسود والأحمر
(2/389)
وقوله ص حكمي على الواحد حكمي على الجماعة
الثاني أنه ص متى أراد اتخصيص على بين كما قال لأبي بردة بن
نيار يجزئ عنك ولا يجزئ أحدا بعدك
(2/391)
وخص عبد الرحمن بن عوف بحل لبس الحرير فحيث
لا يتبين التخصيص نعلم العموم
(2/392)
ولقائل أن يعترض على الأول بأن لفظ الناس
والجماعة والأسود والأحمر لا يتناول إلا الموجود ين فيختص
بالحاضرين وعلى الثاني بأن ذكر التخصيص إنما يحتاج إليه لو جرى
لفظ يوهم العموم لكنا قلنا إن الخطاب مشافهة لا يحتمل أن يدخل
فيه الذين سيوجدون بعد ذلك فلا حاجة فيه إلى بيان التخصيص
المسألة الثانية عشرة قول الصحابي نهى رسول الله ص عن بيع
الغرر لا يفيد العموم
(2/393)
لأن الحجة في المحكي لا في الحكاية والذي
رآه الصحابي حتى روى النهي عنه يحتمل أن يكون خاصا بصورة واحدة
وأن يكون عاما ومع الاحتمال لا يجوز القطع بالعموم وأيضا قول
الصحاب قضى رسول الله ص بالشاهد واليمين لا
(2/394)
يفيد العموم وكذا القول فيما إذا قال
الصحابي سمعت النبي ص يقول قضيت بالشفعة للجار لاحتمال كونه
حكاية عن قضاء لجار
(2/395)
معروف وتكون الألف واللام للتعريف وقوله
قضيت حكاية عن فعل معين ماض فأما قوله ص قضيت بالشفعة للجار
وقول الراوي أنه ص قضى
(2/396)
بالشفعة للجار فالاحتمال فيهما قائم ولكن
جانب العموم أرجح المسألة الثالثة عشرة قول الراوي كان رسول
الله ص يجمع بين الصلاتين في السفر
(2/397)
لا يقتضي العموم لأن لفظ كان لا يفيد إلا
تقدم الفعل فأما التكرار فلا ومنهم من قال إنه يفيد التكرار في
العرف لأنه لا يقال كان فلان يتهجد بالليل إذا تهجد مرة واحدة
في عمره المسألة الرابعة عشرة إذا قال الراوي صلى ص بعد الشفق
(2/399)
فقال قائل الشفق شفقان الحمرة والبياض وأنا
أحمله على وقوعه بعدهما جميعا فهذا خطأ لأن اللفظ المشترك لا
يمكن حمله على مفهوميه معا كما تقدم أما المتواطئ فمثاله قول
الراوي صلى رسول الله ص في الكعبة فلا يمكن أن يستدل به على
جواز أداء الفرض في البيت لأنه
(2/400)
إنما يعم لفظ الصلاة لا فعلها فذاك الواقع
إن كان فرضا لم يكن نفلا وبالعكس فلا يدل على العموم المسألة
الخامسة عشرة قال الغزالي رحمه الله المفهوم لا عموم له لأن
العموم لفظ تتشابه دلالته بالإضافة إلى مسمياته ودلالة المفهوم
ليست لفظية فلا يكون لها عموم والجواب إن كنت لا تسميه عموما
لأنك لا تطلق لفظ العام إلا على الألفاظ فالنزاع لفظي وإن كنت
تعني أنه لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع ما عداه فباطل لأن
البحث عن أن المفهوم هل له عموم أم لا فرع على أن المفهوم حجة
ومتى ثبت كونه حجة لزم القطع بانتفاء الحكم عما عداه لأنه لو
ثبت الحكم في غير المذكور لم يكن لتخصيصه بالذكر فائدة والله
أعلم.
(2/401)
بسم الله الرحمن الرحيم جميع الحقوق محفوظة
للناشر الطبعة الثالثة 1418 هـ / 1997 م حقوق الطبع محفوظة
1992 م.
لا يسمع باعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من
الاشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو الكتروني يمكن
من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه.
ولا يسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى
دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر.
(3/2)
المحصول في علم أصول الفقه للامام الأصولي
النظار المسفر فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 544 -
606 هـ / 1149 هـ - 1209 م دراسة وتحقيق الدكتور طه جابر فياض
العلواني الجزء الثالث مؤسسة الرسالة
(3/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
(3/4)
القسم الثاني في
الخصوص وفيه مسائل
(3/5)
المسألة الأولى حد التخصيص على مذهبنا
إخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه وعند الواقفية إخراج بعض ما صح
أن يتناوله الخطاب سواء كان الذي صح واقعا أم لم يكن واقعا
وأما قولنا العام المخصوص فمعناه أنه استعمل في بعض ما وضع له
وعند الواقفية أن المتكلم أراد به بعض ما يصلح له ذلك اللفظ
دون البعض وأما الذي به يصير العام خاصا فهو قصد المتكلم لأنه
إذا قصد بإطلاقه تعريف بعضما تناوله اللفظ أو بعض ما يصلح أن
يتناوله على اختلاف المذهبين فقد خصه
(3/7)
وأما المخصص للعموم فيقال على سبيل الحقيقة
على شئ واحد وهو إرادة صاحب الكلام لأنها هي المؤثرة في إيقاع
ذلك الكلام لإفادة البعض فإنه إذا جاز أن يرد الخطاب خاصا وجاز
أن يرد عاما
لم يترجح أحدهما على الآخر إلا بالإرادة ويقال بالمجاز على
شيئين أحدهما من أقام الدلالة على كون العام مخصوصا في ذاته
وثانيهما من اعتقد ذلك أو وصفه به كان ذلك الاعتقاد حقا أو
باطلا المسألة الثانية في الفرق
بين التخصيص والنسخ النسخ لا معنى له إلا تخصيص الحكم
بزمان معين بطريق خاص فيكون الفرق بين التخصيص والنسخ فرق ما
بين العام والخاص لكن
(3/8)
الناس اعتبروا في التخصيص أمورا لفظية
أخرجوه لأجلها عن جنس النسخ وتلك الأمور خمس أحدها أن التخصيص
لا يصح إلا فيما يتناوله اللفظ والنسخ قد يصح فيما علم بالدليل
انه مراد وإن لم يتناوله اللفظ وثانيهما أن نسخ شريعة بشريعة
أخرى يصح وتخصيص شريعة بشريعة أخرى لا يصح وثالثها أن النسخ
رفع الحكم بعد ثبوته والتخصيص ليس كذلك ورابعها أن الناسخ أن
يكون متراخيا والمخصص لا يجب أن يكون متراخيا
سواء وجبت المقارنة أو لم تجب على اختلاف القولين وخامسها أن
التخصيص قد يقع بخبر الواحد والقياس والنسخ لا يقع بهما وأما
الفرق بين التخصيص والاستثناء فهو فرق ما بين العام والخاص
عندي
(3/9)
ومنهم من تكلف بينهما فروقا أحدها أن
الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظة الواحدة الدالة على شئ واحد
فالسبعة مثلا لها اسمان سبعة وعشرة إلا ثلاثة والتخصيص ليس
كذلك وثانيها أن التخصيص يثبت بقرائن الأحوال فإنه إذا قال
رأيت الناس دلت القرينة على أنه ما رأى كلهم والاستثناء لا
يحصل بالقرينة وثالثها أن التخصيص يجوز تأخيره لفظا والاستثناء
لا يجوز فيه ذلك وهذه الوجوه متكلفة والحق أن التخصيص جنس تحته
أنواع كالنسخ والاستثناء وغيرهما
المسألة الثالثة فيما يجوز تخصيصه وما لا يجوز الذي
يتناول الواحد لا يجوز تخصيصه لأن التخصيص عبارة عن أخراج
البعض عن الكل والواحد لا يعقل ذلك فيه
(3/10)
وأما الذي يتناول أكثر من وا حد فعمومه إما
من جهة اللفظ ويصح تطرق التخصيص إليه وإما من جهة المعنى وهو
أمور ثلاثة أحدمها أن العلة الشرعية هل يجوز تخصيصها وسيأتي
الكلام فيه في باب القياس إن شاء الله تعالى وثانيها مفهوم
الموافقة كدلالة حرمة التأفيف على حرمة الضرب والتخصيص فيه
جائز إذا لم يعد بالنقض على الملفوظ مثل تقييد الأم إذا فجرت
وضرب الوالد إذا ارتد ولا يجوز إذا عاد بالنقض عليه وثالثها
مفهوم المخالفة فإنه يفيد في المسكوت عنه انتفاء مثل حكم
المذكور ويجوز أن تقوم الدلالة على ثبوت مثل حكم المذكور لبعض
المسكوت عنه المسألة الرابعة يجوز إطلاق اللفظ العام لإرادة
الخاص أمرا كان أو خبرا خلافا لقوم
(3/11)
لنا الدليل على جوازه وقوعه في القرآن
كقوله تعالى اقتلوا المشركين الله خالق
كل شئ ويقال في العرف جاءني كل الناس والمراد أكثرهم احتجوا
بأنه إذا أريد بالخبر العام بعضه أو هم الكذب ولو كان جواز
حمله على التخصيص مانعا من كونه كذبا لما وجد في الدنيا كذب
وجواز التخصيص في الأمر يوهم البداء والجواب إذا علمنا أن
اللفظ في الأصل محتمل للتخصيص فقيام الدلالة على وقوعه لا يوجب
الكذب ولا البداء والله أعلم المسألة الخامسة في الغاية التي
لا يمكن أن ينتهي تخصيص العموم إلى أقل منها
(3/12)
اتفقوا في ألفاظ الاستفهام والمجازاة على
جواز انتهائها في التخصيص إلى الواحد واختلفوا في الجمع المعرف
بالألف واللام فزعم القفال أنه لا يجوز تخصيصه بما هو أقل من
الثلاثة ومنهم من جوز انتهائه إلى الواحد ومنع أبو الحسين من
ذلك في جميع ألفاظ العموم وأوجب أن يراد بها كثرة وإن لم يعلم
قدرها إلا الله أن يستعمل في حق الواحد على سبيل التعظيم
والإبانة فإن ذلك الواحد يجري مجرى الكثير وهو الأصح أما أنه
لا بد من بقاء الكثرة فلأن الرجل لو قال أكلت كل ما في الدار
من الرمان وكان فيها ألف وكان قد أكل رمانة واحدة أو ثلاثة
عابه أهل اللغة ولو قال كل من دخل داري أكرمته ثم قال أردت به
زيدا
وحده عابه أهل اللغة احتج من جوز ذلك بأن استعمال العام في غير
الاستغراق استعمال له في غير ما وضع له فليس جواز استعماله في
البعض أولى منه في البعض الآخر فوجب
(3/13)
جواز استعماله في جميع الأقسام إلى أن
ينتهي إلى الواحد والجواب لا نسلم أنه ليس بعض المراتب أولى من
بعض وتقريره ما ذكرناه وأما أنه يجوز استعماله في حق الواحد
على سبيل التعظيم فلقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وقوله
فقدرنا فنعم القادرون المسألة السادسة اختلفوا في أن العام
الذي دخله التخصيص هل هو مجاز أم لا فقال قوم من الفقهاء إنه
لا يصير مجازا كيف كان التخصيص وقال أبو علي وأبو هاشم يصير
مجازا كيف كان التخصيص ومنهم من فصل وذكر فيه وجوها والمختار
قول أبي الحسين رحمه الله وهو أن القرينة المخصصة إن استقلت
بنفسها صارت مجازا وإلا فلا تقريره أن القرينة المخصصة
المستقلة ضربان عقلية ولفظية
(3/14)
أما العقلية فكالدلالة قال الدالة على أن
غير القادر غير مراد بالخطاب بالعبادات وأما اللفظية فيجو أن
يقول المتكلم بالعام أردت به البعض
الفلاني وفي هذين القسمين يكون العموم مجازا والدليل عليه أن
اللفظ موضوع في اللغة للاستغراق فإذا استعمل هو بعينه في البعض
فقد صار اللفظ مستعملا في جزء مسماه لقرينة مخصصة وذلك هو
المجاز فان قلت لم لا يجوز أن يقال لفظ العموم وحده حقيقة في
الاستغراق ومع القرينة المخصصة حقيقة في الخصوص قلت فتح هذا
الباب يفضي إلى أن لا يوجد في الدنيا مجاز أصلا لأنه لا لفظ
إلا ويمكن أن يقال إنه وحده حقيقة في كذا ومع القرينة حقيقة في
المعنى الذي جعل مجازا عنه والكلام في ان العام المخصوص بقرينة
مستقلة بنفسها هل هو مجاز أم لا فرع على ثبوت أصل المجاز
(3/15)
وأما إن كانت القرينة لا تستقل بنفسها نحو
الاستثناء والشرط والتقييد بالصفة كقول القائل جاءني بنو أسد
الطوال فها هنا لا يصير مجازا والدليل عليه أن لفظ العموم حال
انضمام الشرط أو الصفة أو الاستثناء إليه لا يفيد البعض لأنه
لو أفاده لما بقي شئ يفيده الشرط أو الصفة أو الاستثناء وإذا
لم يغد البعض استحال أن يقال إنه مجاز في إفادة البعض بل
المجموع الحاصل من لفظ العموم ولفظ الشرط أو الصفة أو
الاستثناء دليل على ذلك البعض وإفادة ذلك المجموع لذلك البعض
حقيقة تنبيه إذا قال الله تعالى أقتلوا المشركين فقال النبي ص
في
الحال إلا زيدا فهذا تخصيص بدليل متصل أو منفصل فيه احتمال
(3/16)
المسألة السابعة يجوز التمسك بالعام
المخصوص وهو قول الفقهاء وقال عيسى بن أبان وأبو ثور لا يجوز
مطلقا ومنهم من فصل فذكر الكرخي أن المخصوص بدليل متصل يجوز
التمسك به والمخصوص بدليل منفصل لا يجوز التمسك به والمختار
أنه لو خص تخصيصا مجملا لا يجوز التمسك به وإلا جاز مثال
التخصص المجمل كما إذا قال الله تعالى أقتلوا المشركين ثم قال
لم أرد بعضهم لنا وجوه الأول أن اللفظ العام كان متناولا للكل
فكونه حجة في كل واحد من أقسام ذلك الكل إما أن يكون موقوفا
على كونه حجة في القسم الآخر أو على كونه حجة في الكل أو لا
يتوقف على واحد من هذين القسمين
(3/17)
والأول باطل لأنه إن كان كونه حجة في كل
واحد من تلك الأقسام مشروطا بكونه حجة في القسم الآخر لزم
الدور وإن افتقر كونه حجة في هذا القسم إلى كونه حجة في ذلك
القسم ولا ينعكس فحينئذ يكون كونه حجة في ذلك القسم يصح أن
يبقى بدون كونه حجة في هذا القسم فيكون العام المخصوص حجة
في ذلك القسم هذا مع أنا نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل
الأقسام على السوية فلم يكن جعل البعض مشروطا بالآخر أولى من
العكس والقسم الثاني أيضا باطل لأن كونه حجة في الكل يتوقف على
كونه حجة في كل واحد من تلك الأقسام لأن الكل لا يتحقق إلا عند
تحقق جميع الأفراد فلو توقف كونه حجة في البعض على كونه حجة في
الكل لزم الدور وهو محال ولما بطل القسمان ثبت أن كونه حجة في
ذلك البعض لا يتوقف على كونه حجة في البعض الآخر ولا على كونه
حجة في الكل فإذن هو حجة في ذلك البعض سواء ثبت كونه في البعض
الآخر أو في الكل أو لم يثبت ذلك فثبت ان العام المخصوص حجة
الثاني هو أن المقتضى لثبوت الحكم في غير محل التخصيص قائم
(3/18)
والمعارض الموجود لا يصلح معارضا فوجب ثبوت
الحكم في غير محل التخصيص إنما قلنا إن المقتضي قائم وذلك لأن
المقتضى هو اللفظ الدال على ثبوت الحكم وصيغة العموم دالة على
ثبوت الحكم في كل الصور والدال على ثبوت الحكم فكل الصور دال
على ثبوته في محل التخصيص وفي غير محل التخصيص فثبت أن المقتضى
لثبوت الحكم في غير صورة التخصيص قائم وأما أن المعارض الموجود
لا يصلح أن يكون معارضا فلأن
المعارض إنما هو بيان أن الحكم غير ثابت في هذه الصورة المعينة
ولا يلزم من عدم الحكم في هذه الصورة المعينة عدمه في الصورة
الآخرى فبيان عدم الحكم في هذه الصورة لا يكون منافيا لثبوت
الحكم في الصورة الأخرى ثبت أن المقتضي قائم والمانع مفقود
فوجب ثبوت الحكم الثالث أن عليا كر الله وجهه تعلق في الجمع
بين الأختين في الملك بقوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم مع أنه
مخصوص بالبنت والأخت ولم
(3/19)
ينكر عليه أحد من الصحابة فكان إجماعا
(3/20)
احتجوا بأن العام المخصوص لا يمكن إجراؤه
على ظاهره فيجب صرفه عن الظاهر وحينئذ لا يكون حمله على بعض
المحامل اولى من بعض فيصير مجملا قلنا لا نسلم أنه ليس البعض
بأولى من البعض بل عندنا يجب حمله على الباقي والله أعلم
المسألة الثامنة قال ابن سريج لا يجوز التمسك بالعام ما لم
يستقص في طلب المخصص فإذا لم يوجد ذلك المخصص فحينئذ يجوز
التمسك به في إثبات الحكم وقال الصيرفي يجوز التمسك به ابتداء
ما لم تظهر دلالة مخصصة
واحتج الصيرفي بأمرين أحدهما لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد
طلب أنه هل وجد مخصص أم لا لما جاز التمسك بالحقيقة إلا بعد
طلب أنه هل وجد ما يقتضي صرف اللفظ عن
(3/21)
الحقيقة إلى المجاز وهذا باطل فذاك مثله
بيان الملازمة أنه لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص
لكان ذلك لأجل الاحتراز عن الخطأ المحتمل وهذا المعنى قائم في
التمسك بحقيقة اللفظ فيجب اشتراكهما في الحكم بيان أن التمسك
بالحقيقة لا يتوقف على طلب ما يوجب العدول إلى المجاز هو أن
ذلك غير واجب في العرف بدليل أنهم يحملون الألفاظ على ظواهرها
من غير بحث عن أنه هل وجد ما يوجب العدول أم لا وإذا وجب ذلك
في العرف وجب أيضا في الشرع لقوله ص ما رأه المسلمون حسنا فهو
عند الله حسن وثانيهما أن الأصل عدم التخصيص وهذا يوجب ظن عدم
المخصص فيكفي في إثبات ظن الحكم
(3/22)
واحتج ابن سريج أن بتقدير قيام المخصص لا
يكون العموم حجة في صورة التخصيص فقبل البحث عن وجود المخصص
يجوز أن يكون العموم حجة وأن لا يكون
والأصل أن لا يكون حجة إبقاء للشئ على حكم الأصل والجواب أن ظن
كونه حجة أقوى من ظن كونه غير حجة لأن إجراءه على العموم أولى
من حمله على التخصيص ولما ظهر هذا القدر من التفاوت كفى ذلك في
ثبوت الظن فرع إذا قلنا يجب نفي المخصص فذاك مما لا سبيل إليه
إلا بأن يجتهد في الطلب ثم لا يجد لكن الاستدلال بعدم الوجد ان
على عدم الوجود لا يورث إلا الظن الضعيف والله أعلم
(3/23)
القسم الثالث فيما يقتضي تخصيص العموم
والكلام في هذا القسم يقع في أطراف أربعة أحدها الأدلة المتصلة
المخصصة وثانيها الأدلة المنفصلة المخصصة وثالثها بناء العام
على الخاص ورابعها ما يظن أنه من مخصصات العموم وليس كذلك
القول في الأدلة المتصلة وفيه أربعة أبواب
الباب الأول في الاستثناء
وفيه مسائل
(3/25)
المسألة الأولى الاستثناء إخراج بعض الجملة
من الجملة بلفظ إلا أو ما أقيم مقامه أو يقال ما لا يدخل في
الكلام إلا لإخراج بعضه بلفظه ولا يستقل بنفسه والدليل على صحة
هذا التعريف أن الذي يخرج بعض الجملة عنها إما أن يكون معنويا
كدلالة العقل والقياس وهذا خارج عن هذا التعريف وإما أن يكون
لفظيا وهو إما أن يكون منفصلا فيكون مستقلا بالدلالة وإلا كان
لغوا وهذا أيضا خارج عن هذا الحد أو متصلا وهو إما التقييد
بالصفة أو الشرط أو الاستثناء أو الغاية إما التقييد بالصفة
فالذي خرج لم يتناوله لفظ التقييد بالصفة لأنك إذا قلت أكرمني
بنو تميم الطوال خرج منهم القصار ولفظ الطوال
(3/27)
لم يتناول القصار بخلاف قلولنا عن أكرمني
بنو تميم إلا زيدا من فإن الخارج وهو زيد تناولته صيغة
الاستثناء وهذا هو الاحتراز عن التقييد بالشرط وأما التقييد
بالغاية فالغاية قد تكون داخلة كما في قوله تعالى إلى المرافق
بخلاف الاستثناء فثبت أن التعريف المذكور للاستثناء منطبق عليه
المسألة الثانية يجب أن يكون الاستثناء متصلا بالمستثنى منه
عادة واحترزنا بقولنا
عادة عما إذا طال الكلام فإن ذلك لا يمنع من اتصال الاستثناء
وكذلك قطع الكلام بالنفس والسعال لا يمنع من اتصاله به وعن ابن
عباس رضي الله عنهما أنه جوز الاستثناء المنفصل وهذه الرواية
إن صحت فلعل المراد منها ما إذا نوى الاستثناء متصلا بالكلام
ثم أظهر نيته بعده فإنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى فيما
نواه
(3/28)
لنا وجهان الأول لو جاز تأخير الاستثناء
لما استقر شئ من العقود من الطلاق والعتاق ولم يتحقق الحنث
أصلا لجواز أن يرد عليه الاستثناء فيغير حكمه الثاني نعلم
بالضرورة أن من قال لوكيله اليوم بع داري من أي شخص كان ثم قال
بعد غد إلا من زيد فإن أهل العرف لا يجعلون الاستثناء عائدا
إلى ما تقدم احتجوا بأنه يجوز تأخير النسخ والتخصيص فكذا
الاستثناء والجواب أنه يبطل بالشرط وخبر المبتدأ ثم نطالبهم
بالجامع والله أعلم
(3/29)
المسألة الثالثة استثناء الشئ من غير جنسه
باطل على سبيل الحقيقة وجائز على سبيل
المجاز والدليل الأول أن الاستثناء من غير الجنس الأول لو صح
لصم إما من اللفظ أو من المعنى والأول باطل لأن اللفظ الدال
على الشئ فقط غير داعلى ما يخالف جنس مسماه واللفظ إذا لم يدل
على شئ لا يحتاج إلى صارف يصرفه عنه والثاني أيضا باطل لأنه لو
جاز حمل اللفظ على المعنى المشترك بين
(3/30)
مسما وبين المستثنى ليصح الاستثناء لجاز
استثناء كل شئ من كل شئ لأن كل شيئين لا بد وأن يشتركا في بعض
الوجوه فإذا حمل المستثنى على ذلك المشترك صح الاستثناء ولما
علمنا أن العرب لم يصححوا استثناء كل شئ من كل شئ علمنا بطلان
هذا القسم احتجوا بالقرآن والشعر والمعقول
(3/31)
أما القرآن فخمس آيات إحداها قوله عز وجل
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ وثانيها قوله تعالى فسجد
الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس وهو ما كان
منهم بل كان من الجن وثالثها قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم
بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ورابعها قوله
تعالى مالهم به من علم إلا اتباع الظن والظن ليس من جنس العلم
وخامسها قوله تعالى لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا
سلاما سلاما والسلام ليس من جنس اللغو
(3/32)
وأما الشعر فقوله وبلدة ليس بها أنيس * إلا
اليعافير والا العيس في
(3/33)
وقول النابغة وما بالدار من أحد إلا أواري
* والأواري ليس من جنس الأحد وقفت فيها أصيلانا أسائلها * عيت
جوابا وما بالربع من أحد إلا أوارى لأيا من أبينها * والنؤى
كالحوض بالمطلومة بن الجلد
(3/34)
وأما المعقول فهو أن الاستثناء تارة يقع
عما يدل اللفظ عليه دلالة المطابقة أو التضمن وتارة عما يدل
عليه دلالة الالتزام فإذا قال لفلان علي الف دينار إلا ثوبا
فمعناه إلا قيمة ثوب
والجواب أما قوله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ
فجوابه أن إلا ها هنا بمعنى لكن أو يقال وما كان لمؤمن أن يقتل
مؤمنا إلا إذا أخطأ فغلب على ظنه أنه ليس من المؤمنين إما بأن
يختلط بالكفار فيطن الرجل أنه منهم أو بأن يراه من بعيد فيظنه
صيدا أو حجرا وأما قوله تعالى إلا إبليس فقيل إنه كان من
الملائكة ولابد من الدلالة على أن كونه من الجن ينفي كونه من
الملائكة سلمنا أنه ليس من الملائكة لكن إنما حسن الاستثناء
لأنه كان مأمورا بالسجود كما أن الملائكة كانوا مأمورين بذلك
فكأنه قال فسجد
(3/35)
المأمورون بالسجود إلا إبليس وأما قوله
تعالى إلا أن تكون تجارة إلا اتباع الظن فقد اتفقت النحاة على
أنه ليس باستثناء ثفسره البصريون بقولهم ولكن اتباع الظن
والكوفيون بقولهم سوى اتباع الظن والجواب عن الشعر أن الأنيس
سواء فسرناه بالمؤنس هذه أو بالمبصر أمكن إدخال اليعافير
والعيس فيه
(3/36)
وعن الثالث أنه لو صح الاستثناء من المعنى
لزم صحة استثناء كل شئ من كل شئ على ما بيناه والله أعلم
المسألة الرابعة
أجمعوا على فساد الاستثناء المستغرق ثم من الناس من قال شرط
المستثنى أن لا يكون أكثر أكثر مما بقي بل يجب أن يكون مساويا
أو أقل وقال القاضي بل شرطه أن لا يكون أكثر ولا مساويا سنة بل
أقل ويدل على فساد القولين أن الفقهاء أجمعوا على أن من قال
لفلان علي عشرة إلا تسعة يلزمه واحد ولولا أن هذا الاستثناء
صحيح لغة وشرعا وإلا لمكن كذلك ويدل على فساد اقول الثاني خاصة
قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من
الغاوين وقال حكاية عن إبليس لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم
المخلصين فلو كان المستثنى أقل من المستثنى منه لزم في أتباع
إبليس وفي المخلصين أن يكون كل واحد
(3/37)
منهما أقل من الآخر وذلك محال حجة القاضي
رحمه الله أن المقتضى لفساد الاستثناء قائم وما لأجله ترك
العمل به في الأقل غير موجود في المساوي والأكثر فوجب أن يفسد
الاستثناء في المساوي والأكثر بيان مقتضى الفساد أن الاستثناء
بعد المستثنى منه إنكار بعد الإقرار وإنه غير مقبول بيان
الفارق أن الشئ القليل يكون في معرض النسيان لقلة التفات النفس
إليه والكثير يكون متذكرا محفوظا لكثرة التفات القلب إليه فإذا
أقر بالعشرة فربما كانت تلك العشرة بنقصان شئ قليل وإن كانت
تامة لكنه أدى منها شيئا قليلا ثم إنه نسي ذلك القدر لقلته فلا
جرم
أقر بالعشرة الكاملة ثم إنه بعد الإقرار تذكر ذلك القدر فوجب
أن يكون متمكنا من استدراكه فلأجل هذا شرعنا استثناء الأقل من
الأكثر ولم يوجد هذا المعنى في استثناء المثل أو الأكثر لما
ذكرنا أن الكثرة مظنة الذكر وإذا ظهر الفارق بقي المقتضي سليما
عن المعارض والجواب عندنا أن الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظ
الواحد الدال على ذلك
(3/38)
القدر وعلى هذا الفرض يسقط ما ذكرتم والله
أعلم المسألة الخامسة الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي
إثبات مثال الأول قوله تعالى فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما
ومثال الثاني قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من
اتبعك وزعم أبو حنيفة رحمه الله إن الاستثناء من النفي لا يكون
إثباتا قال لأن بين الحكم بالنفي وبين الحكم بالإثبات واسطة
وهي عدم الحكم فمقتضى الاستثناء بقاء المستثنى غير محكوم عليه
لا بالنفي ولا بالإثبات لنا لو لم يكن الاستثناء في النفي
إثباتا لما كان قولنا لا إله إلا الله موجبا ثبوت الإلهية لله
جل جلاله بل كان معناه نفي الإلهية عمرو عن غيره وأما ثبوت
الإلهية له فلا ولو كان كذلك لما تم الإسلام ولما كان ذلك
باطلا علمنا أنه يفيد الإثبات
احتج أبو حنيفة رحمه الله بقوله ص لا نكاح إلا بولي ولا
(3/39)
صلاة إلا بطهور ولم يلزم منه تحقق النكاح
عند حضور الولي ولا تحقق الصلاة عند حضور الوضوء بل يدل على
عدم صحتهما عند عدم هذين الشرطين والله أعلم
(3/40)
المسألة السادسة الاستثناآت إذا تعددت فإن
كان البعض معطوفا على البعض بحرف العطف كان الكل عائدا إلى
المستثنى منه كقولك لفلان عندي عشرة إلا أربعة وإلا خمسة وإن
لم يكن كذلك فالاستثناء الثاني إن كان أكثر من الأول أمساويا
له عاد إلى الأول كقوله لفلان علي عشرة إلا أربعة إلا خمسة وإن
كان أقل من الأول كقولك لفلان علي عشرة إلا خمسة إلا أربعة
فالاستثناء الثاني إما أن يكون عائدا إلى الاستثناء الأول فقط
أو إلى المستثنى منه فقط أو إليهما معا أولاإلى أحد منهما
والأول هو الحق والثاني باطل لأن القريب إن لم يكن أولى من
البعيد فلا أقل من المساواة والثالث أيضا باطل لوجهين أحدهما
أن المستثنى منه مع الاستثناء ألأول لا بد وأن يكون أحدهما
نفيا
والآخر إثباتا فالاستثناء الثاني لو عاد إليهما معا والاستثناء
من النفي إثبات
(3/41)
ومن الإثبات نفي فيكون الاستثناء الثاني قد
نفى عن أحد الأمرين السابقين عليه ما أثبته للآخر فينجبر
النقصان بالزيادة ويبقى ما كان حاصلا قبل الاستثناء الثاني
فيصير الاستثناء الثاني لغوا وثانيهما أن الاستثناء الثاني لو
رجع إلى الاستثناء الأول والمستثنى منه معا لزم أن يكون نفيا
وإثباتا معا وهو محال فإن قلت النفي والإثبات إنما يتنافيان لو
رجعا إلى شئ واحد من وجه واحد فأما عند رجوعهما إلى شيئين فلا
يتنافيان قلت لنفرض قبل أنه قال علي عشرة إلا اثنين إلا واحدا
فالاستثناء الثاني لما رجع إلى المستثنى منه أخرج منه درهما
آخر ولما رجع إلى الاستثناء الأول اقتضى ذلك إثبات ذلك الدرهم
المستثنى منه فيكون ذلك الاستثناء نفيا وإثباتا من المستثنى
منه وهو محال أما الرابع وهو أن لا يرجع الاستثناء الثاني إلى
الاستثناء الأول ولا إلى المستثنى منه فهو باطل بالاتفاق
(3/42)
المسألة السابعة الاستثناء المذكور عقيب
جمل كثيرة هل يعود إليها باسرها أم لا مذهب الشافعي رضي الله
عنه وأصحابه عوده إلى الكل ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله
عليه وأصحابه اختصاصه بالجملة الأخيرة
وذهب القاضي منا والمرتضى من الشيعة إلى التوقف إلا أن المرتضى
توقف للاشتراك والقاضي لم يقطع بذلك أيضا ومنهم من فصل القول
فيه وذكروا وجوها وأدخلها في التحقيق ما قيل إن الجملتين من
الكلام إما أن يكونا من نوع واحد أو يكونا من نوعين فإن كان
الأول فإما أن تكون إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى أو لا تكون
كذلك
(3/43)
فإن كان الثاني فإما أن يكونا مختلفي الاسم
والحكم أو متفقي الاسم مختلفي الحكم أو مختلفي الاسم متفقي
الحكم فالأول كقولك أطعم ربيعة واخلع على مضر إلا الطوال
والأظهر ها هنا اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة لأن الظاهر
أنه لم ينتقل من الجملة المستقلة بنفسها إلى جملة أخرى مستقلة
بنفسها إلا وقد تم غرضه من الجملة الأولى ولو كان الاستثناء
راجعا إلى جميع الجمل لم يكن قد تم مقصوده من الجملة الأولى
وأما الثاني فكقولنا أطعم ربيعة واخلع على ربيعة إلا الطوال
وأما الثالث فكقولنا أطعم ربيعة وأطعم مضر إلا الطوال والحكم
هاهنا أيضا كما ذكرنا لأن كل واحدة من الجملتين مستقلة فالظاهر
أنه لم ينتقل من إحداهما إلا وقد تم غرضه بالكلية منها وأما إن
كانت إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى فإما أن يكون حكم الأولى
مضمرا في الثانية كقوله أكرم ربيعة ومضر الطوال أو اسم الأولى
مضمرا يحيى في الثانية كقوله أكرم ربيعة واخلع عليهم إلا
الطوال
(3/44)
فالاستثناء في هذين القسمين راجع إلى
الجملتين لأن الثانية لا تستقل إلا مع الأولى فوجب رجوع حكم
الاستثناء إليهما وأما إن كانت الجملتان نوعين من الكلام فإما
أن تكون القضية واحدة أو مختلفة فإن كانت مختلفه فهو كقولنا
أكرم ربعة والعلماء هم المتكلمون إلا أهل البلدة الفلانية
فالاستثناء فيه يرجع إلى ما يليه لاستقلال كل واحدة من تلك
الجملتين بنفسها وأما إن كانت القضية واحدة فهو كقوله تعالى
والذين يرمون المحصنات فالقضية واحدة وأنواع الكلام مختلفة
فالجملة الأولى أمر والثانية نهي والثالثة خبر فالاستثناء فيها
يرجع إلى الجملة الأخيرة لاستقلال كل واحدة في تلك الجمل
بنفسها والإنصاف أن هذا التقسيم حق لكنا إذا أردنا المناظرة
اخترنا التوقف لا بمعنى دعوى الاشتراك بل بمعنى أنا لا نعلم
حكمه في اللغة ماذا وهذا هو اختيار القاضي
(3/45)
واحتج الشافعي رضي الله عنه بوجوه أولها أن
الشرط متى تعقب جملا عاد إلى الكل فكذا الاستثناء والجامع أن
كل واحد منهمم لا يستقل بنفسه وأيضا فمعناهما واحد لأن قوله
تعالى في آية القذف إلا الذين
تابوا جار مجرى قوله وأولئك هم الفاسقون إن لم يتوبوا ويقرب من
هذا الدليل قولهم أجمعنا على أن الاستثناء بمشيئة الله تعالى
عائد إلى كل الجمل فالاستثناء بغير المشيئة يجب ان يكون كذلك
وثانيها أن حرف العطف يصير الجمل المعطوف بعضها على بعض في حكم
الجملة الواحدة لأنه لا فرق بين أن تقول رأيت بكر بن خالد وبكر
بن عمرو وبين أن تقول رأيت البكرين وإذا كان الاستثناء الواقع
عقيب الجملة الواحدة راجعا إليها فكذا ما صار بحكم العطف
كالجملة الواحدة
(3/46)
وثالثها أنه تعالى لو قال فاجلدوهم ثمانين
جلدة إلا الذين تابوا ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين
تابوا وأولئك هم الفاسقون (إلا الذين تابوا) لكان ركيكا جدا
فبتقدير أن يريد الاستثناء عن كل الجمل لا طريق له إلى ذلك إلا
بذكر الاستثناء عقيب الجملة الأخيرة ففي هذه الصورة يكون
الاستثناء راجعا إلى كل الجمل والأصل في الكلام الحقيقة وإذا
ثبت كونه حقيقة في هذه الصورة كان كذلك في سائر الصور دفعا
للاشتراك ورابعها لو قال لفلان علي خمسة وخمسة إلا سبعة كان
الاستثناء ها هنا
عائدا إلى الجملتين والأصل في الكلام الحقيقة وإذا ثبت ذلك في
هذه الصورة فكذا في غيرها دفعا للاشتراك
(3/47)
واحتج أبو حنيفة رحمة الله عليه بوجوه
أحدها أن الدليل ينفي اعتبار الاستثناء تركنا العمل به في
الجملة الواحدة فيبقى العمل بالباقي في سائر الجمل بيان النافي
أن الاستثناء يقتضي إزالة العموم عن ظاهره وهو خلاف الأصل بيان
الفارق أن الاستثناء لا استقلال له بالدلالة على الحكم فلا بد
من تعليقه بشئ لئلا يصير لغوا وتعليقه بالجملة الواحدة يكفي في
خروجه عن اللغوية فحاجة إلى تعليقه بسائر الجمل وإذا ثبت
النافي والفارق ثبت إنه لا يجوز عوده إلى الجمل الكثيرة والخصم
قال به فصار محجوجا يبقى أن يقال لم خصصتموه بالجملة الأخيرة
فتقول هذا تفريع قولنا ولنا فيه وجهان الوجه الأول اتفاق أهل
اللغة على أن للقرب تأثيرا في هذا المعنى ثم يدل عليه أمور
أربعة الأول اتفاق أهل اللغة البصريين على أنه إذا اجتمع على
المعمول الواحد عاملان فإعمال الأقرب أولى
(3/48)
الثاني أنهم قالوا في ضرب زيد عمروا وضربته
إن هذه الهاء بأن ترجع إلى عمرو المضروب أولى من أن ترجع إلى
زيد الضارب للقرب الثالث أنهم قالو في قولنا ضربت سلمى سعدى
إنه ليس في إعراب اللفظ ولا في معناه ما يجعل أحدهما بالفاعلية
اولى من الآخر فاعتبروا المجاورة فقالوا الذي يلي الفعل أولى
بالفاعلية الرابع أنهم قالوا في قولهم أعطى زيد عمروا بكرا أنه
لما احتمل أن يكون وكل واحد من عمر وبكر مفعولا أول وليس في
اللفظ ما يقتضي الترجيح وجب اعتبار القرب الوجه الثاني أن كل
من صرف الاستثناء إلى جملة واحدة خصصه بالجملة الأخيرة فصرفه
إلى غيرها خرق للإجماع فهذا تمام هذه الحجة وثانيهما أن
الاستثناء المذكور عقيب الجمل لو رجع إلى جميعها لم يخل إما أن
يضمر مع كل جملة استثناء يعقبها أولا يضمر ذلك بل الاستثناء
المصرح به في آخر الجمل هو الراجع إلى جميعها
(3/49)
والأول باطل لأن الإضمار على خلاف الأصل
فلا يصار إليه إلا لضرورة ولا ضرورة ها هنا
والثاني أيضا باطل لأن العامل في نصب ما بعد حرف الاستثناء هو
ما قبله من فعل أو تقدير فعل فإذا فرضنا رجوع ذلك الاستثناء
إلى كل الجمل كان العامل في نصب المستثنى أكثر من واحد لكن لا
يجوز أن يعمل عاملان في إعراب واحد دأما أولا فلأن سيبويه نص
عليه وقوله حجة وأما ثانيا فلأنه يجتمع على الأثر الواحد
مؤثران مستقلان وهو محال وثالثها أن الاستثناء من الاستثناء
مختص بما يليه فكذا في سائر الصور دفعا للاشتراك عن الوضع
ورابعها أن الجمل إذا كان كل واحد منها مستقلا بنفسه فالظاهر
أنه لم ينتقل عن واحد منها إلى غيره إلا إذا تم غرضه منه لأنه
كما أن السكوت يدل على استكمال الغرض المطلوب من الكلام فكذا
الشروع في كلام آخر لا تعلق له بالأول يدل على استكمال الغرض
من ذلك الأول إذا ثبت هذا فلو حكمنا برجوع الاستثناء ألى كل
الجمل المتقدمة
(3/50)
نقض ذلك قولنا إنه لما انتقل عن الكلام
الأول تم غرضه واحتج الشريف المرتضى على الاشتراك بوجوه أحدها
أن القائل اذا قال اضرب غلماني وأكرم جيراني إلا واحدا جاز أن
يستفهم المخاطب هل أراد استثناء الواحد من الجملتين أو من
الجملة الواحدة والاستفهام دليل الاشتراك
وثانيها أنا وجدنا الاستثناء في القرآن والعربية تارة عائدا
إلى كل الجمل وأخرى مختصا بالأخيرة وظاهر الاستعمال دليل
الحقيقة فوجب الاشتراك وثالثها أن القائل إذا قال ضربت غلماني
وأكرمت جيراني قائما أو في الدار أو يوم الجمعة احتمل فيما
ذكره من الحال والظرفين أن يكون المتعلق به جميع الآفعال وأن
يكون ما هو أقرب والعلم باحتمال الأمرين من مذهب
(3/51)
أهل اللغة ضروري فإذا صح ذلك في الحال
والظرفين صح أيضا في الاستثناء والجامع أن كواحد منهما فضلة
تأتي بعد تمام الكلام فهذا مجموع أدلة القاطعين أما أدلة
الشافعية فالجواب عن الأول أن نمنع الحكم في الأصل وبتقدير
تسليمه فنطالب الرحمن بالجامع قوله إنهما يشتركان في عدم
الاستقلال واقتضاء التخصيص قلنا لا يلزم من اشتراك شيئين في
بعض الوجوه اشتراكهما في كل الاحكام قوله ثانيا معنى الشرط
والاستثناء واحد قلنا إن ادعيتم أنه لا فرق بينهما أصلا كان
قياس أحدهما على الآخر قياسا للشئ على نفسه وإن سلمتم الفرق
طالبناكم بالجامع وبهذين الجوابين نجيب عن الاستدلال بمشيئة
الله تعالى والجواب عن الثاني
أنكم إن ادعيتم أنه لا فرق بين الجملة الواحدة وبين الجمل
المعطوف بعضها على بعض كان قياس أحدهما على الآخر قياسا للشئ
على نفسه وإن سلمتم الفرق طالبناكم بالجامع
(3/52)
انه الثالث أنه يمكن رعاية الاختصار بذكر
الاستثناء الواحد عقيب الجمل مع التنبيه على ما يقتضي عوده إلى
الكل وذلك لا يقدح في الفصاحة وعن الرابع أن هناك إنما رجع إلى
الجملتين لأنه لا بد من اعتبار كلام العاقل ولما تعذر رجوعه
إلى الجملتين وجب رجوعه إليهما وهذه الضرورة غير حاصلة في سائر
المواضع وأما أدلة الحنفية فالجواب عن الآول من وجهين أحدهما
أنه ينتقض بالاستثناء بمشيئة الله تعالى وبالشرط فإن ذلك غير
مستقل بنفسه مع أنهما يعودان إلى كل الجمل عندهم فإن قلت الفرق
هو أن الشرط وأن تأخر صورة فهو متقدم معنى وإذا كان متقدما
معنى صار كل ما جاء بعده مشروطا به وأما الاستثناء بالمشيئة
فإنه يقتضي صيرورة الكلام بأسره موقوفا فلا يختص بالبعض دون
البعض قلت لا نسلم أن الشرط يجب أن يكون مقدما على الكل بل
يجوز أن يكون مقدما على الجملة الأخيرة
وإن سلمنا ذلك فلا نسلم أن التقدم يقتضي الرجوع إلى الكل بل
لعله يكون مختصا بما يليه
(3/53)
وأما الاستثناء بالمشيئة فلم لا يجوز أن لا
يقتضي كون الكل موقوفا بل يختص ذلك بالجملة الأخيرة والأصوب
للحنفية أن يمنعوا هذين الإلزامين حتى يتم دليلهم ثانيهما أنا
لا نسلم أن الاستثناء على خلاف الأصل قوله لأنه يوجب صرف
العموم عن ظاهره قلنا لا نسلم لأنا بينا في مسألة ان العام
المخصوص بالاستثناء لا يكون مجازا وأن لفظ العموم مع لفظ
الاستثناء يصير كاللفظ الواحد الدال على ما بقي بعد الاستثناء
وعلى هذا التقدير لا يكون الاستثناء على خلاف الأصل وعن الثاني
أنا لا نسلم إنه لا يجوز أن يجتمع على المعمول الواحد عاملان
ونص سيبويه على إنه لا يجوز معارض بنص الكسائي على أنه يجوز
وقوله يجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان فجوابه أن
العوامل الإعرابية معرفات لا مؤثرات واجتماع المعرفين على
الواحد غير ممتنع
(3/54)
وعن الثالث أن الاستثناء من الاستثناء لو
عاد إليه وإلى المستثنى معا لزم الفسادان
المذكوران فيما تقدم وذلك غير حاصل في الاستثناء من الجمل وعن
الرابع أن نقول ما تريدون بقولكم إنه لم ينتقل عن إحدى
الجملتين إلى غيرها إلابعد فراغه من الأولى إن عنيتم به أنه لم
ينتقل منها إلى غيرها إلا بعد فراغه من جميع أحكام الآولى فهذا
ممنوع بل هو أول المسألة لأن عندنا من جملة أحكامها ذلك
الاستثناء الذي ذكرتموه في آخر الجمل وإن عنيتم شيئا آخر
فاذكروه لننظر فيه وأما أدلة الشريف المرتضى فالجواب عن الأول
والثاني منها ما تقدم في باب العموم وعن الثالث أنا لا نسلم
التوقف في الحال والظرفين بل نخصهما بالجملة الأخيرة على قول
أبي حنيفة رحمه الله أو بالكل على قول الشافعي رضي الله عنه
(3/55)
سلمنا التوقف لكن لا على سبيل الاشتراك بل
على سبيل أنا لا ندري أن الحق ما هو عند أهل اللغه فإن تمسك
على الاشتراك بالاستفهام والاستعمال كان ذلك منه عودا إلى
الطريقتين الأوليين سلمناه فلم قلتم أنه يجب أن يكون الأمر
كذلك في الاستثناء قوله الجامع هو كون كل واحد من هذه الثلاثة
فضلة تأتي بعد تمام الكلام
قلنا الاشتراك من بعض الوجوه لا يقتضي التساوي من جميع الوجوه
والله أعلم
(3/56)
الباب الثاني في
التخصيص بالشرط وفيه مسائل المسألة
الأولى الشرط هو الذي يقف عليه المؤثر في تأثيره لا في ذاته
ولا ترد عليه
(3/57)
العلة لأنها نفس المؤثر والشئ لا يقف على
نفسه ولا جزء العلة ولا شرط ذاتها لأن العلة تقف عليه في ذاتها
ثم الشرط قد يكون عقليا وهو معلوم وقد يكون شرعيا فهذا هو
الشرط الشرعي وهو كالإحصان فإنه شرط اقتضاء الزنا لوجوب الرجم
المسألة الثانية صيغة الشرط إن وإذا وهما بعد الاشتراك في كون
كل واحد منهما صيغة الشرط يفترقان في أن إن تدخل على المحتمل
لا على المتحقق وإذا تدخل عليهما تقول أنت طالق إذا احمر البسر
وإن
(3/58)
دخلت الدار فالأول محقق والثاني محتمل ولا
تقول أنت طالق إن احمر البسر إلا إذا لم يتيقن ذلك
المسألة الثالثة في ان المشروط متى يحصل وذلك يستدعي مقدمة وهي
أن الشرط على أقسام ثلاثة أحدها الذي يستحيل أن يدخل في الوجود
إلا دفعة واحدة بتمامه سواء كان ذلك لأنه في نفسه واحد لا
تركيب فيه أو إن كان مركبا لكن يستحيل أن يدخل شئ من أجزائه في
الوجود إلا مع الاخر ثانيا ما يستحى أن يدخل بجميع اجرائه في
الوجود كالكلام والحركة فإن المتكلم بلفظة يكون حينما وجد
الحرف الأول منها لا يكون الثاني حاصلا وحين حصل الثاني صار
الأول فانيا وثالثها ما يصح أن يدخل في الوجود تارة بمجموعه
وتارة بتعاقب أجزائه
(3/59)
ثم نقول على هذه التقديرات الثلاثة فالشرط
إما عدمها وإما وجودها فإن كان الشرط عدمها حصل الحكم في
الآقسام الثلاثة في أول زمان عدمها وإن كان الشرط وجودها فنقول
أما في القسم الأول فالحكم يحصل مقارنا لأول زمان وجود الشرط
وأما في القسم الثاني فإنه يحصل عند حصول آخر جزء من أجزاء
الشرط في الوجود لأنه ليس لذلك المجموع وجود في التحقيق بل
أهل العرف يحكمون عليه بالوجود وإنما يحكمون عليه بذلك عند
دخول آخر جزء من أجزائه في الوجود والحكم كان معلقا على وجوده
فوجب أن يحصل الحكم في ذلك الوقت وأما في القسم الثالث فنقول
وجوده حقيقة إنما يتحقق عند دخول جميع أجزائه في الوجود دفعة
واحدة لكنا في القسم الثاني عدلنا عن هذه الحقيقة للضرورة وهي
مفقودة في هذا القسم فوجب اعتبار الحقيقة حتى إنه إن حصل مجمو
أجزائها دفعة واحدة ترتب الجزاء عليه وإلا فلا
(3/60)
هذا مقتضى البحث الأصولي اللهم إلا إذا قام
دليل شرعي على العدول عنه المسألة الرابعة الشرطان إذا دخلا
على جزاء فإن كانا شرطين على الجمع لم يحصل المشروط إلا عند
حصولهما معا وهو كقوله إن دخلت الدار وكلمت زيدا فأنت طالق ولو
رتب عليهما جزاءين كان كل واحد من الشرطين معتبرا في كل واحد
من الجزاءين لا على التوزيع بل على سبيل الجمع وإن كانا على
سبيل البدل كان كل واحد منهما وحده كافيا في الحكم كقولك إن
دخلت الدار أوكلمت زيدا المسألة الخامسة الشرط الواحد إذا دخل
على مشروطين فإما أن يدخل عليهما على سبيل الجمع أو على سبيل
البدل
فالأول كقولك إن زنيت جلدتك ونفيتك ومقتضاه حصولهما معا
والثاني كقولك إن زنيت جلدتك أو نفيتك ومقتضاه أحدهما مع
(3/61)
أن التعيين فيه إلى القائل والله أعلم
المسألة السادسة اختلفوا في أن الشرط الداخل على الجمل هل يرجع
حكمه إليها بالكلية فاتفق الإمامان الشافعي وأبو حنيفة رحمة
الله عليهما على رجوعه إلى الكل وذهب بعض الأدباء إلى أنه يختص
بالجملة التي تليه حتى إنه إن كان متأخرا اختص بالجملة الأخيرة
وإن كان متقدما اختص بالجملة الأولى والمختار التوقف كما في
مسألة الاستثناء المسألة السابعة اتفقوا على وجوب اتصال الشرط
بالكلام ودليله ما مر في الاستثناء واتفقوا على أنه يحسن
التقييد بشرط أن يكون الخارج أكثر من الباقي وإن اختلفوا فيه
في الاستثناء
(3/62)
المسألة الثامنة لا نزاع في جواز تقديم
الشرط وتأخيره إنما النزاع في الأولى ويشبه أن يكون الأولى هو
التقديم خلافا للقراء
لنا أن الشرط متقدم في الرتبة على الجزاء لأنه شرط تأثير
المؤثر فيه وما يستحق التقديم طبعا يستحق التقديم وضعا والله
أعلم
(3/63)
روى الباب الثالث في تخصيص العام بالغاية
والصفة وفيه فصلان الفصل الأول في تقييد العام بالغاية وفيه
أبحاث البحث الأول أن غاية الشئ نهايته وطرفه ومقطعه الثاني
ألفاظها وهي حتى وإلى كقوله تعالى ولا تقربوهن
(3/65)
حتى يطهرن وقوله وأيديكم إلى المرافق
الثالث التقييد بالغاية يقتضي أن يكون الحكم فيما وراء الغاية
بخلاف الحكم فيما قبلها لأن الحكم لو بقي فيما وراء الغاية لم
يكن العام منقطعا فلم تكن الغاية غاية
والأولى أن يقال الغاية إما أن تكون منفصلة عن ذي الغاية بمفصل
معلوم كما في قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل أو لا تكون
كذلك كقوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق فإن
المرفق غير منفصل عن اليد بمفصل محسوس أما القسم الأول فيجب أن
يكون حكم ما بعد الغاية بخلاف حكم ما قبله لأن انفصال أحدهما
عن الآخر معلوم بالحس
(3/66)
وأما الثاني فلا يجب أن يكون حكم ما بعده
بخلاف ما قبله لأنه لما لم يكن المرفق منفصلا عن اليد بمفصل
معلوم معين لم يكن تعيين بعض المفاصل لذلك أولى من بعض فوجب من
ها هنا دخول ما بعده فيما قبله الرابع يجوز اجتماع الغايتين
كما لو قيل لا تقربوهن حتى يطهرن وحتى يغتسلن فها هنا الغاية
في الحقيقة هي الأخيرة وعبر عن الأول به لقربه منها واتصاله
بها
(3/67)
الفصل الثاني في تقييد العام بالصفة والصفة
إما أن تكون مذكورة عقيب شئ واحد كقولنا رقبة مؤمنه ولا شك في
عودها إليه
أو عقيب شيئين وها هنا إما أن يكون أحدهما متعلقا بالآخر كقولك
أكرم العرب والعجم المؤمنين فها هنا الصفة تكون عائدة إليهما
وأما إن لا تكون كذلك كقولك أكرم العلماء وجالس الفقهاء الزهاد
فها هنا الصفة عائدة بين إلى الجملة الأخيرة وأن كان للبحث فيه
مجال كما في الاستثناء والشرط والله أعلم
(3/69)
القول في تخصيص العام بالأدلة المنفصلة
فنقول تخصيص العام إما أن يكون بالعقل أو بالحس أو بالدلائل
السمعية وهو على وجهين تخصيص المقطوع بالمقطوع وتخصيص المقطوع
بالمظنون فلنعقد أهل في كل واحد فصلا
(3/71)
الفصل الأول في تخصيص العموم بالعقل هذا قد
يكون بضرورة العقل كقوله تعالى الله خالق كل شئ فإنا نعلم
بالضرورة أنه ليس خالقا لنفسه وبنظر العقل كقوله تعالى ولله
على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا فإنا نخصص الصبي
والمجنون لعدم الفهم في حقهما
ومنهم من نازع في تخصيص العموم بدليل العقل والأشبه عندي أنه
لا خلاف في المعنى بل في اللفظ أما أنه لا خلاف في المعنى فلأن
اللفظ لما دل على ثبوت الحكم في جميع الصور والعقل منع من
ثبوته في بعض الصور فإما أن نحكم بصحة مقتضى العقل والنقل
فيلزم صدق النقيضين وهو محال أو نرجح النقل على العقل وهو محال
لأن العقل أصل النقل
(3/73)
فالقدح في العقل قدح في أصل النقل والقدح
في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح فيهما معا وأما أن نرجح حكم
العقل على مقتضى العمو وهذا هو مرادنا من تخصيص العموم بالعقل
وأما البحث اللفظي فهو أن العقل هل يسمى مخصصا أم لا فنقول إن
أردنا بالمخصص الأمر الذي يؤثر في اختصاص اللفظ العام ببعض
مسمياته فالعقل غير مخصص لأن المقتضي لذلك الاختصاص هو الإرادة
القائمة بالمتكلم والعقل يكون دليلا على تحقق تلك الإرادة
فالعقل يكون دليل المخصص لا نفس المخصص ولكن على هذا التفسير
وجب أن لا يكون الكتاب مخصصا للكتاب ولا السنة للسنة لأن
المؤثر في ذلك التخصيص هو الإرادة لا تلك الآلفاظ فإن قيل لو
جاز التخصيص بالعقل فهل يجوز النسخ به قلنا نعم لأن من سقطت
رجلاه سقط عنه فرض غسل الرجلين وذلك إنما عرف بالعقل
(3/74)
الفصل الثاني في
التخصيص بالحس وهو كما في قوله تعالى
وأوتيت من كل شئ فإنه لم يكن شئ من السماء والعرش والكرسي في
يدها
(3/75)
الفصل الثالث في
تخصيص المقطوع بالمقطوع وفيه مسائل
المسألة الأولى في تخصيص الكتاب بالكتاب وهو جائز خلافا لبعض
أهل الظاهر لنا إن وقوعه دليل جوازه لأن قوله تعالى والمطلقات
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء مع قوله تعالى وأولات الآحمال حديث
أجلهن أن يضعن حملهن وكذلك قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى
يؤمن مع قوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب لا يخلو
إما ان نجمع بين دلالة العام على عمومه والخاص على خصوصه وذلك
محال وإما أن نرجح أحدهما على الآخر وحينئذ زوال الزائل إن كان
على سبيل التخصيص فقد حصل الغرض
(3/77)
وإن كان بالنسخ فقد حصل الغرض أيضالآن كل
من جوز نسخ
الكتاب بالكتاب جوز تخصيصه به أيضا احتجوا بقوله تعالى لتبين
للناس ما نزل إليهم فوض البيان إلى الرسول عليه الصلاة والسلا
فوجب أن لا يحصل البيان إلا بقوله والجواب أنه معارض بقوله
تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ ولأن تلاوة النبي ص
آية التخصيص بيان منه له والله أعلم المسألة الثانية في تخصيص
السنة المتواترة بالسنة المتواترة وهو جائز أيضا لأن العام
والخاص مهما اجتمعا فإما أن يعمل بمقتضاهما أو يترك العمل بهما
أو يرجح العام على الخاص وهذه الثلاثة باطلة بالإجماع فلم يبق
إلا تقديم الخاص على العام المسألة الثالثة تخصيص الكتاب
بالسنة المتواترة قولا كان أو فعلا جائز للدليل الذي مر وأيضا
قد وقع ذلك أما بالقول فلأنهم خصصوا عموم قوله تعالى يوصيكم
الله في
(3/78)
أولادكم بقوله ص القاتل لا يرث وقوله ص لا
يتوارث أهل ملتين
(3/79)
وأما بالفعل عند فلأنهم خصصوا قوله تعالى
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة بما تواتر
عنه ص من رجم المحصن
وأيضا تخصيص السنة المتواترة بالكتاب جائز
(3/80)
وعن بعض فقهائنا إنه لا يجوز ودليله
التقسيم الذي مر المسألة الرابعة في تخصيص الكتاب والسنة
المتواترة بالإجماع وهو جائز لأنه واقع فإنهم خصصوا آية الإرث
بالإجماع على أن العبد لا يرث وخصصوا آية الجلد بالإجماع على
أن العبد كالأمة في تنصيف الحد وأما تخصيص الإجماع بالكتاب
والسنة المتواترة ف إنه غير جائز للإجماع ولأن إجماعهم على
الحكم العام مع سبق المخصص خطأ والإجماع على الخطأ لا يجوز
المسألة الخامسة في أن تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بفعل
الرسول ص هل هو جائز أم لا والتحقيق فيه أن اللفظ العام إما أن
يكون متناولا للرسول ص أو لا يكون متناولا له فإن كان متناولا
له كان ذلك الفعل مخصصا لذلك العموم في حقه وهل يكون مخصصا
للعموم في حق غيره فنقول
(3/81)
إن دل دليل على أن حكم غيره كحكمه في الكل
مطلقا أو في الكل إلا مخصه الدليل أو في تلك الواقعة كان ذلك
تخصيصا في حق غيره ولكن المخصص للعموم لا يكون ذلك الفعل وحده
بل الفعل مع
ذلك الدليل وإن لم يكن كذلك لم يجز تخصيص ذلك العام في حق غيره
وأما إن كان اللفظ العام غير متناول للرسول عليه السلام بل
للأمة فقط فإن قام الدليل على أن حكم الأمة مثل حكم النبي ص
صار العام مخصوصا بمجموع فعل الرسول عليه السلام مع ذلك الدليل
وإلا فلا واحتج من منع هذا التخصيص مطلقا بأن المخصص للعام هو
الدليل الذي دل على وجوب متابعته وهو قولتعالى فاتبعوه وذلك
اعم من العام الذي يدل على بعض الأشياء فقط فالتخصيص بالفعل
يكون تقديما للعام على الخاص وهو غير جائز والجواب أن المخصص
ليس مجرد قوله تعالى فاتبعوه بل هو مع ذلك الفعل ومجموعهما أخص
من العام الذي ندعي تخصيصه بالفعل المسألة السادسة من فعل ما
يخالف مقتضى العموم بحضر الرسول ص فلم ينكره
(3/82)
عليه فعدم الإنكار من الرسول ص قاطع في
تخصيص العام في حق ذلك الفاعل أما في حق غيره فإن ثبت أن حكمه
ص في الواحد حكمه في الكل كان ذلك التقرير تخصيصا في حق الكل
وإلا فلا والله أعلم
(3/83)
الفصل الرابع في
تخصيص المقطوع بالمظنون وفيه مسائل
المسألة الأولى يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد عندنا وهو قول
الشافعي وأبي حنيفة ومالك رحمهم الله وقال قوم لا يجوز أصلا
وقال عيسى بن أبان إن كان قد خص قبل ذلك بدليل مقطوع به جاز
وإلا فلا وقال الكرخي إن كان قد خص بدليل منفصل صار مجازا
فيجوز ذلك وإن خص بدليل متصل أو لم يخص أصلا لم يجز وأما
القاضي أبو بكر رحمه الله إنه اختار التوقف
(3/85)
لنا أن العموم وخبر الواحد دليلان متعارضان
وخبر الواحد أخص من العموم فوجب تقديمه على العموم إنما قلنا
إنهما دليلان لأن العموم دليل بالاتفاق وأما خبر الواحد فهو
ايضا دليل لأن العمل به يتضمن دفع ضرر مظنون فكان العمل به
واجبا فكان دليلا وإذا ثبت ذلك وجب تقديمه على العموم لأن
تقديم العموم عليه يفضي إلى إلغائه بالكلية أما تقديمه على
العموم فلا يفضي إلى إلغاء العموم بالكلية فكان ذلك أولى كما
في سائر المخصصات وأما جمهور الآصحاب فقالوا أجمعت الصحابة على
تخصيص
عموم القرآن بخبر الواحد وبينوه بخمس صور إحداها أنهم خصصوا
قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم بما رواه الصديق رضي الله
عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال نحن معاشر الأنبياء لا نورث
(3/86)
وثانيها خصصوا عموم قوله تعالى فإن كن نساء
فوق لأنه اثنتين فلهن ثلثا ما ترك بخبر محمد بن مسلمة والمغيرة
بن شعبة أنه ص جعل للجدة السدس لأن المتوفاة إذا خلفت زوجا
وبنتين وجدة فللزوج الربع
(3/87)
ثلاثة وللبنين الثلثان ثمانية وللجدة السدس
اثنان عالت المسألة إلى ثلاثة عشر وثمانية من ثلاثة عشر أقل من
ثلثي التركة وثالثها أنهم خصصوا قوله تعالى وأحل الله البيع
بخبر أبي سعيد في المنع من المنع من بيع الدرهم بالدرهمين
(3/88)
ورابعها خصصوا قوله تعالى اقتلوا المشركين
بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس سنوا بهم سنة أهل الكتاب
وخامسها خصصوا قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم بخبر أبي
هريرة في المنع من نكاح المرأة على عمتها وخالتها وبنت أخيها
وبنت أختها
(3/89)
ولقائل أن يقول هل أجمعت الصحابة على تخصيص
هذه العمومات في هذه الصور أو ما أجمعت فإن قلتم ما أجمعوا فقد
سقط دليلكم وإن قلتم أجمعوا فلم لا يجوز أن يقال المخصص لهذه
العمومات ذلك الإجماع فان قلت لا بد لذلك الإجماع من مستند هو
هذه الأخبار إذ رب إجماع خفي مستنده لاستغنائهم بالإجماع عنه
(3/90)
سلمنا أن ذلك المستند هو هذه الأخبار لكن
لعل هذه الأخبار كانت متواترة عندهم ثم صارت آحادا عندنا واحتج
المانعون بالإجماع والخبر والمعقول أما الإجماع فهو أن عمر رضي
الله عن رد خبر فاطمة بنت قيس وقال لا ندع كتاب ربنا وسنة
نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أو كذبت وأما الخبر فما
روي أنه ص قال إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن
وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه والخبر الذي يخصص
(3/91)
الكتاب على مخالفة الكتاب فوجب رده وأما
المعقول فوجهان الأول
أن الكتاب مقطوع به وخبر الواحد مظنون والمقطوع أولى من
المظنون والثاني ان النسخ تخصيص في الأزمان والتخصيص تخصيص في
الأعيان فنقول لو جاز التخصيص بخبر الواحد في الأعيان لكان
لأجل أن تخصيص العام أولى من إلغاء الخاص وهذا المعنى قائم في
النسخ فكان يلزم جواز النسخ بخبر الواحد ولما لم يجز ذلك علمنا
أن ذلك أيضا غير جائز والجواب عن الأول أنا لا ندعي تخصيص
العموم بكل ما جاء من أخبار الآحاد حتى يكون ذلك علينا وإنما
نجوزه بالخبر الذي لا يكون راويه متهما بالكذب والنسيان وهذا
الشرط ما كان حاصلا هنا لأن عمر رضي الله عنه قدح في روايتها
بذلك فلم يكن قادحا في غرضنا بل هو بأن يكون حجة لنا أولى وذلك
لأن عمر رضي الله عنه بين أن روايتها إنما صارت مردودة لكون
الراوي غير مأمون من الكذب والنسيان ولو كان خبر الواحد
المقتضي لتخصيص
(3/93)
الكتاب مردودا كيف ماكان لما كان لذلك
التعليل وجه وعن الثاني أن ما ذكرتموه يقتضي أن لا يجوز تخصيص
الكتاب بالسنة المتواترة فإن قلتم إن ما يقتضي تخصيص الكتاب لا
يكون على خلافه قلنا في مسألتنا ذلك بعينه وعن الثالث أن
البراءة الأصلية يقينية ثم إنا نتركها بخبر الواحد فبطل قولكم
إن المقطوع لا يترك بالمظنون
ثم نقول لا نسلم حصول التفاوت وبيانه من وجهين الأول أن الكتاب
مقطوع في متنه مظنون في دلالته والخبر مظنون في دلالته فلم
قلتم إنه حصل التفاوت بينهما على هذا التقدير الثاني أن الدليل
القاطع لما دل على وجوب العمل بالخبر المظنون لم يكن وجوب
العمل مظنونا لأن تقدير ذلك أن الله تعالى قال مهما حصل في
قلبكم ظن صدق الراوي فاقطعوا أن حكمي ذلك فإذا وجدنا ذلك الظن
واستدللنا به على الحكم كنا قاطعين بالحكم وإذا كان كذلك فلم
قلتم إن التفاوت حاصل على هذا التقدير وعن الرابع أن الأصوليين
اعتمدوا في الجواب على حرف واحد وهو أن العقل ليس يأبى ذلك
وإنما فصلنا بينهما لإجماع الصحابة على الفصل بينهما فقبلوا
خبر الواحد في التخصيص وردوه في النسخ
(3/94)
وهذا الجواب ضعيف لأنا بينا أن الذي عولوا
عليه في أنهم قبلوا خبر الواحد في التخصيص ضعيف وإذا ثبت ذلك
فنقول ثبت بما ذكرنا أن القياس يقتضي أنه لو قبل خبر الواحد في
التخصيص لوجب قبوله في النسخ وثبت بالاتفاق أنهم ما قبلوه في
النسخ فوجب أن يقال أنهم ما قبلوه في التخصيص أيضا ضروة العمل
بالدليل والجواب الصحيح لا يحصل إلا بذكر الفرق بينهما وهو أن
التخصيص أهون من النسخ ولا يلزم من تأثير الشئ في الأضعف
تأثيره في
الآقوى أخبرنا والله أعلم تنبيه فأما قول عيسى بن أبان والكرخي
فمبنيان على حرف واحد وهو أن العام المخصوص عند عيسى مجاز
والعام المخصوص بالدليل المنفصل مجاز عند الكرخي وإذا صار
مجازا صارت دلالته مظنونة ومتنه مقطوعا وخبر الواحد متنه مظنو
ودلالته مقطوعة فيحصل التعادل فأما قبل ذلك فإنه حقيقة في
العموم فيكون قاطعا في متنه وفي دلالته فلا يجوز أن يرجح عليه
المظنون فهذا هو مأخذهم والكلام عليه هو ما تقدم والله أعلم
(3/95)
المسألة الثانية يجوز تخصيص عموم الكتاب
والسنة المتواترة بالقياس وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ومالك
وأبي الحسين البصري والأشعري وأبي هاشم أخيرا ومنهم من منع منه
مطلقا وهو قول الجبائي وأبي هاشم أولا ومنهم من فصل ثم ذكروا
فيه وجوها أربعة الأول قول عيسى بن أبان أن تطرق التخصيص إلى
العموم جاز وإلا فلا والثاني قول الكرخي وهو أنه إن خص بدليل
منفصل جاز وإلا فلا والثالث قول كثير من فقهائنا ومنهم ابن
سريج يجوز بالقياس الجلي دون الخفي
ثم اختلفوا في تفسير الجلي والخفي على ثلاثة أوجه أحدها أن
الجلي هو قياس المعنى والخفي هو قياس الشبه وثانيها أن الجلي
هو مثل قوله ص لا يقضي القاضي وهو غضبان وتعليل ذلك بما يدهش
العقل عن إتمام
(3/96)
الفكر حتى يتعدى إلى الجائع والحاقن
وثالثها قول أبي سعيد الاصطخري وهو أن الجلي هو الذي إذا قضى
القاضي بخلافة ينتقض قضاؤه والرابع قول الغزالي رحمه الله وهو
أن العام والقياس إن تفاوتا في إفادة الظن رجحنا الأقوى وإن
تعادلا توقفنا وأما القاضي أبي بكر وأمام الحرمين فقد ذهبا إلى
الوقف قال إمام الحرمين والقول بالوقف يشارك القول بالتخصيص من
وجه ويباينه من وجه أما المشاركة فلأن المطلوب من تخصيص العام
بالقياس إسقاط الاحتجاج بالعام والوقف يشاركه فيه
(3/97)
وأما المباينة فهي أن القائل بالتخصيص يحكم
بمقتضى القياس والواقف لا يحكم به تنبيه نسبة قياس الكتاب إلى
عموم الكتاب كنسبة قياس الخبر المتواتر إلى عموم الخبر
المتواتر وكنسبة قياس خبر الواحد إلى عموم خبر
الواحد والخلاف جار في الكل وكذا القول في قياس الخبر المتواتر
بالنسبة إلى عموم الكتاب وبالعكس أما قياس خبر الواحد إذا
عارضه عموم الكتاب أو السنة المتواترة وجب أن يكون تجويزه أبعد
لنا أن العموم والقياس دليلان متعارضان والقياس خاص فوجب
تقديمه أما ان العموم دليل فبالاتفاق وأما أن القياس دليل فلأن
العمل به دفع ضرر مظنون فكان العمل به واجبا وسيأتي تقرير هذه
الدلالة في باب القياس إن شاء الله تعالى وإذا ثبت ذلك
فالتقرير ما تقدم في المسألة الأولى واحتج المانعون بأمور
(3/98)
أحدها أن الحكم المدلول عليه بالعموم معلوم
والحكم المدلول عليه بالقياس مظنون والمعلوم راجح على المظنون
وثانيها أن القياس فرع النص فلو خصصنا العموم بالقياس لقدمنا
الفرع على الأصل وإنه غير جائز وثالثها أن حديث معاذ دل
(3/99)
على أنه لا يجوز الاجتهاد إلا بعد فقد ذلك
الحكم في الكتاب والسنة وذلك يمنع من تخصيص النص بالقياس
ورابعها أن الأمة مجمعة على أن من شرط القياس أن لا يرده النص
وإذا كان العموم مخالفا له فقد رده
(3/100)
وخامسها أنه لو جاز التخصيص بالقياس لجاز
النسخ به وقد تقدم تقريره والجواب عن الأول ما تقدم وعن الثاني
أن القياس المخصص للنص يكون فرعا لنص آخر وحينئذ يزول السؤال
فإن قلت لما كان القياس فرعا لنص آخر فك مقدمة لا بد منها في
دلالة النص على الحكم كانت معتبرة في الجانبين وأما المقدمات
التي لا بد منها في دلالة القياس فهي مختصة بجانب القياس فقط
فإذن إثبات الحكم بالقياس يتوقف على مقدما أكثر وبالعموم على
مقدمات أقل فكان إثبات الحكم بالعموم أظهر من إثباته بالقياس
والأقوى لا يصير مرجوحا بالأضعف قلت قد تكون دلالة بعض
العمومات على مدلوله أقوى وأقل مقدمات من دلالة عموم آخر على
مدلوله وعند هذا يظهر الحق ما قاله الغزالي رحمه الله وهو أن
دلالة العموم المخصوص على مدلوله إذا افتقرت إلى مقدمات كثيرة
ودلالة
(3/101)
العموم الذي هو أصل القياس إذا افتقرت إلى
مقدمات قليلة بحيث تكون تلك المقدمات المعتبرة في القياس
معادلة لمقدمات قليلة بحيث تكون تلك المقدمات مع المقدمات
المعتبرة في القياس معادلة لمقدمات العموم المخصوص أو أقل جاز
وحينئذ لا يتوجه ما قالوه
وعن الثالث أن حديث معاذ إن اقتضى إنه لا يجوز تخصيص الكتاب
والسنة بالقياس فليقتض أن لا يجوز تخصيص الكتاب بالسنة
المتواترة ولا شك في فساد ذلك وعن الرابع أن نقول مالذي تريد
بقولك شرط القياس أن لا يدفعه النص إن أردتم أن شرطه أن لا
يكون رافعا لكل ما اقتضاه النص فحق وإن أردتم أن لا يكون رافعا
لشئ مما اقتضاه النص فهو عين المتنازع وعن الخامس ما تقدم في
المسألة الأولى المسألة الثالثة إذا قلنا المفهوم حجة فلا شك
أن دلالته أضعف من دلالة المنطوق فهل يجوز تخصيص العام به
(3/102)
مثاله إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في
الغنم ثم قال الشارع في سائمة الغنم زكافهذا مفهومه يقتضي
تخصيص ذلك العام ولقائل أن يقول إنما رجحنا الخاص على العام
لأن دلالة الخاص على ما تحته أقوى من دلالة العام على ذلك
الخاص والأقوى راجح وأما ها هنا فلا نسلم أن دلالة المفهوم على
مدلوله أقوى من دلالة العام على ذلك الخاص بل الظاهر أنه أضعف
وإذا كان كذلك كان تخصيص العام بالمفهوم ترجيحا للأضعف على
الأقوى وأنه لا يجوز والله أعلم
(3/103)
القول في بناء العام
على الخاص روي عن رسول الله ص خبران
خاص وعام وهما كالمتنافيين فإما أن نعلم تاريخهما أو لا نعلم
فإن علمنا التاريخ فإما أن نعلم مقارنتهما أو نعلم تراخي
أحدهما عن الآخر فإن علمنا مقارنتهما نحو أن يقول في الخيل
زكاة ويقول عقيبه ليس في الذكور من الخيل زكاة فالواجب أن يكون
الخاص مخصصا للعام ومنهم من قال بل ذلك القدر من العام يصير
معارضا للخاص لنا وجوه الأول أن الخاص أقوى دلالة على ما
يتناوله من العام والأقوى راجح فالخاص راجج بيان الأول أن
العام يجوز إطلاقه من غير أرادة ذلك الخاص أما
(3/104)
ذلك الخاص فلا يجوز إطلاقه من غير أرادة
ذلك الخاص فثبت أنه أقوى الثاني أن السيد إذا قال لعبده اشتر
كل ما في السوق من اللحم ثم قال عقيبه لا تشتر لحم البقر فهم
منه إخراج لحم البقر من كلامه الأول الثالث إن إجراء العام على
عمومه إلغاء للخاص واعتبار الخاص لا يوجب
إلغاء واحد منهما فكان ذلك أولى فإن قلت هلا حملتم قوله في
الخيل زكاة على التطوع وقوله لا زكاة في الذكور من الخيل على
نفي الوجوب وهذا وإن كان مجازا لكن التخصيص أيضا مجاز فلم كان
مجازكم أولى من مجازنا لو قلت إنا نفرض الكلام فيما إذا قال
أوجبت الزكاة في الخيل ثم قال لاأوجبها في الذكور من الخيل
ولأن قوله في الخيل زكاة يقتضي وجوبها في الإناث والذكور فلو
حملناه على التطوع لكنا قد عدلنا باللفظ عن ظاهره في الإناث
لدليل لا يتناول الإناث وليس كذلك إذا أخرجنا الذكور في قوله
في الخيل زكاة لأنا نكون قد أخرجنا من العام شيئا لدليل
يتناوله واقتضى إخراجه
(3/105)
أما إذا علمنا تأخير الخاص عن العام فإن
ورد الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام كان ذلك بيانا للتخصيص
ويجوز ذلك عند من يجوز تأخير بيان العام ولا يجوز عند المانعين
منه وإن ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام كان ذلك نسخا
وبيانا لمراد المتكلم فيما بعد دون ما قبل لأن البيان لا يتأخر
عن وقت الحاجة أما إن كان العام متأخرا عن الخاص فعند الشافعي
وأبي الحسين البصري أن العام يبتى يكوعلى الخاص وهو المختار
وعند أبي حنيفة والقاضي عبد الجبار بن احمد أن العام المتأخر
ينسخ الخاص المتقدم وتوقف ابن القاص فيه
(3/106)
لنا وجوه الأول الخاص أقوى دلالة على ما
يتناوله من العام والأقوى راجح فالخاص راجح الثاني إن إجراء
العام على عمومه يوجب إلغاء الخاص واعتبار الخاص لا يوجب إلغاء
واحد منهما فكان أولى واحتج أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله
بأمور أحدها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال كنا نأخذ
بالأحدث فالأحدث
(3/107)
فإذا كان العام متأخرا كان أحدث فوجب الأخذ
به وثانيها لفظان تعارضا وعلم التاريخ بينهما فوجب تسليط
الأخير على السابق كما لو كان الأخير خاصا واحترزنا بقولنا
لفظان عن العام الذي يخصه العقل فإنا هناك سلطنا المتقدم
وثالثها أن اللفظ العام في تناوله لآحاد ما دخل تحته يجري مجرى
ألفاظ خاصة كل واحد منها يتناول واحدا فقط من تلك الآحاد لأن
قوله
تعالى اقتلوا المشركين قائم مقام قوله اقتلوا زيدا المشرك
اقتلوا عمرا أقتلوا خالدا ولو قال ذلك بعد ما قال لا تقتلوا
زيدا كان الثاني ناسخا واحتج ابن القاص على التوقف بأن هذين
الخطابين كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من
(3/108)
وجه آخر لأنه إذا قال لا تقلوا اليهود ثم
قال بعده اقتلوا المشركين فقوله لا تقتلوا اليهود أخص من قوله
اقتلوا المشركين من حيث إن اليهودي أخص من المشرك وأعم منه من
حيث إنه دخل في المتقدم من الأوقات ما لم يدخل في المتأخر وهو
ما بين زمان ورود المتقدم والمتأخر فظهر أن الخاص المتقدم أعم
في الأزمان وأخص في الأعيان والعام المتأخر بالعكس فكل واحد
منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه آخر وإذا ثبت ذلك وجب
التوقف والرجوع إلى الترجيح كما في كل خطابين هذا شأنهما
والجواب عن الأول أن هذا قول الصحابي فيكون ضعيف الدلالة فنخصه
بما إذا كان الأحدث هو الخاص
(3/109)
وعن الثاني أن الفرق ما ذكرنا من أن الخاص
أقوى من العام فوجب تقديمه عليه ولأنا لو لم نسلط الخاص
المتأخر على العام المتقدم لزم إلغاء
الخاص أما لو لم نسلط العام المتأخر على الخاص المتقدم فلا
يلزم ذلك فظهر الفرق وعن الثالث أنه إذا كان اللفظ عاما احتمل
التخصيص وليس كذلك إذا كان خاصا ولهذا لو كان قوله لا تقتلوا
اليهود مقارنا لقوله اقتلوا المشركين لخصه ولو قارن المفصل
لناقضه ولم يخصه لأن الخاص لا يحتمل التخصيص وأما الذي تمسك به
ابن القاص فهو ضعيف لأنه فرض الخاص المتقدم نهيا فلا جرم عم
الأزمان وفرض العام المتأخر أمرا فلا جرم لم يعم الآزمان فصح
له ما ادعاه من كون الخاص أعم من العام من هذا الوجه أما لو
فرضنا الخاص المتقدم أمرا والعام المتأخر نهيا فإنه لا يستقيم
(3/110)
كلامه لأن الخاص المتقدم لا شك أنه خاص في
الأعيان وهو أيضا خاص في الأزمان لا الأمر لا يفيد التكرار أما
العام المتأخر فإذا فرضناه نهيا كان أعم من المتقدم في الأعيان
بالاتفاق وفي الأزمان أيضا لأن الأمر لا يتناول كل الأزمان بل
يتناول زمانا واحدا فها هنا المتأخر أعم من المتقدم من كل
الوجوه فبطل ما قالوه والله أعلم
أما إذا لم يعرف التاريخ بينهما فعند الشافعي رضي الله عنه أن
الخاص منهما يخص العام وعند أبي حنيفة رضي الله عنه يتوقف
فيهما ويرجع إلى غيرهما أو إلى ما يرجح أحدهما على الآخر وهذا
سديد على أصله لأن الخاص دائر بين أن يكون منسوخا وبين أن يكون
مخصصا وناسخا مقبولا وناسخا مردودا وعند حصول التردد يجب
التوقف واعتمد أصحابنا فيه على وجهين أحدهما أنه ليس للخاص مع
العام إلا أن يقارنه أو يتقدمه أو يتأخر عنه
(3/111)
وقد ثبت تخصيص العام بالخاص عندنا على
التقديرات الثلاثة فعند الجهل بالتاريخ يكون الحكم أيضا كذلك
وهذا ضعيف لأن الخاص المتأخر عن العام إن ورد قبل حضور وقت
العمل بالعام كان تخصيصا وإن ورد بعده كان نسخا وعلى هذا نقول
إن كان العام والخاص مقطوعين أو مظنونين أو العام مظنونا
والخاص مقطوعا وجب ترجح الخاص على العام لأن الخاص دائر بين أن
يكون ناسخا أو مخصصا وعلى التقدير ين فالخاص مقدم في هذه
الصورة أما إذا كان العام مقطوعا به والخاص مظنونا فبتقدير أن
يكون الخاص مخصصا وجب العمل به لأن تخصيص الكتاب بخبر الواحد
جائز لكن بتقدير أن يكون ناسخا لم يجب العمل به لأن نسخ الكتاب
بخبر الواحد لا يجوز فالحاصل أن الخاص دائر بين أن يكون مخصصا
وبين أن يكون ناسخا مقبولا وبين أن يكون ناسخا مردودا
(3/112)
وإذا كان كذلك لم يجب تقديم الخاص على
العام مطلقا الثاني أن العموم بالقياس مطلقا فلأن يخص بخبر
الواحد أولى وهو ضعيف لأن القياس يقتضي أصلا يقاس عليه فذلك
الأصل إن كان متقدما على العام لم يجز القياس عليه عندنا وكذا
القول إذا لم يعرف تقدمه وتأخره لا يجوز القياس عليه والمعتمد
أن فقهاء الأمصار في هذه الأعصار يخصصون أعم الخبرين بأخصهما
مع فقد علمهم بالتاريخ فإن قلت إن ابن عمر رضي الله عنهما لم
يخص قوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم بقوله ص لا تحرم
الرضعة ولا الرضعتان
(3/113)
وعنه أيضا لما سئل عن نكاح النصرانية حرمه
محتجا بقوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وجعل هذا
العام رافعا لقوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب مع
خصوصه
(3/114)
قلت ادعينا إجماع أهل هذه الأعصار ويحتمل
أن يكون ابن عمر امتنع من ذلك الدليل تنبيه إن الحنفية لما
اعتقدوا أن الواجب في مثل هذا العام والخاص إما التوقف وإما
الترجيح ذكر عيسى بن أبان ثلاثة أوجه في الترجيح أحدها اتفاق
الآمة على العمل بأحدها وثانيها عمل أكثر الأمة بأحد الخبرين
وعيبهم على من لم يعمل به كعملهم
(3/115)
بخبر أبي سعيد وعيبهم علي ابن عباس حين نفى
الربا في النقدين
(3/116)
وثالثها أن تكون الرواية لأحدهما أشهر وزاد
أبو عبد الله البصري وجهين آخرين أحدهما أن يتضمن أحد الخبرين
حكما شرعيا وثانيهما أن يكون أحد الخبرين بيانا للآخر بالاتفاق
كاتفاقهم على أن قوله ص لاقطع إلا في ثمن المجن بيان لآية
السرقة
(3/117)
قال أبو الحسين البصري رحمه الله هذه
الأمور أمارة لتأخر أحد
(3/118)
الخبرين لأن الخبر لو كان متقدما منسوخا
لما اتفقت الأمة على استعماله ولا عابوا من ترك استعماله ولما
كان نقله أشهر ولما أجمعوا على كونه بيانا لناسخه وكون الحكم
غير شرعي يقتضي كون الخبر الذي تضمنه مصاحبا للعقل وأن الخبر
المتضمن للحكم الشرعي متأخر وهذا الوجه ضعيف والله أعلم
(3/119)
القول فيما ظن أنه من مخصصات العموم مع أنه
ليس كذلك وفيه مسائل المسألة الأولى الخطاب الذي يرد جوابا عن
سؤال سائل إما أن لا يكون مستقلا بنفسه أو يكون والأول على
قسمين لأن عدم استقلاله إما أن يكون لأمر يرجع إليه كقوله ص
وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر أينقص أذا جف قالوا نعم قال فلا
إذن
(3/121)
وإما أن يكون لأمر يرجع إلى العادة كقوله
والله لا آكل في جواب من يقول كل عندي لأن هذا الجواب مستقل
بنفسه غير أن العرف اقتضى عدم استقلاله حتى صار مفتقرا إلى
السبب الذي خرج عليه والقسم الثاني على ثلاثة أنواع لآن الجواب
إما أن يكون أخص أو
مساويا أو أعم والأعم إما ان يكون أعم مما سئل عنه كقوله ص لما
سئل عن بئربضاعة الماء طهور لا ينجسه شئ
(3/122)
أو يكون أعم في غير ما سئل عنه كقوله ص وقد
سئل عن ماء البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته
(3/123)
إذا عرفت هذه الأقسام فنقول أما الجواب
الذي لا يستقل بنفسه فإنه يفيد مع سببه فيكون السبب موجودا في
كلام المجيب تقديرا وإلا لم يفد ولو أن المتكلم أتى بالسبب في
كلامه فقال والله لا آكل عندك لكان اليمين مقصورا على الأكل
عنده وأما الجواب المستقل المساوي فلا إشكال فيه وأما الأخص
فهو جائز بثلاث شرائط أحدها أن يكون فيما خرج عن الجواب تنبيه
على ما لم يخرج منه وثانيها أن يكون السائل من أهل الاجتهاد
وثالثها أن لا تفوت المصلحة باشتغال السائل بالاجتهاد وبدون
هذه الشرائط لا يجوزو أما إذا كان الجواب أعم في غير ما سئل مع
عنه فلا شبهة في أنه يجري
على عمومه
(3/124)
أما إذا كان الجواب أعم مما سئل عنه فالحق
أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب خلافا للمزني وأبو ثور
فإنهما زعما أن خصوص السبب يكون مخصصا لعموم اللفظ قال إمام
الحرمين وهو الذي صح عن الشافعي رضي الله عنه لنا وجهان الأول
أن المقتضى للعموم قائم وهو اللفظ الموضوع للعموم والمعارض
الموجود وهو خصوص السبب لا يصلح معارضا لأنه لا منافاة بين
عموم اللفظ وخصوص السبب فإن الشارع لو صرح وقال يجب عليكم أن
تحملوا اللفظ العام على عمومه عمومه وأن لا تخصصوه سعيد بخصوص
سببه كان ذلك جائزا والعلم بجوازه ضروري الثاني أن الأمة مجمعة
على أن آية اللعان والظهار والسرقة وغيرها إنما نزلت في أقوام
معينين مع أن الأمة عمموا حكمها ولم يقل أحد أن ذلك التعميم
خلاف الأصل واحتج المخالف بأن المراد من ذلك الخطاب إما بيان
ما وقع السؤال عنه أو غيره
(3/125)
فإن كان الأول وجب أن لا يزاد عليه وذلك
يقتضي أن يتخصص بتخصص السبب
وإن كان الثاني وجب أن لا يتأخر ذلك البيان عن تلك الواقعة
والجواب أن ما ذكروه يقتضي أن يكون ذلك الحكم مقصورا على ذلك
السائل وفي ذلك الزمان والمكان والهيئة وأيضا فلم لا يجوز أن
يكون ذلك السؤال الخاص اقتضى ذلك البيان العام لا بد على
امتناعه من دليل والله أعلم تنبيه هذا العام وإن كان حجة في
موضع السؤال وفي غيره إلا أن دلالته على موضع السؤال أقوى منها
على غير ذلك الموضع وهذا يصلح أن يكون من المرجحات والله أعلم
المسألة الثانية الحق إنه لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي
وهو قول الشافعي
(3/126)
رضي الله عنه لأنه قال إن كان الراوي حمل
الخبر على أحد محمليه صرت إلى قوله وإن ترك الظاهر لم أصر إلى
قوله خلافا لعيسى بن أبان ومثاله خبر أبي هريرة في أن الإناء
يغسل من ولوغ الكلب سبعا فإنه خص ذلك بمذهب أبي هريرة في أنه
يغسل ثلاثا ومنهم من فصل فقال إن وجد خبر يقتضي تخصيصه أو وجد
في الأصول ما يقتضي ذلك لم يخص الخبر بمذهبه وإلا خص بمذهبه
لنا
أن مخالفة الراوي تحتمل أقساما ثلاثة طرفين وواسطة
(3/127)
أما طرف الإفراط فهو أن يقال الراوي عالم
بالضرورة أنه ص أراد بذلك العام الخاص إما لخبر آخر قاط يقتضي
ذلك أو لشئ من قرائن الأحوال وهذا الاحتمال يعارضه أنه لو كان
كذلك لوجب على الراوي أن يبين ذلك إزالة للتهمة عن نفسه
وللشبهة وأما طرف التفريط فهو أن يقال إنه ترك العموم بمجرد
الهوى وهو معارض بما أن الظاهر من عدالته خلافه وأما الوسط فهو
أنه خالفه بدليل ظنه أقوى منه إما محتكل قد أو قياس وذلك الظن
يحتمل أن يكون خطأ ويحتمل أن يكون صوابا وإذا تعارضت
الاحتمالات في مخالفة الراوي وجب تساقطها والرجوع إلى العموم
(3/128)
واحتج المخالف بأن مخالفة الراوي إن كانت
لا عن طريق كان ذلك قادحا في عدالته فالقدح في عدالته قدح في
متن الخبر وإن كانت عن طريق فذلك الطريق إما محتمل أو قاطع ولو
كان الدليل محمتلا لذكره إزالة للتهمة عن نفسه والشبهة عن غيره
ولما بطل ذلك تعين القطع والجواب
أن إظهاره لذلك الدليل المحتمل إنما يجب عليه مع من ناظره
فلعله لم تتفق تلك المناظرة سلمنا أنه ذكره لكن لعله لم ينقل
أو نقل لكنه لم يشتهر والله أعلم المسألة الثالثة الحق أنه لا
يجوز تخصيص العام بذكر بعضه خلافا لأبي ثور مثاله قوله ص أيما
إهاب دبغ فقد طهر قال المراد جلد الشاة
(3/129)
لأنه قال صلى الله عليه وسلم في جلد شاة
ميمونة دباغها طهورها
(3/130)
لنا أن المخصص للعام لا بد وأن يكون بينه
وبين العام منافاة ولا منافاة بين كل الشئ وبعضه لأن الكل
محتاج إلى البعض والمحتاج إليه لا ينافي المحتاج احتج المخالف
بأن تخصيص الشئ بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه فتخصيص
الخاص بالذكر يدل على نفي الحكم عن غيره وذلك يقتضي تخصيص
العام والجواب أنا لا نقول بدليل الخطاب سلمناه لكن التمسك
بظاهر العموم أولى من التمسك بالمفهوم على ما تقدم المسألة
الرابعة
اختلفوا في التخصيص بالعادات والحق أن نقول العادات إما أن
يعلم من حالها أنها كانت حاصلة في زمان الرسول ص وأنه ص ما كان
يمنعهم منها أو يعلم أنها ما كانت حاصلة
(3/131)
أو لا يعلم واحد من هذين الأمرين فإن كان
الأول صح التخصيص بها لكن المخصص في الحقيقة هو تقرير الرسول ص
عليها وإن كان الثاني لم يجز التخصيص بها لأن أفعال الناس لا
تكون حجة على الشرع بل لو أجمعوا عليه لصح التخصيص بها لكن
المخصص حينئذ هو الإجماع لا العادة وإن كان الثالث كان محمتلا
للقسمين الأولين ومع احتمال كونه غير مخصص لا يجوز القطع بذلك
والله أعلم المسألة الخامسة كونه مخاطبا هل يقتضي خروجه عن
الخطاب العام أما في الخبر فلا لقوله تعالى وهو بكل شئ عليم
لأن اللفظ عام ولا مانع من الدخول وأما في الأمر الذي جعل جزاء
كقوله من دخل داري فأكرمه فيشبه أن يكون كونه أمرا قرينة مخصصة
والله أعلم
(3/132)
المسألة السادسة الخطاب المتناول لما يندرج
فيه النبي ص والأمة كقوله يا أيها
الناس يا أيها الذين آمنوا عام في حقهما ومنهم من خصصه بالأمة
قال لأن منصب الرسول ص يقتضي إفراده بالذكر وهو باطل لأن اللفظ
عام ولا مانع من دخول الرسول ص فيه وقال الصيرفي كل خطاب لم
يصدر بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتبليغه ولكن ورد مطلقا
فالرسول ص مخاطب به كغيره وكل ما كان مصدرا بأمر الرسول
بتبليغه فذلك لا يتناوله كقوله قل يا أيها الناس المسألة
السابعة الخطاب المتناول لما يندرج فيه الحر والعبد والمسلم
والكافر لا يخرج عنه العبد والكافر
(3/133)
أما العبد فلأن اللفظ عام وقيام المانع
الذي يوجب التخصيص خلاف الأصل وهذا القدر يوجب دخول العبد فيه
بل العبادة التي تترتب على المالكية لا تتحقق في حق العبد لأن
العبد ليس له صلاحية المالكية فأما فيما عداه فهو داخل فيه فإن
قلت المانع من ذلك هو ما ثبت من وجوب خدمته لسيده في كل وقت
يستخدمه فيه وذلك يمنعه من العبادات في هذه الأوقات فإن قلتم
إنما يلزمه خدمة سيده لو فرغ من العبادات فنقول لم كان تخصيص
الدليل الدال على وجوب خدمة السيد بما دل على وجوب
العبادة أولى من تخصيص ما دل على وجوب العبادة بما دل على وجوب
خدمة السيد قلت ما دل على وجوب خدمة السيد في حكم العام وما دل
على وجوب العبادات في حكم الخاص لأن كل عبادة يتناولها لفظ
مخصوص كآية
(3/134)
الصلاة وآية الصيام والخاص متقدم على العام
وأما بيان أن كونه كافرا لا يخرجه عن العموم فقد ثبت في باب أن
الكفار مخاطبون بالشرائع والله أعلم السمألة الثامنة قصد
المتكلم بخطابه إلى المدح أو إلى الذم لا يوجب تخصيص العام
ومنع بعض فقهائنا من عموم قوله تعالى والذين يكنزون الذهب
والفضة وأبطلوا التعلق به في ثبوت الزكاة في الحلي وقالوا
القصد به إلحاق الذم بمن يكنز الذهب والفضة وليس القصد به
العموم والجواب أنا فهمنا الذم من الآية لدلالة اللفظ عليه
واللفظ دل على العموم
(3/135)
فوجب إثباته وليست دلالتها على الذم مانعة
من دلالتها على العموم المسألة التاسعة عطف الخاص على العام لا
يقتضي تخصيص العام مثاله أن اصحابنا لما احتجوا على أن المسلم
لا يقتل بالذمي بقوله ص لا يقتل مؤمن بكافر قالت الحنفية إنه ص
عطف عليه قوله
ولا ذو عهد في عهده فيكون معناه ولا ذو عهد في عهده بكافر ثم
إن الكافر الذي لا يقتل ذو العهد به هو الحربي فيجب أن يكون
(3/136)
الكافر الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي
تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه والكلام عليه يقع في مقامين
الأول أنا لا نسلم أن قوله ص ولا ذو عهد في عهده معناه ولا ذو
عهد في عهده بكافر بيانه أن قوله ص ولاذو عهد في عهده كلام تام
وإذا كان كذلك لم يجز إضمار تلك الزيادة إنما قلنا أنكلام تام
لأنه قال ولا يقتل ذو عهد لكان من الجائز أن يتوهم منه متوهم
أن من وجد منه العهد ثم خرج عن عهده فإنه لا يجوز قتله فلما
قال في عهده علمنا أن هذا النهي مختص بكونه في العهد وإذا ثبت
أن هذا القدر كلام تام لم يجز إضمار تلك الزيادة لأن الإضمار
على خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا لضرورة
(3/137)
سلمنا أن قوله ص ولا ذو عهد في عهده معناه
ولا ذو عهد في عهده بكافر لكن لا نسلم أن هذا الكافر لما كان
هو الحربي وجب أن يكون المراد بقوله لا يقتل مؤمن بكافر هو
الحربي
بيانه أن مقتضى العطف مطلق الاشتراك لا الاشتراك من كل الوجوه
وإذا كان كذلك لم يجب ما قالوه والله أعلم المسألة العاشرة
اختلفوا في أن العموم إذا تعقبه استثناء أو تقييد بصفة أو حكم
وكان ذلك لا يتأتى إلا في بعض ما يتناوله هل يجب أن يكون
المراد بذلك العموم ذلك البعض فقط أم لا
(3/138)
مثال الاستثناء قوله تعالى لا جناح عليكم
إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ثم قال عز
وجل وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف
ما فرضتم إلا أن يعفون فاستثنى العفو وعلقه بكناية راجعة إلى
النساء ومعلوم أن العفو لا يصح إلا من المالكات لأمورهن دون
الصغيرة والمجنونة فهل يجب أن يقال الصغيرة والمجنونة غير
مرادة بلفظ النساء في أول الكلام مثال التقييد بالصفة قوله
تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ثم قال
لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا يعني الرغبة في مراجعتهن
ومعلوم أن ذلك لا يتأتى في البائنة ومثال التقييد بحكم آخر
قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ثم قال
وبعولتهن أحق بردهن في ذلك وهذا أيضا لا يتأتى في البائن
إذا عرفت هذا فنقول
(3/139)
ذهب القاضي عبد الجبار إلى أنه لا يجب
تخصيص ذلك العموم بتلك الأشياء ومنهم من قطع بالتخصيص ومنهم من
توقف وهو المختار والدليل عليه أن ظاهر العموم المتقدم يقتضي
الاستغراق وظاهر الكناية يقتضي الرجوع إلى كل ما تقدم لأن
الكناية يجب رجوعها إلى المذكور المتقدم والمذكور المتقدم في
الآية الأولى وهو المطلقات لا بعضهن ألا ترى أن الإنسان إذا
قال من دخل الدار من عبيدي ضربته إلا أن يتوبوا انصرف ذلك إلى
جميع العبيد وجرى مجرى أن يقول إلا أن يتوب عبيدي الداخلون في
الدار وإذا ثبت ذلك فليست رعاية ظاهر العموم أولى من رعاية
ظاهر الكناية فوجب التوقف والله أعلم
(3/140)
القسم الرابع من كتاب العموم والخصوص في
حمل المطلق على المقيد وفيه مسائل المسألة الأولى المطلق
والمقيد إذا وردا فإما أن يكون حكم أحدهما مخالفا لحكم الآخر
أو لا يكون
والأول مثل أن يقول الشارع آتوا الزكاة وأعتقوا رقبة مؤمنة ولا
نزاع في أنه لا يحمل المطلق على المقيد ها هنا لأنه لا تعلق
بينهما أصلا
(3/141)
وأما الثاني فلا يخلو إما ان يكون السبب
واحدا أو يكون هناك سببان متماثلان أو مختلفان وكل واحد من هذه
الثلاثة فإما أن يكون الخطاب الوارد فيه أمرا أو نهيا فهذه
أقسام ستة فلنتكلم فيها أما إذا كان السبب واحدا وجب حمل
المطلق على المقيد لأن المطلق جزء من المقيد والآتي بالكل آت
بالجزء لا محالة فالآتي بالمقيد يكون عاملا بالدليلين والآتي
بغير ذلك المقيد لا يكون عاملا بالدليلين بل يكون تاركا
لأحدهما والعمل بالدليلين عند إمكان العمل بهما أولى من
الإتيان بأحدهما وإهمال الآخر فإن قيل لا نسلم أن المطلق جزء
من المقيد بيانه أن الإطلاق والتقييد ضدان والضدان لا يجتمعان
سلمنا ذلك لكن المطلق له عند عدم التقييد حكم وهو تمكن المكلف
من الإتيان بأي فرد شاء من أفراد تلك الحقيقة والتقييد ينافي
هذه المكنة فليس تقييد المطلق أولى من حمل المقيد على الندب
وعليكم الترجيح
(3/142)
والجواب
أما أن المطلق جزء من المقيد فلأنا بينا أن المراد من المطلق
نفس الحقيقة والمقيد عبارة عن الحقيقة مع قيد زائد ولا شك أن
الإطلاق أحد أجزاء الحقيقة المقيدة قوله الإطلاق والتقييد ضدان
قلنا إن عنيت بالإطلاق كون اللفظ دالا على الحقيقة من حيث هي
هي مع حذف جميع القيود السلبية والإيجابية فلا نسلم أن ذلك
ينافي التقييد على ما بيناه وإن عنيت بالإطلاق كون اللفظة دالة
على الحقيقة الخالية عن جميع القيود فنحن لا نريد بالإطلاق ذلك
بل الأول وفرق بين الحقيقة بشرط لا وبين الحقيقة بلا شرط فإن
عدم الشرط غير شرط العدم وأيضا فشرط الخلو عن جميع القيود غير
معقول لأن هذا الخلو قيد قوله المطلق له بشرط عدم التقييد حكم
وهو التمكن من الإتيان بأي فرد شاء من أفراد تلك الحقيقة
(3/143)
قلنا هذا الحكم غير مدلول عليه لفظا
والتقييد مدلول عليه لفظا فهو أولى بالرعاية وأما فجانب النهي
فهو أن يقول لا تعتق رقبة ثم يقول لا تعتق رقبة كافرة والأمر
فيه قريب مما مر المسألة الثانية اختلفوا في الحكمين
المتماثلين إذا أطلق أحدهما وقيد الآخر
وسببهما مختلف مثاله تقييد الرقبة في كفارة القتل بالإيمان
وإطلاقها في كفارة الظهار وفيه ثلاثة مذاهب اثنان طرفان
والثالث هو الوسط أما الطرفان فأحدهما قول من يقول من أصحابنا
تقييد أحدهما يقتضي تقييد الآخر لفظا وثانيهما قول كافة
الحنفية إنه لا يجوز تقييد هذا المطلق بطريق ما البتة
(3/144)
وثالثها القول المعتدل وهو مذهب المحققين
منا أنه يجوز تقييد المطلق بالقياس على ذلك المقيد ولا ندعي
وجوب هذا القياس بل ندعي أنه إن حصل القياس الصحيح ثبت التقييد
وإلا فلا واعلم أن صحة هذا القول إنما تثبت إذا أفسدنا القولين
الأولين أما الأول فضعيف جدا لأن الشارع لو قال أوجبت في كفارة
القتل رقبة مؤمنة وأوجبت في كفارة الظهار رقبة كيف كانت لم يكن
أحد الكلامين مناقضا للآخر فعلمنا أن تقييد أحدهما لا يقتضي
تقييد الآخر لفظا احتجوا بأن القرآن كالكلمة الواحدة وبأن
الشهادة لما قيدت بالعدالة مرة واحدة وأطلقت في سائر الصور
حملنا المطلق على المقيد فكذا
ها هنا
(3/145)
والجواب عن الأول أن القرآن كالكلمة
الواحدة في أنه لا يتناقض لا في كل شئ وإلا وجب أن يتقيد كل
عام ومطلق بكل خاص ومقيد وعن الثاني أنا إنما قيدنا بالإجماع
وأما القول الثاني فضعيف لأن دليل القياس وهو أن العمل به دفع
للضرر المظنون عام في كل الصور شبهة المخالف أن قوله أعتق رقبة
يقتضي تمكين المكلف من إعتاق أي رقبة شاء من رقاب الدنيا فلو
دل القياس على أنه لا يجزيه إلا المؤمنة لكان القياس دليلا على
زوال تلك المكنة الثابتة بالنص فيكون القياس ناسخا وأنه خلاف
الأصل والجواب هذا لا يتم على مذهبكم لأنكم اعتبرتم سلامة
الرقبة عن كثير من العيوب فإن كان اشتراط الإيمان نسخا فكذا
نفي تلك العيوب يكون نسخا
(3/146)
وأيضا فقوله أعتق رقبة لا يزيد في الدلالة
على اللفظ العام وإذا جاز التخصيص العام بالقياس فلأن يجوز هذا
التخصيص به أولى تنبيه
إذا أطلق الحكم في موضع وقيد مثله في موضعين بقيدين متضادين
كيف يكون حكمه مثاله قضاء رمضان الوارد مطلقا في قوله تعالى
فعدة من أيام أخر وصوم التمتع الوارد مقيدا بالتفريق في قوله
تعالى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم
وصوم كفارة الظهار الوارد مقيدا بالتتابع في قوله عز وجل فصيام
شهرين متتابعين اختلفوا فيه على حسب ما مر في المسألة السلفة
فمن زعم أن المطلق يتقيد بالمقيد لفظا ترك المطلق ها هنا على
إطلاقه لأنه ليس تقييده بأحدهما أولى من تقييده بالآخر ومن حمل
المطلق على المقيد لقياس حمله ها هنا على ما كان القياس عليه
والله أعلم
(3/147)
النوع الرابع في
المجمل والمبين وفيه مقدمة وثلاثة أقسام
أما المقدمة ففي تفسير
الألفاظ المستعملة في هذا الباب وهي سبعة الأول البيان وهو في
أصل اللغة اسم مصدر مشتق من التبيين يقال بين يبين تبيينا
وبيانا كما يقال كلم يكلم تكليما وكلاما واذن يؤذن تأذينا
وأذانا
فالمبين يفرق بين الشئ وبين ميشاكله فلهذا قيل
(3/149)
البيان عبارة عن الدلالة يقال بين فلان كذا
بيانا حسنا إذا ذكر الدلالة عليه ويدخل فيه الدليل العقلي وفي
اصطلاح الفقهاء هو الذي دل على المراد بخطاب لا يستقل بنفسه في
الدلالة على المراد والثاني المبين وله معنيان أحدهما ما احتاج
الى البيان وقد ورد عليه بيانه والثاني الخطاب المبتدأ
المستغني عن البيان الثالث المفسر وله معنيان أحدهما ما احتاج
الى التفسير وقد ورد عليه تفسيره وثانيهما الكلام المبتدأ
المستغني عن التفسير لوضوحه في نفسه
(3/150)
الرابع النص وهو كلام تظهر إفادته لمعناه
ولا يتناول أكثر منه واحترزنا بقولنا كلام عن أمرين
أحدهما أن أدلة العقول والأفعال لا تسمى نصوصا وثانيهما أن
المجمل مع البيان لا يسمى نصا لأن قولنا نص عبارة عن خطاب واحد
دون ما يقرن به ولأن البيان قد يكون غير القول والنص لا يكون
الا قولا واحترزنا بقولنا تظهر إفادته لمعناه عن المجمل فان
قلت أليس قد يقال نص الله تعالى على وجوب الصلاة وإن كان قوله
أقيموا الصلاة مجملا قلت إنه ليس نصا إلا في إفادة الوجوب وهو
فيها ليس بمجمل واحترزنا بقولنا ولا يتناول أكثر منه عن قولهم
اضرب عبيدي لأن الرجل إذا قال لغيره إضرب عبيدي لم يقل أحد إنه
نص على ضرب زيد من عبيده لأنه لا يفيده على التعيين ويقال إنه
نص على ضرب جملة عبيده لأنه لا يفيد سواهم
(3/151)
الخامس الظاهر وهو ما لا يفتقر في إفادته
لمعناه الى غيره سواء أفاده وحده أو أفاده مع غيره وب هذا
القيد الأخير يمتاز عن النص امتياز العام عن الخاص وكنا قد
قلنا في باب اللغات إن النص هو اللفظ الذي لا يمكن استعماله في
غير معناه الواحد والظاهر هو الذي يحتمل غيره احتمالا مرجوحا
ولا منافاة بين التعريفين
(3/152)
السادس المجمل وهو في عرف الفقهاء ما أفاد
شيئا من جملة أشياء هو متعين في نفسه واللفظ لا يعينه ولا يلزم
عليه قولك اضرب رجلا لأن هذا اللفظ أفاد ضرب رجل وهو ليس
بمتعين في نفسه فأي رجل ضربته جاز وليس كذلك اسم القرء لأنه
يفيد إما الطهر وحده وإما الحيض وحده واللفظ لا يعينه وقول
الله تعالى أقيموا الصلاة يفيد وجوب فعل متعين في نفسه غير
متعين بحسب اللفظ السابع المؤول والتأويل عبارة عن احتمال
يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه
الظاهر
(3/153)
وأما المحكم والمتشابه فقد مر تفسيرهما في
باب اللغات والله أعلم
(3/154)
القسم الأول في
المجمل وفيه مسائل
المسألة الأولى في أقسام المجمل
الدليل الشرعي إما أن يكون أصلا أو مستنبطا منه والأصل إما أن
يكون لفظا أو فعلا أما اللفظ فإما أن يحكم عليه بالإجمال حال
كونه مستعملا في موضوعه أوحال كونه مستعملا في بعض موضوعه أو
حال كونه مستعملا لا في موضوعه ولا في بعض موضوعه أما القسم
الأول فذاك هو أن يكون اللفظ محتملا لمعان كثيرة فلم يكن حمله
على بعضها أولى من الباقي
(3/155)
ثم تناول اللفظ لتلك المعاني إما بحسب معنى
واحد مشترك بين الكل وهو المتواطئ كقوله تعالى وآتوا حقه يوم
حصاده أولا بحسب معنى واحد وهو المشترك كلفظ القرء وأما القسم
الثاني وهو أن يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملا في بعض
موضوعه فهو كالعام المخصوص بصفة مجملة أو استثناء مجمل أو
بدليل منفصل مجهول مثال الصفة قوله تعالى وأحل لكم ما وراء
ذلكم أن تبتغوا بأموالكم فإنه تعالى لو اقتصر على ذلك لم يفتقر
فيه إلى بيان فلما قيده بقوله محصنين ولم ندر ما الإحصان لم
نعرف ما أبيح لنا ومثال الاستثناء قوله تعالى أحلت لكم بهيمة
الأنعام إلا ما يتلى عليكم
(3/156)
ومثال الدليل المنفصل المجهول كما إذا قال
الرسول ص في
قوله تعالى اقتلوا المشركين المراد بعضهم لا كلهم وأما القسم
الثالث وهو أن يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملا لا في
موضوعه ولا في بعض موضوعه فهو ضربان أحدهما الأسماء الشرعية
والآخر غيرها مثال الأول كما إذا أمرنا الشرع بالصلاة ونحن وفي
لا نعلم انتقال هذا الاسم إلى هذه الأفعال احتجنا فيه إلى بيان
والثاني الأسماء التي دلت الأدلة على إنه لا يجوز حملها على
حقائقها وليس بعض مجازاتها أولى من بعض بحسب اللفظ فلا بد من
البيان أما الفعل فإن مجرد وقوعه لا يدل على وجه وقوعه إلا أنه
قد يقترن به ما يدل على الوجه الذي وقع عليه وحينئذ يستغنى عن
البيان وقد لا يقترن به ذلك فيكون مجملا مثال الأول إذا رأينا
الرسول عليه الصلاة والسلام مواظبا على الإتيان بالسجودين
علمنا أن ذلك من أفعال الصلاة
(3/157)
مثال الثاني أن يقوم من الركعة الثانية ولا
يجلس قدر التشهد جوزنا أن يكون قد سها فيه وأن يكون قد تعمد
ذلك ليدلنا على جواز ترك هذه الجلسة وأما المستنبط من الأصل
فهو القياس ولا يتصور فيه الإجمال والله أعلم المسألة الثانية
يجوز ورود المجمل في كلام الله تعالى وكلام رسول الله ص
والدليل عليه وقوعه في الآيات المتلوة
واحتج المنكر بأن الكلام إما أن يذكر للإفهام أو لا للإفهام
والثاني عبث غير جائز على الله تعالى
(3/158)
والأول إما أن يكون قد قرن بالمجمل ما
يبينه أو لم يفعل ذلك والأول تطويل من غير فائدة لأن التنصيص
عليه أسهل وأدخل في الفصاحة من ذكره باللفظ المجمل ثم بيان ذلك
المجمل بلفظ آخر وأيضا فيجوز أن يصل الإنسان إلى ذلك المجمل
قبل وصوله إلى ذلك البيان فيكون سببا للحيرة وإنه غير جائز
والثاني باطل لأنه إذا أراد الإفهام مع أن اللفظ لا يدل عليه
وليس معه ما يدل عليه كان تكليفا بما لا يطاق وإنه غير جائز
والجواب أن هذا الكلام ساقط عنا لأن عندنا يفعل الله ما يشاء
ويحكم ما يريد وعند المعتزلة فلا يبعد أن يكون في ذكره باللفظ
المجمل ثم إرداف ذلك المجمل بالبيان مصلحة لا يطلع عليها ومع
الاحتمال لا يبقى القطع والله أعلم
(3/159)
القول في أمر ظن أنها من المجملات
وليست كذلك وفيه مسائل المسألة الأولى ذهب الكرخي إلى أن
التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان كقوله تعالى حرمت عليكم
أمهاتكم يقتضي الإجمال وعندنا أنه يفيد بحسب العرف تحريم الفعل
المطلوب من تلك الذات فيفهم من قوله حرمت عليكم أمهاتكم تحريم
الاستمتاع ومن قوله حرمت عليكم الميتة تحريم الأكل لأن هذه
الأفعال هي الأفعال المطلوبة في هذه الأعيان
(3/161)
والحاصل أنا نسلم كونه مجازا في اللغة لكنه
حقيقة في العرف لنا وجوه الأول أن الذي يسبق إلى الفهم من قول
القائل هذا طعام حرام تحريم أكله ومقوله هذه المرأة حرام تحريم
وطئها ومبادرة الفهم دليل الحقيقة وثانيها ماروي أنص قال لعن
الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها فدل هذا على أن
تحريم الشحوم أفاد تحريم كل أنواع التصرف وإلا لم يتوجه الذم
عليهم في البيع
(3/162)
وثالثها أن المفهوم من قولنا فلان يملك
الدار قدرته على التصرف فيها بالسكنى والبيع ومن قولنا فلان
يملك الجارية قدرته على التصرف فيها بالبيع والوطء والاستخدام
وإذا جاز أن تتخلف فائدة الملك على هذا النحو جاز مثله في
التحريم والتحليل احتج الكرخي بأن هذه الأعيان غير مقدورة لنا
لو كانت معدومة فكيف إذا كانت موجودة فإذن لا يمكن إجراء اللفظ
على ظاهره بل المراد تحريم فعل من الأفعال المتعلقة بتلك
الأعيان وذلك الفعل غير مذكور وليس إضمار بعضها أولى من بعض
فإما أن نضمر الكل وهو محال لأنه إضمار من غير حاجة وهو غير
جائز أو نتوقف في الكل وهو المطلوب وايضا فالآية لو دلت على
تحريم فعل معين لوجب أن يتعين ذلك الفعل في كل المواضع وليس
كذلك لأن المراد بقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم حرمة
الاستمتاع وبقوله حرمت عليكم الميتة حرمة الأكل
(3/163)
والجواب لا نزاع في أنه لا يمكن إضافة
التحريم إلى الأعيان لكن قوله ليس إضمار بعض الأحكام أولى من
بعض ممنوع فإن العرف يقتضي إضافة ذلك التحريم إلى الفعل
المطلوب منه والله أعلم المسألة الثانية
ذهب بعض الحنفية إلى إن قوله تعالى وامسحوا برؤوسكم مجمل لأنه
يحتمل مسح جميع الرأس ومسح بعضه وإذا ظهر الاحتمال يثبت
الإجمال وقال آخرون لو خلينا واللفظ لمسحنا كل جميع الرأس لأن
الباء للإلصاق 3 وقال ابن جني لا فرق في اللغة بين أن تقول
مسحت بالرأس وبين أن تقول مسحت الرأس لأن الرأس اسم للعضو
بتمامه فوجب مسحه بتمامه
(3/164)
وقال بعض الشافعية إنها للتبعيض فهو يفيد
مسح بعض الرأس وقال آخرون لا إجمال فيه لأن لفظ المسح مستعمل
في مسح الكل بالاتفاق وفي مسح البعض كما يقال مسحت يدي
بالمنديل ومسحت يدي برأس اليتيم وإن كان إنما مسحها ببعض الرأس
والأصل عدم الاشتراك فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بين مسح
الكل ومسح البعض فقط وذلك هو مماسة جزء من اليد جزءا من الرأس
فثبت أن اللفظ ما دل إلا عليه فكان الآتي به عاملا باللفظ
وحينئذ لا يتحقق الإجمال ويكفي في العمل به مسح أقل جزء من
الرأس وهو قول الشافعي رضي الله عنه
(3/165)
المسألة الثالثة اختلفوا في حرف النفي إذا
دخل على الفعل كقوله لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ولا عمل لمن لا
نية له
فقال أبو عبد الله البصري إنه مجمل لأن ذات الصلاة والعمل
موجودة فلا يمكن صرف النفي إليها فوجب صرفه إلى حكم آخر وليس
البعض أولى من البعض فإماأن يحمل على الكل وهو إضمار من غير
ضرورة ولأنه قد يفضي إلى التناقض لأنا لو حملناه على نفي الصحة
ونفي الكمال معا وفي نفي الكمال ثبوت الصحة فيلزم التناقض أولا
يحمل على شئ من الأحكام بل يتوقف وهذا هو الإجمال ومن الناس من
فصل وقال هذا النفي إما أن يكون داخلا على
(3/166)
مسمى شرعي أو على مسمى حقيقي فإن كان الأول
فلا إجمال لأن الصلاة اسم شرعي والشرع أخبر عن انتفاء ذلك
المسمى عند انتفاء الوصف المخصوص فإن قلت يقال هذه الصلاة
فاسدة فدل على بقاء المسمى مع الفساد وقال ص دعي الصلاة أيام
أقرائك قلت التوفيق بين الدليلين أن نصرف ذلك إلى المسمى
الشرعي وهذا إلى المسمى اللغوي ومن هذا الباب قوله لا نكاح إلا
بولي ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل أما إن كان المسمى
حقيقيا فإما أن يكون له حكم واحد أو أكثر من حكم واحد
(3/167)
والأول
كقولنا لا شهادة لمجلود في قذف لأنه لا يمكن صرف النفي إلى ذات
الشهادة لأنها قد وجدت فلا بد من صرف النفي إلى حكمها وليس لها
إلا حكم واحد وهو الجواز لأن الشهادة إذا كانت فيما كانت ندبنا
إلى ستره لم يكن لإقامتها مدخل في الفضيلة كقولنا لا إقرار لمن
أقر بالزنا مرة واحدة لأن الأولى له أن يستر ذلك على نفسه فإذن
لا حكم له إلا الجواز واذا لم يكن له إلا هذا الحكم الواحد
انصرف النفي إليه فصح التعلق به أما إذا كان له حكمان الفضيلة
والجواز فلم يكن صرفه إلى أحدهما أولى من الآخر فيتعين الإجمال
هذا قول الأكثرين ولقائل أن يقول لكن صرفه إلى الجوا أولى من
صرفه إلى الفضيلة لوجوه أحدها أن المدلول عليه باللفظ نفي
الذات والدال على نفي الذات دال على نفي جميع الصفات لاستحالة
بقاء الصفة مع عدم الذات فإذن قوله لا عمل يدل على نفي الذات
وعلى نفي الصحة
(3/168)
ونفي الكمال ترك العمل به في الذات فوجب أن
يبقى معملا به في الباقي فإن قلت اللفظ لم يدل على نفي الصحة
بالمطابقة وإنما دل عليها بالالتزام ضرورة أنه يلزم من انتفاء
الذات انتفاء الصفة ودلالة الالتزام تابعة لدلالة المطابقة
التي هي الأصل فها هنا لما لم توجد دلالة المطابقة التي هي
الأصل فكيف تبقى دلالة الالتزام التي هي الفرع
وأيضا فقد جاء هذا اللفظ لنفي الفضيلة فقط والأصل في الكلام
الحقيقة والجواب عن الأول إنه لا نزاع في أن دلالة هذا اللفظ
على نفي الصفة تابعة لدلالته على نفي الذات لكن بعد استقرار
تلك الدلالة صار اللفظ كالعام بالنسبة إليها بأسرها
(3/169)
فإذا خص عنها في بعض الأمور وهو الذات وجب
أن يبقى معمولا به في الباقي وعن الثاني أنا بينا أن اللفظ عام
بالنسبة إلى نفي الذات ونفي الصفات ثم تارة يختص بالنسبة إلى
الذات فقط وحينئذ يفيد نفي بقية الأحكام وتارة يختص بالنسبة
إلى الذات والصحة فيبقى معمولا به في الباقي وهو نفي الفضيلة
وثانيها هو أن المشابهة بين المعدوم وبين ما لا يصح أتم من
المشابهة بين المعدوم وبين ما يوجد ويصح ولا يفضل والمشابهة
إحدى أسباب المجاز فكان حمل اللفظ على نفي الصحة أولى وثالثها
أن الخلل الحاصل في الذات عند عدم الصحة أشد من الخلل الحاصل
فيها عند بقاء الصحة وعدم الفضيلة وإطلاق اسم العدم على
المختل أولى من إطلاقه على غير المختل سلمنا أنه لا يجوز حمل
النفي على هذه الأحكام ولا يجوز حمله على نفي الذات فلم قلت
إنه مجمل
(3/170)
بيانه أن قولنا هذا الشئ لفلان معناه يعود
نفعه إليه وقولنا لا عمل لمن لا نية له معناه نفعه إليه وهذا
يقتضي نفي الصحة لأنه لو صح ذلك العمل لعاد نفعه إليه واللفظ
دل على نقيضه والله أعلم المسألة الرابعة قال بعضهم آية السرقة
مجملة في اليد وفي القطع أما اليد فلأنه يطلق اسم اليد على هذا
العضو من أصل المنكب وعليه من الزند وعليه من الكوع وعليه من
أصول الأنامل وأما القطع فلأنه قد يراد به الشق فقط كما يقال
برى فلان قلمه فقطع يده وقد يراد به الإبانة والجواب عن الأول
أن اسم اليد موضوع لهذا العضو من المنكب ولا يتناول الكف
(3/171)
وحده لأنه لا يقال قطعت يد فلان بالكلية
إذا قطعت من الكف وعن الثاني أن القطع في اللغة الإبانة فأذا
أضيف إلى شئ أفاد إبانة ذلك الشئ والشق إذا حصل في الجلد فقد
حصلت الإبانة في تلك الأجزاء
بلى أطلق اسم اليد عليه على سبيل إطلاق اسم الكل على الجزء
فيكون المجاز ها هنا في لفظ اليد لا في لفظ القطع والله أعلم
المسألة الخامسة قيل في قوله عليه الصلاة والسلام رفع عن أمتي
الخطأ والنسيان إنه مجمل لأن نفس الخطأ غير مرفوع فلا بد من
صرفه إلى الحكم فيلزم الإجمال على ما تقدم تقريره والأقرب أنه
ليس بمجمل لأن المولى إذا قال لعبده رفعت عنك الخطأ كان ذلك في
العرف منصرفا إلى نفي المؤاخذة بذلك الفعل فكذا قال الرسول ص
لأمته مثل هذا القول وجب أن ينصرف إلى ما يتوقع مؤاخذته لأمته
به وهو الأحكام الشرعية فكأنه قال رفعت عنكم الأحكام الشرعية
من الخطأ والله أعلم
(3/172)
القسم الثاني في
المبين وفيه مسائل
المسألة الأولى في أقسام المبين
الخطاب الذي يكفي نفسه في إفادة معناه إما أن يكون لأمر يرجع
إلى وضع اللغة أو لا يكون كذلك والأول كقوله تعالى أن الله بكل
شئ عليم أما الثاني فإما أن يكون بيانه على سبيل التعليل أولا
على سبيل التعليل
اما التعليل فضربان أحدهما أن يكون الحكم بالمسكوت عنه أولى من
الحكم بالمنطوق به كما في قوله تعالى فلا تقل لهما أف
(3/173)
وثانيهما كما في قوله ص إنها من الطوافين
عليكم والطوافات وأما الذي لا يكون تعليلا فضربان أحدهما أن
الأمر بالشئ أمر بما لا يتم إلا به وثانيهما أن يظهر في العقل
تعذر إجراء الخطاب على ظاهره ويكون هناك أمر يكون حمل الخطاب
عليه أولى من حمله على غيره كما في قوله تعالى واسأل القرية
فهذه أقسام المبين والله أعلم
(3/174)
المسألة الثانية في أقسام البيانات أعلم أن
بيان المجمل إما أن يقع بالقول أو بالفعل أو بالترك أما بالقول
فظاهر وأما بالفعل فإما أن يكون الدال على البيان شيئا يحصل
بالمواضعة أو شيئا تتبعه المواضعة أو شيئا يتبع المواضعة
فالأول هو الكتاب وعقد الأصابع
فأما الكتابة فقد يقع بها البيان من الله تعالى بما كتب في
اللوح المحفوظ ومن الرسول ص بما كتب إلى عماله وأما عقد
الأصابع فقد بين به الرسول ص إذ قال الشهر هكذا وهكذا وحبس في
الثالثة أصبعه
(3/175)
وهذا الباب يستحيل على الله تعالى لاستحالة
الجوارح عليه
(3/176)
وأما القسم الثاني وهو الذي تتبعه المواضعة
فهو الإشارة لأن المواضعة مفتقرة إليها وهي غير مفتقرة إلى
المواضعة وإلا لافتقرت إلى إشارة أخرى ولزم التسلسل وهو محال
وقد بين الرسول ص بالإشارة وذلك حين أشار إلى الحرير بيده وقال
هذا حرام على ذكور أمت حل لإناثها وأما القسم الثالث وهو الذي
يكون تابعا للمواضعة فهو كما اذا قال
(3/177)
الرسول ص هذا الفعل بيان لهذه الآية أو
يقول صلوا كما رأيتموني أصلي واعلم أنه لا يعلم كون الفعل
بيانا للمجمل إلا بأحد أمور ثلاثة أحدها أن يعلم ذلك بالضرورة
من قصده وثانيها أن يعلم بالدليل اللفظي وهو أن يقول هذا الفعل
بيان لهذا المجمل أو يقول أقوالا يلزم من مجموعها ذلك
وثالثها بالدليل العقلي وهو أن يذكر المجمل وقت الحاجة إلى
العمل به ثم يفعل فعلا يصلح أن يكون بيانا له ولا يفعل شيئا
آخر فيعلم أن ذلك الفعل بيان للمجمل وإلا فقد أخر البيان عن
وقت الحاجة وأنه لا يجوز
(3/178)
وأما الترك فاعلم أن الفعل يبين الصفة ولا
يدل على وجوبها وترك الفعل يبين نفي وجوبه وذلك على أربعة أضرب
أحدها أن يقول من الركعة الثانية إلى الثالثة ويمضي على صلاته
فيعلم أن هذا التشهد ليس بشرط في صحة الصلاة وإلا لم تصح مع
عدم شرط الصحة ويدل على أنه ليس بواجب أنه ص لا يجوز أن يتعمد
ترك الواجب وثانيها أن يسكت عن بيان حكم الحادثة فيعلم أنه ليس
فيه حكم شرعي وثالثها أن يكون ظاهر الخطاب متناولا له ولأمته
على سواء فإذا ترك الفعل دل على أنه كان مخصوصا من الخطاب ولم
يلزمه ما لزم أمته ورابعها أن يتركه بعد فعله إياه فيعلم أنه
قد نسخ عنه ثم ينظر فإن كان حكم الأمة حكمه نسخ عنهم أيضا وإلا
كان حكمهم بخلاف حكمه والله أعلم
(3/179)
المسألة الثالثة الحق أن الفعل قد يكون
بيانا خلافا لقوم لنا أن الخصم إما أن يقول إنه لا يصح وقوع
البيان بالفعل أو يقول إنه يصح عقلا لكن لا يجوفي الحكمة
والأول ضربان أحدهما أن يقال إن الفعل لا يؤثر في وقوع اليقين
أصلا والآخر أن يقال إنه لا يؤثر في ذلك إلا مع غيره هو أن
يقول الرسول ص هذا الفعل بيان لهذا الكلام والأول باطل لأن فعل
الرسول ص للصلاة والحج فلا أدل عليهما من صفته لهما فإنه ليس
الخبر كالمعاينة ولهذا بين الرسول ص الحج والصلاة وقال خذوا
عني مناسككم وقال صلوا كما رأيتموني أصلي
(3/180)
وبين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
الوضوء بفعلهم وأما الثاني وهو أن لا يقع البيان بالفعل وحده
عند قيام الدليل على أن ذلك الفعل بيان لذلك المجمل فهذا مما
لا خلاف فيه إلا أن المبين هو الفعل لأنه هو المتضمن لصفة
الفعل وإنما القول لتعليق الفعل الواقع بيانا على المجمل وأما
القسم الثاني وهو أنه غير جائز في الحكمة فهو لا يستقيم على
أصلنا لأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ثم إن سلمنا
هذا الأصل لكنه يمتنع أن يعلم الله تعالى من
المكلف أن بيان المجمل بهذا الطريق أصلح له
(3/181)
احتج المخالف بأن الفعل يطول فيلزم تأخير
البيان والجواب أن القول قد يكون أطول لأن وصف أفعال الصلاة
وتروكها منه على الاستقصاء أطول من الإتيان بركعة واحدة
فجوابكم جوابنا والله أعلم المسألة الرابعة في أن القول هل
يقدم على الفعل في كونه بيانا القول والفعل إذا وردا فإما أن
يكونا متطابقين أو متنافيين فإكانا متطابقين وعلم تقدم أحدهما
على الآخر فالأول بيان والثاني تأكيد لأن الأول قد حصل التعريف
به فلا حاجة إلى الثاني وإن لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر حكم
على الجملة بأن الأول منهما بيان والثاني تأكيد وإن كانا
متنافيين كقوله ص من قرن الحج إلى العمرة فليطف لهما طوافا
واحدا مع ما روي عنه ص أنه قرن فطاف طوافين وسعى
(3/182)
سعيين فالقول هو المقدم في كونه بيانا لأنه
بيان بنفسه
(3/183)
والفعل لا يدل حتى يعرف ذلك إما بالضرورة
أو بالاستدلال بدليل قولي أو عقلي فإذا لم يعقل ذلك لم يثبت
كون الفعل بيانا والله أعلم المسألة الخامسة في: البيان
كالمبين
هذا الباب يشتمل على شيئين أحدهما هل البيان كالمبين في القوة
والآخر هل هو كالمبين في الحكم أما الأول فقال الكرخي المبين
إذا كان لفظا معلوما وجب كون بيانه مثله وإلا لم يقبل والحق
أنه يجوز أن يكون البيان والمبين معلومين وأن يكونا مظنونين أن
يكون المبين معلوما وبيانه مظنونا كما جاز تخصيص القرآن بخبر
الواحد والقياس وأما الآخر فهو أنه هل إذا كان المبين واجبا
كان بيانه واجبا كذلك قال به قوم فإن أرادوا به أن المبين إذا
كان واجبا فبيانه بيان لصفة شئ واجب فصحيح وإن أرادوا به أنه
يدل على الوجوب كما يدل المبين فغير صحيح
(3/184)
لأن البيان إنما يتضمن صفة المبين وليس
يتضمن لفظا يفيد الوجوب إلا ترى أن صورة الصلاة ندبا واجبا
صورة واحدة وإن أرادوا أنه إذا كان المبين واجبا كان بيانه
واجبا على الرسول ص واذا لم يكن الفعل المبين واجبا لم يكن
بيانه واجبا على الرسول ص فباطل لأن بيان المجمل واجب سواء
تضمن فعلا واجبا أو لم يتضمن وإلا كان تكليفا بمالا يطاق والله
أعلم
(3/185)
القسم الثالث
في وقت البيان وفيه مسائل المسألة الأولى القائلون بأنه لا
يجوز تكليف ما لا يطاق اتفقوا على أنه لا يجوز تأخير البيان عن
وقت الحاجة لأن التكليف به مع عدم الطريق إلى العلم به تكليف
بمالا يطاق والإشكالات التي ذكرناها في أن تكليف الساهي غير
جائز قائمة ها هنا والجواب واحد المسألة الثانية اختلفوا في
جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب الخطاب المحتاج إلى البيان
ضربان
(3/187)
أحدهما ما له ظاهر قد استعمل في خلافه
والثاني لاظاهر له كالأسماء المتواطئة والمشتركة والأول أقسام
أحدها تأخير بيان التخصيص وثانيها تأخير بيان النسخ وثالثها
تأخير بيان الأسماء الشرعية ورابعها تأخير بيان اسم النكرة إذ
أراد به شيئا معينا إذا عرفت ذلك فنقول مذهبنا أنه يجوز تأخير
البيان إلى وقت الحاجة في كل هذه الأقسام
وأما المعتزلة فأكثر من تقدم أبا الحسين رحمه الله اتفقوا على
المنع من تأخير البيان في كل هذه الأقسام إلا في النسخ فإنهم
جوزوا تأخير بيانه وأما أبو الحسين فإنه منع من تأخير البيان
فيما له ظاهر قد استعمل في خلافه وزعم أن البيان الإجمالي كاف
فيه وهو أن يقول عند الخطاب اعلموا أن هذا العموم مخصوص وأن
هذا الحكم سينسخ بعد ذلك وأما البيان التفصيلي فإنه يجوز
تأخيره وأما الذي لا يكون له ظاهر مثل الألفاظ المتواطئة
والمشتركة فقد جوز فيه تأخير البيان إلى وقت الحاجة
(3/188)
وهذا التفصيل ذكره كثير من فقهاء أصحابنا
كأبي بكر القفال وأبي اسحاق المروزي وأبي بكر الدقاق واعلم أن
الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين أحدهما أن يستدل في
الجملة على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب وثانيهما أن يستدل
على جواز ذلك في كل واحدة من الصور المذكورة أما المقام الآول
فالدليل عليه قوله تعالى إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه
فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه وثم في اللغة للتراخي وهو
المطلوب فإن قيل لا نسلم أن كلمة ثم للتراخي فقط بل قد تجئ
بمعنى الواو كقوله تعالى ثم آتينا موسى الكتاب ثم كان من الذين
آمنوا ثم الله شهيد سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن المراد بالبيان
في هذه الآية البيان الذي
(3/189)
اختلفنا فيه وهو بيان المجمل والعموم فلم
لا يجوز أن يكون المراد به إظهاره بالتنزيل غاية ما في الباب
أن يقال هذا مخالفة الظاهر لكن نقول يلزم من حفظ هذا الظاهر
مخالفة ظاهر آخر وهو أن الضمير الذي في قوله ثم إن علينا بيانه
راجع إلى جميع المذكور وهو القرآن ومعلوم أن جميعه لا يحتاج
إلى البيان فليس حفظ أحد الظاهرين بأولى من الآخر وعليكم
الترجيح سلمنا أن المراد من البيان ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون
المراد به تأخير البيان التفصيلي وذلك عند أبي الحسين جائز
سلمنا أن المراد مطلق البيان لكن لم لا يجوز أن يكون المراد من
قوله تعالى إن علينا جمعه وقرآنه هو أن يجمعه في اللوح المحفوظ
ثم إنه بعد ذلك ينزله على الرسول ص ويبينه له وذلك متراخ عن
الجمع سلمنا أن البيان مذكرتموه غير لكن الآية تدل على وجوب
تأخير البيان وذلك ما لم يقل به أحد فما دلت عليه الآية لا
تقولون به وما تقولون به
(3/190)
وهو الجواز لم تدل الآية عليه فبطل
الاستدلال والجواب أما أن كلمة ثم للتراخي فذلك متواتر عند أهل
اللغة والآيات التي تلوتموها المراد هناك التأخير في الحكم
قوله لم لا يجوز أن يكون المراد من البيان إظهاره بالتنزيل
قلنا لأن قوله فإذا قرأناه فاتبع قرآنه أمر للنبي ص باتباع
قرآنه وإنما يكون مأمورا بذلك بعد نزوله عليه فإنه قبل ذلك لا
يكون عالما به فكيف يمكنه اتباع قرآنه فثبت أن المراد من قوله
فإذا قرأناه هو الإنزال ثم إنه تعالى حكم بتأخير البيان عن ذلك
وذلك يقتضي تأخير البيان عن وقت الإنزال وإذا كان كذلك وجب أن
لا يكون المراد من البيان هو الإنزال لاستحالة كون الشئ سابق
على نفسه سلمنا أنه يمكن ما ذكروه ولكنه خلاف الظاهر قوله يلزم
من مخالفة المحافظة على هذا الظاهر احتياج القرآن جميعه إلى
البيان
(3/191)
قلنا لا نسلم فإن لفظ القرآن يتناول كله
وبعضه بدليل أنه لو حلف أن لا يقرأ القرآن ولا يمسه فقرأ آية
أو لمس آية فإنه يحنث في يمينه سلمنا أن لفظ القرآن ليس حقيقة
في البعض لكن إطلاق اسم الكل على البعض أسهل من إطلاق لفظ
البيان على التنزيل لأن الكل مستلزم للجزء والبيان غير مستلزم
للتنزيل قوله نحمله على البيان التفصيلي قلنا اللفظ مطلق
فتقييده خلاف الظاهر قوله لم لا يجوزأن يكون المراد من الجمع
جمعه في اللوح المحفوظ
قلنا لما بينا أنه تعالى أخر البيان عن القراءة التي يجب على
النبي عليه الصلاة والسلام متابعتها وذلك يستدعي تأخير البيان
عن وقت الإنزال قوله هذا يقتضي وجوب تأخير البيان قلنا ونحن
نقول به فإن قلت الضمير عائد إلى كل القرآن فيجب تأخير بيان
الكل وذلك لم يقل به أحد
(3/192)
قلت قد تقدم بيان أن الضمير غير عائد إلى
الكل والله أعلم أما الذي يدل على كل واحدة من الصور التي
ذكرناها فنقول الدليل على أنه يجوز تأخير البيان في النكرة أن
الله تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة موصوفة غير منكرة ثم أنه
لم يبينها لهم حتى سألوا سؤالا بعد سؤال إنما قلنا إنه لم يرد
بقرة منكرة لوجهين الأول أن قوله تعالى ادع لنا ربك يبين لنا
ما هي وما لونها وقول الله تعالى إنها بقرة لا فارض ولا بكر
إنها بقرة صفراء إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ينصرف إلى ما
أمروا بذبحه من قبل وهذه الكنايات تدل على أن المأمور به ما
كان ذبح بقرة منكرة بذبح بقرة معينة الثاني أن الصفات المذكورة
في الجواب عن السؤال الثاني إما ان يقال إنها صفات البقرة التي
أمروا بذبحها أو لا أو صفات بقرة وجبت عليهم
عند ذلك السؤال وانتسخ ما كان واجبا عليهم قبل ذلك والأول هو
المطلوب والثاني يقتضي أن يقع الاكتفاء بالصفات المذكورة آخرا
وأن لا يجب حصول الصفات المذكورة قبل ذلك ولما
(3/193)
أجمع المسلمون على أن تلك الصفات بأسرها
كانت معتبرة علمنا فساد هذا القسم فإن قيل لا يجوز التمسك بهذه
الآية لأن الوقت الذي أمروا فيه بذبح البقرة كانوا محتاجين إلى
ذبحها فلو أخر الله البيان لكان ذلك تأخيرا للبيان عن وقت
الحاجة وأنه لا يجوز فإذن ما تقتضيه الآية لا تقولون به وما
تقولون به لا تقتضيه الآية نزلنا عن هذا المقام لكن لا نسم أن
المأمور به كان ذبح بقرة موصوفة بل ذبح بقرة كيف كانت فلما
سألوا تغيرت المصلحة ووجبت عليهم بقرة أخرى وأما الكنايات فلا
نسلم عودها إلى البقرة ولم لا يجوز أن يقال إنها كنايات عن
القصة والشأن وهذه طريقة مشهورة عند العرب سلمنا أن هذه
الكنايات تقتضي كون البقرة المأمور بها موصوفة لكن ها هنا ما
يدل على كونها منكرة وهو من ثلاثة أوجه الأول أن قوله تعالى إن
الله يأمركم أن تذبحوا بقرة أمر بذبح بقرة مطلقة وذلك يقتضي
سقوط التكليف بذبح بقرة أي بقرة كانت وذلك يقتضي أن يكون
اعتبار الصفة بعد ذلك تكليفا جديدا
(3/194)
الثاني
لو كان المراد ذبح بقرة معينة لما استحقوا التعنيف على طلب
البيان بل كانوا يستحقون المدح عليه فلما عنفهم اللتعالى في
قوله فذبحوها وما كادوا يفعلون علمنا تقصيرهم في الإتيان بما
أمروا به أولا وذلك إنما يكون لو كان المأمور به أولا ذبح بقرة
منكرة الثالث ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لو
ذبحوا أية بقرة أرادوا لأجزأت عنهم لكنهم شددوا على أنفسهم
فشدد الله عليهم
(3/195)
سلمنا أن المأمور به ذبح بقر معينة موصوفة
لكن لم لا يجوز أن يقال البيان التام قد تقدم لكنهم لم يتبينوا
لبلادتهم فاستكشفوا طلبا للزيادة فحكى الله تعالى ذلك سلمنا أن
البيان التام لم يتقدم فلم لا يجوز أن يقال إن موسى عليه
السلام كان قد أعلمهم بأن البقرة ليست مطلقة بل معينة فطلبوا
البيان التفصيلي فالحاصل أن البيان الإجمالي كان مقارنا
والبيان التفصيلي كان متأخرا وهو جائز عند أبي الحسين رحمه
الله والجواب قوله الآية تقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة
قلنا لا نسلم لأن ذلك إنما يلزم لو كان الأمر مقتضيا للفور
لكنا لا نقول به قوله الكنايات عائدة إلى القصة والشأن قلنا
هذا باطل لوجوه
(3/196)
أحدها أن هذه الكنايات لو كانت عائدة إلى
القصة والشأن لكان الذي يبقى بعد ذلك غير مقيد لأنه لا فائدة
في قوله بقرة صفراء بل لا بد من إضمار شئ آخر وذلك خلاف الأصل
أما إذا جعلنا الكنايات الذي عائد إلى المأمور به أولا لم يلزم
هذا المحذور وثانيها أن الحكم برجوع الكنايات إلى القصة والشأن
خلاف الأصل لأن الكناية يجب عودها إلى شئ جرى ذكره والقصة
والشأن لم يجر ذكرهما فلا يجوز عود الكناية إليهما لكنا خالفنا
هذا الدليل للضرورة في بعض المواضع فيبقى فيما عداه على الأصل
وثالثها أن الضمير في قوله تعالى ما لونها وماهي لا شك أنه
عائد إلى البقرة المأمور بها فوجب أن يكون الضمير في قوله إنها
بقرة صفراء عائدا إلى تلك البقرة وإلا لم يكن الجواب مطابقا
للسؤال قوله إن قوله تعالى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة أمر
بذبح بقرة مطلقة
(3/197)
قلنا هب أن ظاهره يفيد الإطلاق ونحن نسلمه
لكنا نقول المراد كاغير الظاهر مع أنه تعالى ما بينه فما
قلتموه لا يضرنا قوله لو كان ذلك لطلب البيان لما استحقوا
التعنيف بقوله وما كادوا يفعلون
قلنا إن قوله تعالى وما كادوا يفعلون ليس فيه دلالة على أنهم
فرطوا في أول القصة أو أنهم كادوا يفرطون بعد استكمال البيان
بل اللفظ محتمل لكل واحد منهما فنحمله على الأخير وهو أنهم لما
وقفوا على تمام البيان توقفوا عند ذلك وما كادوا يفعلون قوله
نقل عن ابن عباس أنه قال شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم
قلنا هذا من أخبار الآحاد ومع تقدير الصحة فلا يصلح معارضا لنص
الكتاب قوله لم لا يجوز أن يقال كان البيان حاصلا لكنهم لم
يتبينوا قلنا لوجهين الآول أنهم كانوا يلتمسون البيان ولكان
البيان حاصلا لما التمسوه بل كانوا يطلبون التفهيم
(3/198)
الثاني أن فقد التبيين عن حضور هذا البيان
متعذر ها هنا لأن ذلك البيان ليس إلا وصف تلك البقر والعاقل
العارف باللغة إذا سمع تلك الأوصاف استحال أن لا يعرفها قوله
كانوا يطلبون البيان التفصيلي قلنا لو كان كذلك لذكره الله
تعالى أزالة للتهمة أما الدليل على جواز تأخير بيان المخصص
فالنقل أما النقل
فهو أن الله تعالى لما أنزل قوله إنكم وما تعبدون من دون الله
حصب جهنم قال ابن الزبعري قد عبدت الملائكة وعبد المسيح فهؤلاء
حصب جهنم فتأخر بيان ذلك حتى أنزل الله تعالى قوله إن الذين
سبقت لهم منا الحسنى فإن قيل لا نسلم أن قوله تعالى وما تعبدون
من دون الله يندرج فيه الملائكة والمسيح وبيانه من وجهين الأول
(3/199)
أن كلمة ما لما لا يعقل فلا يدخلها المسيح
والملائكة الثاني أن قوله تعالى إنكم وما تعبدون خطاب مع العرب
وهم ما كانوا يعبدون المسيح والملائكة بل كانوا يعبدون الأوثان
سلمنا ذلك لكن تخصيص العام بدليل العقل جائز وها هنادل العقل
على خروج الملائكة والمسيح فإنه لا يجوز تعذيب المسيح بجرم
الغير وهذا الدليل كان حاضرا في عقولهم ثم نقول المسألة علمية
وهذا خبر واحد فلا يجوز إثباتها به سلمنا صحة الرواية لكن
الرسول عليه السلام إنما سكت انتظارا لنزول الوحي عليه في
تأكيد البيان العقلي واللفظي والجواب لا نسلم أن صيغة ما مختصة
بغير العقلاء والدليل عليه وجوه أحدها
قوله تعالى وما خلق الذكر والأنثى والسماء وما بناها ولا أنتم
عابدون ما أعبد
(3/200)
وثانيها اتفاق أهل اللغة على ورود ما بمعنى
الذي وكلمة الذي متناولة للعقلاء فكلمة ما أيضا كذلك وثالثها
أن ابن الزبعري كان من الفصحاء فلولا أن كلمة ما تتناول المسيح
والملائكة وإلا لما أورده نقضا على الآية ورابعها أن الرسول ص
لم يرد عليه ذلك بل سكت وتوقف إلى نزول الوحي ولو كان ذلك خطأ
في اللغة لما سكت الرسول ص عن تخطئته وخامسها أنه يقال ما في
ملكي فهو صدقة وما في بطن جاريتي فهو حر وهو يتناول الإنسان
وسادسها اأنها لو كانت مختصة بغير من يعلم لما كان لقوله تعالى
من دون الله فائدة لأنه إنما يحتاج إلى الاحتراز حيث يصلح
الاندراج قوله الخطاب كان مع العرب وهم ما كانوا يعبدون
الملائكة والمسيح
(3/201)
قلنا الرواية المشهورة أنه قد كان من العرب
من يعبد الملائكة
والمسيح وقد ذكر الواحدي وغيره ذلك في سبب نزول هذه الآية ولأن
هذه الآية لو كانت خطابا مع عبدة الأوثان فقط لما جاز توقف
النبي ص عن تخطئة السائل قوله كل أحد يعلم أن تعذيب الرجل بجرم
الغير لا يجوز قلت نعم لكن ألا يصح دخول الشبهة في أأولئك
المعبودين كانوا راضين بذلك أم لا وعند ذلك يصح السؤال قوله
هذه الرواية من باب الآحاد قلنا لا نسلم فإن المفسرين اتفقوا
على ذكرها في سبب نزول هذه الآية وذلك يدل على الإجماع سلمنا
أنه من الآحاد لكنا بينا أن التمسك بالأدلة اللفظية أينما كان
لا يفيد إلا الظن ورواية الآحاد صالحة لذلك والله أعلم وأما
المعقول فمن وجهين
(3/202)
أحدهما وهو أن نقول لأبي علي وأبي هاشم لو
لم يجز تأخير بيان التخصيص في الأعيان لما جاز تأخير بيان
التخصيص في الأزمان لكن جاز هذا فجاز ذلك بيان الملازمة أنه لو
لم يجز تأخير بيان المخصص في الأعيان لكان ذلك لأن تأخيره يوهم
العموم وهو جهل وهذا المعنى قائم في تأخير المخصص في الآزمان
فعدم الجواز هناك يقتضي عدم الجواز ها هنا فإن قيل الفرق من
وجهين الأول
أن الخطاب المطلق معلوم أن حكمه مرتفع لعلمنا بانقطاع سبب
التكليف وليس كذلك المخصوص وثانيهما أن احتمال النسخ في
المستقبل لا يمنع المكلف في الحال من العمل أما أن احتمال
التخصيص في الحال يمنعه من العمل لأنه لا يدرى أنه هل هو مندرج
تحت الخطاب أم لا والجواب عن الأول
(3/203)
أن الله تعالى لو قال لنا صلوكل يوم جمعة
لاقتضى ظاهره الدوام فإذا خرج منه ما بعد الموت للدلالة بقي
الباقي على ظاهره فإن جاز أن يكون حكم الخطاب مرتفعا مع الحياة
والتمكن ولا يدل البتة على ذلك وإن كان ظاهر الخطاب يتناوله
جاز مثله في العموم وعن الثاني أن الفرق الذي ذكرتموه إنما
يظهر لو أخر الله تعالى البيان عن وقت الحاجة أما إذا أخره عن
وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة لم يجب على المكلف الاستغال لأن
بالفعفلا حاجة في ذلك الوقت إلى تمييز المكلف به غن غيره كما
لا حاجة هناك إلى تمييز وقت التكليف عن غيره الدليل الثاني
أجمعنا على أنه يجوز أن يأمر الله تعالى المكلفين بالأفعال مع
أن كل واحد منهم يجوز أن يموت قبل وقت الفعل فلا يكون مرادا
بالخطاب وفي ذلك تشكيك فيمن أريد بالخطاب وهذا هو تخصيص ولم
يتقدم بيانه
(3/204)
واحتج أبو الحسين رحمه الله على المنع من
تأخير بيان ماله ظاهر اذا استعمل في غيره بوجهين الأول أن
العموم خطاب لنا في الحال بالإجماع والمخاطب إما أن لا يقصد
إفهامنا في الحال أو يقصد ذلك والأول باطل لوجوه أحدها إنه إن
لم يقصد إفهامنا انتقض كونه مخاطبا لأن المعقول من قولنا إنه
مخاطب لنا أنه قد وجه الخطاب نحونا ولا معنى لذلك إلا أنه قصد
إفهامنا وثانيها أنه لو لم يقصد إفهامنا في الحال مع أن ظاهره
يقتضي كونه خطابا لنا في الحال لكان قد أغرانا بأن نعتقد أنه
قد قصد إفهامنا في الحال فيكون قد قصد أن نجهل لأن من خاطب
قوما بلغتهم فقد أغراهم بأن يعتقدوا فيه أنه قد عنى ما عنوه
وثالثها أنه لو لم يقصد إفهامنا لكان عبثا لأن الفائدة في
الخطاب إفهام المخاطب ورابعها أنه لو جاز أن لا يقصد إفهامنا
بالخطاب جازت مخاطبة العربي
(3/205)
بالزنجية وهو لا يحسنها إذا كان غير واجب
إفهام المخاطبين بل ذلك
أولى بالجواز لأن الزنجية ليس لها ظاهر عند وقد العربي يدعوه
إلى اعتقاد معناه ولو جازت مخاطبة العربي بالزنجية وبين له بعد
مدة جازت مخاطبة النائم وبين له بعد مدة ان يقصد الإنسان
بالتصويت والتصفيق شيئا يبينه بعد مدة فإن قلت خطا ب الزنج لا
يفهم منه العربي شيئا فلم يجز أن يخاطبوا به وليس كذلك خطاب
العربي بالمجمل لأن العربي يفهم منه شيئا ما لأن قول الله
تعالى وأقيموا الصلاة قد فهم منه الأمر بشئ وإن لم يعرف ما هو
قلت فإن جاز أن يكون اسم الصلاة واقعا على الدعاء ويريد الله
به غيره ولا يبين لنا جاز أن يكون ظاهر قوله تعالى أقيموا
للأمر ولا يستعمله في الأمر ولا يبين لنا ذلك وفي ذلك مساواته
لخطاب الزنج لأنا لا نفهم منه شيئا أصلا وأما القسم الثاني وهو
أنه أراد إفهامنا في الحال فلا يخلو إما أن يريد أن يفهم أن
مراده ظاهره أو غير ظاهره
(3/206)
فإن أراد الآول فقد أراد منا الجهل وإن
أراد الثاني فقد أراد منا مالا سبيل إليه ثم قال أبو الحسين
وهذه الدلالة تتناول العام المستعمل في الخصوص والمطلق المفيد
للتكرار المنسوخ والأسماء والنقولة إلى الشريعة والنكرة إذا
أريد بها شئ معين لأن الكل مستعمل في خلاف ظاهره الثاني
لو جاز أن يريد بالعموم الخصوص ولا يبين لنا ذلك في الحال ولا
يشعرنا بأنه بخلافه لم يكن لنا طريق إلى معرفة وقت الفعل الذي
يقف وجوب البيان عليه لأنه لو قيل لنا صلوا غدا جوزنا أن يكون
المراد بقوله غدا بعد غد وما بعده أبدا لأن كل ذلك يسمى غدا
مجازا ولا يبينه لنافلا يقف وجوب البيان على غاية وفيه تعذر
علمنا بالمراد بالخطاب
(3/207)
فإن قلت إذا بين في غد صفة العبادة ثم قال
افعلوها الآن علمنا أنه يجب فعلها في ذلك الوقت قلت لا يصح لكم
ذلك لأنه يجوز أن يكون عنى بقوله الآن وقتا متراخيا حتى على
طريق المجاز ولا يبينه لنا في الحال كما جاز مثله في سائر
الألفاظ والجواب عن الآول من حيث المعارضة ومن حيث الجواب اما
المعارضة فمن ثلاثة أوجه أحدها أن العموم خطاب لنا في الحال مع
إنه لا يجوز اعتقاد استغراقه عند سماعه بل لا بد من أن نفتش
الأدلة السمعية والعقلية فننظر هل فيها ما يخصه أم لا فإن لو
يوجد فيها ما يخصه + قضى بعمومه وفي زمان التوقف الخطاب
بالعموم قائم مقامه مع إنه لا يجوز اعتقاد ظاهره فانتقض قولكم
أجاب أبو الحسين رحمه الله عنه بأن من لم يجوز أن يسمع الكلف
العام دون الخاص لا يلزمه هذا السؤال ومن جوز ذلك فله أن يجيب
عن
(3/208)
السؤال بأن ما يعلمه المكلف من كثرة الأدلة
والسنن يجوز معه أن يكون فيها ما يدل على أن المراد بالخطاب
غير ظاهره فيصير ذلك كالإشعار بالتخصيص والجواب أما أنه لا
يجوز أن يسمع المكلف العام دون الخاص فهذا المذهب باطل عندك
وتخريج النقض بالمذهب الباطل باطل وأما قوله علمه بكثرة السنن
كالإشعار بالتخصيص قلنا فإذا جوزت أن يكون تجويزه لقيام المخصص
في الحال مانعا له من اعتقاد الاستغراق في الحال فلم لا يجوز
أن يكون تجويزه لحدوث المخصص في ثاني الحال مانعا له من اعتقاد
الاستغراق في الحال فهذا أول المسألة وثانيها أجمعنا على أنه
يجوز تأخير بيان المخصص بزمان قصير وأن تعطف جملة من الكلام
على جملة أخرى ثم تبين الجملة الأولى عقيب الثانية وأن يبين
المخصص بالكلام الطويل وهذه الصور الثلاثة نقض على ما ذكره
(3/209)
فإن قلت أنا لا نجوز تأخير البيان إلا
مقدار ما لا ينقطع عن السامع توقع شرط يرد على الكلام وإنما
نجوز البيان بالطويل من القول أو الفعل إذا لم يتم البيان إلا
بهما وإذا لم يتم إلا كذلك لم يكن فيه
تأخير البيان قلت إن ظاهر لفظ العموم يفيد الاستغراق فحال ما
سمع ذلك اللفظ يتوجه عليه التقسيم الذي ذكره أبو الحسين من أنه
إما أن يكون غرض المخاطب به الإفهام أو لا يكون غرضه الإفهام
والثاني باطل فتعين الأول فإما أن يكون غرضه إفهام ما أشعر به
الظاهر فيكون مريدا للجهل أو غيره فيكون طالبا ما لا سبيل إليه
فإن قلت تجويز السامع أن يأتي المتكلم بعد ذلك الكلام بشرط أو
استثناء يمنعه من حمل هذا اللفظ على ظاهره قلت فلم لا يجوز أن
يقال في مسألتنا تجويز السامع أن يأتي المتكلم حال إلزام
التكليف بدليل مخصص يمنعه من حمل اللفظ على ظاهره وهذا أول
المسألة وثالثها أنا نجوز أن يأمر الله تعالى المكلفين
بالأفعال مع أن كل واحد
(3/210)
منهم يجوز أن يموت قبل وقت الفعل فلا يكون
مرادا بالخطاب وفي ذلك شككنا فيمن أريد بالخطاب وهذا تخصيص لم
يتقدم بيانه البتة ورابعها أن غير أبي الحسين من المعتزلة
اتفقوا على جواز تأخير بيان النسخ إجمالا وتفصيلا وحينئذ ينتقض
دليلهم به لأن اللفظ إذا أفاد الدوام مع أن الدوام غير مراد
فإن أراد ظاهره فقد أراد الجهل وإن أراد غير ظاهره فقد أراد ما
لاسبيل إليه
وما يذكرونه من الفرق فقد ذكرناه وأجبنا عنه وأما من حيث
الجواب فمن وجهين الأول أن نقول ما المراد من قولك المخاطب إما
أن يكون غرضه إفهامنا أو لا يكون غرضه ذلك إن عنيت بالإفهام
إفادة القطع واليقين فليس غرضه ذلك بل غرضه منه الإفهام بمعنى
إفادة الاعتقاد الراجح والظن الغالب الغالب مع تجويز نقيضه فلم
قلت إنه على هذا التقدير يكون عابثا ويكون مغريا بالجهل
(3/211)
وبهذا الجواب يظهر الفرق بين ما إذا كان
الغرض ذلك وبين خطاب العربي بالزنجية لأن هناك لا يمكن أن يكون
الغرض إفادة الاعتقاد الراجح فإنه لا يفهم منه شيئا وإن عنيت
به أن غرضه إفادة الاعتقاد الراجح كيف كان أعني القدر المشترك
بين الاعتقاد الراجح المانع من النقيض وبين الاعتقاد الراجح
المجوز للنقيض فهذا مسلم ولكن هذا القدر لا يمنع من ورود
المخصص لأنه لو امتنع لكان ذلك الاعتقاد مانعا من النقيض مع
أنا فرضناه غير مانع منه ثم الذي يدل على أن الغرض من الخطاب
إفادة أصل الاعتقاد الراجح لاإفادة تعالى الاعتقاد الراجح
المانع من النقيض هو أن دلالة الأدلة اللفظية تتوقف على كون
النحو واللغة والتصريف منقولا بالتواتر على عدم الاشتراك
والمجاز والتخصيص والنسخ والإضمار والنقل والتقديم والتأخير
وعدم المعارض العقلي والنقلي وكل هذه المقدمات
طني وما يتوقف على الظني أولى أن يكون ظنيا فثبت أن الدلائل
اللفظية لا تفيد إلا الاعتقاد الراجح وهذا القدر لا ينافيه
احتمال ورود المخصص بعده
(3/212)
ومما يحقق ذلك أن الغيم الرطب في الشتاء
يفيد ظن نزول المطر ثم قد لا يوجد في بعض الأوقات ثم لا يكون
هذ العدم قادحا في ذلك الظن وإلا لتوقف تحقق ذلك الظن على
انتفاء هذا العدم فحينئذ يكون ذلك الظن قطعا لا ظنا هذا خلف
فكذا ها هنا اللفظ العام لا يفيد إلا ظن الاستغراق وهذا القدر
لا يمنع من حدوث المخصص والله أعلم الوجه الثاني في الجواب أن
اللفظ العام إن وجد مع المخصص دل المجموع الحاصل منه ومن ذلك
المخصص على الخاص وإن وجد خاليا عن المخصص دل هو مع عدم المخصص
على الاستغراق وذلك متردد بين هاتين الحالتين على السواء فهو
بالنسبة إلى هاتين الحالتين كاللفظ المشترك بالنسبة إلى
مفهوماته والمتواطئ بالنسبة إلى جزئياته فكما أنه يجوز عند أبي
الحسين ورود اللفظ المشترك والمتواطئ خاليا عن البيان لأنه
يفيد أن المراد أحد تلك المسميات فكذا ها هنا اللفظ العام قبل
العلم بأنه وجد معه المخصص أو عدم نعلم أن المراد إما العموم
أو الخصوص ونعلم أن هذا اللفظ إن وجد معه المخصص أفاد الخاص
وإن وجد معه عدم المخصص أفاد العام فلا فرق بينه وبين المشترك
فكما جاز تأخير البيان هناك جاز ها هنا
(3/213)
فإن قلت هذا عود إلى القول بأن هذه الصيغة
مشتركة بين العموم والخصوص ونحن الآن في التفريغ على أنها
للعموم فقط قلت لا نسلم أن هذا عود إلى القول بالاشتراك وذلك ل
أنا نسلم أنها وحدها موضوعة للاستغراق وبهذا الكلام انفصلنا عن
القائلين بالاشتراك لكنا نقول لا نزاع في حسن ورود المخصص ولا
نزاع في أنه عند ورود المخصص لا يفيد إلا الخاص فإذا شككنا في
وجود المخصص وعدمه لزمنا أن نشك في أنه هل يفيد الاستغراق أم
لا لأن الشك في الشرط شك في المشروط فأين هذا القول من مذهب
القائلين بالاشتراك والجواب عن الثاني أن اللفظ وإن كان محتملا
إ أنه قد يوجد من القرائن ما يفيد القطع بأن المراد من اللفظ
ظاهره وعلى هذا التقدير يزول السؤال فإن لم يوجد شئ من هذه
القرائن وحضر الوقت الذي دل ظاهر الصيغة على أنه وقت العمل وجب
عليه العمل لأن الظن قائم مقام العلم في اقتضاء وجوب العمل في
الحال ولكنه لا يقوم مقامه فيما لا يتعلق به العمل فظن كون
اللفظ دالا على وجوب العمل في الحال يكفي في القطع بوجوب العمل
في الحال ولكن ظن عدم المخصص لا يكفي في القطع بعدم المخصص
فظهر الفرق والله أعلم
(3/214)
المسألة الثالثة
وأما الخطاب الذي لا ظاهر له وهو الاسم المشترك كالقرء بين
الطهر والحيض فإن له ظاهرا من وجه دون وجه أما الوجه الذي يكن
ظاهرا فيه فهو أنه يفيد أن المتكلم لم يرد شيئا غير الطهر وغير
الحيض وأنه أراد إما هذا وإما هذا فمن فإن هذا الوجه لا يحتاج
إلى بيان وأما الوجه الذي يكون غير ظاهر فهو أنه لا يفيد أي
الأمرين إرادة المتكلم الطهر أو الحيض ولا يجب أن يقترن به
بيان في الحال والدليل عليه أن الاسم المشترك يفيد أن المراد
إما هذا وإما هذا من غير تعيين وهذا القدر يصلح أن يراد تعريفه
لأن الإنسان قد يقول لغيره لي إليك حاجة مهمة أوصيك بها ولا
يكون غرضه في الحال إلا الإعلام بهذه الجملة وقد يقول رأيت
رجلا في موضع كذا وهو يكره وقوف السامع على عينه أو يكره وقوفه
عليه من جهته ولهذا وضع في اللغة ألفاظ مهمة كما وضعت ألفاظ
لمعان معينة قال الله تعالى ورسلا لم نقصصهم عليك فيضاعفه له
أضعافا كثيرة وأيضا
(3/215)
فقد يحسن من الملك أن يدعو بعض عماله فيقول
له قد وليتك البلد الفلاني فاخرج إليه في غد وأنا أكتب إليك
بتفصيل ما تعمله ويحسن من أحدنا أن يقول لغلامه أنا آمرك أن
تخرج إلى السوق يوم الجمعة وتبتاع ما أبينه لك يوم الجمعة
ويكون القصد بذلك التأهب لقضاء الحاجة
والعزم عليها وهذا هو نظير ما اخترناه من تأخير بيان المجمل
وإذا كان كذلك ثبت أنه يجوز إطلاق اللفظ المشترك من غير بيان
التعيين فإن قلت الغرض من التكليف هو الفعل والعلم والاعتقاد
تابعان وهذا الإبهام يخل بالتمكين من الفعل قلت الغرض من
التكليف قبل الوقت هو العلم لا الفعل ف أما في وقت الحاجة
فالغرض هو الفعل وهناك يجب البيان احتجوا بأنه لو حسنت
المخاطبة بالاسم المشترك من غير بيان في الحال لحسنت مخاطبة
العربي بالزنجية مع القدرة عل مخاطبته بالعربية
(3/216)
ولا يبين له في الحال والجامع أن السامع لا
يعرف مراد المتكملم عمر بهما على حقيقته فإن قلت الفرق أن
العربي لا يفهم من الزنجية شيئا وها هنا يفهم أن المراد أحد
معنيي الاسم قلت إما أن تعتبروا في حسن الخطاب حصول العلم
بكمال المراد أو تكتفوا بمعرفة المراد من بعض الوجوه والأول
يقتضي امتناع تأخير بيان المجمل والثاني
يوجب حسن مخاطبة العربي بالزنجية لأن العربي إذ عرف لغة الزنجي
المخاطب له علم أنه قد أراد بخطابه شيئا ما إما الأمر وإما
النهي وإما غيرهما والجواب أن المعتبر في حسن الخطاب أن يتمكن
السامع من أن يعرف به ما أفاده الخطاب وهذا التمكن حاصل في
الاسم المشترك لأنه موضوع لأحد هذين المعنيين والراجع فهم ذلك
منه بخلاف العربي فإنه لا يتمكن
(3/217)
من أن يعرف ما وضع له خطاب الزنج فوضح
الفرق والله أعلم المسألة الرابعة يجوز أن يؤخر الرسول عليه
السلام تبليغ ما يوحى إليه إلى وقت الحاجة وقال قوم يجب تقديمه
عليه لنا أن في المشاهد قد يكون تقديم الإعلام على حضور وقت
العمل قبيحا وقد يكون ترك التقديم قبيحا وقد يكون بحيث يجوز
الأمران وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يعلم الله تعالى اختلاف
مصلحة المكلفين في تقديم الإعلام وفي تركه فيلزم ان لا يكون
التقديم واجبا على الإطلاق احتجوا بقوله تعالى يا أيها الرسول
بلغ ما أنزل إليك من ربك والأمر للفور
والجواب لا نسلم أنه للفور سلمناه لكن المراد بذلك هو القرآن
لأنه هو الذي يطلق عليه القول بأنه منزل من الله تعالى والله
أعلم
(3/218)
القسم الرابع في
المبين له وفيه مسائل المسألة الأولى
الخطاب المحتاج إلى البيان يجب بيانه لمن أراد الله إفهامه دون
من لم يرد أن يفهمه أما الأول فلأنه لو لم يبينه له لكان قد
كلفه ما لا سبيل له إلى العلم به وأما الثاني فلأنه لا تعلق له
بذلك الخطاب فلا يجب بيانه له ثم الذين أراد الله منهم فهم
خطابه ضربان أحدهما أراد منهم فعل ما تضمنه الخطاب إن كان ما
تضمنه الخطاب فعلا
(3/219)
والآخر لم يرد منهم الفعل والأولون هم
العلماء وقد أراد الله تعالى أن يفهموا مراده بآية
الصلاة وأن يفعلوها والآخرون هم العلماء في أحكام الحيض فقد
أريد منهم فهم الخطاب ولم يرد منهم فعل ما تضمنه الخطاب والذين
لم يرد الله تعالى أن يفهموا مراده ولم يوجب ذلك عليهم ضربان
أحدهما لم يرد منهم أن يفعلوا ما تضمنه الخطاب والآخر أراد
منهم الفعل والأولون هم أمتنا مع الكتب السالفة لأن الله تعال
ما أراد أن يفهموا مراده بها ولا أن يفعلوا مقتضاها والآخر هو
النساء في أحكام الحيض لأن الله تعالى أراد منهن التزام أحكام
الحيض بشرط أن يفتيهن المفتي ولم يوجب
(3/220)
عليهن فهم المراد بالخطاب لأنه لم يوجب
عليهن سماع أخبار الحيض فضلا عن بيان مجملها وتخصيص عامها
المسألة الثانية يجوز من الله تعالى إن يسمع المكلف العام من
غير أن يسمعه ما يخصصه وهو قول النظام وأبي هاشم والفقهاء وقال
أبو الهذيل والجبائي لا يجوز ذلك في العام المخصوص بدليل السمع
وإن جاز أن يسمعه المخصوص بأدلة العقل وأن لم يعلم السامع أن
في العقل ما يدل على تخصيصه
لنا ثلاثة أوجه
(3/221)
الأول أن ذلك قد وقع كثيرا لأن كثيرا من
الصحابة سمعوا قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم مع أنهم لم
يسمعوا قوله ص نحن معاشر الأنبياء لا نورث وسمعوا قوله تعالى
اقتلوا المشركين مع أنهم لم يسمعوا قوله ص سنوا بهم سنة أهل
الكتاب إلى زمان عمر رضي الله عنه الثاني أجمعنا على جواز
خطابه بالعام المخصوص بالعقل من غير أن يخطر بباله ذلك المخصص
فوجب أن يجوز خطابه بالعام المخصوص بالسمع من غير أن يسمعه ذلك
المخصص والجامع كونه في الصورتين متمكنا من معرفة المراد
الثالث أن الواحد منا كثيرا ما يسمع الألفاظ العامة المخصوصة
قبل مخصصاتها النبي وإنكاره مكابرة في الضروريات احتجوا بأمور
أحدها أن إسماع العام دون إسماع المخصص إغراء بالجهل
(3/222)
وثانيها أن العام لا يدل على مراد المخاطب
بإسماعه وحدة كخطاب
العربي بالزنجية وثالثها أن دلالة العام مشروطة بعدم المخصص
فلو جاز سماع العام دون سماع المخصص لما جاز الاستدلال بشئ من
العمومات إلا بعد الطواف في الدنيا وسؤال كل علماء الوقت أنه
هل وجد له مخصص وذلك يفضي إلى سقوط العمومات والجواب عن الأول
أن الإغراء غير حاصل لما قدمنا من أنه يفيد ظن العموم لا القطع
به وبه خرج الجواب عن الثاني وعن الثالث أن كون اللفظ حقيقة في
الاستغراق مجازا في غيره يفيد ظن الاستغراق والظن حجة في
العمليات والله أعلم
(3/223)
|