المحصول للرازي الكلام في الأفعال
وفيه مسائل المسألة الاولى اختلفت الأمة في عصمة الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام على قولين أحدهما قول من ذهب إلى إنه لا
يجوز أن يقع منهم ذنب صغيرا كان أو كبيرا لا عمدا ولا سهوا ولا
من جهة التأويل وهو قول الشيعة والآخر
قول من ذهب إلى جوازه عليهم ثم اختلفوا فيما يجوز من ذلك وما
لا يجوز والاختلاف في هذا الباب يرجع إلى أقسام أربعة أحدها ما
يقع في باب الاعتقاد وقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يقع منهم
الكفر
(3/225)
وقالت الفضيلية من الخوارج إنه قد وقعت
منهم ذنوب وكل ذنب عندهم كفر وشرك وأجازت الشيعة إظهار الكفر
على سبيل التقية فأما الاعتقاد الخطأ الذي لا يبلغ الكفر مثل
أن يعتقد مثلا أن الأعراض باقية ولا يكون كذلك فمنهم من أباه
لكونه منفرا ومنهم من جوزه وثانيها باب التبليغ واتفقوا على
إنه لا يجوز عليهم التغيير وإلا لزال الوثوق بقولهم وقال قوم
يجوز ذلك من جهة السهو وثالثها ما يتعلق بالفتوى واتفقوا أيضا
على أنه لا يجوز عليهم الخطأ فيه
(3/226)
وجوزه قوم على سبيل السهو ورابعها
ما يتعلق بأفعالهم واختلفت الأمة فيه على أربعة أقوال أحدها
قول من جوز عليهم الكبائر عمدا وهؤلاء منهم من قال بوقوع هذا
الجائز وهم الحشوية وقال القاضي أبو بكر هذا وإن جاز عقلا ولكن
السمع منع من وقوعه وثانيها أنه لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة ولا
صغيرة عمدا لكن يجوز أن يأتوا بها على جهة التأويل وهو قول
الجبائي
(3/227)
وثالثها أنه لا يجوز ذلك لا عمدا ولا من
جهة التأويل لكن على سبيل السهو وهم مؤاخذون بما يقع منهم على
هذه الجهة وإن كان موضوعا عن أمتهم لأن معرفتهم أقوى فيقدرون
على التحفظ عما لا يتأتى لغيرهم ورابعها إنه لا يجوز أن
يرتكبوا كبيرة وأنه قد وقعت منهم صغائر على جهة العمد والخطأ
والتأويل إلا ما ينفر كالكذب وإن والتطفيف وهو قول أكثر
المعتزلة والذي نقول به أنه لم يقع منهم ذنب على سبيل القصد لا
صغيرا ولا كبيرا أما السهو فقد يقع منهم لكن بشرط أن يتذكروه
في الحال وينبهوا غيرهم على أن ذلك كان سهوا
وقد سيقت هذه المسألة في علم الكلام ومن أراد الاستقصاء فعليه
بكتابنا في عصمة الأنبياء والله أعلم
(3/228)
المسألة الثانية اختلفوا في أن فعل الرسول
ص بمجرده هل يدل على حكم في حقنا أم لا على أربعة أقوال أحدها
أنه للوجوب وهو قول ابن سريج وأبي سعيد الاصطخري وأبي علي بن
خيران
(3/229)
وثانيها أنه للندب ونسب ذلك إلى الشافعي
رضي الله عنه وثالثها أنه للإباحة وهو قول مالك رحمه الله
ورابعها يتوقف في الكل وهو قول الصيرفي وأكثر المعتزلة وهو
المختار لنا أنا إن جوزنا الذنب عليه جوزنا في ذلك الفعل أن
يكون ذنبا له ولنا وحينئذ لا يجوز لنا فعله وإن لم نجوز الذنب
عليه جوزنا كونه مباحا ومندوبا وواجبا وبتقدير أن يكون واجبا
جوزنا أن يكون ذلك من خواصه وأن لا يكون ومع احتمال هذه
الأقسام امتنع الجزم بواحد منها
واحتج القائلون بالوجوب بالقرآن والإجماع والمعقول أما القرآن
فسبع آيات
(3/230)
إحداها قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن
أمره والأمر حقيقة في الفعل على ما تقدم بيانه والتحذير عن
مخالفة فعله يقتضي وجوب موافقة فعله وثانيتها قوله تعالى لقد
كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم
الآخر وهذا مجراه مجرى الوعيد فيمن ترك التأسي به ولا معنى
للتأسي به إلا أن يفعل الإنسان مثل فعله وثالثتها قوله تعالى
واتبعوه وظاهر الأمر للوجوب والمتابعة هي الإتيان بمثل فعله
(3/231)
ورابعتها قوله تعالى قل إن كنتم تحبون الله
فاتبعوني دلت الآية على أن محبة الله مستلزمة للمتابعة لكن
المحبة واجبة بالإجماع ولازم الواجب واجب فمتابعته واجبة
وخامستها قوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه فإذا فعل فقد
آتانا بالفعل
فوجب علينا أن نأخذه وسادستها قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول دلت الآية بإطلاقها على وجوب طاعة الرسول والآتي بمثل
فعل الغير أجل أن ذلك الغير فعله طائع لذلك الغير فوجب أن يكون
ذلك واجبا وسابعتها أن قوله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا
زوجناكها بين أنه تعالى إنما زوجه بها ليكون حكم أمته مساويا
لحكمه في ذلك وهذا هو المطلوب
(3/232)
وأما الإجماع فلأن الصحابة رضي الله عنهم
بأجمعهم اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين فقالت عائشة رضي
الله عنها فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا
فرجعوا إلى ذلك وإجماعهم على الرجوع حجة وهو المطلوب وإنما كان
لفعل رسول الله ص فقد أجمعوا ها هنا على أن مجرد الفعل للوجوب
(3/233)
ولأنهم واصلوا الصيام لما واصل وخلعوا
نعالهم في الصلاة لما خلع وأمرهم عام الحديبية بالتحلل بالحلق
فتوقفوا فشكا إلى أم سلمة
(3/234)
فقالت أخرج إليهم واحلق واذبح ففعل فذبحوا
وحلقوا متسارعين
(3/235)
ولأنه خلع خاتمه فخلعوا ولأن عمر رضي الله
عنه كان يقبل الحجر الأسود ويقول إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا
تنفع ولولا أني رأيت رسول الله ص يقبلك لما قبلتك وأنه عليه
الصلاة والسلام قال في جواب مسأل أم سلمة عن قبلة
(3/236)
الصائم ألا أخبرته كما أنني أقبل وأنا صائم
وأما المعقول فمن وجهين الأول أن الاحتياط يقتضي حمل الشئ على
أعظم مراتبه وأعظم مراتب فعل الرسول ص أن يكون واجبا عليه وعلى
أمته فوجب حمله عليه بيان الأول أن الاحتياط يتضمن دفع ضرر
الخوف عن النفس بالكلية ودفع الضرر عن النفس واجب بيان الثاني
أن أعظم مراتب الفعل أن يكون واجبا على الكل الثاني أنه لا
نزاع في وجوب تعظيم الرسول ص في الجملة وإيجاب الإتيان بمثل
فعله تعظيم له بدليل العرف والتعظيمان هو يشتركان في قدر من
المناسبة فيجمع بينهما بالقدر المشترك فيكون ورود الشرع بإيجاب
ذلك
(3/237)
التعظيم يقتضي وروده بأن يجب على الأمة
الإتيان بمثل فعله والجواب عن الأول لا نسلم أن لفظ الأمر
حقيقة في الفعل على ما تقدم سلمناه لكنه بالإجماع أيضا حقيقة
في القول فليس حمله على ذلك بأولى من حمله على هذا
سلمناه لكن ها هنا ما يمنع من حمله على الفعل وهو من وجهين
الأول أن تقدم ذكر الدعاء وذكر المخالفة يمنع منه فإن الإنسان
إذا قال لعبده لا تجعدعائي كدعاء غيري واحذر مخالفة أمري فهم
منه أنه أراد بالأمر القول الثاني وهو أنه قد أريد به القول
بالإجماع فلا يجوز حمله على الفعل لأن اللفظ المشترك لا يجوز
حمله على معنييه سلمناه لكن الهاء راجعة إلى الله تعالى لأنه
أقرب المذكورين فإن قلت القصد هو الحث على اتباع الرسول ص لأنه
تعالى قال لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا فحث
بذلك
(3/238)
على الرجوع إلى أقواله وأفعاله ثم عقب ذلك
بقوله فليحذر الذين يخالفون عن أمره فعلمنا أنه بعث بذلك على
التزام ما كان دعا إليه من الرجوع إلى أمر النبي عليه الصلاة
والسلام وأيضا فلم لا يجوز الحكم بصرف الكناية إلى الله تعالى
والرسول ص قلت الجواب عن الأول أن صرف هذا الضمير إلى الله
تعالى مؤكد لهذا الغرض أيضا لأنه لما حث على الرجوع إلى أقوال
الرسول وأفعاله ثم حذر عن مخالفة أمر الله تعالى كان ذلك
تأكيدا لما هو المقصود من متابعة الرسول ص
وعن الثاني أن الهاء كناية عن واحد فلا يجوز عوده إلى الله
تعالى والى الرسول معا سلمنا عود الضمير إلى الرسول فلم قلت إن
عدم الإتيان بمثل فعله مخالفة لفعله فإن قلت يدل عليه أمران
الأول أن المخالفة ضد الموافقة لكن موافقة فعل الغير هو أن
تفعل مثل فعله فمخالفته هو أن لا تفعل مثل فعله
(3/239)
الثاني وهو أن المعقول من المختلفين هما
اللذان لا يقوم أحدهما مقام الآخر والعدم والوجود لا يقوم
أحدهما مقام الآخر بوجه أصلا فكانا في غاية المخالفة فثبت إن
عدم الإتيان بمثل فعله مخالف للإتيان بمثل فعله من كل الوجوه
قلت هب أنها في أصل الوضع كذلك لكنها في عرف الشرع ليست كذلك
ولهذا لا يسمى إخلال الحائض بالصلاة مخالفة للمسلمين بل هي
عبارة عن عدم الإتيان بمثل فعله إذا كان الإتيان به واجبا وعلى
هذا لا يسمى ترك مثل فعل النبي ص مخالفة إلا إذا دل فعله على
الوجوب فإذا أثبتنا ذلك بهذا الدليل لزم الدور وهو محال
والواجب عن الثاني لم قلت إن الإتيان بمثل فعل الغير مطلقا
يكون تأسيا به بل عندنا كما يشترط في التأسي المساواة في
الصورة يشترط فيه
(3/240)
المساواة في الكيفية حتى أنه لو صام واجبا
فتطوعنا بالصوم لم نكن متأسين به وعلى هذا لا يكون مطلق فعل
الرسول عليه الصلاة والسلام سببا للوجوب في حقنا لأن فعله قدلا
يكون واجبا فيكون فعلنا إياه على سبيل الوجوب قادحا في التأسي
وتمام الأسئلة سيأتي في المسألة الآتية إن شاء الله تعالى
والجواب عن الثالث أن قوله واتبعوه إما أن لا يفيد العموم أو
يفيده فإن كان الأول سقط التمسك به وإن كان الثاني فبتقدير أن
يكون ذلك الفعل واجبا عليه وعلينا وجب أن نعتقد فيه أيضا هذا
الاعتقاد والحكم بالوجوب يناقضه فوجب أن لا يتحقق وهذا هو
الجواب وسلم عن التمسك بقوله تعالى فاتبعوني والجواب عن الخامس
لا نسلم أن قوله تعالى ما آتاكم الرسول فخذوه يتناول الفعل
ويدل عليه وجهان
(3/241)
الأول أن قوله تعالى وما نهاكم عنه فانتهوا
يدل على أنه عنى بقوله ما آتاكم ما أمركم
الثاني أن الإتيان إنما يتأتى في القول لأنا نحفظه وبامتثاله
إن يصير كأننا أخذناه فيصير كأنه ص أعطاناه والجواب عن السادس
أن الطاعة هي الإتيان بالمأمور أو بالمراد على اختلاف المذهبين
فلم قلت إن مجرد فعل الرسول ص يدل على أنا أمرنا بمثله أو أريد
منا مثله وهذا هو أول المسألة والجواب عن الإجماع من وجوه
الأول أن هذه أخبار آحاد فلا تفيد العلم ولهم أن يقولوا هب
أنها تفيد الظن لكن لما حصل ظن كونه دليلا
(3/242)
ترتب عليه ظن ثبوت الحكم فيكون العمل به
دافعا لضرر مظنون فيكون واجبا وتقرير هذه الطريقة سيجئ إن شاء
الله تعالى في مسألة القياس الثاني أن أكثر هذه الأخبار واردة
في الصلاة والحج فلعله ص كان قد بين لهم أن شرعه وشرعهم سواء
في هذه الأمور قال ص صلوا كما رأيتموني أصلي وعليه خرج مسألة
التقاء الختانين وقال خذوا عني مناسككم وعليه خرج تقبيل عمر
للحجر الأسود وقال هذا وضوئي ووضوء الآنبياء من قبلي وأما
الوصال فإنهم ظنوا لما أمرهم بالصوم واشتغل معهم به أنه
قصد بفعله بيان الواجب ففعلوا فرد عليهم ظنهم وأنكر عليهم
الموافقة وأما خلع النعل فلا نعلم أنهم فعلوا ذلك واجبا وأيضا
لا يمتنع أن يكونوا لما رأوه قد خلع نعله مع تقدم قوله تعالى
(3/243)
خذوا زينتكم عند كل مسجد ظنوا أن خلعها
مأمور به غير مباح لأنه لو كان مباحا لما ترك به المسنون في
الصلاة على أنه ص قال لهم لم خلعتم نعالكم فقالوا لأنك خلعت
نعلك فقال إن جبريل أخبرني أن فيها أذى فبين بهذا أنه ينبغي أن
يعرفوا الوجه الذي أوقع عليه فعله ثم يتبعونه وأما خلع الخاتم
فهو مباح فلما خلع أحبوا موافقته لاعتقادهم وجوب ذلك عليهم
والجواب عن الوجه الأول من المعقول أن الاحتياط إنما يصار إليه
إذا خلا عن الضرر قطعا وها هنا ليس كذلك لاحتمال أن يكون ذلك
الفعل حراما على الأمة وإذا احتمل الأمران لم يكن المصير إلى
الوجوب احتياطا وعن الثاني إن ترك الإتيان بمثل ما يأتي به
الملك العظيم قد يكون تعظيما ولذلك يقبح من العبد أن يفعل كل
ما يفعل سيده واحتج القائلون بالندب بالقرآن والإجماع والمعقول
أما القرآن فقوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
ولو كان التأسي واجبا لقال عليكم فلما قال لكم دل على عدم
(3/244)
الوجوب ولما أثبت الأسوة الحسنة دل على
رجحان جانب الفعل على جانب الترك فلم يكن مباحا وأما الإجماع
فهو أنا رأينا أهل الأعصار متطابقين على الاقتداء في الأفعال
بالنبي ص وذلك يدل على انعقا الإجماع على أنه يفيد الندب وأما
المعقول فهو إن فعله عليه الصلاة والسلام إما أن يكون راجح
العدم أو مساوى العدم أو مرجوح العدم والأول باطل لما ثبت أنه
لا يوجمنه الذنب والثاني باطل ظاهرا لأن الاشتغال به عبث
والعبث مزجور عنه بقوله تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا فتعين
الثالث وهو أن يكون مرجوح العدم ثم إنا لما تأملنا أفعاله
وجدنا بعضها مندوبا وبعضها واجبا والقدر المشترك هو رجحان جانب
الوجود وعدم الوجوب ثابت بمقتضى الأصل فأثبتنا الرجحان مع عدم
الوجوب والجواب عن الأول ما تقدم أن التأسي في إيقاع الفعل على
الوجه الذي أوقعه عليه فلوا
(3/245)
كان فعله واجبا أو مباحا وفعلناه مندوبا
لما حصل التأسي وعن الثاني أنا لا نسلم أنهم استدلوا بمجرد
الفعل فلعلهم وجدوا مع الفعل قرائن أخرى وعن الثالث لا نسلم أن
فعل المباح عبث لأن العبث هو الخالي عن الغرض فإذا
حصلت في المباح منفعة ما لم يكن عبثا بل من حيث حصول النفع به
خرج عن العبث فلم قلتم بأنه خلا عن الغرض ثم حصول الغرض في
التأسي بالنبي ص ومتابعته في أفعاله بين فلا يعد من أقسام
العبث والله أعلم واحتج القائلون بالإباحة بأنه لما ثبت أنه لا
يجوز صدور الذنب منه ثبت أن فعله لا بد أن يكون إما مباحا أو
مندوبا أو واجبا وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في رفع الحرج عن
الفعل فأما رجحان جانب الفعل فلم يثبت على وجوده دليل لأن
الكلام فيه
(3/246)
وثبت على عدمه لأن دليل هذا الرجحان كان
معدوما والأصل في كل شئ بقاؤه على ما كان فثبت بهذأنه لا حرج
في فعله قطعا ولا رجحان في فعله ظاهرا فهذا الدليل يقتضي في كل
أفعاله أن يكون مباحا ترك العمل به في الأفعال التي علم كونها
واجبة أو مندوبة فيبقى معمولا به في الباقي وإذا ثبت كونه
مباحا ظاهرا وجب أن يكون في حقنا كذلك للآية الدالة على وجوب
التأسي ترك العمل به فيما كان من خواصه فيبقى معمولا به في
الباقي والجواب هب أنه في حقه كذلك فلم يجب أن يكون في حق غيره
كذلك والله أعلم المسألة الثالثة
قال جماهير الفقهاء والمعتزلة التأسي به واجب ومعناه أنا إذا
علمنا أن الرسول ص فعل فعلا على وجه الوجوب فقد تعبدنا أن
نفعله على وجه الوجوب
(3/247)
وإن علمنا أنه تنفل به كنا متعبدين بالتنفل
به وإن علمنا أنه فعله على وجه الإباحة كنا متعبدين باعتقاد
إباحته لنا وجاز لنا أن نفعله وقال أبو علي بن خلاد من
المعتزلة نحن متعبدون بالتأسي به في العبادات دون غيرها
كالمناكحات إلا والمعاملات ومن الناس من أنكر ذلك في الكل
واحتج أبو الحسين بالقرآن والإجماع أما القرآن فقوله تعالى لقد
كان لكم في رسول الله أسوة حسنة والتأسي بالغير في أفعاله هو
أن يفعل على الوجه الذي فعل ذلك الغير ولم يفرق الله تعالى بين
أفعال الرسول ص إذا كانت مباحة أو لم تكن مباحة
(3/248)
وقوله تعالى واتبعوه أمر بالاتباع فيجب
وأما الإجماع فهو أن السلف رجعوا إلى أزواجه في قبلة الصائم
وفي أن من أصبح جنبا لم يفسد صومه وفي تزوج النبي ص ميمونة وهو
حرام وذلك يدل على أن أفعاله لا بد من أن يمتثل فيها طريقه
(3/249)
ولقائل أن يقول على الدليل الأول الآية
تقتضي التأسي به مرة واحدة كما أن قول القائل لغيره لك في
الدار ثوب حسن يفيد ثوبا واحدا فإن قلت هذا إن ثبت تم غرضنا من
التعبد بالتأسي به ص في الجملة وأيضا فالآية تفيد إطلاق كون
النبي ص أسوة حسنة لنا ولا يطلق وصف الإنسان بأنه أسوة حسنة
إذا لم يجز لزيد لزيد أن يتبعه إلا في فعل واحد وإنما يطلق ذلك
إذا كان ذلك الإنسان قدوة لزيد يقتدي به في الأمور كلها إلا ما
خصه الدليل قلت الجواب عن الأول أن أحدا لا ينازع في التأسي به
ص في الجملة لأنه لما قال صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني
مناسككم فقد أجمعوا على وقوع التأسي به ها هنا والآية ما دلت
إلا على المرة الواحدة فكان التأسي به ص في هذه الصورة كافيا
في العمل بالآية لا سيما والآية إنما وردت على صيغة الاخبار
عما مضى وذلك يكفي فيه وقوع التأسي به فيما مضى والجواب عن
الثاني إنك إن أردت به أنه لا يصح إطلاق اسم الأسوة عليه إلا
إذا
(3/250)
كان أسوة في كل شئ فهذا فيه ممنوع ثم الذي
يدل على فساده وجهان الأول أن من تعلم من إنسان نوعا واحدا من
العلم يقال له إن لك في فلان أسوة حسنة
الثاني وهو أن يقال لك في فلان أسوة حسنة في كل شئ ويقال لك من
فلان أسوة حسنة في هذا الشدون ذاك ولو اقتضى اللفظ العموم لكان
الأول تكريرا والثاني نقضا وإن أردت أن يصح إطلاق اسم الأسوة
إذا كان أسوة في بعض الأشياء فهذا مسلم ولكنه ص عندنا أسوة لنا
في أقواله وفي كثير من أفعاله التي أمرنا بالاقتداء به فيها
كقوله ص صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم والجواب عن
الحجة الثانية ان قوله تعالى واتبعوه مطلق في الاتباع فلا يفيد
العموم في كل شئ من الاتباعات صلى والأمر لا يقتضي التكرار فلا
يفيد العموم في كل الأزمنة
(3/251)
فإن قلت ترتيب الحكم على الاسم يشعر بأن
المسمى علة لذلك الحكم فماهية المتابعة علة للأمر بها قلت فعلى
هذا لو قال السيد لعبده اسقني يلزم أن يكون أمرا له بجميع
أنواع السقي في كل الأزمنة ولو قال له قم يلزم أن يكون أمرا له
بجميع أنواع القيام في كل الأزمنة وفي هذه الأمثلة كثرة وما
ذكرناه كاف في إفساد ما قالوا والله أعلم وأما الإجماع فقد سبق
الكلام عليه والله أعلم
(3/252)
القسم الثاني في
التفريع على وجوب التأسي المسألة
الأولى لما عرفت أن التأسي مطابقة فعل المتأسى وقال به على
الوجه الذي وقع فعله عليه وجب معرفة الوجه الذي يقع عليه فعل
الرسول ص وهو ثلاثة الإباحة والندب والوجوب أما الإباحة فتعرف
بطرق أربعة أحدها أن ينص الرسول ص على أنه مباح وثانيها أن يقع
امتثالا لآية دالة على الإباحة وثالثها أن يقع بيانا لآية دالة
على الإباحة
(3/253)
ورابعها أنه لما ثبت أنه لا يذنب ثبت أنه
لا حرج عليه في ذلك الفعل ولا في تركه وانتفى الوجوب والندب
بالبقاء على الأصل فحينئذ يعرف كونه مباحا وأما الندب أنه
فيعرف بتلك الثلاثة الأول مع أربعة أخرى أحدها
أن يعلم من قصده ص أنه قصد القربة بذلك الفعل فيعلم أنه راجح
الوجود ثم نعرف انتقاء الوجوب وهو بحكم الاستصحاب فيثبت الندب
وثانيها أن ينص على أنه كان مخيرا بين ما فعل وبين فعل ما ثبت
أنه ندب لأن التخيير لا يقع بين الندب وبين ما ليس بندب
(3/254)
وثالثها أن يقع قضاء لعبادة كانت مندوبة
ورابعها أن يداوم على الفعل ثم يخل به من غير نسخ فتكون إدامته
عليه الصلاة والسلام دليلا على كونه طاعة وإخلاله به من غير
نسخ دليلا على عدم الوجوب وأما الوجوب فيعرف بتلك الثلاثة
الأول مع خمسة أخرى أحدها الدلالة على أنه كان مخيرا بينه وبين
فعل آخر قد ثبت وجوبه لأن التخيير لا يقع بين الواجب وبين مال
ليس بواجب وثانيها أن يكون قضاء لعبادة قد ثبت وجوبها وثالثها
أن يكون وقوعه مع أمارة قد تقرر في الشريعة أنها أمارة الوجوب
كالصلاة بأذان وإقامة
(3/255)
ورابعها أن يكون جزاء لشرط فوجب كفعل ما
وجب بالنذر وخامسها أن يكولو لم يكن واجبا لم يجز كالجمع بين
ركوعين في صلاة الكسوف المسألة الثانية في الفعل إذا عارضه
معارض منه ص فهو إما أن يكون قولا أو فعلا أما القول فإما أن
يعلم أن المتقدم هو القول أو الفعل أو لا يعلم واحد منهما أما
القسم الأول وهو أن يكون المتقدم هو القول فالفعل المعارض له
إما أن يحصل عقيبه أو متراخيا عنه
(3/256)
فإن كان متعقبا فإما أن يكون القول متناولا
له خاصة أو لأمته خاصة أوله ولهم معا لا يجوز أن يتناوله خاصة
إلا على قول من يجوز نسخ الشئ قبل حضور وقته وإن تناول أمته
خاصة وجب المصير إلى القول دون الفعل وإلا كان القول لغو ولا
يلغو الفعل لأن حكمه ثابت في الرسول ص وإن كان الخطاب يعمه
وإياهم دل فعله على أنه مخصوص من القول وأمته داخلة فيه لا
محالة وأن كان الفعل متراخيا عن القول فإن كان القول عاما لنا
وله صار مقتضاه منسوخا عنا وعنه وإن تناوله دونه كان نسخا عنا
دونه لأن القول لم يتناوله
وإن تناوله دوننا كان منسوخا عنه دوننا ثم يلزمنا مثل فعله
لوجوب التأسي به القسم الثاني أن يكون المتقدم هو الفعل فالقول
المعارض له إما أن يحصل عقيبه أو متراخيا عنه فإن كان متعقبا
فإما أن يكون القول متناولا له خاصة أو لأمته خاصة أو عاما فيه
وفيهم فإن كان متناولا له خاصة وقد كان الفعل المتقدم دالا على
لزوم مثله لكل مكلف في المستقبل فيصير ذلك القول المختص به
مخصصا له عن ذلك العموم
(3/257)
وإن كان متناولا لأمته خاصة دل على أن حكم
الفعل مختص به دون أمته وإن كان عاما فيه وفيهم دل على سقوط
حكم الفعل عنه وعنهم وأما إن كان القول متراخيا عن الفعل فإن
كان متناولا له ولأمته فيكون القول ناسخا لحكم الفعل عنه وعن
أمته وإن كان يتناول أمته دونه فيكون منسوخا عنهم دونه وإن كان
يتناوله دون أمته فيكون منسوخا عنه دون أمته القسم الثالث إذا
لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر فها هنا يقدم القول على الفعل
ويدل عليه وجهان الأول أن القول أقوى من الفعل والأقوى راجح
وإنما قلنا أن القول أقوى لأن دلالة القول تستغني عن الفعل
ودلالة الفعل لا تستغني عن القول والمستغنى أقوى من المحتاج
(3/258)
والثاني أنا نقطع بأن القول قد تناولنا
وأما الفعل فبتقدير أن يتأخر كان متناولا لنا وبتقدير أن يتقدم
لا يتناولنا فكون القول متناولا لنا معلوم وكون الفعل متناولا
لنا مشكوك والمعلوم مقدم على المشكوك فرع نهى رسول الله ص عن
استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة صلى الله عليه وسلم
ثم جلس في البيوت لقضاء الحاجة مستقبل بيت المقدس
(3/259)
فعند الشافعي رضي الله عنه أن نهيه مخصوص
بفعله في الصحراء حتى يجوز استقبال القبلة واستدبارها في
البيوت لكل أحد
(3/260)
وعند الكرخي رحمه الله يجب إجراء النهي على
إطلاقه في الصحراء والبنيان فكان ذلك من خواص الرسول ص وتوقف
القاضي عبد الجبار في المسألة حجة الشافعي رضي الله عنه أن
النهي عام ومجموع الدليل الذي يوجب علينا أن نفعل مثل ما فعل
الرسول عليه الصلاة والسلام مع كونه مستقبل القبلة في البنيان
عند قضاء الحاجة أخص من ذلك النهي والخاص مقدم على العام فوجب
القول بالتخصيص والله أعلم
أما إذا كان المعارض للفعل فعلا آخر فذلك على وجهين الأول أن
يفعل الرسول ص فعلا يعلم بالدليل أن غيره مكلف به ثم نراه بعد
ذلك قد أقر بعض الناس على فعل ضده فنعلم أنه خارج منه الثاني
إذا علمنا أن ذلك الفعل إنما يلزم أمثاله الرسول ص في مثل
(3/261)
تلك الأوقات ما لم يرد دليل ناسخ لم يفعل
عليه الصلاة والسلام ضده في مثل ذلك الوقت فنعلم أنه كان قد
نسخ عنه تنبيه التخصيص والنسخ في الحقيقة إنما لحقا ما دل على
أن ذلك الفعل لازم لغيره وأنه لازم له في مستقبل الأوقات وإنما
يقال إن ذلك الفعل قد لحقه النسخ بمعنى أنه قد زال التعبد
بمثله وأن التخصيص قد لحقه على معنى أن بعض المكلفين لا يلزمه
مثله والله أعلم
(3/262)
القسم الثالث في أن الرسول ص هل كان متعبدا
بشرع من قبله وفيه بحثان
البحث الأول أنه قبل النبوة هل كان متعبدا بشرع من قبله أثبته
قوم ونفاه آخرون وتوقف فيه ثالث احتج المنكرون بأمرين الأول
أنه لو كان متعبدا بشرع أحد لوجب عليه الرجوع إلى علماء تلك
الشريعة والاستفتاء منهم والأخذ بقولهم ولو كان كذلك لاشتهر
ولنقل بالتواتر قياسا على سائر أحواله فحيث لم ينقل علمنا أنه
ما كان متعبدا بشرعهم
(3/263)
الثاني أنه لو كان على ملة قوم لافتخر به
أولئك القوم ولنسبوه إذا إلى أنفسهم ولاشتهر ذلك فإن قلت ولو
لم يكن متعبدا بشرع أحد لاشتهر ذلك قلت الفرق أن قومه ما كانوا
على شرع أحد فبقاؤه لا على شرع البتة لا يكون شيئا بخلاف
العادة فلا تتوفر الدواعي على نقله أما كونه على شرع لما كان
بخلاف عادة قومة فوجب أن ينقل احتج المثبتون بأمرين الأول أن
دعوة من تقدمه كانت عامة فوجب دخوله فيها الثاني أنه كان يركب
البهيمة ويأكل اللحم ويطوف بالبيت
والجواب عن الأول أنا لا نسلم عموم دعوة من تقدمه
(3/264)
سلمناه لكن لا نسلم وصول تلك الدعوة إليه
بطريق يوجب العلم أو الظن الغالب وهذا هو المراد من زمان
الفترة وعن الثاني أن نقول أما ركوب البهائم فهو حسن في العقل
إذا كان طريقا إلى حفظها بالعلف وغيره وأما أكله لحم المذكى
فحسن أيضا لأنه ليس فيه مضرة على حيوان وأما طوافه بالبيت
فبتقدير ثبوته لا يجب لو فعله من غير شرع أن يكون حراما البحث
الثاني في حاله عليه السلام بعد النبوة قال جمهور المعتزلة
وكثير من الفقهاء أنه لم يكن متعبدا بشرع أحد
(3/265)
وقال قوم من الفقهاء بل كان متعبدا بذلك
إلا ما استثنا الدليل الناسخ ثم اختلفوا فقال قوم كان متعبدا
بشرع إبراهيم وقيل بشرع موسى وقيل بشرع عيسى واعلم أن من قال
إنه كان متعبدا بشرع من قبله إما أن يريد به أن الله تعالى كان
يوحي إليه بمثل تلك الأحكام التي أمر بها من قبله أو يريد أن
الله تعالى أمره باقتباس الأحكام من كتبهم فإن قالوا بالأول
فإما أن يقولوا به في كل شرعه أو في بعضه
والأول معلوم البطلان بالضرورة لأن شرعنا يخالف شرع من قبلنا
في كثير من الأمور والثاني مسلم ولكن ذلك لا يقتضي إطلاق القول
بأنه كان متعبدا بشرع غيره لأن ذلك يوهم التبعية وأنه ص ما كان
تبعا لغيره بل كان أصلا في شرعه وأما الاحتمال الثاني وهو
حقيقة المسألة فيدل على بطلانه وجوه
(3/266)
الأول لو كان متعبدا بشرع أحد لوجب أن يرجع
في أحكام الحوادث إلى شرعه وأن لا يتوقف إلنزول الوحي لكنه لم
يفعل ذلك لوجهين الأول أنه لو فعل لاشتهر والثاني أن عمر رضي
الله عنه طالع ورقة من التوراة فغضب رسول الله عليه الصلاة
والسلام وقال لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي ولما لم يكن
كذلك علمنا أنه لم يكن متعبدا بشرع أحد فإن قيل الملازمة
ممنوعة لاحتمال أن يقال إنه ص علم في تلك الصور أنه غير متعبد
فيها بشرع من قبله فلا جرم توقف فيها على نزول الوحي أو لأنه
عليه الصلاة والسلام علم خلو شرعهم عن حكم تلك الوقائع فانتظر
الوحي أو لأن احكام تلك الشرائع إن كانت منقولة بالتواتر فلا
يحتاج في
(3/267)
معرفتها إلى الرجوع إليهم وإلى كتبهم وإن
كانت منقولة بالآحاد لم يجز قبولها لأن أولئك الرواة كانوا
كفارا ورواية الكافر غير مقبولة سلمنا الملازمة لكن قد ثبت
رجوعه إلى التوراة في الرجم لما احتكم إليه اليهود والجواب
قوله إنما لم يرجع إليها لأنه عليه الصلاة والسلام علم أنه غير
متعبد فيها بشرع من قبله قلنا فلما لم يرجع في شئ من الوقائع
إليهم وجب أن يكون ذلك لأنه علم أنه غير متعبد في شئ منها بشرع
من قبله
(3/268)
قوله إنما لم يرجع إليها لعلمه بخلو كتبهم
عن تلك الوقائع قلنا العلم بخلو كتبهم عنها لا يحصل إلا بالطلب
الشديد والبحث الكثير فكان يجب أن يقع منه ذلك البحث والطلب
قوله ذلك الحكم إما أن يكون منقولا بالتواتر أو بالآحاد قلنا
يجوز أن يكون متن الدليل متواترا إلا أنه لا بد في العلم
بدلالته على المطلوب من نظر كثير وبحث دقيق فكان يجب اشتغال
النبي عليه الصلاة والسلام بالنظر في كتبهم والبحث عن كيفية
دلالتها على الأحكام قوله إنه رجع في الرجم إلى التوراة قلنا
لم يكن رجوعه إليها رجوع مثبت للشرع بها والدليل عليه أمور
أحدها
أنه لم يرجع إليها في غير الرجم وثانيها أن التوراة محرفة عنده
فكيف يعتمد عليها وثالثها أن من أخبره بوجود الرجم في التوراة
لم يكن ممن يقع العلم بخبره فثبت أن رجوعه إليها كان ليقرر
عليهم أن ذلك الحكم كما أنه ثابت في شرعه فهو أيضا ثابت في
شرعهم وأنهم أنكروه كذبا وعنادا
(3/269)
الحجة الثانية أنه عليه السلام لو كان
متعبدا بشرع من قبله لوجب على علماء الأعصار أن يرجعوا في
الوقائع إلى شرع من قبله ضرورة أن التأسي به واجب وحيث لم
يفعلوا ذلك البتة عمنا بطلان ذلك الحجة الثالثة أنه عليه
الصلاة والسلام صوب معاذا في حكمه باجتهاد نفسه إذا عدم حكم
الحادثة في الكتاب والسنة ولو كان متعبدا بحكم التوراة كما
تعبد بحكم الكتاب لم يكن له العمل باجتهاد نفسه حتى ينظر في
التوراة والإنجيل فإن قلت إن رسول الله ص لم يصوب معاذا في
العمل بالاجتهاد إلا إذا عدمه في الكتاب والتوراة كتاب ولأنه
لم يذكر التوراة لأن في
(3/270)
القرآن آيات دالة على الرجوع إليها كما أنه
لم يذكر الإجماع لهذا
السبب قلت الجواب عن الآول من وجهين الأول أنه لا يفهم من
إطلاق الكتاب إلا القرآن فلا يحمل على غير إلا بدليل الثاني
أنه لم يعهد من معاذ قط تعلم التوراة والإنجيل والعناية بتميز
المحرف منها عن غيره كما عهد منه تعلم القرآن وبه ظهر الجواب
عن الثاني الحجة الرابعة لو كانت تلك الكتب حجة علينا لكان
حفظها من فروض الكفايات كما في القرآن والأخبار ولرجعوا إليها
في مواضع اختلافهم حيث أشكل عليهم كمسألة العول وميراث الجد
والمفوضة وبيع أم الولد وحد الشرب والربا في غير النسيئة ودية
الجنين فقال والرد بالعيب بعد الوطء والتقاء الختانين وغير ذلك
من الأحكام ولما لم ينقل عن واحد منهم مع طول أعمارهم وكثرة
وقائعهم واختلافاتهم مراجعة التوراة لا سيما وقد أسلم من
أحبارهم من تقوم
(3/271)
الحجة بقولهم كعبد الله بن سلام وكعب ووهب
وغيرهم ولا يجوز القياس إلا بعد اليأس من الكتاب وكيف يحصل
اليأس قبل العلم دل على أنه ليس بحجة احتجوا بأمور أحدها قوله
تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون
وثانيها قوله تعالى فبهداهم اقتده أمره أن يقتدي بهم
(3/272)
وثالثها قوله تعالى إنا أوحينا إليك كما
أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ورابعها قوله تعالى أن اتبع
ملة إبراهيم حنيفا وخامسها قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى
به نوحا والجواب عن الأول أن قوله يحكم بها النبيون لا يمكن
إجراؤه على ظاهره لأن جميع النبيين لم يحكموا بجميع ما في
التوراة وذلك معلوم بالضرورة فوجب إما تخصيص الحكم وهو أن كل
النبيين حكموا ببعضه وذلك لا يضرنا فإن نبينا حكم بما فيه من
معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله أو تخصيص النبيين وهو
أن النبيين حكموا بكل ما فيه وذلك لا يضرنا وعن الثاني أنه
تعالى أمر بأن يقتدى بهدي مضاف إلى كلهم وهداهم الذي اتفقوا
عليه هو الأصول دون ما وقع فيه النسخ
(3/273)
وعن الثالث أنه يقتضي تشبيه الوحي بالوحي
لا تشبيه الموحى به بالموحى به
وعن الرابع أن الملة محمولة على الأصول دون الفروع ويدل عليه
أمور أحدها أنه يقال ملة الشافعي وأبي حنيفة واحد وإن كان
مذهبهما في كثير من الشرعيات مختلفا وثانيها قوله بعد هذه
الآية وما كان من المشركين وثالثها أن شريعة ابراهيم عليه
السلام قد اندرست وعن الخامس أن الآية تقتضي أنه وصى محمدا
عليه الصلاة والسلام بالذي وصى به نوحا عليه السلام من أن
يقيسوا الدين ولا يتفرقوا فيه وأمرهم بإقامة الدين لا يدل على
اتفاق دينهما كما أن أمر الإثنين أن يقوما بحقوق الله
(3/274)
تعالى لا يدل على أن الحق على أحدهما مثل
الحق على الآخر وعلى أن الآية تدل على أنه تعبد محمدا بما وصى
به نوحا عليهما السلام والله أعلم
(3/275)
|