المحصول للرازي

الكلام في الناسخ والمنسوخ وهو مرتب على أقسام القسم الأول في حقيقة النسخ
وفيه مسائل

(3/277)


المسألة الأولى النسخ في أصل اللغة بمعنى إبطال الشئ وقال القفال إنه للنقل والتحويل

(3/279)


لنا إنه يقال نسخت الريح آثار القوم إذا أعدمتها ونسخت الشمس الظل إذا أعدمته ثنا لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر فيظن أنه انتقل إليه والأصل في الكلام الحقيقة وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب أن يكون حقيقة في النقل دفعا للاشتراك فإن قيل وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار والشمس بأنها ناسخة للظل مجاز لأن المزيل للآثار والظل هو الله تعالى وإذا كان ذلك مجازا امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله ثم نعارض ما ذكرتموه ونقول بل النسخ هو النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر كأنك تنقله إليه أو تنقل حكايته ومنه تناسخ وتناسخ القرون قرنا بعد قرن وتناسخ المواريث إنما هو التحويل من واحد إلى آخر بدلا عن الأول فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل ويلزم أن لا يكون حقيقة في الإزالة دفعا للاشتراك وعليكم الترجيح

(3/280)


والجواب عن الأول من وجهين
أحدهما إنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى هو الناسخ لذلك من حيث فعل الشمس والريح المؤثرين في تلك الإزالة ويكونان أيضا ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير وثانيهما أن أهل اللغة إنما أخطأوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح فهب أنه كذلك لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لا إسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس وعن الثاني أن النقل أخص من الزوال لأنه حيث وجد النقل فقد عدمت صفة وحصلت صفة أخرى فإذن مطلق العدم أعم من عدم يحصل عقيبه شئ آخر وإذا دار اللفظ بين العام والخاص كان جعله حقيقة في العام أولى من جعله حقيقة في خاص على ما تقدم تقريره في كتاب الغات والله أعلم

(3/281)


المسألة الثانية في حد النسخ في اصطلاح العلماء الذي ذكره القاضي أبو بكر وارتضاه الغزالي رحمهما الله أنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه وإنما آثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص ليكون شاملا اللفظ والفحوى والمفهوم وكل دليل اذ يجوز النسخ بجميع ذلك
وإنما قلنا على ارتفاع الحكم الثابت ليتناول الأمر والنهي والخبر وجميع أنواع الحكم وإنما قلنا بالخطاب المتقدم لأن ابتداء ايجاب العبادات في الشرع يزيل حكم العقل من براءة الذمة ولا يسمى نسخا لأنه لم يزل حكم الخطاب وإنما قلنا لولاه لكان ثابتا لأن حقيقة النسخ الرفع وهو إنما يكون رافعا إذا كان المتقدم بحيث لولا طريانه لبقي

(3/282)


وإنما قلنا مع تراخيه عنه لأن لو اتصل به لكان بيانا لمدة هذه العبادة لا نسخا ولقائل أن يقول هذا الحد مختل من وجوه أحدها أن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم المتقدم ناسخ للحكم الأول وليس بنسخ إذ النسخ هو نفس الارتفاع وفرق بين الرافع وبين نفس الارتفاع فجعل الرافع عين الارتفاع خطأ وثانيها أن تقييد ذلك بالخطاب خطأ لأن الناسخ قد يكون فعلا لا قولا فإنه صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلا وعلمنا بالضرورة أنه قصد به رفع بعض ما كان ثابتا فذلك يكون ناسخا مع أنه ليس بخطاب فإن قلت الناسفي الحقيقة هو الخطاب الدال على وجوب متابعته عليه السلام في أفعاله قلت لقدرنا إنه لم يرد أمر زائد يدل على وجوب متابعته في
أفعاله ثم أنه عليه الصلاة والسلام فعل فعلا ووجد هناك من القرائن

(3/283)


ما أفاد العلم الضروري بأن غرضه عليه الصلاة والسلام ازالة الحكم الذي كان ثابتا فإنه يكون ناسخا بالاجماع مع أنه لم يوجد الخطاب في هذه الصورة أصلا وثالثها أن الأمة إذا اختلفت على قولين فسوغت للعامي تقليد كل واحدة من الطائفتين ثم أجمعت بعد ذلك على أحد القولين فهذا الاجماع خطاب وهو ناسخ لجواز الأخذ بكلا القولين فقد وجد ها هنا خطاب دال على ارتفاع حكم خطاب مع أن الحق أن الاجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ويمكن جوابه بأنا ذكرنا حد النسخ مطلقا لا حد النسخ الجائز في الشرع ورابعها أن كون النسخ رفعا باطل وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى

(3/284)


وخامسها أن قوله بالخطاب المتقدم خطأ لأن الحكم الأول لو ثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم لا بقوله ل كان الذي يرفعه ناسخا له فهذا ما في هذا الحد والأولى أن يقال النسخ طريق شرعي يدل على أن مثل الحكم الذي كان ثابتا بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك مع تراخيه عنه على وجلولاه ل كان ثابتا
فقولنا طريق شرعي نعني به القدر المشترك بين القول الصادر عن الله تعالى وعن رسوله عليه الصلاة والسلام والفعل المنقول عنهما ويخرج عن اتفاق الأمة على أحد القولين لأن ذلك ليس بطريق شرعي على هذا التفسير ولا يلزم أن يكون الشرع ناسخا لحكم العقل لأن العقل ليس بطريق شرعي

(3/285)


ولا يلزم أن يكون العجز ناسخا لحكم شرعي لأن العجز ليس بطريق شرعي ولا يلزم تقييد الحكم بغاية أو شرط أو استثناء لأن ذلك غير متراخ ولا يلزم ما إذا أمر نا الله تعالى بفعل واحد ثم نهانا عن مثله لأنه لو لم يكن هذا النهي لم يكن مثل حكم الأمر ثابتا

(3/286)


المسألة الثالثة قال القاضي أبو بكر رحمه الله النسخ رفع ومعناه أن خطاب الله تعالى تعلق بالفعل بحيث لولا طريان الناسخ لبقي الا أنه زال لطريان الناسخ وقال الأستاذ أبو اسحاق رحمه الله إنه بيان ومعناه أن الخطاب الأول انتهى بذاته في ذلك الوقت ثم حصل بعده حكم آخر والمثال الكاشف عن حقيقة هذه المسألة أن من قال ببقاء الأعراض
قال الضد الباقي يبقى لولا طريان الطارئ ثم إن الطارئ يكون مزيلا لذلك الباقي ومن قال بأنها لا تبقى قال الضد الأول ينتهي بذاته ويحصل ضده بعد ذلك من غير أن يكون للضد الطارئ أثر في ازالة ما قبله لأن الزائل بذاته لا يحتاج الى مزيل واذا ظهر هذا التمثيل عادت الدلائل المذكورة في تلك المسألة الى هذه المسألة نفيا واثباتا فنقول

(3/287)


احتج المنكرون للرفع بوجوه الحجة الأولى أنه ليس زوال الباقي بطريان الطارئ أولى من اندفاع الطارئ لأجل بقاء الباقي فإما أن يوجدا معا وهو محال بالضرورة أو بعد ما معا وهو محال لأن علة عدم كل واحد منهما وجود الآخر فلو عد ما معا لوجدا معا وذلك محال فإن قلت لم لا يجوز أن يقال الحادث أقوى من الباقي لحدوثه قلت هذا باطل لوجهين أحدهما أن الباقي إما أن يحصل له أمر زائد على ما كان حاصلا له حال حدوثه أو لا يحصل

(3/288)


فإن كان الأول كان ذلك الزائد حادثا فذلك الزائد لحدوثه يكون مساويا للضد الطارئ في القوة
واذا استويا في القوة امتنع رجحان أحدهما على الآخر واذا امتنع عدم كيفية الباقي امتنع عدم ذلك الباقي لا محالة وإن كان الثاني وهو أن لا يحصل للباقي أمر زائد على ما كان حاصلا له حال الحدوث لزم أن تكون قوة الباقي مساوية لقوة الحادث وحينئذ يبطل الرجحان وثانيهما أن الشئ حال حدوثه كما يمتنع عدمه فالباقي حال بقائه لا بد له من سبب لكونه ممكنا وهو مع السبب يمتنع عدمه فإذا امتنع العدم عليهما استويا في القوة فيمتنع الرجحان الحجة الثانية هي أن طريا الحكم الطارئ مشروط بزوال المتقدم فلو كان زوال المتقدم معللا بطريان الطارئ لزوم الدور وهو محال الحجة الثالثة أن الطارئ إما أن يطرأ حال كون الحكم الأول معدوما أو موجودا فإن كان الأول استحال أن يؤثر في عدمه لأن إعدام المعدوم محال

(3/289)


وإن كان الثاني فقد وجد مع وجود الأول وإذا وجدا معا لم يكن بينهما منافاة وإذا لم يمكن بينهما منافاة لم يكن أحدهما رافعا للآخر فإن قلت لم لا يجوز أن يكون ذلك كالكسر مع الانكسار قلت الانكسار عبارة عن زوال تلك التأليفات عن اجزاء ذلك الجسم والتأليفات أعراض غير باقية فلا يكون للكسر أثر في إزالتها الحجة الرابعة هي
أن كلام الله تعالى قديم والقديم لا يجوز رفعه فإن قلت المرفوع تعلق الخطاب قلت الخطاب إما أن يكون أمرا ثبوتيا أو لا يكون فإلم يكن أمرا ثبوتيا استحال رفعه وإزالته وإن كان أمرا ثبوتيا فهو إما أن يكون حادثا أو قديما فإن كان حادثا لزم كونه تعالى محلا للحوادث وإن كان قديما لزم عدم القديم وهو محال وأعلم أن هذه الوجوه كما أنها قوية في نفسها فهي أقوى لزوما على القاضي رحمه الله لأنه هو الذي عول عليها في امتناع إعدام الضد بالضد

(3/290)


والقول بكون النسخ رفعا عين القول بإعدام الضد بالضد فيكون لزوم هذه الأدلة عليه أقوى واحتج إمام الحرمين رحمه الله على فساد الرفع بوجه آخر وهو أن علم الله تعالى إما أن يكون متعلقا باستمرار هذا الحكم أبدا أو يكون متعلقا بأنه لا يبقى إلا إلى الوقت الفلاني فإن كان الأول استحال نسخه وإلا لزم انقلاب العلم جهلا وهو محال والثاني يقتضي بطلان القول بالرفع لأن الله تعالى إذ علم أن ذلك الحكم لا يبقى إلا إلى ذالله الوقت استحال وجود ذلك الحكم بعذ ذلك وإلا لزم انقلاب العلم جهلا وإذا كان ممتنع الوجود بعد

(3/291)


ذلك استحال أن يقع زوال بمزيل لأن الواجب لذاته يمتنع أن يكون واجبا
لغيره ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يقال علم الله تعالى إن ذلك الحكم لا يبقى إلى ذلك الوقت لطريان الناسخ لا لذاته وإذا علم الله تعالى أنه يزول ذلك الحكم في ذلك الوقت لطريان ذلك الناسخ لم يكن ذلك قادحا في تعليل زواله بالنسخ ويزيده تقريرا أن يقال أن الله تعالى كان يعلم أن العالم يوجد في الوقت الفلاني فيكون وجوده في ذلك الوقت واجبا ولم يكن ذلك الوجوب قادحا في افتقاره إلى المؤثر لإنه لما علم الله تعالى أنه يوجد في ذلك الوقت بذلك المؤثر لم يكن الوجوب على هذا الوجه قادحا في افتقاره إلى المؤثر فكذا ها هنا

(3/292)


واحتج القائلون بالرفع بأمرين أولهما أن النسخ في اللغة عبارة عن الإزالة فوجب أن يكون في الشرع أيضا كذلك لأن الأصل عدم التغيير ولأننا ذكرنا في باب نفي الألفاظ الشرعية ما يدل على عدم التغيير وثانيهما أن الخطاب كان متعلقا بالفعل فذلك التعلق يمتنع أن يكون عدمه لذاته وإلا لزم أن لا يوجد وإن لم يكن لذاته فلا بد من مزيل ولا مزيل إلا الناسخ والجواب عن الأول أنه تمسك بمجرد اللفظ وهو لا يعارض الدلائل العقلية
وعن الثاني أن كلام الله تعالى القديم كان متعلقا من الأزل إلى الأبد باقتضاء الفعل إلى ذالله الوقت المعين والمشروط بالشئ عدم عند عدم الشرط فلا يفتقر زواله إلى مزيل آخر والله أعلم

(3/293)


المسألة الرابعة النسخ عندنا جائز عقلا وواقع سمعا خلافا لليهود فإن منهم من أنكره عقلا ومنهم من جوزه عقلا لكنه منع منه سمعا ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ لنا وجهان الأول أن الدلالة القاطعة دلت على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ونبوته لا تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله فوجب القطع بالنسخ الثاني أن الأمة مجمعة على وقوع النسخ

(3/294)


ولنا على اليهود إلزامان به الأول جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من الفلك إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ثم قد حرم الله تعالى على موسى عليه السلام وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوانات
الثاني كان آدم عليه السلام يزوج الأخ من الأخت وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام ولقائل أن يقول لا نسلم أن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا تصح إلا مع القول بالنسخ لأن من الجائز أن يقال إن موسى وعيسى عليهما السلام أمرا الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام ثم بعد ذلك أمر الناس باتباع شرع محمد عليه الصلاة والسلام فعند ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام زال التكليف بشرع موسى وعيسى عليهما السلام ووقع التكليف بشرع محمد عليه السلام لكنه

(3/295)


لا يكون نسخا بل يكون جاريا مجرى قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل والمسلمون الذين أنكروا وقوع النسخ بنوا مذهبهم على هذا الحرف وقالوا قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى عليهما السلام بشرا في التوراة والإنجيل بمبعث محمد ص وأنه عند ظهوره يجب الرجوع إلى شرعه وإذا كان الأمر كذلك امتنع تحقق النسخ وهكذا جواب اليهود عن الإلزامين الذين أوردناهما عليهم وأما ادعاء الإجماع فكيف يصح بعد ما صح وقوع الخلاف فيه

(3/296)


والمعتمد في المسألة قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وجه الاستدلال به أن جواز التمسك بالقرآن إما أن يتوقف على صحة النسخ أو لا يتوقف فإن توقف عاد الأمر إلى أن
نبوة محمد ص لا تصح إلا مع القول بالنسخ وقد صحت نبوته فوجب القول بصحة النسخ

(3/297)


وإن لم نتوقف عليه فحييئذ هذا يصح الاستدلال بهذه الآية على النسخ واحتج منكرو النسخ عقلا بأن الفعل الواحد إما أن يكون حسنا أو قبيحا فإن كان حسنا كان النهي عنه نهيا عن الحسن وإن كان قبيحا كان الأمر به أمرا بالقبيح وعلى كلا التقديرين يلزم إما الجهل وإما السفه واحتج المنكرون شرعا بوجهين الأول هو أن الله تعالى لما بين شرع موسى عليه السلام فاللفظ الدال عليه إما أن يقال إنه دل على دوام شرعه أو ما دل عليه فإن كان الأول فإما أن يكون قد ضم الله تعالى إليه ما يدل على أنه سينسخه أو لم يضم إليه ذلك فإن كان الأول فهو باطل من وجهين الأول أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم جمع بين كلامين متناقضين وإنه عبث وسفه

(3/298)


الثاني أن يكون على هذا التقدير قد بين الله تعالى لموسى عليه السلام أن شرعه سيصير منسوخا فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية
أما أولا فلأنه لو جاز أينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية جاز في شرعنا أيضا ذلك وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ وأما ثانيا فلأن ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها وما كان كذلك وجب اشتهاره وإلا فلعل القرآن عورض ولم ينقل ولعل محمدا عليه الصلاة والسلام غير هذا الشرع عن هذا الوضع ولم ينقل وإذا ثبت وجوب نقل هذه الكيفية بالتواتر وجب أن يكون العلم بتلك الكيفية كالعلم باصل الشرع حتى يكون علمنا بأن موسى عليه السلام نص على أن شرعه سيصير منسوخا كعلمنا بأصل شرعه ولو كان كذلك لعلم الكل بالضرورة أن من دين موسى عليه السلام أن شرعه سيصير منسوخا ولو كان ذلك ضروريا لاستحال منازعة الجمع العظيم فيه وحيث نازعوا فيه دل ذلك على أنه عليه السلام ما نص على هذه الكيفية

(3/299)


وأما القسم الثاني وهو أن الله تعالى ذكر لفظا يدل على الدوام ولم يضم إليه ما يدل على أنه سيصير منسوخا فنقول على هذا التقدير وجب أن لا يصير منسوخا وإلا لزمت محالات أحدها أن ذكر اللفظ الدال على الدوام مع أنه لا دوام تلبيس وهو غير جائز وثانيها
إن جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق إلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخا لأن أقصى ما في الباب أن يقول الشرع هذه الشريعة دائمة ولا تصير منسوخة قط البته ولكن إذا رأينا مثل هذا مع عدم الدوام في بعض الصور زال الوثوق عنه في كل الصور وثالثها أنه مع تجويز مخالفة الظاهر لا يبقى وثوق بوعده ووعيده وكل بياناته فإن قلت عرفناه بالإجماع أو بالتواتر قلت أما الإجماع فلا يعرف كونه دليلا إلا بآية أو خبر ولا تتم دلالة الآية والخبر إلا بإجراء اللفظ على ظاهره فإذا جوزنا خلافه لا يبقى دليل الإجماع موثوقا به

(3/300)


وأما التواتر فكذلك لأن غايته أن نعلم أن الرسول عليه السلام قال هذه الألفاظ لكن لعله أراد شيئا يخالف ظواهرها وأما القسم الثالث وهو أن يقال إنه بين شرع موسى عليه السلام بلفظ لا يدل على الدوام البته فنقول مثل هذا لا يقتضي الفعل إلا مرة واحدة على ما ثبت أن الأمر لا يفيد التكرار ومثله لا يحتاج إلى النسخ بل لا يقبل النسخ البته الثاني قالوا ثبت بالتواتر إن موسى عليه السلام قال تمسكوا بالسبت أبدا وقال تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض والتواتر حجة بالاتفاق

(3/301)


والجواب عن الأول أن نقول لم لا يجوزأن يكون ذلك الفعل مصلحة في وقت ومفسدة في وقت آخر فيأمر به في الوقت الذي علم أنه مصلحة فيه وينهى عنه في الوقت الذي علم أنه مفسده فيه كما لا يمتنع أن يعلم فيما لا يزال أن إمراض زيد وفقره مصلحة له في وقت وصحته وغناه مصلحة له في وقت آخر فيمرضه ثم ويفقره حين يعلم أن ذلك مصلحة يغنيه ويصحه رسول حين يعلم أن ذلك مصلحة كما لا يمتنع أن يعلم الإنسان أن الرفق مصلحة ابنه وعبده اليوم والعنف مصلحته في غد فيأمر عبده بالرفق به في اليوم وبالعنف به في الغد والجواب عن الثاني أن نقول اتفق المسلمون على أنه تعالى بين شرع موسى عليه السلام بلفظ يدل على الدوام واختلفوا في أنه هل ذكر معه ما يدل على أنه سيصير منسوخا فقال أبو الحسين البصري رحمه الله يجب ذلك في الجملة وإلا كان تلبيسا

(3/302)


وقال جماهير أصحابنا وجماهير المعتزلة لا يجب ذلك وقد مر توجيه المذهبين في مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب ونحن نأتي بالجواب عن هذه الشبهة تفريعا على كل واحد من هذين المذهبين أما على قول أبي الحسين من أنه لا بد من البيان فنقول لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى بين في تلك الشريعة أنها ستصير منسوخة
لكن لم ينقله أهل التواتر فلا جرم لم يشتهر ذلك كما اشتهر أصل الشرع فإن قلت لما بين الله تعالى أصل ذلك الشرع وأوصله إلى أهل التواتر فهل أوصل ذلك المخصص إلى أهل التواتر أم لا فإن قلت أوصله إلى أهل التواتر فإما أن يجوز على أهل التواتر أن يخلوا بنقله أو لا يجوز فإن جاز على الشارع أن لا يوصل ذلك المخصص إلى أهل التواتر أو أنه أوصله إليهم لكنهم أخلوا بنقله جاز مثله في كل شرع فكيف تقطعون مع هذا التجويز بدوام شرعكم فلعلها وإن ولا كانت بحيث ستصير منسوخة إلا أن الله تعالى ما بين ذلك أو أن بينه لكن أهل التواتر أخلوا بنقله أيضا فلعل محمدا عليه الصلاة والسلام نسخ

(3/303)


الصلوات الخمس وصوم رمضان ولم ينقل ذلك ولما بطل هذان الاحتمالان ثبت أنه تعالى بين ذلك المخصص لأهل التواتر وأن أهل التواتر ما أخلوا بنقله وحينئذ يعود السؤال قلت الإشكال إنما يلزم لو ثبت أنه حصل من اليهود في كل عصر ما بلغ مبلغ التواتر وذلك ممنوع فإنهم انقطعوا في زمان بخت نصر فلا جرم انقطعت الحجة بقولهم بخلاف شرعنا فإنهم كانوا في جميع الأعصار بالغين مبلغ التواتر وأما الجواب على قول أصحابنا رحمة الله عليهم فهو أن المخصص لم يكن مذكورا في زمان موسى عليه السلام قوله هذا تلبيس
قلنا سبق الجواب عنه في مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب والله أعلم

(3/304)


والجواب عن الثالث أنا لا نعلم إن موسى عليه السلام قال ذلك لأن نقل التوراة منقطع بحادث بخت نصر سلمنا صحة هذا النقل لكن لفظ التأبيد في التورا قد جاء للمبالغة دون الدوام في صور إحداها قوله في العبد إنه يستخدم ست سنين ثم يعتق في السابعة فإن أبى العتق فلتثقب أذنه ويستخدم أبدا

(3/305)


وثانيها قيل في البقرة التي أمروا بذبحها يكون ذلك سنة أبدا ثم انقطع التعبد بذلك عندهم وثالثها أمروا في قصة دم الفصح بأن يذبحوا الجمل ويأكلوا لحمه ملهوجا ولا يكسروا منه عظما ويكون لهم هذا سنة ابدا ثم زال التعبد بذلك ورابعها قال في السفر الثاني قربوا إلي كل يوم خروفين خروفا غدوة وخروفا عشية قربانا دائما لاحقبكم
ففي هذه الصور وجدت ألفاظ التأبيد ولم تدل على الدوام فكذا ما ذكرتموه والله أعلم

(3/306)


المسألة الخامسة اتفقت الأمة على جواز نسخ القرآن وقال أبو مسلم بن بحر الأصفهاني لا يجوز لنا وجوه أحدها أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولا وذلك في قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما في قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا قال أبو مسلم الاعتداد بالحول ما زال بالكلية لأنها لو كانت حاملا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصا لا نسخا

(3/307)


والجواب أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل لسنة أو أقل أو أكثر فجعل السنة مدة العدة يكون زائلا بالكلية وثانيها أمر الله تعالى بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ثم
نسخ ذلك قال أبو مسلم إنما زال ذلك لزوال سببه لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون من حيث لا يتصدقون عن المؤمنين فلما حصل هذا الغرض سقط التعبد بالصدقة والجواب لو كان كذلك لكان كل من لم يتصدق منافقا لكنه باطل لأنه روي أنه لم يتصدق غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه

(3/308)


ويدل عليه أيضا قوله تعالى فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم وثالثها أن الله تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى إيكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ثم نسخ ذلك بقوله تعالى الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ورابعها قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها قال أبو مسلم النسخ هو الإزالة والمراد من هذه الآية ازالة القرآن من اللوح المحفوظ والجواب أن إزالة القرآن من اللوح المحفوظ لا تختص ببعض القرآن وهذا النص مختص ببعضه وخامسها قوله تعالى سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا

(3/309)


عليها ثم أزالهم عنها بقوله فول وجهك شطر المسجد الحرام قال أبو مسلم حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه اليها عند الإشكال ومع العلم إذا كان هناك عدو والجواب أن على ما ذكرته أنت لا فرق بين بيت المقدس وسائر الجهات فالخصوصية التي لها امتاز بيت المقدس عن سائر الجهات قد بطلت بالكلية فيكون نسخا وسادسها قوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر والتبديل يشتمل على رفع وإثبات والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم وكيف ما كان فهو رفع ونسخ فإن قلت لم لا يجوز أن يكون المراد به أن الله تعالى أنزل

(3/310)


أحدى الآيتين بدلا عن الأخرى فيكون النازل بدلا عما لم ينزل قلت جعل المعدوم مبدلا غير جائز واحتج أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل وجوابه المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله تعالى ما يبطله ولا يأتيه من بعده ما يبطله والله أعلم
المسألة السادسة اختلفوا في نسخ الشئ قبل مضي وقت فعله مثاله إذا قال الله تعالى لنا صبيحة يومنا صلوا عند غروب الشمس ركعتين بطهارة ثم لم قال عند الظهر لا تصللوا حدثنا عند غروب الشمس

(3/311)


ركعتين بطهارة فهذا عندنا جائز خلافا للمعتزلة وكثير من الفقهاء لنا أن الله تعالى أمر ابراهيم عليه السلام بذبح ولده إسماعيل عليهما السلام ثم نسخ ذلك قبل وقت الذبح فإن قيل لا نسلم ان إبراهيم عليه السلام كان مأمورا بالذبح بل لعله كان مأمورا بمقدمات الذبح من الإضجاع وأخذ المدية مع الظن الغالب بكونه مأمورا بالذبح ولهذا قال قد صدقت الرؤيا ولو كان قد فعل بمعنى ما أمر به لكان قد صدق بعض الرؤيا فإن قلت الدليل عليه ثلاثة أوجه أحدها قوله تعالى إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر فقوله ما تؤمر لا بد وأن يكون عائدا إلى شئ والمذكور ها هنا قوله أني أذبحك فوجب صرفه إليه

(3/312)


وثانيها قوله تعالى إن هذا لهو البلاء المبين ومقدمات الذبح لا توصف بأنها بلاء مبين
وثالثها قوله تعالى وفديناه بذبح عظيم ولو لم يكن مأمورا بالذبح لما احتاج إلى الفداء قلت الجواب عن الأول أن الرؤيا لا تدل على كونه مأمورا بذلك وأما قوله افعل ما تؤمر فإنما يفيد الأمر في المستقبل فلا ينصرف إلى ما مضى من رؤياه في المنام وعن الثاني أن إضجاع الابن وأخذ المدية مع غلبة الظن بأنه مأمور بالذبح بلاء مبين وعن الثالث أنه إنما فدى بالذبح بسبب ما كان بتوقعه من الأمر بالذبح سلمنا أنه أمر بالذبح لكن لا نسلم أنه نسخ ذلك وبيانه من وجهين

(3/313)


الأول أنه كلما قطع موضعا من الحلق وتعداه إلى غيره أوصل الله تعالى ما تقدم قطعه فإن قلت حقيقة الذبح قطع مكان مخصوص تبطل معه الحياة قلت بطلان الحياة ليس جزءا من مسمى الذبح لأنه يقال قد ذبح هذا الحيوان وإن لم يمت بعد الثاني
قيل إنه أمر بالذبح وإن الله تعالى جعل على عنقه صفيحة من حديد فكان إذا أمر إبراهيم عليه السلام السكين لم يقطع شيئا من الحلق سلمنا سلامة دليلكم لكنه معارض بدليل آخر وهو أن ذلك يقتضي كون الشخص الواحد مأمورا منهيا عن فعل واحد في وقت واحد على وجه واحد وذلك محال فالمؤدي إليه محال بيان أنه يلزم ذلك ثلاثة أوجه

(3/314)


أحدها أن المسألة مفروضة في هذا الموضع فإنه لما أمر بكرة بركعتين من الصلاة عند غروب الشمس ثم نهى وقت الظهر عن ركعتين من الصلاة عند غروب الشمس فقد تعلق الأمر والنهي بشئ واحد في وقت واحد من وجه واحد حتى لو لم يتحقق شرط من هذه الشرائط لم تكن هي المسألة التي تنازعنا فيها وثانيها أن قوله صلوا عند غيبوبة الشمس غير موضوع إلا للأمر بالصلاة في ذلك الوقت لغة وشرعا وقوله لا تصلوا عند غيبوبة الشمس غير موضوع إلا للنهي عن الصلاة في ذلك الوقت لغة وشرعا وثالثها هو أن النهي لو تعلق بغير ما تعلق به الأمر لكان لا يخلو إما ان يكون المنهي عنه أمرا يلزم من الانتهاء عنه وقوع الخلل في متعلق الأمر
أو لا يلزم ذلك

(3/315)


فإن كان الأول كان المتأخر رافعا المتقدم استلزاما فيلزم توارد الأمر ابن والنهي على شئ واحد في وقت واحد من وجه واحد وإن كان الثاني لم يكن ذلك هي المسألة التي تنازعنا فيها لأنا توافقنا على أن الأمر بالشئ لا يمنع من النهي عن شئ آخر لا يلزم من الانتهاء عنه الإخلال بذلك المأمور بيان أن ذلك محال أن ذلك الفعل في ذلك الوقت لا بد وأن يكون إما حسنا وإما قبيحا وكيفما كان فإما أن يقال المكلف ما كان عالما بحاله ثم بدا له ذلك فلذلك اختلف الأمر والنهي وذلك محال لاستحالة البداء على الله تعالى وإما أن يقال أنه كان عالما بحاله فيلزم منه إما الأمر بالقبيح أو النهي عن الحسن وذلك أيضا محال والجواب الدليل على أنه كان مأمورا بالذبح أنه لو لم يكن مأمورا به بل كان مأمورا بمجرد المقدمات وهو قد أتى بتمام تلك المقدمات فوجب أن يحتاج معها إلى الفدية لأن الآتي بالمأمور به يجب خروجه عن

(3/316)


العهدة والخارج عن العهدة لا يحتاج إلى الفداء فبحث وقعت الحاجة إليه علمنا أنه لم يدخل تمام المأمور به في الوجود وهذا هو الجواب عن قوله كلما قطع موضعا من الحلق وتعداه إلى غيره وصل الله تعالى ما تقدم
قطعه لأن على هذا التقدير يكون كل المأمور به داخلا في الوجود فوجب أن لا يحتاج معه إلى الفداء وأما قوله تعالى قد صدقت الرؤيا فغير دال على أنه أتى بكل المأمور به بل يدل على أنه عليه السلام صدقها وعزم على الإتيان بها فأما أنه فعلها بتمامها فليس في الآية دلالة عليه قوله أن الله تعالى جعل على عنقه صفيحة من حديد قلنا إن اعترفتم بأنه كان مأمورا بنفس الذبح لم يجز ذلك على قولكم وإلا فهو تكليف مالا يطاق وإن قلتم إنه كان مأمورا بالمقدمات فهو عود إلى السؤال الأول وأما المعارضة فالجواب عنها من وجهين الأول وهو الذي يحسم المنازعة أنها مبنية على القول بالحسن والقبح ونحن لا نقول به

(3/317)


الثاني سلمنا ذلك ولكنا نقول كما يحسن الأمر بالشئ والنهي عن الشئ لحكمة تتولد من المامور به والمنهي عنه فقد يحسنان أيضا لحكمة تتولد من نفس الأمر والنهي فإن السيد قد يقول لعبده إذهب إلى القرية غدا راجلا ويكون غرضه من ذلك حصول الرياضة له في الحال وعزمه على أداء ذلك الفعل وتوطين النفس عليه مع علمه بأنه سيرفع عنه غدا ذلك التكليف وإذا ثبت هذا فنقول ألأمر بالفعل إنما يحسن إذا كان المأمور به منشأ المصلحة والأمر به أيضا منشأ المصلحة
فأما إذا كان المأمور به منشأ المصلحة لكن الأمر به لا يكون منشأ المصلحة لم يكن الأمر به حسنا وعند هذا يظهر الجواب عما قالوه لأنه حين أمر بالفعل كان المأمور به منشأ المصلحة وكان الأمر به أيضا منشأ المصلحة فلا جرم حسن الأمر به وفي الوقت الثاني بقي المأمور به منشأ المصلحة لكن ما بقي الأمر به منشأ المصلحة فلا جرم حسن النهي عنه

(3/318)


فإن قلت لما بقي الفعل منشأ المصلحة كما كان فالنهي عنه يكون منعا عن منشأ المصلحة وذلك غير جائز قلت إنه يكفي في المنع عن الشئ اشتماله على جهة واحد من جهات المفسدة فها هنا المأمور به وإن بقي منشأ المصلحة إلا أن الأمر به والحث عليه لما صار منشأ المفسدة كان الأمر به وان كان حسنا نظرا إلى المأمور به لكنه قبيح نظرا إلى نفس الأمر وذلك كاف في قبحه والله أعلم المسألة السابعة يجوز نسخ الشئ لا إلى بدل خلافا لقوم

(3/319)


لنا أنه نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول عليه الصلاة والسلام لا إلى بدل احتجوا بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو
مثلها والجواب أن نسخ الآية يفيد نسخ لفظها ولهذا قال نأت بخير منها أو مثلها فليس لنسخ الحكم ذكر في الآية سلمنا أن المراد نسخ الحكم لكن لم لا يجوز أن يقال إن نفي ذلك الحكم وإسقاط التعبد به خير من ثبوته في ذلك الوقت والله أعلم المسألة الثامنة يجوز نسخ الشئ إلى ما هو أثقل منه خلافا لبعض أهل الظاهر لنا أن المسلمين سموا إزالة التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم

(3/320)


نسخا وهو أشق وإزالة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم نسخا وأمر الصحابة بترك القتال ثم أمرهم بنصب القتال من التشديد بثبات الواحد للعشرة وحرم الخمر ونكاح المتعة بعد إطلاقهما ونسخ جواز تأخير الصلاة عند الخوف إلى إيجابها في أثناء القتال ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكانت الصلاة ركعتين عند قوم فنسخت بأربع في الحضر احتجوا بقوله تعالى نأت بخير منها والخير ما هو أخف علينا وبقوله تعالى يرد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر والجواب عن الأول أن نقول بل الخير ما هو أكثر ثوابا وأصلح لنا في المعاد وإن كان أثقل في الحال
وعن الثاني أنه محمول على اليسر في الآخرة حتى لا يتطرق إليها تخصيصات غير محصورة

(3/321)


المسألة التاسعة يجوز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس لأن التلاوة والحكم عبادتان منفصلتان وكل ما كاكذلك فإنه غير مستبعد في العقل أن يصيرا معا مفسدتين أو أن يصير أحدهما مفسدة دون الآخر وتكون الفائدة في بقاء التلاوة دون الحكم ما يحصل من العلم بأن اللتعالى أزال مثل هذا الحكم رحمة منه على عباده وقد نسخ الله تعالى الحكم دون التلاوة في قوله تعالى متاعا إلى الحول غير إخراج بقوله تعالى يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا والتلاوة دون الحكم فيما يروى من قوله الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله

(3/322)


وعن أنس رضي الله عنه أنه نزل في قتلى بئر معونة بلغوا إخواننا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا

(3/323)


وعن أبي بكرضي الله عنه كنا نقرأ في القران لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم والحكم والتلاوة معا وهو ما يروى عن عائشة رضي الله عنها أنها
قالت كان فيما أنزل الله تعالى عشر رضعات محرمات فنسخن بخمس وروي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة

(3/324)


المسألة العاشرة الخبر إما أن يكون خبرا عما لا يجوز تغيره كقولنا العالم محدث وذلك لا يتطرق إليه النسخ أو عما يجوز تغيره وهو إما أن يكون ماضيا أو مستقبلا والمستقبل إما أن يكون وعدا أو وعيدا أو خبرا قوله عن حكم كالخبر عوجوب الحج ويجوز النسخ في الكل وقال أبو علي وأبو هاشم لا يجوز النسخ في شئ منه وهو قول أكثر المتقدمين

(3/325)


لنا أن الخبر إذا كان عن أمر ماض كقوله عمرت نوحا ألف سنة جاز أن يبين من بعده أنه أراد ألف سنة إلا خمسين عاما وإن كان خبرا مستقبلا وكان وعدا أو وعيدا كقلوه لأعذبن الزاني أبدا فيجوز أن يبين من بعد أنه أراد ألف سنة وإن كان خبرا عن حكم الفعل في المستقبل كان الخبر كالأمر في تناوله للأوقات المستقبلة فيصح إطلاق الكل مع أن المراد بعض ما تناوله بموضوعه فثبت أن حكم النسخ في الخبر كهو في الأمر
احتجوا بوجهين الأول إن دخول النسخ في الخبر يوهم أنه كان كاذبا والثاني أنه لو جاز نسخ الخبر لجاز أن يقول أهلك الله عادا ثم يقول

(3/326)


ما أهلكهم ومعلوم أنه لو قال ذلك كان كذبا والجواب عن الأول أن دخول النسخ على الأمر يوهم البداء أيضا فإن قالوا لا يوهم لأن النهي إنما دل على أن الأمر لم يتناول ذلك الوقت قلنا وها هنا أيضا لا يوهم الكذب لأن الناسخ يدل على أن الخبر ما تناول تلك الصورة وعن الثاني أن إهلاكهم غير متكرر لإنهم لا يهلكون إلا مرة واحدة فقط فقوله ما أهلكهم رفع لتلك المر فيلزم الكذب وأما إن أراد بقوله ما أهلكهم أنه ما أهلك بعضهم كان ذلك تخصيص بالأشخاص لا بالأزمان فلم يكن نسخا والله أعلم

(3/327)


المسألة الحادية عشرة إذا قال الله تعالى افعلوا هذا الفعل أبدا يجوز نسخه خلافا لقوم لنا وجهان
الأول أن لفظ التأبيد في تناوله لجميع الأزمان المستقبلة كلفظ العموم في تناوله لجميع الأعيان فإذا جاز أحد التخصيصين فكذا الثاني والجامع هو الحكمة الداعية إلى جواز التخصيص الثاني أن شرط النسخ أن يرد على ما أمر به على سبيل الدوام والتأبيد لا

(3/328)


يدل إلا على الدوام فكان التأبيد شرطا لإمكان النسخ وشرط الشئ لا ينافيه احتجوا بأمرين الأول أن قوله أفعلوا أبدا قائم مقام قوله افعلوا في هذا الوقت وفي ذلك وذاك إلى أن يذكر الأوقات كلها ولو ذكر على هذا الوجه لم يجز النسخ فكذا إذا ذكر بلفظ التأبيد الثاني لو جاز نسخ ما ورد بلفظ التأبيد لم يكن لنا طريق إلى العلم بدوام التكليف والجواب عن الأول أن ذلك يمنع من النسخ كله لأن المنسوخ لا بد من كونه لفظا يفيد الدوام إما بصريحه وإما بمعناه ثم إنه ينتقض بأنه يجوز أن يقال جاءني الناس إلا زيدا ولا يجوز جائني زيد وعمر وبكر وما جاءني زيد
ثم الفرق ما حققناه في مسألة أن للعموم صيغة

(3/329)


وعن الثاني أن لفظ التأبيد يفيد ظن الاستمرار لكن القطع به لا يحصل إلا من القرائن والله أعلم

(3/330)


القسم الثاني في الناسخ والمنسوخ وفيه مسائل المسألة الأولى نسخ السنة بالسنة يقع على أربعة أوجه الأول نسخ السنة المقطوعة بالسنة المقطوعة والثاني نسخ خبر الواحد بخبر الواحد كقوله عليه الصلاة والسلام كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وقال في شارب الخمر فإن شربها

(3/331)


الرابعة فاقتلوه ثم حمل إليه من شربها الرابعة فلم يقتله والثالث نسخ خبر الواحد بالخبر المقطوع ولا شك فيه

(3/332)


والرابع نسخ الخبر المتواتر وهو جائز في العقل غير واقع في السمع عند الأكثرين خلافا لبعض أهل الظاهر لنا أن الصحابة رضي الله عنهم كانت تترك خبر الواحد إذا رفع حكم الكتاب قال عمر رضي الله عنه لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت وهذا الاستدلال ضعيف لأنا نقول هب أن هذا الحديث دل على أنهم ما قبلوا ذلك الخبر في نسخ المتواتر فكيف يدل على إجماعهم على أنهم ما قبلوا خبرا من أخبار الآحاد في نسخ المتواتر واحتج اهل الظاهر بوجوه الأول أنه جاز تخصيص المتواتر بالآحاد فجاز نسخه به والجامع دفع الضرر المظنون

(3/333)


الثاني أن خبر الواحد دليل من أدلة الشرع فإذا صار معارضا لحكم المتواتر وجب تقديم المتأخر قياسا على سائر الأدلة الثالث أن نسخ الكتاب وقع بأخبار الآحاد من وجوه أحدها قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه
الآية منسوخ بما روي بالآحاد أن النبي ص نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وثانيها قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم منسوخ بما روي بالآحاد أن

(3/334)


النبي ص قال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها وثالثها قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف منسوخ بما روي بالآحاد من قوله عليه الصلاة والسلام لا وصية لوارث

(3/335)


ورابعها أن الجمع بين وضع الحمل والمدة منسوخ بأحد الأجلين وإذا ثبت نسخ الكتاب بخبر الواحد وجب جواز نسخ الخبر المتواتر لأنه لا قائل بالفرق الرابع أن أهل قبا قبلوا نسخ القبلة بخبر الواحد ولم ينكر الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك

(3/336)


الخامس أنه عليه الصلاة والسلام كان ينفذ آحاد الولاة إلى الأطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ
والجواب عن الأول أن الفرق بين النسخ والتخصيص واقع بإجماع الصحابة رضي الله عنهم وللخصم أن يمنع وجود هذا الإجماع كما سبق وعن الثاني أن المتواتر مقطوع في متنه والآحاد ليس كذلك فلم لا يجوز أن يكون هذا التفاوت مانعا من ترجيح خبر الواحد وأما الآيات فقوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي

(3/337)


محرما إنما يتناول الموحى إليه إلى تلك الغاية ولا يتناول ما بعد ذلك فلم يكن النهي الوارد بعده نسخا وعن الثانية أنا إنما خصصنا قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم بقوله عليه الصلاة والسلام لا تنكح المرأة على عمتها لتلقي الأمة هذا الحديث بالقبول وأيضا غير ممتنع أن يكون الخبر مقارنا فقبلوه مخصصا لا ناسخا وعن الثالثة أنه يجوز أن يصدر الإجماع عن خبر ثم لا ينقل ذلك الخبر أصلا استغناء بالإجماع عنه وإذا جاز ذلك فالأولى أن يجوز أن يصدر إجماعهم عن خبر ثم يضعف نقله استغناء بالإجماع عنه وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يكون هذا الخبر مقطوعا به عندهم ثم يضعف نقله لإجماعهم على العمل بموجبه وهذا هو الجواب أيضا عن الرابعة

(3/338)


والجواب عن الحجة الرابعة لعل رسول الله عليه الصلاة والسلام أخبرهم بذلك قبل وقوع الواقعة فلهذا قبلوا خبر الواحد أو لعله انضم إليه من القرائن ما أفاد العلم نحو كون المسجد قريبا من الرسول عليه الصلاة والسلام وارتفاع الضجة في ذلك والجواب عن الحجة الخامسة أنا سنبين ضعفها في باب خبر الواحد إن شاء الله تعالى المسألة الثانية قال الأكثرون يجوز نسخ الكتاب ودليله ما ذكرناه في الر على أبي مسلم الأصفهاني بقي ها هنا أمران

(3/339)


احدهما أنه يجوز نسخ السنة بالقرآن وهو أيضا واقع وقال الشافعي رضي الله عنه لا يجوز احتج المثبتون بأمور أحدها أن التوجه إلى بيت المقدس كان واجبا في الابتداء بالسنة لأنه ليس في القرآن ما يتوهم كونه دليللا له عليه إلا قوله تعالى فأينما تولوا فثم وجه الله وذلك لا يدل عليه لأنها تقتضي التخيير بين الجهات ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يقال التوجه إلى بيت المقدس وقع في
الأصل بالكتاب إلا أنه نسخت تلاوته كما نسخ حكمه فإنه لا دليل يمنع من هذا التجويز سلمنا أن التوجه إلى بيت المقدس وقع بالسنة فلم لا يجوز أن يقال وقع نسخه أيضا بالسنة وليس من حيث ثبت التوجه إلى الكعبة بالكتاب ما يوجب أن يكون التحويل عن بيت المقدس بالكتاب لأن الظاهر أنه حول عن بيت المقدس ثم أمر بالتوجه إلى الكعبة ولهذا كان يقلب وجهه في السماء لالوجه سوى أنه قد حول عن الجهة التي كان يتوجه إليها وينتظر ما

(3/340)


يؤمر به من بعد فأمر بالتوجه إلى الكعبة فإن لم يكن ذلك هو الظاهر فهو مجوز وهذا كاف في المنع من من الاستدلال وثانيها قوله تعالى فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وهو نسخ تحريم المباشرة وليس لتحريم في القرآن وثالثها نسخ صوم يوم عاشوراء بصوم رمضان وكان صوم عاشوراء ثابتا بالسنة ورابعها صلاة الخوف وردت في القرآن ناسخة لما ثبت بالسنة من جواز تأخيرها إلى انجلاء القتال حتى قال عليه الصلاة والسلام يوم الخندق حشى الله قبورهم نارا لحبسهم عن الصلاة

(3/341)


وخامسها
قوله تعالى فلا ترجعوهن إلى الكفار نسخ لما قرره رسول الله ص من العهد والصلح واعلم أن السؤالين المذكورين واردان في الكل ومن الجهال من قدح في هذين السؤالين وقال لا حاجة بنا إلى تقدير سنة خافية مندرسة ولا ضرورة فلم نقدرهما ذلك وهذا جهل عظيم لأن المستدل لا بد له من تصحيح مقدماته بالدلالة فإذا عجز عنها لم يتم دليله واحتج الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى لتبين للناس ما نزل

(3/342)


إليهم وهذا يدل على أن كلامه بيان للقرآن والناسخ بيان للمنسوخ فلو كان القرآن ناسخا للسنة لكان القرآن بيانا للسنة فيلزم كون كل واحد منهما بيانا للآخر والجواب ليس في قوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم دليل على أنه لا يتكلم إلا بالبيان كما أنك إذا قلت إذا دخلت الدار لا أسلم على زيد ليس فيه أنك لا تفعل فعلا آخر سلمنا أن السنة كلها بيان لكن البيان هو الإبلاغ وحمله على هذا أولى لأنه عام في كل القرآن أما حمله على بيان المراد فهو تخصيص ببعض ما أنزل وهو ما كان مجملا أو عاما مخصوصا وحمل اللفظ على ما يطابق الظاهر أولى من حمله على ما يوجب ترك الظاهر والله أعلم

(3/343)


المسألة الثالثة
نسخ الكتاب بالسنة المتواترة جائز وواقع وقال الشافعي رضي الله عنه لم يقع احتج المثبتون بصورتين أحداها أنه كان الواجب على الزانية الحبس في البيوت لقوله تعالى فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت ثم أن الله تعالى نسخ ذلك بآية الجلد ثم إنه ص نسخ الجلد بالرجم

(3/347)


فإن قلت بل نسخ ذلك بما كان قرآنا وهو قوله الشيخ والشيخة إذ زنيا فارجموهما البته قلت إن ذلك لم يكن قرآنا ويدل عليه أن عمر رضي الله عنه قال لولا أن يقول الناس إن عمر زاد في كتاب الله شيئا لألحقت ذلك بالمصحف ولو كان ذلك قرآنا في الحال أو كان ثم نسخ لما قال ذلك ولقائل أن يقول لما نسخ الله تعالى تلاوته وحكم بإخراجه من المصحف كفى ذلك فصحة قول عمر رضي الله عنه ولم يلزم منه القطع بأنه لم يكن البتة قرآنا وثانيها نسخ الوصية للأقربين بقوله عليه السلام لا وصية لوارث لأن آية المواريث لا تمنع الوصية إذ الجمع ممكن وهذا ضعيف لأن كون الميراث حقا للوارث يمنعه من صرفه إلى الوصية فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية ولأن قوله ص لا وصية

(3/348)


لوارث خبر واحد إذ لو قلنا إنه كان متواترا لوجب أن يكون الآن متواترا لأنه خبر في واقعة مهمة تتوفر الدواعي على نقله وما كان كذلك وجب بقاؤه متواترا وحيث لم يبق الآن متواترا علمنا أنه ما كان متواترا في الأصل فالقول بأن الآية صارت منسوخة به يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز بالإجماع واحتج الشافعي رضي الله عنه بأمور الأول قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها والاستدلال من وجوه أربعة أحدها أنه تعالى أخبر أن ما ينسخه من الآيات يأت بخير منه وذلك يفيد أنه تعالى يأتي بما هو من جنسه كما إذا قال للإنسان ما أخذ منك من ثوب آتك بخير منه أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه وأذا ثبت أنه لا بد وأن يكون من جنسه فجنس القرآن قرآن وثانيها أن قوله تعالى نأت بخير منها يفيد أنه هو المتفرد بالإتيان

(3/349)


بذلك الخير وذلك هو القرآن الذي هو كلام الله تعالى دون السنة التي يأتي بها الرسول عليه السلام وثالثها أن قولتعالى نأت بخير منها يفيد أن المأتي به خير من الآية
والسنة لا تكون خيرا من القرآن ورابعها أنه تعالى قال ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير دل على أن الذي يأتي بخير منها هو المختص بالقدرة على إنزاله وهذا هو القرآن دون غير الثاني قوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم فوصفه بأنه مبين للقرآن ونسخ العبادة رفعها ورفعها ضد بيانها الثالث قوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية أخبر تعالى بأنه هو الذي يبدل الآية بالآية الرابع أنه تعالى حكى عن المشركين أنهم قالوا عند تبديل الآية بالآية إنما أنت مفتر ثم إنه تعالى أزال هذا الإبهام بقوله قل نزله روح

(3/350)


القدس من ربك وهذا يقتضي أن ما لم ينزله روح القدس من ربه لا يكون مزيلا للإبهام الخامس قوله تعالى قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي وهذا يدل على أن القرآن لا تنسخه السنة السادس
أن ذلك يوجب التهمة والنفرة والجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها في الآية الأولى بوجه عام ثم بما يخص كل واحد من تلك الوجوه أما العام فهو أن قوله تعالى نأت بخير منها ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخا بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئا مغايرا للناسخ يحصل بعد حصول النسخ والذي يدل على تحقق هذا الاحتمال أن هذه الآية صريحة في أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ

(3/351)


الآية الأولى فلو كان نستلك الآية مرتبا على الإتيان بذلك الخير لزم ترتب كل واحد منهما على الآخر وهو دور وأما الوجوه الخاصة فالجواب عن الأول لا نسلم أن ذلك الخير لا بوأن يكون من جنس الآية المنسوخة فليس تعلقهم بالمثال الذي ذكروه أولى من مثاآخر وهو أن يقول القائل من يلقني بحمد وثناء جميل محمد ألقه بخير منه في أنه لا يقتضي أن الذي يلقاه به من جنس الحمد والثناء أو من قبيل المنحة والعطاء وعن الثاني وهو أن قوله نأت بخير منها يفيد أنه هو المتفرد بالإتيان بذلك الخير أن نقول المراد بالإتيان شرع الحكم وإلزامه والسنة في ذلك كالقرآن في أن المثبت لهما هو الله تعالى
وعن الثالث وهو قوله السنة لا تكون خيرا من القرآن أن نقول

(3/352)


إذا كان المراد بالخير الأصلح في التكليف والأنفع في الثواب لم يمتنع أن يكون مضمون السنة خيرا من مضمون الآية وعن الرابع أن النسخ رفع الحكم سواظهر ذلك بالقرآن أو بالسنة وعلى التقديرين فالله تعالى هو المتفرد به والجواب عن الحجة الثانية أن النسخ لا ينافي البيان لأنه تخصيص للحكم بالأزمان كما أن التخصيص تخصيص للحكم بالأعيان والجواب عن الحجة الثالثة أن الناسخ سواء كان قرآنا أو خبرا فالمبدل في الحقيقة هو الله تعالى والجواب عن الحجة الرابعة أن من يتهم الرسول عليه الصلاة والسلام فإنما يتهمه لأنه يشك

(3/353)


في نبوته ومن تكن هذه حاله فالنبي عليه الصلاة والسلام مفتر عنده سواء نسخ الكتاب بالكتاب أو بالسنة والمزيل لهذه التهمة التمسك بمعجزاته والجواب عن الحجة الخامسة وهي قوله تعالى ائت بقرآن غير هذا أو بدله إنه يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لا ينسخ إلا بوحي ولا يدل على أن الوحي
لا يكون إلا قرآنا والجواب عن الحجة السادسة أن النفرة زائلة بالدليل الدال على أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى والله أعلم المسألة الرابعة في كون الإجماع منسوخا وناسخا الإجماع إنما ينعقد دليلا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه ما دام عليه الصلاة والسلام حيا لم ينعقد الإجماع من دونه لأنه ص سيد المؤمنين ومتى وجد قوله عليه الصلاة والسلام فلا عبرة بقول غيره

(3/354)


فإذن الإجماع إنما ينعقد دليلا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام إذا ثبت هذا فنقول لو انتسخ الإجماع لكان انتساخه إما بالكتاب أو بالسنة أو بالإجماع أو بالقياس الكل باطل أما بالكتاب والسنة فلأنه لا يخلو إما أن يقال إنهما كانا موجودين وقت انعقاد ذلك الإجماع أو ما كانا موجودين في ذلك الوقت فإن كانا موجودين مع أن الأمة حكمت على خلافهما كانت الأمة مجمعة على الخطأ ذاهبة عن الحق وإنه غير جائز وإن لم يكونا موجودين استحال حدوثهما بعد ذلك لاستحالة أن يحدث كتاب أو سنة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وأما بالإجماع فلأن انعقاد هذا الإجماع الثاني إما أن يكون لا عن دليل

(3/355)


أو عن دليل فإن لم يكن عن دليل كان ذلك إجماعا على الخطأ وإنه غير جائز وإن كان عن دليل عاد التقسيم الأول من أن يقال إن ذلك الدليل أما أن يكون حال انعقاد الإجماع الأول أو حدث بعده وقد بينا فساد هذين القسمين فإن قلت أليس أن الأمة إذا اختلفت على قولين فقد جوزت للعامي أن يأخذ بأيهما شاء ثم إذا اتفقت بعذ ذلك على أحدهما فقد منعت العامي من الأخذ بذلك القول الثاني فها هنا الإجماع الثاني ناسخ لحكم الإجماع الأول قلت الأمة إنما جوز ت للعامي الأخذ بأي القولين شاء بشرط أن لا يحصل الإجماع على أحد القولين فكان الإجماع الأول مشروطا بهذا الشرط فإذا وجد الإجماع فقد زال شرط الإجماع الأول فانتفى الإجماع الأول لانتفاء شرطه لا لأن الثاني نسخه

(3/356)


وأما بالقياس فلأن شرط صحة القياس عدم الإجماع فإذا وجد الإجماع لم يكن القياس صحيحا فلم يجز نسخه به وأما كون الإجماع ناسخا فقد جوزه عيسى بن أبان والحق أنه لا يجوز لنا أن المنسوخ بالإجماع إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا
والأول يقتضي وقوع الإجماع على خلاف النص وخلاف النص خطأ والإجماع لا يكون خطأ والثاني أيضا باطل لأن الإجماع المتأخر إما أن يقتضي أن الإجماع الأول حين وقع وقع خطأ أو يقتضي أنه كان صوابا ولكن إلى هذه الغاية والأول باطل لأن الإجماع لا يكون خطأ ولو جاز ذلك لما كان المنسوخ به أولى من الناسخ وإن كان صوابا حين وقع ولكن كان مؤقتا فلا يخلو ذلك الإجماع المتقدم المفيد للحكم المؤقت من أن يكون مطلقا أو مؤقتا فإن كان مطلقا استحال أن يفيد الحكم مؤقتا

(3/357)


وإن كان مؤقتا إلى غاية فذلك الإجماع ينتهي عند حصول تلك الغاية بنفسه فلا يكون الإجماع المتأخر رافعا له والثالث باطل لأن هذه المسألة لا تتصور إلا إذا اقتضي القياس حكما ثم أجمعوا على خلاف حكم ذلك القياس فحينئذ يزول حكم ذلك القياس بعد ثبوته لتراخي الإجماع عنه وهذا محال لأن شرط صحة القياس عدم الإجماع فإذا وجد الإجماع فقد زال شرط صحة القياس وزوال الحكم لزوال شرطه لا يكون نسخا المسألة الخامسة في كون القياس منسوخا وناسخا أما كونه منسوخا فنقول نسخ القياس إما أن يكون في زمان حياة الرسول عليه الصلاة والسلام أو بعد وفاته فإن كان حال حياته فلا يمتنع رفعه بالنص أو بالإجماع أو
بالقياس أما بالنص فبأن ينص الرسول عليه الصلاة والسلام في الفرع على خلاف الحكم الذي يقتضيه القياس بعد استقرار التعبد بالقياس

(3/358)


وأما بالإجماع فلأنه إذا اختلفت الأمة على قولين قياسا ثم أجمعوا على أحد القولين كان إجماعهم على أحد القولين رافعا لحكم القياس الذي اقتضاه القول الآخر وأما بالقياس فبأن ينص في صورة على خلاف ذلك الحكم ويجعله معللا بعلة موجودة في ذلك الفرع وتكون أمارة عليتها أقوى من أمارة علية الوصف للحكم الأول في الأصل الأول ويكون كل ذلك بعد استقرار التعبد بالقياس الأول وأما بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه يجوز نسخه في المعنى وإن كان ذلك لا يسمى نسخا في اللفظ أما بالنص فكما إذا اجتهد إنسان في طلب النصوص ثم لم يظفر بشئ أصلا ثم اجتهد فحرم شيئا بقياس ثم ظفر بعذ ذلك بنص أو إجماع أو قياس أقوى من القياس الأول على خلافه فإن قلنا كل مجتهد مصيب كان هذا الوجدان ناسخا لحكم القياس

(3/359)


الأول لكنه لا يسمى ناسخا لأن القياس إنما يكون معمولا به بشرط أن لا يعارضه شئ من ذلك وإن قلنا المصيب واحد لم يكن القياس الأول متعبدا به فلم يكن النص الذي وجده أخرا ناسخا لذلك القياس
وأما كون القياس ناسخا فهو إما أن ينسخ كتابا أو سنة أو إجماعا أو قياسا والأقسام الثلاثة الأول باطلة بالإجماع وأما الرابع وهو كونه ناسخا لقياس آخر فقد تقدم القول فيه والله أعلم المسألة السادسة في كون الفحوى منسوخا وناسخا أما كونه منسوخا فقد اتفقوا على جواز نسخ الأصل والفحوى معا وأما نسخ الأصل وحده فإنه يقتضي نسخ الفحوى لأن الفحوى تبع الأصل وإذا زال المتبوع زال التبع لا محالة وأما نسخ الفحوى مع بقاء الأصل فاختيار أبي الحسين رحمه الله إنه لا يجوز قال لأن فحوى القول لا يرتفع مبقاء الأصل إلا

(3/360)


وينتقض الغرض لأنه إذا حرم علينا التأفيف على سبيل الإعظام للأبوين كانت إباحة ضربهما نقضا للغرض وأما كونه ناسخا فمتفق عليه لأن دلالته إن كانت لفظية فلا كلام وإن كانت عقلية فهي يقينية فتقتضي النسخ لا محالة والله أعلم

(3/361)


القسم الثالث فيما ظن أنه ناسخ وليس كذلك وفيه مسائل المسألة الأولى اتفق العلماء على أن زيادة عبادة على العبادات لا يكون نسخا
للعبادات ولا زيادة صلاة على الصلوات وإنما جعل أهل العراق زيادة صلاة على الصلوات الخمس نسخا لقوله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين لأنه يجعل ما كان وسطى غير وسطى فقيل لهم ينبغي أن تكون زياردة إلى عبادة على آخر العبادات نسخا لأنه يجعل العبادة الأخيرة غير أخيرة ولو كان عدد كل الواجبات قبل الزيادة عشرة فبعد الزيادة لا يبقى ذلك فيكون نسخا أما الزيادة التي لا تكون كذلك فقد اختلفوا فيها

(3/363)


فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنها ليست نسخا وهو قول أبي علي وأبي هاشم وقالت الحنفية إنها نسخ ومنهم من فصل ونذكر فيه وجهين أحدهما أن النص إن أفاد من جهة دليل الخطاب أو الشرط خلاف ما أفادته الزيادة كانت الزيادة نسخا وإلا فلا وثانيهما قول القاضي عبد الجبار إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغييرا شديدا حتى صار المزيد عليه لو فعل بعد الزيادة على حد ما كان يفعل قبلها كان وجوده كعدمه ووجب استئنافه فإنه يكون نسخا نحو زيادة ركعة على ركعتين وإن كان المزيد عليه لو فعل على حد ماكان يفعل قبل الزيادة
صح فعله واعتد به ولم يلزم استئناف فعله وإنما يلزم أيضم إليه غيره

(3/364)


لم يكن نسخا نحو زيادة التغريب على الجلد وزيادة عشرين على حد القذف واعلم أن لأبي الحسين البصري رحمه الله طريقة في هذه المسألة هي أحسن من كل ما قيل فيها فقال النظر في هذه المسألة يتعلق بأمور ثلاثة أحدها أن الزيادة على النص هل تقتضي زوال أمر أم لا والحق أنه يقتضيه لأن إثبات كل شئ أقل من أن يقتضي زوال عدمه الذي كان وثانيها أن هذه الإزالة هل تسمى نسخا والحق أن الذي يزول بسبب هذه الزيادة إن كان حكما شرعيا وكانت الزيادة متراخية عنه سميت تلك الإزالة نسخا وإن كان حكما عقليا وهو البراءة الأصلية لم تسم تلك الإزالة نسخا وثالثها أنه هل تجوز الزيادة على النص بخبر الواحد والقياس أم لا

(3/365)


والحق أنه إن كان الزائل حكم العقل وهو البراءة الأصلية جاز ذلك إلا أن يمنع منه مانع خارجي كما لو قيل خبر الواحد لا يكون حجة
فيما تعم به البلوى والقياس لا يكون حجة في الحدود والكفارات إلا أن هده الموانع لا تعلق لها بالنسخ من حيث هو نسخ وأما إن كان الحكم الزائل شرعيا فلينظر في دليل الزيادة فإن كان بحيث يجوز أن يكون ناسخا لدليل الحكم الزائل جاز إثبات الزيادة وإلا فلا فهذا حظ البحث الأصولي ولنحقق كان ذلك في المسائل الفقهية المفرعة على هذا الأصل وهي ثمانية الحكم الأول زيادة التغريب أو زيادة عشرين على جلد ثمانين لا يزيل إلا نفي وجوب ما زاد على الثمانين وهذا النفي غير معلوم بالشرع لأن إيجاب الثمانين قدر مشترك بين إيجاب الثمانين مع نفي الزائد وبين إيجابه مع ثبوت الزيادة وما به الاشتراك لا اشعار له بما به الامتياز فإيجاب الثمانين لا اشعار له ألبتة بالزائد لا نفيا ولا إثباتا إلا أن نفي الزيادة معلوم بالعقل فإن البراءة الأصلية معلومة بالعقل ولم ينقلنا عنه دليل شرعي

(3/366)


وإذا كان ذلك حكما عقليا جاز قبول خبر الواحد والقياس فيه إلا أن يمنع مانع سوى النسخ وأما كون الثمانين وحدها مجزية وكونها وحدها كمال الحد وتعليق رد الشهادة عليها فكل ذلك تابع لنفي وجوب الزيادة فلما كان ذلك النفي معلوما بالعقل جاز قبول خبر الواحد والقياس فيه فكما أن الفروض لو كانت خمسا لتوقف على أدائها الخروج عن عهدة التكليف وقبول الشهادة فلو زيد فيها شئ آخر لتوقف الخروج عن عهدة
التكليف وقبول الشهادة على أداء ذلك المجموع مع أنه يجوز إثباته بخبر الواحد والقياس فكذا ها هنا أما لو قال الله تعالى الثمانون كمال الحد وعليها وحدها يتعلق رد الشهادة لم نقبل في الزيادة ها هنا خبر الواحد والقياس لأن نفي وجوب الزيادة ثبت بدليل شرعي متواتر وأيضا لو كان إيجاب الثمانين يقتضي على سبيل المفهوم نفي الزائد وثبت أن مفهوم المتواتر لا يجوز نسخه بخبر الواحد والقياس لكنا لا نثبت ذلك بخبر الواحد والقياس

(3/367)


الحكم الثاني تقييد الرقبة بالإيمان هو في معنى التخصيص لأنه يخرج عتق الكافرة من الخطاب فإن كان المقتضي لهذا التقييد خبر واحد أو قياسا وكان متراخيا لم يقبل لأن عموم الكتاب أجاز عتق الكافرة فتأخير حظر عتقها في الكفارة هو النسخ بعينه فلم يقبل فيه خبر واحد ولا قياس وإن كانا متقارنين فهو تخصيص والتخصيص بخبر الواحد والقياس يجوز الحكم الثالث إذا قطعت يد السارق وإحدى رجليه ثم سرق فإباحة قطع رجله الأخرى رفع لحظر قطعها وذلك الحظر إنما ثبت بالعقل فجاز رفعه بخبر الواحد والقياس ولم يسم نسخا الحكم الرابع
إذا أمرنا الله تعالى بفعل أو قال هو واجب عليكم ثم خيرنا بين

(3/368)


فعله وبين فعل آخر فهذا التخيير يكون نسخا لحظر ترك ما أوجبه علينا إلا أن حظر تركه كان معلوما بالبقاء على حكم العقل وذلك لأن قوله أوجبت عليكم هذا الفعل يقتضي أن للإخلال به تأثيرا في استحقاق الذم وهذا لا يمنع من أن يقوم مقامه واجب آخر وإنما نعلم أن غيره لا يقوم مقامه لأن الأصل أن غيره غير واجب ولو كان واجبا بالشرع لدل عليه دليل شرعي فصار علمنا بنفي وجوبه موقوفا على أن الأصل نفي وجوبه مع نفي دليل شرعي فالمثبت لوجوبه إنما رفع حكما عقليا فجاز أن يثبته بقياس أو خبر واحد مثال ذلك أن يوجب الله تعالى علينا غسل الرجلين ثم يخيرنا بينه وبين المسح على الخفين وكذلك إذا خيرنا الله تعالى بين شيئين ثم أثبت معهما ثالثا فأما إذا قال الله تعالى هذا الفعل واجب وحده أو قال لا يقوم غيره مقامه فإن إثبات بدل له فيما بعد رافع لما علمناه بدليل شرعي لأن قوله هذا واجب وحده صريح في نفي وجوب غيره

(3/369)


فالمثبت لغيره رافع لحكم شرعي فلم يجز كونه خبر واحد ولا قياسا فأما قوله تعالى واستشهدو شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان فهو تخيير بين استشهاد رجلين أو رجل وامرأتين والحكم بالشاهد واليمين زيادة في التخيير وقد بينا أن الزيادة في التخيير ليس بنسخ يمنع من قبول خبر الواحد
والقياس فيه ومن قال الحكم بالشاهد واليمين نسخ لهذه الآية يلزمه أن يكون الوضوء بالنبيذ نسخا لقوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا الحكم الخامس إذا كانت الصلاة ركعتين فقط فزيد عليها ركعة أخرى قبل التشهد فإن ذلك يكون ناسخا لوجوب التشهد عقيب الركعتين وذلك حكم شرعي معلوم بطريقة معلومة فلا يثبت بخبر واحد ولا قياس وليس ذلك نسخا للركعتين لأن النسخ لا يتناول الأفعال ولا هو نسخ لوجوبهما فإنه ثابت ولا هو نسخ لإجزائهما لأنهما مجزيتان

(3/370)


أبو وإنما كانتا مجزيتين أو من دون رفعة أخرى والآن لا يجزيان إلا مع ركعة أخرى وذلك تابع لوجوب ضم ركعة أخرى ووجوب ركعة أخرى ليس يرفع إلا نفي وجوبها ونفي وجوبها إنما حصل بالعقل فلم يمتنع من هذه الجهة إن يقبل فيه خبر الواحد والقياس وأما إذا زيدت الركعة بعد التشهد وقبل التحلل فإنه يكون نسخا لوجوب التحلل بالتسليم أو يكون ناسخا لكونه ندبا وذلك حكم شرعي معلوم فلم يجز إن يقبل فيه خبر الواحد ولا القياس فأما كونه ناسخا للركعتين أو لوجوبهما أو لإجزائهما فالقول فيه ما ذكرناه الآن الحكم السادس زيادة غسل عضو في الطهارة ليس بنسخ لإجزائها ولا لوجوبها وإنما هو رفع لنفي وجوب غسل ذلك العضو وذلك النفي معلوم
بالعقل وكذا زيادة شرط آخر في الصلاة لا يقتضي نسخ وجوب الصلاة فأما كون الصلاة غير مجزية بعد زيادة الشرط الثاني فهو تابع لوجوب ذلك الشرط وإجزاؤها تابع وجوبه ونفي وجوبه لم يعلم بالشرع فكذلك لنفي ما يتبعه فجاز قبول خبر الواحد والقياس فيه

(3/371)


هذا إن لم نكن قد علمنا نفي وجوب هذه الأشياء من دين النبي عليه الصلاة والسلام باضطرار فأما إن علمناه باضطرار فقد صار معلوما بالشرع مقطوعا به فلم يجز بخبر الواحد والقياس الحكم السابع قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل فإنه يفيد كون أول الليل طرفا وغاية للصيام كما يفيده لو قال تعالى آخر الصيام وغايته الليل لأن لفظة إلى موضوعة للغاية فإيجاب الصوم إلى غيبوبة الشفق يخرج أوله عن أن يكون طرفا مع أن الخطاب يفيده وفي ذلك كونه حقيقة فلا يقبل فيه خبر واحد ولا قياس لأن نفي وجوب صوم أول الليل معلوم بدليل قاطع أما لو قال صوموا النهار ثم جاء الخبر بإتمام الصوم إلى غيبوبة الشفق لم يكن ذلك نسخا لأن الخبر لم يثبت ما نفاه النص لأن النص لم يتعرض لليل وإنما نفينا الصوم بالليل لأن الأصل أن لا صوم وقامت الدلالة في النهار خاصة على وجوب الصوم فبقي الليل على حكم العقل

(3/372)


الحكم الثامن لو قال الله تعالى صلوا إن كنتم متطهرين فإنه لا يمتنع أن يقبل خبر الواحد والقياس في إثبات شرط آخر للصلاة لأن إثبات بدل الشرط لا يخرجه عن أن يكون شرطا إذ لا يمتنع أن يكون للحكم شرطان وليس كذلك إثبات صوم جزء من الليل لأن ذلك يخرج أول الليل من أن يكون له غاية وأما نفي كون الشرط الآخر شرطا فلم يعلم إلا بالعقل فلم يكن رفعه رفعا لحكم شرعي والله أعلم المسألة الثانية شك في أن النقصان من العبادة نسخ لما أسقط ولا شك في أن مالا تتوقف عليه صحة العبادة لا يكون نسخه نسخا للعبادة كما لو قال أوجبت الصلاة والزكاة ثم قال نسخت الزكاة أما الذي تتوقف صحة العبادة عليه فذلك قد يكون جزءا من ماهية العبادة وقد يكون خارجا عنها واختلفوا فيه

(3/373)


فقال الكرخي نقصان ما تتوقف العبادة عليه سواء كان جزءا أو خارجا لا يقتضي نسخ العبادة وهو المختار وقال القاضي عبد الجبار نقصان الجزء يقتضي نسخ الباقي ونقصان الشرط المنفصل لا يقتضي نسخ الباقي فنقول الدليل عليه أن نسخ أحد الجزأين لا يقتضي نسخ الجزء الآخر وذلك لأن الدليل المقتضي للكل كان متناولا للجزأين فخروج أحد الجزأين لا يقتضي خروج الجزء الآخر كسائر أدلة التخصيص
واحتجوا بأن نقصان الركعة من الصلاة يقتضي رفع وجوب تأخير التشهد ونفي إجزائها من دون الركعة لأن قبل النسخ ما كان تجوز الصلاة من دون هذه الركعة وأيضا إن كانت الركعة لما نسخت أوحبت) علينا أن نخلي الصلاة منها فقد ارتفع إجزاء الصلاة إذا فعلناها مع الركعة المنسوخة وإجزاء الصلاة مع الركعة قد يكون حكما شرعيا فجاز أن يكون رفعه نسخا

(3/374)


والجواب أن هذه احكام للركعة الباقية مغايرة لذاتها فكان نسخها مغايرا لنسخ تلك الذات وأما نقصان الشرط المنفصل من العبادة فلا يقتضي نسخ العبادة لأنهما عبادتان فإذا نسخ إحداهما لدليل مقصور عليها لم يجز نسخ الآخرى فعلى هذا نسخ الوضوء لا يكون نسخا للصلاة بل نفي الإجزاء مع فقد الطهارة قد زال وذلك لأن الصلاة ما كانت تجزئ بلا طهارة فإذا نسخ وجوب الطهارة صارت مجزية وارتفع نفي إجزائها فإن أراد الإنسان بقوله إن نسخ الوضوء يقتضي نسخ الصلاة هذا المعنى فصحيح لكن الكلام موهم لأن إطلاق القول بأالصلاة منسوخة هو أنه قد خرجت عن الوجوب أو عن أن تكون عبادة والله أعلم

(3/375)


القسم الرابع في الطريق الذي به يعرف كون الناسخ ناسخا والمنسوخ منسوخا قد يعلم عبد ذلك باللفظ تارة وبغيره اخرى أما اللفظ فهو أن يوجد لفظ النسخ أما بأن يقول هذا منسوخ أو يقول ذاك ينسخ هذا وأما غير اللفظ فهو أن يأتي بنقيض الحكم الأول أو بضده مع العلم بالتاريخ مثال النقيض قوله تعالى الآن خفف الله عنكم فإنه نسخ لثبات الواحد للعشرة لأن التخفيف نفي للثقل المذكور ومثال الضد التحويل من قبلة إلى أخرى لأن التوجه إلى

(3/377)


الكعبة ضد التوجه إلى بيت المقدس وأما التاريخ فقد يعلم باللفظ أو بغيره أما اللفظ فكما إذا قال أحد الخبرين قبل الآخر وأما غير اللفظ فعلى وجوه أحدها أن يقول هذا الخبر ورد سنة كذا وهذا في سنة كذا وثانيها أن يعلق أحدهما على زمان معلوم التقدم والآخر بالعكس كما لو قال كان هذا في غزاة بدر والآخر في غزاة أحد وهذه الآية نزلت قبل
الهجرة والأخرى بعدها وثالثها أن يروي أحدهما رجل متقدم الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويروي الآخر رجل متأخر الصحبة وانقطعت صحبة الأول للرسول عليه السلام عند ابتداء الآخر بصحبته فهذا يقتضي أن يكون خبر الأول متقدما

(3/378)


أما لو دامت صحبة المتقدم مع الرسول عليه الصلاة والسلام لم يصح هذا الاستدلال ويتفرع على هذا الأصل مسائل مسألة قال القاضي عبد الجبار الصحابي إذا قال في أحد الخبرين

(3/379)


المتواترين إنه كان قبل الآخر قبل ذلك وإن لم يقبل قوله في نسخ المعلوم كما تقبل شهادة الشاهدين في الإحصان الذي يترتب عليه الرجم وإن لم يقبل في إثبات الرجم وكما يقبل قول القابلة في الولد إنه من إحدى المرأتين وإن كان يترتب على ذلك ثبوت نسب الولد من صاحب الفراش مع أن شهادة المرأة لا تقبل في ثبوت النسب قال أبو الحسين رحمه الله هذا يقتضي الجواز العقلي في قبول خبر الواحد في تاريخ الناسخ ولا يقتضي وقوعه إلا إذا تبين أنه يلزم من ثبوت أحد الحكمين ثبوت الآخر مسألة اذا قال الصحابي كان هذا الحكم ثم نسخ كقولهم إن خبر الماء

(3/380)


المتواترين إنه كان قبل الآخر قبل ذلك وإن لم يقبل قوله في نسخ المعلوم كما تقبل شهادة الشاهدين في الإحصان الذي يترتب عليه الرجم وإن لم يقبل في إثبات الرجم وكما يقبل قول القابلة في الولد إنه من إحدى المرأتين وإن كان يترتب على ذلك ثبوت نسب الولد من صاحب الفراش مع أن شهادة المرأة لا تقبل في ثبوت النسب قال أبو الحسين رحمه الله هذا يقتضي الجواز العقلي في قبول خبر الواحد في تاريخ الناسخ ولا يقتضي وقوعه إلا إذا تبين أنه يلزم من ثبوت أحد الحكمين ثبوت الآخر مسألة اذا قال الصحابي كان هذا الحكم ثم نسخ كقولهم إن خبر الماء

(3/380)


من الماء نسخ بخبر التقاء الختانين لم يكن ذلك حجة لأنه يجوز أن يكون قاله اجتهادا فلا يلزمنا وعن الكرخي أن الراوي إذا عين الناسخ فقال هذا نسخ هذا جاز أن يكون قاله اجتهادا فلا يجب الرجوع إليه وإلم يعين الناسخ بل قال هذا منسوخ وجب قبوله لأنه لولا ظهور النسخ فيه لما أطلق النسخ اطلاقا وهذا ضعيف فلعله قاله لقوة ظنه في أن الأمر كذلك وإن كان قد أخطأ فيه والله أعلم بالصواب وبهذا انتهي المجلد الاول من المخطوطات التي تم تحقيق الكتاب عليها بحسب تقسيم المصنف ومن نقلوا عنه.

(3/381)


بسم الله الرحمن الرحيم جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الثالثة 1418 هـ / 1997 م

(4/2)


المحصول في علم أصول الفقه للامام الاصولي النظار المفسر فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 544 - 606 هـ / 1149 - 1209 م دراسة وتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني الجزء الرابع مؤسسة الرسالة

(4/3)


بسم الله الرحمن الرحيم

(4/4)


نموذج لورقة الغلاف من نسخة دار الكتب المصرية أصول والتي رمزنا لها ب (س)

(4/5)


نموذج للورقة الاولى من نسخة دار الكتب المصرية أصول والتي رمزنا لها ب (س) .

(4/6)


نموذج الورقة الاخيرة من نسخة دار الكتب المصرية أصول والتي رمزنا لها ب (س) .

(4/7)


نموذج من الورقة التي تبدأ بها نسخة سوهاج والتي رمزنا لها ب (ج) .

(4/8)


نموذج الورقة الثانية من النسخة سوهاج التي رمزنا لها ب (ج) وتلاحظ آثار الرطوبة عليها.

(4/9)


نموذج من الورقة الاخيرة من النسخة سوهاج والتي رمزنا لها ب (ج) ويلاحظ عليها تاريخ النسخ واسم الناسخ.

(4/10)


المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله واصحابه ومن تبعه، واهتدي بهديه الى يوم الدين، اما بعد: فقد انعم الله - تعالى - بفضله ومنه باتمام طبع الجزء الاول باقسامه الثلاثة وها نحن نتبعه بالجزء الثاني، وذلك تنفيذا لتوجيهات معالي مدير الجامعة الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي - الذي حرص - حفظه الله ان يقدم
الكتاب كاملا بجميع اقسامه باقرب فرصته وابهي حلة ليكون في متناول ايدي الباحثين.
فسارعت - مستعينا - بالله تعالى - مستمدا منه - جل شأنه - العون والتوفيق لاعداده وانجازه.
وهذا الجزء - من الكتاب قد اشتمل على: 1 - كتاب الاجماع وقد رتبه الامام المصنف في سبعة اقسام، وفي كل قسم مجموعة من المسائل.
فالقسم الأول في اصل الاجماع، والقسم الثاني: فيما أخرج من الاجماع وهو منه، والقسم الثالث: فيما ادخل في الاجماع وليس منه، والقسم الرابع: فيما يصدر عنه الاجماع والقسم لاخامس: في المجمعين والقسم السادس: فيما عليه ينعقد الاجماع، والقسم السابع: في حكم الاجماع.

(4/11)


2 - الكلام في الأخبار: وهو مرتب على مقدمة وثلاثة أقسام: وقد اشتملت المقدمة على خمس مسائل.
وأما القسم الأول فهو في ثلاثة ابواب ادرج تحت كل باب مجموعة من المسائل.
وأما القسم الثاني فقد رتب القول فيه على اقسام وفصول ضمن كل قسم وفصل مجموعة من المسائل وكذلك فعل في القسم الثالث.
3 - الكلام في القياس: وهو في مقدمة واقسام ثلاثة: ضمن المقدمة عددا من المسائل وادرج تحت كل قسم مجموعة من الابواب والفصول تناول فيها مباحث القياس كلها، وهذا القسم من الجزء اطول اقسامه واوسعها.
4 - الكلام في التعادل والترجيح، وهو مرتب على أربعة أقسام في كل قسم مجموعة من المسائل المندرجة تحته.
5 - الكلام في الاجتهاد: وقد رتبه في اربعة اركان.
6 - الكلام في المفتي والمستفتي: وقد جعله في ثلاثة اقسام.
7 - الكلام فيما اختلف فيه لا مجتهدون من أدلة الشرع وفيه احدى عشرة مسألة بالفراغ منها تم الكتاب.
واما النسخ - التي حققناه عليها - فهي سبع نسخ بدلا من الستة التي حققنا الجزء الاول عليها، فقد اضفنا نسختين: اولاهما: نسخة دار الكتب المصرية رقم اصول الفقه، وهي نسخة كاملة للجزء الثاني - وحده - كتبت بخط معتاد اوراقها سبع وسبعون ومائة ورقة وابعادها (22 * 5، 16 سم) .

(4/12)


فرغ من نسخها سنة خمس وخمسين وستمائة هجرية.
ناسخها: عبد الواحد بن أبي طالب النعجواني.
وعليها تملكا وتواقيع منها الظاهر ومنها المطموس (يمكن ملاحظتها في نموذج صورة الورقة الاولى) .
وقد رمزنا بالحرف (س) .
والثانية: نسخة (سوهاج) برقم اصول، وهي اقدم النسخ - التي اطلعنا عليها - حيث فرغ من سنخها سنة تسع وستمائة - بعد وفاة الامام المصنف بثلاث سنوات وهي نسخة مكتبوبة بخط معتاد، وقد بلغت اوراقها تسعا
وعشرين ومائتي ورقة.
وابعادها (16 * 26 سم) .
وفيها نقص من اولها يقرب من ثماني ورقات حيث تبدأ في الكلام على حجية الاجماع كما يلاحظ في صورة الورقة الاولى منها.
وقد وصلت الى مكتبة جامعة الامام صورة عن نسخة (جستربتي) وهي اقدم النسخ التي اطلعنا عليها، حيث فرغ من نسخها سنة هـ - اي قبل وفاة المؤلف بثماني سنوات وبها نقص في الجزء الاول من الكتاب من اوله حتى (النظر الخامس) لكن هذا لا نقص لا يقلل كثيرا من قيمة هذه النسخة واهميتها.
ولقد بادرنا لتصوير نسخة عنها استفندنا منها فيما لم يكن قد طبع من الجزء الثاني، وسنستفيد منها كلها إن شاء الله في الطبعة القادمة للكتاب.
وبعد: فهذا كتاب (المحصول في علم اصول الفقه) نقدمه - لاول مرة - كاملا وبجميع اجزائه لطلاب العلم والباحثين محققا ومرتبا ليكون في متناول ايدي اهل العلم بعد مرور ثمانية قرون على تأليفه.
واني لارجو ان اكون قد وفقت في وضع بنية هامة في بناء صرح ثقافتنا الاسلامية وعلوم شريعتنا الغراء بتقديم هذا الكتاب.

(4/13)


والله - تعالى - اسأل ان يتقبل هذا العمل بقبول حسن - وان يجعله خالصا لوجهه الكريم، وان يحقق به النفع المأمول.
انه سميع مجيب.
د.
طه جابر فياض العلواني

(4/14)