المحصول للرازي المحصول في علم اصول الفقه للاما الاصولي
النظار المفسر
فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 544 - 606 هـ / 1149 -
1209 م دراسة وتحقيق الدكتور جابر فياض العلواني الجزء الرابع
(4/15)
بسم الله الرحمن الرحيم
الكلام في الإجماع هو مرتب
على سبعة اقسام
(4/17)
القسم الأول في أصل
الإجماع المسألة الأولى الإجماع يقال
بالاشتراك على معنيين أحدهما العزم قال الله تعالى فأجمعوا
أمركم وقال عليه الصلاة والسلام لا صيام لمن لم يجمع الصيام من
الليل
(4/19)
وثانيهما الاتفاق يقال أجمع الرجل إذا صار
ذا جمع كما يقال ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وذا تمر فقولنا
اجمعوا على كذا أي صاروا
ذوي جمع عليه وأما في اصطلاح العلماء فهو عبارة عن اتفاق أهل
الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور
ونعني ب الاتفاق الاشتراك إما في الاعتقاد أو القول أو الفعل
أو إذا أطبق بعضهم على الاعتقاد وبعضهم على القول أو الفعل
الدالين على الإعتقاد ونعني بأهل الحل والعقد المجتهدين في
الأحكام الشرعية وإنما قلنا على أمر من الأمور ليكون متناولا
للعقليات والشرعيات واللغويات
(4/20)
عليه المسألة الثانية من الناس من زعم أن
اتفاقهم على الحكم الواحد الذي لا يكون معلوما بالضرورة محال
كما أن أتفاقهم في الساعة الواحدة على المأكول الواحد والتكلم
بالكلمة الواحدة محال وربما قال بعضهم كما أن اختلاف العلماء
في الضروريات محال فكذا اتفاقهم في النظريات محال والجواب أن
الاتفاق إنما يمتنع فيما يتساوى فيه الاحتمال كالمأكول المعين
والكلمة المعينة
(4/21)
أما عند الرجحان وذلك عند قيام الدلالة أو
الأمارة الظاهرة فذلك غير ممتنع وذلك كاتفاق الجمع العظيم على
نبوة محمد صلى الله عليه وسلم واتفاق الشافعية والحنفية مع
كثرتهما على قوليهما مع أن أكثر أقوالهما
صادر عن الأمارة ومن الناس من سلم إمكان هذا الاتفاق في نفسه
لكنه قال لا طريق لنا إلى العلم بحصوله لأن العلم بالأشياء إما
أن يكون وجدانيا أو لا يكون أما الوجداني فكما يجد كل واحد منا
من نفسه من جوعه وعطشه ولذته وألمه إلى غير ذلك ولا شك أن
العلم بحصول اتفاق أمه محمد صلى الله عليه وسلم ليس من هذا
الباب وأما الذي لا يكون وجدانيا فقد اتفقوا على أن الطريق إلى
معرفته إما الحس وإما الخبر وإما النظر العقلي أما النظر
العقلي فلا مجال له في أن الشخص الفلاني قال بهذا القول أو لم
يقل به بقي أن يكون الطريق إليه إما الحس وإما الخبر لكن من
المعلوم أن الإحساس بكلام الغير أو الإخبار عن كلامه لا يمكن
إلا بعد معرفته فإذن العلم باتفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة
كل واحد من الأمة لكن ذلك متعذر قطعا فمن الذي يعرف جميع الناس
الذين هم بالشرق والغرب وكيف الأمان من وجود إنسان في مطمورة
لا خبر عندنا منه فإنا إذا أنصفنا علمنا أن الذين بالشرق لا
خبر عندهم من أحد من علماء
(4/22)
الغرب فضلا عن العلم بكل واحد منهم على
التفصيل وبكيفية مذاهبه وأيضا فبتقدير العلم بكل واحد من علماء
العالم لا يمكننا معرفة اتفاقهم لأنه لا يمكن ذلك إلا بالرجوع
إلى كل واحد منهم وذلك لا يفيد حصول الاتفاق لاحتمال أن بعضهم
أفتى بذلك على خلاف اعتقاده
تقية أو خوفا أو لأسباب أخرى مخفية عنا وايضا فبتقدير أن نرجع
إلى كل واحد منهم ونعلم أن كل واحد منهم أفتى بذلك من صميم
قلبه فهو لا يفيد حصول الإجماع لاحتمال أن علماء بلدة إذا
أفتوا بحكم فعند الإرتحال عن بلدهم والذهاب إلى البلدة الأخرى
رجعوا عن ذلك الحكم قبل فتوى أهل البلدة الأخرى بذلك وعلى هذا
التقدير لا يحصل الاتفاق لأنا لو قدرنا أن الأمة انقسمت إلى
قسمين وأحد القسمين أفتى بحكم والآخر أفتى بنقيضه ثم انقلب
المثبت نافيا والنافي مثبتا لم يحصل الإجماع وإذا كان كذلك فمع
قيام هذا الاحتمال كيف يحصل اليقين بحصول الإجماع بل ها هنا
مقام اخر وهو أن أهل العلم بأسرهم لو اجتمعوا في موضع واحد
ورفعوا أصواتهم دفعة واحدة وقالوا أفتينا بهذا الحكم
(4/23)
فهذا مع امتناع وقوعه لا يفيد العلم
بالإجماع لاحتمال أن يكون بعضهم كان مخالفا فيه فخاف من مخالفة
ذلك الجمع العظيم أو خاف ذلك الملك الذي أحضرهم أو أنه أظهر
المخالفة لكن خفى صوته فيما بين أصواتهم فثبت أن معرفة الإجماع
ممتنعة فان قلت ما ذكرتموه باطل بصور إحداها أنا نعلم بالضرورة
أن المسلمين معترفون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
وبوجوب الصلوات الخمس ونعلم اتفاق أصحاب الشافعي على القول
ببطلان البيع الفاسد واتفاق الحنفية على القول بانعقاد وإن
كانت الوجوه التي ذكرتموها بأسرها حاصلة ها هنا وثانيها أنا
نعلم ان الغالب على أهل الروم النصرانية وعلى بلاد الفرس
الإسلام وإن كنا ما لقينا كل واحد من هذه البلاد ولا كل واحد
من ساكنيها وثالثها أن السلطان العظيم يمكنه أن يجمع الناس في
موضع واحد بحيث يمكن معرفة اتفاقهم واختلافهم
(4/24)
قلت أما قوله نعلم بالضرورة اتفاق المسلمين
على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قلت إن كنت تعني بالمسلمين
المعترفين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقولك نعلم اتفاق
المسلمين على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يجرى مجرى أن يقال
نعلم اتفاق القائلين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم على نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم وإن كنت تعني به شيئا آخر غير نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم فلا نسلم أنا نقطع أن القائل بذلك
قائل بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا نسلم أيضا أنا نقطع
بأن كل من قال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قال بوجوب الصلوات
الخمس وصوم رمضان وإن كنا نعترف بحصول الظن والذي يدل عليه أن
الانسان قبل الإحاطة بالمقالات الغربية والمذاهب النادرة يعتقد
اعتقادا جازما أن كل المسلمين يعترفون أن ما
بين الدفتين كلام الله عز وجل ثم إذا فتش عن المقالات الغربية
وجد في ذلك اختلافا شديدا نحو ما يروى عن ابن مسعود أنه أنكر
كون الفاتحة والمعوذتين والمعوذتين من القرآن
(4/25)
ويروى عن الميمونية قوم من الخوارج أنهم
أنكروا كون سورة يوسف من القرآن ويروى عن كثير من قدماء
الروافض أن هذا القرآن الذي عندنا ليس هو ذلك الذي أنزل على
محمد صلى الله عليه وسلم بل غير وبدل ونقص عنه وزيد فيه وإذا
كان كذلك علمنا أنا وإن اعتقدنا في الشئ أنه مجمع عليه
(4/33)
اعتقادا قويا لكن ذلك الاعتقاد لا يبلغ حد
العلم ولا يرتفع عن درجة الظن قوله نعلم استيلاء بعض المذاهب
على بعض البلاد قلنا علمنا ذلك بخبر التواتر وفرق بين معرفة
حال الأكثر وبين معرفة حال الكل لأن من دخل بلدا ورأى شعائر
الإسلام في جميع المحلات والسكك ظاهرة علم بالضرورة أن الغالب
على أهل تلك المدينة الاسلام فإما أن يعلم قطعا أنه ليس في
البلدة أحد إلا مسلم ظاهرا وباطنا فذلك مما لا سبيل إليه ألبتة
والعلم بامتناعه ضروري قوله السلطان العظيم يمكنه جمع علماء
العالم في موضع واحد قلنا هذا السلطان المستولي على جميع
معمورة العالم مما لم يوجد إلى الآن
وبتقدير وجودة فكيف يمكن القطع بأنه لم ينفلت منه أحد في أقصى
الشرق الغرب او اقصى فإن ذلك الملك ليس بعلام أبي الغيوب
وبتقدير أن لا ينفلت منه أحد فكيف يمكن القطع بأن الكل أفتوا
بذلك الحكم طائعين راغبين غير مكرهين ولا مجبرين والإنصاف انه
لا طريق لنا إلى معرفة حصول الإجماع الا في زمان
(4/34)
الصحابة حيث كان المؤمنين قليلين يمكن
معرفتهم بأسرهم على التفضيل المسألة الثالثة إجماع أمه محمد
صلى الله عليه وسلم حجة خلافا للنظام والشيعة والخوارج لنا
وجوه الأول قول تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له
الهدى ويتبع غير
(4/35)
سبيل المؤمنين الآية جمع الله تعالى بين
مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد فلو كان
اتباع غير سبيل المؤمنين مباحا لما جمع بينه وبين المحظور كما
لا يجوز أن يقال إن زنيت وشربت الماء عاقبتك فثبت أن متابعة
غير سبيل المؤمنين محظورة ومتابعة غير سبيل المؤمنين عبارة عن
متابعة قول أو فتوى غير قولهم وفتواهم وإذا كانت تلك محظورة
وجب أن تكون متابعة قولهم وفتواهم واجبة ضرورة أنه لا خروج من
القسمين فإن قيل لا نسلم أن متابعة غير سبيل المؤمنين محظورة
على
الاطلاق ولم لا يجوز أن يكون كونها محظورة مشروطا بمشاقة
الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تكون محظورة بدون هذا الشرط خرج
على هذا قوله إن زنيت وشربت الماء عاقبتك لأن شرب الماء غير
محظور لا مطلقا ولا بشرط الزنا فإن قلت إذا كان اتباع غير سبيل
المؤمنين حراما عند حصول المشاقة وجب أن يكون اتباع سبيل
المؤمنين واجبا عند حصول المشاقة لأنه لا
(4/36)
خروج عن القسمين لكن ذلك باطل لأن المشاقة
ليست عبارة عن المعصية كيف كانت وإلا لكان كل من عصى الرسول
صلى الله عليه وسلم مشاقا له بل هي عبارة عن الكفر به وتكذيبه
وإذا كان كذلك لزم وجوب العمل بالإجماع عند تكذيب الرسول عليه
الصلاة والسلام وذلك باطل لأن العلم بصحة الإجماع متوقف على
العلم بالنبوة فايجاب العمل به حال عدم العلم بالنبوة يكون
تكليفا بالجمع بين الضدين وهو محال قلت لا نسلم أنه إذا كان
اتباع غير سبيل المؤمنين حراما عند المشاقة كان اتباع سبيل
المؤمنين واجبا عند المشاقة لأن بين القسمين ثالثا وهو عدم
الاتباع أصلا سلمنا أنه يلزم وجوب اتباع سبيل المؤمنين عند
المشاقة لكن لا نسلم أنه ممتنع قوله المشاقة لا تحصل إلا عند
الكفر به وإيجاب العمل بالإجماع عند حصول الكفر محال قلنا لا
نسلم أن المشاقة لا تحصل إلا مع الكفر
بيانه أن المشاقة مشتقة من كون أحد الشخصين في شق وكون الآخر
في الشق الآخر وذلك يكفي فيه أصل المخالفة سواء بلغ حد الكفر
(4/37)
أو لم يبلغه سلمنا أن المشاقة لا تحصل إلا
عند الكفر فلم قلت إن حصول الكفر ينافي تمكن العمل بالاجماع
بيانه أن الكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم كما يكون بالجهل
بكونه صادقا فقد يكون أيضا بأمور أخر كشد الزنار ولبس الغيار
وإلقاء المصحف في القاذورات والاستخفاف بالنبي صلى الله عليه
وسلم مع الاعتراف بكونه نبيا وإنكار نبوته باللسان مع العلم
بكونه نبيا وشئ من هذه الأنواع من الكفر لا ينافي العلم بوجوب
الإجماع سلمنا هذه المنافاة فلم قلت إنها مانعة من التكليف
بيانه أن الله تعالى كلف أبا لهب بالإيمان ومن الإيمان تصديق
الله تعالى في كل ما أخبر عنه ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن فيكون
أبو لهب مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن وذلك متعذر وهذ التوجيه
ظاهر أيضا في قوله تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أنذرتهم أم
لم تنذرهم لا يؤمنون وإن أؤلئك الذي أخبر الله عنهم بهذا الخبر
كانوا مكلفين بالإيمان فكانوا مكلفين بتصديق هذه الآية وباقي
التقرير ظاهر
(4/38)
سلمنا أن هذه الآية تقتضي المنع من متابعة
غير سبيل المؤمنين لا بشرط مشاقة الرسول لكن بشرط تبين الهدى
أولا بهذا الشرط الأول مسلم والثاني ممنوع
بيانه أنه تعالى ذكر مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وشرط
فيها تبين الهدى ثم عطف عليها اتباع غير سبيل المؤمنين فوجب أن
يكون تبين الهدى شرطا في التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين
لأن ما كان شرطا في المعطوف عليه يجب أن يكون شرطا في المعطوف
واللام في الهدى للاستغراق فيلزم أن لا يحصل التوعد على اتباع
غير سبيل المؤمنين إلا عند تبين جميع أنواع الهدى ومن جملة
أنواع الهدى ذلك الدليل الذي لأجله ذهب أهل الإجماع إلى ذكر
الحكم وعلى هذا التقدير لا يبقى للتمسك بالإجماع فائدة وأيضا
فالإنسان إذا قال لغيره إذا تبين لك صدق فلان فاتبعه فهم منه
تبين صدق قوله بشئ غير قوله فكذا ها هنا يجب أن يكون تبين صحة
إجماعهم بشئ وراء إجماعهم وإذا كنا لا نتمسك بالإجماع
(4/39)
إلا بعد دليل منفصل على صحة ما أجمعوا عليه
لم يبق للتمسك بالإجماع أثر وفائدة سلمنا انها تقتضي المنع من
متابعة غير سبيل المؤمنين ولكن عن متابعة كل ما كان غير سبيل
المؤمنين أو عن متابعة بعض ما كان كذلك الأول ممنوع وبتقدير
التسليم فالاستدلال ساقط أما المنع فلأن لفظ الغير ولفظ السبيل
كل واحد منهما لفظ منفرد فلا يفيد العموم وأما أن بتقدير
التسليم فالاستدلال ساقط لأنه يصير معنى الآية أن كل من اتبع
كل ما كان مغايرا لكل ما كان سبيل المؤمنين يستحق العقاب وهذا
يقتضي أن يكون المتبع لبعض ما غاير سبيل المؤمنين مستحقا
للعقاب
والثاني مسلم ونقول بموجبه فإن عندنا يحرم بعض ما غاير بعض
سبيل المؤمنين أو بعض ما غاير كل سبيل المؤمنين أو كل ما غاير
بعض سبيل المؤمنين وهو السبيل الذي صاروا به مؤمنين والذي
يغايره هو الكفر بالله تعالى وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم
وهذا التأويل متعين لوجهين أحدهما أنا إذا قلنا لا تتبع غير
سبيل الصالحين فهم منه المنع من متابعة
(4/40)
غير سبيل الصالحين فيما به صاروا غير
صالحين ولا يفهم منه المنع من متابعة سبيل غير الصالحين في كل
شئ حتى في الأكل والشرب وثانيهما أن الآية نزلت في رجل ارتد
وذلك يدل على أن الغرض منها المنع من الكفر سلمنا حظر اتباع
غير سبيلهم مطلقا لكن لفظ السبيل حقيقة في الطريق الذي يحصل
فيه المشي وهو غير مراد ها هنا بالاتفاق فصار الظاهر متروكا
فلا بد من صرفه إلى المجاز وليس البعض أولى من البعض فتبقى
الآية مجملة وأيضا فإنه لا يمكن جعله مجازا عن اتفاق الآمة على
الحكم لأنه لا مناسبة ألبتة بين الطريق المسلوك وبين اتفاق أمه
محمد صلى الله عليه وسلم على شئ من الأحكام وشرط حسن التجوز
حصول المناسبة سلمنا أنه يجوز جعله مجازا عن ذلك الاتفاق لكن
يجوز أيضا جعله مجازا عن الدليل الذي لأجله اتفقوا على ذلك
الحكم فإنهم إذا أجمعوا على الشئ فإما أن يكون ذلك الإجماع عن
استدلال أو لا عن استدلال فإن كان عن استدلال فقد حصل لهم
سبيلان الفتوى والاستدلال فلم كان حمل الآية على الفتوى أولى
من حملها على الاستدلال على الفتوى
(4/41)
بل هذا أولى فإن بين الدليل الذي يدل على
ثبوت الحكم وبين الطريق الذي يحصل فيه المشي مشابهة فإنه كما
أن الحركة البدنية في الطريق المسلوك توصل البدن إلى المطلوب
فكذا الحركة الذهنية في مقدمات ذلك الدليل توصل الذهن إلى
المطلوب والمشابهة إحدى جهات حسن المجاز وإذا كان كذلك كانت
الآية تقتضي إيجاب اتباعهم في سلوك الطريق الذي لأجله اتفقوا
على الحكم ويرجع حاصله إلى إيجاب الاستدلال بما استدلوا به على
ذلك الحكم وحينئذ يخرج الإجماع عن كونه حجة وأما إن كان
إجماعهم لا عن استدلال والقول لا عن استدلال خطأ فيلزم إجماعهم
على الخطأ وذلك يقدح في صحة الإجماع سلمنا دلالة الآية على
تحريم متابعة غير قولهم لكن لا نسلم أن كلمة من للعموم وأن لفظ
المؤمنين لعموم فإنا لو حملناه على للعموم لزم تطرف التخصيص
إلى الآية لعدم دخول العوام والمجانين والنساء والصبيان في
الإجماع سلمنا ذلك لكن لم قلت إنه يلزم من حظر اتباع غير
سبيلهم وجوب اتباع سبيلهم
(4/42)
بيانه أن لفظ غير وإن كان يستعمل في
الاستثناء لكنهم أجمعوا على أنه في الأصل للصفة وإذا كان كذلك
كان بين اتباع غير سبيل المؤمنين وبين اتباع
سبيلهم قسم ثالث وهو ترك الاتباع فإن قلت ترك متابعة سبيل
المؤمنين غير سبيل المؤمنين فمن ترك متابعة سبيلهم فقد اتبع
غير سبيلهم قلت لم لا يجوز أن يقال الشرط في كون الإنسان
متابعا لغيره كونه آتيا بمثل فعل الغير لأجل أن ذلك الغير أتى
به فمن ترك متابعة سبيل المؤمنين وهو إنما تركه لأجل أن غير
المؤمنين تركوه كان متبعا في ذلك سبيل غير المؤمنين أما من
تركه لأن الدليل دل عنده على وجوب ذلك الترك أو لأنه لما لم
يدل شئ على متابعة المؤمنين تركه على الأصل لم يكن ها هنا
متبعا لأحد فلا يدخل تحت الوعيد سلمنا دلالة الآية على وجوب
متابعة سبيل المؤمنين لكن في كل الأمور أو في بعضها الأول
ممنوع لوجوه
(4/43)
أحدها أن المؤمنين إذا اتفقوا على فعل شئ
من المباحات فلو وجب اتباع سبيلهم في كل الأمور لزم التناقض
لأنه يجب عليهم فعله من حيث إنهم فعلوه ولا يجب ذلك لحكمهم
بأنه غير واجب وثانيها أن أهل الإجماع قبل اتفاقهم على ذلك
الحكم كانوا متوقفين في المسألة غير جازمين بالحكم بل كانوا
جازمين بأنه يجوز البحث عنها ويجوز الحكم لكل أحد بما أدى إليه
اجتهاده ثم إنهم بعد الإجماع قطعوا بذلك
الحكم فلو وجب متابعتهم في كل ما يقولونه لزم اتباعهم في
النقيضين وهو محال فإن قلت الإجماع الأول على تجويز التوقف
وطلب الدلالة والحكم بما أدى إليه الاجتهاد ما كان مطلقا بل
كان بشرط عدم الاتفاق على حكم واحد فإذا حصل الاتفاق زال شرط
الإجماع فزال بزواله قلت المفهوم من عدم حصول الإجماع حصول
الخلاف فلو شرطنا تجويز الخلاف بعدم الإجماع لزم أن يكون تجويز
وجود الشئ مشروطا بوجوده وأيضا ف لو جاز في أحد الإجماعين أن
يكون مشروطا بشرط جاز أيضا في الإجماع الثاني والثالث ويلزم
منه أن لا يستقر شئ من الإجماعات
(4/44)
وثالثها أن اتفاق المجمعين على ما أجمعوا
عليه إما أن لا يكون عن استدلال أو يكون عن استدلال والأول
باطل لأن القول بغير استدلال خطأ بالإجماع فلو اتفق أهل
الإجماع عليه كانوا مجمعين على الخطأ وذلك يقدح في كون الإجماع
حجة وإذا كان الثاني فذلك الدليل إما الإجماع أو غيره والأول
باطل لأن الإجماع إما أن يكون نفس حكمهم أو نتيجة حكمهم
والدليل على الحكم متقدم على الحكم والثاني يقتضي أن يكون سبيل
المؤمنين إثبات ذلك الحكم بغير
الإجماع فيكون إثباته بالإجماع اتباعا لغير سبيلهم فوجب أن لا
يجوز فظهر أنا لو حملنا الآية على اقتضاء متابعة المؤمنين في
كل الأمور لزم التناقض وإذا بطل ذلك وجب حملها على اقتضاء
المتابعة في بعض الأمور وحينئذ نقول بموجبه ونحمله على الإيمان
بالله تعالى ورسوله ثم الذي يؤكد هذا الاحتمال وجوه أحدها أن
القائل إذا قال اتبع سبيل الصالحين فهم منه الأمر باتباعهم
فيما به صاروا صالحين فكذا ها هنا
(4/45)
وثانيها أنا إذا حملنا الآية على ذلك كان
ذلك السبيل حاصلا في الحال ولو حملناه على إجماعهم على الحكم
الشرعي كان ذلك مما سيصير سبيلا في المستقبل لأنه لا يوجد إلا
بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فالحمل على الأول إولى
وثالثها أن السلطان إذا قال ومن يشاقق وزيري من الجند ولم يتبع
سبيل فلان ويشير به إلى اقوام متظاهرين في طاعة الوزير عاقبتهم
فإنه انما يعنى بالسبيل المذكور سبيلهم في طاعة الوزير دون
سائر السبل سلمنا دلالة الآية على وجوب المتابعة في كل الأمور
لكنها تدل على وجوب متابعة بعض المؤمنين أو كلهم الأول باطل
لأن لفظ المؤمنين جمع فيفيد الاستغراق ولأن
إجماع البعض غير معتبر بالإجماع ولأن أقوال الفرق متناقضة
والثاني مسلم ولكن كل المؤمنين هم الذين يوجدون إلى قيام
الساعة فلا يكون الموجودون في العصر كل المؤمنين فلا يكون
إجماعهم إجماع كل المؤمنين فإن قلت المؤمنون هم المصدقون وهم
الموجودون وأما الذين لم
(4/46)
يوجدوا بعد فليسوا بمؤمنين قلت إذا وجد أهل
العصر الثاني ففي العصر الثاني لا يصح القول بأن أهل العصر
الأول هم كل المؤمنين فلا يكون اجماع أهل العصر الأول عند حصول
أهل العصر الثاني قولا لكل المؤمنين فلا يكون اجماع أهل العصر
الأول حجة على أهل العصر الثاني سلمنا أن أهل العصر هم كل
المؤمنين لكن الآية إنما نزلت في زمان الرسول صلى الله عليه
وسلم فتكون الآية مختصة بمؤمني ذلك الوقت وهذا يقتضي أن يكون
إجماعهم حجة لكن التمسك بالإجماع إنما ينفع بعد وفاة الرسول
صلى الله عليه وسلم فما لم يثبت أن الذين كانوا موجودين عند
نزول هذه الآية بقوا بأسرهم إلى ما بعد وفاة الرسول صلى الله
عليه وسلم وأنه اتفقت كلمتهم على الحكم الواحد لم تدل هذه
الآية على صحة ذلك الإجماع ولكن ذلك غير معلوم في شئ من
الإجماعات الموجودة في المسائل بل المعلوم خلافه لأن كثيرا
منهم مات زمان حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فسقط الاستدلال
بهذه الآية سلمنا دلالاتها على وجوب متابعة مؤمني كل عصر لكن
المراد متابعة كل مؤمني ذلك العصر أو بعضهم الأول باطل وإلا
لاعتبر في الإجماع قول العوام بل الأطفال
والمجانين
(4/47)
والثاني نقول به لأن عندنا يجب في كل عصر
متابعة بعض من كان فيه من المؤمنين وهو الإمام المعصوم سلمنا
أن المراد متابعة جميع مؤمني العصر لكن الإيمان عبارة عن
التصديق بالقلب وهو أمر غائب عنا فكيف يعلم في المجمعين كونهم
مصدقين بقلوبهم لاحتمال أنهم وإن كانوا مصدقين باللسان لكنهم
كفرة بالقلب وإذا جهلنا ذلك جهلنا كونهم مؤمنين وإذا كان
الواجب علينا اتباع المؤمنين فمتى جهلنا كونهم مؤمنين لم يجب
علينا اتباعهم وهو أيضا لازم على المعتزلة القائلين بأن المؤمن
هو المتسحق للثواب لأن ذلك غير معلوم أيضا وأيضا فالأمة متى
أجمعت لم نعلم كونهم مستحقين للثواب إلا بعد العلم بكونهم
محقين في ذلك الحكم إذ لو لم نعلم ذلك لجوزنا كونهم مخطئين وأن
يكون خطؤهم كثيرا يخرجهم عن استحقاق الثواب واسم الايمان فإذن
إنما نعرف كون المجمعين مؤمنين إذا عرفنا أن ذلك الحكم صواب
فلو استفدنا العلم بكونه صوابا من إجماعهم لزم الدور فإن قلت
لم لا يجوز أن يكون المراد من المؤمنين المصدقين باللسان كما
في قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن قلت لا شك أن
إطلاق اسم المؤمنين على المصدقين باللسان
(4/48)
دون القلب مجاز فإذا جاز لكم حمل الآية على
هذا المجاز فلم لا يجوز لنا حملها على مجاز آخر وهو أن نقول
المراد إيجاب متابعة السبيل الذي من شأنه أن يكون سبيلا
للمؤمنين كما إذا قيل اتبع سبيل الصالحين لا يراد به وجوب
اتباع سبيل من يعتقد فيه كونه صالحا بل وجوب اتباع السبيل الذي
يجب أن يكون سبيلا للصالحين سلمنا دلالة الآية على كون الإجماع
حجة لكن دلالة قطيعة أم ظنية الأول ممنوع والثاني مسلم لكن
المسألة قطعية فلا يجوز التمسك فيها بالدلائل الظنية بيانه ما
تقدم في كتاب اللغات أن التمسك بالدلائل اللفظية لا يفيد
اليقين ألبتة فإن قلت أنا نجعل هذه المسألة ظنية قلت إن أحدا
من الأمة لم يقل إن الإجماع المنعقد بصريح القول دليل ظني بل
كلهم نفوا ذلك فإن منهم من نفى كونه دليلا أصلا ومنهم من جعله
دليلا قاطعا فلو أثبتناه دليلا ظنيا لكان هذا تخطئه لكل الأمة
وذلك يقدح في الإجماع
(4/49)
والعجب من الفقهاء أنهم أثبتوا الإجماع
بعمومات الآيات والأخبار وأجمعوا على أن المنكر لما تدل عليه
هذه العمومات لا يكفر ولا يفسق إذا كان ذلك الإنكار لتأويل ثم
يقولون الحكم الذي دل عليه الإجماع مقطوع به ومخالفه كافر أو
فاسق فكأنهم قد جعلوا الفرع أقوى من الأصل وذلك غفلة عظيمة
سلمنا دلالة هذه الآية على أن الإجماع حجة لكنها معارضة
بالكتاب والسنة والمعقول أما الكتاب فكل ما فيه منع لكل الأمة
من القول الباطل والفعل الباطل كقوله عز وجل وأن تقولوا على
الله ما لا تعلمون ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل والنهي عن
الشئ لا يجوز إلا إذا كان المنهي عنه متصورا وأما السنة فكثيرة
(4/50)
أحدها قصة معاذ وأنه لم يجر فيها ذكر
الإجماع ولو كان ذلك مدركا شرعيا لما جاز الإخلال بذكره عند
اشتداد الحاجة إليه لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
وثانيها قوله عليه الصلاة والسلام لا تقوم الساعة إلا على شرار
أمتي وثالثها قوله عليه السلام لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب
بعضكم رقاب بعض ورابعها قوله عليه الصلاة والسلام أن الله لا
يقبض العلم انتزاعا ينترعه (من العباد ولكن يقبض العلم بقبض
العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء
(4/51)
جهالا فسئلوا فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
وخامسها قوله عليه الصلاة والسلام تعلموا الفرائض وعلموها
الناس فإنها أول ما ينسى وسادسها قوله عليه الصلاة والسلام من
أشراط الساعة أن يرتفع العلم ويكثر الجهل
(4/52)
وهذه الأحاديث بأسرها تدل على خلو الزمان
عمن يقوم بالواجبات وأما المعقول فمن وجهين الأول أن كل واحد
من الأمة جاز الخطأ عليه فوجب جوازه على الكل كما أنه لو كان
كل واحد من الزنج أسود كان الكل سودا الثاني أن ذلك الإجماع
إما أن يكون لدلالة أو لأمارة أو لا لدلالة ولا لأمارة فإن كان
لدلالة فالواقعة التي أجمع عليها كل علماء العلم تكون واقعة
عظيمة ومثل هذه الواقعة مما تتوفر الدواعي على نقل الدليل
القاطع الذي لأجله أجمعوا فكان ينبغي اشتهار تلك الدلالة
وحينئذ لا تبقى للتمسك بالإجماع فائدة وإن كان لأمارة فهو محال
لأن الأمارات يختلف حال الناس فيها فيستحيل اتفاق الخلق على
مقتضاها ولأن في الأمة من لم يقل بكون الأمارة حجة فلا يمكن
اتفاقهم لأجل الأمارة على حكم وإن كان لا لدلالة ولا لأمارة
كان ذلك خطأ فادحا في الإجماع
ولو اتفقوا عليه لكانوا متفقين على الباطل وذلك قادح في
الإجماع
(4/53)
والجواب قوله الآية تقتضي التوعد على اتباع
غير سبيل المؤمنين بشرط المشاقة قلنا هذا باطل لأن المغلق على
الشرط إن لم يكن عدما عند عدم الشرط فقد حصل غرضنا وإن كان
عدما عند عدم الشرط فلو كان التوعد على اتباع غير سبيل
المؤمنين مشروطا بالمشاقة ل كان عند عدم المشاقة اتباع غير
سبيل المؤمنين جائزا مطلقا وهذا باطل لأن مخالفة الإجماع إن لم
تكن خطأ لكن لا شك في أنه لا يكون صوابا مطلقا فبطل ما ذكروه
قوله تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين مشروط بتبين الهدى قلنا لا
نسلم لأن تبين الهدى شرط في الوعيد عند المشاقة لا عند اتباع
غير سبيل المؤمنين ولا نسلم إنه يلزم من العطف اشتراك إحدى
الجملتين بما كانت الجملة الأخرى مشروطه به سلمنا أن العطف
يقتضي الاشتراك في الاشتراط لكن الهدى الذي نتبينه شرطا في
حصول الوعيد عند مشاقة الرسول هو الدليل الدال على التوحيد
والنبوة لا الدليل الدال على أحكام الفروع وإذا لم يكن تبين
(4/54)
الدليل على مسائل الفروع شرطا في لحوق
الوعيد على مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وجب أن لا يكون
ذلك شرطا أيضا في لحوق الوعيد على اتباع غير سبيل المؤمنين
وإلا لم تكن الجملة الثانية مشروطة بالشرط المعتبر في الجملة
الأولى بل بشرط لم يدل عليه الدليل أصلا سلمنا أن مقتضى العطف
ما ذكرتموه لكن معنا دليل يمنع منه من
وجهين الأول أن هذه الآية خرجت مخرج المدح للمؤمنين وتمييزهم
عن غيرهم ولو حملناه على ما ذكره السائل لبطل ذلك ألا ترى أن
اليهود والنصارى إذا عرفنا أن قولا من أقاويلهم هدى فإنه
يلزمنا أن نقول بمثله مع أنه لا تبعية لهم فيه الثاني أن اتباع
المؤمنين هو الرجوع إلى قولهم لأجل أنهم كانوا هـ لا لأنه صح
ذلك بالدليل ألا ترى أنا لا نكون متبعين لليهود والنصارى في
قولنا بإثبات الصانع ونبوة موسى وعيسى عليهما السلام وإن
شاركناهم في ذلك الاعتقاد لأجل أنا لم نذهب إلى ذلك لأجل قولهم
قوله لفظ الغير والسبيل ليس للجمع فلا يقتضي تحريم كل ما كان
غيرا لكل ما كان سبيلا للمؤمنين قلنا العموم حاصل من حيث اللفظ
ومن حيث الإيماء
(4/55)
أما اللفظ فلوجهين الأول أن القائل إذا قال
من دخل غير داري ضربته فهم منه العموم بدليل صحة الاستثناء لكل
واحد من الدور المغايرة لداره الثاني أنا لو حملنا الآية على
سبيل واحد مع أنه غير مذكور صارت الآية مجملة ولو حملناها على
العموم لم يلزم ذلك وحمل كلام الله عز
وجل على ما هو أكثر فائدة أولى لا سيما إذا كانت هذه اللفظة
إنما تستعمل في العرف لإفادة العموم أما الإيماء فلما سيأتي في
باب القياس إن شاء الله عز وجل أن ترتيب الحكم على الاسم مشعر
بكون المسمى علة لذلك الحكم فكانت عله التهديد كونه اتباعا
لغير سبيل المؤمنين فيلزم عموم الحكم لعموم هذا المقتضي قوله
إذا حملناه على الكل سقط الاستدلال قلنا ذلك إنما يلزم لو
حملناه على الكل من حيث هو كل أما لو حملناه على كل واحد لم
يلزم ذلك ولا شك أنه هو المتبادر إلى الفهم لأن من قال من دخل
غير دارى فله كذا لا يفهم منه أنه أراد به من دخل جميع الدور
المغايره لداره قوله المراد منه المنع من متابعة غير سبيل
المؤمنين فيما به صاروا غير
(4/56)
مؤمنين وهو الكفر قلنا لا نسلم بل الأصل
اجراء الكلام على عمومه وايضا فلأنة لا معنى لمشاقة الرسول الا
اتباع سبيل المؤمنين فيما به صاروا غير مؤمنين فلو حملنا قوله
ويتبع غير سبيل المؤمنين على ذلك لزم التكرار قوله نزلت في رجل
ارتد قلنا تقدم بيان أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
قوله السبيل هو الطريق الذي يحصل المشي فيه قلنا لا نسلم لقوله
تعالى قل هذه سبيلي وقوله ادع إلى
سبيل ربك سلمناه لكنا نعلم بالضرورة أن ذلك غير مراد ها هنا
ولا نزاع في أن أهل اللغة يطلقون لفظ السبيل على ما يختاره
الإنسان لنفسه في القول والعمل وإذا كان ذلك مجازا ظاهرا وجب
حمل اللفظ عليه لأن الأصل عدم المجاز الآخر
(4/57)
وحينئذ يحمل اللفظ على هذا المعنى إلى أن
يذكر الخصم دليلا معارضا وبه نجيب عن قولهم لا مناسبة بين
الأتفاق على الحكم وبين الطريق الذي يحصل المشي فيه قوله لم لا
يجوز أن يكون المراد وجوب متابعتهم في الاستدلال بالدليل الذي
لأجله أثبتوا ذلك الحكم قلنا هب أن الأمر كذلك ولكن لما أمر
الله تعالى باتباع سبيلهم في الاستدلال بدليلهم ثبت أن كل ما
اتفقوا عليه صواب وأيضا فمن أثبت الحكم لدليل لم يكن متبعا
لغيره قوله لم قلت إن لفظة من والمؤمنين للعموم قلنا لما تقدم
في باب العموم قوله لم قلت إنه يلزم من حظر اتباع غير سبيلهم
وجوب اتباع سبيلهم قلت لأنه يفهم في العرف من قول القائل لا
تتبع غير سبيل الصالحين الأمر بمتابعة سبيل الصالحين حتى لو
قال لا تتبع غير
سبيل الصالحين ولا تتبع سبيلهم أيضا لكان ذلك ركيكا بلى لو قال
لا تتبع سبيل غير الصالحين فإنه لا يفهم منه الأمر بمتابعة
سبيلهم ولذلك
(4/58)
لا يستقبح أن يقال لا تتبع سبيل غير
الصالحين ولا سبيلهم وبالجملة فالفرق معلوم بالضرورة في العرف
بين قولنا لا تتبع غير سبيل الصالحين وبين قولنا لا تتبع سبيل
غير الصالحين قوله يجب اتباع سبيل المؤمنين في كل الأمور أو في
بعضها قلنا بل في كلها ولذلك يصح الاستثناء لأنه لما ثبت النهي
عن متابعة كل ما هو غير سبيل المؤمنين وثبت أنه لا واسطة بينها
وبين اتباع سبيل المؤمنين لزم أن يكون اتباع سبيل المؤمنين
واجبا في كل شئ قوله يلزم وجوب اتباعهم في فعل المباحات قلنا
هب أن هذه الصورة مخصوصة للضرورة التي ذكرتموها فتبقى حجة فيما
عداها قوله الناس قبل حصول الإجماع كانوا مجمعين على التوقف في
الحكم وطلب الدليل قلنا الإجماع على ذلك مشروط بأن لا يحصل
الاتفاق قوله عدم الإجماع هو الاختلاف فيلزم أن يكون جواز
الاختلاف مشروطا بوقوع الاختلاف قلنا هب أنه كذلك فأي محال
يلزم منه قوله لو جاز أن يكون هذا الاجماع مشروطا لجاز مثله في
سائر الإجماعات قلنا ذلك جائز ولكن أهل الإجماع حذفوا هذا
الشرط عند
(4/59)
حصول الاتفاق على الحكم ولم يحذفوه عند
الاتفاق على جواز الاختلاف قوله أهل الإجماع أثبتوا ذلك الحكم
بغير الإجماع وإثباته بالإجماع مغاير لسبيل المؤمنين قلنا لما
أثبتوا الحكم بدليل سوى الإجماع فقد فعلوا أمرين أحدهما أنهم
أثبتوا ذلك الحكم بدليل والآخر أنهم تسمكوا بغير الاجماع
والآية لما دلت على وجوب متابعتهم في كل الأمور كانت متناولة
للصورتين إلا أنه ترك العمل بمقتضى الآية في إحدى الصورتين
لانعقاد الإجماع على أنه لا يجب علينا الاستدلال بما استدل به
أهل الإجماع فبقى العمل بها في الباقي قوله إذا قال اتبع سبيل
الصالحين فهم منه إيجاب اتباع سبيلهم فيما به صاروا صالحين
قلنا لا نسلم لأن سبيل الصالح شئ مضاف إلى الصالح
(4/60)
والمضاف إلى الشئ خارج عنه والصلاح جزء من
ماهية الصالح وداخل فيها والخارج عن الشئ لا يكون نفس الداخل
فيه سلمنا لكن المتابعة في الصلاح ممكنة أما في الإيمان فلا
لأنه لا يحصل بالتقليد وقد بينا أن الاتباع هو الإتيان بمثل
فعل الغير لأجل أن ذلك الغير فعله
قوله إذا حملناه على الإيمان كان ذلك السبيل حاصلا في الحال
ولو حملناه على الإجماع لم يكن حاصلا في الحال قلنا لما دللنا
على إنه لا يجوز حمله على الإيمان وجب حمله على ذلك غايته أنه
يفضي إلى المجاز لكنه مجاز سائغ لأن تسمية الشئ باسم ما يؤول
إليه مشهور قوله السلطان إذا قال ومن يشاقق وزيري ويتبع غير
سبيل فلان ويعني به المطيعين لذلك الوزير فهم منه أنه أراد
بذلك سبيلهم في طاعته قلنا لا نسلم فإن اللفظ يقتضي العموم وما
ذكرتموه قرينة عرفية تقتضي الخصوص والدلالة اللفظية راجحة على
القرينة العرفية قوله المراد إيجاب اتباع كل المؤمنين أو بعضهم
قلنا الكل قوله كل المؤمنين هم الذين يوجدون إلى قيام الساعة
(4/61)
قلنا هذا مدفوع لوجهين الأول أن جميع
المؤمنين هم الذين دخلوا في الوجود لأن المؤمن هو المتصف
بالإيمان والمتصف بالإيمان يجب ان يكون موجودا وما س يوجد في
المستقبل ولم يوجد في الحال فهو غير موجود قوله الموجودون في
العصر الأول لا يصدق عليهم في العصر الثاني أنهم كل المؤمنين
قلنا لكن لما صدق عليهم في العصر الأول أنهم كل المؤمنين وهم
في العصر الأول اتفقوا على أنه لا يجوز لأحد من سائر الأعصار
مخالفتهم وجب أن يكون ذلك الحكم منهم صدقا في العصر الأول فإذا
ثبت في العصر الأول أن ذلك الحكم حق في كل الأعصار ثبت ذلك في
كل الأعصار إذ لو لم يكن حقا في العصر الثاني لما صدق في العصر
الأول أنه حق في كل الأعصار مع أنا فرضنا أن ذلك حق الثاني إن
الله عز وجل علق العقاب على مخالفة كل المؤمنين زجرا عن
مخالفتهم وترغيبا في الأخذ بقولهم فلا يجوز أن يكون المراد
جميع المؤمنين إلى قيام الساعة لأنه لا فائدة في التمسك بقولهم
بعد قيام الساعة قوله إذا كان المراد من المؤمنين الموجودين في
ذلك العصر كانت
(4/62)
الآية دالة على أن إجماع الموجودين في وقت
نزول الآية حجة قلنا لا يجوز أن يكون مراد الله تعالى إيجاب
اتباع مؤمني ذلك العصر لأن قول المؤمنين حال حياة الرسول صلى
الله عليه وسلم إن كان مطابقا لقوله كانت الحجة في قوله لا في
قولهم فيصير قولهم لغوا ولما بطل ذلك ثبت أن المراد إيجاب
العمل بقول المؤمنين في أي عصر كان قوله المراد كل مؤمني العصر
أو بعضهم قلنا ظاهره الكل إلا ما أخرجه الدليل المنفصل وهم
العوام والأطفال والمجانين فبقى غيرهم وهم جمهور العلماء داخلا
تحت الآية قوله نحمله على الإمام المعصوم قلنا هذا باطل لأن
الوعيد على مخالفة المؤمنين فحمله على الواحد
ترك للظاهر قوله المراد بالمؤمن المصدق في الباطن وهو غير
معلوم الوجود قلنا المؤمن في اللغة هو المصدق باللسان فوجب
حمله عليه إلى قيام المعارض والذي يدل عليه أنه تعالى لما أوجب
علينا اتباع سبيلهم فلابد وأن نكون متمكنين من معرفتهم
والاطلاع على الأحوال الباطنة ممتنع فوجب حمله على التصديق
باللسان قوله لم لا يجوز أن يكون المراد إيجاب اتباع السبيل
الذي من شأنه
(4/63)
أن يكون سبيلا للمؤمنين قلنا هذا عدول عن
الظاهر من غير ضرورة قوله هذه الدلالة ظنية فلا يجوز إثبات
الحكم القطعي بها قلنا عندنا أن هذه المسألة ظنية ولا نسلم
انعقاد الإجماع عن أنها ليست ظنية قوله أعطيتم الفرع من القوة
ما ليس للأصل قلنا نحن لا نقول بتكفير مخالف الإجماع ولا
بتفسيقه ولا نقطع أيضا به وكيف وهو عندنا ظني قوله هذه الدلالة
معارضة بالآيات الدالة على النهي عن الباطل قلنا لا نسلم أن
ذلك النهي خطاب مع الكل بل خطاب مع كل واحد منهم والفرق بين
الكل وبين كل واحد منهم معلوم ونحن إنما ندعي عصمة الكل لا
عصمة كل واحد سلمنا كونه خطابا للكل لكن النهي لا يقتضي إمكان
المنهى عنه من من!
كل وجه لأن الله عز وجل ينهى المؤمن عن الكفر مع علمه بأنه لا
يفعله وما علم أنه لا يوجد فهو محال الوجود وأما حديث معاذ فهو
إنما ترك ذكر الإجماع لأنه لا يكون حجة في زمان
(4/64)
حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأما قوله
صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي فهو يدل
على حصول الشرار في ذلك الوقت فأما أن يكونوا بأسرهم شرارا فلا
وكذا القول في سائر الحديث وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا
ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ففي صحته كلام سلمناه
لكن لعلة خطاب مع قوم مخصوصين قوله جاز الخطأ على كل واحد
فيجوز على الكل قلنا لا نسلم أن حكم المجموع مساو لحكم الآحاد
والمثال الذي ذكره يدل على أن ذلك قد يكون كذلك ولا يدل على
أنه لابد وأن يكون كذلك سلمنا أن حكم المجموع مساو لحكم الآحاد
ولكن عندنا يجوز الخطأ على الكل أيضا لكن ليس كل ما جاز وقع
والله تعالى لما أخبر عنهم أن ذلك لا يقع علمنا أنهم لا يتفقون
على الخطأ قوله اتفاقهم إما أن يكون لدلالة أو لأمارة
(4/65)
قلنا لم لا يجوز أن يكون لدلالة إلا أنهم
ما نقلوها اكتفاء منهم بالإجماع فإنه متى حصل الدليل الواحد
كان الثاني غير محتاج إليه والله
أعلم المسلك الثاني التمسك بقوله عز وجل وكذلك جعلناكم أمة
وسطا لتكونوا شهداء على الناس الله تعالى أخبر عن كون هذه
الأمة وسطا والوسط من كل شئ خياره فيكون الله عز وجل قد أخبر
عن خيرية هذه الأمة فلو أقدموا على شئ من المحظورات لما اتصفوا
بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شئ من المحظورات وجب أن
يكون قولهم حجة فإن قيل الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة
بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد منهم بها وخلاف ذلك معلوم
بالضرورة فلا بد من حملها على البعض ونحن نحملها على الأئمة
المعصومين سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر لكن لا نسلم أن الوسط
من كل شئ خياره ويدل عليه وجهان الأول أن عدالة الرجل عبارة عن
أداء الواجبات واجتناب المحرمات وهذا من فعل الرجل وقد أخبر
الله تعالى أنه جعلهم وسطا فاقتضى ذلك أن
(4/66)
كونهم وسطا من فعله تعالى وذلك يقتضي أن
يكون ذلك غير عدالتهم التي ليست من فعل الله تعالى الثاني أن
الوسط اسم لما يكون متوسطا بين شيئين فجعله حقيقة في العدل
يقتضي الاشتراك وهو خلاف الأصل سلمنا أن الوسط من كل شئ خياره
فلم قلتم أن خبر الله
تعالى عن خيرية قوم يقتضي اجتنابهم عن كل المحظورات ولم لا
يجوز أن يقال إنه يكفي فيه اجتنباهم ما عن الكبائر فأما عن
الصغائر فلا وإذا كان كذلك فيحتمل أن الذي أجمعوا عليه وإن كان
خطأ لكنه من الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم ومما يؤكد هذا
الاحتمال أنه تعالى حكم بكونهم عدولا ليكونوا شهداء على الناس
وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة سلمنا اجتنابهم عن الصغائر
والكبائر ولكن الله تعالى بين أن أتصافهم بذلك إنما كان لكونهم
شهداء على الناس ومعلوم أن هذه الشهادة إنما تكون في الآخرة
فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك لأن عدالة الشهود إنما تعتبر
حالة الأداء لا حالة التحمل وذلك مما لا نزاع فيه لأن الأمة
تصير معصومة في الآخرة فلم قلتم إنهم في الدنيا كذلك سلمنا
وجوب كونهم عدولا في الدنيا لكن المخاطبين بهذا الخطاب هم
(4/67)
الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية
لأن الخطاب مع من لم يوجد بعد محال وإذا كان كذلك فهذا يقتضي
عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت ولا يقتضي عدالة
غيرهم فهذه الآية تدل على أن إجماع أولئك حق فيجب أن لا نتمسك
بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه لكن ذلك يقضي
حصول العلم بأعيانهم والعلم ببقاءهم لا إلى ما بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم ولما كان ذلك مفقودا تعذر التمسك بشئ من
الإجماعات والجواب
قوله الآية متروكة الظاهر قلنا لا نسلم قوله لأنها تقتضي كون
كل واحد منهم عدلا قلنا لما ثبت إنه لا يجوز إجراؤها على
الظاهر وجب أن يكون المراد منه امتناع خلو هذه الأمة من!
العدول قوله تحمله على الإمام المعصوم قلنا قوله وكذلك جعلناكم
أمة وسطا صيغة جمع فحمله على
(4/68)
الواحد خلاف الظاهر قوله لم قلت إن الوسط
في كل شئ خياره قلنا للآية والخبر والشعر والنقل والمعنى أما
الآية فقوله عز وجل قال أوسطهم أي أعدلهم وأما الخبر فقوله صلى
الله عليه وسلم خير الأمور أوسطها أي أعدلها
(4/69)
وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوسط
قريش نسبا وقال عليه السلام عليكم بالنمط الأوسط
(4/70)
وأما الشعر فقوله هموا وسط يرضى الأنام
بحكمهم وأما النقل فقال الجوهري في الصحاح وكذلك جعلناكم أمة
وسطا أي عدولا وأما المعني فلأن الوسط حقيقة في البعد عن
الطرفين فالشئ
(4/71)
الذي يكون بعيدا عن طرفي الإفراط والتفريط
الذين هما رديان أن كان متوسطا فكان فضيلة ولهذا سمي الفاضل في
كل شئ وسطا قوله عدالتهم من فعلهم لا من فعل الله تعالى قلنا
هذا ممنوع على مذهبنا قوله لم قلت إن إخبار الله تعالى عن
عدالتهم يقتضي اجتنابهم عن الصغائر قلنا من الناس من قال لا
صغير على الإطلاق بل كل ذنب فهو صغير بالنسبة إلى ما فوقه كبير
بالنسبة إلى ما تحته فسقط عنه هذا السؤال وأما من اعترف بذلك
فجوابه أن الله تعالى عالم بالباطن والظاهر فلا يجوز أن يحكم
بعدالة أحد وصحة شهادته إلا والمخبر عنه مطابق للخبر فلما أطلق
الله تعالى القول بعدالتهم وجب أن يكونوا عدولا في كل شئ بخلاف
شهود الحاكم حيث تجوز شهادتهم وأن جاز عليهم الصغائر لأنه لا
سبيل للحاكم إلى معرفة الباطن فلا جرم اكتفى بالظاهر قوله
الغرض من هذه العدالة أداء الشهادة في الآخرة وذلك يوجب
(4/72)
عدالتهم في الآخرة لا في الدنيا قلنا لو
كان المراد صيرورتهم عدولا في الآخرة لقال سنجعلكم أمة وسطا
ولأن جميع الأمم عدول في الآخرة فلا يبقى في الآية تخصيص
لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الفضيلة قوله المخاطب بهذ
الخطاب هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية قلنا مر
الجواب عن مثل هذا السؤال في المسلك الأول والله أعلم وأحكم
المسلك الثالث قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون
بالمعروف وتنهون عن المنكر ولام الجنس تقتضي الاستغراق فدل على
أنهم أمروا بكل معروف ونهوا عن كل منكر فلو أجمعوا على خطأ
قولا لكان قد أجمعوا على منكر قولا ولو كانوا كذلك لكانوا
آمرين بالمنكر ناهين عن المعروف وهو يناقض مدلول الآية فإن قيل
الآية متروكة الظاهر لأن قوله كنتم خير أمة خطاب معهم وهو
يقتضي اتصاف كل واحد منهم بهذا الوصف والمعلوم خلافة فثبت أنه
لا يمكن إجراؤها على ظاهرها فنحملها على أن المراد
(4/73)
من الأمة بعضهم وعندنا أن ذلك البعض هو
الإمام المعصوم سلمنا أنه يمكن إجراء الآية على ظاهرها لكن لا
نسلم أنهم كانوا يأمرون بكل معروف لما مر في باب العموم أن
المفرد المعرف لا يفيد الاستغراق سلمنا العموم لكن الآية تقتضي
اتصافهم بالأمر بالمعروف في الماضي أو الحاضر
الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلتم بأنهم بقوا على هذه الصفة
في الحال فإن قلت لأن هذه الآية خرجت مخرج المدح لهم في الحال
ولا يجوز أن يمدح إنسان في الحال بما فعله من قبل إذا عدل عنه
إلى ضده فإن الناهي عن المنكر إذا صار آمرا به استحق الذم قلت
لا نسلم أن هذه الآية خرجت مخرج المدح ولم لا يجوز أن يقال ليس
فيها إلا بيان أن هذه الأمة كانوا قبل ذلك خيرا من سائر الأمم
ومجرد الإخبار لا يقتضي المدح سلمنا دلالتها على المدح لكن لم
لا يجوز أن يدمح على الإنسان
(4/74)
في الحال بما صدر عنه في الماضي وإن كان
يستحق الذم في الحال بما صدر عنه في الحال فإن عندنا الجمع بين
استحقاق الذم والمدح غير ممتنع على ما ثبت في مسألة الاحتياط
سلمنا دلالة الآية على حصول هذا الوصف في الحال لكن قوله عز
وجل كنتم خير أمة صريح في أن هذا الوصف إنما حصل لهم في الزمان
الماضي ومفهومه يدل على عدم حصوله في الحال سلمنا دلالة الآية
على اتصافهم بتلك الصفة في الحال ف لم لا يجوز خروجهم عنها بعد
ذلك فإنه لا نزاع في أنه يحسن مدح الإنسان بما له من الصفات في
الحال وإن كان يعلم زوالها في المستقبل فإن قلت ف يلزم أن يكون
إجماعهم حجة في ذلك الزمان قلت هب أنه كذلك لكنا لا نقطع على
شئ من الإجماعات بإنه حصل في ذلك الزمان واذا وقع الشك في الكل
خرج الكل عن كونه
حجة سلمنا اتصافهم بهذا الوصف في الماضي والحال والمستقبل لكن
الآية خطاب مع الموجودين في ذلك الوقت فيكون إجماعهم حجة أما
(4/75)
إجماع غيرهم فلا يكون حجة على ما مر من
تقرير هذا السؤال في المسلكين الأولين والجواب قوله الآية
متروكة الظاهر قلنا لا نسلم قوله لأنها تقتضي أن يكون كل واحد
منهم آمرا بالمروف وليس كذلك قلنا المخاطب بقوله تعالى كنتم
خير أمة ليس كل واحد من الأمة أما أولا فلأنه تعالى وصف
المخاطب بهذا الخطاب بكونه خير أمة فلو كان المخاطب بهذا
الخطاب كل واحد من الأمة لزم وصف كل واحد من الأمة بأنه خير
أمة وذلك غير جائز لأن الشخص الواحد لا يوصف بأنه أمه إلا على
سبيل المجاز كما في قوله تعالى إن إبراهيم كان أمة بدليل أن
المتبادر إلى الفهم من قوله حكمت الأمة بكذا المجموع وأما
ثانيا فلأنه يلزم في كل واحد أن يكون خير أمة أخرجت للناس وإن
كان كل واحد خير أمة وجب أن يكون كل واحد خيرا من صاحبه ولما
بطل ذلك ثبت أن المجموع هو المخاطب بهذ الخطاب وهو
(4/76)
يجري مجرى قول الملك لعسكره أنتم خير عسكر
في الدينا تفتحون القلاع وتكسرون الجيوش فإن هذا الكلام لا
يفهم منه أن الملك وصف كل واحد من آحاد العسكر بذلك بل إنه وصف
المجموع بذلك بمعنى أن في العسكر من هو كذلك فكذا ها هنا وصف
الله تعالى مجموع الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بمعنى أن منهم من هو كذلك وحمله على الإمام المعصوم غير جائز
لأنه واحد ولفظ الأمة لفظ الجمع قوله المفرد المعرف لا يفيد
الاستغراق قلنا كثير من الناس ذهب إلى أنه يقتضيه وأيضا فلفظ
المعرف لو لم نحمله على الاستغراق لوجب حمله على الماهية ويكفي
في العمل به ثبوته في صورة واحدة فيكون معناه أنهم أمروا
بمعروف واحد ونهوا عن منكر واحد وهذا القدر حاصل في سائر الأمم
لأن كل واحد منهم قد كان آمرا بمعروف واحد وهو الدين الذي قبله
وناهيا عن منكر واحد وهو الكفر الذي رده وحينئذ لا يثبت بذلك
كون هذه الأمة خيرا من سائر الأمم لكن الله تعالى ذكره لبيان
ذلك الحكم فعلمنا أنه وجب حمله على الاستغراق
(4/77)
تحصيلا للغرض فإنا لو لم نحمله على
الاستغراق ولا نحمله على الماهية كان ذلك مخالفا للغة قوله
الآية تقتضي الاتصاف بهذا الوصف في الماضي أو الحاضر قلنا بل
في الحاضر لأن قوله تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر لا
يتناول الماضي قولة لفظة كنتم تدل على الماضي
قلنا لا نسلم ل أن قوله كنتم إما أن تكون ناقصة أو زائدة أو
تامة فإن كنت ناقصة فنقول إنه وان أفاد تقدم كونهم كذلك لكن
قوله تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر يقتضي كونهم كذلك في
المستقبل ودلالة قوله تعالى كنتم على تقدم هذا الوصف لا يمنع
من حصوله في المستقبل فتبقى دلالة قوله تأمرون بالمعروف على
كونهم كذلك في المستقبل سليمة عن المعارض وأما الوجهان الآخران
فالاستدلال معهما ظاهر
(4/78)
قوله لم قلت إنهم يكونون في الزمان
المستقبل كذلك على هذه الصفة قلنا لأن صيغة المضارع بالنسبة
إلى الحال والاستقبال كاللفظ العام فوجب تناولها لهما معا قوله
هذه الآية خطاب مع الحاضرين قلنا مر الجواب عنه في المسلك
الأول والله أعلم المسلك الرابع التمسك بما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أن أمته لا تجتمع على خطأ والكلام ها هنا يقع
في موضعين أحدهما إثبات متن الخبر والثاني كيفية الاستدلال به
أما الأول فللناس فيه طرق ثلاثة
الفريق الأول ادعاء الضرورة في تواتر معنى هذا الخبر قالوا
لأنه نقل هذا المعنى بألفاظ مختلفة بلغت حد التواتر
(4/79)
الأول روي عنه عليه الصلاة والسلام انه قال
أمتي لا تجتمع على خطأ الثاني ما رأه المسلمون حسنا فهو عند
الله حسن الثالث لا تجتمع أمتي على ضلالة الرابع يد الله على
الجماعة رواه ابن عمر رضي الله عنهما الخامس سألت ربي أن لا
تجتمع أمتي على الضلالة فأعطيتها السادس لم يكن الله ليجمع
أمتي على الضلالة وروى ولا على خطأ وروي عن الحسن البصري وابن
أبي ليلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
(4/80)
الخبر وكان الحسن يقول إذا حدثني أربعة من
الصحابة تركتهم وقلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا
الخبر من مراسليه السابع عليكم بالسواد الأعظم وذلك جماعة
الأمة لأن كل من دونهم فالأمة بأسرها أعظم منه الثامن أبو سعيد
مرفوعا يد الله على الجماعة ولا نبالي بشذوذ من شذ التاسع من
خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام عن عنقه
العاشر من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية
(4/81)
الحادي عشر أبو أمامة مرفوعا لا تزال طائفة
من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم الثاني عشر عمران بن
الحصين مرفوعا لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق حتى
يقاتلها الدجال الثالث عشر قام ابن عمر في الناس خطيبا وقال إن
نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لا تزال طائفة من أمتي
على الحق حتى يأتي أمر الله الرابع عشر ثلاث لا يغل عليهن قلب
المؤمن إخلاص العمل لله والنصح لأئمة المسلمين ولزوم الجماعة
فإن دعوتهم تحيط من ورائهم رواه جبير بن مطعم وجابر الخامس عشر
من سره أن يسكن بحبوحه الله الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان
مع الواحد وهو من الاثنين أبعد خطب به رسول الله صلى الله عليه
وسلم وخطب به أيضا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جماعة من
(4/82)
الصحابة رضي الله عنهم السادس عشر لا تزال
طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من ناوأهم إلى يوم القيامة
السابع عشر ثوبان مرفوعا لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله
الثامن عشر أنس وقوم آخرون عنه عليه الصلاة والسلام ستفترق
أمتي كذا وكذا فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة قيل ومن تلك
الفرقة قال هي الجماعة وهذه الأخبار كلها مشتركة في الدلالة
على معنى واحد وهو أن الأمة بأسرها لا تتفق على الخطأ وإذا
اشتركت الأخبار الكثيرة في الدلالة على شئ واحد ثم إن كل واحد
من تلك الأخبار يرويه جمع كثير صار ذلك المعنى مرويا بالتواتر
من جهة المعنى
(4/83)
الطريق الثاني الاستدلال وهو من وجهين
أحدهما أن هذه الأخبار لو صحت لثبت بها أصل عظيم مقدم على
الكتاب والسنة وما هذا شأنه كانت الدواعي متوفرة على البحث عنه
بأقصى الوجوه أما الأولياء فلتصحح قال هذا الأصل العظيم بها
وأما الأعداء فلدفع مثل هذا الأصل العظيم فلو كان في متنها خلل
لاستحال ذهولهم عنه مع شدة بحثهم عنه وطلبهم له فلما لم يقدر
أحد على الطعن فيها علمنا صحتها وثانيهما أنه قد ظهر من
التابعين إجماعهم على أن الإجماع حجة وظهر منهم استدلالهم على
ذلك بهذه الأخبار والاستقراء دل على أن أمتنا لا يجمعون على
موجب خبر لأجل ذلك الخبر إلا ويكونون قاطعين بصحة ذلك الخبر
فهذا يدل على قطعهم بصحة هذا الخبر
(4/90)
الطريق الثالث أنا نسلم أن هذه الأخبار من
باب الآحاد وندعي الظن بصحتها وذلك مما لا يمكن النزاع فيه
ثم نقول إنها تدل على أن الإجماع حجة فيحصل حينئذ ظن أن
الإجماع حجة وإذا كان كذلك وجب العمل به لأن دفع الضرر المظنون
واجب وهذا الطريق أجود الطرق فنقول أما الطريق الأول وهو ادعاء
التواتر فبعيد فإنا لا نسلم بلوغ مجموع هذه الأخبار إلى حد
التواتر لأن العشرين بل الآلف لا يكون متواترا لأنه ليس يستبعد
في العرف إقدام عشرين إنسانا على الكذب في واقعة معينة بعبارات
مختلفة وبالجملة فهم مطالبون بإقامة الدلالة على أن مجموع هذه
الروايات يستحيل صدوره عن الكذب سلمنا حصول القطع بهذه الأخبار
في الجملة لكنكم إما أن تدعوا القطع بلفظها أو بمعناها أما
القطع بلفظها فهو أن يقال إنا وإن جوزنا في كل واحد من هذه
الأحاديث أن يكون كذبا إلا أنا نقطع بأن مجموعها يستحيل أن
يكون كذبا بل لا بد أن يكون بعضها صحيحا
(4/91)
وأما القطع بمعناها فهو أن يقال أن هذه
الألفاظ على اختلافهما مشتركة في إفادة معنى واحد فذلك المشترك
يصير مرويا بكل هذه الألفاظ فيصير ذلك المشترك منقولا بالتواتر
فنقول إن أردتم الأول فهو مسلم لكن المقصود لا يتم إلا إذا
بينتم أن كل واحد من هذه الألفاظ يدل على أن الإجماع حجة دلالة
قاطعة إذ لو وجد فيها ما يدل على المطلوب لا على هذا الوجه لم
يحصل الغرض
لأن الذي ثبت عندكم ليس إلا صحه أحد هذه الأخبار فيحتمل أن
يكون الصحيح هو ذلك الخبر الذي لا يدل دلالة قاطعة على حقية
الإجماع لكنا نرى المستدلين بهذه الأخبار بعد فراغهم من تصحيح
المتن يتمسكون بواحد منها على التعيين كقوله عليه الصلاة
والسلام لا تجتمع أمتي على خطأ ويبالغون فيه سؤالا وجوابا
ومعلوم أنه باطل وأما إن أردتم الثاني فنقول ذلك المعنى
المشترك بين الأخبار إما أن يكون هو أن الإجماع حجة أو معنى
يلزم منه كون الإجماع حجة فإن كان الأول فقد ادعيتم أنه نقل
نقلا متواترا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإجماع حجة
ومعلوم أن ذلك باطل وإلا لكان العلم بكون الإجماع حجة جاريا
مجرى العلم بغزوة بدر وأحد ولما وقع الخلاف فيه
(4/92)
وأيضا فإنا نراكم بعد الفراغ من تصحيح متن
هذه الأخبار تتمسكون بلفظ خبر واحد وتوردون عن عليه الأسئلة
والأجوبة ولو كان ذلك منقولا على سبيل التواتر لكان ذلك
الاستدلال عبثا وبهذا يظهر الفرق بين علمنا بشجاعة علي وسخاوة
حاتم بسبب الأخبار المتفرقة وبين هذه المسألة فإنا بعد سماع
تلك الأخبار المتفرقة لا نحتاج إلى الاستدلال ببعض تلك الأخبار
على شجاعة علي بل يحصل العلم الضروري بذلك أما ها هنا فقد
سلمتم أن بعد سماع هذه الأخبار نفتقر إلى الاستدلال ببعضها على
هذا المطلوب فعلمنا أن كون الإجماع حجة ليس جزءا من مفهوم هذه
الألفاظ
وإن ادعتيم من أن هذه الأخبار دالة على معنى مشترك بين كلها
وذلك المعنى يقتضي كون الإجماع حجة فلا بد من الإشارة إلى ذلك
المعنى ثم من إقامة الدليل على أنه يلزم من ذلك المشترك كون
الإجماع حجة وأنتم ما فعلتم ذلك فإن قلت القدر المشترك بين هذه
الأخبار تعظيم أمر هذه الأمة وبعدها عن الخطأ وما يجري هذا
المجرى قلت تدعون التواتر في مطلق التعظيم أو في تعظيم ينافي
إقدامهم
(4/93)
على الخطأ في شئ ما الأول مسلم ولا يفيد
الغرض والثاني إدعاء للتواتر في نفس كون الإجماع حجة وقد تقدم
إبطاله وأما الطريق الثاني وهو الاستدلال فضعيف قوله لو كانت
هذه الأحاديث ضعيفة لطعنوا فيها قلت وقد طعنوا فيها بأنها من
الآحاد فإن قلت إن أحدا من الصحابة والتابعين لم يقل إنها من
الآحاد بل اتفقوا على أنها متواترة سلمنا أنهم طعنوا فيها من
هذا الوجه لكن كان يجب أن يطعنوا فيها على سبيل التفصيل قلت
الجواب عن الأول إن النقل عن المؤمنين أنهم جعلوها من باب
التواتر ثبت بالتواتر أو
بالآحاد
(4/94)
الأول يقتضي كونها متواترة عندنا لأنه متى
كان الخبر متواترا وصح عندكم بالتواتر كونها متواترة عندهم لزم
كونها متواترة عندكم لكنكم في هذا المقام سلمتم أنها ليست كذلك
والثاني يقتضي أن تكون هذه الأخبار من الآحاد لأن كونها
متواترة عن الصحابة والتابعين لما لم يثبت عندنا إلا بالآحاد
كانت عندنا من باب الآحاد لأن استواء الطرفين والواسطة معتبر
في التواتر وعن الثاني أن نقول ليس كل من لا يعلم صحته وجب أن
يعلم فساده فالصحابة والتابعون ما عرفوا صحة هذه الأخبار ولا
فسادها بل ظنوا صحتها فلا يجب عليهم في هذه الحالة أن يطعنوا
فيها على سبيل التفصيل وأما الوجه الثاني في الاستدلال وهو
قوله الصحابة والتابعون اجمعوا على صحة الإجماع وانما اجمعوا
على صحته لهذا الأخبار وعادة امتنا انهم لا يجمعون على موجب
خبر لأجل ذلك الخبر إلا وكان الخبر مقطوعا به
(4/95)
قلنا المقدمات الثلاثة ممنوعة فلا نسلم
إجماع الصحابة والتابعين على صحة الإجماع سلمناه لكن لا نسلم
أنهم إنما ذهبوا إلى ذلك لأجل هذه الأخبار بل
إنما قالوا به لأجل الآيات فإن ادعوا التواتر في هذين المقامين
كان ذلك مكابرة فإن تلك الأخبار أظهر بكثير من ادعاء هذين
المقامين ولما لم يدعوا التواتر في تلك الأخبار فلأن لا يجوز
ادعاؤه في هذين المقامين كان أولى سلمنا هما لكن لا نسلم أن
عادتهم جارية بأنهم لا يجمعون على موجب خبر لأجل ذلك الخبر إلا
وقد قطعوا بصحته ألا ترى أن الصحابة أجمعوا على حكم المجوس
بخبر عبد الرحمن وأجمعوا على أن المرأة لا تنكح على عمتها ولا
خالتها بخبر واحد وبالجملة فهم مطالبون بالدلالة على هذه
العادة التي ادعوها فثبت بما ذكرنا ضعف هذه الوجوه وثبت أن
الصحيح هو الطريق الثالث وهو أن نجعلها من أخبار الآحاد
(4/96)
وعلى هذا لا نحتاج إلى تكثيرها بل كل واحد
منها يكفي في الاستدلال المقام الثاني في كيفية الاستدلال
التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على خطأ فإن
قيل إن كان المراد بقوله أمتي كل من يؤمن به إلى يوم القيامة
خرج الإجماع عن كونه حجة وإن كان المراد به الموجودين وقت نزول
ذلك الخبر دل ذلك على أن إجماعهم حجة لكنا إنما نعرف إجماعهم
إذا عرفناهم بأعيانهم وعرفنا بقاءهم إلى ما بعد وفاة الرسول
صلى الله عليه وسلم وذلك غير معلوم فحينئذ يخرج الإجماع عن
كونه حجة
سلمنا أن المراد بالأمة أهل كل عصر لكن لم قلت إن هذه اللفظة
تدل على نفي الخطأ عنهم لاحتمال أن قوله لا تجتمع أمتي على خطأ
جاء بسكون العين على أن يكون ذلك نهيا منه صلى الله عليه وسلم
لأمته عن أن يجتمعوا على خطأ فاشتبه ذلك على الراوي فنقله
مرفوعا على أن يكون خبرا
(4/97)
سلمنا كونه خبرا لكن لم قلت إنه يدل على
نفي الخطأ بأسره عنهم ولا نسلم أن النكرة في النفي تعم وإذا
كان كذلك فإما أن نحمله على نفي السهو أن نفي الكفر جمعا بينه
وبين الحديث المروي في هذا الباب وهو قوله صلى الله عليه وسلم
أمتي لا تجتمع على ضلالة سلمنا كون الأمة مصيبين في كل أقوالهم
وأفعالهم فلم لا يجوز مخالفتهم فإن المجتهد قد يكون مصيبا مع
أن المجتهد الآخر يكون متمكنا من مخالفته والجواب أما السؤال
الأول فمدفوع بسائر الأحاديث الواردة في هذا الباب وهي قوله
صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق
وقوله ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وقوله من فارق
الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه قوله لعل هذا
الحديث ورد على صيغة النهي قلنا عدالة الراوي تفيد ظن صحة تلك
الرواية ومطلوبنا ها هنا الظن وإلا لو فتحنا هذا الباب لا نسد
باب الاستدلال بأكثر
النصوص
(4/98)
ثم إنه مدفوع بسائر الأحاديث وأما أن
النكرة في النفي تعم فقد تقدم بيانه في باب العموم قوله نحمله
نفي السهو قلنا اجتماع الجمع العظيم على عدم السهو ممتنع ف لا
يمكن ذكره في معرض التعظيم ولأنه لا يكون في تخصيص أمته بذلك
فضيلة قوله نحمله على نفي الكفر كقوله صلى الله عليه وسلم لا
تجتمع أمتي على ضلالة قلنا كل حديث مستقل بنفسه ولأن الضلال لا
يقتضي الكفر قال الله تعالى ووجدك ضالا فهدى وقال فعلتها إذن
وأنا من الضالين قوله هب أن الأمة مصيبون في إجماعهم فلم لا
تجوز مخالفتهم قلت لأن الأمة على قولين منهم من قال إن الإجماع
حجة لا تجوز مخالفته
(4/99)
ومنهم من قال أنه ليس بحجة فلو قلنا إنه
حجة تجوز مخالفتها لكان قولا خارجا عن أقول الأمة فلو كان الحق
ذلك لكانت الأمة متفقين على الخطأ وذلك باطل بالحديث المسلك
الخامس دليل العقل وهو الذي عول عليه إمام الحرمين رحمه الله
فقال إجماع الخلق
العظيم على الحكم الواحد يستحيل أن يكون إلا لدلالة أو أمارة
فإن كان لدلالة فقد كشف الإجماع عن وجود تلك الدلالة فيكون
خلاف الإجماع خلافا لتلك الدلالة وإن كان لأمارة فقد رأينا
التابعين قاطعين بالمنع عن مخالفة هذا الإجماع فلولا اطلاعهم
على دلالة قاطعة مانعة من مخالفة هذا الإجماع وإلا لاستحال
اتفاقهم على المنع من مخالفته وهذه الدلالة ضعيفة جدا لاحتمال
أن يقال إنهم قد اتفقوا على الحكم لا لدلالة ولا لأمارة بل
لشبهة وكم من المبطلين من
(4/100)
كثرتهم وتفرقهم في الشرق والغرب قد اتفقت
كلمتهم لأجل الشبهة سلمنا الحصر فلم لا يجوز أن يكون لأمارة
تفيد الظن قوله رأينا الصحابة مجمعين على المنع من مخالفة هذا
الإجماع وذلك يدل على اطلاعهم على دليل قاطع مانع من مخالفة
هذا الإجماع قلنا لا نسلم اتفاق الصحابة على ذلك سلمناه لكنك
لما جوزت حصول الإجماع لأجل الأمارة فلعلهم أجمعوا على المنع
من مخالفة الإجماع الصادر عن الأمارة لأمارة أخرى فإن قلت إنهم
لا يتعصبون في الإجماع الصادر عن الأمارة وقد تعصبوا في هذا
الإجماع فدل على أن هذا الإجماع ما كان عن أمارة قلت إذا سلمت
إنهم لا يتعصبون في الإجماع الصادر عن الأمارة ف قد بطل قولك
إنهم منعوا من مخالفة هذا الإجماع
المسألة الرابعة أما الشيعة فقد استدلوا على أن الإجماع حجة
بأن زمان التكليف لا يخلو عن الإمام المعصوم ومتى كان كذلك كان
الإجماع حجة
(4/101)
بيان الأول يتوقف على إثبات أمرين الأول
أنه لا بد من الإمام والدليل عليه أن الإمام لطف وكل لطف واجب
فالإمام واجب وإنما قلنا أن الإمام لطف لأنا نعلم أن الخلق إذا
كان لهم رئيس قاهر يمنعهم عن القبائح ويحثهم على الواجبات كان
حالهم في الإتيان بالواجب والاجتناب عن القبيح أتم من حالهم
إذا لم يكن لهم هذا الرئيس والعلم بذلك بعد استقراء العادة
ضروري وإنما قلنا إن اللطف واجب لوجهين الأول أن اللطف
كالتمكين في كونه إزاحة لعذر المكلف فإذا كان التمكين واجبا
فكذا اللطف إنما قلنا إن اللطف كالتمكين لأنه يثبت في الشاهد
أن أحدنا إذا دعا غيره إلى طعام وكان غرضه نفع ذلك الغير وبقي
على ذلك الغرض إلى وقت التناول ولم يبدله وعلم أنه متى تواضع
له فإنه يتناول طعامه ومتى لم يفعل ذلك لم يتناوله فإنه تركه
التواضع في هذه الحال يجرى مجرى رد الباب عليه والعلم به ضروري
الثاني أن المكلف لو لم يجب عليه فعل اللطف لم يقبح منه فعل
المفسدة
(4/102)
أيضا لأنه لا فرق في العقل بين فعل ما
يختار المكلف عنده القبيح وبين ترك ما يخل المكلف عنده بالواجب
فثبت إن اللطف واجب وثبت أنه لا بد في زمان التكليف من الإمام
الثاني أن ذلك الإمام يجب أن يكون معصوما والدليل عليه أنه
إنما احتاج الخلق إلى الإمام لصحة القبيح عليهم فلو تحققت هذه
الصحة في الأمام لافتقر الإمام إلى إمام اخر ولزم التسلسل وهو
محال فثبت أنه يجب أن يكون معصوما وثبت أنه لا بد في زمان
التكليف من إمام معصوم وإذا ثبت هذا وجب كون الإجماع حجة لأنه
مهما اتفق العلماء على حكم فلا بد وأن يوجد في أثناء قولهم قول
ذلك المعصوم لأنه أحد
(4/103)
العلماء بل هو سيدهم وإلا لم يكن ذلك قولا
لكل الأمة وقول المعصوم حق فإذن إجماع الأمة يكشف عن قول
المعصوم الذي هو حق فلا جرم قلنا الإجماع حجة قالوا وظهر بهذا
أن العلم بكون الإجماع حجة لا يتوقف على العلم بالنبوة أصلا
وأن إجماع كل الأمم حجة كما أن إجماع أمتنا حجة والسؤال عليه
أنا لا نسلم أنه لا بد من إمام ولا نسلم أنه
لطف ولا نسلم أن الخلق إذا كان لهم رئيس يمنعهم عن القبائح
ويحثهم على الطاعات كانوا أقرب إليها مما إذا لم يكن لهم هذا
الرئيس بيانه أنكم تزعمون إن الله عز وجل ما أخلى العالم قط من
رئيس فقولكم وجدنا متى خلا عن الرئيس حصلت المفاسد باطل لأنكم
إذا لم تجدوا العالم خاليا عنه قط ف كيف يمكنكم أن تقولوا إنا
وجدنا العالم متى خلا عن الإمام حصلت المفاسد بل الذي جربناه
أنه متى كان الإمام في الخوف والتقية حصلت المفاسد لكنكم لا
توجبون ظهوره
(4/104)
وقوته فالذي تريدونه من أن ظهور المفسدة
عند عدمه أزيد مما وجدتموه عند خوفه وتستره شئ ما جربتموه
والذي جربتموه وهو ظهور المفسدة عند ضعفه وخوفه فأنتم لا
تقولون به فظهر فساد قولكم سلمنا إمكان هذه التجربة لكنا نقول
تدعون اندفاع هذه المفاسد بوجود الرئيس كيف كان أو بوجود
الرئيس القاهر الأول ممنوع فلا بد من الدلالة واستقراء العرف
لا يشهد لهم البتة لأن الخلق إنما ينزجرون من السلطان القاهر
فأما السلطان الضعيف فلا بل الشخص الذي لا يرى ولا يعرف ولا
يظهر منه في الدنيا أثر ولا خبر فإنه لا يحصل بسببه انزجار عن
القبائح ولا رغبة في الطاعات فلم قلتم إن مثل هذا الإمام يكون
لطفا وإن أرددتم في الثاني فهو مسلم لكنكم لا توجبونه فالحاصل
أن الذي عرف بالاستقراء كونه لطفا أنتم لا توجبونه والذي
توجبونه لا يعرف بالاستقراء كونه لطفا
(4/105)
فإن قلت نحن الآن في إثبات وجوب أصل الإمام
فأما البحث عن كيفية فذاك يتعلق بالفضل ونحن الآن لا نتكلم فيه
ثم السبب في تستره ظاهر وهو أن الإمام لو أزيل عنه الخوف لظهر
ولزجر بن الناس عن القبائح ورغبهم في الطاعات فحيث أخافوه كان
الذنب من قبلهم قلت إنكم ادعيتم وجوب نصب الإمام كيف كان سواء
كان ظاهرا أو مخفيا ودللتم على وجوبه بكونه لطفا ودللتم على
كونه لطفا بتفاوت حال الخلق معه في الطاعات والمعاصي فلا بد من
إثبات هذه المقدمة عند وجود الإمام كيف كان الإمام حتى يمكن
الاستدلال به على وجود الأمام كيف كان ونحن نمنع ذلك فإن
تمسكتم باستقراء أحوال العالم قلنا ذلك التفاوت إنما يحصل من
الإمام القاهر وأنت محتاج إلى بيان حصول التفاوت من وجود
الإمام كيف كان فما لم تشتغلوا بإثبات هذه المقدمة لا يتم
دليلكم فأي نفع لكم ها هنا في أن تذكروا السبب في غيبته وخوفه
سلمنا أن نصب الإمام يقتضي تفاوت حال الخلق من الوجه الذي
ذكرتموه لكنه متى يجب نصبه إذا خلا عن جميع جهات القبح أو إذا
لم يخل
(4/106)
الأول
مسلم ولكن دليلكم لا يتم إلا إذا أقمتم الدلالة على خلوه عن
جميع جهات المفسدة وأنتم ما فعلتم ذلك والثاني ممنوع لأن
بتقدير اشتماله على جهة واحدة من جهات القبح لا يجوز نصبه لأنه
يكفي في كون الشئ قبيحا اشتماله على جهة من جهات القبح ولا
يكفي في حسنه اشتماله على جهة واحدة من جهات الحسن ما لم يعرف
انفكاكه عن كل جهات القبح فإن قلت ما ذكرته مدفوع من أربعة
أوجه أحدها أنه لو جاز القدح في كون الإمام لطفا بما ذكرته جاز
القدح في كون معرفة الله تعالى لطفا بذلك لأن الذي يمكننا في
بيان أن معرفة الله تعالى لطف هو أنها باعثة على أداء الواجبات
والاحتراز عن القبائح العقلية فأما بيان خلوها عن جميع جهات
القبح فمما لو يوجبه أحد فلو قدح هذا في كون الإمامة لطفا لقدح
في كونه معرفة الله تعالى لطفا وثانيها أن ما ذكرته يفضي إلى
تعذر القطع بوجوب شئ على الله تعالى
(4/107)
لكونه لطفا لأنه لا شئ يدعى كونه لطفا إلا
والاحتمال المذكور قائم فيه وثالثها أنه لا دليل على اشتمال
الإمامة على جهة قبح وما لا دليل عليه وجب نفيه ورابعها
أن جهات القبح محصورة وهي كون الفعل كذبا وظلما وجهلا وغيرها
من الجهات وهي بأسرها زائلة عن الإمامة فوجب القطع ينفي
اشتمالها على جهة من جهات القبح قلنا أما الأول فغير لازم لأن
هذا الاحتمال الذي ذكرناه في الإمامة إن كان بعينه قائما في
المعرفة من غير فرق وجب الجواب عنه في الموضعين ولا يلزم من
تعذر الجواب عنه في الصورتين الحكم بسقوطه من غير جواب وإن حصل
الفرق بين الصورتين بطل ما ذكرتموه ثم إن الفرق أن معرفة الله
عز وجل من الألطاف التي يجب علينا فعلها فإذا علمنا اشتمال
المعرفة على جهة مصلحة ولم نعلم اشتمالها على جهة مفسدة غلب
على ظننا كونها لطفا والظن في حقنا قائم مقام
(4/108)
العلم في اقتضاء العمل فإنه كما يقبح
الجلوس تحت الجدار المائل الذي يعلم سقوطه كذلك يقبح إذا ظن
ذلك فلا جرم وجب علينا فعل المعرفة أما الإمامة فهي من الألطاف
التي توجبونها على الله عز وجل ولا يكفي في الإيجاب على الله
تعالى ظن كونها لطفا لأنه عز وجل عالم بجميع المعلومات فما لم
يثبت خلو الفعل عن جميع جهات القبح لا يمكن إيجابه على الله عز
وجل فظهر الفرق وعن الثاني أنا لا نقول في فعل معين إنه لطف
فيكون واجبا على الله عز
وجل لأن الاحتمال المذكور قائم فيه بل نقول الذي يكون لطفا في
نفسه فإنه يجب فعله على الله عز وجل وذلك لا يقدح فيه الاحتمال
المذكور وعن الثالث أن نقول ما المراد من قولك ما لا دليل عليه
وجب نفيه إن عنيت به أن ما لا يعلم عليه دليل وجب نفيه فهذا
باطل وإلا وجب على العوام نفي أكثر الأشياء لعدم علمهم بأدلتها
(4/109)
وإن عنيت أن ما لا يوجد دليل عليه في نفس
الأمر في نفس الآمر! وجب نفيه فهذا أيضا ممنوع وبتقدير التسليم
لكن لا نسلم أنه لم يوجد عليه دليل فلعله وجد وأنتم لا تعلمونه
فإن قلت سبرت وبحثت فما وجدت قلت أقم الدلالة على أن عدم
الوجدان يدل على عدم الوجود وعن الرابع أن صوم أول يوم من شوال
لم يشتمل على كونه ظلما وجهلا وكذبا مع أنه قبيح فجوز ها هنا
مثله وبالجملة فالتقسيم الذي يكون حجة هو المنحصر أما غيره فلا
سلمنا أنه لا بد في القدح في كونه لطفا من تعيين جهة المفسدة
لكن ها هنا جهتان أحداهما أن نصب الإمام يقتضي كون المكلف
تاركا للقبيح لا لكونه قبيحا بل للخوف من الإمام
(4/110)
وإما عند عدم الإمام فالمكلف إنما يتركه
لقبحه لا للخوف من الإمام فإن قلت هذا باطل بترتب العقاب على
فعل القبيح فإنه يقتضي أن يكون المكلف تاركا للقبيح لا لقبحه
بل للخوف من العقاب قلت أنا سائل فيكفيني أن أقول لم لا يجوز
أن تكون هذه الجهة مفسدة مانعة وعليك الدلالة على أنها ليست
كذلك ولا يلزم من قولنا ترتيب العقاب عليه لا يقتضي هذه الجهة
من المفسدة أن يكون نصب الإمام غير مقتض لها لاحتمال أن يكون
حال كل واحدة منهما بخلاف حال الآخر والذي يحقق ذلك أن ترتيب
العقاب على فعل القبيح لا يعلم إلا بالشرع فقبل ورود الشرع
يجوز أن تكون فيه مفسدة من هذه الجهة فلما ورد الشرع به علمنا
أنه لا مفسدة فيه من هذه الجهة لأن الشرع لا يأتي بالمفسدة
فنظيره في مسألتنا أن تقولوا يجوز قبل ورود الشرع أن يكون نصب
الإمام مفسدة من هذه الجهة فلما ورد الشرع به علمنا أنه لم يكن
مفسدة من هذه الجهة لكن على هذا التقدير يصير وجوب الإمامة
شرعيا
(4/111)
وثانيهما أن يقال فعل الطاعة وترك المعصية
عند عدم الإمام أشق منهما عند وجوده فيكون نصب الإمام سببا
لنقصان الثواب من هذا الوجه وبتقدير هذا الاحتمال فلا نسلم أنه
يحسن نصب الإمام فضلا عن
وجوبه سلمنا أن الإمام لطف لكن في كل الأزمنة أو في بعضها
الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أن من الجائز أن يتفق في بعض
الأزمنة وجود قوم يستنكفون عن طاعة الغير ويعلم الله تعالى
منهم أنه متى نصب لهم رئيسا قصدوه بالقتل وإثاره الفتن العظيمة
وإذا لم ينصب لهم رئيسا فإنهم لا يقدمون على القبائح ولا
يتركون الواجبات فيكون نصب الرئيس في ذلك الوقت مفسدة ثم هذا
وإن كان نادرا إلا أنه لا زمان إلا ويجوز أن يكون هو ذلك
الزمان النادر وحينئذ لا يمكن الجزم بوجوب نصب الإمام في شئ من
الأزمنة
(4/112)
فإن قلت هذا مدفوع من وجهين الأول إن
الاستنكاف إنما يكون عن الرئيس المعين وليس الكلام الآن فيه بل
في مطلق الرئيس الثاني أن هذه مفسدة نادرة والمفاسد الحاصلة
عند عدم الإمام غالبة وإذا تعارض الغالب والنادر كان الغالب
أولى بالدفع قلت الجواب عن الأول أنه كما يتفق الاستنكاف عن
طاعة رئيس معين فقد يتفق الاستنكاف
عن طاعة مطلق الرئيس وأيضا فإذا سلمتم أن الاستنكاف قد يقع عن
طاعة الرئيس المعين فيكون نصب ذلك المعين مفسدة ثم إذا لم يمكن
تحصيل المطلق إلا في ذلك المعين كما هو قولكم في الإمامة في
أشخاص معينين كان ذلك المطلق أيضا مفسدة وعن الثاني هب أن
الزمان الذي يقع فيه ذلك الاحتمال نادر إلا أن كل زمان لما
(4/113)
احتمل أن يكون هو ذلك النادر لم يمكنا
القطع بوجوب نصبه في شئ من الأزمنة سلمنا أن الإمامة لطف في كل
الأزمنة لكنها لطف يقوم غيرها مقامها أو لا يقوم الأول مسلم
ولكن لما قام غيرها مقامها لم يمكن الجزم بوجوبها على التعين
والثاني ممنوع فلا بد من الدلالة عليه ثم إنا نبين إمكان البدل
على الإجمال تبرعا فنقول إنكم توجبون عصمة الإمام ولسيت عصمة
الإمام بإمام اخر معصوم وإلا وقع التسلسل فإذن له شئ سوى
الإمام وقع لطفا في الاحتراز عن القبائح وأداء الواجبات وإذا
ثبت ذلك في الجملة فلم لا يجوز أن يحصل للأمة لطف قائم مقام
الإمام وحينئذ لا يكون نصب الإمام واجبا عينا
سلمنا كون الإمام لطفا على التعين لكن في المصالح الدنيوية أو
الدينية
(4/114)
الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أن ما
ذكرتموه من منفعة وجود الأمام ليس إلا في حصول نظام العالم
واندفاع الهرج والمرج وذلك كله مصلحة دنيوية وتحصيل الأصلح في
الدنيا غير واجب على الله تعالى فما يكون لطفا فيه أولى أن لا
يجب أو في إقامة الصلوات وأخذ الزكوات وذلك كله مصالح شرعية
فما يكون لطفا فيه لا يجب وجوده عقلا وإن ادعيتم كونه لطفا في
شئ آخر وراء ذلك فهو ممنوع فإن قلت الإمام لطف في المصالح
الدينية العقلية لأنه إذا زجرهم عن القبائح وأمرهم بالواجبات
العقلية مرة بعد أخرى تمرنت نفوسهم عليها وإذا تمرنت نفوسهم
عليها تركوا القبائح لقبحها وأتوا بالواجبات لوجه وجوبها وذلك
مصلحة دينية قلت لا نسلم تفاوت حال الخلق بسبب وجود الإمام في
هذا المعنى فإن بوجود الإمام ربما وقعت أحوال القلوب على ما
ذكرتموه وربما صارت بالضد من ذلك لأنهم إذا أبغضوه بقلوبهم
وعاندته نفوسهم ازدادت المفسدة وربما أقدموا على الأفعال
والتروك لمحض الخوف منه وبالجملة فالتفاوت الحاصل في أحوال
الخلق إنما يظهر فيما عددناه من المصالح الدنيوية أو فيما
عددناه من المصالح الشرعية
(4/115)
فأما فيما تعدونه من المصالح الدينية
العقلية فهذا التفاوت ممنوع فيه فإن الاحتمالات متعارضة فيها
سلمنا أنه لطف فلم قلتم إن كل لطف واجب قوله في الوجه الأول
فعل اللطف جار مجرى التمكين قلنا هذا قياس وقد بينا أنه لا
يفيد اليقين ثم نقول لا نسلم أن فعل اللطف جار مجرى التمكين
قوله من قدم الطعام إلى إنسان وأراد منه تناوله إلى اخره قلنا
لا نسلم أن ترك التواضع في تلك الحالة يقدح في تلك الإرادة على
الإطلاق بيانه أن الإرادات مختلفة فقد يريد الإنسان من غيره أن
يتناول طعامه إرادة في الغاية حتى يقرر مع نفسه أنه يفعل كل ما
يعلم أن ذلك الضيف لا يتناول طعامه إلا عند فعله وقد تكون
الإرادة لا إلى ذلك الحد كمن يقول أريد أن تأكل طعامي لكن لا
إلى حيث أنك لو لم تأكل طعامي إلا عند تقبيلي هذه رجلك فعلته
بل إرادة دون ذلك إذا لبث هذا فنقول الإرادة إن كانت على الوجه
الأول كان ترك التواضع قادحا في تحققها لكن لو كانت على الوجه
الثاني لم يلزم من عدم التواضع عدمها
(4/116)
إذا ثبت هذا فنقول لم قلت أن الله عز وجل
أراد من المكلفين فعل الطاعات والاجتناب عن القبائح إرادة على
الوجه الأول حتى يلزمه
فعل اللطف بيانه أن التكليف تفضل وإحسان والمتفضل لا يجب عليه
أن يأتي بجميع مراتب التفضل قوله في الوجه الثاني أن ترك اللطف
كفعل المفسدة قلنا إنه قياس فلا يفيد اليقين لاحتمال أن ما به
وقع التغاير يكون شرطا أو مانعا ثم نقول الفرق أن فعل المفسدة
إضرار وترك اللطف ترك للإنفاع سنة وليس يلزم من قبح الإضرار
قبح ترك الإنفاع فإنه يقبح منا الإضرار بالغير ولا يقبح ترك
إنفاعه عمرو سلمنا أنه يجب فعل اللطف لكن يجب فعل اللطف المحصل
أو فعل اللطف المقرب الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلتم إن
الإمام لطف محصل
(4/117)
بيانه أنه لا يمكن القطع بأنه عند وجود
الإمام يقدم الإنسان على الطاعة ويحترز عن المعصية لا محالة بل
الذي يمكن ادعاوه قبل أن الإنسان عند وجود الإمام يكون أقرب
إلى الطاعة وأبعد عن المعصية فيكون الإمام لطفا مقربا وإذا كان
كذلك فلم قلت بوجوبه على الله تعالى وخرج على هذه المسألة
مسألة الضيف فإن المضيف إنما يجب عليه التواضع للضيف إذا علم
أنه لو تواضع له لأجابه إلى المقصود أو ظن ذلك
فأما إذا علم قطعا أنه لا يجيب به إليه فلا نسلم أنه يحسن منه
فعل ذلك التواضع فضلا عن الوجوب وعلى هذا لا يبعد أن يوجد زمان
علم الله أن نصب الإمام في ذلك الزمان لا يكون لهم لطفا محصلا
فلم قلت يجب على الله عز وجل نصب الإمام في ذلك الزمان سلمنا
أن اللطف واجب مطلقا لكن متى إذا أمكن فعله أو إذا لم يمكن
الأول مسلم والثاني ممنوع
(4/118)
بيانه إذا علم الله عز وجل أن كل من خلقه
في ذلك الزمان فإنه يكون كافرا أو فاسقا فحينئذ لا يكون خلق
المعصوم في ذلك الزمان مقدورا له وإذا كان كذلك فلم قلت أنه لا
يحسن التكليف في هذه الحالة وإذا حسن هذا التكليف جوزنا في كل
زمان أن يكون هو ذلك الزمان فلا يمكننا القطع بوجوب الإمام في
شئ من الأزمنة وخرج عليه مسألة الضيف فإن هناك إنما يجب عليه
التواضع إذا كان ذلك التواضع مقدورا له فأما إذا لم يكن مقدورا
له لم يتوقف التماس المضيف تناول الطعام على فعل التواضع بل
حسن ذلك الالتماس بدون التواضع سلمنا كل ما ذكرتموه ولكنه بناء
على التحسين والتقبيح العقليين وإنه باطل على ما ثبت في الكتب
الكلامية
فهذا هو الاعتراض على مقدمات دليلهم على الترتيب ثم نقول
دليلكم منقوض بصور
(4/119)
إحداها أنه لو كان القضاة والأمراء والجيوش
معصومين لكان حال الخلق في الاجتناب عن القبائح أقرب مما إذا
لم يكن كذلك وثانيتها أنه لو وجد في كل بلد امام معصوم
وثالثتها لو كان الإمام عالما بالغيوب وقادرا على التصرف في
الشرق والغرب والسماء والأرض ورابعتها لو كان بحيث لو شاء
لاختفى يحيى عن الاعين ولطار الرحمن مع الملائكة فإن خوف
المكلفين ها هنا يشتد منه لأن كل أحد يقول لعله معي وإن كنت لا
أراه فكان انزجاره عن القبيح أشد ولا خلاص عن هذه الإلزامات
إلا بأحد أمرين الأول أن يقال إن هذه الأشياء وإن حصلت فيها
هذه المنافع لكن علم الله تعالى فيها وجه مفسدة لا نعلمه نحن
ولذلك لم يجب على الله تعالى فعلها الثاني أن يقال إنها وإن
كانت خالية عن جميع جهات المفسدة لكن لا
(4/120)
يجب على الله تعالى فعلها ثم أن كل واحد من
هذين الاحتمالين قائم فيما ذكروه فيبطل به أصل دليلهم
سلمنا أنه لا بد من الإمام فلم قلت إنه معصوم قوله ولو لم يكن
معصوما لافتقر إلى لطف اخر قلنا نعم لكن لم لا يجوز أن يكون
ذلك اللطف هو الأمة فإنا قبل قيام الدلالة على أن الإجماع حجة
نجوز كونه حجة وذلك التجويز يكفينا في ذلك المقام لأنهم هم
المستدلون فيكفينا أن نقول لم لا يجوز أن يكون الإمام لطفا لكل
واحد من آحاد الأمة ويكون مجموع الأمة لطفا للإمام فعليهم
إقامة الدليل على أنه لا يجوز أن يكون مجموع الأمة معصوما
ومعلوم أنه لا يكفي في ذلك قدحهم في أدلتنا على أن الإجماع حجة
سلمنا كونه معصوما فلم قلت إن الإجماع يشتمل على قوله وتقريره
ما بيناه في أول الباب أن العلم باتفاق كل الناس بحيث
(4/121)
يقطع بأنه لم يشد واحد منهم في الشرق
والغرب متعذر لا سبيل اليه سلمنا وجود قوله لكن لا نسلم أن
قوله صواب لأن عندهم يجوز أن يفتي الإمام بالكفر والبدعة على
سبيل التقية والخوف ويحلف بالله تعالى والأيمان التي لا مخرج
منها أن الأمر كذلك وإذا كان كذلك فلعله لما رأى أهل العالم
متفقين على ذلك القول خاف من مخالفتهم فأظهر الموافقة على ذلك
الباطل كيف وعندهم قد أظهر علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع
جميع رهط الهاشميين والأمويين والأنصار التقية خوفا من أبي بكر
ومن عمر رضي الله عنهما مع قلة أنصارهما وكان وأعوانهما فإذا
جاز الخوف والتقية في هذه
الصورة فكيف لا يخاف الرجل الواحد جميع أهل العالم عند اتفاقهم
على الباطل
(4/122)
سلمنا أنه افتى به عن اعتقاد فلم لا يجوز
أن يكون ذلك خطأ
(4/123)
من باب الصغائر وعند ذلك يحتاجون إلى إقامة
الدلالة على أنه لا تجوز الصغيرة على الأئمة فإن عولوا فيه على
حديث التنفير فهو ضعيف لأن العجز الشديد والفتوى بالكفر والفسق
وإباحة الدماء والفروج مع الأيمان الغليظة أدخل في باب التنفير
من وقوع الصغيرة فإذا جاز أن لا يكون منزها عنه فلم لا يجوز أن
لا يكون منزها عن الصغيرة فهذا ما على هذه الطريقة من
الاعتراضات ومن أحاط بها تمكن من القدح في جميع مذاهب الشيعة
أصولا وفووعا روى! لأن أصولهم في الإمامة مبنية على هذه
القاعدة ومذاهبهم في فروع الشريعة مبنية على التمسك بهذا
الإجماع والله أعلم
(4/124)
القسم الثاني فيما
أخرج من الإجماع وهو منه المسألة
الأولى كل مسألة فالحكم فيها إما أن يكون بالإيجاب الكلي أو
بالسلب الكلي أوبالإيجاب في البعض والسلب في البعض فهذه
احتمالات ثلاثة لا مزيد عليها فإذا اختلف أهل العصر الأول على
قولين من هذه الثلاثة فهل لمن
بعدهم أن يذكروا الثالث الأكثرون منعوه وأهل الظاهر جوزوه
(4/127)
والحق أن إحداث القول الثالث إما أن يلزم
منه الخروج عما أجمعوا عليه أو لا يلزم فإن كان الأول لم يجز
إحداث القول الثالث مثاله الأمة اختلفت في الجد مع الأخ على
قولين منهم من جعل المال كله للحد ومنهم من قال إنه يقاسم الأخ
فالقول الثالث وهو صرف المال كله إلى الأخ غير جائز لأن أهل
العصر الأول القائلين بالقولين الأولين اتفقوا على أن للجد
قسطا من المال فالقول بصرف المال كله إلى الأخ يبطل ذلك
(4/128)
وأما الثاني فإن إحداث القول الثالث فيه
جائز لأن المحذور مخالفة الإجماع أو القول بما يلزم منه
مخالفته فأما إذا لم يكن إحداث القول كذلك وجب جوازه واحتج
المانعون بأمرين أحدهما أن الأمة لما اختلفت على قولين فقد
أوجب كل واحد من الفريقين الأخذ إما بقوله أو بقول صاحبه
وتجويز القول الثالث يبطل ذلك فإن قلت إنهم إنما أوجبوا ذلك
بشرط أن لا يظهر وجه ثالث فإذا ظهر
فقد زال شرط ذلك الإجماع قلت لو جوزنا هذا الاحتمال لجوزنا أن
يقال إنما أوجبوا التمسك بالإجماع على القول الواحد بشرط أن لا
يظهر وجه القول الثاني فإذا ظهر فقد زال شرط ذلك الإجماع فيجوز
الخلاف وثانيهما أن الذهاب إلى القول الثالث إنما يجوز لو أمكن
كونه حقا ولا يمكن كونه حقا إلا عند كون الأولين باطلين ضرورة
أن الحق واحد وحينئذ يلزم إجماع الأمة على الباطل
(4/129)
والجواب عن الأول أن ايجاب الأخذ بأحد ذينك
القولين مشروط بأن لا يظهر الثالث قوله لو جاز ذلك لجاز مثله
في القول الواحد قلنا إنه جائز لكنهم منعوا من اعتباره فليس
لنا أن نتحكم عليهم بوجوب التسوية وعن الثاني أن هذا الإشكال
غير وارد على القول بأن كل مجتهد مصيب فإنه لا يلزم من حقية
أحد الأقسام فساد الباقي وأما على القول بأن المصيب واحد فلا
يلزم من التمكن من إظهار القول الثالث كونه حقا لأن المجتهد قد
تمكن من العمل بالإجتهاد الخطأ والله أعلم المسألة الثانية
الأمة إذا لم تفصل بين مسألتين فهل لمن بعدهم أن يفصل بينهما
واعلم أن هذا يقع على وجهين أحدهما أن يقولوا لا فصل بين هاتين
المسألتين في كل الأحكام أو في
(4/130)
الحكم الفلاني والآخر أن لا ينصوا على ذلك
لكن ما كان فيهم من فرق بينهما أما القسم الأول فإنه لا يجوز
الفصل بينهما ثم إنه على ثلاثة أقسام أحدها أن تحكم الأمة في
المسألتين بحكم واحد إما ب التحليل أو بالتحريم وثانيها أن
يحكم بعض الأمة فيهما بالتحريم والبعض الآخر بالتحليل وثالثها
أن لا ينقل الينا عنهم حكم فيهما ففي هذه الصورة الثالثة متى
دل الدليل في إحدى المسألتين على تحليل أو تحريم وجب أن يكون
الحال في الأخرى كذلك وأما القسم الثاني فقيل فيه إن علم أن
طريقة الحكم في المسألتين واحدة فذلك جار مجرى أن يقولوا لا
فصل بينهما فمن فصل بينهما فقد خالف ما اعتقدوه
(4/131)
مثاله من ورث العمة ورث الخالة ومن منع
إحداهما منع الأخرى وإنما جمعوا بينهما من حيث انتظمهما حكم
ذوي الأرحام فهذا مما لا يسوغ خلافهم فيه بتفريق ما جمعوا
بينهما إلا أن هذا الاجماع متأخر عن سائر الإجماعات في القوة
وأما إن لم يكن كذلك فالحق جواز الفرق لمن بعدهم لأنه لا يكون
بذلك مخالفا لما أجمعوا عليه لا في حكم ولا في علة حكم ولأنه
لو امتنع الفرق لكان من وافق الشافعي رضي الله عنه في مسألة
لدليل وجب عليه أن يوافقه في كل المسائل احتج المانعون من
الفصل مطلقا بوجهين
(4/132)
الأول أن الأمة إذا قال نصفها بالحرمة في
المسألتين وقال النصف الآخر بالحل فيهما فقد اتفقوا على أنه لا
فصل بين المسألتين فيكون الفصل بينهما رد للإجماع الثاني أن
الأمة إذا اختلفت على قولين في مسألتين فقد أوجبت كل واحدة من
الطائفتين على الأخرى أن تقول بقولها أو بقول الطائفة الأخرى
وحظرت ما سوى ذلك وذلك يمنع من الفرق بين المسألتين والجواب عن
الأول إنكم إن عنيتم بقولكم اتفقوا على أنه لا فصل بينهما أنهم
نصوا على استوائهما في الحكم أو هما مستويان في علة الحكم فليس
كذلك لأن النزاع ليس ها هنا
وإن عنيتم به أن كل من قال بأحدى المسألتين فقد قال أيضا
بالأخرى فلم قلتم أن ذلك يمنع من الفصل فإن هذا أول المسألة
وعن الثاني أنهم إنما أوجبوا ذلك بشرط أن لا يفرق بعض
المجتهدين بين
(4/133)
المسألتين فإن أدعوا أنه لا التفات إلى هذا
الشرط فهذا عين المتازع ولم فيه ومن الناس من جوز الفصل مطلقا
استدلالا بعمل ابن سيرين في زوج وأبوين أن للام ثلث ما يبقى
وقال في امرأة وأبوين للام ثلث المال فقال في إحداهما بقول ابن
عباس وفي الأخرى بقول عامة الصحابة والثوري قال الجماع ناسيا
يفطر والأكل ناسيا لا يفطر وفرق بين المسألتين مع أنه جمعتهما
طريقة واحدة والله أعلم
(4/134)
المسألة الثالثة يجوز حصول الاتفاق بعد
الخلاف وقال الصيرفي لا يجوز لنا إجماع الصحابة على إمامة ابي
بكر رضي الله عنه بعد اختلافهم فيها
(4/135)
واتفاق التابعين على المنع من بيع أمهات
الأولاد بعد اختلاف الصحابة
فيه احتج الخصم بأن أهل العصر الأول اتفقوا على جواز الأخذ بأي
(4/136)
القولين كان إذا أدى الاجتهاد إليه فلو
أجمعوا على أحد القولين وجب أن يكون الإجماعان صوابا ويكون
المتأخر ناسخا للمتقدم لكن ذلك باطل على ما مر في باب النسخ
ولأنه لو جاز ذلك لجاز أن يتفق أهل عصر على قول ويتفق أهل عصر
ثان على خلافه والجواب أن الإجماع على الأخذ بأي القولين شاء
مشروط بعدم الاتفاق فإذا حصل الاتفاق زال شرط الإجماع فزال
لزوال شرطه قوله لو جاز ذلك لجاز مثله عند الاتفاق قلنا مر
الجواب عنه في المسألة الأولى والله أعلم
(4/137)
المسألة الرابعة إذا اتفق أهل العصر الثاني
على أحد قولي أهل العصر الأول كان ذلك اجماعا لا تجوز مخالفته
خلافا لكثير من المتكلمين وكثير من فقهاء الشافعية والحنفية
لنا أن ما أجمع عليه أهل العصر الثاني سبيل المؤمنين فيجب
اتباعه لقوله عز وجل ويتبع غير سبيل المؤمنين ولأنه إجماع حدث
بعد ما لم يكن فيكون حجة كما إذا حدث بعد تردد
(4/138)
أهل الإجماع فيه حال التفكر واعلم أن هذا
المقيس عليه ينقض على المخالف أكثر أدلته احتجوا بأمور أحدها
قوله عز وجل فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول أوجب
الرد إلى كتاب الله تعالى عند التنازع وهو حاصل لأن حصول
الأتفاق في الحال لا ينافي ما تقدم من الاختلاف فوجب فيه الرد
إلى كتاب الله تعالى وثانيها قوله صلى الله عليه وسلم أصحابي
كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ظاهره يقتضي جواز الأخذ بقول كل
واحد من الصحابة ولم يفصل بين ما يكون بعده إجماع أو لا يكون
وثالثها أن في ضمن اختلاف أهل العصر الأول الاتفاق على جواز
الأخذ بأيهما أريد فلو انعقد إجماع في العصر الثاني لتدافع
الإجماعان
(4/139)
ورابعها لو كان قولهم إذا اتفقوا بعد
الاختلاف حجة لكان قول إحدى الطائفتين إذا ماتت الأخرى حجة
وفيه كون قولهم حجة بالموت وخامسها
لو كان اتفاق أهل العصر الثاني حجة لكانوا قد صاروا إليه لدليل
وذلك باطل لأنه لو وجد ذلك الدليل لما خفى على أهل العصر الأول
وسادسها أن أهل العصر الثاني بعض الأمة فلا يكون اتفاقفهم بين
وحدهم إجماعا وسابعها أنه قد ثبت أن أهل العصر الأول إذا
اختلفوا على قولين لم يجز لمن بعدهم إحداث قول ثالث وأهل العصر
الأول لما اختلفوا لم يكن القطع بذلك الحكم قولا لواحد منهم
فيكون القطع بذلك إحداثا لقول ثالث وإنه غير جائز وثامنها أن
الصحابة في الحادثة التي اختلفوا فيها كالأحياء ألا ترى أنه
تحفظ في ذلك أقوالهم ويحتج لها وعليها وإذا لم ينعقد الإجماع
مع تلك الأقوال حال حياة القائلين بها وجب أيضا أن لا ينعقد
حال وفاتهم
(4/140)
وتاسعها أن هذا الإجماع لو كان حجة لوجب
ترك القول الآخر ولكان إذا حكم به حاكم ثم انعقد الإجماع على
خلافه وجب نقضه لكونه واقعا على مضادة دليل قاطع لكن ذلك باطل
لأن أهل العصر الأول اتفقوا على نفوذ هذا القضاء فنقضه يكون
على خلاف الإجماع الجواب عن الأول أن التعلق بالإجماع رد إلى
الله والرسول ولأن أهل العصر الثاني إذا اتفقوا فهم ليسوا
بمتنازعين أهل فلم يجب
عليهم الرد إلى كتاب الله لأن المعلق بالشرط عدم عند عدم شرطه
وعن الثاني أنه مخصوص بتوقف الصحابة في الحكم حال الاستدلال مع
أنه لا يجوز الاقتداء به في ذلك بعد انعقاد الإجماع فوجب تخصيص
محل النزاع عنه والجامع ما تقدم وعن الثالث ما مر غير مرة أن
ذلك الإجماع مشروط
(4/141)
ثم إنه منقوض باتفاقهم حال الاستدلال على
التوقف وتجويز الأخذ بأي قول ساق الدليل إليه ولأنكم اذا جوزتم
أن لا يكون اتفاق أهل العصر الثاني حجة فلم لا يجوز أن لا يكون
اتفاق أهل العصر الأول حجة إذ ليس أحد الاتفاقين حديث اولى من
الآخر واذا لم يكن الاتفاق الأول حجة لم يلزم من حصول الاتفاق
الثاني ما ذكرتموه من المحذور فثبت أن هذه الحجة متناقضة وعن
الرابع أنا نتبين بموت إحدى الطائفتين أن قول الطائفة الأخرى
حجة لاندراج قولهم تحت أدلة الإجماع لا ان الموت نفسه هو الحجة
وعن الخامس أنه لا يجوز أن يخفى ذلك الدليل على كلهم لكن يجوز
خفاوه عند على بعضهم
عن السادس أنه لو كان أهل العصر الثاني بعض الأمة لوجب أن لا
يكون اتفاقهم
(4/142)
الذي لا يكون مسبوقا بالخلاف حجة وهذا
يقتضي أن لا يكون الحجة إجماع الصحابة فقط بل إجماع الذين
كانوا موجودين عند ظهور أدلة الإجماع وهذا القائل لا يقول بهذه
المذاهب وعن السابع أنه لا يجوز إحداث قول ثالث إذا كان
الإجماع منعقدا على عدم جوازه مطلقا أما إذا كان مشروطا بشرط
جاز ذلك عند عدم ذلك الشرط كما ذكرنا أنهم حال الاستدلال
مطبقون على جواز التوقف وعدم القطع مع أن ذلك لا ينافي اتفاقهم
على القطع بعده وعن الثامن قوله أقوال الصحابة باقية بعد
وفاتهم إن عنى بذلك كونها مانعة من انعقاد الإجماع فهذا عين
النزاع وإن عنى به علمنا بأنهم ذكروا هذه الأقول فلم قلت إن
ذلك ينفي انعقاد الإجماع وان عنيتم ثالثا فبينوه
(4/143)
وعن التاسع أنا لا ننقض ذلك الحكم لأنه صار
مقطوعا به في زمان عدم هذا الإجماع ونحن إنما ننقض الحكم الذي
حكم به القاضي إذا وقع ذلك
الحكم في زمان قيام الدلالة القاطعة على فساده والله أعلم
المسألة الخامسة أهل العصر إذا انقسموا إلى قسمين ثم مات أحد
القسمين صار قول الباقين إجماعا لأن بالموت ظهر اندراج قول ذلك
القسم وحده تحت أدلة الإجماع وكذا القول إذا انقسموا إلى قسمين
ثم كفر أحدهما فإنه يصير القول
(4/144)
الثاني حجة والله أعلم المسألة السادسة أهل
العصر إذا اختلفوا على قولين ثم رجعوا إلى أحد ذينك القولين هل
يكون ذلك إجماعا أما من قال بانعقاد الإجماع في المسألتين
السابقتين فقوله به ها هنا أولى ونثبت هذه الأولوية من وجهين
أحدهما أن في المسألتين السابقتين لقائل أن يقول المجمعون
ليسوا كل الأمة فلا يكون اتفاقهم قولا لكل الأمة فلا يكون حجة
وأما ها هنا فهذه الشبهة زائلة لأن الذين اتفقوا هم بعينهم
الذين اختلفوا فكان المجمعون كل الأمة وثانيهما أن في
المسألتين السابقتين ما صار القول الثاني مرجوعا عنه أصلا
(4/145)
وها هنا صار كذلك
وأما المنكرون لانعقاد الإجماع هناك فقد اختلفوا ها هنا فأما
من اعتبر انقراض العصر فإنه جوز ذلك قال لأن الانقراض لما كان
شرطا في الإجماع وهم لم ينقرضوا على ذلك الخلاف فلم يحصل
الإجماع على جواز الخلاف فلم يكن الاتفاق حاصلا بعد الإجماع
على جواز الخلاف وأما من لم يعتبر الانقراض فقد اختلفوا فمنهم
من أحال وقوعه ومنهم من جوزه وزعم أنه لا يكون حجة ومنهم من
جعله إجماعا يحرم خلافه وهو المختار لنا ما تقدم من أن الصحابة
رضوان الله عليهم اختلفوا في الإمامة ثم اتفقوا بعد ذلك عليها
وإذا ثبت وقوعه وجب أن يكون حجة لقوله عز وجل ويتبع غير سبيل
المؤمنين والشبه التي يذكرونها ها هنا هي التي مرت والله أعلم
(4/146)
المسألة السابعة انقراض العصر غير معتبر
عندنا في الإجماع خلافا لبعض الفقهاء والمتكلمين منهم الأستاذ
أبو بكر بن فورك لنا قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا وصفهم
بالخيرية وإجماعهم لا على الصواب يقدح في وصفهم بالخيرية
وأيضا فقوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على الخطأ ينافي
إجماعهم على الخطأ ولو في لحظة واحدة ومما تمسكوا به في
المسألة أنا لو اعتبرنا الانقراض لم ينعقد إجماع لأنه قد حدث
من التابعين في زمن الصحابة قوم من أهل الاجتهاد فيجوز لهم
مخالفة الصحابة لأن العصر لم ينقرض ثم الكلام في هذا العصر
كالكلام في العصر الأول فوجب أن لا يستقر إجماع أبدا فإن قلت
لم لا يجوز أن يكون المعتبر انقراض عصر من كان مجتهدا
(4/147)
عند حدوث الحادثة لا من يتجدد بعد ذلك فلا
يلزم اعتبار عصر التابعين إذا حدث فيهم مجتهد بعد حد وث
الحادثة قلت بتقدير أن يحدث في التابعين واحد من أهل الاجتهاد
قبل انقراض عصر من كان مجتهدا عند حدوث الحادثة من الصحابة ففي
ذلك الوقت إجماع الصحابة غير منعقد فوجب أن يجوز للتابعي
مخالفتهم وكذلك يحدث في تابعي التابعين قبل انقراض عصر من كان
مجتهدا من التابعين وهلم جرا إلى زماننا فيلزم ان لا ينعقد
الإجماع على ذلك التقدير ثم إنا نجوز هذا الاحتمال في كل
الإجماعات ولا نعلم عدمه فوجب أن لا ينعقد شئ من الإجماعات
واحتج المخالف بأمور أحدها أن عليا رضي الله عنه سئل عن بيع
أمهات الأولاد فقال قد كان
(4/148)
رأيي ورأي عمر أن لا يبعن ثم رأيت بيعهن
فقال له عبيدة السلماني رأيك في الجماعة أحب الينا من رأيك
وحدك فدل قول عبيدة عن أن الإجماع كان حاصلا مع أن عليا رضي
الله عنه خالفه وثانيها أن الصديق كان يرى التسوية في القسم
ولم يخالفه أحد في زمانه ثم خالفه عمر بعد ذلك
(4/149)
وثالثها أن الناس ما داموا في الحياة
يكونون في التفحص والتأمل فلا يستقر الاجماع ورابعها قوله
تعالى لتكونوا شهداء على الناس ومذهبكم! يقتضي أن يكونوا شهداء
على أنفسهم أيضا وخامسها أن قول المجمعين لا يزيد على قول
النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كانت وفاة النبي صلى الله عليه
وأله وسلم شرطا في استقرار الحجة من قوله فلأن يعتبر ذلك في
قول أهل الاجماع أولى والجواب عن الأول أن قول السلماني رأيك
في الجماعة دل على أن المنع من بيعهن كان رأي جماعة ولم يدل
على أنه كان رأي كل الأمة وإنما أراد أن ينضم قول علي الى قول
عمر رضي الله عنهما لأنه رجح قول الأكثر على
قول الأقل وعن الثاني أنا لا نسلم انعقاد الإجماع على فعل أبي
بكر رضي الله عنه بل نقل
(4/150)
أن عمر رضي الله عنه نازعه فيه وعن الثالث
أنهم إن أرادوا بنفي الاستقرار أنه لا يحصل الاتفاق فهو باطل
لأن كلامنا في أنه لو حصل لكان حجة وإن أرادوا به أنه بعد
حصوله لا يكون حجة فهو عين النزاع وعن الرابع أن كونهم شهداء
على الناس لا ينافي شهادتهم على أنفسهم وعن الخامس أنه جمع بين
الموضعين من غير دليل وبالله التوفيق المسألة الثامنة اختلفوا
في أنا لو جوزنا انعقاد الإجماع عن السكوت فهل يعتبر فيه
الإنقراض ذهب كثير ممن لم يعتبر الانقراض في الإجماع القولي
إلى اعتباره ها هنا لأن سكوته يمكن أن يكون للتفكر في حكم تلك
الحادثة فأما إذا مات عليه علمنا حينئذ أن سكوته كان رضى وهذا
ضعيف لأن السكوت إن دل على الرضا وجب أن يحصل ذلك قبل الموت
وإن لم يدل عليه لم يحصل ذلك أيضا بالموت لاحتمال أنه مات
على ما كان عليه قبل الموت والله أعلم
(4/151)
المسألة التاسعة الإجماع المروي بطريق
الآحاد حجة خلافا لأكثر الناس لنا أن ظن وجوب العمل به حاصل
فوجب العمل به دفعا للضرر المظنون ولأن الإجماع نوع من الحجة
فيجوز التمسك بمظنونه كما يجوز بمعلومه قياسا على السنة ولأنا
بينا أن أصل الإجماع قاعدة ظنية فكيف القول في تفاصيله
(4/152)
القسم الثالث فيما
أدخل في الإجماع وليس منه المسألة
الأولى إذا قال بعض أهل العصر قولا وكان الباقون حاضرين لكنهم
سكتوا وما انكروه فمذهب الشافعي رضي الله عنه وهو الحق أنه ليس
بإجماع ولا حجة وقال الجبائي إنه إجماع وحجة بعد انقراض العصر
وقال أبو هاشم ليس بإجماع ولكنة حجة وقال أبو علي بن أبي هريرة
إن كان هذا القول من حاكم لم يكن إجماعا ولا حجة وإن لم يكن من
حاكم كان إجماعا وحجة
لنا أن السكوت يحتمل وجوها أخر سوى الرضى وهي ثمانية أحدها أن
يكون في باطنه مانع من إظهار القول وقد تظهر عليه قرائن السخط
(4/153)
وثانيها ربما رآه قولا سائغا أدى اجتهاده
إليه وإن لم يكن موافقا عليه وثالثها أن يعتقد أن كل مجتهد
مصيب فلا يرى الإنكار فرضا أصلا ورابعها ربما أراد الإنكار
ولكنه ينتهز فرصة التمكن منه ولا يرى المبادرة إليه مصلحة
وخامسها أنه لو أنكر لم يلتفت إليه ولحقه بسبب ذلك ذل كما قال
ابن عباس في سكوته عن العول هبته وكان والله مهيبا
(4/154)
وسادسها ربما كان في مهلة النظر وسابعها
ربما سكت لظنه أن غيره يقوم مقامه في ذلك الإنكار وإن كان قد
غلط فيه
وثامنها ربما رأى ذلك الخطأ من الصغائر فلم ينكره وإذا احتمل
السكوت هذه الجهات كما احتمل الرضى علمنا أنه لا يدل على الرضا
لا قطعا ولا ظاهرا وهذا معنى قول الشافعي رحمه الله لا ينسب
الى ساكت قول واحتج الجبائي بأن العادة جارية بأن الناس إذا
تفكروا في مسألة زمانا طويلا
(4/156)
واعتقدوا خلاف ما انتشر من القول أظهروه
إذا لم تكن هناك تقية ولو كانت هناك تقية لظهرت واشتهرت فيما
بين الناس فلما لم يظهر سبب التقية ولم يظهر الخلاف علمنا حصول
الموافقة وجوابه ما بينا أن وراء الرضى احتمالات أخرى واحتج
أبو هاشم بأن الناس في كل عصر يحتجون بالقول المنتشر في
الصحابة إذا لم يعرف له مخالف وجوابه أن ذلك ممنوع واحتج أبو
علي بن أبي هريرة بأن هذا القول أن كان من حاكم لم يدل سكوت
الباقين على الإجماع لأن الواحد منا قد يحضر مجالس الحكام
فيجدهم يحكمون بخلاف مذهبه وما يعتقده ثم لا ينكر عليهم
وإن كان من غير الحاكم كان إجماعا وهو ضعيف لأن عدم الإنكار
إنما يكون بعد استقرار المذهب وأما حال الطلب فالخصم لا يسلم
جواز السكوت إلا عن الرضى سواء كان
(4/157)
مع الحاكم أو مع غيره والله أعلم
(4/158)
المسألة الثانية اختلفوا فيما إذا قال بعض
الصحابة قولا ولم يعرف له مخالف والحق أن هذا القول إما أن
يكون مما تعم به البلوى أولا يكون فإن كان الأول ولم ينتشر ذلك
القول فيهم فلا بد وأن يكون لهم في تلك المسألة قول إما موافق
أو مخالف ولكنه لم يظهر ف يجرى ذلك مجرى قول البعض بحضرة
الباقين وسكوت الباقين عنه وإن كان الثاني لم يكن إجماعا ولا
حجة لاحتمال ذهول البعض عنه وبهذا التقدير لا يكون للذاهلين
فيه قول فلا يكون الإجماع حاصلا المسألة الثالثة إذا استدل أهل
العصر بدليل أو ذكروا تأويلا ثم استدل أهل العصر الثاني بدليل
آخر أو ذكروا تأويلا آخر فقد اتفقوا على أنه لا يجوز إبطال
التأويل القديم لأنه لو كان ذلك باطلا وكانوا ذاهلين عن
التأويل الجديد الذي هو الحق لكانوا مطبقين على الخطأ وهو غير
جائز
(4/159)
وأما التأويل الجديد فإن لزم من ثبوته
القدح في التأويل القديم لم
يصح كما إذا اتفقوا على تفسير اللفظ المشترك بأحد معنييه ثم
جاء من بعدهم وفسره بمعناه الثاني لم يجز ذلك لأنا قد دللنا
على أن اللفظ الواحد لا يجوز استعماله لإفادة معنييه جميعا
فصحة هذا التأويل الجديد تقتضي فساد القديم وإنه غير جائز أو
يقال إنه تعالى تكلم بتلك اللفظه مرتين وهو باطل لانعقاد
الإجماع على ضده وإما اذا لم يلزم من صحة التأويل الجديد فساد
التأويل القديم جاز ذلك والدليل عليه أن الناس يستخرجون في كل
عصر أدلة وتأويلات جديدة ولم ينكر عليهم أحد فكان ذلك إجماعا
وللمانع أن يحتج بأمور أولها أن الدليل الجديد مغاير لسبيل
المؤمنين فوجب أن يكون محظورا لقوله تعالى ويتبع غير سبيل
المؤمنين وثاينها أن قوله تعالى كنتم خير أمة خطاب مشافهة فلا
يتناول إلا أهل العصر الأول
(4/160)
ثم قوله تأمرون بالمعروف يقتضي كونهم آمرين
بكل معروف فكل ما لم يأمروا به ولم يذكروه وجب أن لا يكون
معروفا فكان منكرا وثالثها أن الدليل الثاني والتأويل الثاني
لو كان صحيحا لما جاز
ذهول الصحابة مع تقدمهم في العلم عنه والجواب عن الأول أن قوله
ويتبع غير سبيل المؤمنين خرج مخرج الذم فيختص بمن اتبع ما نفاه
المؤمنون لأن ما لم يتكلم فيه المؤمنون بنفي ولا بإثبات لا
يقال فيه إنه اتباع لغير سبيل المؤمنين وأيضا فالحكم بفساد ذلك
الدليل ما كان سبيلا للمؤمين فوجب كونه باطلا وعن الثاني أن
قوله وتنهون عن المنكر يقتضي نهيهم عن كل المنكرات فكل ما لم
ينهوا عنه وجب أن لا يكون منكرا لكنهم ما نهوا عن هذا الدليل
الجديد فوجب أن لا يكون منكرا وعن الثالث أنه لا استبعاد في
أنهم اكتفوا بالدليل الواحد والتأويل الواحد وتركوا
(4/161)
طلب الزيادة والله أعلم المسألة الرابعة
قال مالك إجماع أهل المدينة وحدها حجة وقال الباقون ليس كذلك
حجة مالك قوله صلى الله عليه وسلم إن المدينة لتنفي خبثها كما
ينفي الكير خبث الحديد والخطأ خبث فكان منفيا عنهم فإن قيل وجد
في الخبر ما يقتضي كونه مردودا لأن ظاهره أن كل
(4/162)
من خرج عنها فإنه من الخبث الذي تنفيه
المدينة وذلك باطل لأنه قد خرج منها الطيبون كعلي وعبد الله
رضي الله عنهما بل ذكروا ثلاثمائة ونيفا من الصحابة الذين
انتقلوا إلى العراق وهم أمثل من الذين بقوا فيها كأبي هريرة
وأمثاله سلمنا سلامته عن هذا الطعن لكنه من أخبار الآحاد فلا
يجوز التمسك به في مسألة علمية سلمنا صحة متنه لكن لم لا يجوز
أن يكون ذلك محمولا على من خرج منها لكراهية المقام بها مع أن
في المقام بها بركة عظيمة بسبب جوار الرسول وجوار مسجده صلى
الله عليه وآله وسلم ومع ما ورد من الثناء الكثير على المقيمين
بها لأن الكاره للمقام بها مع هذه الأحوال لا بد وأن يكون ضعيف
الدين ومن كان كذلك فهو خبث
(4/163)
سلمنا أن المراد كونها نافية للقول الباطل
لكن قوله لتنفي خبثها ليس فيه صيغة عموم سلمناه لكن لم لا يجوز
تخصيص هذا القول بزمانه ويكون المراد بالخبث الكفار ثم إنه
معارض بأمور ثلاثه الأول أن الذي دل على كون الإجماع حجة وارد
بلفظين لفظ المؤمنين في آية المشاقة ولفظ الأمة في غيرها
وهاتان اللفظتان غير مخصوصتين ببلدة دون بلدة فوجب اعتبار الكل
الثاني أن الأماكن لا تؤثر في كون الأقول حجة الثالث أن القول
به يودي إلى المحال لأن من كان ساكن المدينة كان قوله حجة فإذا
خرج منها لا يكون قوله حجة ومن كان قوله حجة في مكان كان قوله
حجة في كل مكان كالرسول صلى الله عليه وسلم والجواب قوله يقتضي
أن كل من خرج من المدينة فهو خبث
(4/164)
قلنا لا نسلم لأن الخبر يقتضي أن كل ما كان
خبثا فإن المدينة تخرجه وهذا لا يقتضي أن كل ما تخرجه المدينة
فهو خبث قوله إنه خبر واحد فلا يجوز التمسك به في العلميات
قلنا لا نسلم أن هذه المسألة علمية بل لما ثبت بهذا الخبر ظن
أن اجماع أهل المدينة حجة والعمل بالظن واجب وجب العمل به قوله
نحمله على من كره المقام بالمدينة قلنا تقييد المطلق خلاف
الأصل ولو جاز ذلك لجاز في قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين وفي
قوله عليه الصلاة والسلام لا تجتمع أمتي على خطأ حمله على بعض
الصور ولما كان جواب الجمهور أن تخصيص العام وتقييد المطلق
خلاف الأصل وأنه لا يجوز القول به من غير ضرورة فكذا ها هنا
قوله ليس في قوله لتنفى خبثها صيغة عموم
قلنا لا نسلم فإن الحقيقة لا تنتفي إلا عند انتفاء جميع
أفرادها فلولا انتفاء جميع أفراد الخبث عن المدينة وإلا لما صح
القول بأنها تنفى الخبث قوله لم لا يجوز تخصيصه بزمانه
(4/165)
قلنا لأن التخصيص خلاف الأصل قوله الأدلة
على أن الإجماع حجة غير مختصة بقوم دون قوم قلنا تلك الأدلة لا
تقتضي أن إجماع أهل المدينة حجة ولكنها لا تبطل ذلك فإذا
أثبتناه بدليل منفصل لم يلزمنا محذور قوله لا أثر للمكان قلنا
لا استبعاد في أن يخص الله تعالى أهل بلدة معينة بالعصمة كما
أنه لا استبعاد في أن يخص تعالى أهل زمان معين بالعصمة فإنه
تعالى خص أمتنا بالعصمة من بين سائر الأمم بلى العقل لا يدل
على ذلك وإنما الرجوع فيه إلى السمع قوله من كان قوله حجة في
مكان كان حجة في كل مكان كالنبي صلى الله عليه وسلم قلنا هذا
قياس طردي في مقابلة النص فكان باطلا والله أعلم فهذا تقرير
قول مالك رحمه الله وليس بمستبعد كما اعتقد هو وجمهور أهل
الأصول والله أعلم
(4/166)
المسألة الخامسة إجماع العترة وحدها ليس
بحجة خلافا للزيدية والإمامية
(4/169)
لنا أن عليا رضي الله عنه خالفه الصحابة في
كثير من المسائل ولم يقل لأحد ممن خالفه إن قولي حجة فلا
تخالفني احتجوا بالآية والخبر والمعنى أما الآية فقوله تعالى
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا
والخطأ رجس فيجب أن يكونوا مطهرين عنه وأما الخبر فقوله عليه
الصلاة والسلام إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب
الله وعترتي
(4/170)
وأما المعنى فإن أهل البيت مهبط الوحي
والنبي صلى الله عليه وسلم منهم وفيهم فالخطأ عليهم أبعد
والجواب عن الأول أن ظاهر الآية في أزواجه صلى الله عليه وسلم
لأن ما قبلها وما بعدها خطاب معهن لأنه تعالى قال وقرن في
بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ويجرى هذا المجرى قول
الواحد لابنه تعلم وأطعني إنما أريد لك الخير ومعلوم أن هذا
القول لا يتناول إلا ابنه فكذا هاهنا فإن قلت هذا باطل من وجوه
أحدها أنه لو أرادهن لقال إنما يريد الله ليذهب عنكن الرجس
وثانيها
أن أهل البيت علي وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم لأنه
(4/171)
لما نزلت هذه الآية لف الرسول صلى الله
عليه وسلم عليهم كساء وقال هو أهل بيتي وثالثها أن كلمة إنما
للحصر فهي تدل على إنه تعالى ما أراد أن يزيل الرجس عن احد ألا
عن أهل البيت وهذا غير جائز لأنه تعالى أراد زوال الرجس عن
الكل وإذا تعذر حمله على ظاهره وجب حمله على زوال بعض الرجس
عنهم لأن ذكر السبب لإرادة المسبب جائز وزوال الرجس هو العصمة
فإذن هذه الآية تدل على عصمة أهل البيت وكل من قال ذلك زعم أن
المراد به علي وفاطمة والحسن والحسين لا غير فلو حملناه على
غيرهم كان ذلك قولا ثالثا
(4/172)
قلت الجواب عن الأول أن التذكير لا يمنع من
إرادتهن بالخطاب وإنما يمنع من القصر عليهن وعن الثاني أنه
معارض بما يروى عن أم سلمة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه
وسلم ألست من أهل البيت فقال بلى إن شاء الله ولأن لفظ أهل
البيت حقيقة فيهن لغة فكان تخصيصه ببعض الناس خلاف الأصل وعن
الثالث
لا نسلم دلالة الآية على زوال كل رجس لأن المفرد المعرف لا
يفيد العموم والجواب عن التمسك بالخبر أنه من باب الآحاد وعند
الإمامية لا يجوز العمل به فضلا عن العلم فإن قلت بل هو صيح!
قطعا لأن الأمة اتفقت على قبوله بعضهم للاستدلال به على أن
إجماع العترة حجة وبعضهم للاستدلال به على فضيلتهم قلت قد تقدم
أن هذا لا يفيد القطع بالصحة سلمنا صحة الخبر لكنه يقتضي وجوب
التمسك بالكتاب والعترة وذلك مسلم فلم قلتم إن قول العترة
وحدها حجة
(4/173)
(و) الجواب عن التمسك بالمعنى انه باطل
بزوجاته صلى الله عليه وسلم فإنهن شاهدن اكثر احواله مع ان
قولهن ليس وحده بحجة المسألة السادسة إجماع الأئمة الأربعة
وحدهم ليس بحجة وحكى أبو بكر الرازي أن أبا حازم القاضي كان
يقول إجماع الخلفاء الأربعة حجة ولهذا لم يعتد بخلاف زيد بن
ثابت في توريث ذوي الأرحام وحكم برد أموال حصلت في بيت مال
المعتضد إلى ذوي الأرحام وقبل المعتضد فتياه وأنفذ قضاءه وكتب
به إلى الآفاق
(4/174)
ومن الناس من جعل إجماع الشيخين حجة
واحتج أبو حازم بقوله عليه الصلاة والسلام عليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجد واحتج الباقون
بقوله عليه الصلاة والسلام اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر
ولما لم يكن الاقتداء بهما حال اختلافهما وجب ذلك حال اتفاقهما
(4/175)
والجواب أنه معارض بقوله صلى الله عليه
وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم أقتديهم لأنه اهتديتم مع أن قول كل
واحد من الصحابة وحده ليس بحجة
(4/176)
المسألة السابعة إجماع الصحابة مع مخالفة
من أدركهم من التابعين ليس بحجة خلافا لبعضم لنا لو كان قول
التابعي باطلا لما جاز رجوع الصحابة إليه لكنهم قد رجعوا إليه
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن فريضة فقال سلوها سعيد
بن جبير فإنه أعلم به وعن أنس رضي الله عنه ربما سئل عن شئ
فقال سلوا مولانا الحسن فإنه سمع وسمعنا وحفظ ونسينا وسئل ابن
عباس عن النذر بذبح الولد فأشار إلى مسروق فأتاه
(4/177)
السائل بجوابه فتابعه عليه وفي أمثال هذه
الروايات كثرة واحتج المخالف بالآية والخبر والأثر أما الآية
فقوله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة
ولن يرضى عنهم إلا إذا كانوا غير مقدمين على فعل شئ من
المحظورات ومتى كذلك كان قولهم حجة أما الخبر فقوله عليه
الصلاة والسلام لو أنفق غيرهم ملأ الأرض ذهبا ما بلغ مد أحدهم
ولا نصيفه وذلك يدل على أن التابعي إذا خالف
(4/178)
فالحق ليس مع التابعي بل معهم وأما الأثر
فهو أن عائشة رضي الله عنها أنكرت على ابي سلمة بن عبد الرحمن
خلافه على ابن عباس في عدة المتوفى عنها زوجها وهي حامل وقالت
فروج يصيح مع الديكة
(4/179)
والجواب عن الأول أن الآية مختصة بأهل بيعة
الرضوان وبالاتفاق لا اختصاص لهم بالإجماع وعن الخبر أنه يلزم
منه أن الصحابي الواحد إذا قال نقيض قول التابعي أن نقطع بأن
الحق قول الصحابي وعن الأثر أن إنكارها على أبي سلمة لعله كان
لأنه خالف بعد الإجماع أو في مسألة قطعية أو لأنه خالف قبل أن
كان أهلا للاجتهاد أو لأنه أساء الأدب في
المناظرة ولأن قول عائشة رضي الله عنهما ليس بحجة المسألة
الثامنة اختلفوا في انعقاد الإجماع مع مخالفة المخطئين من أهل
القبلة في مسائل الأصول فإن لم نكفرهم اعتبرنا قولهم لأنهم اذا
كانوا من المؤمنين ومن الأمة كان قول من عداهم قول بعض
المؤمنين فلا يكون حجة وإن كفرناهم انعقد الإجماع بدونهم لكن
لا يجوز التمسك بإجماعنا عن كفرهم في تلك المسائل لأنه إنما
ثبت خروجهم عن الإجماع بعد ثبوت كفرهم في تلك المسائل فلو
أثبتنا كفرهم فيها بإجماعنا وحدنا لزم الدور
(4/180)
واعلم أن قول العصاه من أهل القبلة معتبر
في الإجماع لأن من مذهبنا أن المعصية لا تزيل اسم الإيمان
فيكون قول من عداهم قول بعض المؤمنين فلا يكون حجة المسألة
التاسعة الإجماع لا يتم مع مخالفة الواحد والإثنين خلافا لأبي
الحسين الخياط من المعتزلة ومحمد بن جرير الطبري وأبي بكر
الرازي لنا أن جمع الصحابة أجمعوا على ترك قتال مانعي الزكاة
وخالفهم فيه أبو بكر رضي الله عنه وحده فيه ولم يقل أحد إن
خلافه غير معتد به بل لما ناظروه رجعوا إلى قوله
وكذلك ابن عباس وابن مسعود خالفا كل الصحابة في المسائل
(4/181)
الفرائض وخلافهما باق إلى الآن واحتج
المخالف بأمور أحدها أن لفضي المؤمنين والأمة يتناولهم مع خروج
الواحد والإثنين منهم كما يقال في البقرة إنها سوداء وإن كانت
فيها شعرات بيض وكما يقال للزنجي إنه أسود مع بياض حدقته
وأسنانه وثانيها قوله عليه الصلاة والسلام عليكم بالسواد
الأعظم وقوله الشيطان مع الواحد وهذا يقتضي أن الواحد المنفرد
بقوله مخطئ وثالثها أن الإجماع حجة على المخالف فلو لم يكن في
العصر مخالف لم يتحقق هذا المعنى ورابعها أن الصحابة أنكرت على
ابن عباس خلافة للباقين في الصرف
(4/182)
وخامسها أن المسلمين اعتمدوا في خلافة أبي
بكر رضي الله عنه على الإجماع مع مخالفة سعد وعلي بن أبي طالب
رضي الله عنه وسادسها
أن في رواية الأخبار يحضل الترجيح بكثرة العدد فكذا في أقوال
المجتهدين وسابعها أن تفاق الجمع على الكذب ممتنع عادة واتفاق
الجمع القليل على ذلك غير ممتنع فإذا اتفقت الأمة على الحكم
الواحد إلا الواحد منهم أو الإثنين كان ذلك الجمع العظيم قد
أخبروا عن أنفسهم بكونهم مؤمنين وذلك لا يحتمل الكذب وأما
الواحد والإثنان لما أخبروا عن أنفسهم بكونهم مؤمنين فذلك
يحتمل الكذب وإذا كان كذلك كان ما اتفق عليه الكل سوى الواحد
والإثنين هو سبيل المؤمنين قطعا فوجب أن يكون حجة وثامنها لو
اعتبرنا مخالفة الواحد والإثنين لم ينعقد الإجماع قطعا لأنه لا
(4/183)
يمكننا أن ندعي في شئ من الإجماعات أنه ليس
هناك واحد أو اثنان يخالفون فيه والجواب عن الأول أن ألفاظ
العموم لا تتناول الأكثر على سبيل الحقيقة في اللغة لأنه يجوز
أن يقال لما عدا الواحد من الأمة ليسوا كل الأمة ويصح استثناوه
أخبرنا عنهم وعن الثاني أن السواد الأعظم كل الأمة لأن من عدا
الكل فالكل أعظم منه ولولا
ما ذكرناه لدخل تحته النصف من الأمة إذا زاد على النصف الآخر
بواحد وأما قوله عليه الصلاة والسلام الشيطان مع الواحد فذلك
لا يقتضي أن يكون مع كل واحد وإلا لم يكن قول الرسول صلى الله
عليه وسلم وحده حجة وعن الثالث أنه حجة على المخالف الذي يوجد
بعد ذلك ولو كان الأمر كما ذكرتم لوجب في كل إجماع أن يكون فيه
مخالف شاذ
(4/184)
وعن الرابع أن الصحابة ما أنكروا علي ابن
عباس مخالفته للإجماع بل مخالفته خبر أبي سعيد رضي الله عنهما
وعن الخامس أن الإمامة لا يعتبر في انعقادها حصول الإجماع بل
البيعة كافية وعن السادس لم قلتم إن الحال في الإجماع كالحال
في الرواية فلو كان كذلك لحصل الإجماع بقول الواحد والإثنين
كالرواية وعن السابع أنا وإن عرفنا في ذلك الجمع كونهم مؤمنين
لكنا لا ندري أنهم كل المؤمنين فلا جرم لم يجب علينا أن نحكم
بقولهم وعن الثامن أنا إنما نتمسك بالإجماع حيث يمكننا العلم
بذلك كما في زمان الصحابة رضي الله عنهم
المسألة العاشرة الإجماع إذا لم
يحصل فيه قول من كان متمكنا من الاجتهاد وإن لم يكن
مشهورا له لم يكن حجة لأن قول من عداه قول بعض المؤمنين فلا
يندرج تحت أدلة الإجماع والله أعلم
(4/185)
القسم الرابع فيما
يصدر عنه الإجماع المسألة الأولى لا
يجوز حصول الإجماع إلا عن دلالة أو أمارة وقال قوم يجوز صدوره
عن التبخيت
(4/187)
لنا أن القول في الدين بغير دلالة أو أمارة
خطأ فلو اتفقوا عليه لكانوا مجمعين على الخطأ وذلك يقدح في
الإجماع احتج المخالف بأمرين الأول أنه لو لم ينعقد الإجماع
إلا عن دليل لكان ذلك الدليل هو الحجة ولا يبقى في الإجماع
فائدة الثاني أن الإجماع لا عن الدلالة ولا عن الأمارة قد وقع
كإجماعهم على بيع المراضاة وأجرة الحمام
(4/188)
والجواب عن الأول أن ذلك يقتضي أن لا يصدر
الإجماع عن دلالة ولا عن أمارة ألبتة وأنتم لا تقولون به ولأن
فائدة الإجماع أنه يكشف عن وجود دليل في المسألة من غير حاجة
إلى معرفة ذلك الدليل والبحث عن كيفية دلالته على المدلول وعن
الثاني أن الصور التي ذكرتموها غايتكم أن تقولوا لم ينقل إلينا
فيها دليل ولا أمارة ولا يمكنكم القطع بأنهما ما كانا موجودين
فلعلها كانا موجودين لكن تركوا نقلهما للاستغناء بالإجماع
عنهما المسألة الثانية القائلون بأنه لا ينعقد الإجماع إلا عن
طريق اتفقوا على جواز وقوعه عن الدلالة والحق عندنا جواز وقوعه
عن الأمارة أيضا وقال ابن جرير الطبري لو ذلك غير ممكن
(4/189)
ومنهم من سلم الإمكان ومنع الوقوع ومنهم من
قال الأمارة إن كانت جلية جاز وإلا فلا لنا أن ذلك قد وقع روي
عن عمر رضي الله عنه أنه شاور الصحابة في حد الشارب فقال علي
رضي الله عنه إذا شرب سكر واذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد
المفتري ثمانون
وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه هذا حد وأقل الحد ثمانون
فإن قلت لعلهم أجمعوا على تبليغ الحد ثمانين لنص استغنوا
بالاجماع عن نقله
(4/190)
قلت هذا جائز لو لم ينصوا على فزعهم إلى
الإجتهاد في هذه المسألة وأيضا أثبتوا إمامة ابي بكر رضي الله
عنه بالقياس على تقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه
(4/191)
في الصلاة ثم أجمعوا عليها واحتج المخالف
بأمور أحدها أن الأمة على كثرتها واختلاف دواعيها لا يجوزأن
تجمعها الأمارة مع خفائها كما لا يجوز اتفاقهم في الساعة
الواحدة على أكل الزبيب الأسود والتكلم باللفظة الواحدة وهذا
بخلاف إجماعهم على مقتضى الدليل والشبهة لأن الدلالة قوية
والشبهة تجري مجرى الدلالة عند من صار إليها وبخلاف اجتماع
الخلق العظيم في الأعياد لأن الداعي إليه ظاهر وثانيها من
الأمة من يعتقد بطلان الحكم بالأمارة وذلك يصرفه عن الحكم بها
وثالثها أن ذلك يفضي إلى اجتماع أحكام متنافية لأن الحكم
الصادر عن
الاجتهاد لا يفسق مخالفة وتجوز مخالفته ولا يقطع عليه ولا على
تعلقه بالأمارة والحكم المجمع عليه بالعكس في هذه الأمور فلو
صدر ال إجماع عن الإجتهاد لاجتمع النقيضان فيه
(4/192)
والجواب عن الأول أنه منقوض باتفاق أصحاب
الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله على قوليهما وعن الثاني أن
الخلاف في صحة القياس حادث ولأنه يجوز أن تشتبه الأمارة
بالدلالة فيثبت الحكم بالأمارة على اعتقاد أنه أثبته بالدلالة
ولأنه ينتقض بالعموم وخبر الواحد فإنه يجوز صدور الإجماع عنهما
مع وقوع الخلاف فيهما وعن الثالث أن تلك الأحكام المرتبة على
الاجتهاد مشروطة بأن لا تصير المسألة إجماعية فإذا صارت
إجماعية فقد زال الشرط فتزول تلك الأحكام والله أعلم المسألة
الثالثة قال أبو عبد الله البصري الإجماع الموافق لمقتضى خبر
يدل على أن ذلك الإجماع لأجل ذلك الخبر والحق أنه غير واجب لأن
قيام الدلائل الكثيرة على المدلول الواحد جائز فلعلهم أثبتوا
مقتضى الخبر بدليل اخر سواه والله أعلم
(4/193)
القسم الخامس في
المجمعين قبل الخوض في المسائل لا بد
من مقدمة وهي أن الخطأ جائز عقلا على هذه الأمة كجوازه على
سائر الأمم لكن الأدلة السمعية منعت منه وهي واردة بلفظين
أحدها لفظ المؤمنين في آية المشاقة والآخر لفظ الأمة في سائر
الآيات والخبر فأما لفظ المؤمنين فقد مر في باب العموم أنه
للاستغراق وأما لفظ الأمة فإنه يتناول كافة الأمة فعلى هذا يجب
أن يكون المعتبر قوق كل المؤمنين وقول كل الأمة فإن خرج البعض
فلا بد من دليل منفصل
(4/195)
وإن اكتفينا بالبعض لم يمكن إثباته بهذه
الأدلة بل لا بد من دليل اخر إلا أن هذه الأدلة كما لا تقتضي
ذلك الحكم في البعض لا تمنع من ثبوته في البعض لأن ما يدل على
ثبوت حكم في الكل لا يمنع من ثبوته في البعض ولا يلزم من
انتفاء دليل معين انتفاء المدلول المسألة الأولى لا يعتبر في
الإجماع اتفاق الأمة من وقت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم
القيامة لأن الذي دل على الإجماع دل على وجوب الاستدلال به
وذلك الاستدلال إما أن يكون قبل يوم القيامة وهو محال على
التقدير الذي قالوه لجواز أن يحدث بعد ذلك قوم آخرون أو بعده
وهو باطل لأنه لا حاجة في ذلك الوقت إلى الاستدلال المسألة
الثانية لا عبرة في الإجماع بقول الخارجين عن الملة لأن آية
المشاقة دالة على وجوب اتباع المؤمنين وسائر الأدلة دالة على
وجوب اتباع الأمة والمفهوم من الأمة في عرف شرعنا الذين قبلوا
دين الرسول صلى الله عليه وسلم المسألة الثالثة لا عبرة بقول
العوام خلافا للقاضي أبي بكر رحمه الله
(4/196)
لنا وجوه أحدها أن العالم إذا قال قولا
وخالفه العامي فلا شك أن قول العامي حكم في الدين بغير دلالة
ولا أماره فيكون خطأ فلو كان قول العالم أيضا خطأ لكانت الأمة
بأسرها مخطئة في مسألة واحد وإن كان ذلك الخطأ من وجهين ولكنه
غير جائز وثانيها إن العصمة من الخطأ لا تتصور إلا في حق من
تتصور في حقه الإصابة والعامي لا يتصور في حقه ذلك لأن القول
في الدين بغير طريق غير صواب وثالثها أن خواص الصحابة رضي الله
عنهم وعوامهم أجمعوا على أنه لا عبرة
بقول العوام في هذا الباب ورابعها أن العامي ليس من أهل
الاجتهاد فلا عبرة بقوله كالصبي والمجنون احتج المخالف بأن
أدلة الإجماع تقتضي متابعة الكل والجواب إيجاب متابعة الكل لا
يقتضي أن لا يجب إلا متابعة الكل والأدلة
(4/197)
التي ذكرناها تقتضي وجوب متابعة العلماء
فوجب القول به المسألة الرابعة المعتبر بالإجماع في كل فن أهل
الاجتهاد في ذلك الفن وإن لم يكونوا من أهل الاجتهاد في غيره
مثلا العبرة بالاجماع في مسائل الكلام بالمتكلمين وفي مسائل
الفقه بالمتمكنين يكون من الاجتهاد في مسائل الفقه فلا عبرة
بالمتكلم في الفقه ولا بالفقيه في الكلام بل من يتمكن من
الاجتهاد في الفرائض دون المناسك يعتبر وفاقه وخلافه في
الفرائض دون المناسك ولا عبرة أيضا بالفقيه الحافظ للأحكام
والمذاهب إذا لم يكن متمكنا من الاجتهاد والدليل على هذه
المسائل أن هؤلاء كالعوام فيما لا يتمكنون من الاجتهاد فيه فلا
يكون بقولهم عبرة أما الأصولي المتمكن من الاجتهاد إذا لم يكن
حافظا للأحكام فالحق أن خلافه معتبر خلافا لقوم
والدليل عليه أنه متمكن من الاجتهاد الذي هو الطريق إلى
التمييز بين الحق والباطل فوجب أن يكون قوله معتبرا قياسا على
غيره
(4/198)
المسألة الخامسة لا يعتبر في المجمعين
بلوغهم إلى حد التواتر لأن الآيات والأخبار دالة على عصمة
الأمة والمؤمنين فلو بلغوا والعياذ بالله إلى الشخص الواحد كان
مندرجا تحت تلك الدلالة فكان قوله حجة فأما من أثبت الإجماع
بالعقل من حيث إن اتفاقهم يكشف عن وجود الدليل فيعتبر فيه بلوغ
المجمعين حد التواتر لكنه باطل عندنا على ما مر المسألة
السادسة إجماع غير الصحابة حجة خلافا لأهل الظاهر لنا إن
التابعين إذا اجمعوا كان قولهم سبيلا للمؤمنين فيجب اتباعه
بالآية فإن قلت الآية إنما دلت على وجوب اتباع سبيل المؤمنين
الذين كانوا حاضرين عند نزول الآية لأنهم كانوا هم المؤمنين
أما الذين سيوجدون بعد ذلك فلا يصدق عليهم في ذلك الوقت أنهم
مؤمنون قلت فهذا يقتضي أنه لو مات من أؤلئك الحاضرين واحد أن
لا ينعقد
(4/199)
الإجماع بعد ذلك لكن كثيرا منهم مات قبل
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم نقطع بذلك لكن لا
يمكننا القطع ببقائهم بعد وفاته فيكون الشك فيه شكا في انعقاد
الإجماع
احتج المخالف بأمور أحدها أن أدلة الإجماع لا تتناول إلا
الصحابة فلا يجوز القطع بأن إجماع غيرهم حجة بيان الأول أن
قوله عز وجل وكذلك جعلناكم أمة وسطا وقوله كنتم خير أمة أخرجت
للناس لا شك أنه خطاب مواجهة فلا يتناول إلا الحاضرين وأما
قوله عز وجل ويتبع غير سبيل المؤمنين فكذلك لأن من سيوجد بعد
ذلك لا يصدق عليه في الحال اسم المؤمنين فالآية لا تتناول إلا
من كان مؤمنا حال نزولها وكذا القول في قوله صلى الله عليه
وسلم أمتي لا تجتمع على خطأ وإذا ثبت أن هذه الأدلة لا تتناول
إلا الصحابة وثبت أنه لا طريق إلى
(4/200)
إثبات الإجماع إلا هذه الأدلة وجب أن لا
يكون إجماع غير الصحابة حجة وثانيها أن أهل العصر الثاني لو
أجمعوا لكان إجماعهم إما أن يكون لقياس أو لنص والأول باطل لأن
القياس ليس بحجة عند الكل فلا يجوز أن يكون طريقا إلى صدور
الإجماع من لكل فيبقى الثاني وهو أنهم إنما أجمعوا من جهة النص
والنص إنما وصل إليهم من الصحابة فكان إجماع الصحابة على ذلك
الحكم لأجل ذلك النص أولى فلما لم يوجد إجماعهم علمنا عدم
ذلك النص وثالثها أنه لا بد في الإجماع من اتفاق الكل والعلم
باتفاق الكل لا يحصل إلا عند مشاهدة الكل مع العلم بأنه ليس
هناك أحد سواهم وذلك لا يتأتى إلا في الجمع المحصور كما في
زمان الصحابة أما في سائر الأزمنة فمع كثرة المسلمين وتفرقهم
في مشارق الأرض ومغاربها يستحيل أن يعرف أتفاقهم على شئ من
الأشياء ورابعها أن الصحابة أجمعوا على أن كل مسألة لا تكون
مجمعا عليها فأنه يجوز الاجتهاد فيها فالمسألة التي لا تكون
مجمعا عليها بين الصحابة تكون
(4/201)
محلا للاجتهاد بإجماع الصحابة فلو أجمع
التابعون عليها لخرجت عن أن تكون محلا للإجتهاد وذلك يفضي إلى
تناقض الإجماعين وخامسها أن الصحابة إذا اختلفت على قولين ثم
أجمع التابعون على أحدهما لا يصير القول الثاني مهجورا كما
تقدمت هذه المسألة وإذا كان كذلك فنقول المسألة التي أجمع
التابعون عليها يحتمل أن يكون لواحد من الصحابة فيها قول يخالف
قول التابعين مع أن ذلك القول لم ينقل إلينا ومع هذا الاحتمال
لا يثبت الإجماع فإن قلت لو فتحنا هذا الباب لزم أن لا يبقى شئ
من النصوص دليلا على شئ من الأحكام لاحتمال طريان النسخ
والتخصيص قلت الفرق أن حصول إجماع التابعين مشروط بأن لا يكون
لأحد من
الصحابة قول يخالف قولهم فالشك فيه شك في شرط يتوقف ثبوت
الإجماع عليه فيكون ذلك شكا في حدوث الإجماع والأصل بقاؤه على
العدم وأما في مسألة الإلزام ف اللفظ بظاهره يقتضي العموم
والشك إنما وقع في طريان المزيل والأصل عدم طريانه فظهر الفرق
والجواب عن الأول أن الذي ذكرتموه يقتضي أنه لما مات واحد من
أولئك الحاضرين أن
(4/202)
لا يبقى إجماع الباقين حجة وذلك يقضي إلى
سقوط العمل بالإجماع وهم لا يقولون به وعن الثاني أنه يحتمل أن
تكون تلك الواقعة ما وقعت في زمن الصحابة فلم يتفحصوا عما يمكن
الاستدلال به عليها ثم إنها وقعت في زمن التابعين فتفحصو مع عن
الأدلة فوجودا بعض ما نقلته الصحابة دليلا عليه وعن الثالث أن
حاصل ما ذكرتموه راجع إلى تعذر حصول الإجماع في غير زمان
الصحابة وهذا لا نزاع فيه إنما النزاع في أنه لو حصل كان حجة
وعن الرابع ما مر من الجواب عنه غير مرة وعن الخامس أنه يلزمكم
أن لا يكون إجماع الصحابة حجة لاحتمال أن يكون الصحابي الذي
مات قبل وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام له فيه قول والله
أعلم
(4/203)
القسم السادس فيما
عليه ينعقد الإجماع المسألة الأولى كل
ما لا يتوقف العلم بكون الإجماع حجة على العلم به أمكن إثباته
بالإجماع وعلى هذا لا يمكن إثبات الصانع وكونه تعالى قادرا
عالما بكل المعلومات وإثبات النبوه بالإجماع أما حدوث العالم
فيمكن إثباته به لأنه يمكننا إثبات الصانع بحدوث الأعراض ثم
نعرف صحة النبوة ثم نعرف به الإجماع ثم نعرف به حدوث الأجسام
وأيضا يمكن التمسك به في أن الله عز وجل واحد لأننا قبل العلم
بكونه واحدا يمكننا أن نعلم صحة الإجماع المسألة الثانية
اختلفوا في أن الإجماع في الآراء والحروب هل هو حجة
(4/205)
منهم من أنكر ومنهم من قال إنه حجة بعد
استقراء الرأي وأما قبله فلا والحق أنه حجة مطلقا لأن أدلة
الإجماع غير مختصة ببعض الصور
المسألة الثالثة هل يجوز أن تنقسم الأمة إلى قسمين وأحد
القسمين مخطئون في مسألة والقسم الآخر مخطئون في مسألة أخرى
مثل إجماع شطر الأمة على أن القاتل لا يرث والعبد يرث وإجماع
الشطر الآخر على أن القاتل يرث والعبد لا يرث والأكثرون على
أنه غير جائز لأن خطأهم في مسألتين لا يخرجهم عن أن يكونوا قد
اتفقوا على الخطأ وهو منفي عنهم ومنهم من جوزه وقال لأن الخطأ
ممتنع على كل الأمة لا على بعض الأمة والمخطئون سعيد في كل
واحدة من المسألتين بعض الأمة المسألة الرابعة لا يجوز اتفاق
الأمة على الكفر
(4/206)
وحكى عن قوم أنه يجوز أن ترتد الأمة لأنها
إذا فعلت ذلك لم يكونوا مؤمنين ولا سبيلهم سبيل المؤمنين وإذا
كذبت الرسول خرجت من أن تكون من أمته وجه القول الأول أن الله
عز وجل أوجب اتباع سبيل المؤمنين واتباع سبيلهم مشروط بوجود
سبيلهم وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب هذا إذا
حملنا لفظ المؤمنين على الإيمان بالقلب أما إذا حملناه على
التصديق باللسان ظهر أن الآية دالة على أن المصدقين في الظاهر
لا يجوز إجماعهم على الخطأ ذلك يؤمننا من إجماعهم على الكفر
المسألة الخامسة يجوز اشتراك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا
به لأن عدم العلم بذلك الشئ إذا كان صوابا لم يلزم من إجماعهم
عليه محذور وللمخالف أن يقول لو اجمعوا على عدم العلم بذلك
الشئ
(4/207)
لكان عدم العلم به سبيلا للمؤمنين فكان يجب
اتباعهم فيه حتى يحرم تحصيل العلم به
(4/208)
القسم السابع في حكم
الإجماع المسألة الأولى جاحد الحكم
المجمع عليه لا يكفر خلاف لبعض الفقهاء
(4/209)
لنا أن أدلة أصل الإجماع ليست مفيدة للعلم
فما تفرع عليها أولى أن لا يفيد العلم بل غايته الظن ومنكر
المظنون لا يكفر بالإجماع وايضا فبتقدير أن يكون أصل كون
الإجماع حجة معلوما لا مظنونا لكن العلم به غير داخل في ماهية
الاسلام وإلا لكان من الواجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن
لا يحكم بإسلام أحد حتى يعرفه أن الإجماع حجة ولما لم يفعل ذلك
بل لم يذكر هذه المسألة صريحا طول عمره صلى الله عليه وسلم
علمنا أن العلم به ليس داخلا في ماهية الإسلام وإذا لم يكن
العلم بأصل الإجماع معتبرا
في الإسلام وجب أن لا يكون العلم بتفاريعه داخلا فيه المسألة
الثانية الإجماع الصادر عن الاجتهاد حجة خلافا للحاكم صاحب
المختصر
(4/210)
لنا أنهم لما أجمعوا على ذلك الحكم صار
سبيلا لهم فوجب اتباعه للآية فإن قلت ومن سبيلهم إثباته
بالاجتهاد وجواز القول بخلافه إذا لاح اجتهاد اخر قلت ومن
سبيلهم إثباته بطريق كيف كان فأما تعينه فقد أجمعوا على أنه
غير معتبر وعن الثاني أن تجويزهم القول بخلافة حاصل لا مطلقا
بل بشرط أن لا يحصل الأتفاق المسألة الثالثة اختلفوا في أنه هل
يجوز انعقاد الإجماع بعد إجماع على خلافه ذهب أبو عبد الله
البصري إلى جوازه لأنه لا امتناع في إجماع الأمة على قول شرط
أن لا يطرأ عليه إجماع اخر ولكن أهل الإجماع لما اتفقوا على أن
كل ما أجمعوا عليه فإنه واجب العمل به في كل الأعصار فلا جرم
أمنا من وقوع هذا الجائز وذهب الأكثرون إلى أنه غير جائز لأنه
يكون أحدهما خطأ لا محالة
وإجماعهم على الخطأ غير جائز
(4/211)
والقول الأول عندنا أولى المسألة الرابعة
إذا أجمعوا على شئ وعارضه قول الرسول صلى الله عليه وسلم فإما
أن يعلم أن قصد النبي صلى الله عليه وسلم بكلامه ما هو ظاهره
وقصد أهل الإجماع بكلامهم ما هو ظاهره أو يعلم أحدهما دون
الثاني أو لا يعلم واحد منهما والأول غير جائز لامتناع تناقض
الأدلة وإن كان الثاني قدمنا ما علم ظهوره وإن كان الثالث فإن
كان أحدهما أخص من الآخر خصصنا الأعم بالأخص توفيقا بين
الدليلين بقدر الإمكان وإن لم يكن كذلك تعارضا لأنا نقطع بأن
النبي صلى الله عليه وسلم والأمة أراد أحدهما بكلامه غير ظاهرة
لكنا لا نعلم أيهما كذلك فلا جرم يتساقطان والله أعلم
(4/212)
|