المحصول للرازي

الكلام في الأخبار وهو مرتب على مقدمه وقسمين

(4/213)


أما المقدمة ففيها مسائل المسألة الأولى
لفظ الخبر حقيقة في القول المخصوص وقد يستعمل في غير القول كقول الشاعر

(4/215)


تخبرني العينان ما القلب كاتم وكقول المعري نبي من الغربان ليس على شرع يخبرنا أن الشعوب إلى صدع وكقولهم خبر الغراب بكذا لكنه مجاز فيه بدليل أن من وصف

(4/216)


غيره بأنه مخبر أو أخبر لم يسبق إلى فهم السامع إلا القول المسألة الثانية ذكروا في حده أمورا ثلاثة أحدها أنه الذي يدخله الصدق أو الكذب وثانيها أنه الذي يحتمل التصديق أو التكذيب وثالثها ما ذكره أبو الحسين البصري وهو أنه كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر من الأمور نفيا أو إثباتا قال واحترزنا بقولنا بنفسه عن الأمر فإنه يفيد وجوب الفعل لكن لا بنفسه لأن ماهية الأمر استدعاء الفعل والصيغة لا تفيد إلا هذا القدر
ثم إنها تفيد كون الفعل واجبا تبعا لذلك وكذا القول في دلالة النهي على قبح الفعل فأما قولنا هذا الفعل واجب أو قبيح فإنه يفيد بصريحه تعلق الوجوب أو القبح بالفعل وأعلم أن هذه التعريفات ردية أما الأول فلان الصدق والكذب نوعان تحت الخبر والجنس جزء

(4/217)


من ماهية النوع وأعرف منها فإذن لا يمكن تعريف الصدق والكذب إلا بالخبر فلو عرفنا الخبر بهما لزم الدور واعترضوا عليه أيضا من ثلاثة أوجه أحدها أن كلمة أو للترديد وهو ينافي التعريف ولا يمكن إسقاطها هاهنا لأن الخبر الواحد لا يكون صدقا وكذبا معا وثانيها ان كلام الله عز وجل لا يدخله الكذب فكان خارجا عن هذا التعريف وثالثها أن من قال محمد ومسيلمة صادقان فإن هذا خبر مع أنه ليس بصدق ولا كذب ويمكن أن يجاب عن الأول بأن المعرف لماهية الخبر أمر واحد وهم إمكان تطرق أحد هذين الوصفين إليه وذلك لا ترديد فيه وعن الثاني
أن المعتبر إمكان تطرق أحد هذين الوصفين إليه وخبر الله تعالى كذلك لأنه صدق

(4/218)


وعن الثالث أن قوله محمد ومسيلمة صادقان خبران وإن كانا في اللفظ خبرا واحدا لأنه يفيد إضافة الصدق إلى محمد عليه الصلاة والسلام والى مسيلمة وأحد الخبرين صادق والثاني كاذب سلمنا أنه خبر واحد لكنه كاذب لأنه يقتضي إضافة الصدق إليهما معا وليس الأمر كذلك فكان كذبا لا محالة وأما التعريف الثاني فالاعتراض عليه أن التصديق والتكذيب عبارة عن الإخبار عن كون الخبر صدقا وكذا فقولنا الخبر ما يدخله التصديق والتكذيب جار مجرى أن يقال الخبر هو الذي يجوز الإخبار عنه بأنه صدق أو كذب فيكون هذا تعريفا للخبر بالخبر وبالصدق والكذب والأول هو تعريف الشئ بنفسه والثاني تعريف الشئ بما لا يعرف إلا به وأما الثالث فالاعتراض عليه من ثلاثة أوجه

(4/219)


أحدها أن وجود الشئ عند أبي الحسين عين ذاته فإذا قلنا إن السواد موجود فهو خبر مع أنه إضافة شئ إلى شئ اخر فإن قلت السؤال إنما يلزم أن لو قال إضافة أمر إلى أمر اخر
وإنه لم يقل ذلك بل قال إضافة أمر إلى أمر وهذا أعم من قولنا إضافة أمر إلى أمر اخر وايضا فقولنا السواد موجود معناه أن المسمى بلفظ السواد مسمى بلفظ الموجود قلت الجواب عن الأول أن الإضافة مشعرة بالتغاير إذ لو لم يكن ذلك معتبرا لدخل اللفظ المفرد في الحد وعن الثاني أن موضع الإلزام ليس هو الإخبار عن التسمية بل عن وجوده وحصوله في نفسه ومعلوم أن من تصور ماهية المثلث أمكنه أن يشك في أنه هل هو موجود أم لا فموضع الإلزام ها هنا لا هناك وثانيها أنا إذا قلنا الحيوان الناطق يمشي فقولنا الحيوان الناطق

(4/220)


يقتضي نسبة الناطق إلى الحيوان مع أنه ليس بخبر لأن الفرق بين النعت والخبر معلوم بالضرورة فإن قلت أزيد في الحد قيدا اخر فاقول إنه الذي يقتضي نسبة أمر إلى أمر بحيث يتم معنى الكلام والنعت ليس كذلك قلت إن عنيتم بكون الكلام تاما إفادته لمفهومه فذاك حاصل في النعت مع المنعوت لأن قول القائل الحيوان الناظق بكر يفيد معناه بتمامه وإن عنيتم به إفادته لتمام الخبر لم يعقل ذلك إلا بعد تعقل الخبر فإذا عرفتم به الخبر لزم الدور
وإن عنيتم به معنى ثالثا فاذكروه وثالثها أن قولنا نفيا وإثباتا يقتضي الدور لأن النفي هو الإخبار عن عدم الشئ والإثبات هو الإخبار عن وجوده فتعريف الخبر بهما دور واذا بطلت هذه التعريفات فالحق عندنا أن تصور ماهية الخبر غني عن الحد والرسم لدليلين الأول أن كل أحد يعلم بالضرورة معنى قولنا إنه موجود وإنه ليس بمعدوم وأن الشئ الواحد لا يكون موجودا ومعدوما ومطلق الخبر جزء

(4/221)


من الخبر الخاص والعلم بالكل موقوف على العلم بالجزء فلو كان تصور مطلق ماهية الخبر موقوفا على الاكتساب لكان تصور الخبر الخاص أولى أن يكون كذلك فكان يجب أن لا يكون فهم هذه الأخبار ضروريا ولما لم يكن كذلك علمنا صحة ما ذكرناه والثاني أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر ويميزه عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر ولولا أن هذه الحقائق متصورة تصورا بديهيا وإلا لم يكن الأمر كذلك فإن قلت الخبر نوع من أنواع الألفاظ والألفاظ ليست تصوراتها بديهية فكيف قلت إن ماهية الخبر متصورة تصورا بديهيا قلت حكم الذهن بين أمرين بأن أحدهما له الآخر أو ليس له الآخر معقول واحد لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وكل أحد يدركه من نفسه
ويجد التفرقة بينه وبين سائر أحواله النفسانية من ألمه ولذته وجوعه وعطشه وإذا ثبت هذا فنقول إن كان المراد من الخبر هو الحكم الذهني فلا شك أن تصوره في الجملة بديهي مركوز في فطرة العقل وإن كان المراد منه اللفظة الدالة على هذه الماهية فالاشكال غير وارد أيضا لأن مطلق اللفظ الدال على المعنى البديهي التصور يكون أيضا بديهي التصور

(4/222)


المسألة الثالثة قيل لا بد في الخبر من الإرادة لأن هذه الصيغة قد تجي ولا تكون خبرا إما لصدورها عن الساهي والحاكي أو لأن المراد منها الأمر مجازا كما في قوله تعالى والجروح قصاص وإذا كانت الصيغة صالحة للدلالة على الخبرية وعلى غيرها لم ينصرف الى أحد الأمرين دون الآخر إلا لمرجح وهو الإرادة أو الداعي والكلام في هذا الأصل قد تقدم في أول باب الأمر وأيضا فلا معنى لكون الصيغة خبرا إلا أن المتلفظ تلفظ بها وكان مقصودة تعريف الغير ثبوت المخبر به للمخبر عنه أو سلبه عنه وزعم أبو علي وأبو هاشم أن الصيغة حال كونها خبرا صفة معللة بتلك الإرادة وإبطاله أيضا قد مضى في أول باب الأمر المسألة الرابعة إذا قال القائل العالم حادث فمدلول هذا الكلام حكمه بثبوت

(4/223)


الحدوث للعالم لا نفس ثبوت الحدوث للعالم إذ لو كان مدلوله نفس ثبوت الحدوث للعالم لكان حيثما وجد قولنا العالم محدث كان العالم محدثا لا محالة فوجب أن لا يكون الكذب خبرا ولما بطل ذلك علمنا أن مدلول الصيغة هو الحكم بالنسبة لا نفس النسبة بقي ها هنا البحث عن ماهية الحكم فإنه لا يجوز أن يكون المراد منه الاعتقاد لإن الإنسان قد يخبر عما لا يعتقد فيه ألبته لأن من لا يعتقد أن زيدا في الدار يمكنه والحالة هذه أن يقول زيد في الدار ولا يجوز أن يكون المراد منه الإرادة لأن الإخبار قد يكون عن الواجب والممتنع مع أن الإرادة يمتنع تعلقها به فلم يبق إلا أن يكون الحكم الذهني أمرا مغايرا لجنس الاعتقادات والقصود وذلك هو كلام النفس الذي لا يقول به أحد إلا أصحابنا المسألة الخامسة اتفق الأكثرون على أن الخبر لا بد وأن يكون إما صدقا وإما كذبا خلافا للجاحظ

(4/224)


والحق أن المسألة لفظية لأنا نعلم بالبديهة أن كل خبر فإما أن يكون مطابقا للمخبر عنه أو لا يكون فإن أريد بالصدق الخبر المطابق كيف كان وبالكذب الخبر الغير المطابق كيف كان وجب القطع بأنه لا واسطة بين الصدق والكذب وإن أريد بالصدق ما يكون مطابقا مع أن المخبر يكون عالما بأنه غير مطابق كان هناك قسم ثالث بالضرورة وهو الخبر الذي لا يعلم
قائله أنه مطابق أم لا فثبت أن المسألة لفظية فنقول للجاحظ أن يحتج على قوله بالنص والمعقول أما النص فقوله تعالى حكاية عن الكفار أفترى على الله كذبا أم به جنة جعلوا إخباره عن نبوة نفسه إما كذبا وإما جنونا مع أنهم كانوا يعتقدون أنه ليس برسول الله على التقديرين وهذا يقتضي أن يكون إخباره عن نبوة نفسه حال جنونه مع أنه ليس نبي عندهم لا يكون كذبا لأن

(4/225)


المجعول في مقابلة الكذب لا يكون كذبا وأما المعقول فمن وجهين الأول أن من غلب على ظنه أن زيدا في الدار فأخبر عن كونه في الدار ثم ظهر أنه ما كان كذلك لم يقل أحد إنه كذب في هذا الخبر الثاني أن أكثر العمومات والمطلقات مخصصة ومقيدة فلو كان الخبر الذي لا يطابق المخبر كذبا لتطرق الكذب إلى كلام الشارع واحتج الجمهور باتفاق الأمة على تكذيب اليهود والنصارى في كفرياتهم مع أنا نعلم أن فيهم من لا يعلم فساد تلك المذاهب ويمكن أن يجاب عنه بأن أدلة الإسلام لما كانت جلية قوية كان حالهم شبيها بحال من أخبر عن الشئ مع العلم بفساده
تنبيه واعلم أن الخبر إما أن يقطع بكونه صدقا أو بكونه كذبا أو لا يقطع بواحد منهما فلا جرم رتبنا هذا الكتاب على قسمين القسم الأول في الخبر المقطوع به وهو إما أن يكون صدقا أو كذبا أما الصدق فطريق هذا القطع إما أن يكون هو التواتر أو غيره ونحن نتكلم أولا في التواتر ثم في سائر الطرق المفيدة للقطع ثم في الطرق التي يظن أنها تفيد القطع وإن لم تكن كذلك

(4/226)


الباب الأول في التواتر المسألة الأولى التواتر في أصل اللغة عبارة عن مجئ الواحد بعد الواحد بفترة بينهما مأخوذ من قوله تعالى ثم أرسلنا رسلنا تترا أي رسولا بعد رسول بفترة بينهما فكذا التواتر في المخبرين المراد به مجيئهم على غير الاتصال وأما في اصطلاح العلماء فهو خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم المسألة الثانية أكثر العلماء اتفقوا على أن أمثال هذه الأخبار قد تفيد العلم سواء أكان إخبارا على أمور موجودة في زماننا كالإخبار عن البلدان الغايبة قد أو عن أمور ماضية كالإخبار عن وجود الأنبياء والملوك الذي كانوا في القرون الماضية

(4/227)


وحكي عن السمنية أن خبر التواتر عن الأمور الموجودة في زماننا لا يفيد العلم اليقيني ألبتة بل الحاصل منه الظن الغالب القوي ومنهم من سلم أن خبر التواتر عن الأمور الموجودة في زماننا يفيد العلم لكن الخبر عن الأمور الماضية في القرون الحالية لا يفيد العلم ألبتة لنا أنا نجد أنفسنا جازمة ساكنة بوجود البلاد الغائبة والأشخاص الماضية جزما خاليا عن التردد جاريا مجرى جزمنا بوجود المشاهدات فيكون المنكر لها كالمنكر للمشاهدات فلا يستحق المكالمة قال الخصم أنا لا أنكر وجود الظن الغالب القوي الذي لا يكاد يتميز عند الأكثرين عن اليقين التام لكن الكلام في أنه هل حصل اليقين أو لا والذي يدل على أن الحاصل ليس بيقين وجهان الأول أنا إذا عرضنا على عقولنا أن الواحد نصف الإثنين وعرضنا على

(4/228)


عقولنا وجود جالينوس وفلان وفلان عند هذه الأخبار المتواترة وجدنا الجزم الأول أقوى وآكد من الجزم الثاني وقيام التفاوت يدل على احتمال تطرق النقيض إلى الاعتقاد الثاني وقيام هذا الاحتمال فيه كيف كان يخرجه عن كونه يقينا الثاني أن جزمي بوجود هذه المخبرات وفي ليس أقوى من جزمي بأن ولدي
الذي أراه في هذه الساعة هو الذي رأيته بالأمس ثم هذا الجزم ليس بيقين لأنه يجوز أن يوجد شخص مساو لولدي في الشخص والصورة من كل الوجوه إما لأن القادر المختار خلقه أو لأن شيئا من التشكلات الفلكية يقتضي وجوده عند منكري القادر فثبت أن هذا الجزم ليس بيقين بل ظن فكذلك الجزم الحاصل عقيب خبر التواتر فإذا قلت لو جوزنا أن يكون هذا الشخص الذي أراه الآن غير الذي رأيته بالأمس أدى ذلك إلى الشك في المشاهدات قوله لعل القادر خلق مثله أو الشكل الغريب الفلكي اقتضاه قلنا بل ها هنا قام برهان مانع منه وهو أن الله تعالى لو فعل ذلك لأفضى إلى اشتباه الشخص وذلك تلبيس وهو على الله تعالى محال

(4/229)


قلنا لا نسلم أن تجويزه يفضي إلى الشك في المشاهدات لأن المشاهد هو وجود هذا الذي أراه الآن فأما أن هذا هو الذي رأيته بالأمس فهو غير مشاهد فلا يلزم من تطرق الشك إلى هذا المعنى تطرقه إلى المشاهدات وأما البرهان الذي ذكره على امتناع هذا الاحتمال فلا يدفع الإلزام لأن هذا الجزم لو كان بناء على ذلك البرهان لكان الجاهل بذلك البرهان خاليا عن ذلك الجزم لكن العوام لا يعرفون هذا البرهان فيجب أن لا يحصل لهم ذلك الجزم والجواب أن هذا تشكيك في الضروريات فلا يستحق الجواب كما أن شبه منكري المشاهدات لا تستحق الجواب لمثل هذا السبب
المسألة الثالثة العلم الحاصل عقيب خبر التواتر ضروري وهو قول الجمهور خلافا

(4/230)


لأبي الحسين البصري والكعبي من المعتزلة ولإمام الحرمين والغزالي منا

(4/231)


وأما الشريف المرتضى من الشيعة فإنه كان متوقفا فيه لنا لو كان ذلك العلم نظريا لما حصل لمن لا يكون من أهل النظر كالصبيان والبله ولما حصل ذلك لهم علمنا أنه ليس بنظري اعترض أبو الحسين والمرتضى على هذا الوجه بكلام واحد وهو أن النظر في ذلك ليس إلا ترتيب العلوم بأحوال المخبرين وهذا القدر حاصل للعامة والمراهقين لأنه قد حصل في عقولهم علوم كثيرة وهم يستنتجون كل من تركيبها علوما آخر سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك لكن معنا ما يبطله من ثلاثة أوجه

(4/232)


الأول ما ذكره أبو الحسين البصري وهو أن الاستدلال عبارة عن ترتيب علوم أو ظنون يتوصل بها إلى علوم أو ظنون وكل اعتقاد توقف وجوده على ترتيب اعتقادات أخر فهو استدلالي والعلم الواقع بالتواتر هذا سبيله لأنا لا نعلم وجود ما أخبرنا أهل التواتر عنه إلا إذا علمنا أنه لا داعي للمخبرين إلى الكذب ولا لبس في المخبر عنه وأنه متى كان كذلك استحال كون
الخبر كذبا وإذا بطل كونه كذبا ثبت كونه صدقا فالسامع لخبر التواتر ما لم يتقرر عنده كل واحدة من هذه المقدمات لم يحصل له العلم فكان ذلك العلم استدلاليا الثاني أن العلم الحاصل بالخبر المتواتر لو كان ضروريا لكنا مضطرين إليه بحيث لا يمكننا الانفكاك عنه ولو كان كذلك لعلمنا بالضرورة كوننا عالمين على سبيل الاضطرار بذلك وكان ينبغي أن يعلم بالضرورة كل عاقل كون هذا العلم ضروريا كما في سائر العلوم الضرورية ولما لم يكن كذلك علمنا أن هذا العلم ليس بضروري الثالث ذكره الكعبي وهو أنه لو جاز أن يعلم ما غاب عن الحس

(4/233)


بالضرورة لجاز أن يعلم المحسوس بالاستدلال ولما بطل هذا بطل الأول والجواب قوله ذلك الاستدلال سهل يتأتى من كل أحد قلنا سنبين ان شاء الله تعالى في فصل مفرد أن ذلك الاستدلال غامض جدا وهو الجواب بعينه عن المعارضة الأولى وعن الثاني أن كون العلم ضروريا كيقية للعلم ويجوز أن يكون أصل الشئ معلوما وتكون كيفيته مجهولة
وعن الثالث أنه لا بد من الجامع المسألة الرابعة استدل أبو الحسين البصري على أن خبر أهل التواتر صدق وقال لو كان كذبا لكان المخبرون إما أن يكونوا ذكروه مع علمهم بكونه كذبا أو لا مع علمهم بكونه كذبا والقسمان باطلان فبطل كونه كذبا فتعين كونه

(4/234)


صدقا فكان مفيدا للعلم إنما قلنا إنه لا يجوز أن يذكره المخبرون مع علمهم بكونه كذبا لأنهم على هذا التقدير إما أن يكونوا قصدوا فعل الكذب لغرض ومرجح أو لا لغرض ومرجح والثاني محال أما أولا فلان الفعل لا يحصل في وقت دون وقت إلا لمرجح وإلا لزم ترجح أحد الطرفين على الآخر من غير مرجح وهو محال وأما ثانيا فلان كونه كذبا جهة قبح وجهة القبح صارفة عن الفعل ومع حصول الصارف القوي عن الفعل يستحيل حصول الفعل إلا لداع أقوى من ذلك الصارف وأما القسم الأول وهو أنهم قصدوا فعل الكذب لغرض فذلك الغرض إما نفس كونه كذبا أو شئ أخر والأول باطل لأن كونه كذبا جهة صرف لا جهة دعاء والثاني باطل لأن ذلك الغرض إما أن يكون دينيا أو دنيويا
وعلى التقديرين فإما أن يكون رغبة أو رهبة وعلى التقديرات فإما أن يقال كلهم كذبوا لداع واحد من هذه

(4/235)


الأقسام أو يقال فعله بعضهم لبعض هذه الدواعي وبعضهم للبعض الآخر وعلى كل التقديرات فإما أن تحصل تلك الدواعي بالتراسل أو لا بالتراسل والأقسام كلها باطلة أما إنه لا يجوز أن يكون للدين فلان قبح الكذب متفق عليه سواء كان ذلك بالعقل أو بالشرع فكان ذلك صارفا دينيا لا داعيا دينيا وأما الرغبة الدنيوية فقد تكون رجاء عوض على الكذب أو لأجل أن يسمع غيره شيئا غريبا وإن كان لا أصل له والأول باطل لأن كثيرا من الناس لا يرضى بالعوض الكثير في مقابلة الكذب وإن احتاج إليه وكذا القول في القسم الثاني وأما الرهبة فهي لا تكون إلا من السلطان لكن السلطان لا يقدر على أن يجمع الجمع العظيم على الكذب ألا ترى أن السلطان لا يمكنه ذلك في جميع أهل بغداد لأنه لا يعلم كل واحد منهم حتى يجعله مضطرا إلى ذلك الكذب ولأن السلطان كثيرا ما يخوف الناس عن التحدث بكلام مع أنهم آخر الأمر يقولونه حتى يصير مشهورا بينهم ولأنا نعلم في كثير من الأمور إنه لا غرض للسلطان في أن يخبر عنه بالكذب ولا يجوز أيضا أن يقال الجماعة العظيمة كذبوا بعضهم للرغبة
وبعضهم للرهبة وبعضهم للتدين لأن كلامنا في جماعة عظيمة أبعاضها

(4/236)


جماعات عظيمة يمتنع تساوي أجزائها في قوة هذه الدواعي وأما القسم الثاني وهو أنهم كذبوا مع أنهم لم يعلموا كونهم كاذبين فذاك لا يمكن إلا إذا اشتبه عليهم الشئ بغيره والاشتباه في الضروريات باطل وشرط خبر التواتر أن يكون واقعا عما علم وجوده بالضرورة وهذا إذا أخبر المخبرون عن المشاهدة وأما ما توسط بين من أخبرنا وبين من شاهد ذلك واسطة واحدة أو وسائط فإنه لا يحصل العلم بخبرهم إلا إذا علمنا كون الوسائط متصفين بالصفات المعتبرة في أهل التواتر وذلك إنما يعلم بطريقين الأول أن يكون أهل التواتر الذين رأيناهم أخبروا أن أولئك الذين مضوا كانوا مستجمعين للشرائط المعتبرة في أهل التواتر والثاني أن كل ما ظهر بعد خفاء وقوى بعد ضعف فلا بد وأن يشتهر فيما بين الناس حدوثه ووقت حدثوه فإن مقالة الجهمية والكرامية لما حدثت

(4/237)


بعد أن لم تكن لا جرم اشتهر في ما بين الناس وقت حدوثها فلما لم يظهر شئ من ذلك علمنا أن الأمر كان كذلك في كل الأزمنة هذا تمام الاستدلال والاعتراض عليه أن يقال لأبي الحسين إما أن يكون غرضك من هذا الاستدلال ظنا قويا بكون الخبر صدقا
فذلك مسلم أو اليقين فلا نسلم أن ما ذكرته يفيد اليقين لأن التقسيم المفضي إلى اليقين يجب أن يكون دائرا بين النفي والاثبات ثم نبين فساد كل قسم سوى المطلوب بدليل قاطع وهذا الذي ذكره أبو الحسين ليس كذلك فلنبين هذه الأشياء فنقول لم لا يجوز أن يقال كذبوا لا لغرض قوله الفعل بدون المرجح محال قلنا هذا لا يتم على مذهبك لأنه يقتضي الجبر وأنت لا تقول به بيان أنه يقتضى الجبر أن قادرية العبد صالحة للفعل والترك وإلا لزم الجبر فلو لم يترجح أحد الطرفين إلا لمرجح فذاك المرجح إن كان من فعل العبد عاد

(4/238)


الطلب من أنه لم فعل مرجح أحد الطرفين دون الآخر وإن كان ذلك لمرجح اخر من فعله لزم التسلسل أو ينتهي إلى مرجح ليس من فعله فعند حصول ذلك المرجح الذي ليس من فعله إما أن يكون ترتب أثره عليه واجبا أو لا يكون واجبا فإن كان الأول لزم الجبر وإن كان الثاني فهو باطل وبتقدير صحته فالإلزام عليك وارد أما أنه باطل فلأنه إذا لم يجب ترتب أثره عليه جاز حينئذ أن لا يترتب عليه في بعض الأوقات ذلك الأثر وجاز في وقت آخر أن يترتب إذ لو لم يجز ذلك أصلا لما كان ذلك مرجحا تاما وكلامنا في المرجح التام وإذا كان كذلك فترتب الأثر عليه في أحد الوقتين دون الوقت الآخر إما أن يكون لمزية يختص بها ذلك الوقت دون الوقت الثاني وإما لا يكون كذلك
فإن كان الأول فقبل حصولك * تلك المزية ما كان المرجح التام حاصلا لكنا قد فرضناه حاصلا هذا خلف ثم إننا ننقل الكلام إلى تلك المزية فنبين أنها من فعل الله عز وجل وبعد حصولها فإن وجب ترتب الأثر عليها لزم الجبر وإن لم يجب افتقر إلى مزية أخرى لا إلي نهاية وهو محال وأما إن لم يكن ترتب الأثر على ذلك المرجح في ذلك الوقت لأجل

(4/239)


حصول مزية في ذلك الوقت دون سائر الأوقات كانت نسبة تلك المزية إلى زماني ترتب الأثر عليه ولا ترتبه عليه على السواء ولا مرجح ولا مخصص ألبته فيكون اختصاص ذلك الوقت بترتب ذلك الأثر على ذلك المرجح دون الوقت الثاني يكون ترجيحا لأحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجح وهو محال وقد بان بهذا أنه ما لم يحصل للعبد مرجح من قبل الغير يمتنع أن يكون فاعلا وإذا حصل المرجح وجب أن يكون فاعلا وهذا هو الجبر وأما بتقدير أن لا يجب ذلك فالإشكال وارد لأن عند حصول مرجح الوجود إذا جاز أن لا يوجد الوجود كان اللاوجود فلا واقعا لا عن مرجح أصلا وإذا جوزت ذلك بطل قولك الفعل لا يقع إلا عن الداعي فلم لا يجوز في أهل التواتر أن يكذبوا لا لداع وأما قوله ثانيا كونه كذبا جهة صرف لا جهة دعاء قلنا هذا بناءا على أن الكذب قبيح لكونه كذبا وقد مر الكلام في إبطاله في أول الكتاب سلمناه لكن عند حصول الصارف لو وجب الترك لزم الجبر
وأنت لا تقول به

(4/240)


وإن لم يجب فقد جوزت عند حصول الصارف أن لا يقع العدم وجواز أن لا يقع العدم يقتضي جواز أن يقع الوجود فقد جوزت مع الصارف عن الفعل أن يوجد الفعل فلم يلزم من كون الكذب جهة صرف امتناع أن يوجد الكذب سلمنا أنه لا بد من داع فلم لا يجوز أن يوجد فيه شهوة متعلقة بالكذب لكونه كذبا ومتى كان كذلك أقدم العاقل على الكذب لا لغرض آخر سوى كونه كذبا فإن قلت إنه من المحال أن يشتهي العاقل الكذب لمجرد كونه كذبا وإن سلمنا جوازه لكن في حق الواحد والإثنين أما في حق الجمع العظيم فمحال وهذا كما أنه جاز على كل واحد منهم وحده أن يأكل في الساعة المعينة من اليوم المعين طعاما واحدا لكن لا يجوز اتفاق الكل عليه قلت الجواب عن الأول أنا لا نسلم امتناع ذلك فما الدليل عليه وكيف ونرى جمعا اعتادوا الكذب بحيث لا يصبرون عنه وإن كانوا يعلمون أن ذلك يضرهم عاجلا أو اجلا وإذا كان كذلك علمنا أن دعوى الضرورة باطلة

(4/241)


وعن الثاني
نسلم أن استقراء العادة يفيد ظنا قويا بأن الخلق العظيم لا يتفقون على أكل طعام معين في زمان معين لكن لا نسلم حصول اليقين التام بذلك كيف وذلك جائز على كل واحد منهم وصدوره من كل واحد منهم لا يمنع صدوره عن الباقي فيكون صدوره عن كلهم كصدوره عن كل واحد منهم ومع هذه الحجة اليقينية على الجوار كيف تدعى ضرورة الامتناع سلمنا أنه لا بد من غرض سوى كونه كذبا فلم قلت إن ذلك الغرض إما أن يكون دينيا أو دنيويا أو رغبة او رهبه منه وما الدليل القاطع على الحصر سلمناه فلم لا يجوز أن يكون دينيا قوله حرمة الكذب متفق عليها قلنا مطلقا لا نسلم فإن كثيرا من الناس يعتقد أن الكذب المفضى إلى حصول مصلحة في الدين جائز ولذلك نرى جمعا من الزهاد وضعوا أشياء كثيرة من الأحاديث في فضائل الأوقات وزعموا أن غرضهم منه حمل الناس على العبادات وإذا كان كذلك فلعلهم اتفقوا على الكذب لما أنهم اعتقدوا فيه حصول مصلحة دينية وإن كان الأمر بخلاف ما تخيلوه سلمنا أنه ليس الغرض دينيا فلم لا يجوز أن يكون لرغبة دنيوية قوله الرغبة إما أخذ المال أو إسماع الغير كلاما غريبا

(4/242)


قلنا أين الدليل على الحصر ثم اين الدليل القاطع على فساد هذين القسمين قوله الجماعات العظيمة لا يشتركون في الرغبة إلى الكذب لأجل هذين الغرضين
قلنا إن أدعيت الظن القوي فلا نزاع وإن ادعيت الجزم المانع من النقيض فما الدليل عليه فإنه إذا جاز ذلك في العشرة أو المائة ولم يكن ثبوت هذا الحكم للبعض مانعا من ثبوته للباقي فلم قلت إنه يمتنع كون الكل كذلك والذي يؤكده أنا لو قدرنا أن أهل بلدة علموا أن أهل سائر البلاد لو عرفوا ما في بلدهم من الوباء العام لتركوا الذهاب إلى بلدهم ولو تركوا ذلك لاختلت المعيشة في تلك البلدة وقدرنا أن أهل تلك البلدة كانوا علماء حكماء جاز في مثل هذه الصورة أن يتطابقوا على الكذب وإن كانوا كثيرين جدا فثبت بهذا إمكان اتفاق الخلق العظيم على الكذب لأجل الرغبة سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون للرهبة قوله السلطان لا يمكنه إسكات الكل قلنا إن أدعيت الظن القوي فمسلم وإن ادعيت اليقين فما الدليل

(4/243)


عليه فإنه إذا جاز إسكات الألف والألفين رهبة فلم لا يجوز إسكات الكل وما الضابط فيما يجوز وفيما لا يجوز فإن قلت أجد العلم ضروري بذلك من غير دلالة قلنا هذا الاعتقاد ليس أقوى من الاعتقاد الحاصل بوجود محمد وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام فلم لا تدعون الضرورة في ذلك حتى تتخلصوا عن مثل هذه الدلالات الضعيفة سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يقال إنهم كذبوا لدواع مختلفة بعضهم للرغبة وبعضهم للرهبة وبعضهم بالمراسلة وبعضهم بالمشافهة
قوله الكلام في جماعة عظيمة بعضها جماعات عظيمة قلنا إما أن يكون من شرط أهل التواتر أن يكون أبعاضهم بالغين حد التواتر أو ليس من شرطهم ذلك والأول باطل وإلا لزم أن يكون كل واحد من أبعاض تلك الأبعاض كذلك ولزم التسلسل والثاني حق ونحن نفرض الكلام فيما إذا كان الأمر كذلك وحينئذ يبطل ما ذكروه سلمنا أنهم ما كذبوا عمدا فلم لا يجوز أن يقال كذبوا سهوا لأن الأمر اشتبه عليهم والاشتباه حاصل في المحسوسات بدليل العقل والنقل أما العقل فمن وجهين

(4/244)


الأول أن الله تعالى قادر على أن يخلق شخصا اخر مثل زيد في شكله وفي تخطيطه وبهذا التقدير لا يبقى اعتمادا على التواتر لجواز أن يكونوا قد رأوا امثل زيد فظنوه زيدا ومما يؤكد ذلك أن الأجسام المعدنية والنباتية قد تتشابه بحيث يعسر تمييز بعضها عن بعض وكذلك الحيوانا: لا سيما البرية والجبلية قد تبلغ مشابهة بعضها بعض إلى حد يعسر التمييز وإذا كان كذلك فلم لا يجوز مثله في الناس غايته أنه نادر ولكن الندرة لا تمنع الاحتمال فإن قلت أن حكمته تعالى تمنعه من خلق شخص مثل زيد لما فيه من التلبيس
قلت قد سبق جوابه الثاني أن غلط الناظر أمر مشهور فإن الإنسان قد يرى المتحرك ساكنا وبالعكس وذلك يقتضي حصول اللبس في الحسيات وأما النقل فمن وجهين

(4/245)


الأول أن المسيح عليه السلام شبه بغيره فإن قلت هذا لا يلزم من وجوه أحدها أن ذلك كان في زمان عيسى عليه السلام وخرق العادة جائز في زمان الأنبياء دون سائر الأزمنة وثانيها أن المصلوب تتغير خلقته وشكله فيكون الاشتباه أكثر وأما المباشرون لذلك العمل فكانوا قليلين فيجوز عليهم الكذب عمدا وثالثها أنهم نظروا إليه من بعيد وذلك مظنة الاشتباه قلت الجواب عن الأول أنه لو جاز ذلك في زمان الأنبياء لجاز مثله في سائر أزمنة الأنبياء وحينذ لا يمكننا القطع بأن الذي أوجب الصلوات الخمس هو المصطفى صلى الله عليه وسلم لجواز أن يكون شخصا اخر شبه به وأيضا فلم لا يجوز انخراق العادات في هذا الزمان ككرامات غير الأولياء فان

(4/246)


منعوها قلنا هذا لا يستقيم على قول أبي الحسين فإنه لا يمنعها ولأن بتقدير امتناعها فليس ذلك الامتناع معلوما إلا بالبرهان فقبل العلم بذلك البرهان يكون التجويز قائما والعلم بصحة خبر التواتر موقوف على فساد هذا الاحتمال فوجب أن لا يحصل العلم بخبر التواتر لم لمن يعرف بالدليل امتناع الكرامات وعن الثاني أن التغير إنما يكون بعد الصلب والموت فأما حال الصلب فلا وعندكم أن الاشتباه حصل حال الصلب لأنهم لو ميزوا بين ذلك الشخص وبين المسيح عليه السلام لما صلبوا ذلك الشخص وعن الثالث أن الذين مارسوا الصلب كانوا قريبين منه وناظرين إليه ولأن النصاري يروون بالتواتر أنه بقي بعد الصلب وقبل الموت مدة طويلة بحيث رآه الجمع العظيم في بياض النهار وذلك يبطل قولكم الوجه الثاني روي ان جبريل عليه السلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي

(4/247)


وأن الملائكة يوم بدر تشكلوا بأشكال الأدميين الوجه الثالث أن الإنسان ربما يتشبح أحمد له عند الخوف الشديد أو الغضب الشديد أو الفكر الشديد صورة لا وجود لها في الخارج وكل ذلك
مما يؤكد احتمال الاشتباه سلمنا صحة دليلكم في التواتر عن الأمور الموجودة فلم قلتم إن خبر التواتر عن الأمور الماضية في القرون الحالية قد وجدت هذه الشروط في كل الطبقات الماضية قوله في الوجه الأول أهل التواتر في زماننا قد أخبرونا بأن أولئك الذين مضوا كانوا موصوفين بصفات أهل التواتر قلنا هذا بهت صريح لأن الذين أخبرونا ما أخبرنا كل واحد منهم أن الذين أخبروه كانوا بصفة أهل التواتر وأن الذين أخبروا كل واحد ممن أخبره كانوا كذلك بل الذي يمكن ادعاؤه عليهم أنهم سمعوا هذا الخبر من

(4/248)


أناس كثيرين فأما أن يدعى عليهم ما ذكرتموه فبهت لأن أكثر الفقهاء والنحاة لا يتصورون هذه الدعوى على وجهها فضلا عن العوام فضلا عن أن يقال إنهم علموا ذلك بالضرورة قوله لو كان حادثا لظهر زمان حدوثه قلنا لا نسلم أن كل مقالة ظهرت بعد الخفاء فلا بد وأن يشتهر فيما بين الخلق حدوث ظهورها ووقت ظهورها لجواز أن يضع الرجل الواحد مقالة ثم إنه يذكرها لجماعة قليلين ثم كل واحد من أولئك يذكر ذلك الخبر لجماعة أخرى من غير أن يسنده إلى القائل الآول إلى أن يشتهر ذلك الخبر جدا مع أن كل واحد منهم لا يعرف حدوث تلك المقالة ولا زمان حدوثها وبهذا الطريق تحدث الأراجيف بين الناس وبالجملة فعليهم إقامة الدلالة على فساد هذا الاحتمال ثم الذي يفيد القطع بصحة ما ذكرنا أن الوقائع الكبار التي وقعت
لعظماء الملوك الذين كانوا قبل الإسلام بل كيفية وقائع نوح وإدريس وموسى وعيسى عليهم السلام لم ينقل شئ منها إلينا نقل الآحاد فضلا عن التواتر مع كونها من الأمور العظام فعلمنا أن وصول الأخبار إلينا غير واجب فإن قلت ذلك لتطاول مدتها أو لعدم الداعي إلى نقلها قلت فلا بد من ضبط طول المدة وقصرها

(4/249)


وأيضا فيلزم أن لا يكون خبر التواتر بوجود نوح وإبراهيم وإدريس وغيرهم مفيدا للعلم لأنه لا يفيد ما لم يثبت استواء الطرفين والواسطة في نقل الرواة وذلك لا يثبت إلا بأنه لو كان موضوعا لاشتهر الواضع وزمان الوضع فإذا لم يجب ذلك عند تطاول المدة لم يفد ذلك الخبر العلم سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن خبر التواتر يفيد العلم لكن معنا ما يبطله من وجوه الأول لو أفاد خبر التواتر العلم لأفاد إما علما ضروريا أو نظريا والقسمان باطلان فالقول بالإفادة باطل إنما قلنا إنه لا يفيد علما ضروريا لأن العلم الضروري هو الذي لا يلزم من وقع الشك في غيره من القضايا وقوعه فيه وها هنا يلزم من وقوع الشك في غير هذه القضية وقوعه فيها لأنا لو جوزنا أن يكذبوا لا لغرض أو لغرض من رهبة أو رغبة أو لوقوع التباس فإن مع استحضار الشك في هذه المقدمات لم يمكن الجزم بأن الأمر كما أخبروا عنه
وإذا كان كذلك لم يكن هذا العلم ضروريا ولا جائز أن يكون نظريا لأن النظر في الدليل لا يتأتى للصبيان

(4/250)


والمجانين فكان يجب أن لا يحصل لهم العلم لكن الاعتقاد الذي في هذا الباب للعقلاء لا يزيد في القوة على قوة اعتقاد الصبيان والبله فإذا لم يكن اعتقادهم علما فكذا اعتقاد العقلاء الثاني أن كون التواتر مفيدا للعلم يتوقف على عدم تطرق اللبس إلى الخبر على ما مر بيانه لكن اللبس يتطرق إليه على ما مر فوجب أن لا يفيد العلم الثالث لو حصل العلم عقيب التواتر لحصل إما مع الجواز أو مع الوجوب فإن حصل مع جواز أن لا يحصل امتنع القطع بحصوله فلا يمكن القطع بأن التواتر يفيد العلم لا محالة بل يجري حصول العلم عقيب خبر التواتر مجرى حصوله عند سماع صرير الباب ونعيق الغراب وإن حصل مع الوجوب فالمستلزم بعد إما قول كل واحد أو قول المجموع الأول باطل أما أولا فلأنا نعلم بالضرورة أن قول الواحد لا يفيد العلم وأما ثانيا فلأن قول كل واحد منهم إذا كان مستقلا بالاستلزام فإن وجدت الأقوال دفعة لزم أن يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة بالتأثير وهو محال

(4/251)


وإن وجدت على التعاقب فإذا حصل الأثر بالسابق استحال حصول ذلك الأثر بعينه باللاحق لامتناع ايجاد الموجود واستحال أيضا حصول مثله باللاحق لاستحالة الجمع بين المثلين فيلزم أن يبقى اللاحق خاليا عن التأثير فتكون العلة القطعية منفكة عن المعلول وهو محال ولا جائز أن يكون المؤثر قول المجموع أما أولا فلأن قول كل واحد إن بقي عند الإجتماع كما كان عند الانفراد ولم يحدث عند الاجتماع أمر زائد ألبته فكما لم يكن الاستلزام حاصلا عند الانفراد وجب أن لا يحصل عند الاجتماع وإن حدث أمر ما إما بزوال أو بالحدوث فإن كان المقتضي لذلك الحدوث قول كل واحد عاد المحذور المذكور وإن كان المجموع عاد التقسيم المذكور وإن كان لحدوث أمر آخر لزم التسلسل وأما ثانيا وهو أن المستلزمية نقيض اللامستلزمية يقول التي هي أمر عدمي فكانت المستلزمية أمرا ثبوتيا فإن كان الموصوف بها هو المجموع لزم حلول الصفة الواحدة في الأشياء الكثيرة وهو محال

(4/252)


وأما ثالثا فلأن التواتر في الأكثر إنما يكون بورود الخبر عقيب الخبر وإذا كان كذلك كان عند حصول كل واحد منهما حال وجود الثاني معدوما فلا يكون للمجموع وجود في زمان أصلا فيستحيل أن يكون المؤثر هو المجموع لأن الشئ ما لم يوجد في نفسه لا يقتضي وجود غيره وأما رابعا وهو الكلام المشهور في هذا المسألة أن قول كل واحد لما
لم يكن مؤثرا وجب أن يكون قول الكل غير مؤثر كما أن كل واحد من الزنج لما لم يكن أبيض استحال كون الكل أبيض الوجه الرابع في استحالة أن يكون خبر التواتر مستلزما للعلم لأن المستلزم إما آحاد الحروف وهو باطل أو المجموع وهو محال لأن المجموع لا وجود له وما لا وجود له استحال أن يستلزم شيئا اخر فإن قلت الموجب هو الحرف الأخير بشرط وجود سائر الحروف قبله أو بشرط مسبوقية الحرف الأخير بسائر الحروف قلت الشرط لا بد من حصوله حال حصول المشروط والحروف السابقة غير حاصلة حال حصول الحرف الأخير

(4/253)


وعن الثاني أن مسبوقية الشئ بغيره لا تكون صفة وإلا كانت صفة حادثة فتكون مسبوقتيها الذي بالغير صفة أخرى ولزم التسلسل وإذا كانت المسبوقية أمرا عدميا استحال أن يكون جزء العلة أو شرطها أما الذين سلموا أن خبر التواتر عن الأمور الموجودة يفيد العلم لكنهم منعوا من كون التواتر عن الأمور الماضية مفيدا للعلم فقد احتجوا بأن التواتر عن الأمور الماضية وقع عن أمور باطلة فوجب أن لا يكون حجة بيان الأول أن اليهود والنصارى

(4/254)


والمجوس والمانوية على كثرة كل فرقة
منهم وتفرقهم في الشرق والغرب يخبرون عن أمور هي باطلة قطعا عند المسلمين وذلك يقتضي القدح في التواتر فإن قلت شرط التواتر استواء الطرفين الواسطة وهو غير حاصل في هذه الفرق لأن اليهود قل عددهم في زمان بختنصر والنصاري كانوا قليلين في الابتداء وكذا القول في المجوس والمانوية قلت صدقتم حيث قلتم لا بد من استواء الطرفين والواسطة لكن الطريق إليه إما العقل أو النقل أو ما هو مركب منهما والعقل المحض لا يكفي

(4/255)


وأما النقل فإما من الواحد أو من الجمع وقول الواحد إنما يفيد لو كان معصوما وهو مفقود في زماننا وأما الجمع فهو أن يقال إن أهل التواتر في زماننا على كثرتهم يخبرون إنهم كانوا كذلك أبدا لكن كما أن أهل الإسلام يدعون ذلك فهذه الفرق الأخرى تدعي ذلك فليس تصديق إحداهما وتكذيب الأخرى أولى من العكس وأما المركب منهما فهو أن يقال لو كان خبرا موضوعا لعرفنا أن الأمر كذلك وقد عرفت ضعف هذه الطريقة ثم إن جميع هذه الفرق يصححون قولهم بمثل هذه الطريقة فليس قبول أحد القولين أولى من الآخر فإما الذي يقال إن بختنصر قتل اليهود حتى لم يبق منهم عدد أهل التواتر قلنا هذا محال لأن الأمة العظيمة المتفرقة في الشرق والغرب
يستحيل قتلها إلى هذا الحد وأما النصارى فلو لم يكونوا بالغين في أول الأمر إلى حد التواتر لم يكن شرعه حجة إلى زمان ظهور محمد صلى الله عليه وسلم لكنه باطل باتفاق المسلمين

(4/256)


وها هنا وجوه أخر من المعارضات مذكورة في كتاب النهاية فهذا تمام الاعتراضات واعلم أن بعض هذه الأسئلة والمعارضات لا شك أن فسادها أظهر من صحتها لكن ذلك إنما يكفي في ادعاء الظن القوي لا في ادعاء اليقين التام وكان غرضنا من الإطناب في هذه الأسئلة إن الذي قاله أبو الحسين من أن الاستدلال بخبر النوادر على صدق المخبرين أمر سهل هين مقرر في عقول البله والصبيان ليس بصواب بل لما فتحنا باب المناظرة دق الكلام ولا يتم المقصود إلا بالجواب القاطع عن كل هذه الإشكالات وذلك لو أمكن فإنما يمكن بعد تدقيقات في النظر عظيمة ومن البين لكل عاقل أن علمه بوجود مكة ومحمد صلى الله عليه وسلم اظهر من علمه بصحة هذه الدلالة وإبطال ما فيها من الأقسام سوى القسم المطلوب وبناء الواضح على الخفي غير جائز فظهر أن الحق ما ذهبنا اليه من أن هذا العلم ضروري وحينئذ لا نحتاج إلى الخوض في الجواب عن هذه الأسئلة لأن

(4/257)


التشكيك في الضروريات لا يستحق الجواب المسألة الخامسة في شرائط التواتر اعلم أن هذه الأخبار التي نعلم مخبرها باضطرار الحجة علينا فيها هو العلم ولا حاجة بنا إلى اعتبار حال المخبرين بل يجب أن يعتبر
السامع حال نفسه فإذا حصل له العلم بمخبر تلك الأخبار صار محجوجا بها وإلا فالحجة عنه زائلة ثم إنه بعد وقوع العلم بمخبر خبرهم صح أن نبحث عن أحوالهم فنقول لو لم يكونوا على هذه الصفة لما وقع لنا العلم بخبرهم وأعلم أن ها هنا أمور معتبرة في كون التواتر مفيدا للعلم وأمورا ظن أنها معتبرة مع أنها في الحقيقة غير معتبرة أما القسم الأول فنقول إن تلك الأمور إما أن تكون راجعة إلى السامعين أو إلى المخبرين أما الأمور الراجعة إلى السامعين فأمران الأول أن لا يكون السامع عالما بما أخبر به اضطرارا لأن تحصيل الحاصل محال وتحصيل مثل الحاصل أيضا محال وتحصيل التقوية أيضا محال لأن العلم الضروري أيضا يستحيل أن يصير أقوى مما كان مثاله إن كان العلم حاصلا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان لم

(4/258)


يكن للاخبار عنه تأثير في العلم به والثاني قال الشريف المرتضي يجب أن لا يكون السامع قد سيق بشبهة أو تقليد إلى اعتقاد نفى موجب الخبر وهذا الشرط إنما اعتبره الشريف لأن عنده الخبر عن النص على إمامة علي رضي الله عنه متواتر ثم لم يحصل العلم به لبعض السامعين فقال ذلك لأنهم اعتقدوا نفي النص لشبهة
واحتج عليه بأن حصول العلم عقيب خبر التواتر إذا كان بالعادة جاز أن يختلف ذلك باختلاف الأحوال فيحصل للسامع إذا لم يكن قد اعتقد نقيض ذلك الحكم قبل ذلك الحكم ولا يحصل له إذا اعتقد ذلك فإن قلت يلزمكم عليه أن تجوزوا صدق من أخبركم بأنه لم يعلم وجود البلدان الكبار والحوادث العظام بالأخبار المتواترة لأجل شبهة اعتقدها في نفي تلك الأشياء قلت أنه لا داعي يدعو العقلاء إلى سبق اعتقاد نفي هذه الأمور ولا شبهة في نفي تلك الأشياء أصلا أما ما يرجع إلى المخبرين فأمران

(4/259)


الأول أن يكونوا مضطرين إلى ما أخبروا عنه لأن غير الضروري يجوز دخول الالتباس فيه فلا جرم لا يحصل العلم به ولذلك فإن المسلمين يخبرون اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يحصل لهم العلم بها الثاني العدد وفيه مسائل المسألة الأولى قال القاضي أبو بكر اعلم أن قول الأربعة لا يفيد العلم أصلا وأتوقف في قول الخمسة واحتج عليه بأنه لو وقع العلم بخبر أربعة صادقين لوقع بخبر كل أربعة صادقين وهذا باطل فذاك مثله
بيان الملازمة أنه لو وقع العلم بقول أربعة ولا يقع بقول مثلهم مع تساوي الأحوال والقائلين والسامعين في جميع الشروط لم يمتنع أن تخبرنا قافلة الحاج بوجود مكة فنعرفها ثم هم بأعيانهم يخبروننا بوجود المدينة فلا نعرفها ولما لم يجز ذلك صح قولنا وإنما قلنا إن العلم لا يحصل بخبر كل أربعة لأنه لو وقع العلم بخبر

(4/260)


كل أربعة إذا كانوا صادقين لكان يجب إذا شهد أربعة انهم شاهدوا فلانا على الزنا أن يستغنى القاضي عن التزكية لأنهم إذا كانوا صادقين وجب أن يحصل له العلم بقولهم وحينئذ يستغنى عن التزكية وإن لم يحصل له العلم بقولهم قطع بكونهم كاذبين قطعا وحينئذ يسغنى لأن أيضا عن التزكية ولما لم يكن كذلك بل أجمعوا على وجوب إقامة الحد وإن لم يضطر القاضي إلى صدقهم علمنا أن العلم لا يحصل بخبر الأربعة فإن قيل الملازمة ممنوعة قوله لو وقع العلم بخبر أربعة صادقين ولا يقع بخبر أربعة صادقين اخرين لزم كذا وكذا قلنا لم قلت إنه يلزم ذلك بيانه أن العلم بمخبر الأخبار حاصل عن فعل الله تعالى عندكم

(4/261)


وإذا كان كذلك جاز منه تعالى أن يخلق ذلك العلم عند خبر أربعة ولا يخلقه عند خبر أربعة أخرى ولا تجري العادة في ذلك على طريقة واحدة
وإن كانت العادة في أخبار الجماعات العظيمة جارية على طريقة واحدة كما أن التكرار على البيت الواحد ألف مرة سبب لحفظه في العادة المطردة وأما تكراره مرتين أو ثلاثا فقد يكون سببا لحفظه وقد لا يكون والعادة فيه مختلفة سلمنا أنه يلزم من اطراد العادة في شئ اطرادها في مثله فلم قلت يلزم من حصول العلم عند رواية أربعة حصوله عند شهادة أربعة بيانه أن الشهادة وإن كانت خبرا في المعنى لكن لفظ الشهادة مخالف للفظ الخبر الذي ليس بشهادة فلم لا يجوز أن يجري الله تعالى عادته بفعل العلم الضروري عند الخبر الذي ليس فيه لفظ الشهادة ولا يفعله عند لفظ الشهادة وإن كان الكل خبرا سلمنا أن التفاوت بين لفظ الشهادة وبين لفظ الخبر الذي ليس بشهادة غير معتبر فلم لا يجوز أن يقال لما كان من شرط الشهادة أن يجتمع المخبرون عند الشهادة وذلك الاجتماع يوهم الاتفاق على

(4/262)


الكذب فلا جرم لم يفد العلم بخلاف الرواية سلمنا أن ما ذكرته يوجب الجزم بأن قول الأربعة لا يفيد العلم لكنه يوجب الجزم بأن قول الخمسة لا يفيد أيضا لأن قول الخمسة لو أمكن أن يفيد فإذا شهدوا فإن كانوا صادقين وجب أن يفيد العلم الضروري وإن لم يحصل العلم بصدقهم وجب القطع بكذبهم فهذا يقتضي أن
تكون الخمسة كالأربعة في القطع بأنها لا تفيد سلمنا ذلك لكن يلزمكم أن تقطعوا بأن عدد أهل القسامة لا يفيد العلم لعين ما تقدم ذكره في الخمسة

(4/263)


والجواب أما الأسئة وقد الثلاثة الأولى فواردة ولا جواب عنها وأما المعارضة بقول الخمسة فالجواب أنه لا يمتنع أن يقع العلم بخبر خمسة والحاكم إنما لم يعلم صدق هؤلاء الخمسة وإن وجب عليه إقامة الحد لجواز أن يكون أربعة منهم شاهدوا ذلك والخامس ما شاهده فلزم إقامة الحد بقول أربعة منهم وإن لم يعرفهم بأعيانهم وكان الخامس كاذبا فلا جرم وجب عليه البحث عن أحوالهم وهذا بخلاف الأربعة فإنه إذا لم يحصل العلم بقولهم وجب أن يكون واحد منهم كاذبا وبهذا التقدير تسقط الحجة بقولهم ولزم على الحاكم رد قولهم وإقامة الحد عليهم فظهر الفرق واعلم أن هذا الجواب يقتضي القطع بكذب واحد من الخمسة أو القطع بأن قول الخمسة لا يفيد العلم أصلا أو القول بأنه لا يلزم من كون قول الخمسة مفيدا للعلم أن يكون قول كل خمسة مفيدا للعلم قوله يلزمكم أن تقطعوا بأنه لا يقع العلم بخبر أهل القسامة

(4/264)


قلنا أهل العراق يقولون يحلف خمسون من المدعى عليهم كل واحد منهم على أنه ما قتل ولا عرف قاتلا فكل واحد منهم يخبر عن
غير ما يخبر عنه الآخر وعند الشافعي رضي الله عنه يحلف خمسون من المدعين كل واحد منهم بحسب ظنه فخبر كل واحد منهم غير خبر الآخر المسألة الثانية الحق أن العدد الذي يفيد قولهم العلم غير معلوم فإنه لا عدد يفرض إلا وهو غير مستبعد في العقل صدور الكذب عنهم وإن الناقص عنهم بواحد أو الزائد عليهم بواحد لا يتميز عنهم في جواز الإقدام على الكذب ومنهم من اعتبر فيه عددا معينا وذكروا وجوها أحدها الاثنا عشر لقوله تعالى وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا

(4/265)


وثانيها العشرون وهو قول أبي الهذيل قال لقوله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين أوجب الجهاد على العشرين وإنما خصهم بالجهاد لأنهم إذا أخبروا حصل العلم بصدقهم وثالثها الأربعون لقوله تعالى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين نزلت في الأربعين ورابعها السبعون لقول تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا

(4/266)


وخامسها ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر وسادسها عدد بيعة الرضوان واعلم أن كل ذلك تقييدات لا تعلق للمسألة بها

(4/267)


فإن قلت إذا جعلتم العلم معرفا لكمال العدد تعذر عليكم الاستدلال به على الخصم قلت إنا لا نستدل ألبتة على حصول العلم بالخبر المتواتر بل المرجع فيه إلى الوجدان كما تقدم بيانه فهذه هي الشرائط المعتبرة في خبر التواتر إذا أخبر المخبرون عن المشاهدة فأما إذا نقلوا عن قوم اخرين فالواجب حصول هذه الشرائط في كل تلك الطبقات ويعبر عن ذلك بوجوب استواء الطرفين والواسطة وأما القسم الثاني وهي الشرائط التي اعتبرها قوم مع انها غير معتبرة فأربعة الأول أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد وهو باطل لأن اهل الجامع لو أخبروا عن سقوط المؤذن عن المنارة فيما بين الخلق لكان إخبارهم مفيدا للعلم الثاني أن لا يكونوا على دين واحد وهذا شرط اعتبره اليهود وهو باطل لأن

(4/268)


التهمة لو حصلت لم يحصل العلم سواء كانوا على دين واحد أو على أديان وإن ارتفعت حصل العلم كيف كانوا الثالث أن لا يكونوا من نسب واحد ولا من بلد واحد والقول فيه ما تقدم الرابع شرط ابن الرواندي وجود المعصوم في المخبرين لئلا يتفقوا على الكذب وهو باطل لأن المفيد حينئذ قول المعصوم لا خير أهل التواتر المسألة الثالثة في خبر التواتر من جهة المعنى مثاله أن يروي واحد أن حاتما وهب عشرة من العبيد واخبر اخر أنه وهب خمسة من الإبل وأخبر اخر أنه وهب عشرين ثوبا ولا يزال يروي كل واحد منهم من هذا الخبر شيئا فهذه الأخبار تدل على سخاوة حاتم من وجهين

(4/269)


الأول أن هذه الجزئيات مشتركة في كلي واحد وهو كونه سخيا والراوي للجزئي بالمطابقة راو للكلي المشترك فيه بالتصمت علي فإذا بلغوا حد التواتر صار ذلك الكلي مرويا بالتواتر الثاني أن نقول هؤلاء الرواة بأسرهم لم يكذبوا بل لا بد وأن يكون الواحد منهم صادقا وإذا كان كذلك فقد صدق جزئي واحد من هذه الجزئيات
المروية ومتى صدق واحد منها ثبت كونه سخيا والوجه الأول أقوى لأن المرة الواحدة لا تثبت السخاوة

(4/270)


الباب الثاني فيما عدا التواتر من الطرق الدالة على كون الخبر صدقا

(4/271)


القول في الطرق الصحيحة وهي ثمانية الأول الخبر الذي عرف وجود مخبره بالضرورة الثاني الخبر الذي عرف وجود مخبره بالاستدلال الثالث خبر الله تعالى صدق باتفاق أرباب الملل والأديان ولكنهم اختلفوا في الدلالة عليه بحسب اختلافهم في مسألتي الحسن والقبح والمخلوق أما أصحابنا فقد قال الغزالي رحمه الله يدل عليه دليلات أقواهما إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن امتناع الكذب على الله تعالى والثاني أن كلامه تعالى قائم بذاته ويستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل عليه الجهل إذ الخبر يقوم بالنفس على وفق العلم والجهل
على الله تعالى محال

(4/273)


ولقائل أن يعترض على الأول بأن العلم بصدق الرسول موقوف على دلالة المعجزة على صدقه صلى الله عليه وسلم وذلك إنما كان لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول وإذا كان صدق الرسول صلى الله عليه وسلم مستفادا من تصديق الله تعالى إياه وذلك إنما يدل أن لو ثبت أن الله صادق إذا لو جاز الكذب عليه لم يلزم من تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم كونه صادقا فإذن العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم موقوف على العلم بصدق الله تعالى فلو استفدنا العلم بصدق الله تعالى من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم للزم الدور فان قلت لا نسلم أن دلالة تصديق الله تعالى للرسول على كونه صادقا يتوقف على العلم بكون الله تعالى صادقا لأن قوله للشخص المعين أنت رسولي جار مجرى قول الرجل لغيره أنت وكيلي فإن هذه الصيغة وإن كانت إخبارا في الأصل لكنها إنشاء في المعنى والإنشاء لا يتطرق إليه التصديق والتكذيب وإذا كان كذلك فقول الله تعالى للرجل المعين أنت رسولي يدل على رسالته سواء قدر أن الله تعالى صادق أو لم يقدر ذلك وعلى هذا ينقطع الدور قلت هب أن قوله في حق الرسول المعين إنه رسولي إنشاء

(4/274)


ليس يحتمل الصدق والكذب لكن الإنشاء تأثيره في الأحكام الوضعية لا في
الأمور الحقيقية وإذا كان كذلك لم يلزم من قول الله تعالى له أنت رسولي أن يكون الرسول صادقا في كل ما يقول لأن كون ذلك الرجل صادقا أمر حقيقي والأمور الحقيقية لا تختلف باختلاف الجعل الشرعي فإذن لا طريق إلى معرفة كون الرسول صادقا فيما يخبر عنه إلا من قبل كون الله تعالى صادقا وحينئذ يلزم الدور وعلى الثاني أن البحث في أصول الفقه غير متعلق بالكلام القائم بذات الله تعالى الذي ليس بحرف ولا صوت بل عن الكلام المسموع الذي هو الأصوات المقطعة وإذا كان كذلك لم يلزم من كون الكلام القائم بذاته تعالى صدقا كون هذا المسموع صدقا فلعمنا حتى أن هذه الحجة مغالطة وأيضا يقال لم قلت إن الكلام القائم بذاته تعالى صدق قوله لأنه تعالى ليس بجاهل ومن لا يكون جاهلا استحال أن يخبر بالكلام النفساني خبرا كاذبا قلنا هذه القضية غير بديهية فما البرهان وأما المعتزلة فهم ظنوا أن هذا البحث ظاهر على قواعدهم فقالوا الكذب قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح

(4/275)


والاعتراض أن نقول إن البحث عن أن الله تعالى لا يصح عليه الكذب يجب أن يكون مسبوقا بالبحث عن ماهية الكذب لأن التصديق
مسبوق بالتصور فنقول أما أن يكون المراد من الكذب الكلام الذي لا يكون مطابقا للمخبر عنه في الظاهر سواء كان بحيث لو أضمر فيه زيادة أو نقصان أو تغيير صح وإما أن يكون المراد منه الكلام الذي لا يكون مطابقا للمخبر عنه في الظاهر ولا يمكن أن يضمر فيه ما عنده يصير مطابقا فإن أردتم بالكذب المعنى الأول لم يمكنكم أن تحكموا بقبحه وبأنه لا يجوز ذلك على الله تعالى لأن أكثر العمومات في كتاب الله مخصوص وإذا كان كذلك لم يكن ظاهر العموم مطابقا للمخبر عنه وكذا الحذف والإضمار واقعان باتفاق أهل الإسلام في كتاب الله تعالى حتى إنه حاصل في أوله فإن الناس اختلفوا في معنى بسم الله الرحمن الرحيم فمنهم من قدم المضمر وهو الأمر أو الخبر ومنهم من أخره وكذا الحمد لله رب العالمين قالوا معناه قولوا الحمد لله

(4/276)


فالإضمار متفق عليه ولأن المعتزلة اتفقوا على حسن المعاريض على أنه لا معنى لها إلا الخبر الذي يكون ظاهره كذبا ولكنه عند إضمار شرط خاص وقيد خاص يكون صدقا وإذا كان كذلك ثبت إنه لا يمكن تفسير الكذب الممتنع على الله تعالى بالوجه الأول وأما التفسير الثاني فنقول نسلم أنه قبيح بتقدير الوقوع ولكنه غير ممكن الوجود لأنه لا خبر يفرض كونه كذبا إلا وهو بحال متى أضمرنا
فيه زيادة أو نقصانا صار صدقا وعلى هذا التقدير يرتفع الأمان عن جميع ظواهر الكتاب والسنة فان قلت لو كان مراد الله غير ظواهرها لوجب أن يبينها وإلا كان ذلك تلبيسا وهو غير جائز ولأنا لو جوزنا ذلك لم يكن في كلام الله تعالى فائدة فيكون عبثا وهو غير جائز قلت الجواب عن الأول ما الذي تريد بكونه تلبيسا إن عنيت به أنه تعالى فعلا يحتمل إلا التجهيل والتلبيس فهذا غير لازم لأنه تعالى لما قرر في عقول المكلفين أن اللفظ المطلق جائز أن يذكر ويراد به المقيد بقيد غير مذكور معه ثم أكد ذلك بأن

(4/277)


بين للمكلف وقوع ذلك في أكثر الآيات والأخبار فلو قطع المكلف بمقتضى الظاهر كان وقوع المكلف في ذلك الجهل من قبل نفسه لا من قبل الله تعالى حيث قطع لا في موضع القطع وهذا كما يقال في إنزل المتشابهات فإنها وإن كانت موهمة للجهل إلا أنها لما لم تكن متعينة لظواهرها تعالى بل كان فيها احتمال لغير تلك الظواهر الباطلة لا جرم كان القطع بذلك تقصيرا من المكلف لا تلبيسا من الله تعالى وعن الثاني أنا لو ساعدنا على أنه لا بد لله تعالى في كل فعل من غرض معين لكن لم قلت إنه لا غرض من تلك الظواهر إلا منهم معانيها الظاهرة أليس أنه ليس الغرض من إنزال المتشابهات فهم ظواهرها بل الغرض من
إنزالها أمور أخرى فلم لا يجوز أن يكون الأمر ها هنا كذلك فإن قلت جواز إنزال المتشابهات مشروط بأن يكون الدليل قائما على امتناع ما أشعر به ظاهر اللفظ فما لم يتحقق هذا الشرط لم يكن إنزال المتشابهات جائزا قلت لا شك أن إنزال المتشابه غير مشروط بأن يكون الدليل المبطل للظاهر معلوما للسامع بل هو مشروط بأن يكون ذلك الدليل موجودا في نفسه سواء علمه السامع لذلك المتشابه أو لم يعلمه

(4/278)


وإذا كان كذلك فما لم يعلم السامع أنه ليس في نفس الأمر دليل مبطل لذلك الظاهر لا يمكنه إجراؤه على ظاهره ثم لا يكفي في العلم بعدم الدلل فإن العقلي المبطل للظاهر عدم العلم بهذا الدليل المبطل لأنا بينا في الكتب الكلامية أنه لا يلزم من عدم العلم بالشئ العلم بعدم الشئ إذا كان كذلك فلا ظاهر نسمعه إلا ويجوز أن يكون هناك دليل عقلي أو نقلي يمنع من حمله على ظاهره وإذا كان هذا التجويز قائما لم يقع الوثوق بشئ من الظواهر على مذهب المعتزلة ألبتة ولما بينا ضعف هذه الطرق فالذي نعول عليه في المسألة أن الصادق أكمل من الكاذب والعلم به ضروري فلو كان الله جده وتقدست اسماؤه كاذبا لكان الواحد منا حال كونه صادقا أكمل وأفضل من الله تعالى وذلك معلوم البطلان بالضرورة فوجب القطع بكون الله تعالى صادقا وهو المطلوب الرابع
خبر الرسول صلى الله عليه وسلم قال الغزالي رحمه الله دليل صدقه دلالة المعجزة على صدقه مع استحالة ظهور على يد الكذابين لأن ذلك لو كان ممكنا لعجز الله تعالى عن تصديق رسله

(4/279)


ولقائل أن يقول اذا كان يلزم من اقتدار الله تعالى على إظهار المعجز على يد الكاذب عجزه تعالى عن تصديق الرسول فكذا يلزم من الحكم بعدم اقتداره عليه عجزه فلم كان نفي أحد العجزين عنه أولى من الآخر وأيضا إذا فرضنا أن الله تعالى قادر على إقامة المعجزة على يد الكاذب فمع هذا الفرض إما أن يكون تصديق الرسول ممكنا أو لا يكون فإن أمكن بطل قوله إنه يلزم من قدرة الله تعالى على إظهار المعجز على يد الكاذب عجزه عن تصديق الرسول وإن لم يكن ذلك ممكنا لم يلزم إنما يتحقق عما يصح أن يكون مقدورا في نفسه ألا ترى أن الله لا يوصف بالعجز عن خلق نفسه وأيضا فإذا استحال يقدر الله تعالى على تصديق رسله إلا استحال منه إظهار المعجزة على يد الكاذب وجب أن ينظر أولا أن ذلك هل هو محال أم لا وإن لا يستدل باقتداره على تصديق الرسل على عدم قدرته على إظهاره على يد الكاذب لأن ذلك تصحيح الأصل بالفرع وهو دور
وأيضا إذا تأملنا علمنا أن ذلك غير ممتنع لأن قلب العصا حية لما كان

(4/280)


مقدورا لله تعالى وممكنا في نفسه لم يقبح من الله تعالى فعله في شئ من الأوقات وبشئ من الجهات فبأن قال زيد كاذبا أنا رسول الله يستحيل أن ينقلب الممكن ممتنعا والمقدور معجوزا سلمنا ذلك لكن المعجز يدل على كونه صادقا في ادعاء الرسالة فقط أو على صدقه في كل ما أخبر عنه الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أن يكون إذا ادعى الرسالة وأقام المعجز كان المعجز دالا على صدقه فيما ادعاه وهو كونه رسولا لا على صدقه في غير ما ادعاه فإن الرسول ما ادعى كونه صادقا في جميع الأمور أو لا يعلم أنه ادعى الصدق في كل الأمور فإذن هذا المطلوب لا يتم إلا بإقامة الدلالة على أنه ادعى كونه صادقا في جميع ما يخبر عنه ثم أقام المعجزة عليه وذلك لا يكفي فيه قيام المعجز على ادعاء الرسالة وكيف والعلماء اختلفوا في جواز الصغائر على الأنبياء بل جوز بعضهم الكبائر عليهم واتفقوا على جواز السهو والنسيان بل الصواب أن يقال إن ظهر المعجز عقيب ادعاء الصدق في كل ما

(4/281)


يخبر عنه وجب الجزم بتصديقه في الكل وإلا ففي القدر المدعى فقط الخامس
خبر كل الأمة عن الشئ يجب أن يكون صدقا لقيام الدلالة على أن الإجماع حجة السادس خبر الجمع العظيم عن الصفات القائمة بقلوبهم من الشهوة والنفرة لا يجوز أن يكون كذبا وأيضا الجمع العظيم البالغ إلى حد التواتر إذا أخبر واحد منهم عن شئ غير ما أخبر عنه صاحه عمر! فلا بد وأن يقع فيها ما يكون صدقا ولذلك نقطع بأن الأخبار المروية عنه صلى الله عليه وسلم على سبيل الآحاد ما هو قوله وان كنا لا نعرف ذلك بعينه السابع اختلفوا في أن القرائن هل تدل على صدق الخبر أم لا فذهب النظام وإمام الحرمين والغزالي إليه والباقون أنكروه احتج المنكرون بأمور أولها أن الخبر مع القرائن التي يذكرها النظام لو أفاد العلم لما جاز انكشافه عن الباطل لكن قد ينكشف عنه لأنا قد علمنا أن الخبر عن موت

(4/282)


إنسان مع القرائن التي يذكرها النظام من البكاء عليه والصراخ وإحضار الجنازة والأكفان قد ينكشف عن الباطل فيقال انه أغمى عليه أو لحقته سكتة أو أظهر ذلك ليعتقد السلطان موته فلا يقتله فثبت أن هذه القرائن لا تفيد العلم
الثاني لو كانت القرائن هي المفيدة للعلم لجاز أن لا يقع العلم عند خبر التواتر لعدم تلك القرائن ولما لم يجز ذلك بطل قوله الثالث لو وجب العلم عند خبر واحد لوجب ذلك عند خبر كل واحد كما أن الخبر المتواتر لما اقتضاه في موضع اقتضاه في كل موضع والجواب عن الأول أن الذي ذكرتموه لا يدل إلا على أن ذلك القدر من القرائن لا يفيد العلم ولا يلزم منه أن لا يحصل العلم بشئ من القرائن لأن القدح في صورة خاصة لا يقتضي القدح في كل الصور وعن الثاني أن النظام يلتزم ويقول خبر التواتر ما لم تحصل فيه القرائن لم يفد العلم ومن تلك القرائن أن يعلم أنه ما جمعهم جامع من رغبة أو رهبة أو التباس

(4/283)


سلمنا ذلك لكن لا يلزم من قولنا القرائن تفيد العلم قولنا إنها هي المفيدة وبتقدير أن تكون هي المفيدة فلم قلت يجوز انفكاك خبر التواتر عنها وعن الثالث أن خبر الواحد إنما يفيد العلم لا لذاته فقط بل بمجموع القرائن فمتى حصل ذلك المجموع مع أي خبر كان أفاد العلم
وأيضا فالعلم الحاصل عقيب خبر التواتر عندكم حاصل بالعادة فيجوز أيضا أن يكون حصوله عقيب القرائن بالعادة وإذا كان كذلك جاز أن تكون هذه العادة مختلفة وإن كانت مطردة في التواتر والمختار أن القرينة قد تفيد العلم إلا القرائن لا تفي العبارات بوصفها فقد تحصل أمور يعلم بالضرورة عند العلم بها كون الشخص خجلا أو وجلا مع أنا لو حاولنا التعبير عن جميع تلك الأمور لعجزنا عنه والإنسان إذا أخبر عن كونه عطشانا فقد يظهر على وجهه ولسانه من أمارات العطش ما يفيد العلم بكونه صادقا والمريض إذا أخبر عن ألم في بعض أعضائه مع أنه يصيح وترى عليه علامات ذلك الألم ثم إن الطبيب يعالجه بعلاج لو لم يكن المريض صادقا في قوله لكان ذلك العلاج قاتلا له فها هنا يحصل العلم بصدقه وبالجملة فكل من استقرأ العرف عرف أن مستند اليقين في الأخبار ليس إلا القرائن فثبت إن الذي قاله النظام حق

(4/284)


القول في الطرق الفاسدة وهي خمسة الأول إذا أخبر واحد بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم عن شئ والرسول ترك الإنكار
عليه قال بعضهم ذلك يدل على كون ذلك الخبر صدقا والحق أن يقال ذلك الخبر إما أن يكون خبرا عن أمر يتعلق بالدين أو بالدنيا فإن كان عن الدين فسكوته عليه الصلاة والسلام عن الإنكار يدل على صدقه لكن بشرطين أحدهما أن لا يكون قد تقدم بيان ذلك الحكم والثاني أن يجوز تغير ذلك الحكم عما بينه فيما قبل وإنما وجب اعتبار هذين الشرطين لأن بيان الحكم لو تقدم وأمنا عدم تغيره كان فيما سبق من البيان ما يغني عن استئناف البيان ولهذا لا يلزمه عليه الصلاة والسلام تجديد الإنكار حالا بعد حال على الكفار

(4/285)


وأما القسم الثاني وهو الخبر عن أمر متعلق بالدنيا فسكوته عليه الصلاة والسلام يدل على الصدق بأحد شرطين أحدهما أن يستشهد بالنبي صلى الله عليه وسلم ويدعي عليه علمه بالمخبر عنه وثانيهما أن يعلم الحاضرون علم النبي صلى الله عليه وسلم بتلك القصة ففي كل واحد من هذين الوجهين يجب صدق الخبر إذ سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم ها هنا يوهم التصديق فلو كان المخبر كاذبا لكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوهم تصديقه وأنه غير جائز
وأما إذا علمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم المخبر عنه أو جوزنا ذلك لم يلزم حينئذ من السكوت عن التكذيب حصول التصديق لأنه عليه الصلاة والسلام يجوز سكوته لاحتمال كونه متوقفا في الأمر الثاني قالوا إذا أخبر الواحد بحضرة جماعة كثيرة عن شئ بحيث لو كان كذبا لما سكتوا عن التكذيب كان ذلك دليلا على صدقه فيه لأنهم إما أن يكونوا سكتوا مع علمهم بكذبه أو لا مع علمهم بكذبه والأول باطل لأن الداعي إلى التكذيب قائم والصارف زائل ومع

(4/286)


حصول هذين الشرطين يجب الفعل فلما لم يوجب دل على أنهم لم يعلموا كذبه وإنما قلنا إن الداعي حاصل لأن من استشهد على خبر كذب فأراد الصبر على التكذيب وجد من نفسه مشقة على ذلك الصبر وذلك يدل على حصول الداعي وأما زوال الصارف فإن ذلك الصارف إما رغبة أو رهبة والجمع العظيم لا يعمهم من الرغبة أو الرهبة ما يحملهم على كتمان ما يعلمونه ولهذا لا يجتمعون على كتمان الرخص والغلاء العظيمين فأما القسم الثاني وهو أن يقال سكتوا لعدم علمهم بكذب القائل فباطل لأنه يبعد عن الجمع العظيم أن لا يطلع واحد منهم عليه واعلم أن هذا الطريق لا يفيد اليقين بل الظن لأنه لا يمكنا القطع بامتناع اشتراك الجماعة الذين حضروا في رغبة أو رهبة مانعة من السكوت
وإن سلمناه لكن لا يستبعد غفلة الحاضرين عن معرفة كونه كذبا إذ ربما لم يتعلق لهم به غرض فلم يبحثوا عنه الثالث زعم أبو هاشم والكرخي وتلميذهما أبو عبد الله البصري أن الإجماع على العمل بموجب الخبر يدل على صحة الخبر وهذا باطل من وجهين أحدهما أن عمل كل الأمة بموجب الخبر لا يتوقف على قطعهم بصحة ذلك

(4/287)


الخبر فوجب أن لا يدل على صحة ذلك الخبر أما الأول فلأن العمل بخبر الواحد واجب في حق الكل فلا يكون عملهم به متوقفا على القطع به وأما الثاني فلأنه لما لم يتوقف عليه لم يلزم من ثبوته ثبوته الثاني أن علمهم بمقتضى ذلك الخبر يجوز أن يكون لدليل اخر لاحتمال قيام الأدلة الكثيرة على المدلول الواحد واحتجوا بأن المعلوم من عادة السلف فيما لم يقطعوا بصحته أن يرد مدلوله بعضهم ويقبله الآخرون والجواب هذه العادة ممنوعة بدليل اتفاقهم على حكم المجوس بخبر عبد
الرحمن الرابع قال بضع الزيدية بقاء النقل مع ترفر النبي الدواعي على إبطاله الدواعي على إبطاله يدل على صحة الخبر كخبر الغدير والمنزلة فإنه

(4/288)


سلم نقلهما في زمان بني أمية مع توفر دواعيهم على ابطالهما وهذا أيضا ليس بشئ لاحتمال أنه كان من باب الآحاد أولا ثم اشتهر فيما بين الناس بحيث عجز العدو عن إخفائه ولأن الصوارف من جهة بني أمية وإن حصلت لكن الدواعي من جهة الشيعة حصلت ولأن الناس إذا منعوا من إفشاء فضيلة إنسان كانت محبتهم له وحرصهم على ذكر مناقبه أشد مما إذا لم يمنعوا الخامس اعتمد كثير من الفقهاء والمتكلمين في تصحيح خبر الإجماع وأمثاله بأن الأمة فيه على قولين منهم من احتج به ومنهم من اشتغل بتأويله وذلك يدل على اتفاقهم على قبوله وهو ضعيف أيضا لاحتمال أن يقال إنهم قبلوه كما يقبل خبر الواحد ويمكن أن يجاب عنه بأن خبر الواحد يقبل في العمليات لا في العلميات وهذه المسألة علمية فلما قبلوا هذا الخبر فيها دل ذلك على اعتقادهم في صحته
والجواب لا نسلم أن كل الأمة قبلوه بل كل من لم يحتج به في الإجماع طعن

(4/289)


فيه بأنه من باب الآحاد فلا يجوز التمسك به في مسألة علمية بل هب أنهم ما طعنوا فيه على التفصيل لكن لا يلزم من عدم الطعن من جهة واحدة عدم الطعن مطلقا

(4/290)


الباب الثالث في الخبر الذي يقطع بكونه كذبا وهو أربعة الأول الخبر الذي ينافي مخبره وجود ما علم بالضرورة سواء كان المعلوم بالضرورة حسيا أو وجدانيا أو بديهيا ومن هذا الباب قول القائل الذي لم يكذب قط أنا كاذب فهذا الخبر كذب لأن المخبر عنه بكونه كاذبا إما أن تكون الأخبار التي وجدت قبل هذا الخبر أو هذا الخبر والأول باطل لأن تلك الأخبار ما كانت كذبا فإخباره عن نفسه بكونه كاذبا فيها كذب والثاني باطل لأن الخبر عن الشئ يتأخر في الرتبة عن المخبر عنه فإن جعلنا الخبر عين المخبر عنه لزم تأخر الشئ عن نفسه في الرتبة وهو محال الثاني
الخبر الذي يكون مخبره على خلاف الدليل القاطع ثم ذلك الخبر إما أن يحتمل تأويلا صحيحا أو لا يحتمله فإن احتمله فإما أن يحتمل تأويلا قريبا أو تأويلا متعسفا فإن كان قريبا جاز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تكلم به لإرادة ذلك

(4/291)


المعنى كما في متشابهات الكتاب وإن كان متعسفا حكم إما بكذبه وإما بأنه كان معه زيادة أو نقصان يصح الكلام معه مع أنه لم ينقل وكذا القول فيما لا يقبل التأويل الثالث وهو في الحقيقة داخل تحت القسم الثاني الأمر الذي لو وجد لتوفرت الدواعي على نقله على سبيل التواتر إما لتعلق الدين به كأصول الشرع أو لغرابته كسقوط المؤذن من المنارة أو لهما جميعا كالمعجزات ومتى لم يوجد ذلك دل على كذبه والخلاف فيه مع الشيعة فإنهم جوزوا في مثل هذا الشئ أن لا يظهر لأجل الخوف والتقية لنا لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكون بين البصرة وبين بغداد بلدة أعظم منهما مع أن الناس ما أخبروا عنها ولجوزنا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب عشر صلوات لكن الأمة ما نقلت إلا خمسة ولما كان ذلك باطلا فكذا ما أدى إليه فإن قيل هذا الكلام ظلم لأن العلم بعدم هذه الأمور إما أن يكون متوقفا على العلم بأنه لو كان لوجب نقله أو لا يكون متوقفا عليه
فإن كان الأول وجب أن يكون الشاك في الأصل شاكا في هذه الفروع لكن الناس كما يعلمون بالضرورة وجود بغداد والبصرة يعلمون بالضرورة عدم بلدة بينهما أكبر منهما والعلم الضروري لا يكون متوقفا على العلم النظري

(4/292)


وإن كان الثاني فحينئذ العلم بعدم هذه البلدة غير متوقف على العلم بأنها لو كانت لنقلت فلا يلزم من عدم هذا عدم ذاك سلمنا توقف العلم بعدم هذه الأمور على العلم بأنها لو كانت لنقلت لكن ما ذكرتموه مثال واحد ولا يلزم من حصول الحكم في مثال واحد على وفق قولكم حصوله في كل الصور على وفق قولكم فإن قستم سائر الصور على هذه الصورة فقد بينا أن القياس لا يفيد اليقين لاحتمال أن يكون ما به فارق الأصل الفرع شرطا في الأصل أو مانعا في الفرع ثم الذي يبين أن الأمر ليس كذلك في كل الصور أمور أحدها أن إفراد الإقامة وتثنيتها من أظهر الأمور وأجلاها ثم إن ذلك لم ينقل بالتواتر وثانيها القول في هيئآت الصلاة من رفع اليدين والجهر بالتسمية كل ذلك أمور ظاهرة مع أنها لم تنقل نقلا متواترا وثالثها انشقاق القمر

(4/293)


وتسبيح الحصى وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل

(4/294)


ونبوع الماء من بين الأصابع أمور عظيمة ثم إنها لم تنقل بالتواتر فإن قلت ذلك لأنهم استغنوا بنقل القرآن عن نقلها قلت لا نسلم حصول الاستغناء بنقل القرآن لأن كون القرآن معجزا أمر لا يعرف إلا بدقيق النظر والعلم بكون هذه الأشياء معجزات علم ضروري فكيف يقوم أحدهما مقام الآخر فلأن قلتم لا نزاع في حصول التفاوت من هذه الجهة ولكن لما كان القرآن دليلا قاطعا جاز أن يصير ظهوره واشتهاره سببا لفتور الدواعي عن نقل سائر المعجزات وإن كانت أظهر من القرآن فنقول لم لا يجوز أن يقال إن دلالة قوله تعالى إنما وليكم الله ورسوله

(4/295)


ودلالة خبر الغدير والمنزلة على إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإن كانت خفية إلا أن ذلك صار سببا لفتور الدواعي عن نقل النص الجلي ورابعها أن أقاصيص الأنبياء المتقدمين والملوك الماضين ما نقلت نقلا متواترا وهو يقدح في قولكم والجواب قوله العلم بعدم الواقعة العظيمة أما أن يتوقف على العلم بأنها لو كانت لنقلت أو لا يتوقف قلنا يتوقف عليه
قوله العلم بعدم بلدة بين البصرة وبغداد أكبر منهما علم ضروري وهذه القاعدة نظرية والضروري لا يستفاد من النظري

(4/297)


قلنا لا نسلم أنه ضروري ولذلك فإن كل من ادعى نفي هذه البلدة إذا قيل له كيف عرفت عدمها فلا بد وأن يقول لأنها لو كانت موجودة لاشتهر خبرها كما اشتهر خبر بغداد والبصرة فعلمنا أن ذلك العدم مستفاد من هذا الأصل قوله ما ذكرته مثال واحد قلنا لم نذكر ذلك المثال لاختصاص دليلنا به بل للتنبيه على القاعدة الكلية قوله ينتقض بالإقامة قلنا اختلف أصحابنا في الجواب عنه على وجهين الأول وهو قول القاضي أبي بكر لعل المؤذن كان ينفرد مرة ويثنى أخرى فإن قلت فكان يجب أن ينقل بالتواتر كونه كذلك قلت يحتمل أن الراوي روى بعض ما رأى وأهمل الباقي لاعتقاده أن التساهل في مثل هذا الباب سهل ولا يتعلق به غرض أصلا في الدين نفيا وإثباتا والثاني لعلهم عرفوا أن هذه المسألة من الفروع التي لا يوجب الخطأ فيها كفرا ولا بدعة فلذلك تساهلوا فيها ولما تساهلوا فيها نسوا ما شاهدوه لا سيما وكانوا مشتغلين بالحروب العظيمة والذين شاهدوها في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم

(4/298)


قتلوا وقلوا فصارت الرواية من باب الآحاد وأما اختلافهم في الجهر بالتسمية فعنه أيضا جوابان الأول لعل فعله فيه كان مختلفا الثاني أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ابتدأ بالقراءة أخفى صوته ثم يعلو صوته على التدريج وعلى هذا التقدير يجوز أن يسمع جهره بالتسمية القريب دون البعيد وأما سائر المعجزات قلنا لعل الذين شاهدوا تلك الأشياء كانوا قليلين فلا جرم ما حصل النقل المتواتر فأما الذين سمعوا النص الجلي في الإمامة فان كانوا قليلين صارت الرواية من الآحاد فلا تكون حجة قطعية وإن كانوا بالغين حد التواتر وجب ظهور النقل وأما أقاصيص سائر الأنبياء فإنما لم تنقل بالتواتر لأنه لا يتعلق بروايتها غرض أصلي في الدين بخلاف النص الجلي في الإمامة الرابع الخبر الذي يروي في وقت قد استقرت فيه الأخبار فإذا فتش عنه فلم يوجد في بطون الكتب ولا في صدور الرواة علم أنه لا أصل له وأما في عصر الصحابة حين لم تكن قد استقرت الأخبار فإنه يجوز أن

(4/299)


يروي أحدهم ما لم يوجد عند غيره مسألة
في أن الأخبار المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالآحاد قد وقع فيها ما يكون كذبا ثم في بيان الداعي إلى وضع الكذب عليه فهما مقامان أما المقام الأول فالذي يدل عليه وجوه أحدها ما روي عنه عليه الصلاة والسلام سيكذب علي فهذا الخبر إن

(4/300)


كان صدقا فلا بد من أن يكذب عليه وإن كان كذبا فقد كذب عليه أيضا وثانيها أنه قد حصل في الأخبار ما لا يجوز نسبته الى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يقبل التأويل وإذا كان كذلك وجب القطع بكونه كذبا وثالثها ما روي عن شعبة أن نصف الحديث كذب

(4/301)


وأما المقام الثاني وهو سبب الكذب فاعلم أن ذلك إما أن يكون من جهة السلف أو من جهة الخلف أما السلف فهم منزهون عن تعمد الكذب إلا أنه لو وقع لوقع ذلك لوقع على وجوه أحدها أن يكون الراوي يرى نقل الخبر بالمعنى فيبدل مكان اللفظ اخر لا يطابقه في معناه وهو يرى أنه يقوم مقامه وثانيها
أنهم لا يكتبون الحديث في الغالب فإذا قدم العهد فربما نسي اللفظ فأبدل به لفظا اخر وهو يرى أن ذلك اللفظ هو المسموع وربما نسي زيادة يصح بها الخبر وثالثها ربما أدرك الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يروي متن الخبر ولم يذكر إسناده إلى غيره فيظن أن الخبر من جهته صلى الله عليه وسلم ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يستأنف الحديث إذا أحس بداخل ليكمل له ومن ذلك ما وري أنه عليه الصلاة والسلام قال الشؤم في ثلاثة المرأة والدار والفرس فقالت عائشة رضي الله عنها إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حكاية عن غيره

(4/302)


ورابعها أنه ربما خرج الحديث على سبب وهو مقصور عليه ويصح معناه به وما هذا سبيله ينبغي أن يروى مع سببه فإذا لم يعرف سببه أوهم الخطأ كما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال التاجر فاجر فقالت عائشة رضي الله عنها إنما قال ذلك في تاجر دلس وخامسها ما روي أن أبا هريرة كان يروي أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وكعب يروي أخبار

(4/304)


اليهود والسامعون ربما ألبس عليهم ذلك فرووا في الخبر أنهم سمعوا من أبي هريرة وإنما سمعوا من كعب وأما سبب الكذب في الأخبار من جهة الخلف فوجوه
أحدها أن الملاحدة وضعوا الأباطيل ونسبوها إلى الرسول عليه الصلاة

(4/305)


والسلام تنفيرا للعقلاء منه كما يروي ذلك عن عبد الكريم بن أبي العوجا وثانيها ما قيل إن الإمامية يسندون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما صح عندهم عن بعض أئمتهم قالوا لأن جعفر بن محمد قال حدثني أبي وحدثني جدي وحديث أبي وجدي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حرج عليكم إذا سمعتم مني حديثا أن تقولوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4/306)


وثالثها أن يكون الراوي يرى جواز الكذب المؤدي إلى صلاح الأمة فإن من مذهب الكرامية أنه إذا صح المذهب جاز وضع الأخبار فيه لأن ذلك سبب لترويج الحق فوجب أن يكون جائزا ورابعها الرغبة كما وضعوا في ابتداء دولة بني العباس أخبارا في النص على إمامة العباس وولده مسألة في تعديل الصحابة رضي الله عنهم مذهبنا إن الأصل فيهم العدالة إلا عند ظهور المعارض للكتاب والسنة
أما الكتاب فقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا وقوله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين وقوله تعالى والسابقون الأولون وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام أصحابي كالنجوم بأيهم

(4/307)


أقتديتم اهتديتم وقوله ولا تسبوا أصحابي وقوله لو أنفق أحدكم ملأ الأرض ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقوله خير الناس قرني وقد بلغ إبراهيم النظام في الطعن فيهم على ما نقله الجاحظ عنه في كتاب الفتيا ونحن نذكر ذلك مجملا ومفصلا أما مجملا فإنه روي من طعن بعضهم في بعض أخبارا كثيرة يأتي تفصيلها وقال النظام رأينا بعض الصحابة يقدح في البعض وذلك يقتضي توجه القدح إما في القادح إن كان كاذبا وإما في المقدوح فيه إن كان القادح صادقا بيان المقام الأول من وجوه أقال عمران بن الحصين والله لو أردت لحدثت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام يومين متتابعين فإني سمعت كما سمعوا وشاهدت كما شاهدوا ولكنهم يحدثون أحاديث ما هي كما يقولون وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم

(4/308)


ب عن حذيفة أنه يحلف لعثمان بن عفان على أشياء بالله أنه ما

(4/309)


قالها وقد سمعناه قالها فقلنا له فيه فقال إني اشتري ديني بعضه ببعض

(4/310)


مخافة أن يذهب كله ج بن عباس رضي الله عنهما بلغه أن ابن عمر رضي الله عنهما يروي أن الميت ليعذب ببكاء أهله قال ذهل أبو عبد الرحمن إنما مر النبي عليه الصلاة والسلام بيهودي يبكي على ميت فقال إنه ليبكي عليه وإنه ليعذب

(4/311)


د ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام قال في الضب كل لا آكله ولا أحله ولا أحرمه فقال زيد الأصم قلت لابن عباس إن ناسا يقولون أنه عليه الصلاة والسلام قال في الضب كل لا آكله ولا أحله

(4/312)


ولا أحرمه قال بئس ما قلتم ما بعث الله النبي محللا ولا محرما هـ عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر فقال هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ثم قال إنهم الآن يسمعون ما أقول فذكروه لعائشة رضي الله عنها فقالت لا بل قال إنهم ليعلمون أن الذي كنت

(4/313)


أقول لهم هو الحق قال النظام وهذا هو التكذيب ولما روت فاطمة بنت قيس أن زوجي طلقني ثلاثا ولم يجعل لي رسول الله عليه الصلاة والسلام سكنى ولا نفقة فقال عمر لا نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت وقالت عائشة رضي الله عنها يا فاطمة قد قتلت الناس ومعلوم أنها
كانت من المهاجرات مع أنها عند عمر وعائشة رضي الله عنهما كاذبة ز أراد وأن عمر رضي الله عنه ضرب أبي موسى رضي الله عنه في خبر الاستيذان حتى شهد له أبو سعيد الخدري ح كان على رضي الله عنه يستحلف الرواة فلو كانوا غير متهمين لما استحلفهم فإن عليا أعلم بهم منا

(4/314)


طحميد كما بن عبد الرحمن الحميري بعث أبن أخ له إلى الكوفة وقال سل علي بن أبي طالب عن الحديث الذي رواه عنه أهل الكوفة في البصرة فإن كان حقا فخبرنا عنه فأتى الكوفة فلقى الحسن بن علي رضي الله عنهما فأخبره الخبر فقال له الحسن أرجع إلى عمك وقل له قال أمير المؤمنين يعني أباه إذا حدثتكم عن رسول الله فإني لن أكذ ب على الله ولا على رسوله وإذا حدثتكم برأيي فإنما أنا رجل محارب ويروي عنه هذا المعنى بروايات قال عمرو بن عبيد الله وهاشم الأوقص يرى أن

(4/315)


قوله أمرت أن أقاتل الناس أو القاسطين أو المارقين من ذلك وقوله في ذي الثدية ما كذبت ولا كذبت فإنما ربما كان الشئ عنده حقا فيقول إن الرسول أمرني به لأن الرسول كان آمرا بكل حق

(4/316)


ى ورويتم هو عن أبي سعيد الخدري وجابر وأنس رضي الله عنهم قال وذكر سنة مائة أنه لا يبقى على ظهرها نفس منفوسة ثم يروي أن عليا رضي الله عنه قال لأبي مسعود إنك تفتي الناس
قال أجل وأخبرهم أن الأخير شر قال فأخبرني ما سمعت منه قال سمعته يقول لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف فقال علي أخطأت وأخطأ في أول فتواك إنما قال ذلك لمن حضره يومئذ وهل

(4/317)


الرجاء الا بعد مائة يا أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال عليه الصلاة والسلام الشمس والقمر نوران مكوران في النار يوم القيامة قال الحسن ما ذنبهما قال أبو هريرة أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4/318)


وهذا من الحسن رد على أبي هريرة يب قال علي لعمر رضي الله عنهما في قصة الجنين إن كان هذا جهد رأيهم فقد قصروا وإن كانوا قاربوك فقد غشوك وهذا من علي رضي الله عنه حكم بجواز اللبس يج أبو الأشعث قال كنا في غزاة وعلينا معاوية رضي الله عنه فأصبنا ذهبا وفضة فأمر معاوية رجلا ببيعها للناس في أعطياتهم فتسارع الناس

(4/319)


فيها فقام عبادة بن الصامت رضي الله عنه فنهاهم فردوها فأتى الرجل معاوية فشكا إليه فقام معاوية خطيبا فقال ما بال رجال يحدثون عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه فقام عبادة واعاد القصة ثم قال والله لنحدثن عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وإن كره معاوية أو قال وأن رغم ما أبالي أن لا أصحبه
في جنده ليلة سوداء فهذا يدل إما على كذب عبادة أو كذب معاوية ولو كذبنا معاوية لكذبنا وسلم أصحاب صفين كالمغيرة عنه وغيره

(4/320)


وعلى أن معاوية لو كان كذابا لما ولاه عمر وعثمان على الناس يد إن أبا موسى قام على منبر الكوفة لما بلغه أن عليا رضي الله عنه أقبل يريد البصرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أهل الكوفة والله ما أعلم واليا أحرص على صلاح الرعية مني والله لقد منعتكم حقا كان لكم بيمين كاذبة فأستغفر الله منها

(4/321)


وهذا إقرار منه على نفسه باليمين الكاذبة يه روى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يوم السقيفة أنه عليه الصلاة والسلام قال الأئمة من قريش ثم رويتم أشياء ثلاثة تناقضه أحدها قول عمر رضي الله عنه في آخر حياته لو كان سالم حيا لما تخالجني فيه شك وسالم مولى أمرأة من الأنصار وهي حازت ميراثه

(4/322)


وثانيها أنه عليه الصلاة والسلام قال اسمع وأطع ولو كان عبد حبشيا وثالثها قوله عليه الصلاة والسلام لو كنت مستخلفا من هذه الأمة أحدا من غير مشورة لاستخلفت ابن أم عبد
يو لما روى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال إن المرأة والكلب والحمار يقطعن الصلاة مشت عائشة رضي الله عنها في خف

(4/323)


واحدة وقالت لأخشن أبا هريرة فإني ربما رأيت الرسول عليه الصلاة والسلام وسط السرير وأنا على السرير بينه وبين القبلة يز روى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال إن الميت على من غسله الغسل وعلى من حمله الوضوء فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت أنجاس موتاكم

(4/324)


يح عن ابراهيم أن عليا رضي الله عنه بلغه أن أبا هريرة يبتدئ بميامينه في الوضوء وفي اللباس فدعا بماء فتوضأ وبدأ بمياسيره وقال لأخالفن أبا هريرة يط إن أصحاب عبد الله لما بلغهم خبر أبي هريرة من قام من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا قالوا إن أبا هريرة مكثار فكيف نصنع بالمهراس ك لما قال أبو هريرة حدثني خليلي قال له علي رضي الله عنه متى كان خليلك

(4/325)


وقال عمرو بن عبيد الله كأنه ما سمع قوله عليه الصلاة والسلام لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا كا لما روى أبو هريرة من أصبح جنبا فلا صوم له أرسل مروان في ذلك إلى عائشة وحفصة رضي الله عنهما فقالتا كان النبي عليه الصلاة
والسلام يصبح جنبا ثم يصوم فقال للرسول اذهب إلى أبي هريرة فأخبره بذلك فقال أبو هريرة أخبرني بذلك الفضل بن عباس قال النظام والاستدلال به من ثلاثة أوجه

(4/326)


أحدها أنه استشهد ميتا وثانيها أنه لو لم يكن متهما فيه لما سألوا غيره وثالثها أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما كذبتاه كب ولما روى أبو سعيد الخدري خبر الربا قال ابن عباس نحن أعلم بهذا وفينا نزلت آية الربا فقال الخدري أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول لي ما تقول والله لا يظلني وإياك سقف بيت وهذا تكاذب بين ابن عباس وأبي سعيد كج لما قدم ابن عباس البصرة سمع الناس يتحدثون عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم فكتب إليه فقال أبو موسى لا أعرف منها حديثا

(4/327)


كد روى أن عمر رضي الله عنه كان إذا ولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعمال وشيعهم قال لهم عند الوداع أقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النظام فلولا التهمة لما جاز المنع من العلم كه رووا عن سهل بن أبي خيثمة في القسامة ثم إن عبد الرحمن بن
عبيد قال والله ما كان الحديث كما حدث سهل ولقد وهم وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل خبير إن قتيلا وجد في أو ديتكم فدوه فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه فواده رسول الله من عنده

(4/328)


وقال محمد بن اسحاق سمعت عمرو بن شعيب في المسجد الحرام يحلف بالله الذي لا إله إلا هو أن حديث سهل ليس كما حدث كو قال أصحاب الشعبي إنك لا ترى طلاق المكره قال أنتم تكذبون علي وأنا حي فكيف لا تكذبون على إبراهيم وقد مات

(4/329)


كز قال ابن أبي ملكية ألا تعجب حدثني عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أهللت بعمرة وقال القاسم إنها قالت بحجة كح قال صدقة بن يسار سمعت أنه عليه الصلاة والسلام قال في الذي يسافر وحده وفي الإثنين شيطان وشيطانان إن فلقيت القاسم بن محمد فسألته فقال كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث البريد وحده وكان النبي

(4/330)


وصاحبه وحدهما فهذا من القاسم تكذيب بهذا الخبر كط كان أبن سيرين يعيب الحسن في التفسير وكان الحسن يعيبه في التعبير ويقول كأنه من ولد يعقوب

(4/331)


ل ابن عباس رضي الله عنهما الحجر الأسود من الجنة وكان أشد بياضا من الثلج حتي سودته خطايا أهل الشرك فسئل ابن الحنفية عن
الحجر وقيل ابن عباس يقول هو من الجنة فقال هو من بعض الأودية قال النظام لو كان كفر أهل الجاهلية يسود الحجر لكان إسلام المؤمنين يبيضه ولأن الحجارة قد تكون سوادء وبيضاء فلو كان ذلك السواد من الكفر لوجب أن يكون سوادها بخلاف سائر الأحجار ليحصل التمييز ولأنه لو كان كذلك لاشتهر ذلك لأنه من الوقائع العجيبة كالطير الأبابيل لا روى أبو سعيد الخدري أنه لا هجرة بعد الفتح لكن جهاد ونية فقال له مروان كذبت وعنده رافع ابن خديج وزيد بن ثابت وهما

(4/332)


قاعدان على سريره فقال أبو سعيد لو شاء هذان لعرفاك إلا ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة فسكتا فرفع مروان عليه الدرة فلما رأيا ذلك قالا صدق لب عطاء بن أبي رباح قيل له روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال سبق الكتاب الخفين قال كذب أنا رأيت ابن عباس يمسح على الخفين لج قال أيوب لسعيد بن جبير إن جابر بن زيد يقول إذا زوج السيد العبد فالطلاق بيد السيد قال كذب جابر لد قال عروة لابن عباس أضللت الناس يا ابن عباس قال وما ذاك يا عروة قال تأمرنا بالعمرة في هذه الأيام وليست فيها عمرة قال أفلا تسأل أمك عن هذا فإنها قد شهدته قال عروة فإن أبا بكر وعمر كانا لا يفعلانه قال هذا الذي أضلكم أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثونني فيه عن أبي بكر وعمر فقال عروة أبو بكر وعمر كانا أتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلم بها منك
وهذا تكذيب من عروة لابن عباس

(4/333)


له رويتم عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال أي سماء تضلني! وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأي ثم رويتم أنه سئل عن الكلالة فقال أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان قال النظام وهذان الأثران متناقضان ثم رويتم أن عمر رضي الله عنه قال إني لأستحيي أن أخالف أبا بكر قال النظام فإن كان عمر استقبح مخالفة أبي بكر فلم خالفه في سائر المسائل فإنه قد خالفه في الجد وفي أهل الردة وقسمة الغنائم ثم إن النظام قدح في ابن مسعود رضي الله عنه خاصة من وجوه آزعم أنه رأى القمر انشق وهذا كذب ظاهر لأن الله تعالى ما شق القمر له وحده وإنما يشقه آية للعالمين فكيف لم يعرف ذلك غيره ولم يؤرخ الناس به ولم يذكره شاعر ولم يسلم عنده كافر ولم يحتج به مسلم

(4/334)


على ملحد
ب أنكر ابن مسعود كون المعوذتين من القرآن فكأنه ما شاهد قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم لهما ولم يهتدء صلى إلى ما فيهما من فصاحة المعجزة أو لم يصدق جماعة الأمة في كونهما من القرآن فإن كانت تلك الجماعة ليست حجة عليه فأولى أن لا تكون حجة علينا فنحن معذورون في أن لا نقبل قولهم ج إختار المسلمون قراءة زيد وهو خالف الكل ولم يقرأ بها
د لما صلى عثمان رضي الله عنه بمنى أربعا عابه فقيل له فيه فقال الخلاف شر والفرقة شر ثم إنه عمل بالفرقة في أمور كثيرة هـ وما زال يقدح القول في عثمان ويسر القول فيه منذ اختار قراءة زيد ورأى أناسا من الزط فقال هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن ثم قال علقمة قلت لابن مسعود أكنت مع النبي عليه الصلاة والسلام ليلة الجن فقال ما شهدها منا أحد

(4/335)


ز سأله عمر رضي الله عنه عن شئ من الصرف فقال لا بأس به فقال عمر رضي الله عنه لكني أكرهه فقال قد كرهته إذ كرهته فرجع عن قول إلى قول بغير دليل قال النظام فقد ثبت قدح بعضهم في البعض فإن صدق القادح فقد توجه العيب وإن كذب فكذلك أما الخوارج فقد طعنوا في الصحابة رضي الله عنهم ولعن مبغضيهم من وجوه أحدها قالوا رأيناهم قبلوا خبر الواحد على مناقضة كتاب الله تعالى وذلك

(4/336)


يوجب القطع بفساد ذلك الخبر والطعن في العامل به بيانه أن الله تعالى ذكر أنواع المعاصي من الكفر والقتل والسرقة فلما ذكر الزنا استقصى الكلام فيه فإنه تعالى نهى عنه فقال ولا تقربوا
الزنا ثم أوعد عليه بالنار كما صنع وبجميع المعاصي ثم ذكر الجلد ثم خصه بإحضار المسلمين وبالنهي عن رحمته والرأفة عليه بقوله ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ثم جعل على من رمى مسلما بالزنا ثمانين جلدة ولم يجعل ذلك على من رماه بالقتل ولا بالكفر وهما أعظم ثم قال ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ثم ذكر من رمى به زوجته وبين هناك أحكام اللعان وقال والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ثم خصه بأن جعل الشهود عليه أربعا فمع هذه المبالغة العظيمة كيف يجوز إهمال ما هو أجل أحكامها وأعظم مراتبها وهو الرجم ثم أنه تعالى ذكر آيات صريخة وقال في نفي الرجم أحدها قوله الزانية والزاني فاجلدوا وهذا صريح في وجوب الجلد على كل الزناة وصريح في نفي الرجم

(4/337)


وثانيها قوله فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب والرجم لا نصف له وثالثها وهو الدلالة العقيلة أن الرجم لو كان مشروعا لوجب أن ينقل نقلا متواترا لأنه من الوقائع العظيمة فحيث لم ينقل دل على أنه غير مشروع ثم أنهم قبلوا خبر الواحد في الرجم مع كونه على مناقضة هذه الأدلة
الشرعية والعقلية فكان الطعن متوجها قطعا وثانيها رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج يوما على أصحابه وهم يكتبون أحاديث من أحاديثه فقال ما هذه الكتب أكتابا أنه مع كتاب الله تعالى يوشك أن يقبض الله تعالى بكتابه فلا يدع في قلب ولا رق منه شيئا إلا أذهبه ورويتم أيضا أنه قال إذا حدثتم بحديث فاعرضوه على كتاب الله

(4/338)


تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه ثم إنكم مع ذلك جوزتم المسح على الخفين مع صريح قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة وقلتم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ويحرم نكاح المرأة على عمتها وخالتها وبنت أخيها وأختها مع قوله تعالى وأحل لكم ما وراءه ذلكم وكيف يجلد العبد القاذف أربعين مع قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ولم يذكر حرا ولا عبدا وكيف يجلد العبد على الزنا خمسين وإنما ذكر الله تعالى الإماء دون العبيد فقال فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب وكيف رددتم شهادة العبد مع قوله تعالى وأشهدوا ذوي عدل منكم ومع قوله ممن ترضون من الشهداء وكيف منعتم من إمامة غير القرشي مع قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم

(4/339)


وثالثها ما يروى من شتم بعضهم بعضا ولنذكر من ذلك حكايات الحكاية الأولى حكى ابن داب في مجادلات قريش قال اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص وعتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة والمغيرة بن شعبة ثم أحضروا الحسن بن علي رضي الله عنهم ليسبوه وهو فلما حضر تكلم عمرو بن العاصى وذكر عليا رضى الله عنه ولم يترك

(4/340)


شئ من المساوئ الا ذكر فيه وفيما قال إن عليا شتم أبا بكر وشارك في دم عثمان إلى أن قال اعلم أنك وأباك من شر قريش ثم خطب كل واحد منهم بمساوئ علي والحسن رضي الله عنهما ومقابحهما صلى الله عليه وسلم ونسبوا عليا إلى قتل عثمان ونسبوا الحسن إلى الجهل والحمق فلما ال الأمر إلى الحسن رضي الله عنه خطب ثم بدأ يشتم معاوية رضي الله عنه وطول فيه إلى قال له إنك كنت ذات يوم تسوق بأبيك ويقود به أخوك هذا القاعد وذلك بعدما عمي أبو سفيان فلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمل وراكبه وسائقه وقائده فكان أبوك الراكب وأخوك القائد وأنت السائق ثم قال لعمرو بن العاص إنما أنت سبة كما أنت فأمك زانية اختصم فيك خمسة نفر من قريش كلهم يدعي عليك أنك أبنه فغلب عليك جزار قريش من الأمهم حسبا وأقلهم منصبا وأعظمهم لعنة ما أنت إلا شانئ
محمد فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم إن شانئك هو الأبتر ثم هجوت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعين قافية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إني لا أحسن الشعر فالعنه بكل قافية لعنة وأما أنت يا ابن أبي معيط فوالله ما ألومك أن تبغض عليا وقد جلدك في الخمر وفي الزنا وقتل أباك صبرا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وسماه الله

(4/341)


تعالى في عشر آيات مؤمنا وسماك فاسقا وأنت فاسقا وأنت علج من أهل النورية أما أنت يا عتبة فما أنت بحصيف إذا فأجيبك ولا عاقل فأعاتبك فقال وأما وعدك إياي بالقتل فهلا قتلت الذي وجدت في فراشك مع أهلك وأما أنت يا مغيرة بن شعبة فمثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة استمسكي فإني عليك نازلة فقالت النخلة والله ما شعرت بوقوعك أي علي وأما زعمك أنه قتل عثمان فلعمري لو قتل عثمان ما كنت منه في شئ وإنك لكاذب قال الخوارج فهذه المشاتمة العظيمة المتناهية التي دارت بينهم تدل على أنهم ما كانوا يمسكون ألسنتهم عن القذف والقدح في الدين والعرض وذلك بوجب القدح العظيم في احدى الطائفتين

(4/342)


الحكاية الثانية أن عثمان رضي الله عنه أخر عن عائشة رضي الله عنها بعض أرزاقها فغضبت ثم قالت يا عثمان أكلت أمانتك وضيعت الرعية وسلطت عليهم الأشرار من أهل بيتك والله لولا الصلوات الخمس لمشى إليك أقوام ذوو بصائر يذبحونك كما يذبح الجمل
فقال عثمان رضي الله عنه ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط الآية فكانت عائشة رضي الله عنها تحرض عليه جهدها وطاقتها وتقول أيها الناس هذا قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبل وقد بليت سنته اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا ثم إن عائشة ذهبت إلى مكة فلما قضت حجها وقربت من المدينة أخبرت بقتل عثمان فقالت ثم ماذا فقالوا بايع الناس علي بن أبي طالب فقالت عائشة قتل عثمان والله مظلوما وأنا طالبة بدمه والله ليوم من عثمان خير من علي الدهر كله فقال لها عبيد بن أم كلاب ولم تقولين ذلك فوالله ما أظن أن بين

(4/343)


السماء والأرض أحدا في هذا اليوم أكرم على الله من علي بن أبي طالب فلم تكرهين ولايته ألم تكوني تحرضين الناس على قتله فقلت اقتلوا النعثل ثنا فقد كفر فقالت عائشة لقد قلت ذلك ثم رجعت عما قلت وذلك أنكم أسلمتموه حتى إذا جعلتموه في القبضة قتلتموه والله لأطلبن بدمه فقال عبيد بن أم كلاب هذا والله تخليط يا أم المؤمنين

(4/344)


الحكاية الثالثة الخصومة العظيمة التي كانت بين عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمار وبين عثمان والخصومة التي كانت بين عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم حتى آل الأمر إلى الضرب والنفي عن البلد واللعن وكل ذلك يقتضي توجه القدح إلى عدالة بعضهم
الحكاية الرابعة مقتل عثمان رضي الله عنه والجمل وصفين

(4/345)


ثم قالت الخوارج رأينا هؤلاء المحدثين يجرحون الراوي بأدنى سبب ثم إنهم مع علمهم بهذه القوادح العظيمة يقبلون روايات الصحابة ويعملون بروايات القادح والمقدوح به فيه وهذا ليس من الدين في شئ بل هؤلاء المحدثون أتباع كل من عز وعبيد كل من غلب ويروون لأهل كل دولة في ملكهم فإن انقضت دولتهم تركوهم ومما رواه الكل أن إماما سيكون منهم وأنه سيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا فروت الحسينية ذلك لنفسها وروت العباسية لنفسها حتى سموا ولد المنصور مهديا وحتى روت الأموية مثل ذلك في السفياني وسموا سليمان بن عبد الملك مهديا وحتى روت اليمانية في الأصغر القحطاني

(4/347)


إلى أن خرج ابن الأشعث على ذلك الطمع تارة ويزيد بن الملهب أخرى ورابعها قالوا أنا نعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم متى كان يشرع في الكلام فالصحابة ما كانوا يكتبون كلامه من أوله إلى آخره لفظا وإنما كانوا يسمعونه ثم يخرجون من عنده وربما رووا ذلك الكلام بعد ثلاثين سنة ومن المعلوم أن العلماء الذين تعودوا تلقف الكلام ومارسوه هذا وتمرنوا عليه لو سمعوا كلاما قليلا مرة واحدة فأرادوا إعادته في تلك الساعة بتلك الألفاظ من غير تقديم ولا تأخير لعجزوا عنه فكيف الكلام الطويل بعد المدة
المتطاولة من غير تكرار ولا كتابة

(4/348)


ومن أنصف قطع بأن هذه الأخبار التي رووها ليس شئ من ألفاظها لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم ثم من يعيد الكلام بعد هذه ال مدة لا يمكنه أن يعيد معناه بتمامه فإن الإنسان مظنة النسيان بل لا يعيد الا بعضه وإذا كان كذلك لزم القطع بسقوط الحجة عن هذه الألفاظ لا سيما وقد جربناهم فرأيناهم يذكرون الكلام الواحد في الواقعة الواحدة بروايات كثيرة مع زيادات ونقصانات ثم وأحسن الأحوال في ذلك أن نحمل ما قلناه من عدم حفظ الألفاظ وتغيير التقديم والتأخير بسبب طول المدة وكل ذلك يوجب القدح في هذه الأخبار والجواب اعلم أن اعتماد أصحابنا في هذا الباب على حجة واحدة وهي أن آيات القرآن دالة على سلامة أحوال الصحابة وبراءتهم من المطاعن وإذا كان كذلك وجب علينا أن نحسن الظن بهم إلى أن يقوم دليل قاطع

(4/349)


على الطعن فيهم وأما هذه المطاعن التي ذكرتموها فمروية رسول بالآحاد فإن فسدت رواية الآحاد فسدت هذه المطاعن وإن صحت فسدت هذه المطاعن أيضا فعلى كل التقديرات هذه المطاعن مدفوعة فيبقى الأصل الذي ذكرناه سليما وأما طعن الخوارج فهو بناء على أن تخصيص الكتاب بخبر الواحد لا
يجوز وقد تقدم القول فيه وأما قولهم أن الظاهر أن هذه الألفاظ ليست ألفاظ الرسول عليه الصلاة والسلام قلت لما ثبت الظاهر من حال الراوي العدالة وقد أخبر بأنها ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم وجب تصديقه فيه ظاهرا والله أعلم

(4/350)


القسم الثاني في الخبر الذي لا يقطع بكونه صدقا أو كذبا وفيه أبواب

(4/351)


الباب الأول في إقامة الدليل على أنه حجة في الشرع اختلف الناس فيه فالأكثرون جوزوا التعبد به عقلا والأقلون منعوا منه عقلا أما المجوزون فمنهم من قال وقع التعبد به ومنهم من قال لم يقع التعبد به والذين قالوا وقع التعبد به اتفقوا عى أن الدليل السمعي دل عليه واختلفوا في ان الدليل العقلي هل دل عليه فذهب القفال وابن سريج منا وأبو الحسين البصري من المعتزلة إلى أن دليل العقل دل على وقوع التعبد به أما الجمهور منا ومن المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد
الجبار فقد اتفقوا على أن دليل التعبد به السمع فقط وهو قول أبي جعفر الطوسي من الإمامية

(4/353)


أما الذين قالوا لم يرد التعبد به فهم فرق ثلاث الأولى أنه لم يوجد ما يدل على كونه حجة فوجب القطع بأنه ليس بحجة والثانية أنه جاء في الأدلة السمعية ما يدل على أنه ليس بحجة والثالثة أن الدليل العقلي قائم على امتناع العمل به ثم إن الخصوم بأسرهم اتفقوا على جواز العمل بالخبر الذي لا تعلم صحته كما في الفتوى وفي الشهادة وفي الأمور الدنيوية لنا النص والإجماع والسنة المتواترة والقياس والمعقول أما النص فوجهان الأول قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين وجه الاستدلال أن الله تعالى أوجب الحذر بإخبار الطائفة والطائفة ها هنا عدد لا يفيد قولهم العلم ومتى وجب الحذر باخبار عدد لا يفيد قولهم العلم فقد وجب العمل بالخبر الذي لا نقطع بصحته وإنما قلنا إنه أوجب الحذر عند إخبار الطائفة لأنه أوجب الحذر بإنذار الطائفة والإنذار هو الإخبار وانما قلنا أنه أوجب الحذر بإنذار الطائفة لقوله تعالى

(4/354)


ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وكلمه لعل للترجي وذلك في حق الله تعالى محال وإذا تعذر حمله على ظاهره وجب حمله على المجاز وذلك لأن المترجي طالب للشئ فإذا كان الطلب لازما للترجي وجب حمل هذا اللفظ على الطلب فيلزم أن يكون الله طالبا للحذر وطلب الله تعالى هو الأمر فثبت أن الله تعالى أمر بالحذر عند انذار الطائفة وإنما قلنا إن الإنذار هو الإخبار لأنه عبارة عن الخبر المخوف والخبر داخل في الخبر المخوف فثبت أن الله تعالى أوجب الحذر عند إخبار الطائفة وإنما قلنا إن الطائفة ها هنا عدد لا يفيد قولهم العلم لأن كل ثلاثة فرقة والله تعالى أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة والطائفة من الثلاثة واحد أو اثنان وقول الواحد أو الإثنين لا يفيد العلم وإنما قلنا أنه تعالى لما أوجب الحذر عند خبر العدد الذي لا يفيد قولهم العلم وجب العمل بذلك الخبر لأن قوما إذا فعلوا فعلا وروي الراوي لهم خبرا يقتضي المنع من ذلك الفعل فإما أن يجب عليهم تركه عند سماع ذلك الخبر أو لا يجب فإن وجب فهو المراد من وجوب العمل بمقتضى ذلك الخبر وإذا ثبت وجوب العمل بمقتضى ذلك الخبر في هذه الصورة وجب العمل به في سائر الصور ضرورة أن لا قائل بالفرق

(4/355)


وإن لم يجب الترك لم يجب الحذر وذلك ينافي ما دلت الآية عليه من وجوب الحذر
فإن قيل لا نسلم أنه تعالى أوجب الحذر عند انذار الطائفة وأما قوله تعالى لعلهم يحذرون قلنا سلمتم أنه لا يمكن حمله على ظاهره فلم قلتم إنه يجب حمله على ذلك المجاز ولم لا يجوز حمله على مجاز اخر لا بد فيه من الدليل سلمنا وجوب الحذر عند الإنذار لكن لا نسلم أن الإنذار هو الإخبار فإن الإنذار من جنس التخويف فنحن نحمل الآية على التخويف الحاصل من الفتوى بل هذا أولى لأنه أوجب التفقه لأجل الإنذار والتفقه إنما يحتاج إليه في الفتوى لا في الرواية فإن قلت الحمل على الفتوى متعذر لوجهين الأول أنا لو حملناه على الفتوى لاختص لفظ القوم بغير المجتهدين لأن المجتهد لا يجوز له العمل بفتوى المجتهد لكن التقييد غير جائز لأن الآية مطلقة في وجوب إنذار القوم سواء كانوا مجتهدين أو لم يكونوا كذلك أما لو حلمناه ولا على رواية الخبر لا يلزمنا ذلك لأن الخبر كما يروي لغير

(4/356)


المجتهد فقد يروي أيضا للمجتهد والثاني أن من شرب النبيذ فروى إنسان خبرا يدل على أن شاربة في النار فقد أخبره بخبر مخوف ولا معنى للإنذار إلا ذلك فصح وقوع اسم الإنذار على الرواية ثم بعد ذلك نقول لا يخلو إما ان لا يقع اسم الإنذار على الفتوى أو يقع
فإن لم يقع فقد حصل الغرض من أن المراد من الانذار الرواية لا الفتوي وإن وقع لم يجز جعله حقيقة فيهما دفعا للاشتراك فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك وهو الخبر المخوف وعلى هذا التقدير يكون متناولا للرواية والفتوى جميعا وذلك مما لا يضرنا قلت الجواب عن الأول أنه كما يلزم من حمل الإنذار على الفتوى تخصيص لفظ القوم بغير المجتهد يلزم من حمله على الرواية تخصيص لفظ القوم بالمجتهد لإجماعنا على أنه لا يجوز للعامي أن يستدل بالحديث فالتقييد لازم عليكم كما أنه لازم علينا فعليكم الترجيح ثم أنه معنا لأن غير المجتهد أكثر من المجتهد والتقييد كلما كان أقل كان أولى

(4/357)


وعن الثاني أنه إذا كان المراد من الإنذار القدر المشترك بين الفتوى والرواية والمأمور به إذا كان مشتركا فيه بين صور كثيرة كفى في الوفاء بمقتضى الأمر الاتيان بصورة واحدة من تلك الصور لأنه إذا كان المطلوب إدخال القدر المشترك بين الفتوى والرواية في الوجود وذلك المشترك يحصل في الفتوى فالقول بكون الفتوى حجة يكفي في العمل بمقتضى النص فلا تبقى للنص دلالة على وجوب العمل بالرواية سلمنا أن المراد من الانذار رواية الخبر فقط لكن لم لا يجوز أن
يكون المراد رواية أخبار الأولين وكيفية ما فعل الله تعالى بهم لأن سماع أخبارهم يقتضي الاعتبار على ما قال الله تعالى لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب أو يكون المراد منه التنبيه على وجوب النظر والاستدلال سلمنا أن الآية تقتضي وجوب الحذر عند خبر الطائفة فلم قلت إن الطائفة اسم لعدد لا يفيد قولهم العلم قوله لأن كل ثلاثة فرقة والخارج من الثلاثة واحد أو اثنان قلنا لا نسلم أن كل ثلاثة فرقة فما الدليل ثم إن الذي يدل على بطلانه وجهان الأول أنه يقال الشافعية فرقة واحدة لا فرق ولو كان كل ثلاثة فرقة لما

(4/358)


كان الشافعية واحدة بل فرقا الثاني أنه تعالى أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة للتفقه ولو كان كل ثلاثة فرقة لوجب أن يخرج من كل ثلاثة واحد وذلك باطل بالاتفاق سلمنا إن الطائفة اسم لعدد لا يفيد قولهم العلم فلم قلت إنه يقتضي وجوب الحذر بقول عدد لا يفيد قولهم العلم بيانه أن الطائفة عندكم اسم للواحد أو الإثنين وقوله ولينذوا قومهم ض مير جمع وأقل الجمع ثلاثة على ما تقدم
فإذن قوله ولينذروا ليس عائدا إلى كل واحد من تلك الطوائف بل إلى مجموعها فلم قلت إن مجموع تلك الطوائف ما بلغوا حد التواتر سلمنا أن الآية تقتضي وجوب الحذر عند خبر من لا يفيد قولهم العلم فلم قلت إنها تقتضي وجوب العمل بذلك الخبر فإنا إنما نوجب عليهم ذلك الترك للاحتياط حتى أنه لو كان عاميا وجب عليه الرجوع إلى

(4/359)


المفتي فإن أذن له جاز له العود اليه وإن كان مجتهدا نظر في سائر الأدلة فإن وجد فيها ما يقتضي المنع من ذلك الفعل امتنع منه وإلا جاز له العود إليه والجواب قوله لم قلت إنه يفيد وجوب الحذر قلنا لثلاثة أوجه الأول أنه لا يجوز حمله على ظاهره فوجب حمله على الأمر به قوله لم قلت ليس ها هنا مجاز اخر قلت لأن الأصل عدم المجاز فإذا وجد هذا المجاز الواحد فالظاهر عدم سائر المجازات الثاني أن قوله تعالى لعلهم يحذرون يقتضي إمكان تحقق الحذر في حقهم والحذر هو التوقي من المضرة والفعل الذي يقتضي خبر الواحد المنع منه قد لا يكون مضرا في الدنيا فلا بد وأن يكون مضرا في الآخرة
وإلا لم يكن الحذر ممكنا ولا معنى لمضره لم الآخرة إلا العقاب فإذا كان هو بحال يحذر عنه وجب أن يكون بحال يترتب العقاب على فعله ولا معنى لقولنا خبر الواحد حجة إلا هذا القدر

(4/360)


الثالث أن قوله تعالى لعلهم يحذرون إن لم يقتض وجوب الحذر فلا أقل من أن يقتضي حسن الحذر وذلك يقتضي جواز العمل بخبر الواحد والخصم ينكره فصار محجوجا به قوله لم لا يجوز أن يكون المراد الفتوى قلنا للوجهين المذكورين أحدهما أنا لو حملناه على الفتوى لزم تخصيص القوم بغير المجتهد قوله ولو حملناه على الرواية لزم تخصيصه بالمجتهد قلنا لا نسلم فإن الخبر كما يروي للمجتهد فقد يروى لغير المجتهد بلى لا يجوز لغير المجتهد أن يتمسك به ولكن ينتفع به من وجوه أخر منها أنه ينزجر عن فعله ويصير ذلك داعيا له إلى الرجوع إلى المفتي وربما بحث عنه واطلع على معناه الوجه الثاني انا نحمله على القدر المشترك قوله يكفي في العمل به ثبوته في صورة واحدة قلنا الجواب عنه من وجهين

(4/361)


الأول أنه رتب وجوب الحذر على مسمى الإنذار الذي هو القدر المشترك فوجب كون هذا القدر المشترك علة للحكم فوجب أن يكون الحكم ثابتا أينما ثبت هذا المسمى والثاني أن قبل ورود هذه الآية إما أن يقال كان الأمر بقبول الفتوى واردا أو ما كان واردا فإن كان واردا لم يجز حمل هذه الآية عليه وإلا كان ذلك تكريرا من غير فائدة وإن قلنا إنه ما كان واردا وجب حمله على الأمر بالصورتين وإلا تطرق الإجمال إلى الآية وهو خلاف الأصل قوله لم لا يجوز أن يكون المراد من الانذار رواية أخبار الأولين قلنا الجواب عنه كما تقدم على السؤال الأول قوله لم قلت كل ثلاثة فرقة قلنا لأن الفرقة في أصل اللغة فعلة من فرق أو فرق كالقطعة من قطع أو قطع وكل شئ حصل الفرق أو التفريق فيه كان فرقة كما أن كل ما حصل القطع أو التقطيع فيه كان قطعة ولذلك من شق الخشبة يقال فرقها فرقا

(4/362)


وإذا كان كذلك فالفرقة في اللغة تقع على كل واحد من الأشخاص حقيقة إلا أنا خصصناها في هذه الآية بالثلاثة حتى يمكن خروج الطائفة عنها فوجب أن تبقى حقيقة في الثلاثة
قوله أصحاب الشافعي رضي الله عنه فرقة واحدة قلنا ذلك لأنهم بحسب المذهب امتازوا عن غيرهم فلأجل هذا الافتراق سموا فرقة واحدة أما بحسب الشخص فهم فرق قوله إن الله تعالى أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة للتفقه ولا يجب ذلك على كل ثلاثة قلنا ترك العمل به في حق هذا الحكم فيبقى معمولا به في الباقي قوله لم لا يجوز أن يكون المراد أن ينذر مجموع الطوائف قومهم قلنا هذا باطل لقوله إذا رجعوا إليهم لأنه لا يجوز أن يقال فلان رجع إلى ذلك الموضع إلا بعد أن كان فيه ومعلوم أن الطائفة من كل فرقة ما كانت في غير تلك الفرقة ولا يمكن أن يقال كل طائفة ترجع إلى كل الفرق بل إنما يمكن رجوعها إلى فرقتها الخاصة قوله الضمير في قوله ولينذروا ليس ضمير الواحد والإثنين قلنا هذا لا يضرنا لأنه تعالى قابل مجموع الطوائف بمجموع

(4/363)


القوم فيتوزع البعض على البعض قوله لم قلت إنه يدل على وجوب الترك بذلك الخبر قلنا لما تقدم قوله يجب عليه الترك في الحال ليستفتى إن كان عاميا وليتأمل إن كان مجتهدا قلنا هذا باطل لأن العامي لا يجوز له الإقدام على الفعل إلا بعد أن يعلم أولا جواز ذلك الفعل من جهة المفتي ومتى علم الفتوى لم يجب عليه الاستفتاء مرة أخرى
وأما المجتهد فإن كان خبر الواحد حجة عليه فهو المطلوب وإن لم يكن دليلا لم يجب عليه التوقف لانعقاد الإجماع على أن الذي لا يكون دليلا لا يمنعه عن فعل ما ثبت له جواز فعله بدليل متقدم المسلك الثاني لو وجب في خبر الواحد إن لا يقبل لما كان كون خبر الفاسق غير مقبول معللا بكونه فاسقا لكنه معلل به فلم يجب في خبر الواحد إن لا يقبل فإذا

(4/364)


لم يجب أن لا يقبل جاز قبوله في الجملة وهو المقصود بيان الملازمة أن كون الراوي الواحد واحدا أمر لازم لشخصه المعين يمنع خلوه عنه عقلا وأما كونه فاسقا فهو وصف عرضي يطرى ويزول واذا اجتمع في المحل وصفان أحدهما لازم والآخر عرضي مفارق وكان كل واحد منهما مستقلا باقتضاء الحكم كان الحكم لا محالة مضافا إلى اللازم لأنه كان حاصلا قبل حصول المفارق وموجبا لذلك الحكم وحين جاء المفارق كان ذلك الحكم حاصلا بسبب ذلك اللازم وتحصيل الحاصل مرة أخرى محال فيستحيل إسناد ذلك الحكم إلى ذلك المفارق مثاله يستحيل أن يقال الميت لا يكتب لعدم الدواة والقلم عنده لأن الموت لما كان وصفا لازما مستقلا بامتناع صدور الكتابة عنه لم يجز تعليل امتناع الكتابة بالوصف العرضي وهو عدم الدواة والقلم وإنما قلنا إنه معلل به لقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أمر بالتثبت مرتبا على كونه فاسقا والحكم المرتب على الوصف المشتق المناسب يقتضي كونه معللا بما منه الاشتقاق ولا شك
في أن الفسق يناسب عدم القبول فثبت بما ذكرنا أن خبر الواحد لو

(4/365)


وجب أن لا يقبل لامتنع تعليل أن لا يقبل خبر الفاسق بكونه فاسقا وثبت أنه معلل به فخبر الواحد لا يجب أن لا يقبل فهو إذن مقبول في الجملة ومن الناس من تمسك بالآية على وجه آخر وهو أنه تعالى أمر بالتثبت بشرط أن يكون الخبر صادرا عن الفاسق والمشروط بالشئ عدم عند عدم الشرط فوجب أن لا يجب التثبت إذا لم يوجد مجئ الفاسق فإذا جاء غير الفاسق ولم يتثبت فإما أن يجزم بالرد وهو باطل وإلا كان خبر العدل أسوأ حالا من خبر الفاسق وهو باطل بالإجماع فيجب القبول وهو المطلوب المسلك الثالث السنة المتواترة وهو ما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث رسله إلى القبائل لتعليم الأحكام مع أن كل واحد من أولئك الرسل ما كانوا بالغين حد التواتر واعترض أبو الحسين البصري على هذه الدلالة بسؤال واقع فقال كان يبعثهم إلى القبائل للفتوى أو لرواية الخبر الأول مسلم والثاني ممنوع

(4/366)


بيانه أن العوام في القبائل كانوا أكثر من المجتهدين فكانت حاجتهم إلى الفتوى أشد من حاجتهم إلى من يروى لهم الخبر ليحتجوا به وبالجملة هب أن هذا الاحتمال ليس أظهر لكن لا بد من قيام الدلالة على قطع هذا الإحتمال ليتم الاستدلال
المسلك الرابع الإجماع العمل بخبر الواحد الذي لا يقطع بصحته مجمع عليه بين الصحابة فيكون العمل به حقا إنما قلنا إنه مجمع عليه بين الصحابة لأن بعض الصحابة عمل بالخبر الذي لا يقطع بصحته ولم ينقل عن أحد منهم إنكار على فاعله

(4/367)


وذلك يقتضي حصول الإجماع وإنما قلنا إن بعض الصحابة عمل به لوجهين الأول وهو أنه روى بالتواتر أن يوم السقيفة لما احتج أبو بكر رضي الله عنه على الأنصار بقوله عليه الصلاة والسلام الأئمة من قريش مع أنه مخصص لعموم قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قبلوه ولم ينكر عليه أحد ولم يقل له أحد كيف تحتج علينا بخبر لا نقطع بصحته فلما لم يقل أحد منهم ذلك علمنا أن ذلك كان كالأصل المقرر عندهم الثاني الاستدلال بأمور لا ندعي التواتر في كل واحد منها بل في مجموعها وتقريره أن نبين أن الصحابة عملوا على وفق خبر الواحد ثم نبين أنهم إنما عملوا به لا بغيره أما المقام الأول فبيانه من وجوه الأول رجوع الصحابة إلى خبر الصديق في قوله عليه الصلاة والسلام

(4/368)


الأنبياء يدفنون حيث يموتون وفي قوله الأئمة من قريش وفي قوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث وإلى كتابه في معرفة نصب الزكوات ومقاديرها الثاني روي أن أبا بكر رضي الله عنه رجع في توريث الجدة إلى خبر المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة ونقل عنه أيضا أنه قضى بقضية بين أثنين فأخبره بلال أنه عليه الصلاة والسلام قضى فيها بخلاف قضاءه فرجع اليه الثالث روي أن عمر رضي الله عنه كان يجعل في الأصابع نصف الدية ويفصل بينها فيجعل في الخنصر ستة وفي البصر تسعة وفي الوسطى والسبابة عشرة عشرة وفي الأبهام خمسة عشر فلما روي له في كتاب

(4/369)


عمرو بن حزم أن في كل أصبع عشرة رجع عن رأيه الرابع وقال في الجنين رحم اله امرأ سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئا فقام إليه حمل بن مالك فأخبره بأن الرسول عليه الصلاة والسلام قضى فيه بغرة فقال عمر لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغيره

(4/370)


الخامس
أنه كان لا يرى ثوريث حدثنا المرأة من دية زوجها فأخبره الضحاك أنه عليه الصلاة والسلام كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها فرجع إليه السادس تظاهرت الرواية أن عمر قال في المجوس ما أدري ما أصنع بهم فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب فأخذ منهم الجزية وأقر هم على دينهم

(4/371)


السابع أنه ترك العمل برأيه في بلاد الطاعون بخبر عبد الرحمن الثامن روي عن عثمان أنه رجع إلى قول فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري حين قالت جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأذنه بعد وفاة زوجي في موضع العدة فقال صلى الله عليه وسلم امكثي في بيتك حتى تنقضي عدتك

(4/372)


ولم ينكر عليها الخروج للاستفتاء فأخذ عثمان بروايتها في الحال وفي أن المتوفى عنها زوجها تعتد في منزل الزوج ولا تخرج ليلا وتخرج نهارا إن لم يكن لها من يقوم بأحوالها التاسع اشتهر عن علي رضي الله عنه أنه كان يحلف الراوي وقبل رواية أبي بكر رضي الله عنه من غير حلف
وأيضا قبل رواية المقداد بن الأسود في حكم المذي العاشر رجوع الجماهير إلى قوم عائشة رضي الله عنها في وجوب الغسل من

(4/373)


التقاء الختانين الحادي عشر رجوع الصحابة في الربا إلى خبر أبي سعيد الثاني عشر قال ابن عمر كنا نخابر أربعين سنة ولا نرى به بأسا حتى روى لنا رافع بن خديج نهيه عليه الصلاة والسلام عن المخابرة الثالث عشر قال أنس كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب إذا أتانا آت فقال حرمت الخمر فقال أبو طلحة قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها فقمت فكسرتها

(4/374)


الرابع عشر اشتهر عمل أهل قباء في التحول عن القبلة بخبر الواحد الخامس عشر قيل لابن عباس رضي الله عنهما إن فلان يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني اسرائيل فقال ابن عباس كذب عدو الله أخبرني أبي بن كعب قال خطب بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر موسى والخضر بشئ يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني اسرائيل
السادس عشر عن أبي الدرداء أنه لما باع معاوية شيئا من أواني الذهب والفضة بأكثر

(4/375)


من وزنها قال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه فقال معاوية لا أرى به بأسا فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية أخبره عن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أبدا فهذه الأخبار قطرة من بحر هذا الباب ومن طالع كتب الأخبار وجد فيها من هذا الجنس ما لا حد له ولا حصر وكل واحد منها وإن لم يكن متواترا لكن القدر المشترك فيه بين الكل وهو العمل على وفق الخبر الذي لا تعلم صحته معلوم فصار ذلك متواترا في المعنى وأما المقام الثاني وهو أنهم انما عملوا على وفق هذه الأخبار لأجلها فبيانه من وجهين الأول لو لم يعلموا لأجلها بل لأمر آخر إما لاجتهاد تجدد لهم أو ذكروا شيئا سمعوه من الرسول عليه الصلاة والسلام لوجب من جهة العادة والدين أن يظهروا ذلك أما العادة فلأن الجمع العظيم إذا اشتد اهتمامهم بأمر قد التبس ثم زال اللبس عنهم فيه لدليل سمعوه أو لرأي حدث فيه فإنه لا بد لهم من إظهار ذلك الدليل والاستبشار بسبب الظفر به والتعجب من ذهاب ذلك عليهم فإن جاز في الواحد أن لا يظهر له ذلك لم يجز في الكل

(4/376)


أما الدين فلأن سكوتهم عن ذكر ذلك الدليل وعملهم عند الخبر بموجبه يوهم أنهم عملوا لأجله كما يدل عملهم بموجب اية سمعوها على أنهم عملوا لأجلها وايهام الباطل غير جائز كما أنه لو قال لهم قائل احكموا في هذه المسألة بمجرد شهوتي فتذكروا عند ذلك خبرا سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحسن من جهة الدين أن لا يبينوا أنهم إنما حكموا لذلك الدليل لا لشهوة ذلك القائل الثاني أن طلب أبي بكر من المغيرة رضي الله عنهما شاهدا في إرث الجدة دليل على أنه كان يرى أن الحكم متعلق بروايتهما ولأن عمر رضي الله عنه قال في الجنين لولا هذا لقضينا فيه برأينا وترك رأيه في دية الأصابع بالخبر الذي سمعه وصرح ابن عمر برجوعهم عن المخابرة بخبر رافع وصرحوا بأنهم رجعوا إلى وجوب الغسل بالتقاء الختانين لأجل قول عائشة رضي الله عنها فثبت بمجموع هذين المقامين إن بعض الصحابة عمل بالخبر الذي لم يعلم صدقه وأما بيان المقدمتين الباقيتين وهو أنه لم يظهر من أحد منهم الإنكار وأنه متى كان كذلك انعقد الإجماع فتقريره سيأتي إن شاء الله تعالى في مسألة القياس فإن قيل لا نسلم عمل بعض الصحابة على وفق الخبر الذي لم تعلم صحته

(4/377)


أما دعوى الضرورة فممنوعة قال المرتضى إن الضرورة لا يختص بها البعض مع المشاركة في طريقها والإمامية وكل مخالف في خبر الواحد من النظام وجماعة من شيوخ المتكلمين يخالفونهم فيما ادعوا فيه الضرورة مع الاختلاط بأهل الأخبار ويقسمون على انهم لا يعلمون ذلك ولا يظنونه فإن كذبتموهم ابن فعلتم ما لا يحسن وكلموكم قوله بمثله وأما الاستدلال فضعيف لأن الروايات التي ذكرتموها وإن بلغت المائة والمائتين فهي غير بالغة إلى حد التواتر فلا تفيد العلم ويرجع حاصله إلى إثبات خبر الواحد بخبر الواحد سلمنا صحة هذه الروايات لكن لا نسلم أنهم عملوا بتلك الأخبار ولم لا يجوز أن يقال إنهم لما سمعوا تلك الأخبار تذكروا دليلا دلهم على تلك الأحكام قوله لو كان كذلك لوجب إظهاره من جهة الدين والعادة قلنا لا نزاع في أن ما ذكرتموه هو الاحتمال الأظهر لكن القطع بوجوبه على كل حال ممنوع والمسألة قطعية فلا يجوز بناؤها على مقدمة ظنية سلمنا عمل بعض الصحابة بهذه الأخبار لكن لا نسلم سكوت الكل عن الإنكار فما الدليل عليه ثم نقول إنهم أنكروه في صور إحداها توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوبل خبر ذي اليدين إلى أن شهد له أبو بكر

(4/378)


وعمر رضي الله عنهما
وثانيها رد أبي بكر خبر المغيرة في توريث الجدة حتى أخبره محمد بن مسلمة وثالثها رد أبو بكر وعمر خبر عثمان فيما رواه من إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد الحكم بن أبي العاص حتى طالباه بمن يشهد معه به

(4/379)


ورابعها رد عمر رضي الله عنه خبر أبي موسى الأشعري حتى شهد له أبو سعيد الخدري وخامسها رد عمر خبر فاطمة بنت قيس

(4/380)


وسادسها رد علي خبر أبي سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق وأيضا فقد ظهر عنه تحليف الرواة وسابعها رد عائشة خبر بن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه وثامنها أن عمر منع أبا هريرة من الرواية

(4/381)


سلمنا سكوتهم عن الإنكار لكن السكوت إنما يدل على الإجماع إذا صدر عن الرضا فلم قلت إن الأمر كذلك بل ها هنا احتمالات أخر سوى
الرضا من التقية والخوف سلمنا إجماعهم على قبول الخبر الذي لا يعلم صحته لكن دل على أنهم قبلوا جميع أنواع الخبر الذي يكون كذلك أو على أنهم قبلوه في الجملة والأول ظاهر الفساد والثاني يقدح في غرضكم لأنهم لما اتفقوا على قبول نوع من أنواع الخبر الذي لا تعلم صحته لم يلزم من إجماعهم على قبول ذلك النوع إجماعهم على قبول سائر الأنواع لاحتمال أن يأمر الله تعالى بالعمل بذلك النوع دون النوع الآخر ثم إنه لما لم ينقل إلينا ذلك النوع الذي أجمعوا على قبوله لم يعرف ذلك النوع فإذن لا نوع من أنواع خبر الواحد إلا ولا يدري أنه هل هو ذلك النوع الذي أجمعوا على قبوله أو غيره وإذا كان كذلك وجب التوقف في الكل سلمنا أن النوع الذي أجمعوا على العمل به معلوم فلم قلت إنه لما جاز لهم العمل بخبر الواحد جاز لنا بيانه أن الصحابة كانوا قد شاهدوا الرسول عليه الصلاة والسلام وعرفوا

(4/382)


مجاري كلامه ومناهج أموره وإشاراته وعرفوا أحوال أولئك الرواة في العدالة وعدمها في الأفعال الموجبة للعدالة والأفعال المنافية لها وإذا كان كذلك كان ظنهم بصدق تلك الأخبار وعدالة الرواة أقوى من ظن من لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم ألبته ولا سمع كلامه ولم يشاهد حال
أولئك الرواة فلم يعرف عدالتهم ولا فسقهم إلا بالروايات المتباعدة والوسائط الكثيرة وإذا كان كذلك فلم قلت إن انعقاد الإجماع على قبول الخبر الذي لا يقطع بصحته عند حصول الظن القوي في صحته يوجب قبوله عندما لا يحصل ذلك الظن القوي فإن قلت أن كل من قال بقبول بعض هذه الأنواع في بعض الأزمنة قال بقبوله في كل نوع وفي كل زمان قلت هذه الحجة إنما تنفع في زمان التابعين وقد بينا في أول باب الإجماع أنه لا سبيل إلى القطع بهذا الإجماع لكثرة المسلمين وتفرقهم في الشرق والغرب والجواب إما دعوى الضرورة فلما مر تقريرها من أنه نقل إلينا بالتواتر حضور أبي بكر مع الأنصار يوم السقيفة وتمسكه عليهم بقوله عليه الصلاة والسلام الأئمة من قريش ولم ينكر عليه أحد

(4/383)


فأما قول المرتضى إن النظام وجمعا من شيوخ المعتزلة والقاشاني والإمامية ينكرون ذلك ويقسمون بالله إنهم لا يجدون علما ولا ظنا قلنا رواية المذاهب لا تجوز بالتشهي واليمين والنظام ما أنكر ذلك بل سلم إلا أنه قال إجماع الصحابة ليس بحجة على ما حكيناه قبل ذلك وكذا قول سائر شيوخ المعتزلة وأما الإمامية فالأخباريون له منهم مع أن كثرة الشيعة في قديم الزمان ما كانت إلا منهم فهم لا يعولون في أصول الدين فضلا عن
فروعه إلا على الأخبار التي يروونها عن أئمتهم وأما الأصوليون فأبو جعفر الطوسي وافقنا على ذلك فلم يبق ممن ينكر العلم هذا إلا المرتضى مع قليل من أتباعه فلا يستبعد اتفاق مثل هذا الجمع على المكابرة في الضروريات ومما يحقق ذلك أنه قال إنهم يقسمون بالله على انهم لا يعلمون بل لا يظنون ونحن نعلم بالضرورة أن هذه الروايات وإن تقاصرت عن العلم إلا أنها ما تقاصرت عن الظن فعلمنا أن غرض المرتضى مما ذكر محض المكابرة

(4/384)


قوله لم لا يجوز أن يقال إنهم عند سماع هذه الأخبار تذكروا دليلا آخر قلنا لما ذكرنا أن الدين والعادة يوجبان إظهار ذلك الدليل قوله ما الدليل عليه قلنا الرجوع فيه إلى العرف فإنا نعلم بالضرورة أن الجمع العظيم إذا اشتبه عليهم أمر من الأمور ثم أنهم عند سماع شئ يوهم أنه هو الدليل تذكروا شيئا اخر هو الدليل حقيقة فإنه يستحيل اتفاقهم بأسرهم على السكوت عن ذكر ذلك الدليل ورفع ذلك الوهم الباطل قوله من الصحابة من رد خبر الواحد قلنا الجواب عنه من وجهين الأول أن الذين نقلتم عنهم أنهم لم يقبلوا خبر الواحد هم الذين نقلنا عنهم أنهم قبلوا فلا بد من التوفيق وما ذاك إلا أن يقال إنهم قبلوا خبر الواحد
إذا كان مع شرائط مخصوصة وردوها عند عدم تلك الشرائط الثاني أن الروايات التي ذكرتموها كما دلت على ردهم خبر الواحد دلت على قبولهم خبر الإثنين والثلاثة ونحن لم ندع في هذا المقام إلا قبول الخبر الذي لا تقطع بصحته

(4/385)


فأما الأسئلة الثلاثة الأخيرة فالجواب عنها سيأتي في مسألة القياس إن شاء الله تعالى المسلك الخامس القياس أجمعوا على أن الخبر الذي لا يقطع بصحته مقبول في الفتوى والشهادات فوجب أن يكون مقبولا في الروايات والجامع تحصيل المصلحة المظنونة أو دفع المفسدة المظنونة بل الروايات أولى بالقبول من الفتوى لأن الفتوى لا تجوز إلا إذا سمع المفتي دليل ذلك الحكم وعرف كيفية الاستدلال به وذلك دقيق صعب يغلط فيه الأكثرون أما الرواية فلا يحتاج فيها إلا إلى السماع فإذن الرواية أحد أجزاء الفتوى فإذا كانت الفتوى مقبولة من الواحد فلأن تكون الرواية مقبولة كان أولى فإن قيل هذا قياس وأنه لا يفيد اليقين على ما تقدم ثم نقول الفرق بين الفتوى والشهادة وقبول خبر الواحد من وجهين الأول وهو أن العمل بخبر الواحد يقتضي صيرورة ذلك الحكم شرعا

(4/386)


عاما في حق كل الناس والعمل بالشهادة والفتوى ليس كذلك ولا يلزم من تجويز العمل بالظن الذي قد يخطئ وقد يصيب في حق الواحد تجويز العمل به في حق عامة الخلق الثاني العمل بالفتوى ضروري لأنه لا يمكن تكليف كل واحد في كل واقعة بالاجتهاد وكذا الشهادة ضرورية في الشرع لأجل تمييز المحق عن الباطل () أما العمل بخبر الواحد فغير ضروري لأنا إن وجدنا في المسألة دليلا قاطعا عملنا به وإلا رجعنا إلى البراءة الأصلية ولا يلزم من جواز العمل بالظن عند الضرورة جواز العمل به لا عند الضرورة وأنه قياس فاسد والجواب أما السؤال الأول فحق وأما الفرق الأول فملغي ذلك بشرعية أصل الفتوى فإنه أمر لكل باتباع الظن وأما الفرق الثاني فضعيف لأنه لا ضرورة في الرجوع إلى الشهادة والفتوى لإمكان الرجوع إلى البراءة الأصلية

(4/387)


المسلك السادس دليل العقل وهو أن العمل بخبر الواحد يقتضي دفع ضرر مظنون فكان العمل به واجبا بيان المقدمة الأولى
أن الراوي العدل إذا أخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أمر بهذا الفعل حصل ظن أنه وجد الأمر وعندنا مقدمة يقينية أن مخالفة الأمر سبب لاستحاق محمد العقاب فحينئذ يحصل من ذلك الظن وذلك العلم ظن أنا لو تركنا قوله لصرنا مستحقين للعقاب فوجب أن يجب العمل به لأنه إذا حصل الظن الراجح والتجويز المرجوح فإما أن يجب العمل بهما وهو محال أو يجب تركهما وهو محال أو يجب ترجح المرجوح على الراجح وهو باطل بضرورة العقل او ترجيح الراجح على المرجوح وحينئذ يكون العمل بمقتضى خبر الواحد واجبا واعلم أن هذه الطريقة يتمسك بها في مسألة القياس ونستقصي إلى الكلام فيها سؤالا وجوابا إن شاء الله تعالى

(4/388)


وأما المنكرون فمنهم من عول على العقل ومنهم من عول على النقل أما العقل فمن وجوه أحدها لو جاز أن يقول الله تعالى مهما غلب على ظنكم صدق الراوي فاعملوا بمقتضى خبره جاز أن يقول الله تعالى أيضا مهما غلب على ظنكم صذق كان المدعي للرسالة فاقبلوا شرعه وأحكامه لأنا في كلتا الصورتين نكون عاملين بدليل قاطع وهو إيجاب الله تعالى علينا العمل بالظن أو إيجاب العقل علينا ذلك ولما لم يجز ذلك هناك فكذا ها هنا وثانيها
لو جاز التعبد بأخبار الآحاد في الفروع لجاز التعبد بها في الأصول حتى يكتفي في معرفة الله تعالى بالظن وثالثها الشرعيات مصالح والخبر الذي يجوز كذبه لا يمكن التعويل عليه في تحصيل المصالح فإن قلت لم لا يجوز أن تكون المصلحة هي إيقاع ذلك الفعل المظنون قلت كون الفعل مصلحة إما أن يكون بسبب ذلك الظن أولا بسببة

(4/389)


والأول باطل لأنه لو جاز أن يوثر ظننا في صيرورة ما ليس بمصلحة مصلحة لجاز أن يؤثر ظننا بمجرد التشهي في ذلك حتى يحسن من الله تعالى أن يقول أطلقت لك في أن تحكم بمجرد التشهي من غير دليل ولا أمارة ومعلوم أنه باطل وأما الثاني فنقول إذا كان كون الفعل مصلحة ليس تابعا لظننا فيجوز أن يكون الظن مطابقا وأن لا يكون فيكون الإذن في العمل بالظن إذنا في فعل ما لا يجوز فعله وإنه غير جائز وأما المعولون أو على النقل فقد تمسكوا بقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون إن الظن لا يغني من الحق شيئا والجواب عن الوجوه العقلية
أنها منقوضة بالعمل بالظن في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية فان من أخبر أن هذا الطعام مسموم وحصل ظن صدقه فإنه لا يجوز تناوله ثم إنا نطالبهم فيها بالجامع العقلي اليقيني ثم ببيان امتناع الجامع

(4/390)


وأيضا ينتقض بتعويل) أهل العالم على الظن في أمر الأغذية والأشربة والعلاجات والأسفار والأرباح وأما التمسك بالآيات فسيأتي الجواب عنها في القياس إن شاء الله

(4/391)


الباب الثاني في شرائط العمل بهذه الأخبار وهذه الشرائط إما أن تكون معتبرة في المخبر أو المخبر عنه أو الخبر القسم الأول في المخبر وهو مرتب على فصول ثلاثة الفصل الأول في الأمور التي يجب وجودها حتى يحل للسامع أن يقبل روايته والضابط فيه كونه بحيث يكون اعتقاد صدقه راجحا على اعقاد عبد كذبه ثم نقول تلك الأمور خمسة الأول
أن يكون عاقلا فإن المجنون والصبي غير المميز لا يمكنه الضبط والاحتراز عن الخلل والثاني أن يكون مكلفا وفيه مسألتان

(4/393)


المسألة الأول رواية الصبي غير مقبولة لثلاثة أوجه الأول أن رواية الفاسق لا تقبل فأولى أن لا تقبل رواية الصبي فإن الفاسق يخاف الله تعالى والصبي لا يخاف الله تعالى ألبتة الثاني أنه لا يحصل الظن بقوله فلا يجوز العمل به كالخبر عن الأمور الدنيوية الثالث الصبي إن لم يكن مميزا لا يمكنه الاحتراز عن الخلل وإن كان مميزا علم أنه غير مكلف فلا يحترز عن الكذب فإن قلت أليس يقبل قوله في إخباره عن كونه متطهرا حتى يجوز الاقتداء به في الصلاة قلت ذلك لأن صحة صلاة المأموم غير موقوفة على صحة صلاة الإمام

(4/394)


المسألة الثانية إذا كان صبيا عند التحمل بالغا عند الرواية قبلت روايته لوجوه أربعة الأول إجماع الصحابه فإنهم قبلوا رواية ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير رضي الله عنهم من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ أو بعده الثاني إجماع الكل على إحضار الصبيان مجالس الرواية الثالث أن إقدامه على الرواية عند الكبر يدل ظاهرا على ضبطه للحديث الذي سمعه حال الصغر الرابع أجمعنا على أنه تقبل منه الشهادة التي تحملها حال الصغر فكذا الرواية والجامع أنه حال الأداء مسلم عاقل بالغ يحترز من الكذب الشرط الثالث أن يكون مسلما

(4/395)


وفيه مسألتان المسألة الأولى الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة أجمعت الأمة على أنه لا تقبل روايته سواء علم من دينه المبالغة في الاحتراز عن الكذب أو لم يعلم المسألة الثانية
المخالف من أهل القبلة إذا كفرناه كالمجسم وغيره هل تقبل روايته أم لا الحق أنه إن كان مذهبه جواز الكذب لم تقبل روايته وإلا قبلناها وهو قول أبي الحسين البصري وقال القاضي أبو بكر والقاضي عبد الجبار لا تقبل روايتهم لنا أن المقتضي للعمل به قائم ولا معارض فوجب العمل به بيان أن المقتضي قائم أن اعتقاده تحريم الكذب يزجره عن الإقدام عليه فيحصل ظن صدقه فيجب العمل به على ما بيناه وبيان أنه لا معارض أنهم أجمعوا على إن الكافر الذي ليس من أهل القبلة لا تقبل روايته وذلك الكفر منتف ها هنا

(4/396)


واحتج أبو الحسين بأن كثيرا من أصحاب الحديث قبلوا أخبار سلفنا كالحسن وقتادة وعمرو بن عبيد مع علمهم بمذهبهم وإكفارهم من يقول بقولهم واحتج المخالف بالنص والقياس أما النص فقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أمر بالتثبت عند نبأ الفاسق وهذا كافر فوجب التثبت عند خبره وأما القياس فأجمعنا على إن الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة لا تقبل روايته فكذا هذا الكافر والجامع أن قبول الرواية تنفيذ لقوله على كل المسلمين وهو منصب
شريف والكفر يقتضي الإذلال وبينهما منافاة أقصى ما في الباب أن يقال هذا الكافر جاهل بكونه كافرا لكنه لا يصلح عذرا لأنه ضم إلى كفره جهلا اخر وذلك لا يوجب رجحان حاله على الكافر الأصلي والجواب عن الأول أن اسم الفاسق في عرف الشرع مختص بالمسلم المقدم

(4/397)


على الكبيرة وعن الثاني الفرق بين الموضعين أن كفر الخارج عن الملة أعظم من كفر صاحب التأويل فقد رأينا الشرع فرق بينهما في أمور كثيرة مع ظهور الفرق لا يجوز الجمع الشرط الرابع العدالة وهي هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى

(4/398)


والمروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفس بصدقه ويعتبر فيها الاجتناب عن الكبائر وعن بعض الصغائر كالتطفيف في الحبة وسرقة باقة من البقل وعن المباحاث عليه القادحة في المروءة كالأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأراذل والإفراط في المزاح والضابط فيه أن كل ما لا يؤمن معه جرأته على الكذب ترد به الرواية وما لا فلا ويتفرع على هذا نوعان من الكلام النوع الأول في أحكام العدالة
وفيه مسائل المسألة الأولى الفاسق اذا أقدم على الفسق فإن علم كونه فسقا لم تقبل روايته بالإجماع وإن لم يعلم كونه فسقا فكونه فاسقا إما أن يكون مظنونا أو مقطوعا فإن كان مظنونا قبلت روايته بالاتفاق قال الشافعي رضي الله عنه أقبل شهادة الحنفي وأحده إذا شرب النبيذ

(4/399)


وإن كان مقطوعا به قبلت روايته أيضا قال الشافعي رضي الله عنه أقبل رواية أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم

(4/400)


وقال القاضي أبو بكر لا تقبل لنا أن ظن صدقه راجح والعمل بهذا الظن واجب والمعارض المجمع عليه منتف فوجب العمل به واحتج الخصم بأن منصب الرواية لا يليق بالفاسق أقصى ما في الباب أنه جهل فسقه ولكن جهله بفسقه فسق آخر فإذا منع أحد الفسقين من قبول الرواية فالفسقان أبي أولى بذلك المنع والجواب أنه إذا علم كونه فسقا دل إقدامه عليه على اجترائه على المعصية
بخلاف ما إذا لم يعلم ذلك المسألة الثانية المخالف الذي لا نكفره ولكن ظهر عناده لا تقبل روايته لأن المعاند يكذب مع علمه بكونه كذبا وذلك يقتضي جرأته على الكذب فوجب أن لا تقبل روايته

(4/401)


المسألة الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه رواية المجهول غير مقبولة بل لا بد فيه من خبرة ظاهرة والبحث عن سيرته وسريرته وقال أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه يكفي في قبول الرواية الإسلام بشرط سلامة الظاهر عن الفسق

(4/402)


لنا أوجه الأول الدليل ينفي العمل بخبر الواحد لقوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا خالفناه في حق من اختبرناه لأن الظن هناك أقوى فيبقى في المجهول على الأصل الثاني الدليل ينفي جواز العمل بخبر الواحد إلا إذا قطعنا بأن الراوي ليس بفاسق ترك العمل به فيما غلب على ظننا أنه ليس بفاسق بسبب كثرة الاختبار فيبقى فيما عداه على الأصل

(4/403)


بيان الثاني أن عدم الفسق شرط جواز الرواية فوجب أن يكون العلم به شرطا لجواز الرواية وإنما قلنا أن عدم الفسق شرط جواز الرواية لقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وهو صريح في المنع من قبول رواية الفاسق وإنما قلنا إن عدم الفسق لما كان شرطا لجواز الرواية وجب ان يكون العلم به شرطا لجواز الرواية لأن الجهل بالشرط يوجب الجهل بالمشروط وبيان الفارق أن العدالة أمر كامن في الباطن لا اطلاع عليه حقيقة بل الممكن فيه الاستدلال بالأفعال الظاهرة وذلك وإن لم يفد العلم لكنه يفيد الظن ثم الظن الحاصل بعد طول الاختبار أقوى من الظن الحاصل قبله

(4/404)


وإذا كان كذلك لم يلزم من مخالفة الدليل عند وجود المعارض القوي مخالفته عند وجود المعارض الضعيف الثالث أجمعنا على أنه لما كان الصبا والرق والكفر وكونه محدودا في القذف مانعا من الشهادة لا جرم اعتبر في قبول الشهادة العلم بعدم هذه الأشياء ظاهرا فوجب أن يكون الأمر كذلك في العدالة والجامع الاحتراز عن المفسدة المحتملة الرابع إجماع الصحابة رضي الله عنهم على رد رواية المجهول رد عمر
رضي الله عنه خبر فاطمة بنت قيس وقال كيف نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ورد علي رضي الله عنه خبر الأشجعي في المفوضة وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحلف الراوي ثم أن أحدا من الصحابة ما أظهر الإنكار على ردهم وذلك يقتضي حصول الإجماع

(4/405)


واحتج المخالف بأمور أحدها أنه يقبل قول المسلم في كون اللحم لحم المذكى وفي كون الماء في الحمام طاهرا وفي كون الجارية المبيعة رقيقة وفي كون المرأة غير مزوجة ولا معتدة وفي كونه على الوضوء إذا أم الناس وفي إخباره للأعمى عن القبلة فكذا ها هنا وثانيها أن الصحابة قبلت قول العبيد والصبيان والنسوان لأنهم عرفوهم لا بالاسلام وما عرفوهم بالفسق وثالثها أنه عليه الصلاة والسلام قبل شهادة الأعرابي على رؤية الهلال مع أنه لم يظهر منه إلا الإسلام

(4/406)


ورابعها قوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا والمعلق على شرط
عدم عند عدم الشرط فما لم يعلم فسقه لم يجب التثبت والجواب عن الأول لم قلتم إنه لما قبل قول المجهول في تلك الصور قبل قوله في الرواية والفرق أن منصب الرواية أعلى من تلك المناصب فإن ألغوا هذه الزيادة بإيماء قوله عليه الصلاة والسلام نحن نحكم بالظاهر قلنا ترك العمل بهذا الإيماء في الكفر والحرية فكذا ها هنا وعن الثاني لا نسلم أن الصحابة قبلت قول المجاهيل فإن هذا هو نفس المسألة وعن الثالث لا نسلم أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يعرف من حال ذلك الأعرابي إلا مجرد الاسلام وعن الرابع لما وجب التوقف عند قيام المفسق وجب أن نعرف أنه في نفسه

(4/407)


هل هو فاسق أم لا حتى يمكننا أن نعرف أنه هل يجب التوقف في قوله أم لا النوع الثاني في طريق معرفة العدالة والجرح وهو أمران احدهما الاختبار وثانيهما التزكية والمقصود ها هنا بيان احكام التزكية والجرح
وفيه مسائل المسألة الأولى شرط بعض المحدثين العدد في المزكي والجارح في الرواية والشهادة وقال القاضي أبو بكر لا يشترط العدد في تزكية الشاهد ولا في تزكية الراوي وإن كان الأحوط في الشهادة الاستظهار بعدد المزكي وقال قوم يشترط في الشهادة دون الرواية وهو الأظهر لأن العدالة التي تثبت بها الرواية لا تزيد على نفس الرواية وشرط الشئ لا يزيد

(4/408)


على أصله فالإحصان يثبت بقول اثنين وإن لم يثبت الزنا إلا بقول اربعة وكذلك نقول تقبل تزكية العبد والمرأة في الرواية كما يقبل قولهما المسألة الثانية قال الشافعي رضي الله عنه يجب ذكر سبب الجرح دون التعديل لأنه قد يجرح بما لا يكون جارحا لاختلاف المذاهب فيه وأما العدالة فليس لها إلا سبب واحد وقال قوم يجب ذكر سبب التعديل دون الجرح لأن مطلق الجرح

(4/409)


يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى الثناء على الظاهر فلا بد من سبب وقال قوم لا بد من السبب فيهما جميعا أخذا بمجامع كلام الفريقين
وقال القاضي أبو بكر لا يجب ذكر السبب فيهما جميعا لأنه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن لم تصح تزكيته وإن كان بصيرا فلا معنى للسؤال والحق أن هذا يختلف باختلاف أحوال المزكي فإن علمنا كونه عالما بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإطلاقه وإن علمنا عدالته في نفسه ولم نعرف اطلاعه على شرائط الجرح والتعديل استخبرناه (عن أسباب الجرح والتعديل المسألة الثالثة إذا تعارض الجرح والتعديل قدمنا الجرح لأنه اطلاع على زيادة لم يطلع عليها المعدل ولا نفاها

(4/410)


فإن نفاها بطلت عدالة المزكي إذا النفي لا يعلم اللهم إلا إذا جرحه بقتل انسان فقال المعدل رأيته حيا فها هنا يتعارضان وعدد المعدل إذا زاد قيل إنه يقدم على الجارح وهو ضعيف لأن سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على زيادة فلا ينتفي ذلك بكثرة العدد المسألة الرابعة للتزكية مراتب أربعة أعلاها أن يحكم بشهادته والثانية أن يقول هو عدل لأني عرفت منه كيت وكيت فإن لم يذكر السبب وكان عارفا بشروط العدالة كفى والثالثة أن يروي عنه خبرا واختلفوا في كونه تعديلا والحق أنه إن عرف من عادته أو بصريح قوله أنه لا يستجيز الرواية
إلا عن عدل كانت الرواية تعديلا وإلا فلا إذ من عادة أكثرهم الرواية عن كل من سمعوه ولو كلفوا الثناء عليهم سكتوا فإن قلت لو عرفه بالفسق ثم روى عنه كان غاشا في الدين

(4/411)


قلت إنه لم يوجب على غيره العمل به بل قلت سمعت فلانا يقول كذا وصدق فيه ثم لعله لم يعرفه بالفسق ولا بالعدالة فروى ووكل البحث إلى من أراد القبول والرابعة العمل بالخبر إن أمكن حملة على الاحتياط أو على العمل بدليل اخر وافق الخبر فليس بتعديل وإن عرف يقينا أنه عمل بالخبر فهو تعديل إذ لو عمل بخبر غير العدل لفسق المسألة الخامسة ترك الحكم بشهادته لا يكون جرحا في روايته وذلك لأن الرواية والشهادة مشتركتان في هذه الشرائط الأربعة أعني العقل والتكليف والاسلام والعدالة واختصت الشهادة بأمور ستة هي غير معتبرة في الرواية وهي عدم القرابة والحرية والذكورة والبصر والعدد والعداوة والصداقة فهذه الستة توثر في الشهادة لا في الرواية لأن الولد له أن يروي عن

(4/412)


والده بالإجماع والعبد له أن يروي أيضا والضرير له أن يروي أيضا ذلك لأن الصحابة رووا عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم في
حقهن كالضرير الشرط الخامس أن يكون الراوي بحيث لا يقع له الكذب والخطأ وذلك يستدعي حصول أمرين أحدهما أن يكون ضابطا والآخر أن لا يكون سهوه أكثر من ذكره ولا مساويا له أما ضبطه فلأنه إذا عرف بقلة الضبط لم تؤمن الزيادة والنقصان في حديثه ثم هذا على قسمين أحدهما أن يكون مختل الطبع جدا غير قادر على الحفظ أصلا ومثل هذا الإنسان لا يقبل خبره ألبتة والثاني أن يقدر على ضبط قصار الآحاديث دون طوالها وهذا الإنسان يقبل منه

(4/413)


ما عرف كونه قادرا على ضبطه دون ما لا يكون قادرا عليه أما إذا كان السهو غالبا عليه لم يقبل حديثه لأنه يترجح أنه سها في حديثه وأما إذا استوى الذكر والسهو لم يترجح أنه ما سها والفرق بين أن لا يكون ضابطا وبين أن يعرض له السهو أن من لا يضبط
لا يحصل الحديث حال سماعه ومن يعرض له السهو قد يضبط الحديث حال سماعه وتحصيله إلا أنه قد يشذ عنه بعارض السهو فإن قلت لم لا يجوز أن يقبل حديثه لأنه لو لم يكن ضبطه أو ضبطه ثم سها عنه لم يروه مع عدالته قلت عدالته تمنع من الكذب والخطأ عمدا لا سهوا فجاز أن يتصور مع عدالته فيما لم يضبطه أنه ضبطه وانه لم يسه فيما سها عنه فوجب أن لا يقبل حديثه

(4/414)


الفصل الثاني في الأمور التي يجب ثبوتها حتى يحل للراوي أن يروي الخبر اعلم ان لذلك مراتب فأعلاها أن يعلم أنه قرأه على شيخه أو حدثه به ويتذكر ألفاظ قراءته ووقت ذلك فلا شبهة في أنه يجوز له روايته والأخذ به وثانيها أن يعلم أنه قرأ جميع ما في الكتاب أو حدثه به ولا يتذكر ألفاظ قراءته ولا وقت ذلك فيجوز له روايته لأنه عالم في الحال أنه سمعه وثالثها أن يعلم أنه لم يسمع ذلك الكتاب ولا يظن أيظا أنه سمعه أو يجوز الأمرين تجويزا على السوية فلا تجوز له روايته لأنه لا يجوز له أن يخبر
بما يعلم أنه كاذب فيه أو ظان أو شاك فيه ورابعها أن لا يتذكر سماعه ولا قراءته لما فيه لكنه يظن ذلك لما يرى من

(4/415)


خطه وها هنا اختلفوا فيه فعند الشافعي رضي الله عنه تجوز له روايته وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وقال أبو حنيفة رحمه الله لا تجوز لنا الإجماع والمعقول أما الإجماع فهو أن الصحابة رضي الله عنهم كانت تعمل على كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو كتابه لعمرو بن حزم من غير أن يقال إن راويا روى ذلك الكتاب لهم وإنما علموا ذلك لأجل الخط وأنه منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاز مثله في سائر الروايات وأما المعقول فلأن الظن حاصل ها هنا والعمل بالظن واجب احتج أبو حنيفة رحمه الله بأنه إذا لم يعلم السامع لم يؤمن الكذب جوابه أنه يروي بحسب الظن وذلك يكفي في وجوب العمل

(4/416)


الفصل الثالث فيما جعل شرطا في الراوي
مع أنه غير معتبر والضابط في هذا الباب كل خصلة لا تقدح في غالب الظن بصحة الرواية ولم يعتبر الشرع تحقيقها تعبدا فإنها لا تمنع من قبول الخبر وفيه مسائل المسألة الأولى رواية العدل الواحد مقبولة خلافا للجبائي فإنه قال رواية العدلين مقبولة وأما خبر العدل الواحد فلا يكون مقبولا إلا إذا عضده ظاهر أو عمل بعض الصحابة أو اجتهاد أو يكون منتشرا فيهم وحكى عنه القاضي عبد الجبار أنه لم يقبل في الزنا إلا خبر أربعة كالشهادة عليه

(4/417)


لنا وجهان الأول إجماع الصحابة عمل أبو بكر على خبر بلال وعمل عمر على خبر حمل بن مالك وعلى خبر عبد الرحمن في المجوس وعمل علي على خبره المقداد وعملت الصحابة على خبر أبي سعيد في الربا وعملت على خبر رافع ابن خديج في المخابرة وعلى خبر عائشة في التقاء الختانين وكان علي يقبل خبر أبي بكر رضي الله عنهم اجمعين فإن قلت لعلهم قبلوا ما قبلوه لأن الاجتهاد عضده قلت إنهم كانوا يتركون اجتهادهم بهذه الأخبار وكانوا لا يرون بالمخابرة بأسا حتى روى لهم رافع بن خديج نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها
الثاني أن العمل بخبر الواحد العدل يتضمن دفع ضرر مظنون فيكون واجبا احتج الخصم بأمور أحدها أنه عليه الصلاة والسلام لم يقبل خبر ذي اليدين حتى شهد له أبو بكر وعمر رضي الله عنهم وثانيها أن الصحابة إعتبرت العدد فإن أبا بكر لم يقبل خبر المغيرة في الجدة حتى رواه معه محمد بن مسلمة

(4/418)


ولم يعمل عمر علي خبر أبي موسى في الاسئذان حتى رواه أبو سعيد الخذري ورد خبر فاطمة بنت قيس ورد أبو بكر وعمر خبر عثمان رضي الله عنهم أجمعين في رد الحكم بن العاص وثالثها قياس الرواية على الشهادة بل أولى لأن الرواية تقتضي شرعا عاما والشهادة شرعا خاصا فإذا لم تقبل رواية الواحد في حق الإنسان الواحد فلأن لا تقبل في حق كل الأمة كان أولى ورابعها الدليل ينفي العمل بالخبر المظنون لقوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا ترك العمل به في خبر العدلين والعدل الواحد ليس في
معناه لأن الظن هناك أقوى مما ها هنا فوجب أن يبقى على الأصل والجواب عن الأول أن ذلك إن دل فإنما يدل على اعتبار ثلاثة أبي بكر وعمر وذي اليدين رضي الله عنهم ولأن التهمة كانت قائمة هناك لأنها كانت واقعة في محفل عظيم والواجب فيها الاشتهار

(4/419)


وعن الثاني أن بينا أنهم قبلوا خبر الواحد وها هنا اعتبروا العدد فلا بد من التوفيق فنقول ما ذكرناه من الروايات يدل على أن العدد ليس بشرط في أصل الرواية وما ذكروه دل على أنهم طلبوا العدد لقيام تهمة في تلك الصور وعن الثالث أنه منقوض بسائر الأمور التي هي معتبرة في الشهادة لا في الرواية كالحرية والذكورة والبصر وعدم القرابة عن الرابع لا نسلم أن قول الله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا يمنع من التعلق بخبر الواحد فإنا لما علمنا أن الله تعالى أمرنا بالتمسك كان تمسكنا به معلوما لا مظنونا المسألة الثانية زعم أكثر الحنفية أن راوي الأصل إذا لم يقبل الحديث قدح ذلك في رواية الفرع والمختار أن نقول راوي الفرع إما أن يكون

(4/420)


جازما بالرواية أو لا يكون فإن كان جازما فالأصل إما أن يكون جازما بفساد الحديث أو بصحته أو لا يجزم بواحد منهما فإن كان الأول فقد تعارضا فلا يقبل الحديث ولأن قبول الحديث من الفرع لا يمكن إلا بالقدح في الأصل وذلك يوجب القدح في الحديث وأما الثاني فلا نزاع في صحته وأما الثالث فإما أن يقول الأغلب على ظني أني ما رويته أو الأغلب أني رويته أو الأمران على السواء أو لا يقول شيئا من ذلك ويشبه أن يكون الخبر في كل هذه الأقسام مقبولا لأن الفرع جازم ولم يوجد في مقابلته جزم يعارضه فلا يسقط به الاستدلال وإما اذا لم يكن الفرع جازما بل يقول أظن أني سمعته منك فإن جزم الأصل بأني ما رويته لك تعين الرد وان قال اظن أني ما رويته لك تعارضا والأصل العدم وإن ذهب إلى سائر الأقسام فالأشبه قبوله والضابط أنه حيث يكون قول الأصل معادلا بقول الفرع

(4/421)


تعارضا وحيث ترجح أحدهما على الآخر فالمعتبر هو الراجح واحتج المانعون مطلقا بأن الدليل ينفي قبول خبر الواحد فالفناه ما فيما إذا لم يوجد هذا المعنى لأن الظن هناك فيبقى فيما عداه على الأصل والجواب ما تقدم
المسألة الثالثة لا يشترط كون الراوي فقيها سواء كانت روايته موافقه للقياس أو مخالفة له خلافا لأبي حنيفة رحمه الله فيما يخالف القياس لنا الكتاب والسنه والعقل أما الكتاب فقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فوجب أن لا يجب التبين في غير الفاسق سواء كان عالما أو جاهلا

(4/422)


وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم نضر الله أمرءا سمع مقالتي فوعاها إلى قوله فرب حامل فقه ليس بفقيه وأما العقل فهو أن خبر العدل يفيد ظن الصدق فوجب العمل به لما تقدم من أن العمل بالظن واجب واحتج الخصم بوجهين الأول أن الدليل ينفي جواز العمل بخبر الواحد خالفناه إذا كان الراوي فقيها لأن الاعتماد على روايته أوثق الثاني أن الأصل أن لا يرد الخبر على مخالفة القياس والأصل أيضا

(4/423)


صدق الراوي فإذا تعارضا تساقطا ولم يجز التمسك بواحد منهما وأيضا فبتقدير صدق الراوي لا يلزم القطع بكون ذلك الخبر حجة لأنه إذا
جرى حديث منافق عند الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا جاء ذلك الرجل فقال الرسول صلى الله عليه وسلم اقتلوا الرجل علم الفقيه أن الألف واللام ها هنا ينصرف إلى المعهود والعامي ربما ظن أن المراد منه الاستغراق والجواب عن الأول ما مر وعن الثاني أن في التعارض تسليما بصحة أصل الخبر قوله يجوز أن يشتبه عليه المعهود بالاستغراق قلنا التمييز بين الأمرين لا يتوقف على الفقه بل كل من كانت له فطنه سليمة أمكنه التمييز بين الأمرين وأيضا فإن ذلك يقتضي اعتبار الفقه في رواة خبر التواتر

(4/424)


المسألة الرابعة إذا عرف منه التساهل في أمر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا خلاف في أنه لا يقبل خبره وأما إذا عرف منه التساهل في غير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف منه الاحتياط جدا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قبول خبره على الرأي الأظهر لأنه يفيد الظن ولا معارض فوجب العمل به المسألة الخامس لا يعتبر في الراوي أن يكون عالما بالعربية وبمعنى الخبر لأن الحجة في لفظ الرسول عليه الصلاة والسلام والأعجمي والعامي يمكنهما حفظ اللفظ وكذلك يمكنهما حفظ القرآن
ولا يعتبر أيضا أن يكون ذكرا أو حرا أو بصيرا وهو مجمع عليه المسألة السادسة تقبل رواية من لم يرو إلا خبرا واحدا فأما إذا أكثر من الروايات مع قلة مخالطته لأهل الحديث فإن

(4/425)


أمكن تحصيل ذلك القدر من الأخبار في ذلك القدر من الزمان قبلت أخباره وإلا توجه الطعن في الكل المسألة السابعة لا يجب كون الراوي معروف النسب بل إذا حصلت الشرائط المعتبرة المذكورة فيه قبل خبره وإن لم يعرف نسبه وأما إذا كان له اسمان وهو بأحدهما أشهر جازت الرواية عنه وأما اذا كان مترددا بينهما وهو بأحدهما مجروج وبالآخر معدل لم يقبل لأجل التردد

(4/426)


القسم الثاني في البحث عن الأمور العائدة إلى المخبر عنه اعلم أن الشرط العائد إلى المخبر عنه في العمل بالخبر هو عدم دليل قاطع يعارضه والمعارض على وجهين أحدهما أن ينفي أحدهما ما أثبته الآخر على الحد الذي أثبته الآخر كما إذا قال في أحدهما ليصل فلان في الوقت الفلاني على الوجه الفلاني
وينهى في الثاني عن ذلك الحد في ذلك الوقت وثانيهما أن يثبت أحدهما ضد ما أثبته الآخر على الحد الذي أثبته الآخر مثل أن يوجب عليه صلاة أخرى في عين ذلك الوقت في غير ذلك المكان والدليل القاطع ضربان عقلي وسمعي فإن كان المعارض عقليا نظرنا فإن كان خبر الواحد قابلا للتأويل كيف كان أولناه فلم نحكم برده

(4/427)


وإن لم يقبل التأويل قطعنا بفساده لأن الدالة العقلية غير محتملة للنقيض فإذا كان خبر الواحد غير محتمل للنقيض في دلالته وهو محتمل للنقيض في متنه قطعنا بوقوع ذلك المتحمل وإلا فقد وقع الكذب من الشرع وإنه غير جائز وأما أدلة السمع فثلاثه الكتاب والسنة المتواترة والإجماع وأعلم أنه لا يستحيل عقلا أن يقول الله تعالى أمرتكم بأن تعملوا بالكتاب والسنة المتواترة والإجماع بشرط أن لا يرد خبر واحد على مناقضته فإذا ورد ذلك فيكفيكم لا أن تعملوا بخبر الواحد لا بهذه الأدلة لكن الإجماع عرفنا أن هذا المحتمل لم يقع لأن الإجماع منعقد على أن الدليلين إذا استويا ثم اختص أحدهما بنوع قوة غير حاصل في الثاني فإنه يجب تقديم الراجح فها هنا هذه الأدلة الثلاثة لما كانت مساوية لخبر الواحد في الدلالة
واختصت هذه الأدلة الثلاثة بمزيد قوة وهي بكونها قاطعة في متنها لا جرم وجب تقديمها على خبر الواحد وأما أن خبر الواحد هل يقتضي تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة فقد تقدم القول فيه

(4/428)


القول فيما ظن أنه شرط في هذا الباب وليس بشرط

(4/429)


المسألة الأولى خبر الواحد إذا عارضه القياس فإما أن يكون خبر الواحد يقتضي تخصيص القياس أو القياس يقتضي تخصيص خبر الواحد وإما أن يتنافيا بالكلية فإن كان الأول فمن يجيز تخصيص العلة يجمع بينهما ومن لا يجيزه يجري هذا القسم مجرى ما إذا تنافيا بالكلية وإن كان الثاني كان ذلك تخصيصا لعموم خبر الواحد بالقياس وأنه جائز لأن تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بالقياس لما كان جائزا فها هنا أولى وأما الثالث وهو ما إذا كان كل واحد منهما مبطلا لكل مقتضيات الآخر فنقول ذلك القياس لا بد وأن يكون أصله قد ثبت بدليل وذلك الدليل إما أن
يكون هو ذلك الخبر أو غيره فإن كان الأول فلا نزاع أن الخبر مقدم على القياس وإن كان الثاني فهذا يحتمل وجوها ثلاثة وذلك لأن القياس يستدعي أمورا ثلاثة

(4/431)


أحدها ثبوت حكم الأصل وثانيها كونه معللا بالعلة الفلانية وثالثها حصول تلك العلة في الفرع ثم لا يخلو كل واحد من هذه الثلاثة إما أن تكون قطعية أو ظنية أو بعضها قطعي وبعضها ظني فإن كان الأول كان القياس مقدما على خبر الواحد لا محالة لأن هذا القياس يقتضي القطع وخبر الواحد يقتضي الظن ومقتضى القطع مقدم على مقتضى الظن وإن كان الثاني كان الخبر لا محالة مقدما على القياس لأن الظن كلما كان أقل كان بالأعتبار أولى وإن كان الثالث فهذا يحتمل أقساما كثيرة ونحن نعين منها صورة واحدة وهي أن يكون دليل ثبوت الحكم في الأصل قطعيا إلا أن كونه معللا بالعلة المعينة ووجود تلك العلة في الفرع ظنيا فها هنا اختلفوا فعند الشافعي رضي الله عنه الخبر راجح وعند مالك رحمه الله القياس راجح

(4/432)


وقال عيسى بن أبان إن كان راوي الخبر ضابطا عالما وجب تقديم خبره
على القياس وإلا كان في غير محل الاجتهاد وقال أبو الحسن البصري طريق ترجيح أحدهما على الآخر الاجتهاد فإن كانت أمارة القياس أقوى عنده من عدالة الراوي وجب المصير إليها وإلا فبالعكس ومن الناس من توقف فيه لنا وجوه الأول أن الصحابة كانوا يتركون اجتهادهم لخبر الواحد من ذلك قصة عمر رضي الله عنه في الجنين حتى قال كدنا نقضي فيه برأينا وفيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا ترك اجتهاده في المنع من توريث المرأة من ديه زوجها وأيضا قال أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا

(4/433)


وأيضا فإن أبا بكر رضي الله عنه نقض حكما حكم فيه برأيه لحديث سمعه من بلال فإن قلت إن أبن عباس رد خبر أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا استيقظ أحدكم من نومه حتى قال فما نصنع بمهراسنا قلت ظاهر هذا القول لا يقتضي رد الخبر وإنما هو وصف للمشقة في العمل بموجبه مع عظم المهراس سلمنا أنه ترك هذا الحديث لكن إنما تركه لأنه لا يمكن الأخذ به من حيث لا يمكن قلب المهراس على اليد
فإن قلت ليس فيه تكليف ما لا يطاق لأنه كان يمكنهم غسل أيديهم من إناء اخر ثم ادخالها في المهراس قلت ومن أين يعلم أن قياس الأصول يقضي غسل اليدين من ذلك الإناء حتى يكون قد رد الخبر لذلك القياس الثاني أن قصة معاذ تقتضي تقديم الخبر على القياس الثالث أن التمسك بالخبر لا يتم إلا بثلاث مقدمات

(4/434)


إحداها ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثانيتها دلالته على الحكم وثالثها وجوب العمل به والمقدمة الأولى ظنية والثانية والثالثة يقينية وأما التمسك بالقياس فلا يتم إلا بخمسن أن مقدمات أحداها ثبوت حكم الأصل وثانيتها كونه معللا بالعلة الفلانية وثالثتها
حصول تلك العلة في الفرع ورابعتها عدم المانع في الفرع عند من يجيز تخصيص العلة وخامستها وجوب العمل بمثل هذه الدلالة والمقدمة الأولى والخامسة يقينية

(4/435)


وأما الثانية والثالثة والرابعة فظنية وإذا كان كذلك كان العمل بالخبر أقل بالخبر أقل ظنا من العمل بالقياس فوجب أن يكون الخبر راجحا فإن قلت إذا كانت الأمارة الدالة على ثبوت الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ضعيفة والإمارات الدالة على المقدمات الثلاثة الظنية في جانب القياس قوية بحيث يتعارض ما في أحد الجانبين من الكمية بما في الجانب الآخر من الكيفية فها هنا يتعين الاجتهاد والرجوع إلى الترجيح قلت لو خلينا والعقل لكان الأمر كما ذكرت إلا أن الدليلين الأولين منعا منه المسألة الثانية إذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عمل بخلاف موجب الخبر فالخبر إما أن يكون متناولا للرسول صلى الله عليه وسلم أو غير متناول له فإن لم يتناوله لم يخل من أن يكون قد قامت الدلالة على أن حكمنا وحكمه صلى الله عليه وسلم فيه سواء أو لم تقم الدلالة على ذلك فإن لم يقم عليه دليل جاز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا بذلك
الحكم وعلى هذا التقدير لا يكون بين فعله وبين الخبر تناف فلا يرد الخبر لأجله وإن قامت الدلالة على أن حكمه صلى الله عليه وسلم وحكمنا فيه سواء نظر في الخبرين فإن أمكن تخصيص أحدهما بالآخر فعل وإن لم يمكن كان أحدهما متواترا عمل بالتواتر

(4/436)


وإن لم يكونا متواترين عمل فيهما بالترجيح المسألة الثالثة عمل أكثر الأمة بخلاف الخبر لا يوجب رده وعمل أكثر الأمة بموجب الخبر لا يوجب قبوله لأن أكثر الأمة بعض الأمة وقول بعض الأمة ليس بحجة إلا أن ذلك وإن لم يكن حجة فإنه من المرجحات المسألة الرابعة الحفاظ إذا خالفوا الراوي في بعض ذلك الخبر فقد اتفقوا على أن ذلك لا يقتضي المنع من قبول ما لم يخالفوه فيه لأن ظاهر حاله الصدق ولم يوجد معارض فوجب قبوله وأما القدر الذي خالفوه فيه فالأولى أن لا يقبل لأنه وإن جاز أن يكونوا سهوا وحفظ هو لكن الأقوى أنه سها وحفظوا هم لأن السهو على الواحد أجوز منه على الجماعة

(4/437)


المسألة الخامسة خبر الواحد إذا تكاملت شروط صحته هل يجب عرضه على الكتاب
قال الشافعي رضي الله عنه لا يجب لأنه لا تتكامل شروطه إلا وهو غير مخالف للكتاب وعند عيسى بن أبان يجب عرضه عليه لقوله صلى الله عليه وسلم إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه المسألة السادسة لا شبهة في أن الناسخ يجب أن يكون غير مقارن للكتاب فإن علم أن خبر الواحد غير مقارن للكتاب لم يقبل لما ثبت أن نسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز وإن شك فيه قبل عند القاضي عبد الجبار قال لأن الصحابة رفعت بعض أحكام القرآن لأخبار الآحاد ولم تسأل هل كانت مقارنة أم لا

(4/438)


المسألة السابعة اختلفوا فيما إذا كان مذهب الراوي بخلاف روايته فالأول هو قول بعض الحنفية الراوي للحديث العام إذا خصه رجع إليه لأنه لما شاهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان أعرف بمقاصده ولذلك حملوا رواية أبي هريرة فولوغ الكلب أنه يغسل سبعا على الندب لأن أبا هريرة كان يقتصر على الثلاث الثاني وهو قول الكرخي أن ظاهر الخبر أولى
والثالث أنه إن كان تأويل الراوي بخلاف ظاهر الحديث رجع إلى الحديث وإن كان هو أحد محتملات الظاهر رجع إلى تأويله وهو ظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه والرابع وهو قول القاضي عبد الجبار إن لم يكن لمذهبه وتأويله وجه إلا أنه علم بالضرورة قصد النبي صلى الله عليه وسلم إليه وجب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوزنا أن يكون قد صار إليه لنص أو قياس وجب النظر في ذلك فإن اقتضى ما ذهب إليه صير إليه وإلا فلا وكذا إن كان الحديث مجملا وبينه الراوي كان بيانه أولى

(4/439)


حجة الشافعي رضي الله عنه أن المقتضى وهو ظاهر اللفظ قائم والمعارض الموجود وهو مخالفة الراوي لا يصلح أن يكون معارضا لاحتمال أن يكون قد تمسك في تلك المخالفة بما ظنه دليلا مع أنه لا يكون كذلك فإن قلت الظاهر من دينه أنه لا يخالف إلا لدليل قلت دينه يمنعه عن الخطأ عمدا لا سهوا وغلطا وليس ها هنا ظاهر يدل على أنه كان من العلم بحيث لا يعرض له ذلك الخطأ المسألة الثامنة خبر الواحد إما أن يقتضي علما أو عملا فإن اقتضى علما فإما أن يكون في الأدلة القاطعة ما يدل عليه أو لا
يكون فإن كان الأول جاز قوله لأنه لا يمتنع أن يكون عليه الصلاة والسلام قاله واقتصر به على آحاد الناس واقتصر بغيرهم على الدليل الآخر وإن كان الثاني وجب رده سواء اقتضى مع العلم عملا أو لم يقتضه لأنه لما كان التكليف فيه بالعلم مع إنه ليس له صلاحية إفاده العلم كان

(4/440)


ذلك تكليفا بما لا يطاق اللهم إلا أن يقال لعله عليه الصلاة والسلام أوجب العلم به على من شافهه دون من لم يشافهه فإن ذلك جائز فأما إذا اقتضى عملا وكان البلوي به عاما فعندنا لا يجب رده وعند الحنفية يجب رده لنا وجوه أحدها عموم قوله تعالى ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم وقوله إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وثانيها أن خبر الواحد العدل في هذا الباب يفيد ظن الصدق فيكون العمل دافعا لضرر مظنون فيكون واجبا وثالثها رجوع الصحابة إلى عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين مع أن ذلك مما تعم به البلوي

(4/441)


ورابعها
أن البلوي عام بمعرفة أحكام القئ والرعاف والقهقهة في الصلاة ووجوب الوتر مع أنهم يقبلون خبر الواحد فيه وليس يعصمهم من ذلك أنه قد تواتر النقل بالوتر لأن وجوبها يعم به البلوي ولم يتواتر نقله واحتجوا بالإجماع والمعقول أما الإجماع فهو أن أبا بكر رد حديث المغيرة في الجدة ورد عمر خبر أبي موسى في الاسئذان وأما المعقول فهو أنه لو كان صحيحا لأشاعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولأوجب نقله على جهة التواتر مخافة أن لا يصل إلى من كلف به فلا يتمكن من العمل به ولو فعل ذلك لتوافرت على الدواعي إلى نقله على جهة التواتر والجواب عن الأول أنه أنما كان يجب ذلك الذي قلتم لو لم يقبلوا فيه إلا خبرا متواترا فأما إذا لم يقبلوا خبر الواحد وقبلوا خبر الأثنين فلا وقد قبلوا خبر الاثنين فيه فلم ينفعكم ذلك وعن الثاني أن ذلك يجب أن لو كان يتضمن علما أو أوجب العمل به على كل حال

(4/442)


فأما إذا أوجبه بشرط أن يبلغه فليس فيه تكليف ما لا طريق إليه ولو وجب ذلك فيما تعم به البلوي لوجب في غيره لجواز أن لا يصل إلى من كلف به فإن قلتم هناك إنه كلف العمل به بشرط أن يبلغه قيل لكم مثله فيما تعم به البلوى

(4/443)


القسم الثالث في الإخبار وفيه مسائل المسألة الأولى في كيفية ألفاظ الصحابة في نقل الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي على سبع مراتب المرتبة الأولى أن يقول الصحابي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا أو أخبرني رسول الله أو حدثني رسول الله أو شافهني رسول الله صلى الله عليه وسلم المرتبة الثانية أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فهذا ظاهره النقل إذا صدر عن

(4/445)


الصحابي وليس نصا صريحا إذ قد يقول الواحد منا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمادا على ما نقل إليه وإن لم يسمعه منه صلى الله عليه وسلم إما إذا صدر عن غير الصحابي فليس ظاهره ذلك المرتبة الثالثة أن يقول أمر رسول الله بكذا أو نهى عن كذا وهذا يتطرق إليه الاحتمال الأول مع احتمال آخر وهو أن مذاهب الناس في صيغ الأوامر النواهي مشهورة فربما ظن ما ليس بأمر أمرا ولأجله اختلف الناس في أنه هل هو حجة أم لا والأكثرون على أنه حجة لأن الظاهر من حال الراوي أن لا يطلق هذا اللفظ إلا إذا تيقن مراد الرسول صلى الله عليه وسلم
ولقائل أن يقول لم لا يكفي فيه الظن فإن قلت لأن هذه الصيغة حجة فلو أطلقه الراوي مع تجويزه خلافه لكان قد أوجب على الناس ما يجوز أن لا يكون واجبا عليهم وذلك يقدح في عدالته فنقول على هذا لا يمكنكم العلم بأن هذا الراوي ما اطلق هذه اللفظه إلا بعد علمه بمراد الرسول إلا إذا علمتم أنه حجة وأنتم إنما اثبتم كونه حجة بذلك فلزم الدور

(4/446)


وفي المسألة احتمال ثالث وهو أن قول الراوي أمر الرسول بكذا ليس فيه لفظ يدل على أنه أمر الكل أو البعض دائما أو غير دائم فلا يجوز الاستدلال به إلا إذا ضم إليه قوله عليه الصلاة والسلام حكمي على الواحد حكمي على الجماعة المرتبة الرابعة أن يقول الصحابي أمرنا بكذا أو أوجب كذا ونهينا عن كذا وأبيح كذا قال الشافعي رضي الله عنه أنه يفيد أن الآمر هو الرسول عليه الصلاة والسلام والكرخي خالف فيه لنا وجهان الأول أن من التزم طاعة رئيس فإنه متى قال أمرنا بكذا فهم منه أمر ذلك الرئيس ألا ترى أن الرجل من خدم السلطان إذا قال في دار
السلطان أمرنا بكذا فهم كل أحد من كلامه أمر السلطان الثاني أن غرض الصحابي أن يعلمنا الشرع فيجب حمله على من صدر الشرع

(4/447)


عنه دون الأئمة دون والولاة فلا يحمل هذ القول على أمر الله تعالى لأن أمره تعالى ظاهر للكل لا نستفيده من قول الصحابي ولا على أمر جماعة الأمة لأن ذلك الصحابي من الأمة وهو لا يأمر نفسه المرتبة الخامسة أن يقول الصحابي من السنة كذا فهم منه سنة الرسول عليه الصلاة والسلام للوجهين المذكورين فإن قلت هذا غير واجب للخبر والعقل أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها وعنى به سنة غيره وأما العقل فهو أن السنة مأخوذة من الاستنان وذلك غير مختص بشخص دون شخص

(4/448)


قلت لا يمتنع ما ذكرتموه بحسب اللغة ولكن بحسب الشرع يفيد ما قلنا المرتبة السادسة أن يقول الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال قوم يحتمل أن يقال إنه أخبره إنسان آخر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لم يسمعه منه وقال اخرون بل الأظهر أنه سمعه منه
المرتبة السابعة قوله الصحابي كنا نفعل كذا فالظاهر أنه قصد أن يعلمنا بهذا الكلام شرعا ولن يكون كذلك إلا وقد كانوا يفعلونه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بذلك ومع أنه صلى الله عليه وسلم ما كان ينكر ذلك عليهم وهذا يقتضي كونه شرعا عاما فأما إذا قال الصحابي قولا لا مجال للاجتهاد فيه فحسن الظن به يقتضي أن يكون قاله عن طريق فإذا لم يمكن الاجتهاد فليس إلا السماع من النبي صلى الله عليه وسلم

(4/449)


المسألة الثانية في كيفية رواية غير الصحابي وهذا أيضا على سبع مراتب المرتبة الأولى أن يقول الراوي حدثني فلان أو أخبرني فلان أو سمعت فلانا فالسامع يلزمه العمل بهذا الخبر وأما أن السامع كيف يروي فنقول إن الراوي إن قصد إسماعه خاصة ذلك الكلام أو كان هو في جمع قصد الراوي إسماعهم فله أن يقول ها هنا أخبرني وسمعته يحدث عن فلان إما إن لم يقصد إسماعه لا على التفصيل ولا على الجملة فله أن يقول سمعته يحدث عن فلان لكن ليس له أن يقول أخبرني ولا حدثني لأنه لم يخبره ولم يحدثه المرتبة الثانية
أن يقال للراوي هل سمعت هذا الحديث عن فلان فيقول نعم أو يقول بعد الفراغ من القراءة عليه الأمر كما قرئ على فها هنا العمل بالخبر لازم على السامع وله أيضا أن يقول حدثني أو أخبرني أو سمعت فلانا ألا ترى أنه لا فرق في الشهادة على البيع بين أن يقول البائع وبين أن يقرأ عليه

(4/450)


كتاب البيع فيقول الأمر كما قرئ علي المرتبة الثالثة أن يكتب إلى غيره بأني سمعت كذا من فلان فللمكتوب إليه أن يعمل بكتابه إذا علم أنه كتابه واذا ظن أنه خطه جاز له ذلك أيضا لكن ليس له أن يقول سمعت أو حدثني لأنه ما سمع ولا حدث بل يجوز أن يقول أخبرني لأن من كتب إلى غيره كتابا يعرفه فيه واقعة جاز له أن يقول أخبرني المرتبة الرابعة أن يقال له هل سمعت هذا الخبر فيشير برأسه أو بأصبعه فالإشارة ها هنا كالعبارة في وجوب العمل ولا يجوز أن يقول حدثني أو أخبرني أو سمعته لأنه ما سمع شيئا المرتبة الخامسة أن يقرأ عليه حدثك فلان فلا ينكر ولا يقر بعبارة ولا بإشارة

(4/451)


فها هنا إن غلب على الظن أنه ما سكت إلا لأن الأمر كما قرئ عليه وإلا
كان ينكره لزم السامع العمل به لأنه حصل ظن أنه قول الرسول عليه الصلاة والسلام والعمل بالظن واجب واختلفوا في جواز الرواية فعامة الفقهاء والمحدثين جوزوه والمتكلمون أنكروه وقال بعض أصحاب الحديث ليس له إلا أن يقول أخبرني قراءة عليه وكذا الخلاف فيما لو قال القارئ للراوي بعد قراءة الحديث عليه أرويه عنك فقال نعم فالمتكلمون قالوا لا تجوز له الرواية عنه ها هنا أيضا حجة الفقهاء أن الإخبار في أصل اللغة لإفادة الخبر والعلم وهذا السكوت قد أفاد العلم بأن هذا المسموع كلام الرسول عليه الصلاة والسلام فوجب أن يكون إخبارا وأيضا فلا نزاع في أن لكل قوم من العلماء اصطلاحات مخصوصة يستعملونها في معان مخصوصة إما لأنهم نقلوها بحسب عرفهم إلى تلك المعاني أو لأنهم استعملوها فيها على سبيل التجوز ثم صار المجاز شائعا والحقيقة مغلوبة ولفظ أخبرني وحدثني ها هنا كذلك لأن هذا

(4/452)


السكوت شابه الإخبار في إفادة الظن والمشابهة إحدى أسباب المجاز وإذا كان هذا الاستعمال مجازا ثم استقر عرف المحدثين عليه صار ذلك كالاسم المنقول بعرف المحدثين أو كالمجاز الغالب وإذا ثبت ذلك وجب جواز استعماله قياسا على سائر الاصطلاحات
حجة المتكلمين أنه لم يسمع من الراوي شيئا فقوله حدثني وأخبرني وسمعت كذب والجواب ما تقدم من أنه بعد هذا النقل العرفي لا نسلم أنه كذب المرتبة السادسة المناولة وهي أن يشير الشيخ إلى كتاب يعرف ما فيه فيقول قد سمعت ما في هذا الكتاب فإنه يكون بذلك محدثا ويكون لغيره أن يروي عنه سواء قال له أروه عني أو لم يقل له ذلك فأما إذا قال له حدث عني ما في هذا الجزء ولم يقل له قد سمعته فإنه لا يكون محدثا له وإنما جاز للتحدث له وليس له أن يحدث به عنه لأنه يكون كاذبا وإذا سمع الشيخ نسخة من كتاب مشهور فليس له أن يشير إلى نسخة أخرى من ذلك الكتاب ويقول سمعت هذا لأن النسخ تختلف إلا أن

(4/453)


يعلم أنهما متفقتان المرتبة السابعة الإجازة وهي أن يقول الشيخ لغيره قد أجزت لك أن تروي ما صح عني من أحاديثي واعلم أن ظاهر الإجاز يقتضي أن الشيخ أباح له أن يحدث بما لم يحدثه به وذلك إباحة الكذب لكنه في العرف يجري مجرى أن يقول ما صح عندك أني سمعته فاروه عني المسألة الثالثة
ذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن المرسل غير مقبول وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور المعتزلة إنه مقبول

(4/454)


لنا أن عدالة الأصل غير معلومة فلا تكون روايته مقبولة إنما قلنا أن عدالة الأصل غير معلومة لأنه لم توجد إلا رواية الفرع عنه ورواية الفرع عنه لا تكون تعديلا له إذا المعدل قد يروي عمن لو سئل عنه لتوقف فيه او لجرحه وبتقدير أن يكون تعديلا لا يقتضى كونه عدلا في نفسه لاحتمال أنه لو عينه لنا لعرفناه بفسق لم يطلع عليه المعدل فثبت أن عدالته غير معلومة وإذا كان كذلك وجب أن لا تقبل روايته لأن قبول روايته يقتضي وضع شرع عام في حق كل المكلفين من غير رضاهم وذلك ضرر والضرر على خلاف الدليل ترك العمل به فيما إذا علمت عدالة الراوي فيبقى في الباقي على الأصل فإن قيل لا نسلم أن عدالته غير معلومة قوله لم يوجد إلا رواية الفرع عنه ورواية الفرع عنه لا تكون تعديلا له لأنه قد يروي عن العدل وغيره قلنا لا نزاع في جوازه في الجملة لكن لم لا يجوز أن يقال روايته عن العدل أرجح من روايته عن غيره وبيانه من وجهين الأول أن الفرع مع عدالته لا يجترئ أن يخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وله

(4/455)


الإخبار بذلك ولا يكون له ذلك إلا وهو عالم أو ظان بكونه قولا للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لو استوى الطرفان لحرم الإخبار ولا يكون عالما ولا ظانا بكونه قولا للرسول إلا إذا علم أو ظن عدالة الأصل الثاني أن الفرع مع عدالته ليس له أن يوجب شيئا على غيره أو يطرحه عنه إلا إذا علم أنه عليه الصلاة والسلام أوجب ذلك أو ظنه فثبت بهذين الدليلين رجحان هذا الاحتمال وهذا يقتضي كون الأصل عدلا ظاهرا فوجب قبول روايته كما في سائر العدول وهذه هي النكتة التي عولوا عليها في وجوب قبول المرسل ثم ما ذكرتموه من الدليل معارض بالنص والإجماع والقياس أما النص فعموم قوله تعالى ولينذروا قومهم وقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فإذا جاء من لا يكون فاسقا وجب القبول والراوي للفرع ليس بفاسق فوجب قبول خبره وأما الإجماع فإن البراء بن عازب قال ليس كل ما حدثناكم به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه غير أنا لا نكذب

(4/456)


وروى أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام من أصبح جنبا فلا صوم له ثم ذكر أنه أخبره به الفضل بن عباس وروى ابن عباس رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لا ربا إلا في النسيئة ثم اسنده إلى أسامة
وروى أيضا ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة ثم ذكر أنه أخبره به الفضل بن عباس رضي الله عنهما وهذه الروايات تدل على جواز قبول المرسل وأما القياس فلأنه لو لم يقبل المرسل لما قبل ما يجوز كونه مرسلا فكان ينبغي إذا قال الراوي عن فلان أن لا يقبل لأنه لا يجوز أن يكون أخبر عنه

(4/457)


والجواب قد بينا أن العدل يروي عن العدل وعن من لا يكون عدلا قوله لم لا يجوز أن يقال روايته عن العدل أرجح من روايته عمن ليس بعدل قلنا لأنه إذا ثبت أنه لا منافاة بين كونه عدلا وبين روايته عمن ليس بعدل كان ذلك ممكنا بالنسبة إليه من حيث هو هو والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح منفصل فقبل حصول ذلك المرجح لا يبقى إلا أصل الإمكان قوله أولا الفرع مع عدالته أخبر عن الرسول ولا يجوز له ذلك الإخبار إلا وقد اعتقد عدالة الراوي قلنا الفرع إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا يقتضي الجزم بأن هذا القول قول رسول الله والجزم بالشئ مع تجويز نقيضه كذب وذلك يقدح في عدالة الراوي فإذن لا بد من صرف هذا اللفظ عن ظاهره فليسوا بأن يقولوا المراد منه أني أظن أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من أن نقول نحن المراد منه أني سمعت أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعلوم أنه لو صرح بهذا القدر
لم يكن فيه تعديل للأصل لأنه لو سمعه من كافر متظاهر بالكفر لحل أن

(4/458)


يقول سمعت أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمنا سقوط ما ذكروه قوله ثانيا الفرع مع عدالته ليس يجوز له أن يوجب شيئا على غيره إلا إذا علم أو ظن أنه عليه الصلاة والسلام أوجبه قلنا روايته إنما توجب على الغير شيئا لو ثبت كون الراوي عدلا فإن بينتم إثبات كونه عدلا بأن هذه الرواية توجب على غيره شيئا لزم الدور ثم نقول ينتقض ما ذكرتموه من الوجهين بشاهد الفرع إذا لم يذكر شاهد الأصل فإن ما ذكرتموه قائم فيه مع لا تقبل شهادته فإن قلت الفرق من وجهين الأول أن الشهادة تتضمن إثبات حق على عين والخبر يتضمن إثبات الحق على الجملة من دون تخصيص ويدخل من التهمة في إثبات الحقوق على الأعيان ما لا يدخل في إثباتها على الجملة فجاز ان تؤكد الشهادة بما لا تؤكد به الرواية كما أكدنا باعتبار العدد فيها دون الرواية الثاني أن شهود الأصل لو رجعوا عن شهادتهم لزمهم الضمان على قول بعض الفقهاء فإذا لم يؤمن أن يؤدي اجتهاد الحاكم إلى ذلك لو رجعوا وجب أن

(4/459)


يعرفهم بأعيانهم ليتأتى إلزامهم الضمان إن هم رجعوا قلت الجواب عن الأول
أن إثبات الحق على الأعيان لو ترجح على إثبات الحق في الجملة من ذلك الوجه فهذا يترجح على ذلك من وجه آخر وهو أن الخبر يقتضي شرعا عاما في حق جميع المكلفين إلى يوم القيامة فالاحتياط فيه أولى من الاحتياط في إثبات الحكم في حق مكلف واحد وعن الثاني أنه ملغي بما إذا كان شاهد الأصل قد مات ولم يبق له في الدنيا دينار ولا درهم فكيف يمكن تضمينه وأما المعارضة الآولى فجوابها أن هذه النصوص خصصت في الشهادة فوجب تخصيصها في الرواية والجامع الاحتياط وعن الثانية أن هذه المسألة عندنا اجتهادية فلعل بعض الصحابة كان قائلا به ومخالفوهم ما أنكروه عليهم لكون المسألة اجتهادية وأيضا فالصحابي الذي رأى الرسول إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الظاهر منه الإسناد وإذا كان كذلك وجب على السامع قبوله ثم بعد ذلك إذا بين الصحابي أنه كان مرسلا ثم بين إسناده وجب أيضا قبوله ولم يكن قبوله

(4/460)


في إحدى الحالتين دليلا على العمل بالمرسل وعن الثالث أن مدار العمل بهذه الأخبار على الظن فإذا قال الراوي قال فلان عن فلان وقد أطال صحبته كان ذلك دليلا على أنه سمعه منه ومتى لم يعلم أنه صحبه (كان ذلك دليلا على أنه) سمعه منه ومتى لم يعلم أنه صحبه لم يقبل حديثه
فروع الأول قال الشافعي رضي الله عنه لا اقبل المرسل إلا إذا كان الذي أرسله مرة أسنده أخرى أقبل مرسله أو أرسله هو وأسنده غيره وهذ إذا لم تقم الحجة بإسناده أو أرسله راو اخر ويعلم أن رجال أحدهما غير رجال الآخر أو عضده قول صحابي أو توى أكثر أهل العلم أو علم أنه لو نص لم ينص إلا على من يسوغ قبول خبره قال وأقبل مراسيل سعيد بن المسيب لأني اعتبرتها فوجدتها بهذه الشرائط قال ومن هذه حاله أحببت قبول مراسليه ولا أستطيع أن أقول إن الحجة تثبت به كثبوتها بالمتصل

(4/461)


قالت الحنفية أما قوله أقبل مراسيل الراوي إذا كان أسنده مرة فبعيد لأنه إذا أسند قبل لأنه مسند وليس لإرساله تأثير وأما قوله يقبل مرسل الراوي إذا كان قد أسنده غيره فلا يصح لما ذكرنا ولأن ما ليس بحجة لا يصير حجة إذا عضدته الحجة وأما قوله أقبل المرسل إذا كان أرسله أثنان وشيوخ أحدهما غير شيوخ الآخر لا يصح لأن ما ليس بحجة إذا انضاف إليه ما ليس بحجة لا يصير حجة إذا كان المانع من كونه حجة عند الانفراد قائما عند الاجتماع وهو الجهل بعدالة راوي الأصل وهذا بخلاف الشاهد الواحد فإن المانع من قبول شهادته الانفراد وهو يزول عند انضمام غيره إليه والجواب
أن غرض الشافعي رضي الله عنه من هذه الأشياء حرف واحد

(4/462)


وهو أنا إذا جهلنا عدالة راوي الأصل لم يحصل ظن كون ذلك الخبر صدقا فإذا انضمت هذه المقويات إليه قوى بعض القوة فحينئذ يجب العمل به إما دفعا للضرر المظنون وإما لقوله عليه الصلاة والسلام أقضي بالظاهر فظهر فساد هذا السؤال الثاني إذا أرسل الحديث وأسنده غيره فلا شبهة في قبوله عند من يقبل المرسل وكذا عند من لا يقبله لأن إسناد الثقة يقتضي القبول إذا لم يوجد مانع ولا يمنع منه إرسال المرسل لأنه يجوز أن يكون أرسله لأنه سمعه مرسلا أو سمعه متصلا لكنه نسى شيخ نفسه وهو يعلم أنه ثقة في الجملة وكذا القول فيما إذا أرسله مرة وأسنده أخرى لأنه يجوز أن يوجد بعض ما ذكرنا الثالث إذا الحق الحديث بالنبي ووافقه غيره على الصحابي فهو متصل لأنه يجوز أن يكون الصحابي رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم مرة وذكر عن نفسه على سبيل الفتوى مرة فرواه كل واحد منهما بحسب ما سمعه أو سمعه أحدهما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم فنسى ذلك وظن أنه ذكره عن نفسه الرابع إذا وصله بالنبي صلى الله عليه وسلم مرة ووقفه على الصحابي أخرى فإنه يجعل

(4/463)


متصلا لجواز أن يكون سمعه من الصحابي يرويه مرة عنه عليه الصلاة
والسلام ومرة عن نفسه أو سمعه وصله بالنبي صلى الله عليه وسلم فنسى ذلك وظن أنه ذكره عن نفسه فأما إذا أرسله أو أوقفه زمانا طويلا ثم أسنده أو وصله بعد ذلك فإنه يبعد أن ينسى ذلك الزمان الطويل إلا أن يكون له كتاب يرجع إليه فيذكر ما قد نسيه الزمان الطويل الخامس من يرسل الأخبار إذا أسند خبرا هل يقبل أو يرد أما من يقبل المراسيل فإنه يقبله وأما من لا يقبلها فكثير منهم قبله أيضا لأن إرساله مختص بالمرسل دون المسند فوجب قبول مسنده ومنهم من لم يقبله قال لأن إرساله يدل على أنه إنما لم يذكر الراوي لضعفه فستره له والحالة هذه خيانة واختلف من قبل حديث المرسل إذا أسنده كيف يقبل فقال الشافعي رضي الله عنه لا يقبل من حديثه إلا ما قال فيه حدثني أو سمعت فلانا ولا يقبل إذا أتى بلفظ موهم

(4/464)


وقال بعض المحدثين لا يقبل إلا إذا قال سمعت فلانا وهؤلاء يفرقون بين أن يقال حدثني فلان وأخبرني فيجعلون الأول دالا على أنه شافهه بالحديث ويجعلون الثاني مرددا بين المشافهة وبين أن يكون إجازة له أو كتب إليه وهذه عادة لهم وإن لم يكن بينهما فرق في اللغة

(4/465)


المسألة الرابعة في التدليس إذا روى الراوي الحديث عن رجل يعرف باسم فلم يذكره بذلك وذكره باسم لا يعرف به فإن فعل ذلك لأن من يروى عنه ليس بأهل أن يقبل حديثه فقد غش الناس فلا يقبل حديثه وإن لم يذكر اسمه لصغر سنه لا لأنه ليس بثقة فمن يقول يكفي ظاهر الاسلام في العدالة قبل هذا الحديث ومن يقول لا بد من التفحص عن عدالته بعد إسلامه فمن لا يقبل المراسيل فإنه لا يقبله لأنه لم يتمكن من التفحص عن عدالته حيث لم يذكر اسمه فهو كالمرسل ومن يقبل المراسيل ينبغي أن يقبله لأن عدالته تقتضي أنه لولا أنه ثقة عنده لما ترك ذكر اسمه فصار كما لو عدله المسألة الخامسة يجوز نقل الخبر بالمعنى وهو مذهب الحسن البصري وأبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهم خلافا لابن سيرين وبعض المحدثين

(4/466)


ولكن بشرائط ثلاث أحدها أن لا تكون الترجمة قاصرة عن الأصل في إفاده المعنى وثانيها أن لا تكون فيها زيادة ولا نقصان وثالثها
أن تكون الترجمة مساوية للأصل في الجلاء والخفاء لأن الخطاب تارة يقع بالمحكم وتارة بالمتشابه لحكم وأسرار استأثر الله بعلمها فلا يجوز تغييرها عن وضعها لنا وجوه الأول أن الصحابة نقلوا قصة واحدة بألفاظ مختلفة مذكورة في مجلس واحد ولم ينكر بعضهم على بعض فيه وذلك يدل على قولنا الثاني أنه يجوز شرح الشرع للعجم بلسانهم فإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فبأن يجوز إبدالها بعربية أخرى كان أولى ومن أنصف علم أن التفاوت بين العربية وترجمتها بالعربية أقل مما بينها

(4/467)


وبين العجمية الثالث روى أنه عليه الصلاة والسلام قال إذا أصبتم المعنى فلا بأس

(4/468)


وعن ابن مسعود أنه كان إذا حدث قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو نحوه الرابع وهو الأقوى أن نعلم بالضرورة أن الصحابة الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأخبار ما كانوا يكتبونها في ذلك المجلس وما كانوا
يكررون عليها في ذلك المجلس بل كما سمعوها تركوها وما ذكروها إلا بعد الأعصار والسنين وذلك يوجب القطع بتعذر روايتها على تلك الألفاظ احتج المخالف بالنص والمعقول أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام رحم الله أمرءا اسمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها قالوا وأداؤها كما سمعها هو اداء اللفظ المسموع ونقل الفقه الى من هو أفقه منه معناه والله أعلم أن الأفطن ربما فطن بفضل فقهه من فوائد اللفظ لما لم يفطن له الرواي لأنه ربما كان دونه في الفقه وأما المعقول فمن وجهين

(4/469)


الأول أنه لما جربنا رأينا أن المتأخر ربما استنبط من فوائد آية أو خبر ما لم يتنبه له أهل الأعصار السالفة من العلماء والمحققين فعلمنا أنه لا يجب في كل ما كان من فوائد اللفظ أن يتنبه له السامع في الحال وإن كان فقيها ذكيا فلو جوزنا النقل بالمعنى فربما حصل التفاوت العظيم مع أن الراوي يظن أنه لا تفاوت الثاني أنه لو جاز للراوي تبديل لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظ نفسه كان للراوي الثاني تبديل اللفظ الذي سمعه بلفظ نفسه بل هذا أولى لأن جواز تبديل لفظ الراوي أولى من جواز تبديل لفظ الشارع وكذا في الطبقة الثالثة والرابعة وذلك يفضي إلى سقوط الكلام الأول لأن الأنسان وإن اجتهد في تطبيق
الترجمة لكن لا ينفك عن تفاوت وإن قل فإذا توالت هذه التفاوتات الله كان التفاوت الأخير تفاوتا فاحشا بحيث لا يبقى بين الكلام الأخير وبين الأول نوع مناسبة والجواب عن الأول أن من أدى تمام معني كلام الرجل فإنه يوصف بأنه أدى كما سمع وإن اختلفت الألفاظ وهكذا الشاهد والترجمان يقع عليهما الوصف بأنهما أديا كما سمعا وإن كان لفظ الشاهد خلاف لفظ المشهود عليه ولغة

(4/470)


المترجم غير لغة المترجم عنه وعن الثاني والثالث ما تقدم من قبل

(4/471)


المسألة السادسة الراويات إذا اتفقا على رواية خبر وانفرد أحدهما بزيادة وهما ممن يقبل حديثه فإما أن يكون المجلس واحدا أو متغايرا فإن كان متغايرا قبلت الزيادة لأنه لا يمتنع أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر الكلام في أحد المجلسين مع زيادة وفي المجلس الثاني بدون تلك الزيادة وإذا كان كذلك فنقول عدالة الراوي تقتضي قبول قوله ولم يوجد ما يقدح فيه فوجب قبوله وإن كان المجلس واحدا فالذين لم يرووا الزيادة إما أن يكونوا عددا لا يجوز أن يذهلوا عما يضبطه الواحد أو ليسوا كذلك فإن كان الأول لم تقبل الزيادة وحمل أمر راويها على أنه يجوز مع عدالته
أن يكون قد سمعها من غير النبي صلى الله عليه وسلم وظن أنه قد سمعها منه وإن كان الثاني فتلك الزيادة إما أن لا تكون مغيرة لإعراب الباقي أو تكون فإن لم تغير إعراب الباقي قبلت الزيادة عندنا إلا أن يكون الممسك عنها أضبط من الراوي لها خلافا لبعض المحدثين لنا أن عدالة راوي الزيادة تقتضي قبول خبره وإمساك الراوي الثاني عن روايتها لا يقدح فيه لاحتمال أن يقال إنه كان حال ذكر

(4/473)


الرسول عليه الصلاة والسلام تلك الزيادة عرض له سهو أو شغل قلب أو عطاس أو دخول انسان أو فكر أذهله عن سماع تلك الزيادة وإذا وجد المقتضي لقبول الخبر خاليا عن المعارض وجب قبوله فإن قلت كما جاز السهو على الممسك جاز أيضا على الراوي قلت لا نزاع في الجواز على الجملة لكن الأغلب على الظن أن راوي الزيادة أبعد عن السهو لأن ذهول الإنسان عما سمعه أكثر من توهمه فيما لم يسمع أنه سمعه بلي لو صرح الممسك بنفي الزيادة وقال إنه عليه الصلاة والسلام وقف على قوله فيما سقت السماء العشر فلم يأت بعده بكلام آخر مع انتظارى له فها هنا يتعارض القولان ويصار إلى الترجيح أما إذا كانت الزيادة مغيرة لإعراب الباقي كما إذا روى أحدهما أدوا عن كل حر أو عبد صاعا من بر ويروى الآخر نصف صاع من بر فالحق أنها لا تقبل خلافا لأبي عبد الله البصري
لنا أنه حصل التعارض لأن أحدهما إذا رواه صاعا فقد رواه بالنصب والآخر اذا روى نصف صاع فقد روى الصاع بالجر والنصب ضد الجر فقد حصل التعارض وإذا كان كذلك وجب المصير إلى الترجيح

(4/474)


فرع الراوي الواحد إذا روى الزيادة مرة ولم يروها غير تلك المرة فإن أسندهما إلى مجلسين قبلت الزيادة سواء غيرت اعراب الباقي أو لم تغير وإن أسندهما إلى مجلس واحد فالزيادة إن كانت مغيرة للإعراب تعارضت روايتاه كما تعارضتا من راويين وإن لم تغير الإعراب فإما أن تكون روايته للزيادة مرات أقل من مرات الإمساك أو بالعكس أو يتساويان فإن كانت مرات الزيادة أقل من مرات الإمساك لم تقبل الزيادة لأن حمل الأقل على السهو أولى من حمل الأكثر عليه اللهم إلا أن يقول الراوي إني سهوت في تلك المرات وتذكرت في هذه المرة فها هنا يرجح المرجوح على الراجح لأجل هذا التصريح وإن كانت مرات الزيادة أكثر قبلت لا محالة لوجهين أحدهما ما ذكرنا أن حمل الأقل على السهو أولى والثاني

(4/475)


فرع الراوي الواحد إذا روى الزيادة مرة ولم يروها غير تلك المرة فإن أسندهما إلى مجلسين قبلت الزيادة سواء غيرت اعراب الباقي أو لم تغير وإن أسندهما إلى مجلس واحد فالزيادة إن كانت مغيرة للإعراب تعارضت روايتاه كما تعارضتا من راويين وإن لم تغير الإعراب فإما أن تكون روايته للزيادة مرات أقل من مرات الإمساك أو بالعكس أو يتساويان فإن كانت مرات الزيادة أقل من مرات الإمساك لم تقبل الزيادة لأن حمل الأقل على السهو أولى من حمل الأكثر عليه اللهم إلا أن يقول الراوي إني سهوت في تلك المرات وتذكرت في هذه المرة فها هنا يرجح المرجوح على الراجح لأجل هذا التصريح وإن كانت مرات الزيادة أكثر قبلت لا محالة لوجهين أحدهما ما ذكرنا أن حمل الأقل على السهو أولى والثاني ما ذكرنا أن حمل السهو على نسيان ما سمعه أولى من حمله على توهم أنه سمع ما لم يسمعه وأما إن تساويا قبلت الزيادة لما بينا أن هذا السهو أولى من ذلك والله أعلم القسم الثاني

(4/475)