المحصول للرازي الكلام في التعادل
والترجيح وهو مرتب على أربعة أقسام
(5/377)
القسم الأول في
التعادل وفيه مسألتان
(5/379)
المسألة الأولى اختلفوا في أنه هل يجوز
تعادل الأمارتين فمنع منه الكرخى مطلقا وجوزه الباقون ثم
المجوزون اختلفوا في حكمه عند وقوعه فعند القاضى أبي بكر منا
وأبي على وأبي هاشم من المعتزلة حكه التخيير وعند بعض الفقهاء
حكمه أنهما يتساقطان ويجب الرجوع إلى مقتضى العقل والمختار أن
نقول تعادل الأمارتين إما أن يقع في حكمين متناقضين والفعل
واحد وهو كتعارض الأمارتين على كون الفعل قبيحا ومباحا وواجبا
وإما أن يكون في فعلين متنافيين والحكم واحد نحو وجوب التوجه
إلى جهتين قد غلب على ظنه أنهما جهتا القبلة أما القسم الأول
فهو جائز في الجملة لكنه غير واقع في الشرع أما أنه جائز في
الجملة فلأنه يجوز أن يخبرنا رجلان بالنفى والإثبات وتستوى
عدالتهما وصدق لهجتهما بحيث لا يكون لأحدهما مزية على الآخر
(5/380)
وأما أنه في الشرع غير واقع فالدليل عليه
أنه لو تعادلت أمارتان على كون هذا الفعل محظورا ومباحا فإما
أن يعمل بهما معا أو يتركا معا أو يعمل بإحداهما دون الثانية
والأول محال لأنه يقتضي كون الشئ الواحد في الوقت الواحد من
الشخص الواحد محظورا مباحا وهو محال والثاني أيضا محال لأنهما
لما كانتا في نفسيهما بحيث لا يمكن العمل بهما ألبتة كان
وضعهما عبثا والعبث غير جائز على الله تعالى وأما الثالث وهو
أن يعمل بإحداهما دون الأخرى فإما أن يعمل بإحداهما على
التعيين أو لا على التعيين والأول باطل لأنه ترجيح من غير مرجح
فيكون ذلك قولا في الدين بمجرد التشهي وإنه غير جائز والثاني
أيضا باطل لأنا إذا اخيرناه كان بين الفعل والترك فقد أبحنا له
الفعل فيكون هذا ترجيحا لأمارة الإباحة بعينها على أمارة الحظر
وذلك هو القسم الذي تقدم إبطاله فثبت أن القول بتعادل
الأمارتين في حكمين متنافيين والفعل واحد يفضي إلى هذه الأقسام
الباطلة فوجب أن يكون باطلا
(5/381)
فإن قيل لم لا يجوز العمل بإحدى الأمارتين
على التعيين إما لأنها أحوط أو لأنها أخذ بالأصل سلمنا ذلك فلم
لا يجوز أن يكون مقتضى التعادل هو التخيير قوله القول بالتخيير
إباحة الفعل فيكون ذلك ترجيحا لأمارة الإباحة قلنا لا نسلم أن
الأمر بالتخيير إباحة بيانه أنه يجوز أن يقول الله تعالى أنت
مخير في الأخذ بأمارة الإباحة وبأمارة أبو الحظر إلا أنك متى
أخذت بأمارة الإباحة فقد أبحت لك الفعل
وإن أخذت بأمارة الحرمة فقد حرمت الفعل عليك فهذا لا يكون إذنا
في الفعل والترك مطلقا بل إباحة في حال وحظرا في حال أخرى
ومثاله في الشرع أن المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا وبين
أن يترك ركعتين فالركعتان واجبتان ويجوز تركهما بشرط أن يقصد
الترخص وأيضا من استحق أربعة دراهم على غيره فقال تصدقت عليك
(5/382)
بدرهمين إن قبلت وإن لم تقبل وأتيت
بالأربعة قبلت الأربعة عن الدين واجب فإن شاء قبل الصدقة وأتى
بدرهمين وإن شاء أتى بالأربعة عن الواجب فكذا في مسألتنا إذا
سمع قوله تعالى وإن تجمعوا بين الأختين حرم عليه الجمع بين
المملوكتين وإنما يجوز له الجمع إذا قصد العمل بموجب الدليل
الثاني وهو قوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم كما قال عثمان رضي
الله عنه أحلتهما آية وحرمتهما آية سلمنا ذلك لكن هذه الدلالة
إنما تتم عند تعارض أمارة الحظر والإباحة وأما عند تعارض أمارة
الحظر والوجوب إذا قلنا بالتخيير لم
(5/383)
يلزم ترجيح إحداهما على الأخرى فدليلكم على
امتناع التعادل غير متناول لكل الصور سلمنا فساد القول
بالتخيير فلم لا يجوز التساقط
قوله لأنه عبث قلنا لا نسلم ولم لا يجوز أن يقال إن لله تعالى
فيه حكمة خفية لا يطلع عليها وأيضا فهب أن التعادل في نفس
الأمر ممتنع لكن لا نزاع في وقوع التعادل بحسب أذهاننا فإذا
اجاز أن لا يكون التعادل الذهنى عبثا فلم لا يجوز أن لا يكون
التعادل الخارجى عبثا أيضا ثم ما ذكرتموه يشكل بما إذا أفتى
مفتيان أحدهما بالحل والآخر بالحرمة واستويا في ظن المستفتى
ولم يوجد الرجحان فإنهما بالنسبة إلى العامي كالأمارة والجواب
قوله لم لا يجوز العمل بإحداهما لأنه أحوط أو لأنه أصل قلنا إن
جاز الترجيح بهاتين الجهتين فوجوده ينافي التعادل وإن لم يجز
فقد بطل كلامك
(5/384)
قوله لم قلت إن التخيير إباحة قلت لأن
المحظور هو الذي منع من فعله والمباح هو الذي لم يمنع من فعله
فإذا حصل الإذن في الفعل فقد ارتفع الحجر فلا يبقى الحظر ألبتة
ولا معنى للإباحة إلا ذلك قوله ذلك الفعل محظور بشرط أن يأخذ
بأمارة الحظر ومباح بشرط أن يأخذ بأمارة الإباحة قلنا هذا باطل
من وجهين
الوجه الأول هو أن أمارة الإباحة وأمارة الحظر إما أن تقوما
على ذات الفعل وماهيته باعتبار واحد أو ليس كذلك بل تقوم أمارة
الإباحة على الفعل المقيد بقيد وتقوم إمارة الحظر على الفعل
المقيد بقيد آخر فإن كان الثاني كان ذلك مغايرا لهذه المسألة
التي نحن فيها لأن هذه المسألة هي أن تقوم الأمارتان على إباحة
شئ واحد وحظره وعلى التقدير الذي قالوا قامت أمارة الإباحة على
شئ وأمارة الحظر على شئ آخر فإنهم لما قالوا عند الأخذ بأمارة
الحرمة يحرم الفعل عليه فمعناه أن أمارة الحرمة قائمة على حرمة
هذا الفعل حال الأخذ بأمارة الحرمة وأمارة الإباحة قائمة على
إباحة هذا الفعل حال عدم الأخذ بأمارة الحرمة فالأمارتان
(5/385)
أو إنما قامتا على شيئين متنافيين غير
متلازمين لا على شئ واحد وكلامنا في قيام الأمارتين على حكمين
متنافيين في شئ واحد لا في شيئين وإذا بطل هذا القسم ثبت القسم
الأول وهو أن أمارة الحظر وأمارة الإباحة قامتا على ذات الفعل
وماهيته باعتبار واحد فإن رفعنا الحظر عن ماهية الفعل كان ذلك
إباحة فيكون ترجيحا لإحدى الأمارتين بعينها وإن لم نرفع ذلك
كان ذلك حظرا فيكون ترجيحا للأمارة الأخرى بعينها الوجه الثاني
في الجواب أن نقول ما المراد بالأخذ بإحدى الأمارتين
إن عنيتم بهذا الأخذ اعتقاد رجحانها فهذا باطل لأنها إذا لم
تكن راجحة كان اعتقاد رجحانها جهلا وأيضا فنفرض الكلام فيما
إذا حصل العلم بأنه لا رجحان ففي هذه الصورة يمتنع حصول اعتقاد
الرجحان وإن عنيتم بهذا الأخذ العزم على الإتيان بمقتضاها فذاك
العزم إما أن يكون عزما جزما بحيث يتصل بالفعل لا محالة أو لا
يكون كذلك فإن كان الأول كان الفعل في ذلك الوقت واجب الوقوع
فيمتنع ورود
(5/386)
الإباحة والحظر لأنه يكون ذلك إذنا في
إيقاع ما يجب وقوعه أو منعا عن إيقاع إيقاع ما يجب وقوعه وإن
كان الثاني وهو أن يكون العزم عزما فاترا فهاهنا يجوز له
الرجوع لأنه إذا عزم عزما فاترا على الترك فلو أراد الرجوع عن
هذا العزم وقصد الإقدام على الفعل جاز له ذلك فعلمنا أن ما
قالوه فاسد قوله هذه الدلالة لا تطرد عند تعارض أمارتى) الوجوب
والحظر قلنا لا قائل بالفرق وأيضا فالإباحة منافية للوجوب
والحظر فعند تعادل أمارتى الوجوب والحظر لو حصلت الإباحة لكان
ذلك قولا بتساقطهما وإثباتا لحكم لم يدل عليه دليل أصلا قوله
لم لا يجوز أن يكون في التساقط حكمة خفية
قلنا لأن المقصود من وضع الأمارة أن يتوسل بها إلى المدلول
فإذا كان هو في ذاته بحيث يمتنع التوسل به إلى الحكم كان خاليا
عن المقصود الأصلي منه ولا معنى للعبث إلا ذلك وهذا بخلاف وقوع
التعارض في أفكارنا لأن الرجحان لما كان حاصلا في نفس الأمر لم
يكن واضعه عابثا بل غايته أنا لقصورنا أو تقصيرنا ما انتفعنا
به أما إذا كان الرجحان مفقودا في نفس الأمر كان الواضع عابثا
(5/387)
وأما القسم الثاني وهو تعادل الأمارتين في
فعلين متنافيين والحكم واحد فهذا جائز ومقتضاه التخيير والدليل
على جوازه وقوعه في صور إحداها قوله عليه الصلاة والسلام في
زكاة الإبل في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة فمن ملك
مائتين فقد ملك أربع خمسينات وخمس أربعينات فإن أخرج الحقاق
فقد أدى الواجب إذ عمل بقوله في كل خمسين حقة وإن أخرج بنات
اللبون فقد عمل بقوله عليه الصلاة والسلام في كل أربعين بنت
لبون وليس أحد اللفظين اولى من الآخر فيتخير وثانيها من دخل
الكعبة فله أن يستقبل أي جانب شاء لأنه كيف فعل فهو مستقبل
شيئا من الكعبة وثالثها
أن الولى إذا لم يجد من اللبن إلا ما يسد رمق أحد رضيعيه ولو
قسمه
(5/388)
عليهما أو منعهما لماتا ولو سقى أحدهما مات
الآخر فهاهنا هو مخير بين أن يسقى هذا فيهلك ذاك أو ذاك فيهلك
هذا ولا سبيل إلا التخيير ورابعها أن ثبوت الحكم في الفعلين
المتنافيين نفس إيجاب الضدين وذلك يقتضى اجياب عبد إيجاب فعل
كل واحد منهما بدلا عن الآخر واحتج الخصم على فساد التخيير بأن
أمارة وجوب كل واحد من الفعلين اقتضت وجوبه على وجه لا يسوغ
الإخلال به والتخيير بينه وبين ضده يسوغ الإخلال به فالقول
بالتخيير مخالف لمقتضى الأمارتين معا والجواب أما أمارة وجوب
الفعل فتقتضى وجوبه قطعا وأما المنع من الإخلال به على كل حال
فموقوف على عدم الدلالة على قيام غيره مقامه وإذا كان كذلك لم
يكن التخيير مخالفا لمقتضى الأمارتين فرع هذا التعادل إن وقع
للإنسان في عمل نفسه كان حكمه فيه التخيير وإن وقع للمفتى كان
حكمه أن يخير المستفتى في العمل بأيهما شاء
(5/389)
كما يلزمه ذلك في أمر نفسه
وإن وقع للحاكم وجب عليه التعيين لأن الحاكم نصب لقطع الخصومات
فلو خير الخصمين لم تنقطع خصومتهما لأن كل واحد منهما يختار
الذي هو أوفق له وليس كذلك حال المفتى فإن قلت فهل للحاكم أن
يقضى في الحكومة بحكم إحدى الأمارتين إذا كان قد قضى فيها من
قبل بالأمارة الأخرى قلت لا يمتنع ذلك عقلا كمن يجوز لمن استوى
عنده جهتا القبلة أن يصلى مرة إلى جهة ومرة إلى جهة أخرى إلا
أنه منع منه دليل شرعي وهو ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال
لأبي بكرة رضي الله عنه لا تقضين في شئ واحد بحكمين مختلفين
فأما ما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في المسألة الحمارية
بحكمين وقال ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي فيجوز أن يكون
ذلك ليس لتعادل الأمارت بل لأنه ظن في المرة الأولى قوة
(5/390)
تلك الأمارة وفي المرة الثانية قوة هذه
الأمارة المسألة الثانية إذا نقل عن المجتهد قولان فإما أن
يوجد له في المسألة قولان في موضع واحد أو في موضعين فإن وجد
القولان في موضعين بأن يقول في كتاب بتحريم شئ وفي كتاب آخر
بتحليله فإما أن يعلم التاريخ أو لا يعلم فإن علم التاريخ
فالثاني منهما رجوع عن الأول ظاهرا وإن لم يعلم التاريخ حكى
عنه القولان ولا يحكم عليه بالرجوع إلى
أحدهما بعينه وإن وجد القولان في الموضع الواحد بأن يقول في
المسألة قولان فإما أن يقول عقيب هذا القول ما يشعر بتقوية
أحدهما فيكون ذلك قولا له لأن قول المجتهد ليس إلا ما ترجح
عنده وإن لم يقل ذلك فهاهنا من الناس من قال إنه يقتضي التخيير
إلا أنا أبطلنا ذلك وأيضا فبتقدير صحته يكون له في المسألة قول
واحد وهو التخيير لا قولان بل الحق أن ذلك يدل على أنه كان
متوقفا في المسألة ولم يظهر له وجه رجحان والمتوقف في المسألة
لا يكون له فيها قول واحد فضلا عن القولين
(5/391)
أما إذا لم يعرف قوله في المسألة وعرف قوله
في نظيرها فهل يجعل قوله في نظيرها قولا له فيها فنقول إن كان
بين المسألتين فرق يجوز أن يذهب إليه ذاهب لم يحكم بأن قوله في
المسألة كقوله في نظيرها لجواز أن يكون قد ذهب إلى الفرق وإن
لم يكن بينهما فرق ألبتة فالظاهر أن قوله في إحدى المسألتين
قول له في الأخرى وأما الأقوال المختلفة عن الشافعي رضي الله
عنه فهي على وجوه أحدها أن يكون قد ذكر في كتبه القديمة شيئا
وفي كتبه الجديدة شيئا آخر والناس نقلوهما عليه دفعة واحدة
وجعلوهما قولين له فالمتأخر كالناسخ
للمتقدم وهذا النوع من التصرف يدل على علو شأنه في العلم
والدين أما في العلم فلأنه يعرف به أنه كان طول عمره مشتغلا
بالطلب والبحث والتدبر وأما في الدين فلأنه يدل على أنه متى
لاح له في الدين شئ أظهره فإنه ما كان يتعصب لنصرة قوله وترويج
مذهبه بل كان منتهى مطلبه إرشاد الخلق إلى سبيل الحق
(5/392)
وثانيها أن يكون قد ذكر القولين في موضع
واحد ونص على الترجيح كقوله في بعض ما ذكر فيه قولين وبهذا
أقول وهذا أولى وبالحق أشبه وأيضا فقد يفرع على أحدهما ويترك
التفريع على الآخر فيعلم أن الذي فرع عليه أقوى عنده وأيضا
فربما نبه في آخر كلامه على الترجيح لكن المطالع قد لا يتبع
كلامه إلى آخره وقد يمل فلا ينتبه لموضع الترجيح وثالثها أن
يقول في هذه المسألة قولان ولا ينبه على الترجيح ألبتة فهاهنا
احتمالان أحدهما أنه قال في هذه المسألة قولان ولم يقل لي فيها
قولان فيمكن
أن يكونا قولين لبعض الناس وإنما ذكرها لينبه الناظر في كتابه
على مأخذهما وإيضاح القول فيما لكل واحد منهما وعليهما ولأنه
لو لم يذكرهما فربما خطر ببال إنسان وجه في قوته إلا أنه لا
يمكنه القول به لظنه أنه قول حادث خارق للإجماع فإذا نقله عرف
أن المصير إليه ليس خرقا للإجماع ثم جاء الناقل فجعلهما قولين
للشافعى
(5/393)
فهذا لا يكون عيبا على الشافعى بل على
الناقل فإن الشافعى لم يقل لي فيها قولان بل قال فيها قولان
فإذا جزم الراوى بكونهما قولين للشافعى كان العيب على الناقل
وثانيهما لعل مراد الشافعى بقوله فيها قولان أن في المسألة
احتمالين يمكن أن يقول بهما قائل وذلك إذا كان ما سوى ذينك
القولين ظاهر البطلان فأما ذانك القولان فيكونان قويين بحيث
يمكن نصرة كل واحد منهما بوجوه جلية ظاهرة ولا يقدر على تمييز
الحق منهما عن الباطل إلا البالغ في التحقيق فلا جرم أفردهما
بالذكر دون سائر الوجوه وكما أنه يجوز أن يقال للخمر التي في
الدن إنها مسكرة وللسكين أبي التي لم تقطع إنها قاطعة والمراد
منه الصلاحية لا الوقوع فكذلك ها هنا ثم أنه لم يرجح أحدهما
على الآخر لأنه لم يظهر له فيه وجه الترجيح ونقل الشيخ أبو
إسحاق الشيرازي عن الشيخ أبي حامد الاسفراييني أنه قال لم يصح
عن الشافعي رضي الله عنه قولان على هذا الوجه إلا في سبع عشرة
مسألة
أقول وهذا أيضا يدل على كمال منصبه في العلم والدين أما العلم
فلأن كل من كان أغوص نظرا وأدق فكرا وأكثر إحاطة
(5/394)
بالأصول والفروع وأتم وقوفا على شرائط
الأدلة كانت الإشكالات عنده أكثر أما المصر على الوجه الواحد
طول عمره في المباحث الظنية بحيث لا يتردد فيه فذاك لا يكون
إلا من جمود الطبع وقلة الفطنة وكلال القريحة وعدم الوقوف على
شرائط الأدلة والاعتراضات وأما الدين فمن وجهين الأول أنه لما
لم يظهر له فيه وجه الرجحان لم يستح من الاعتراف بعدم العلم
ولم يشتغل بالترويج (والمداهنة بل صرح بعجزه عما هو عاجز فيه
وذلك لا يصدر إلا عن الدين المتين كيف وقد نقل عن عمر رضي الله
عنه اعترافه بعدم العلم في كثير من المسائل وجميع المسلمين
عدوا ذلك من مناقبه وفضائله فكيف جعلوه عيبا هاهنا والثاني وهو
أنه رضي الله عنه لم يقل ابتداءا إنى لا اعرف هذه المسألة بل
وجد المسألة واقعة بين أصلين فذكر وجه وقوعها بينهما وكيفية
اشتباهها بهما ثم طا لم يظهر له الرجحان تركها على تلك الحالة
ليكون ذلك بعثا
(5/395)
له على الفكر بعد ذلك وحثا لغيره من
المجتهدين على طلب الترجيح
وهذا هو اللائق بالدين المتين والعقل الرصين والعلم الكامل بل
من أنصف واعترف بالحق علم أن ذلك مما يدل على رجحان حاله على
حال سائر المجتهدين في العلم والدين
(5/396)
القسم الثاني في
مقدمات الترجيح وفيه مسائل المسألة
الأولى الترجيح تقوية أحد الطريقين على الآخر ليعلم الأقوى
فيعمل به ويطرح الآخر وإنما قلنا طريقين لأنه لا يصح الترجيح
بين أمرين إلا بعد تكامل كونهما طريقين لو انفرد كل واحد منهما
فإنه لا يصح ترجيح الطريق على ما ليس بطريق المسألة الثانية
الأكثرون اتفقوا على جواز التمسك بالترجيح وأنكره بعضهم وقال
عند التعارض يلزم التخيير أو التوقف
(5/397)
لنا وجوه الأول إجماع الصحابة على العمل
بالترجيح فإنهم قدموا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء
الختانين على قول من روى انما الماء من الماء وخبر من روت من
أزواجه أنه كان يصبح جنبا على ما روى أبو هريرة أنه من أصبح
جنبا فلا صوم له
وقوى علي خبر أبي بكر فلم يحلفه وحلف غيره وقوى أبو بكر خبر
المغيرة في ميراث الجدة بموافقة محمد بن مسلمة وقوى عمر خبر
أبي موسى في الاستئذان بموافقة أبي سعيد الخدري الثاني أن
الظنين إذا تعارضا ثم ترجح أحدهما على الآخر كان العمل بالراجح
متعينا عرفا فيجب شرعا لقوله عليه الصلاة والسلام ما رأه
المسلمون حسنا فهو عند الله حسن الثالث أنه لو لم يعمل بالراجح
لزم العمل بالمرجوح وترجيح المرجوح على الراجح ممتنع في بدائه
العقول
(5/398)
واحتج المنكر بأمرين الأول أن الترجيح لو
اعتبر من الأمارات لاعتبر في البينات في الحكومات لأنه لو
اعتبر لكانت العلة في اعتباره ترجيح الأظهر على الظاهر وهذا
المعنى قائم هاهنا الثاني أن إيماء قوله تعالى فاعتبروا وقوله
عليه الصلاة والسلام نحن نحكم بالظاهر يقتضي إلغاء زيادة الظن
والجواب عن الأول والثاني
أن ما ذكرته دليل ظنى وما ذكرناه قطعى والظنى لا يعارض القطعى
المسألة الثالثة الترجيح لا يجرى في الأدلة اليقينية لوجهين
الأول أن شرط الدليل اليقيني أن يكون مركبا من مقدمات ضرورية
أو لازما عنها لزوما ضروريا إما بواسطة واحدة أو بوسائط شأن كل
واحد منها ذلك وهذا لا يتأتى إلا عند اجتماع علوم أربعة
(5/399)
أحدها العلم الضرورى بحقيقة المقدمات إما
ابتداءا أو استنادا وثانيها العلم الضرورى بصحة تركيبها
وثالثها العلم الضرورى بلزوم النتيجة عنها ورابعها العلم
الضروري بأن ما يلزم عن الضرورى لزوما ضروريا فهو ضرورى فهذه
العلوم الأربعة يستحيل حصولها في النقيضين معا وإلا لزم القدح
في الضروريات وهو سفسطة وإذا استحال ثبوتها امتنع التعارض
الثاني أن الترجيح عبارة عن التقوية والعلم اليقينى لا يقبل
التقوية لأنه إن
قارنه احتمال النقيض ولو على ابعد الوجوه كان ظنا لا علما وإن
لم يقارنه ذلك لم يقبل التقوية المسألة الرابعة أشتهر في
الألسنة أن العقليات لا يجرى الترجيح فيها وهذا فيه تفصيل فإنا
إن لم نكلف العوام بتحصيل العلم بالمعتقدات
(5/400)
ما بل قنعنا منهم بالاعتقاد الجازم على
سبيل التقليد لم يمتنع تطرق التقوية إليه المسألة الخامسة مذهب
الشافعي رضي الله عنه حصول الترجيح بكثرة الأدلة وقال بعضهم لا
يحصل ومن صور المسألة ترجيح أحد الخبرين على الآخر لكثرة
الرواة لنا وجهان الأول أن الأمارات متى كانت أكثر كان الظن
أقوى ومتى كان الظن أقوى تعين العمل به بيان الأول من وجوه
أحدها أن الرواة إذا بلغوا في الكثرة حدا حصل العلم بقولهم
وكلما كانت المقاربة إلى ذلك الحد أكثر وجب أن يكون اعتقاد
صدقهم أقوى وثانيها أن قول كل واحد منهم يفيد قدرا من الظن
فإذا اجتمعوا استحال أن لا يحصل إلا ذلك القدر الذي كان حاصلا
بقول الواحد وإلا فقد اجتمع
على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وهو محال فإذن لا بد من
الزيادة
(5/401)
وثالثها أن احتراز العدد عن تعمد الكذب
أكثر من احتراز الواحد وكذا احتمال الغلط والنسيان على العدد
أبعد ورابعها أن احتراز العاقل عن كذب يعرف اطلاع غيره عليه
أكثر من احترازه عن كذب لا يشعر به غيره وخامسها أنا إذا فرضنا
دليلين متعارضين يتساويان في القوة في ذهننا فإذا وجد دليل أخر
يساوى أحدهما فمجموعهما لابد وأن يكون زائدا على ذلك الآخر لأن
مجموعهما أعظم من كل واحد منهما وكل واحد منهما مساو لذلك
الآخر والأعظم من المساوى أعظم وسادسها إجتماع الصحابة على أن
الظن الحاصل بقول الاثنين أقوى من الظن الحاصل بقوا الواحد فإن
الصديق لم يعمل بخبر المغيرة في مسألة الجدة حتى شهد له محمد
بن مسلمة وعمر لم يقبل خبر أبي موسى حتى شهد له أبو سعيد
الخدرى فلولا أن لكثرة الرواة أثرا في قوة الظن وإلا لما كان
كذلك فثبت بهذه الوجوه أن الظن إذا كان أقوى وجب أن يتعين
العمل به
(5/402)
وذلك لأنا أجمعنا على جواز الترجيح بقوة
الدليل وجواز الترجيح بقوة الدليل
إنما كان لزيادة القوة في أحد الجانبين وهذا المعنى حاصل في
الترجيح بكثرة الأدلة بلى إذا كان الترجيح بالقوة حصلت الزيادة
مع المزيد عليه ولا فرق إلا أن في الترجيح بالقوة وجدت الزيادة
مع المزيد عليه وفي الترجيح بالكثرة حصلت الزيادة في محل
والمزيد عليه في محل آخر والعلم الضروري حاصل بأنه لا أثر لذلك
الوجه الثاني في المسألة أن مخالفة كل دليل خلاف الأصل فإذا
وجد في أحد الجانبين دليلان وفي الجانب الآخر دليل واحد كانت
مخالفة الدليلين أكثر محذورا من مخالفة الدليل الواحد فاشترك
الجانبان في قدر من المحذور واختص أحدهما بقدر زائد لم يوجد في
الطرف الآخر ولو لم يحصل الترجيح لكان ذلك التزاما لذلك القدر
الزائد من المحذور من غير معارض وأنه غير جائز واحتج الخصم
بالخبر والقياس أما الخبر فقوله عليه الصلاة السلام نحن نحكم
بالظاهر فهذا بإيماءه لا يدل على أن المعتبر أصل الظهور وأن
الزيادة عليه ملغاة ترك العمل به في الترجيح بقوة الدليل لأن
هناك الزيادة مع المزيد عليه حاصلان في محل والقوى حال
اجتماعها تكون أقوى منها حال تفرقها بخلاف الترجيح بكثرة
الدليل فإن هناك الزيادة في محل والمزيد عليه
(5/403)
في محل آخر فلا يحصل كمال القوة أما القياس
فقد أجمعنا على أنه لا يحصل الترجيح بالكثرة في
الشهادة والفتوى فكذا هاهنا وأيضا أجمعنا على أن الخبر الواحد
لو عارضه ألف قياس فإنه يكون راجحا على الكل وذلك يدل على أن
الترجيح لا يحصل بكثرة الأدلة والجواب عن الأول أن ذلك الإيماء
ترك العمل به في الترجيح بالقوة فوجب أن يترك العمل به في
الترجيح بالكثرة لأن المعتبر قوة الظن وهى حاصلة في الموضعين
أما قوله إن في الترجيح بالقوة تحصل الزيادة مع المزيد في محل
واحد وللإجتماع أثر قلت نحن نعلم أنه وإن كان محل الزيادة
مغايرا الأصل لكن مجموعهما مؤثر في تقوية الظن فإنه إذا أخبرنا
مخبر عدل عن واقعة حصل ظن ما فإذا أخبرنا ثان صار ذلك الظن
أقوى وإذا أخبرنا ثالث صار ذلك الظن أقوى ولا تزال القوة تزداد
بازدياد المخبرين حتى ينتهي إلى العلم
(5/404)
فعلمنا أن ما ذكروه من الفرق لا يقدح في
كونه مقويا للظن وأما فصل الشهادة فعند مالك رحمه الله يحصل
الترجيح فيها بكثرة الشهود والفرق أن الدليل يأبى اعتبار
الشهادة حجة لما فيه من توهم الكذب والخطأ وتنفيذ قول شخص على
شخص مثله إلا أنا اعتبرناها فصلا للخصومات فوجب أن تعتبر حجة
على وجه لا يفضى إلى تطويل الخصومات لئلا يعود على موضوعه
بالنقض فلو أجرينا فيه الترجيح
بكثرة العدد لزم تطويل الخصومة فإنهما إذا أقاما الشهادة من
الجانبين على السوية كان لأحدهما أن يستمهل القاضي ليأتى بعدد
آخر من الشهود فإذا أمهله من إقامتها بعد انقضاء المدة كان
للاخر أن يفعل ذلك ويفضى ذلك إلى أن لا تنقطع الخصومة ألبتة
فأسقط الشرع اعتبار الترجيح بالكثرة دفعا لهذا المحذور وأما
الترجيح بكثرة المفتين فقد جوزه بعض العلماء
(5/405)
وأما قوله الخبر الواحد يقدم على القياسات
الكثيرة قلنا إن كانت أصول تلك القياسات شيئا واحدا فالخبر
الواحد يقدم عليها وذلك لأن تلك القياسات لا تتغاير إلا إذا
عللنا حكم الأصل في كل قياس بعلة أخرى والجميع بين كلها محال
لما عرفت إنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين
وإذا علمنا أن الحق منها ليس إلا الواحد لم تحصل هناك كثرة
الأدلة أما إن كان أصول تلك القياسات كثيرة فلا نسلم أنه لا
يحصل الترجيح المسألة السادسة إذا تعارض الدليلان فالعمل بكل
واحد منهما من وجه دون أولى من العمل بأحدهما دون الثاني لأن
دلالة اللفظ على جزء مفهومه دلالة تابعة لدلالته على كل مفهومه
ودلالته على كل مفهومه دلالة أصلية فإذا عملنا بكل واحدة منهما
بوجه دون وجه فقد تركنا العمل بالدلالة التبعية وإذا عملنا
بأحدهما دون الثاني فقد تركنا العمل بالدلالة الأصلية ولا
شك أن الأول أولى فثبت أن العمل بكل واحد منهما من وجه دون وجه
أولى من العمل بأحدهما من كل وجه دون الثاني
(5/406)
إذا ظهر ذلك فنقول العمل بكل واحد من وجه
ثلاثة أنواع أحدها الاشتراك والتوزيع إن كان قبل التعارض يقبل
ذلك وثانيها أن يقتضى كل واحد منهما حكما ما فيعمل بكل واحد
منهما في حق بعض الأحكام وثالثها العامان إذا تعارضا يعمل بكل
واحد منهما في بعض الصور كقوله عليه الصلاة والسلام ألا أخبركم
بخير الشهداء قيل بلى يا رسول الله قال أن يشهد الرجل قبل أن
يستشهد وقوله عليه الصلاة والسلام ثم يفشو الكذب حتى يشهد
الرجل قبل أن يستشهد فيعمل بالأول من حقوق الله والثاني في
حقوق العباد
(5/407)
المسألة السابعة اذا تعارض دليلان فإما أن
يكونا عامين أو خاضيبن على أو أحدهما عاما والآخر خاصا أو كل
واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه
وعلى التقديرات الأربعة فإما أن يكونا معلومين أو مظنونين أو
أحدهما معلوما والآخر مظنونا وعلى التقديرات كلها فإما أن يكون
المتقدم معلوما والمتأخر معلوما أو لا يكون واحد منهما معلوما
فلنذكر أحكام هذه الأقسام القسم الأول أن يكون عامين فإما أن
يكونا معلومين أو مظنونين أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا
النوع الأول أن يكونا معلومين فإما أن يكون التاريخ معلوما أو
لا يكون فإن كان معلوما فإما أن يكون المدلول قابلا للنسخ
(5/408)
أو لا يكون فإن قبله جعلنا المتأخر ناسخا
للمتقدم سواء كانا آيتين أو خبرين أو أحدهما آية والآخر خبرا
متواترا فإن قلت فما قول الشافعى هاهنا مع أن مذهبه أن القرآن
لا ينسخ بالخبر المتواتر ولا بالعكس قلت هذا التقسيم لا يفيد
إلا أنه لو وقع لكان المتأخر ناسخا للمتقدم والشافعى يقول لم
يقع ذلك فليس بين مقتضى هذا التقسيم وبين قول
الشافعى منافاة وإن كان مدلولهما غير قابل للنسخ فيتساقطان
ويجب الرجوع إلى دليل آخر هذا إذا علم تقدم أحدهما على الآخر
فإما إذا علم أنهما تقارنا فإن أمكن التخيير فيهما تعين القول
به فإنه إذا تعذر الجمع لم يبق إلا التخيير ولا يجوز أن يرجح
أحدهما على الآخر بقوة الإسناد لما عرفت أن المعلوم لا يقبل
الترجيح ولا يجوز الترجيح بما يرجع إلى الحكم أيضا نحو كون
أحدهما حاظرا أو مثبتا حكما شرعيا لأنه يقتضى طرح المعلوم
بالكلية وإنه غير جائز
(5/409)
وإما اذا لم يعلم التاريخ فهاهنا يجب
الرجوع إلى غيرهما لأنا نجوز في كل واحد منهما أن يكون هو
المتأخر فيكون ناسخا للآخر النوع الثاني أن يكونا مظنونين فإن
نقل تقدم أحدهما على الآخر كان المتأخر ناسخا وإن نقلت
المقارنة أو لم يعلم شئ من ذلك وجب الرجوع إلى الترجيح فيعمل
بالأقوى وإن تساويا كان التعبد فيهما التخيير النوع الثالث أن
يكون أحدهما معلوما والآخر مظنونا فإما أن ينقل تقدم أحدهما
على الآخر أو لا ينقل ذلك فإن نقل وكان المعلوم هو المتأخر كان
ناسخا للمتقدم
وإن كان المظنون هو المتأخر لم ينسخ المعلوم وإن لم يعلم تقدم
أحدهما على الآخر وجب العمل بالمعلوم لأنه إن كان هو المتأخر
كان ناسخا وإن كان هو المتقدم لم ينسخه المظنون وإن كان مقارنا
كان المعلوم راجحا عليه لكونه معلوما القسم الثاني من الأقسام
الأربعة أن يكونا خاصين والتفصيل فيه كما في العامين من غير
تفاوت القسم الثالث أن يكون كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من
وجه كما في قوله تعالى وإن تجمعوا بين الأختين مع قوله إلا ما
(5/410)
ملكت أيمانكم وكما في قوله عليه الصلاة
والسلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها مع نهيه
عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في الأوقات الخمسة المكروهة فإن
الأول عام في الأوقات خاص في صلاة القضاء والثاني عام في
الصلاة خاص في الأوقات فهذان العمومان إما أن يعلم تقدم أحدهما
على صاحبه أو لا يعلم فإن علم وكانا معلومين أو مظنونين أو كان
المتقدم مظنونا والمتأخر معلوما كان المتأخر ناسخا للمتقدم على
قول من قال العام ينسخ الخاص المتقدم لأنه إذا كان عندهم أن
العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم فما لم يثبت كونه أعم من
اللفظ المتقدم أولى بأن يكون ناسخا وإن كان المتقدم معلوما
والمتأخر مظنونا لم يجز عندهم أن ينسخ الثاني الأول ووجب
الرجوع فيهما إلى الترجيح
(5/411)
فأما من يقول أن العام المتأخر يبنى على
الخاص المتقدم والخاص المتأخر يخرج بعض ما دخل تحت العام
المتقدم فاللائق بمذهبه أن لا يقول في شئ من هذا لأقسام بالنسخ
بل يذهب إلى الترجيح لأنه ليس يتخلص كون المتأخر أخص من
المتقدم حتى يخرج من المتقدم ما دخل تحت المتأخر وإما اذا لم
يعلم تقدم أحدهما على الآخر فإن كانا معلومين لم يجز ترجيح
أحدهما على الآخر بقوة الإسناد لكن يجوز الترجيح بما يتضمنه
أحدهما من كونه حاظرا أو مثبتا حكما شرعيا لأن الحكم بذلك
طريقة الاجتهاد وليس في ترجيح أحدهما على الآخر اطراح الآخر
بخلاف ما إذا تعارضا من كل وجه فإن لم يترجح أحدهما على الآخر
فالحكم التخيير وأما إذا كانا مظنونين جاز ترجيح كل واحد منهما
على الآخر بقوة الإسناد وبما تضمنه الحكم وإذا لم يترجح فالحكم
التخيير وأما إن كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا جاز ترجيح
المعلوم على المظنون لكونه معلوما فإن ترجح المظنون عليه بما
يتضمن الحكم حتى حصل التعارض فإن الحكم ما قدمناه القسم الرابع
إذا كان أحدهما عاما والآخر خاصا فإن كانا معلومين أو مظنونين
وكان الخاص متأخرا كان ناسخا للعام المتقدم
(5/412)
وإن كان العام متأخرا كان ناسخا للخاص
المتقدم عند الحنفية وعندنا أنه يبنى العام على الخاص وإن وردا
معا خص العام بالخاص إجماعا وإن جهل التاريخ فعندنا يبنى العام
على الخاص وعند الحنفية يتوقف فيه وأما إن كان أحدهما معلوما
والآخر مظنونا فقد اتفقوا على تقديم المعلوم على المظنون إلا
إذا كان المعلوم عاما والمظنون خاصا ووردا معا وذلك مثل تخصيص
الكتاب والخبر المتواتر بخبر الواحد والقياس وقد ذكرنا أقوال
الناس فيهما في باب العموم
(5/413)
القسم الثالث في
تراجيح الأخبار ترجيح الخبر إما أن
يكون بكيفية إسناده أو بوقت وروده أو بلفظه أو بحكمه أو بأمر
خارج عن ذلك القول في التراجيح
الحاصلة في الإسناد واعلم أن الترجيح إما أن يقع بكثرة
الرواة أو بأحوالهم أما الواقع بكثرة الرواة فمن وجهين أحدهما
أن الخبر الذي رواته أكثر راجح على الذي لا يكون كذلك وقد تقدم
بيانه
الثاني أن يكون أحدهما أعلى إسنادا فإنه مهما كانت الرواة أقل
كان
(5/414)
احتمال الكذب والغلط أقل ومهما كان ذلك أقل
كان احتمال الصحة أظهر وإذا كان أظهر وجب العمل به فعلو
الإسناد راجح من هذا الوجه لكنه مرجوح من وجه آخر وهو كونه
نادرا وأما التراجيح الحاصلة بأحوال الرواة فهى إما العلم أو
الورع أو الذكاء أو الشهرة أو زمان الرواية أو كيفية الرواية
أما التراجيح الحاصلة بالعلم فهى على وجوه أحدها أن رواية
الفقيه راجحة على رواية غير الفقيه وقال قوم هذا الترجيح إنما
يعتبر في خبرين مرويين بالمعنى أما المروى باللفظ فلا والحق
أنه يقع به الترجيح مطلقا لأن الفقيه يميز بين ما يجوز وبين ما
لا يجوز فإن حضر المجلس وسمع كلاما لا يجوز إجراؤه على ظاهره
بحث عنه وسأل عن مقدمته وسبب وروده فحينئذ يطلع على الأمر الذي
يزول به الإشكال أما من لم يكن عالما فإنه لا يميز بين ما يجوز
وبين ما لا يجوز فينقل
(5/415)
القدر الذي سمعه وربما يكون ذلك القدر وحده
سببا للضلال وثانيها
إذا كان أحدهما أفقه من الآخر كانت رواية الأفقه راجحة لأن
الوثوق بإحتراز الله الأفقه عن ذلك الاحتمال المذكور أتم من
الوثوق باحتراز الأضعف منه وثالثها إذا كان أحدهما عالما
بالعربية كانت روايته راجحة على من لا يكون كذلك لأن الواقف
على اللسان يمكنه من التحفظ من مواضع الزلل مالا يقدر عليه غير
العالم به ويمكن أن يقال بل هو مرجوح لأن الواقف على اللسان
يعتمد على معرفته فلا يبالغ في الحفظ اعتمادا على خاطره
والجاهل باللسان يكون خائفا فيبالغ في الحفظ ورابعها رواية
الأعلم بالعربية راجحة على رواية العالم بها والوجه ما تقدم في
الأفقه وخامسها أن يكون أحدهما صاحب الواقعة فيما يروى فيكون
خبره راجحا ولهذا أوجبنا الغسل بالتقاء الختانين بحديث عائشة
رضي الله عنها في ذلك ورجحناه قال على رواية غيرها عن النبي ص
الماء من الماء لأن عائشة كانت أشد علما بذلك ورجح الشافعي
رواية أبي رافع على رواية ابن عباس في تزويج ميمونة
(5/416)
لأن أبا رافع كان السفير في ذلك فكان أعرف
بالقصة وسادسها
رواية من مجالسته للعلماء أكثر أرجح وسابعها رواية من مجالسته
للمحدثين أكثر أرجح وثامنها أن يكون طريق إحدى الروايتين أقوى
وذلك إذا روى ما يقل اللبس كما إذا روى أنه شاهد زيدا ببغداد
وقت السحر والآخر يروى أنه شاهده وقت الظهر بالبصرة فطريق هذا
أظهر والاشتباه على الأول أكثر
(5/417)
أما التراجيح الحاصلة بالورع فهى على وجوه
أحدها رواية من ظهرت عدالته بالاختبار راجحة على رواية مستور
الحال عند من يقبلها وثانيها رواية من عرفت عدالته بالاختبار
أولى من رواية من عرفت عدالته بالتزكية إذ ليس الخبر كالمعاينة
وثالثها رواية من عرفت عدالته بتزكية جمع كثير أولى من رواية
من عرفت عدالته بتزكية جمع قليل ورابعها رواية من عرفت عدالته
بتزكية من كان أكثر بحثا في أحوال الناس واطلاعا عليها أولى من
رواية من عرفت عدالته بتزكية من لم يكن كذلك وخامسها
رواية من عرفت عدالته بتزكية الأعلم الأروع أولى من رواية من
عرفت عدالته بتزكية العالم الورع وسادسها رواية من عرفت عدالته
بتزكية المعدل مع ذكر أسباب العدالة أولى من رواية من زكاة
المعدل بدون ذكر أسباب العلة العدالة
(5/418)
وسابعها المزكى إذا زكى الراوى فإن عمل
بخبره كانت روايته راجحة على ما إذا زكاه وروى خبره وثامنها
رواية العدل الذي لا يكون صاحب البدعة أولى من رواية العدل
المبتدع سواء كانت تلك البدعة كفرا في التأويل أو لم تكن أما
التراجيح الحاصلة بسبب الذكاء فهي على وجوه أحدها رواية الأكثر
تيقظا والأقل نسيانا راجحة على رواية من لا يكون كذلك وثانيها
إذا كان أحدهما أشد ضبطا لكنه أكثر نسيانا والآخر يكون أضعف
ضبطا لكنه أقل نسيانا ولم تكن قلة الضبط وكثرة النسيان بحيث
تمنع من قبول خبره على ما بينا في باب الأخبار فالأقرب التعارض
وثالثها أن يكون أحدهما أقوى حفظا لألفاظ الرسول ص من غيره فإن
الحجة بالحقيقة ليست إلا في كلام الرسول عليه الصلاة
والسلام ورابعها أن يجزم أحدهما ويقول الآخر كذا قال فيما أظن
وخامسها أن يكون الرواى قد اختلط عقله في بعض الأوقات ثم لا
يعرف أنه
(5/419)
روى هذا الخبر حال سلامة العقل أو حال
اختلاطه وسادسها إذا كان أحدهما حفظ لفظ الحديث والآخر عول على
المكتوب فالأول أولى لأنه أبعد عن الشبهة وفيه احتمال أما
التراجيح الحاصلة بسبب شهرة الراوى فأمور أحدها أن يكون من
كبار الصحابة لأن دينه لما منعه عن الكذب فكذا منصبه العالى
يمنعه عنه ولذلك كان علي رضي الله عنه يحلف الرواة وكان يقبل
رواية الصديق من غير التحليف وثانيها صاحب الاسمين مرجوح
بالنسبة إلى صاحب الاسم الواحد وثالثها رواية معروف النسب
راجحة على رواية مجهول النسب ورابعها أن يكون في رواة أحد
الخبرين رجال تلتبس أسماؤهم بأسماء قوم
(5/420)
ضعفاء ويصعب التمييز فيرجح عليه الخبر الذي
لا يكون كذلك أما التراجيح الراجعة
إلى زمان الرواية فأمور أحدها إذا كان قد اتفق لأحدهما
رواية الحديث في زمان الصبا وغير زمان الصبا فروايته مرجوحة
بالنسبة إلى رواية من لم يرو الا في زمان البلوغ وثانيها إذا
كان أحدهما قد تحمل الحديث في الزمانين ولم يرو إلا في حالة
البلوغ فهو مرجوح بالنسبة إلى من لم يتحمل ولم يرو إلا في
الكبر وثالثها من احتمل فيه هذان الوجهان كان مرجوحا بالنسبة
إلى من لم يوجد ذلك فيه أما التراجيح العائدة إلى كيفية
الرواية فأمور أحدها أن يقع الخلاف في أحدهما أنه موقوف على
الراوى أو مرفوع إلى الرسول ص فالمتفق على كونه مرفوعا أولى
وثانيها أن يكون أحد الخبرين منسوبا إليه قولا والآخر اجتهادا
بأن يروى أنه وقع ذلك في مجلس الرسول ص فلم ينكر عليه فالأول
أولى لأنه أقل احتمالا
(5/421)
وثالثها أن يذكر أحدهما سبب نزول ذلك الحكم
ولم يذكره الآخر فيكون
الأول راجحا لأنه يدل على أنه كان له من الاهتام عن بمعرفة ذلك
الحكم ما لم يكن للآخر ورابعها أن يروى أحدهما الخبر بلفظه
والآخر بمعناه أو يحتمل أن يكون قد رواه بمعناه فالأول أولى
وخامسها أن يروى أحدهما حديثا يعضد الحديث الأول فيترجح على ما
لا يكون كذلك وسادسها إذا أنكر راوى الأصل فقد ذكرنا فيه
تفصيلا وكيف كان فهو مرجوح بالنسبة إلى ما لا يكون كذلك
وسابعها لو قبلنا المرسل فإذا أرسل أحدهما وأسند الآخر فعندنا
المسند أولى وقال عيسى بن أبان المرسل أولى وقال القاضي عبد
الجبار يستويان لنا أنه إذا أرسل فعدالته معلومة لرجل واحد وهو
الذي يروى عنه وإذا
(5/422)
أسند صارت عدالته معلومة للكل لأنه يكون كل
واحد متمكنا من البحث عن أسباب جرحه وعدالته ولا شك أن من لم
تظهر عدالته إلا لرجل واحد يكون مرجوحا بالنسبة إلى من ظهرت
عدالته لكل أحد لاحتمال أن يكون قد خفي حال الرجل على إنسان
واحد ولكن يبعد أن يخفي حاله على
الكل فثبت أن المسند أولى احتج المخالفون بأمرين الأول أن
الثقة لا يقول قال الرسول ذلك فيحكم عليه بالتحليل والتحريم
ويشهد به إلا وهو قاطع أو كالقاطع بذلك بخلاف ما إذا أسند
الحديث وذكر الواسطة فإنه لم يحكم على ذلك الخبر بالصحة فلم
يزد على حكاية أن فلانا زعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال
ذلك فكان الأول أقوى الثاني روى أن الحسن قال إذا حدثني أربعة
نفر من أصحاب رسول الله ص بحديث تركتهم وقلت قال رسول الله ص
فأخبر عن نفسه أنه لا يستجيز هذا الإطلاق إلا عند فرط الوثوق
والجواب عن الأول أن قول الراوي قال رسول الله ص لا يمكن
(5/423)
إجراؤه على ظاهره لأنه يقتضى الجزم بصحة
خبر الواحد وهو جهل وغير جائز فوجب حمله على أن المراد منه أني
أظن أن رسول الله ص قال وإذا كان كذلك كان الإسناد أولى من
الإرسال لأن في الإسناد يحصل ظن العدالة للكل وفي الإرسال لا
يحصل ذلك الظن إلا للواحد وهذا هو الجواب بعينه عن الوجه
الثاني فرعان الأول
لو صح رجحان المرسل على المسند فإنما يصح لو قال الراوي قال
رسول الله ص أما إذا لم يقل ذلك بل قال عن النبي ص فالأظهر أنه
لا يترجح لأنه في معنى قوله روى عن الرسول الثاني رجح قوم
بالحرية والذكورة قياسا على الشهادة وفيه احتمال القول في
التراجيح الراجعة إلى حال ورود الخبر وهي ثمانية الأول أن تكون
إحدى الآيتين أو الخبر مدنيا والآخر مكيا فالمدني مقدم لأن
الغالب في المكيات ما كان قبل الهجرة والمدني لا محالة مقدم
عليه
(5/424)
أما المكيات المتأخرة عن المدنيات فقليلة
والقليل ملحق بالكثير فيحصل الرجحان الثاني الخبر الذي يظهر
وروده بعد قوة الرسول عليه الصلاة والسلام وعلو شأنه راجح على
الخبر الذي لا يدل على ذلك لأن علو شأنه كان في آخر أمره ص
فالخبر الوارد في هذا الوقت حصل فيه ما يقتضى تأخره عن الأول
والأولى أن يفصل فيقال إن دل الأول على علو الشأن والثاني على
الضعف ظهر تقديم الأول على الثاني
أما إذا لم يدل الثاني لا على القوة ولا على الضعف فمن أين يجب
تقديم الأول عليه الثالث أن يكون راوى أحد الخبرين متأخر
الإسلام ويعلم أن سماعه كان بعد إسلامه وراوى الخبر الثاني
متقدم الإسلام فيقدم الأول لأنه أظهر تأخرا والأولى أن يفصل
فيقال المتقدم إذا كان موجودا مع المتأخر لم يمتنع أن تكون
روايته متأخرة عن رواية المتأخر وأما إذا علمنا أنه مات
المتقدم قبل إسلام المتأخر أو علمنا أن أكثر رويات المتقدم
متقدم على رواية المتأخر فهاهنا نحكم بالرجحان لأن النادر يحلق
يلحق بالغالب
(5/425)
الرابع أن يحصل إسلام الراويين معا كإسلام
خالد وعمرو بن العاص لكن يعلم أن سماع أحدهما بعد إسلامه ولا
يعلم ذلك في سماع الآخر فيقدم الأول لأنه أظهر تأخرا الخامس أن
يكون أحد الخبرين مؤرخا بتاريخ محقق والآخر يكون خاليا من
التاريخ فيقدم الأول لأنه أظهر تأخرا مثاله ما روي أنه عليه
الصلاة والسلام في مرضه الذي توفي فيه خرج فصلى بالناس قاعدا
والناس قيام فهذا يقتضى جواز اقتداء القائم بالقاعد وقد روى
أنه عليه الصلاة والسلام قال إذا صلى الإمام قاعدا
فصلوا قعودا أجمعين وهذا يقتضي عدم جواز ذلك فرجحنا الأول لأنه
(5/426)
كان في آخر أحوال النبي عليه الصلاة
والسلام وأما الثاني فيحتمل انه كان قبل المرض السادس أن يكون
أحدهما مؤقتا بموقت متقدم والآخر يكون خاليا عن الوقت فيقدم
الخالى لأنه أشبه بالمتأخر السابع أن تكون حادثة كان الرسول ص
يغلظ بها زجرا لهم عن العادات القديمة ثم خفف فيها نوع تخفيف
فيرجح التخفيف على التغليظ لأنه أظهر تأخرا وهذا ضعيف لاحتمال
أن يقال بل يرجح التغليظ على التخفيف لأنه عليه الصلاة والسلام
ما كان يغلظ إلا عند علو شأنه وذلك متأخر الثامن عمومان
متعارضان أحدهما واردا ابتداءا والآخر على سبب فالأول أولى لأن
من الناس من قال الوارد على السبب يختص به ولا يعم لكن ذلك وإن
لم يجب فلا أقل من أن يفيد الترجيح
(5/427)
وأعلم أن هذه الوجوه في التراجيح ضعيفة وهى
لا تفيد إلا خيالا ضعيفا في الرجحان القول في
التراجيح الراجعة إلى اللفظ
وهي من وجوه
الأول أن يكون اللفظ في أحدهما بعيدا عن الاستعمال وفيه ركاكة
والآخر فصيح فمن الناس من رد الأول لأنه عليه الصلاة والسلام
كان أفصح العرب فلا يكون ذلك كلاما له ومنهم من قبله وحمله على
أن الراوى رواه بلفظ نفسه وكيف ما كان فأجمعوا على ترجيح
الفصيح عليه وثانيها قال بعضهم يقدم الأفصح على الفصيح وهو
ضعيف لأن الفصيح لا يجب في كل كلامه أن يكون كذلك وثالثها أن
يكون أحدهما عاما والآخر خاصا فيقدم الخاص على العام وقد تقدم
دليله في باب العموم
(5/428)
ورابعها أن يكون أحدهما حقيقة والآخر مجازا
فتقدم الحقيقة لأن دلالتها أظهر وهذا ضعيف لأن المجاز الغالب
أظهر دلالة من الحقيقة فإنك لو قلت فلان بحر فهو أقوى دلالة
على قولك فلان سخى وخامسها أن يكونا حقيقتين إلا أن أحدهما
أظهر في المعنى إما لكثرة ناقليه أو لكون ناقله أقوى وأتقن من
ناقل غيره ويجرى هاهنا كل ما ذكرناه في
ترجيح الخبر نظرا إلى حال الراوى وسادسها أن يكون وضع أحدهما
لمسماه متفقا عليه ووضع الآخر مختلفا فيه وسابعها أن الذي يكون
محتاجا إلى الإضمار مرجوح بالنسبة إلى الذي لا يحتاج إليه
وثامنها الذي يدل على المقصود بالوضع الشرعي أو العرفي أولى
مما يدل عليه بالوضع اللغوي وهاهنا تفصيل فإن اللفظ الذي صار
شرعيا حمله على المعنى الشرعي أولى من حمله على اللغوي فأما
الذي لم يثبت ذلك فيه مثل أن يدل أحد اللفظين بوضعه الشرعي
(5/429)
على حكم واللفظ الثاني بوضعه اللغوي على
حكم وليس للشرع في هذا اللفظ اللغوى عرف شرعي فلا نسلم ترجيح
الشرعي على هذا اللغوى لأن هذا اللغوى إذا لم ينقله الشرع فهو
لغوى عرفي شرعي وأما الثاني فهو شرعي وليس بلغوى ولا عرفي
والنقل على خلاف الأصل فكان اللغوى أولى وتاسعها إذا تعارض
مجازان فالذي يكون أكثر شبها بالحقيقة أولى وأيضا إذا تعارض
خبران ولا يمكن العمل بأحدهما إلا بمجازين من والآخر يمكن
العمل به بمجاز واحد كان هذا راجحا على الأول لأنه أقل
مخالفة للأصل وعاشرها أن يكون أحدهما دخله التخصيص والآخر لم
يدخله التخصيص فالذي لم يدخله التخصيص يقدم على الأول لأن الذي
دخله التخصيص قد أزيل عن تمام مسماه والحقيقة مقدمة على المجاز
وحادى عشرها أن يدل أحدهما على المراد من وجهين والآخر من وجه
واحد يقدم الأول لأن الظن الحاصل منه أقوى
(5/430)
وثاني عشرها أن يكون أحد الحكمين مذكورا مع
علته والآخر ليس كذلك فالأول أقوى ومن هذا القبيل أن يكون
أحدهما مقرونا بمعنى مناسب والآخر يكون معلقا بمجرد الاسم
فيكون الأول أولى وثالث عشرها أن يكون أحدهما تنصيصا على الحكم
مع اعتباره بمحل آخر والآخر ليس كذلك يقدم الأول في المشبه
والمشبه به جميعا لأن اعتبار محل بمحل إشارة إلى وجود علة
جامعة مثاله قول الحنفية في قوله عليه الصلاة والسلام أيما
إهاب دبغ فقد طهر كالخمر تخلل فتحل رجحناه في المشبه على قوله
عليه الصلاة والسلام لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب وفي
المشبه به في مسألة تحليل الخمر على قوله أرقها
(5/431)
ورابع عشرها أن تكون دلالة أحدهما مؤكدة
ودلالة الأخرى لا تكون مؤكدة فتقدم الأولى كقوله عليه الصلاة
والسلام فنكاحها باطل باطل باطل وخامس عشرها أن يكون أحدهما
تنصيصا على الحكم مع ذكر المقتضي لضده كقوله عليه الصلاة
والسلام كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها يقدم على ما
ليس كذلك لأن اللفظ يدل على ترجيح ذلك على ضده ولأن تقديمه
يقتضى النسخ مرة وتقديم ضده يقتضى النسخ مرتين فيكون الأول
أولى وسادس عشرها يقدم أن يكون أحد الدليلين مقرونا بنوع تهديد
فإنه على ما لا يكون كذلك كقوله عليه الصلاة والسلام من صام
يوم الشك فقد عصى أبا القاسم وكذا القول لو كان التهديد في
أحدهما أكثر
(5/432)
وسابع عشرها أن يكون أحد الدليلين يقتضى
الحكم بواسطة والآخر يقتضيه بغير واسطة فالثاني يرجح على الأول
كما إذا كانت المسألة ذات صورتين فالمعلل إذا فرض الكلام في
صورة وأقام الدليل عليه فالمعترض إذا أقام الدليل على خلافه في
الصورة الثانية ثم توسل إلى الصورة الأخرى بواسطة الإجماع
فيقول المعلل دليلي راجح على دليلك لأن دليلى بغير واسطة
ودليلك بواسطة فيكون الترجيح معى لأن كثرة الوسائط الظنية
تقتضي كثرة الاحتمالات فيكون مرجوحا بالنسبة إلى ما يقل
الاحتمال فيه وثامن عشرها
المنطوق مقدم على المفهوم إذا جعلنا المفهوم حجة لأن المنطوق
أقوى دلالة على الحكم من المفهوم القول في
التراجيح الراجعة إلى الحكم
وهي من وجوه خمسة الأول إذا كان أحد الخبرين مقررا لحكم الأصل
والثاني يكون ناقلا فالحق أنه يجب ترجيح المقرر وقال الجمهور
من الأصوليين أنه يجب ترجيح الناقل
(5/433)
لنا أن حمل الحديث على ما لا يستفاد الا من
الشرع أولى من حمله على ما يستقل العقل بمعرفته فلو جعلنا
المبقي مقدما على الناقل لكان واردا حيث لا يحتاج إليه لأنا في
ذلك الوقت نعرف ذلك الحكم بالعقل فلو قلنا إن المبقى ورد بعد
الناقل لكان واردا حيث يحتاج إليه فكان الحكم بتأخره عن الناقل
أولى من الحكم بتقدمه عليه وأحتج الجمهور على قولهم بوجهين
الأول أن اعتبار الناقل أولى لأنه يستفاد منه ما لا يعلم إلا
منه وأما المبقى فإن حكمه معلوم بالعقل فكان الناقل أولى
الثاني أن في القول بكون الناقل متأخرا تقليل النسخ لأنه يقتضى
إزالة حكم العقل فقط وفي القول يكون المقرر متأخرا تكثير النسخ
لأن الناقل
أزال حكم العقل ثم المقرر أزال حكم الناقل مرة أخرى والجواب عن
الأول ما ذكرناه في الدليل وهو أنا لو جعلنا المبقى متأخرا
لكنا قد استفدنا منه مالا يستقبل العقل به ولو جعلناه متقدما
لكنا قد استفدنا منه ما يتمكن العقل من معرفته
(5/434)
وعن الثاني أن ورود الناقل بعد ثبوت حكم
الأصل ليس بنسخ لأن دلالة العقل مقيدة بشرط عدم دليل السمع
فإذا وجد فلا يبقى دليل العقل فلا يكون دليل السمع مزيلا لحكم
العقل بل مبينا لانتهائه فلا يكون ذلك خلاف الأصل وأيضا فما
ذكرتموه معارض بوجه آخر وهو أنا لو جعلنا المبقى مقدما لكان
المنسوخ حكما ثابتا بدليلين دليل العقل ودليل الخبر فيكون هذا
أشد مخالفة لأنه يكون ذلك نسخا للأقوى بالأضعف وهو غير جائز
وأما على الوجه الذي قلناه فلا يكون المنسوخ إلا دليلا واحدا
فرع فان قيل أفتجعلون العمل بالناقل على ما ذكره الجمهور أو
بالمقرر على ما ذكرتموه في باب الترجيح قلنا قال القاضي عبد
الجبار أنه ليس من باب الترجيح واستدل عليه بوجهين الأول أنا
نعمل بالناقل على أنه ناسخ والعمل بالناسخ ليس من باب
الترجيح الثاني أنه لو كان العمل بالناقل ترجيحا لوجب أن يعمل
بالخبر الآخر لولاه لأن
(5/435)
هذا حكم كل خبرين رجحنا أحدهما على الآخر
ومعلوم أنه لولا الخبر الناقل لكنا إنما نحكم بموجب الخبر
الآخر لدلالة العقل لا لأجل الخبر ويمكن أن يجاب عن الأول بأنا
لا نقطع في الأصول بأن الناقل عن حكم الأصل متأخر وناسخ وإنما
نقول الظاهر ذلك مع جواز خلافه فهو إذن داخل في باب الأولى
وهذا ترجيح وعن الثاني أنه لو كان الخبر الناقل لعلمنا بموجب
الخبر الآخر لأجله ألا ترى أنا نجعله حكما شرعيا ولهذا لا يصح
رفعه إلا يصح النسخ به ولولا أنه بعد ورود الخبر صار شرعيا
وإلا لما كان كذلك الثاني قال القاضي عبد الجبار الخبران إذا
كان أحدهما نفيا والآخر إثباتا وكانا شرعيين فإنهما سواء وضرب
لذلك أمثلة ثلاثة أحدها أن يقتضى العقل حظر الفعل ثم ورد خبران
في إباحته ووجوبه
(5/436)
وثانيها
أن يقتضى العقل وجوب الفعل ثم ورد خبران في حظره وإباحته
وثالثها أن يقتضى العقل إباحة الفعل ثم ورد خبران في وجوبه
وحظره واعلم أن هذا لا يستقيم على مذهبنا في أن العقل لا يستقل
في شئ من الأحكام بالقضاء والنفى بالإثبات بل ذلك لا يستفاد
إلا من الشرع وحينئذ لا يكون لأحدهما مزية على الآخر وأما على
مذهب المعتزلة فلا يتم ذلك لأنه لا بد في كل نفى وإثبات
متواردين على حكم واحد أن يكون أحدهما عقليا بيانه أن الإباحة
تشارك الوجوب في جواز الفعل وتخالفه في جواز الترك وتشارك
الحظر في جواز الترك وتخالفه في جواز الفعل فهى تشارك كل واحد
من الوجوب والحظر بما به تخالف الآخر إذا ثبت هذا فنقول إذا
اقتضى العقل الحظر فقد اقتضى جواز الترك أيضا لأن ما صدق عليه
أنه محظور فقد صدق عليه أنه يجوز تركه فإذا جاء خبر الإباحة
والوجوب فالإباحة إنما تنافي الوجوب من حيث إن الإباحة تقتضى
جواز الترك لا من حيث إنها تقتضى جواز الفعل لكن جواز الفعل
هاهنا كما عرفت حكم عقلى فثبت أنه لا بد هاهنا في
(5/437)
النفي والإثبات من كون أحدهما عقليا فيه
فليعمل فيه كما في المثال الأول وأما المثال الثاني وهو ما إذا
اقتضى العقل الوجوب وجاء خبران في الحظر والإباحة فالكلام فيه
كما في المثال الأول
وأما المثال الثالث وهو ما إذا اقتضى العقل والإباحة ثم في جاء
خبرأن في الحضر والوجوب فنقول لما ثبت أن الإباحة تشارك كل
واحد من الوجوب والحظر بما به تخالف الآخر وإذا كانت الإباحة
مقتضى العقل لزم أن يكون الوجوب مقررا لحكم العقل من وجه
وناقلا من وجه آخر وكذا القول في الحظر فهاهنا أيضا لابد في
النفى والإثبات المتواردين بن على أمر واحد أن يكون أحدهما
عقليا وإذا ثبت أنه لا بد في النفي والإثبات من كون أحدهما
عقليا رجع الترجيح إلى ما تقدم من أن الناقل أرجح أم المبقى
فرع إذا كان مقتضى العقل الحظر ثم ورد خبران في الإباحة
والوجوب والإباحة تشارك الحظر من وجه وتخالفه من وجه آخر فخبر
الإباحة يقتضى بقاء حكم العقل من وجه والنقل من وجه وأما
الوجوب فإنه يخالف الحظر في القيدين معا فيكون الوجوب مقتضيا
للنقل من وجهين فمن رجح الخبر الناقل على المبقى رجح خبر
الوجوب ومن رجح
(5/438)
المبقى على الناقل فبالعكس وكذا القول فيما
إذا اقتضى العقل الوجوب وجاء خبران في الحظر والإباحة فأما إذا
اقتضى العقل الإباحة وجاء خبران في الحظر والوجوب فكل واحد
منهما يشارك الإباحة من وجه ويخالفها من وجه آخر فإذن كل
واحد منهما ناقل من وجه ومبق هذه من وجه آخر فيحصل التساوى ولا
يحصل الترجيح الثالث إذا تعارض خبران في الحظر والإباحة وكانا
شرعيين فقال أبو هاشم وعيسى بن أبان إنهما يستويان وقال الكرخى
وطائفة من الفقهاء خبر الحظر راجح احتجوا على الترجيح للحظر
بالخبر والحكم والمعنى أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ما
اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال ضعيف ومنقطع وقال
عليه الصلاة والسلام دع ما يريبك إلى مالا يريبك وجواز هذا
(5/439)
الفعل يريبه لأنه بين أن يكون حراما وبين
أن يكون مباحا فما يريبه جواز فعله فيجب تركه وروى عن عمر رضي
الله عنه أنه قال في الأختين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما
آية والتحريم أولى وأما الحكم فإنه من طلق أحد نسائه ونسيها
حرم عليه وطء جميع نسائه وكذلك لو أعتق إحدى إمائه وأما المعنى
فهو أنه دار بين أن يرتكب الحرام أو يترك المباح وترك المباح
أولى فكان الترجيح للمحرم احتياطا فإن قلت ولا يمتنع أيضا أن
يكون مباحا فيكون باعتقاده الحظر مقدما على مالا يأمن كونه
جهلا قلت إنه إذا استباح المحظور فقد أقدم على محظورين أحدهما
الفعل والثاني اعتقاد إباحه وليس كذلك إذا امتنع من المباح
لاعتقاد حظره لأنه محظور واحد والغرض هو الترجيح بضرب من القوة
الرابع المثبت للطلاق والعتاق يقدم على النافي لهما عند الكرخى
وقال قوم يسوى بينهما وجه الأول أن ملك النكاح واليمين مشروع
على خلاف الأصل فيكون زوالهما على وفق الأصل والخبر المتأيد
بموافقة الأصل راجح على الواقع على خلاف الأصل
(5/440)
الخامس النافي للحد مقدم على المثبت له عند
بعض الفقهاء وأنكره المتكلمون وجه الأول من وجوه أحدها أن الحد
ضرر فتكون شرعيته على خلاف الأصل والنافي له على وفق الأصل
فيكون النافي له راجحا وثانيها أن ورود الخبر في نفى الحد إن
لم يوجب الجزم بذلك النفى فلا أقل من أن يفيد شبهة فيه إذا
حصلت الشبهة سقطت الحدود لقوله عليه الصلاة والسلام ادرؤا
الحدود بالشبهات وثالثها إذا كان الحد يسقط بتعارض البينتين مع
ثبوته في أصل الشرع فلأن يسقط بتعارض الخبرين في الجملة ولم
يتقدم له ثبوت
أولى القول في الترجيحات الحاصلة بالأمور الخارجة
(5/441)
وهي من وجوه أحدها الترجيح بكثرة الأدلة
وقد سبق القول فيه وثانيها أن يقول بعض أئمة الصحابة أو يعمل
بخلافه والخبر لا يجوز خفاؤه عليه وهذا عند البعض يحمل على
نسخه أو أنه لا أصل له إذا لولاه لما خالف وعند الشافعى رضي
الله عنه لا يحمل على ذلك لكن إذا عارضه خبر لا يكون كذلك كان
راجحا عليه وثالثها إذا عمل بأحدهما أكثر السلف ممن لا يجب
تقليدهم قال عيسى بن أبان يجب ترجيحه لأن الأكثر يوفقون للصواب
مالا يوفق له الأقل وقال آخرون لا يحصل الترجيح لأنه لا يجب
تقليدهم ورابعها أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى يكون مرجوحا
إما لاختلاف المجتهدين في قبوله أو لأن كونه مما تعم به البلوى
إن لم يوجب القدح فيه فلا أقل من إفادته المرجوحية
واعلم أن بعض ما يرجح به الخبر قد يكون أقوى من بعض فينبغى إذا
استوى الخبران في كمية وجوه الترجيح أن تعتبر الكيفية فإن كان
أحد الجانبين أقوى كيفية وجب العمل به
(5/442)
وإن كان أحد الجانبين أكثر كمية وأقل كيفية
والجانب الآخر على العكس منه وجب على المجتهد أن يقابل ما في
أحد الجانبين بما في الجانب الآخر ويعتبر حال قوة الظن والكلام
في قوة كثير من وجوه الترجيحات طريقة الاجتهاد
(5/443)
القسم الرابع في تراجيح سنة الأقيسة وهي
إما أن تكون بحسب ماهية العلة أو بحسب ما يدل على وجودها أو
بحسب ما يدل على عليتها أو بحسب ما يدل على ثبوت الحكم في
الأصل أو بحسب محل ذلك الحكم أو بحسب محالها أو بحسب أمور
منفصلة عن ذلك النوع الأول في التراجيح المعتبرة بحسب ماهية
العلة فنقول إنا بينا أن الحكم الشرعي إما أن يكون معللا
بالوصف الحقيقي أو بالحكمة أو بالحاجة أو بالوصف العدمي أو
بالوصف الإضافي أو بالوصف التقديرى أو بالحكم الشرعي وعلى كل
التقديرات فالعلة إما أن تكون مفردة أو مركبة من قيدين أو أكثر
واعتمد بعضهم في التراجيح الواقعة في هذا الباب على أمرين
أحدهما أن كل ما كان أشبه بالعلل العقلية فهو راجح على ما لا
يكون كذلك لأن
العقل أصل النقل والفرع كلما كان أشبه بالأصل كان أقوى
(5/444)
وثانيها أن كل ما كان متفقا عليه فهو أولى
مما يكون مختلفا فيه وكل ما كان الخلاف فيه أقل فهو راجح على
ما يكون الخلاف فيه أكثر والسبب فيه أن وقوع الخلاف فيه يدل
على حصول الشك والشبهة وهذان المأخذان ضعيفان جدا إلا في شئ
واحد وهو أن كل ما كان متفقا عليه فهو أولى مما يكون مختلفا
فيه وذلك لأن المقدمة إذا كانت مجمعا عليها كانت يقينية
والقياس الذي يكون بعض مقدماته يقينيا وبعضه ظنيا أقوى من الذي
يكون كل مقدماته ظنيا لأن الاحتمال في الأول أقل مما في الثاني
ومتى كان الاحتمال أقل كان الظن أقوى إذا عرفت هذا الأصل
فلنرجع إلى التفصيل وفيه مباحث أحدها أن التعليل بالوصف
الحقيقي أولى من التعليل بسائر الأقسام لأن جواز التعليل
بالوصف الحقيقي مجمع عليه بين القائسين والتعليل بسائر الأقسام
مختلف فيه فيكون القياس الذي يكون الحكم في أصله معللا بالوصف
الحقيى أقوى مما لا يكون كذلك وثانيها التعليل بالحكمة أولى من
التعليل بالعدم وبالوصف الإضافي
(5/445)
وبالحكم الشرعي وبالوصف التقديري
أما أنه أولى من العدم فلأن العلم بالعدم لا يدعو إلى شرع
الحكم إلا إذا حصل العلم بإشتمال ذلك العدم على نوع مصلحة
فيكون الداعى إلى شرع الحكم في الحقيقة هو المصلحة لا العدم
وإذا كانت العلة هى المصلحة لا العدم كان التعليل بالمصلحة
أولى من التعليل بالعدم فإن قلت فهذا يقتضي أن يكون التعليل
بالمصلحة أولى من التعليل بالوصف قلت كان الواجب ذلك إلا أن
الوصف أدخل في الضبط من الحاجة فلهذا المعنى ترجح الوصف على
المصلحة والعدم المطلق لا يتقيد إلا إذا أضيف إلى الوجود فهو
في نفسه غير مضبوط فالعدم ليس بمؤثر في الحقيقة وليس بضابط في
نفسه فظهر الفرق وإذا ثبت أن التعليل بالحكمة أولى من التعليل
بالعدم وقد ثبت أن الإضافات ليست أمورا وجودية لزم أن يكون
التعليل بالحكمة أولى من التعليل بالإضافات وأما أنه أولى من
الحكم بالشرع والوصف التقديرى فلأن التعليل بالحاجة تعليل بنفس
المؤثر وهذا يمنع من التعليل بغيره ترك العمل به في
(5/446)
الوصف الحقيقي بالإجماع ولأنه اشتبه بالعلل
العقلية فيبقى في هذه الصورة على الأصل وثالثتها التعليل
بالعدم أولى أم بالحكم الشرعي يحتمل أن يقال العدم أولى لأنه
أشبه بالأمور الحقيقية ويحتمل
أن يقال بل بالحكم الشرعي أولى لأنه أشبه بالوجود ورابعها
التعليل بالعدم أولى أم بالصفات التقديرية والأشبه هو الأول
لأن المقدر معدوم أعطى حكم الموجود فكل ما في المعدوم من
المحذورات فهو حاصل في المقدر مع مزيد محذور آخر وهو أنه كونه
معدوما أعطى حكم الموجود فكان المعدوم أولى وخامسها تعليل
الحكم الوجودى بالعلة الوجودية أولى من تعليل الحكم العدمي
بالوصف العدمي ومن تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودى والحكم
الوجودى بالوصف العدمي لأن كون العلة والمعلول عدميين يستدعى
تقدير كونهما وجوديين لأنا بينا أن العلة والمعلول وصفان
ثبوتيان فحملهما على المعدوم لا يمكن إلا إذا قدر المعدوم
موجودا
(5/447)
وتعليل العدم بالعدم أولى من القسمين
الباقيين للمشابهة وأما أن تعليل العدم بالوجود أولى أم تعليل
الوجود بالعدم ففيه نظر وسادسها التعليل بالحكم الشرعي أولى من
التعليل بالوصف المقدر لأن الأول على وفق الأصل والثاني على
خلاف الأصل وسابعها التعليل بالعلة المفردة أولى من التعليل
بالعلة المركبة لأن الاحتمال في المفردة أقل مما في المركب لأن
المفرد لو وجد لوجد بتمامه ولو عدم
لعدم بتمامه وأما المركب فليس كذلك لأن المركب من قيدين فقط
يحتمل في جانب الوجود احتمالات ثلاثة وهي أن يوجد الجزء بدلا
عن ذاك وذاك بدلا عن هذا ويوجد المجموع وكذا القول في جانب
العدم المركب من قيود ثلاثة يوجد فيه احتمالات سبعة في طرف
الوجود وسبعة في طرف العدم ومعلوم أن ما كان الاحتمال فيه أقل
كان أولى فهذه جملة التراجيح العائدة إلى ماهية العلة
(5/448)
النوع الثاني القول في التراجيح العائدة
إلى ما يدل على أن ذات العلة موجودة اعلم أن العلم بوجود تلك
الذوات إما أن يكون بديهيا أو حسيا أو استدلاليا والاستدلال
إما أن يفيد العلم أو الظن وعلى التقديرين فذلك الدليل إما أن
يكون عقليا محضا أو نقليا محضا أو مركبا منهما فلنتكلم في هذه
الأقسام فنقول أما إذا كان الطريق مفيدا لليقين سواء كان
بديهيا أو حسيا أو استدلاليا يقينيا وسواء كان عقليا محضا أو
نقليا محضا أو مركبا منهما وسواء كثرت المقدمات أو قلت فإنه لا
يقبل الترجيح وكلام أبي الحسين يدل على أنه يقبل أما أن
القطعيات لا تقبل الترجيح فلما تقدم
فإن قلت الضرورى أولى من النظرى لأن الضرورى لا يقبل الشك
والشبهة والنظرى يقبل ذلك قلت النظرى واجب الحصول عند حصول
جميع مقدماته المنتجة له كما أن البديهي واجب الحصول عند حصول
تصور طرفيه وكما أن النظرى يزول عند زوال أحد الأمور التي لا
بد منها في حصول
(5/449)
جميع مقدماته المنتجة له فكذلك الضرورى
يزول عند زوال أحد التصورات التي لا بد منها فإذن لا فرق في
وجود الجزم عند حضور موجباته في البابين بل الفرق هو أن النظرى
يتوقف على أمور أكثر مما يتوقف عليه الضرورى فلا جرم كان زوال
النظرى أكثر من زوال الضرورى فأما وجوب الوجود وامتناع العدم
عند حصول كل ما لا بد منه فلا فرق بين الضرورى والنظرى فيه
ألبتة أما إذا كان الطريق الدال على وجود العلة ظنيا فقد قيل
كلما كانت المقدمات المنتجة لذلك الظن أقل كان القياس أقوى لأن
المقدمات متى كانت أقل كان احتمال الخطأ أقل ومتى كان احتمال
الخطأ أقل كان ظن الصواب أقوى واعلم أن هذا الكلام على عمومه
ليس بحق لأن الظن يقبل التفاوت في القوة والضعف فإذا فرضنا
دليلا كانت مقدماته قليلة إلا أن كل واحدة منها كانت مظنونة
ظنا ضعيفا ودليلا آخر ظنيا معارضا للأول مقدماته كثيرة إلا أن
كل واحدة منها كانت مظنونة ظنا قويا فالقوة الحاصلة في أحد
الجانبين بسبب قلة الكمية قد تصير معارضة من الجانب الآخر بسبب
قوة الكيفية وقد تكون قوة الكيفية
في أحد الجانبين أزيد من قلة الكمية في الجانب الآخر حتى أن
الدليل الظنى الذي يكون مركبا من مائة مقدمة قد يفيد ظنا
(5/450)
أقوى من الظن الحاصل من الدليل المركب من
مقدمتين فإذن لا بد من اعتبار هذا التفصيل الذي ذكرناه إذا
عرفت هذا فنقول الدليل الظني الذي يدل على وجود العلة إما أن
يكون نصا أو إجماعا أو قياسا أما القياس فالكلام فيه كما في
الأول ولا يتسلسل بل ينتهي إلى النص أو الإجماع أما النص فطرق
الترجيح فيه ما تقدم في القسم الثالث من هذا الكتاب وأما
الإجماع فإن كانا قطعيين لم يقبل الترجيح وإن كان أحدهما قطعيا
والآخر ظنيا لم يقبل الترجيح لأن الإجماع المعلوم مقدم على
المظنون أما إذا كانا مظنونين فهذا يقع على وجهين أحدهما
الإجماعان المختلف فيهما عند المجتهدين كالإجماع الذي يحدث عن
قول البعض وسكوت الباقين وثانيهما الإجماع المنقول بطريق
الآحاد فهذان القسمان في محل الترجيح وأما الذي يقال إن أحدهما
متفق عليه والآخر مختلف فيه فإن أريد
(5/451)
به عدم الاختلاف في أحدهما ووقوعه في الآخر
فذلك ليس من باب الترجيح لأن تقدم المعلوم على المظنون قطعي
وإن عني به قله الاختلاف في أحدهما وكثرته في الآخر فلا نسلم
أن هذا القدر يوجب الترجيح ولنختم هذا الفصل بشئ وهو أنه إذا
تعارض قياسان وكان وجود الأمر الذي جعل علة لحكم الأصل في أحد
القياسين معلوما وفي الآخر مظنونا كان الأول راجحا لما بينا أن
القياس الذي بعض مقدماته معلوم راجح على ما كان كل مقدماته
مظنونا النوع الثالث القول في التراجيح الحاصلة بسبب الطرق
الدالة على علية الوصف في الأصل وقد ذكرنا في كتاب القياس أن
الطرق الدالة على علية الوصف في الأصل إما الدليل النقلى أو
العقلى أما الدليل النقلى فإما أن يكون نصا أو إيماءا أما النص
فقد يكون بحيث لا يحتمل غير العلية وهو ألفاظ ثلاثة وهى قوله
لعله كذا أو لسبب كذا كذا أو لأجل كذا فهذا مقدم على جميع
الطرق النقلية وأما الذي يحتمل غير العلية ولكنه ظاهر جدا
فألفاظ ثلاثة وهي اللام وإن والباء وحرف اللام مقدم على إن
والباء لأن اللام
(5/452)
ظاهر جدا في التعليل وأما لفظ أن فقد يكون
للتأكيد ولفظ الباء قد يكون للإلصاق كقولك كتبت بالقلم وقد
يفيد كونه محكوما به كقوله
عليه الصلاة والسلام أنا أقضي بالظاهر أما حيث تأتي لا للآلة
ولا لأن تكون محكوما به كان مرادفا للأم فإنه لا فرق بين أن
يقال قتلته لجنايته وقتلته بجنايته وأما الباء وإن أيهما
المقدم ففيه احتمال وأما الإيماءات ففيها أبحاث أحدها أنا بينا
أن دلالة الإيماء على علية الوصف في الأصل لا تتوقف على كونه
مناسبا ولكن الوصف الذي يكون مناسبا راجح على مالا يكون كذلك
وثانيهما أن إيماء الدلالة اليقينية راجح على إيماء الدلالة
الظنية لما عرفت أن الدليل الذي بعض مقدماته يقيني والبعض ظني
راجح على ما يكون كل مقدماته ظنيا وأما إذا ثبتت علية الوصفين
بإيماء خبر الواحد فوجوه الترجيح فيه ما ذكرناه في باب الخبر
الواحد وثالثها أن الجمهور اتفقوا على أن ما ظهرت عليته
بالإيماء راجح على ما ظهرت
(5/453)
عليته بالوجوه العقلية من المناسبة
والدوران والسبر وهذا فيه نظر وذلك لأن الإيماء لما لم يوجد
فيه لفظ يدل على العلية فلا بد وأن يكون الدال على عليته أمر
آخر سوى اللفظ ولما بحثنا لم نجد شيئا يدل على عليتها إلا أحد
أمور ثلاثة المناسبة والدوران والسبر على ما مر ذلك في باب
الإيماءات
وإذا ثبت أن الإيماءات لا تدل إلا بواسطة أحد هذه الطرق
الثلاثة كان الأصل لا محالة أقوى من الفرع فكان كل واحد من هذه
الثلاثة أقوى من الإيماءات ورابعها أنا قد ذكرنا أن أقسام
الإيماءات خمسة وكل واحد من تلك الأقسام يندرج تحته أقسام
كثيرة واستيفاء القول في هذا يقتضي أن نتكلم في تفاصيل كل واحد
من أقسام تلك الأقسام مع ما يشاركه في جنسه ومع ما هو خارج من
جنسه لأنه لا يبعد أن يكون أحد الجنسين أقوى من الجنس الآخر
ويكون بعض أنواع الضعيف أقوى من بعض أنواع القوي لكنا تركنا
هذا لطولها وكثرتها أما الطرق العقلية فقد ذكرنا منها ستة وهي
المناسب والمؤثر والشبه والدوران والطرد والسبر فلنتكلم في
تفاصيل هذه الأجناس ثم في تفاصيل أنواع كل واحد من هذه الأجناس
(5/454)
أما تفاصيل هذه الأجناس ففيها أبحاث أحدها
أن المناسبة أقوى من الدوران وقال قوم الدوران أقوى وعبروا عن
ذلك بأن العلة المطردة المنعكسة أقوى مما لا يكون كذلك لنا إن
الوصف إنما يؤثر في الحكم لمناسبته فالمناسبة علة لعلية العلة
وليس تأثير الوصف في الحكم لدورانه معه لأن الدوران في الحقيقة
ليس من لوازم العلية لأن العلة إذا كانت أخص من المعلول كانت
العلية منفكة هناك عن الدوران وقد ينفك الدوران عن العلية كما
في الصور التي عددناها في باب الدوران وإذا كان كذلك كان
الاستدلال بالمناسبة على العلية أقوى من الاستدلال بالدوران
عليها احتج المخالف بوجهين الأول إن العلة المطردة المنعكسة
أشبه بالعلل العقلية فتكون أقوى الثاني أنهم أجمعوا على صحة
المطرد المنعكس ومن الناس من أنكر العلة التي لا تكون منعكسة
(5/455)
والجواب عن الأول لا نسلم أن العكس واجب في
العلل العقلية وقد بيناه في كتبنا العقلية سلمناه لكن لا نسلم
أن الأشبه بالعلل العقلية أولى وعن الثاني أن ذلك يقتضي ترجيح
المناسب المطرد المنعكس على المناسب الذي لا يكون مطردا منعكسا
ولا نزاع فيه أما أنا لا نقضي بترجيح الدوران المنفك عن
المناسبة على المناسب المنفك عن الدوران فلأنه إذا وجد الدوران
بدون المناسبة فقد لا تحصل العلة كرائحة الخمر مع حرمتها
وثانيها
أن المناسبة أقوى من التأثير لأنه لا معنى للتأثير إلا أنه عرف
تأثير هذا الوصف في نوع هذا الحكم وفي جنسه وكون الشي مؤثرا في
شئ لا يوجب كونه مؤثرا فيما يشاركه في جنسه أما كونه مناسبا
فهو الذي لأجله صار الوصف مؤثرا في الحكم فكان الاستدلال
بالمناسبة على العلية أقوى من الاستدلال بالتأثير عليها
وثالثها أن السبر إما أن يكون قاطعا في مقدماته أو
(5/456)
مظنونا في مقدماته أو قاطعا في بعض مقدماته
ومظنونا في البعض فإن كان قاطعا في كل مقدماته كان العمل به
متعينا وليس هذا بترجيح أما إذا كان مظنونا في كل مقدماته مثل
أن يدل دليل ظني على أن الحكم معلل ودليل آخر ظني على أن العلة
إما هذا الوصف أو ذاك ودليل آخر ظني على أن العلة ليست ذلك
الوصف فيحصل هاهنا ظن أن العلة ليست إلا هذا الوصف فهاهنا
العمل بالمناسبة أولى من العمل بهذا السبر وذلك لأن الدليل
الدال على هذه المقدمات الثلاث التي لا بد منها في السبر إما
النص أو الإيماء أو الطرق العقلية فإن كان هو النص صارت تلك
المقدمات يقينية وقد فرضناها ظنية هذا خلف وإن كان إيماءا فقد
عرفت أن الإيماء مرجوح بالنسبة إلى المناسبة وأما الطرق
العقلية فالمناسبة أولى من غيرها لأن المناسبة مستقلة بإنتاج
العلية والسبر لا ينتج العلية إلا بعد مقدمات كثيرة والمثبت
لتلك المقدمات إما المناسبة أو غيرها
فإن كان الأول كانت المناسبة أولى من السبر لأن في إثبات الحكم
بالمناسبة تكفي المناسبة الواحدة في الإنتاج وفي السبر لابد من
ثلاث مقدمات والكثرة دليل المرجوحية وإن كان الثاني كانت
المناسبة أولى لأن المناسبة علة لعلية العلة وغير المناسبة ليس
كذلك فالاستدلال بالمناسبة على العلية أولى
(5/457)
وأما إن كان السبر مظنونا في بعض المقدمات
مقطوعا في البعض عاد الترجيح المذكور في تلك المقدمات المظنونة
ورابعها أن المناسبة أقوى من الشبه والطرد وذلك واضح لا حاجة
به إلى الدليل فهذا هو الكلام في تراجيح هذه الطرق الستة
العقلية بحسب الجنس ولنتكلم الآن في أنواع كل واحد منها وفيه
سائل المسألة الأولى ترجيح بعض المناسبات على بعض إما أن يكون
بأمور عائدة إلى ماهياتها أو بأمور خارجة عنها أما القسم الأول
فتقريره أنك قد عرفت أن كون الوصف مناسبا إما أن يكون لأجل
مصلحة دنيوية أو دينية والمصلحة الدنيوية إما أن تكون في محل
الضرورة أو في محل الحاجة أو في محل الزينة والتتمة وظاهر أن
المناسبة التي من باب الضرورة راجحة على التي من باب الحاجة
والتي من باب الحاجة مقدمة على التي من باب الزينة
ثم قد عرفت أن المناسبة التي من باب الضرورة خمسة وهي مصلحة
النفوس والعقول والأديان والأموال والأنساب فلا بد من بيان
كيفية ترجيح بعض هذه الأقسام على بعض
(5/458)
ثم عرفت أن الوصف المناسب للحكم قد يكون
نوعه مناسبا لنوع الحكم وقد يناسب جنسه نوع الحكم وقد يناسب
نوعه جنس الحكم وقد يناسب جنسه جنس الحكم ولا شك في تقدم الأول
على الثلاثة الأخيرة والثاني والثالث وأما الثاني والثالث فهما
كالمتعارضين ولا شك في تقدمهما على الرابع ثم الجنس قد يكون
قريبا وقد يكون بعيدا والمناسبة المتولدة من الجنس القريب تقدم
على المناسبة المتولدة من الجنس البعيد ثم المناسبة في كل قسم
من هذه الأقسام قد تكون جلية وقد تكون خفية أما الجلي فهو الذي
يلتفت الذهن إليه في أول سماع الحكم كقوله عليه الصلاة السلام
لا يقضى القاضي وهو غضبان فإنه يلتفت الذهن عند سماع هذا
الكلام إلى أن الغضب إنما منع من الحكم لكونه مانعا من استيفاء
الفكر وأما الخفي فهو الذي لا يكون كذلك ولا شك في تقدم الجلي
على الخفي وأما القسم الثاني وهو ترجيح بعض المناسبات على بعض
بأمور خارجة عنها فذلك على وجوه
(5/459)
أحدها أن المناسبة المتأيدة بسائر الطرق
أعني الإيماء والدوران والسبر راجحة على ما لا يكون كذلك ويرجع
حاصله إلى الترجيح بكثرة الأدلة وثانيها المناسبة الخالية عن
المعارض راجحة على ما لا يكون كذلك فإن المناسبة وإن كانت لا
تبطل بالمعارضة لكنها مرجوحة بالنسبة إلى مالا تكون معارضة
وثالثها الذي يناسب الحكم من وجهين راجح على مالا يناسب إلا من
وجه واحد وعلته ظاهرة وأيضا كلما كانت الجهات أكثر كانت أرجح
مسألة الدوران الحاصل في صورة واحدة راجح على الحاصل في صورتين
لأن احتمال الخطأ في الدوران الحاصل في الصورة الواحدة أقل من
احتماله في الدوران الحاصل في صورتين ومتى كان احتمال الخطأ
أقل كان الظن أقوى بيان الأول أن العصير لما لم يكن مسكرا في
الزمان الأول فلم يكن محرما ثم صار مسكرا بعد ذلك فصار محرما
ثم لما زالت المسكرية مرة أخرى زالت الحرمة فهاهنا نقطع بأن
شيئا من الصفات الباقية في الأحوال
(5/460)
الثلاثة لا يصلح لعلية هذا الحكم وإلا لزم
وجود العلة بدون الحكم
وأما الدوران في صورتين فهو كما يقول الحنفي في مسألة الحلي
كونه ذهب موجب للزكا لأن التبر لما كان ذهبا وجبت الزكاة فيه
والثياب لما لم تكن ذهبا لم تجب الزكاة فيها فهاهنا لا يمكن
القدح في علية الصفات الباقية بمثل ما ذكرناه في الصورة الأولى
فثبت أن احتمال المعارض في الصورة الأولى أقل فكان الظن فيها
أقوى مسألة قد ذكرنا أن الشبه قد يكون شبها في الحكم الشرعي
وقد يكون شبها في الصفة واختلفوا في الراجح والأظهر أن الشبه
في الصفة أولى لأنها أشبه بالعلل العقلية النوع الرابع في
التراجيح الحاصلة بسبب دليل الحكم فنقول هذا الطريق لا شك أنه
يكون دالا ثم ذلك الطريق إما أن يكون في القياسين المتعارضين
قطعيا أو ظنيا أو يكون في أحدها قطعيا وفي الآخر ظنيا فإن كان
قطعيا فيهما معا استحال الترجيح في ذلك لما عرفت وإن كانا
ظنيين فالدليل الدال عليهما إما أن يكون لفظا أو إجماعا أو
قياسا فلنتكلم في تفاصيل هذه الأجناس ثم في تفاصيل أنواع كل
واحد من هذه الأجناس
(5/461)
أما البحث الأول فيشتمل على مسألتين إحداها
قالوا القياس الذي ثبت الحكم في أصله بالإجماع أقوى من الذي
ثبت الحكم في أصله بالدلائل اللفظية لأن الدلائل اللفظية تقبل
التخصيص والتأويل والإجماع لا يقبلهما وهذا مشكل لأنا حيث
أثبتنا الإجماع إنما أثبتناه بالدلائل اللفظية والفرع كيف يكون
أقوى حالا من الأصل المسألة الثانية قد تقدم في كتاب القياس أن
الحكم في الأصل لا يجوز أن يكون مثبتا بالقياس وإن كان قد جوزه
قوم والمجوزون اتفقوا على أن القياس الذي ثبت الحكم في أصله
بالنص راجح على الذي ثبت الحكم في أصله بالقياس لأن ذلك القياس
لا يتفرع على قياس آخر إلى غير نهاية بل لا بد من الانتهاء إلى
أصل ثبت حكمه بالنص وإذا كان كذلك فالنص أصل القياس والأصل
راجح على الفرع البحث الثاني في تفاصيل أنواع كل واحد من هذه
الأجناس الثلاثة فنقول أما الدلائل اللفظية فإما أن تكون
متواترة أو آحادا فإن كانت متواترة لم يمكن ترجيح بعضها على
بعض إلا بما يرجع إلى المتن وإن كانت آحادا أمكن ترجيح بعضها
على بعض بما في المتن وبما
(5/462)
في الإسناد وتلك الوجوه قد ذكرناها فيما
تقدم فلا فائدة في الإعادة وبالجملة فكلما كان ثبوت الحكم في
الأصل أقوى كان القياس أرجح فإن كان ثبوت الحكم في أحد
القياسين مقطوعا وفي الآخر كان الأول
أولى لما تقدم أن القياس الذي بعض مقدماته مقطوع والبعض مظنون
راجح على ما كل مقدماته مظنون وأيضا فإذا ثبت الحكم في أحد
الأصلين بإيماء خبر متواتر فهو راجح على ما ثبت بإيماء خبر
واحد ولكن بشرط التعادل في الإيماءين ولو ثبت الحكم في الأصل
بخبر الواحد فالذي هو مدلول حقيقة اللفظ راجح على ما هو مدلول
مجازه النوع الخامس القول في التراجيح الحاصلة بسبب كيفية
الحكم وهي على وجوه أحدها القياس الذي يوجب حكما شرعيا راجح
على ما يوجب حكما عقليا لأن القياس دليل شرعي فيجب أن يكون
حكمه شرعيا إلا أنا لو قدرنا تقديم العلة المثبتة للحكم الشرعي
على المثبتة للحكم العقلي لزم النسخ مرتين
(5/463)
ولو قدرنا تقديم العقل لزم النسخ مرة فإن
قلت كيف يجوز أن يستخرج من أصل عقلي علة شرعية قلت يجوز ذلك
إذا لم ينقلنا عنه الشرع فنستخرج العلة التي لأجلها لم ينقلنا
عنه الشرع أما إذا كان أحد الحكمين نفيا والآخر إثباتا وكانا
شرعيين فقيل إنهما يتساويان لكنا ذكرنا في باب ترجيح الأخبار
أنه لابد وأن يكون أحدهما عقليا وثانيها
الترجيح بكون أحد الحكمين في الفرع حظر فذلك الحظر إما أن يكون
شرعيا أو عقليا فإن كان شرعيا فهو راجح على الإباحة لأنه شرعى
ولأن الأخذ بالحظر أحوط وإن كان عقليا فكونه حظرا جهة الرجحان
وكونه عقليا جهة المرجوحية فيجب الرجوع إلى ترجيح آخر ولا بد
في الحظر والإباحة من كون أحدهما عقليا على ما تقدم وثالثها أن
يكون حكم إحدى العلتين العتق وحكم الأخرى الرق فالمثبتة للعتق
أولى لأن للعتق مزيد قوة ولأنه على وفق الأصل ورابعها إذا كان
حكم إحداهما في الفرع إسقاط الحد وحكم الأخرى إثباته فالمسقطة
أولى لأن ثبوته على خلاف الأصل فإن قلت المثبت للعقوبات يثبت
حكما شرعيا والدارئ يثبت حكما عقليا فالمثبت للحكم الشرعي أولى
الجواب أن الشرع إذا ورد بالسقوط صار السقوط حكما شرعيا ولذلك
لا يجوز
(5/464)
نسخه إلا بما يسخ الحكم الشرعي وخامسها
الترجيح بكون أحد حكمي العلة أزيد من حكم الآخر بأن يكون حكم
أحدهما الندب وحكم الآخر الإباحة فالمثبت للندب أولى لأن في
الندب معنى الإباحة وزيادة فكانت أولى إذا كانت الزيادة شرعية
وسادسها
العلة إذا كان حكمها الطلاق كانت راجحة لما ثبت من قوة الطلاق
وسابعها القياس على الحكم الوارد على وفق قياس الأصول أولى من
القياس على الحكم الوارد بخلاف قياس الأصول وعلته كون الأول
متفقا عليه والثاني مختلفا فيه ولأن الأول خال عن المعارض
والثاني مع المعارض فيكون الأول أولى وثامنها القياس على أصل
أجمع على تعليل حكمه أولى مما لا يكون كذلك وعلته أن على
التقدير الأول تكون إحدى مقدمات القياس يقينية وهي كون الحكم
في الأصل معللا فيكون ذلك القياس راجحا على مالا يكون شئ من
مقدماته يقينيا وتاسعها الترجيح بشهادة الأصول للحكم وقد يراد
بها دلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك الحكم وهذه وإن كانت
صريحة فهي الأصل في إثبات الحكم فلا يجوز
(5/465)
الترجيح بها وإن مسها احتمال شديد جاز
ترجيح القياس بها وعاشرها يقع الترجيح بقول الصحابي لأنه أعرف
بمقاصد الرسول ص وكذلك إذا عضدت العلة علة أخرى كما ترجح أخبار
الآحاد بعضها ببعض وحادى عشرها
أن يلزم من ثبوت الحكم في الفرع محذور كتخصيص عموم أو ترك
العمل بظاهر أو ترجيح مجاز على حقيقة وفرق بين هذا الترجيح
وبين ما ذكرناه من شهادة الأصول لأن الحكم الشرعي قد يكون بحيث
يوجد في الشرع أصول تشهد بصحته وأصول أخر تشهد ببطلانه فالقوة
الحاصلة بسبب وجود الأصول التي تشهد بصحته غير القوة الحاصلة
بسبب عدم ما يشهد ببطلانه ومن هذا الباب أن يكون الحكم لازما
للعلة في كل الصور فإن من يجوز تخصيص العلة يسلم أن العلة
المطردة أولى من المخصوصة النوع السادس في التراجيح الحاصلة
بسبب مكان العلة وهو إما الأصل أو الفرع أو مجموعها أما الأصل
فبأن تشهد للعلة الواحد أصول كثيرة وذلك لأن شهادة
(5/466)
الأصل دليل على كون تلك العلة معتبرة وكل
شهادة دليل مستقل فالترجيح بالشهادات الكثيرة ترجيح بكثرة
الدلائل وأما الفرع ففيه صور إحداها أن العلة المتعدية أولى من
القاصرة عند الأكثرين خلافا لبعض الشافعية لنا أن المتعدية
أكثر فائدة ولأنها متفق عليها والقاصرة مختلف فيها فالأخذ
بالمتفق عليه أولى فكانت المتعدية أولى احتج المخالف بأن
التعدية فرع الصحة والفرع لا يقوى الأصل والجواب لكنه يدل على
قوته وثانيها إذا كانت فروع إحدى العلتين أكثر من الأخرى قال
بعضهم هو أولى وقال آخرون لا يحصل به الرجحان حجة الأولين أنها
إذا كثرت فروعها كثرت فوائدها فكانت أولى فإن قلت إنما يكون
إذا كثرت فوائدها الشرعية وكثرة فروعها ترجع إلى كثرة ما خلق
الله تعالى من ذلك النوع وليس ذلك بأمر شرعي قلت كثرة وجود
الفروع ليس بأمر شرعي لكن الفروع لما كثرت لزم
(5/467)
من جعل هذا الوصف علة كثرة الأحكام فكان
أولى احتج الآخرون بوجوه الأول لو كان اعم العلتين أولى من
اخصهما لكان العمل بأعم الخطابين أولى من اخصهما الثاني
التعدية فرع صحة العلة في الأصل فلو توقفت صحتها على التعدية
لزم الدور الثالث كثرة الفروع ترجع إلى كثرة ما خلق الله تعالى
من ذلك النوع وليس
ذلك بأمر شرعي بخلاف كثرة الأصول والجواب عن الأول إنما لم يكن
العمل بأعم الخطابين أولى لأن فيه طرحا لأخصهما وليس كذلك
العمل بأخصهما أما العلة فإذا انتهى الأمر إلى الترجيح وترجيح
إحداهما يوجب طرح الأخرى فكان طرح ما تقل فائدته أولى وعن
الثاني والثالث ما تقدم وثالثها العلة إذا كانت مثبتة للحكم في
كل الفروع فهي راجحة على ما تثبت الحكم في بعض الفروع
(5/468)
وسبب الرجحان أن الدال على الحكم في كل
الفروع يجري مجرى الأدلة الكثيرة لأن العلة تدل على كل واحد
منها وأيضا دلالته على ثبوت الحكم في كل واحد من تلك الفروع
يقتضي ثبوته في البواقي ضرورة أن لا قائل بالفرق فهذه العلة
العامة قائمة مقام الأدلة الكثيرة وأما العلة الخاصة في الصورة
الواحدة فهي دليل واحد فقط فكان الأول أولى وأما الترجيح
الراجع إلى الأصل والفرع معا فهو أن تكون العلة يرد بها الفرع
إلى ما هو من جنسه والأخرى يرد بها الفرع إلى خلاف جنسه مثاله
قياس الحنفية الحلي على التبر أولى من قياسه على سائر الأموال
إنما لم يكن العمل بأعم الخطابين أولى لأن فيه طرحا لأخصهما
وليس كذلك العمل بأخصهما أما العلة فإذا انتهى الأمر إلى
الترجيح وترجيح إحداهما يوجب طرح الأخرى فكان طرح ما تقل
فائدته أولى وعن الثاني والثالث ما تقدم وثالثها العلة إذا
كانت مثبتة للحكم في كل الفروع فهي راجحة على ما تثبت الحكم في
بعض الفروع
(5/469)
وسبب الرجحان أن الدال على الحكم في كل
الفروع يجري مجرى الأدلة الكثيرة لأن العلة تدل على كل واحد
منها وأيضا دلالته على ثبوت الحكم في كل واحد من تلك الفروع
يقتضي ثبوته في البواقي ضرورة أن لا قائل بالفرق فهذه العلة
العامة قائمة مقام الأدلة الكثيرة وأما العلة الخاصة في الصورة
الواحدة فهي دليل واحد فقط فكان الأول أولى وأما الترجيح
الراجع إلى الأصل والفرع معا فهو أن تكون العلة يرد بها الفرع
إلى ما هو من جنسه والأخرى يرد بها الفرع إلى خلاف جنسه مثاله
قياس الحنفية الحلي على التبر أولى من قياسه على سائر الأموال
لأن الاتحاد من حيث الجنسية ثابتة بينهما وهذا آخر الكلام في
التراجيح
(5/469)
طبع محققا على ست نسخ لأول مرة منذ أن فرغ
مؤلفه من كتابته سنة 575 هـ جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة الرسالة
ولا يحق لأية جهة ان تطبع أو تعطي حق الطبع لاحد.
الطبعة الثانية 1412 هـ.
1992 م
(6/2)
المحصول في علم اصول الفقه للامام الاصولي
النظار المفسر فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 544 -
606 هـ / 1149 - 1209 م دراسة وتحقيق الدكتور جابر فياض
العلواني الجزء السادس مؤسسة الرسالة
(6/3)
|