المستصفى من علم الأصول، ط الرسالة ج / 1 ص -111-
بسم الله الرحمن الرحيم
القطب الأول في
الثمرة وهي الحكم
والكلام فيه ينقسم إلى فنون أربعة:
فن في حقيقة الحكم
وفن في أقسامه
وفن في أركانه
وفن فيما يظهره
ج / 1 ص -112-
الفن الأول: في حقيقته [الحكم]
ويشتمل على
تمهيد وثلاث مسائل:
أما التمهيد فهو أن الحكم عندنا عبارة عن خطاب الشرع إذا تعلق بأفعال المكلفين
فالحرام هو المقول فيه إتركوه ولا تفعلوه والواجب هو المقول فيه إفعلوه
ولا تتركوه والمباح هو المقول فيه إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه
فإن لم يوجد هذا الخطاب من الشارع فلا حكم فلهذا قلنا العقل لا يحسن
ولا يقبح ولا يوجب شكر المنعم ولا حكم للأفعال قبل ورود الشرع .
فلنرسم كل مسألة برأسها
مسألة[حسن الأفعال]
الحسن والقبح في الفعل ذهبت المعتزلة إلى أن
الأفعال تنقسم إلى حسنة وقبيحة فمنها ما يدرك بضرورة العقل كحسن إنقاذ
الغرقى والهلكى وشكر المنعم ومعرفة حسن الصدق وكقبح الكفران وإيلام
البريء والكذب الذي لا غرض فيه ومنها ما يدرك بنظر العقل كحسن الصدق
الذي فيه ضرر وقبح الكذب الذي فيه نفع ومنها ما يدرك بالسمع كحسن
الصلاة والحج وسائر العبادات وزعموا أنها متميزة بصفة ذاتها عن غيرها
بما فيها من اللطف المانع من الفحشاء الداعي إلى الطاعة لكن العقل لا
يستقل بدركه
فنقول: قول القائل: هذا حسن وهذا قبيح لا يحس
بفهم معناه ما لم يفهم معنى الحسن والقبح فإن الاصطلاحات في إطلاق لفظ
الحسن والقبح مختلفة فلا
ج / 1 ص -113-
بد من تلخيصها
والاصطلاحات فيه ثلاثة:
الأول الاصطلاح المشهور العامي
:وهو أن الأفعال تنقسم إلى ما يوافق غرض الفاعل وإلى ما يخالفه وإلى ما
لا يوافق ولا يخالف فالموافق يسمى حسنا والمخالف يسمى قبيحا والثالث
يسمى عبثا
وعلى هذا الاصطلاح إذا كان الفعل موافقا لشخص
مخالفا لآخر فهو حسن في حق من وافقه قبيح في حق من خالفه حتى أن قتل
الملك الكبير يكون حسنا في حق أعدائه قبيحا في حق أوليائه
وهؤلاء لا يتحاشون عن تقبيح فعل الله تعالى إذا
خالف غرضهم ولذلك يسبون الدهر والفلك ويقولون خرب الفلك وتعس الدهر وهم
يعلمون أن الفلك مسخر ليس إليه شيء ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "لا
تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" فإطلاق اسم الحسن والقبح على الأفعال
عند هؤلاء كإطلاقه على الصور فمن مال طبعه إلى صورة أو صوت شخص قضى
بحسنه ومن نفر طبعه عن شخص استقبحه ورب شخص ينفر عنه طبع ويميل إليه
طبع فيكون حسنا في حق هذا قبيحا في حق ذاك حتى يستحسن سمرة اللون جماعة
ويستقبحها جماعة فالحسن والقبح عند هؤلاء عبارة عن الموافقة والمنافرة
وهما أمران إضافيان لا كالسواد والبياض إذ لا يتصور أن يكون الشيء أسود
في حق زيد أبيض في حق عمرو
الاصطلاح الثاني: التعبير بالحسن
عما حسنه الشرع بالثناء على فاعله فيكون فعل الله تعالى حسنا في كل حال
خالف الغرض أو وافقه ويكون المأمور به شرعا ندبا كان أو إيجابا حسنا
والمباح لا يكون حسنا
الاصطلاح الثالث :التعبير بالحسن
عن كل ما لفاعله أن يفعله فيكون المباح حسنا مع المأمورات وفعل الله
يكون حسنا بكل حال
ج / 1 ص -114-
وهذه المعاني الثلاثة كلها أوصاف إضافية وهي
معقولة ولا حجر على من يجعل لفظ الحسن عبارة عن شيء منها فلا مشاحة في
الألفاظ فعلى هذا إذا لم يرد الشرع لا يتميز فعل عن غيره إلا بالموافقة
والمخالفة ويختلف ذلك بالإضافات ولا يكون صفة للذات.
فإن قيل نحن لا ننازعكم في هذه الأمور الإضافية
ولا في هذه الاصطلاحات التي تواضعتم عليها ولكن ندعي الحسن والقبح وصفا
ذاتيا للحسن والقبيح مدركا بضرورة العقل في بعض الأشياء كالظلم والكذب
والكفران والجهل ولذلك لا نجوز شيئا من ذلك على الله تعالى لقبحه
ونحرمه على كل عاقل قبل ورود الشرع لأنه قبيح لذاته وكيف ينكر ذلك
والعقلاء بأجمعهم متفقون على القضاء به من غير إضافة إلى حال دون حال ؟
قلنا: أنتم منازعون فيما ذكرتموه في ثلاثة أمور :
أحدها :في كون القبح وصفا ذاتيا
والثاني: في قولكم أن ذلك مما
يعلمه العقلاء بالضرورة
والثالث: في ظنكم أن العقلاء لو
توافقوا عليه لكان ذلك حجة مقطوعا بها ودليلا على كونه ضروريا.
أما الأول: وهو دعوى كونه وصفا
ذاتيا فهو تحكم بما لا يعقل فإن القتل عندهم قبيح لذاته بشرط أن لا
تسبقه جناية ولا يعقبه عوض حتى جاز إيلام البهائم وذبحها ولم يقبح من
الله تعالى ذلك لأنه يثيبها عليه في الآخرة والقتل في ذاته له حقيقة
واحدة لا تختلف بأن تتقدمه جناية أو تتعقبه لذة إلا من حيث الإضافة إلى
الفوائد والأغراض وكذلك الكذب كيف يكون قبحه ذاتيا ولو كان فيه عصمة دم
نبي بإخفاء مكانه عن ظالم يقصد قتله لكان حسنا بل واجبا يعصى بتركه
والوصف الذاتي كيف يتبدل بالإضافة إلى الأحوال
وأما الثاني :وهو كونه مدركا
بالضرورة وكيف يتصور ذلك ونحن ننازعكم فيه والضروري لا ينازع فيه خلق
كثير من العقلاء وقولكم أنكم مضطرون إلى المعرفة وموافقون عليه ولكنكم
تظنون أن مستند معرفتكم السمع كما ظن الكعبي أن مستند علمه بخبر
التواتر النظر ولا يبعد التباس مدرك العلم
ج / 1 ص -115-
وإنما يبعد الخلاف في نفس المعرفة ولا خلاف
فيها
قلنا :هذا كلام فاسد لأنا نقول يحسن من الله
تعالى إيلام البهائم ولا نعتقد لها جريمة ولا ثوابا فدل أنا ننازعكم في
نفس العلم
وأما الثالث: فهو أنا لو سلمنا
اتفاق العقلاء على هذا أيضا لم تكن فيه حجة إذ لم يسلم كونهم مضطرين
إليه بل يجوز أن يقع الاتفاق منهم على ما ليس بضروري فقد اتفق الناس
على إثبات الصانع وجواز بعثه الرسل ولم يخالف إلا الشواذ فلو اتفق أن
ساعدهم الشواذ لم يكن ذلك ضروريا فكذلك اتفاق الناس على هذا الاعتقاد
يمكن أن يكون بعضه عن دليل السمع الدال على قبح هذه الأشياء وبعضه عن
تقليد مفهوم من الآخذين عن السمع وبعضه عن الشبهة التي وقعت لأهل
الضلال فالتئام الإتفاق من هذه الأسباب لا يدل على كونه ضروريا فلا يدل
على كونه حجة لولا منع السمع عن تجويز الخطأ على كافة هذه الأمة خاصة
إذ لا يبعد اجتماع الكافة على الخطأ عن تقليد وعن شبهة وكيف وفي
الملحدة من لا يعتقد قبح هذه الأشياء ولا حسن نقائضها فكيف يدعى اتفاق
العقلاء ؟
احتجوا بأنا نعلم قطعا أن من استوى عنده الصدق
والكذب آثر الصدق ومال إليه إن كان عاقلا وليس ذلك إلا لحسنه وإن الملك
العظيم المستولي على الأقاليم إذا رأى ضعيفا مشرفا على الهلاك يميل إلى
إنقاذه وإن كان لا يعتقد أصل الدين لينتظر ثوابا ولا ينتظر منه أيضا
مجازاة وشكرا ولا يوافق ذلك أيضا غرضه بل ربما يتعب به بل يحكم العقلاء
بحسن الصبر على السيف إذا أكره على كلمة الكفر أو على إفشاء السر ونقض
العهد وهو على خلاف غرض المكره
وعلى الجملة: استحسان مكارم الأخلاق وإفاضة النعم
مما لا ينكره عاقل إلا عن عناد
ج / 1 ص -116-
والجواب أنا لا ننكر اشتهار هذه القضايا بين
الخلق وكونها محمودة مشهورة ولكن مستندها إما التدين بالشرائع وإما
الأغراض ونحن إنما ننكر هذا في حق الله تعالى لانتفاء الأغراض عنه فأما
إطلاق الناس هذه الألفاظ فيما يدور بينهم فيستمر من الأغراض ولكن قد
تدق الأغراض وتخفى فلا يتنبه لها إلا المحققون
ونحن ننبه على مثارات الغلط فيه وهي ثلاث مثارات
يغلط الوهم فيها
الغلطة الأولى: إن الإنسان يطلق
اسم القبح على ما يخالف غرضه وإن كان يوافق غرض غيره من حيث إنه لا
يلتفت إلى الغير فإن كل طبع مشغوف بنفسه ومستحقر لغيره فيقضي بالقبح
مطلقا وربما يضيف القبح إلى ذات الشيء ويقول هو بنفسه قبيح فيكون قد
قضى بثلاثة أمور هو مصيب في واحد منها وهو أصل الاستقباح ومخطىء في
أمرين أحدهما إضافة القبح إلى ذاته إذ غفل عن كونه قبيحا لمخالفة غرضه
والثاني حكمه بالقبح مطلقا ومنشؤه عدم الالتفات إلى غيره بل عدم
الالتفات إلى بعض أحوال نفسه فإنه قد يستحسن في بعض الأحوال عين ما
يستقبحه إذا اختلف الغرض
الغلطة الثانية: أن ما هو مخالف
للغرض في جميع الأحوال إلا في حالة واحدة نادرة قد لا يلتفت الوهم إلى
تلك الحالة النادرة بل لا يخطر بالبال فيراه مخالفا في كل الأحوال
فيقضي بالقبح مطلقا لاستيلاء أحوال قبحه على قلبه وذهاب الحالة النادرة
عن ذكره كحكمه على الكذب بأنه قبيح مطلقا وغفلته عن الكذب الذي تستفاد
به عصمة دم نبي أو ولي وإذا قضى بالقبح مطلقا واستمر عليه مدة وتكرر
ذلك على سمعه ولسانه انغرس في نفسه استقباح منفر فلو وقعت تلك الحالة
النادرة وجد في نفسه نفرة عنه لطول نشوه على الاستقباح فإنه ألقي إليه
منذ الصبا على سبيل التأديب والإرشاد أن الكذب قبيح لا ينبغي أن يقدم
عليه أحد ولا ينبه على حسنه في
ج / 1 ص -117-
بعض الأحوال خيفة من أن لا تستحكم نفرته عن
الكذب فيقدم عليه وهو قبيح في أكثر الأحوال والسماع في الصغر كالنقش في
الحجر فينغرس في النفس ويحن إلى التصديق به مطلقا وهو صدق لكن لا على
الإطلاق بل في أكثر الأحوال وإذا لم يكن في ذكره إلا أكثر الأحوال فهو
بالإضافة إليه كل الأحوال فلذلك يعتقده مطلقا
الغلطة الثالثة: سببها سبق
الوهم إلى العكس فإن ما يرى مقرون بالشيء يظن أن الشيء أيضا لا محالة
مقرون به مطلقا ولا يدري أن الأخص أبدا مقرون بالأعم والأعم لا يلزم أن
يكون مقرونا بالأخص ومثاله نفرة نفس السليم وهو الذي نهشته الحية عن
الحبل المبرقش اللون لأنه وجد الأذى مقرونا بهذه الصورة فتوهم أن هذه
الصورة مقرونة بالأذى
وكذلك تنفر النفس عن العسل إذا شبه بالعذرة لأنه
وجد الأذى والاستقذار مقرونا بالرطب الأصفر فتوهم أن الرطب الأصفر
مقرون به الاستقذار ويغلب الوهم حتى يتعذر الأكل وإن حكم العقل بكذب
الوهم لكن خلقت قوى النفس مطيعة للأوهام وإن كانت كاذبة حتى أن الطبع
لينفر عن حسناء سميت باسم اليهود إذ وجد الاسم مقرونا بالقبح فظن أن
القبح أيضا ملازم للاسم
ولذا تورد على بعض العوام مسألة عقلية جليلة
فيقبلها فإذا قلت هذا مذهب الأشعري أو الحنبلي أو المعتزلي نفر عنه إن
كان يسيء الاعتقاد فيمن نسبته إليه وليس هذا طبع العامي خاصة بل طبع
أكثر العقلاء المتسمين بالعلوم إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله
الحق حقا وقواهم على اتباعه وأكثر الخلق قوى نفوسهم مطيعة للأوهام
الكاذبة مع علمهم بكذبها وأكثر إقدام الخلق وإحجامهم بسبب هذه الأوهام
فإن الوهم عظيم الاستيلاء على النفس ولذلك ينفر طبع الإنسان عن المبيت
في بيت فيه ميت مع قطعه بأنه لا يتحرك ولكنه كأنه يتوهم في كل ساعة
حركته ونطقه
ج / 1 ص -118-
فإذا
تنبهت لهذه المثارات فنرجع ونقول إنما يترجح الإنقاذ على الإهمال في حق
من لا يعتقد الشرائع لدفع الأذى الذي يلحق الإنسان من رقة الجنسية وهو
طبع يستحيل الانفكاك عنه
وسببه أن الإنسان يقدر نفسه في تلك البلية ويقدر غيره معرضا عنه وعن
إنقاذه فيستقبحه منه بمخالفة غرضه فيعود ويقدر ذلك الاستقباح من المشرف
على الهلاك في حق نفسه فيدفع عن نفسه ذلك القبح المتوهم
فإن فرض في بهيمة أو في شخص لا رقة فيه فهو بعيد تصوره
ولو تصور فيبقى أمر آخر وهو طلب الثناء على إحسانه
فإنه فرض حيث لا يعلم أنه المنقذ فيتوقع أن يعلم فيكون ذلك التوقع
باعثا فإن فرض في موضع يستحيل أن يعلم فيبقى ميل النفس وترجح يضاهي
نفرة طبع السليم عن الحبل المبرقش وذلك أنه رأى هذه الصورة مقرونة
بالثناء فظن أن الثناء مقرون بها بكل حال كما أنه لما رأى الأذى مقرونا
بصورة الحبل وطبعه ينفر عن الأذى فنفر عن المقرون بالأذى فالمقرون
باللذيذ لذيذ والمقرون بالمكروه مكروه بل الإنسان إذا جالس من عشقه في
مكان فإذا انتهى إليه أحس في نفسه تفرقة بين ذلك المكان وغيره ولذلك
قال الشاعر
أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما تلك الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
وقال ابن الرومي منبها
على سبب حب الأوطان
وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
وشواهد ذلك مما يكثر وكل
ذلك من حكم الوهم
وأما الصبر على السيف في ترك كلمة الكفر مع طمأنينة النفس فلا يستحسنه
جميع العقلاء لولا الشرع بل ربما استقبحوه وإنما استحسنه من ينتظر
الثواب
ج / 1 ص -119-
على الصبر أو من ينتظر الثناء عليه بالشجاعة
والصلابة في الدين وكم من شجاع يركب متن الخطر ويتهجم على عددهم أكثر
منه وهو يعلم أنه لا يطيقهم ويستحقر ما يناله من الألم لما يعتاضه من
توهم الثناء والحمد ولو بعد موته وكذلك إخفاء السر وحفظ العهد إنما
تواصى الناس بهما لما فيهما من المصالح وأكثروا الثناء عليهما فمن
يحتمل الضرر فيه فإنما يحتمله لأجل الثناء فإن فرض حيث لا ثناء فقد وجد
مقرونا بالثناء فيبقى ميل الوهم إلى المقرون باللذيذ وإن كان خاليا عنه
فإن فرض من لا يستولي عليه هذا الوهم ولا ينتظر
الثواب والثناء فهو مستقبح للسعي في هلاك نفسه بغير فائدة ويستحمق من
يفعل ذاك قطعا فمن يسلم أن مثل هذا يؤثر الهلاك على الحياة ؟!
وعلى هذا يجري الجواب عن الكذب وعن جميع ما
يفرضونه
ثم نقول: نحن لا ننكر أن أهل العادة يستقبح
بعضهم من بعض الظلم والكذب وإنما الكلام في القبح والحسن بالإضافة إلى
الله تعالى ومن قضى به فمستنده قياس الغائب على الشاهد وكيف يقيس
والسيد لو ترك عبيده وإماءه وبعضهم يموج في بعض ويرتكبون الفواحش وهو
مطلع عليهم وقادر على منعهم لقبح منه وقد فعل الله تعالى ذلك بعباده
ولم يقبح منه وقولهم أنه تركهم لينزجروا بأنفسهم فيستحقوا الثواب هوس
لأنه علم أنهم لا ينزجرون فليمنعهم قهرا فكم من ممنوع عن الفواحش بعنة
أو عجز وذلك أحسن من تمكينهم مع العلم لأنهم لا ينزجرون
ج / 1 ص -120-
مسألة :[شكر الخالق لا يجب شكر المنعم عقلا]
مسألة شكر الخالق لا يجب شكر المنعم عقلا خلافا
للمعتزلة ودليله أن لا معنى للواجب إلا ما أوجبه الله تعالى وأمر به
وتوعد بالعقاب على تركه فإذا لم يرد خطاب فأي معنى للوجوب؟!
ثم تحقيق القول فيه أن العقل لا يخلو إما أن
يوجب ذلك لفائدة أو لا لفائدة ومحال أن يوجب لا لفائدة فإن ذلك عبث
وسفه وإن كان لفائدة فلا يخلو إما أن ترجع إلى المعبود وهو محال إذ
يتعالى ويتقدس عن الأغراض أو إلى العبد وذلك لا يخلو إما أن تكون في
الدنيا أو في الآخرة ولا فائدة له في الدنيا بل يتعب بالنظر والفكر
والمعرفة والشكر ويحرم به عن الشهوات واللذات ولا فائدة له في الآخرة
فإن الثواب تفضل من الله يعرف بوعده وخبره فإذا لم يخبر عنه فمن أين
يعلم أنه يثاب عليه
فإن قيل: يخطر له أنه إن كفر وأعرض ربما يعاقب
والعقل يدعو إلى سلوك طريق الأمن
قلنا: لا بل العقل يعرف طريق الأمن ثم الطبع
يستحث على سلوكه إذ كل إنسان مجبول على حب نفسه وعلى كراهة الألم فقد
غلطتم في قولكم :أن العقل داع بل العقل هاد والبواعث والدواعي تنبعث من
النفس تابعة لحكم العقل وغلطتم أيضا في قولكم أنه يثاب على جانب الشكر
والمعرفة خاصة لأن هذا الخاطر مستنده توهم غرض في جانب الشكر يتميز به
عن الكفر وهما متساويان بالإضافة إلى جلال الله تعالى بل إن فتح باب
الأوهام فربما يخطر له أن الله يعاقبه لو شكره ونظر فيه لأنه أمده
بأسباب النعم فلعله خلقه ليترفه وليتمتع فإتعابه نفسه تصرف في مملكته
بغير إذنه
ولهم شبهتان:
ج / 1 ص -121-
إحداهما
:قولهم إتفاق العقلاء على حسن الشكر وقبح الكفران لا سبيل إلى
إنكاره وذلك مسلم لكن في حقهم لأنهم يهتزون ويرتاحون للشكر ويغتمون
بالكفران والرب تعالى يستوي في حقه الأمران فالمعصية والطاعة في حقه
سيان.
ويشهد له أمران أحدهما أن المتقرب إلى السلطان
بتحريك أنملته في زاوية بيته وحجرته مستهين بنفسه وعبادة العباد
بالنسبة إلى جلال الله دونه في الرتبة.
والثاني :أن من تصدق عليه
السلطان بكسرة خبز في مخمصة فأخذ يدور في البلاد وينادي على رؤوس
الأشهاد بشكره كان ذلك بالنسبة إلى الملك قبيحا وافتضاحا وجملة نعم
الله تعالى على عباده بالنسبة إلى مقدوراته دون ذلك بالنسبة إلى خزائن
الملك لأن خزانة الملك تفنى بأمثال تلك الكسرة لتناهيها ومقدورات الله
تعالى لا تتناهى بأضعاف ما أفاضه على عباده
الشبهة الثانية: قولهم حصر مدارك
الوجوب في الشرع يفضي إلى إفحام الرسل فإنهم إذا أظهروا المعجزات قال
لهم المدعوون لا يجب علينا النظر في معجزاتكم إلا بالشرع ولا يستقر
الشرع إلا بنظرنا في معجزاتكم فثبتوا علينا وجوب النظر حتى ننظر ولا
نقدر على ذلك ما لم ننظر فيؤدي إلى الدور
والجواب من وجهين:
أحدهما: من حيث التحقيق وهو أنكم
غلطتم في ظنكم بنا أنا نقول استقرار الشرع موقوف على نظر الناظرين بل
إذا بعث الرسول وأيد بمعجزته بحيث يحصل بها إمكان المعرفة لو نظر
العاقل فيها فقد ثبت الشرع واستقر ورود الخطاب بإيجاب النظر إذ لا معنى
للواجب إلا ما ترجح فعله على تركه
ج / 1 ص -122-
بدفع ضرر معلوم أو موهوم فمعنى الوجوب رجحان
الفعل على الترك والموجب هو المرجح والله تعالى هو المرجح وهو الذي عرف
رسوله وأمره أن يعرف الناس أن الكفر سم مهلك والمعصية داء والطاعة شفاء
فالمرجح هو الله تعالى والرسول هو المخبر والمعجزة سبب يمكن العاقل من
التوصل إلى معرفة الترجيح والعقل هو الآلة التي بها يعرف صدق المخبر عن
الترجيح والطبع المجبول على التألم بالعذاب والتلذذ بالثواب هو الباعث
المستحث على الحذر من الضرر وبعد ورود الخطاب حصل الإيجاب الذي هو
الترجيح وبالتأييد بالمعجزة حصل الإمكان في حق العاقل الناظر إذ قدر به
على معرفة الرجحان
فقوله: لا أنظر ما لم أعرف ولا أعرف ما لم أنظر
مثاله ما لو قال الأب لولده التفت فإن وراءك سبعا عاديا هوذا يهجم عليك
إن غفلت عنه فيقول لا ألتفت ما لم أعرف وجوب الإلتفات ولا يجب الإلتفات
ما لم أعرف السبع ولا أعرف السبع ما لم ألتفت فيقول له لا جرم تهلك
بترك الالتفات وأنت غير معذور لأنك قادر على الإلتفات وترك العناد
فكذلك النبي يقول الموت وراءك ودونه الهوام المؤذية والعذاب الأليم إن
تركت الإيمان والطاعة وتعرف ذلك بأدنى نظر في معجزتي فإن نظرت وأطعت
نجوت وإن غفلت وأعرضت فالله تعالى غني عنك وعن عملك !وإنما أضررت بنفسك
فهذا أمر معقول لا تناقض فيه
الجواب الثاني :المقابلة بمذهبهم
فإنهم قضوا بأن العقل هو الموجب وليس يوجب بجوهره إيجابا ضروريا لا
ينفك منه أحد إذ لو كان كذلك لم يخل عقل عاقل عن معرفة الوجوب بل لا بد
من تأمل ونظر ولو لم ينظر لم يعرف وجوب النظر وإذا لم يعرف وجوب النظر
فلا ينظر فيؤدي أيضا إلى الدور كما سبق فإن قيل العاقل لا يخلو عن
خاطرين يخطران له أحدهما أنه إن نظر وشكر أثيب والثاني أنه إن ترك
النظر عوقب فيلوك له على القرب وجوب سلوك طريق الأمن
ج / 1 ص -123-
قلنا: كم من عاقل انقضى عليه الدهر ولم يخطر
له هذا الخاطر بل قد يخطر له أنه لا يتميز في حق الله تعالى أحدهما عن
الآخر فكيف أعذب نفسي بلا فائدة ترجع إلي ولا إلى المعبود؟
ثم إن كان عدم الخلو عن الخاطر كافيا في التمكين
من المعرفة فإذا بعث النبي ودعا وأظهر المعجزة كان حضور هذه الخواطر
أقرب بل لا ينفك عن هذا الخاطر بعد إنذار النبي وتحذيره ونحن لا ننكر
أن الإنسان إذا استشعر المخافة استحثه طبعه على الاحتراز فإن الاستشعار
إنما يكون بالتأمل الصادر عن العقل فإن سمى مسم معترف الوجوب موجبا فقد
تجوز في الكلام بل الحق الذي لا مجاز فيه أن الله موجب أي مرجح للفعل
على الترك والنبي مخبر والعقل معرف والطبع باعث والمعجزة ممكنة من
التعريف والله تعالى أعلم
مسألة:[حكم الأفعال قبل ورود الشرع]
على الإباحة ذهب جماعة من المعتزلة إلى أن
الأفعال قبل ورود الشرع على الإباحة وقال بعضهم على الحظر وقال بعضهم
على الوقف ولعلهم أرادوا بذلك فيما لا يقضي العقل فيه بتحسين ولا تقبيح
ضرورة أو نظرا كما فصلناه من مذهبهم.
وهذه المذاهب كلها باطلة.
[الرد على مذهب القائلين بأن الأصل الإباحة]
أما إبطال مذهب الإباحة فهو أنا نقول المباح
يستدعي مبيحا كما يستدعي العلم والذكر ذاكرا وعالما والمبيح هو الله
تعالى إذا خير بين الفعل والترك بخطابه فإذا لم يكن خطاب لم يكن تخيير
فلم تكن إباحة
وإن عنوا بكونه مباحا أنه لا حرج في فعله ولا
تركه فقد أصابوا في المعنى وأخطأوا في اللفظ فإن فعل البهيمة والصبي
والمجنون لا يوصف بكونه مباحا وإن لم يكن في فعلهم وتركهم حرج والأفعال
في حق الله تعالى أعني ما يصدر من الله لا توصف بأنها مباحة ولا حرج
عليه في تركها لكنه انتفى التخيير من المخير انتفت الإباحة
ج / 1 ص -124-
فإن استجرأ مستجرىء على إطلاق اسم المباح
على أفعال الله تعالى ولم يرد به إلا نفي الحرج فقد أصاب في المعنى وإن
كان لفظه مستكرها
فإن قيل: العقل هو المبيح لأنه خير بين فعله
وتركه إذ حرم القبيح وأوجب الحسن وخير فيما ليس بحسن ولا قبيح
قلنا: تحسين العقل وتقبيحه قد أبطلناه وهذا مبني
عليه فيبطل ثم تسمية العقل مبيحا مجاز كتسميته موجبا فإن العقل يعرف
الترجيح ويعرف انتفاء الترجيح ويكون معنى وجوبه رجحان فعله على تركه
والعقل يعرف ذلك ومعنى كونه مباحا انتفاء الترجيح والعقل معرف لا مبيح
فإنه ليس بمرجح ولا مسو لكنه معرف للرجحان والاستواء
ثم نقول: بم تنكرون على أصحاب الوقف إذا أنكروا
استواء الفعل والترك وقالوا ما من فعل مما لا يحسنه العقل ولا يقبحه
إلا ويجوز أن يرد الشرع بإيجابه فيدل على أنه متميز بوصف ذاتي لأجله
يكون لطفا ناهيا عن الفحشاء داعيا إلى العبادة ولذلك أوجبه الله تعالى
والعقل لا يستقل بدركه ويجوز أن يرد الشرع بتحريمه فيدل على أنه متميز
بوصف ذاتي يدعو بسببه إلى الفحشاء لا يدركه العقل وقد استأثر الله
بعلمه هذا مذهبهم
ثم يقولون: بم تنكرون على أصحاب الحظر إذ قالوا
لا نسلم استواء الفعل وتركه فإن التصرف في ملك الغير بغير إذنه قبيح
والله تعالى هو المالك ولم يأذن
فإن قيل: لو كان قبيحا لنهى عنه وورد السمع به
فعدم ورود السمع دليل على انتفاء قبحه.
قلنا: لو كان حسنا لأذن فيه وورد السمع به فعدم
ورود السمع به دليل على انتفاء حسنه.
فإن قيل إذا أعلمنا الله تعالى أنه نافع ولا ضرر
فيه فقد أذن فيه
قلنا: فإعلام المالك إيانا أن طعامه نافع لا ضرر
فيه ينبغي أن يكون أذنا .
ج / 1 ص -125-
فإن قيل: المالك منا يتضرر والله لا يتضرر
فالتصرف في مخلوقاته بالإضافة إليه يجري مجرى التصرف في مرآة الإنسان
بالنظر فيها وفي حائطه بالاستظلال به وفي سراجه بالاستضاءة به
قلنا: لو كان قبح التصرف في ملك الغير لتضرره لا
لعدم أذنه لقبح وإن أذن إذا كان متضررا كيف ومنع المالك من المرآة
والظل والاستضاءة بالسراج قبيح وقد منع الله عباده من جملة من
المأكولات ولم يقبح فإن كان ذلك لضرر العبد فما من فعل إلا ويتصور أن
يكون فيه ضرر خفي لا يدركه العقل ويرد التوقيف بالنهي عنه
ثم نقول: قولكم أنه إذا كان لا يتضرر الباري
بتصرفنا فيباح فلم قلتم ذلك فإن نقل مرآة الغير من موضع إلى موضع وإن
كان لا يتضرر به صاحبها يحرم وإنما يباح النظر لأن النظر ليس تصرفا في
المرآة كما أن النظر إلى الله تعالى وإلى السماء ليس تصرفا في المنظور
فيه ولا في الاستظلال تصرف في الحائط ولا في الاستضاءة تصرف في السراج
فلو تصرف في نفس هذه الأشياء ربما يقضي بتحريمه إلا إذا دل السمع على
جوازه
فإن قيل: خلق الله تعالى الطعوم فيها والذوق دليل
على أنه أراد انتفاعنا بها فقد كان قادرا على خلقها عارية عن الطعوم
قلنا: الأشعرية وأكثر المعتزلة مطبقون على
استحالة خلوها عن الأعراض التي هي قابلة لها فلا يستقيم ذلك وإن سلم
فلعله خلقها لا لينتفع بها أحد بل خلق العالم بأسره لا لعلة أو لعله
خلقها ليدرك ثواب اجتنابها مع
ج / 1 ص -126-
الشهوة كما يثاب على ترك القبائح المشتهاة.
[الرد على القائلين بأن الأصل التحريم]:
وأما مذهب أصحاب الحظر فأظهر بطلانا إذ لا
يعرف حظرها بضرورة العقل ولا بدليله ومعنى الحظر ترجيح جانب الترك على
جانب الفعل لتعلق ضرر بجانب الفعل فمن أين يعلم ذلك ولم يرد سمع والعقل
لا يقضي به بل ربما يتضرر بترك اللذات عاجلا فكيف يصير تركها أولى من
فعلها وقولهم إنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه وهو قبيح فاسد لأنا لا
نسلم قبح ذلك لولا تحريم الشرع ونهيه ولو حكم فيه العادة فذلك يقبح في
حق من تضرر بالتصرف في ملكه بل القبيح المنع مما لا ضرر فيه
ثم قد بينا أن حقيقة درك القبح ترجع إلى مخالفة
الغرض وأن ذلك لا حقيقة له
[قول أصحاب الوقف]:
وأما مذهب الوقف إن أرادوا به أن الحكم موقوف
على ورود السمع ولا حكم في الحال فصحيح إذ معنى الحكم الخطاب ولا خطاب
قبل ورود السمع وإن أريد به أنا نتوقف فلا ندري أنها محظورة أو مباحة
فهو خطأ لأنا ندري أنه لا حظر إذ معنى الحظر قول الله تعالى لا تفعلوه
ولا إباحة إذ معنى الإباحة قوله: إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه ولم
يرد شيء من ذلك. |