المستصفى من علم الأصول، ط الرسالة ج / 1 ص -127-
الفن الثاني: في أقسام الأحكام
ويشتمل على تمهيد ومسائل خمس عشرة:
أما التمهيد:
فإن أقسام الأحكام الثابتة
لأفعال المكلفين خمسة الواجب والمحظور والمباح والمندوب
والمكروه
ووجه هذه القسمة أن خطاب الشرع إما
أن يرد باقتضاء الفعل أو اقتضاء الترك أو التخيير بين
الفعل والترك فإن ورد باقتضاء الفعل فهو أمر فإما أن يقترن
به الإشعار بعقاب على الترك فيكون واجبا ولا يقترن فيكون
ندبا والذي ورد باقتضاء الترك فإن أشعر بالعقاب على الفعل
فحظر وإلا فكراهية وإن ورد بالتخيير فهو مباح
ولا بد من ذكر حد كل واحد على الرسم
:
[حد الواجب]
فأما حد الواجب: فقد ذكرنا طرفا منه
في مقدمة الكتاب ونذكر الآن ما قيل فيه
فقال قوم: إنه الذي يعاقب على تركه
فاعترض عليه بأن الواجب قد يعفي عن
العقوبة على تركه ولا يخرج عن كونه واجبا لأن الوجوب ناجز
والعقاب منتظر
ج / 1 ص -128-
وقيل ما توعد بالعقاب على تركه
فاعترض عليه بأنه لو توعد لوجب تحقيق الوعيد فإن
كلام الله تعالى صدق ويتصور أن يعفي عنه ولا يعاقب
وقيل ما يخاف العقاب على تركه
وذلك يبطل بالمشكوك في تحريمه ووجوبه فإنه ليس
بواجب ويخاف العقاب على تركه
وقال القاضي أبو بكر رحمه الله الأولى في حده أن
يقال هو الذي يذم تاركه ويلام شرعا بوجه ما لأن الذم أمر ناجز والعقوبة
مشكوك فيها وقوله بوجه ما قصد أن يشمل الواجب المخير فإنه يلام على
تركه مع بدله والواجب الموسع فإنه يلام على تركه مع ترك العزم على
امتثاله
الفرق بين الواجب والفرض:
فإن قيل: فهل من فرق بين الواجب والفرض ؟
قلنا: لا فرق عندنا بينهما بل هما من الألفاظ
المترادفة كالحتم واللازم وأصحاب أبي حنيفة اصطلحوا على تخصيص اسم
الفرض بما يقطع بوجوبه وتخصيص اسم الواجب بما لا يدرك إلا ظنا ونحن لا
ننكر انقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون ولا حجر في الاصطلاحات بعد فهم
المعاني
ج / 1 ص -129-
هل يمكن تصور الايجاب من غير تهديد بالعقوبة على الترك؟
وقد قال القاضي لو أوجب الله علينا شيئا ولم يتوعد
بعقاب على تركه لوجب فالوجوب إنما هو بإيجابه لا بالعقاب
وهذا فيه نظر لأن ما استوى فعله وتركه في حقنا
فلا معنى لوصفه بالوجوب إذ لا نعقل وجوبا إلا بأن يترجح فعله على تركه
بالإضافة إلى أغراضنا فإذا انتفى الترجيح فلا معنى للوجوب أصلا
حد المحظور:
وإذا عرفت حد الواجب فالمحظور في مقابلته ولا
يخفى حده
حد المباح:
وأما حد المباح فقد قيل فيه ما كان تركه
وفعله سيين ويبطل بفعل الطفل والمجنون والبهيمة ويبطل بفعل الله تعالى
وكثير من أفعاله يساوي الترك في حقنا وهما في حق الله تعالى أبدا سيان
وكذلك الأفعال قبل ورود الشرع تساوي الترك ولايسمى شيء من ذلك مباحا بل
حده أنه الذي ورد الإذن من الله تعالى بفعله وتركه غير مقرون بذم فاعله
ومدحه ولا بذم تاركه ومدحه.
ويمكن أن يحد بأنه الذي عرف الشرع أنه لا ضرر
عليه في تركه ولا فعله ولا نفع من حيث فعله وتركه احترازا عما إذا ترك
المباح بمعصية،
ج / 1 ص -130-
فإنه يتضرر لا من حيث ترك المباح بل من يحث
ارتكاب المعصية .
حد المندوب:
وأما حد الندب فقيل فيه إنه الذي فعله خير من
تركه من غير ذم يلحق بتركه ويرد عليه الأكل قبل ورود الشرع فإنه خير من
تركه لما فيه من اللذة وبقاء الحياة
وقالت القدرية :هو الذي إذا فعله فاعله استحق
المدح ولا يستحق الذم بتركه ويرد عليه فعل الله تعالى فإنه لا يسمى
ندبا مع أنه يمدح على كل فعل ولا يذم
فالأصح في حده أنه المأمور به الذي لا يلحق الذم
بتركه من حيث هو ترك له من غير حاجة إلى بدل احترازا عن الواجب المخير
والموسع
حد المكروه:
وأما المكروه فهو لفظ مشترك في عرف الفقهاء بين
معاني
أحدها: المحظور فكثيرا ما يقول
الشافعي رحمه الله وأكره كذا وهو يريد التحريم
الثاني: ما نهي عنه نهي تنزيه
وهو الذي أشعر بأن تركه خير من فعله وإن لم يكن عليه عقاب كما أن الندب
هو الذي أشعر بأن فعله خير من تركه
الثالث: ترك ما هو الأولى وإن
لم ينه عنه كترك صلاة الضحى مثلا لا لنهي ورد عنه ولكن لكثرة فضله
وثوابه قيل فيه إنه مكروه تركه
الرابع: ما وقعت الريبة والشبهة
في تحريمه كلحم السبع وقليل النبيذ وهذا فيه نظر لأن من أداه اجتهاده
إلى تحريمه فهو عليه حرام، ومن أداه
ج / 1 ص -131-
اجتهاده إلى حله فلا معنى للكراهية فيه إلا
إذا كان من شبهة الخصم حزازة في نفسه ووقع في قلبه فقد قال صلى الله
عليه وسلم " الإثم حزاز القلب"
فلا يقبح إطلاق لفظ الكراهة لما فيه من خوف التحريم وإن كان غالب الظن
الحل ويتجه هذا على مذهب من يقول المصيب واحد فأما من صوب كل مجتهد
فالحل عنده مقطوع به إذا غلب على ظنه الحل
ج / 1 ص -132-
وإذا فرغنا من تمهيد الأقسام فلنذكر المسائل
المتشعبة عنها
مسألة: الواجب المعين والواجب المختبر :
مسألة الواجب ينقسم إلى معين وإلى مبهم بين
أقسام محصورة ويسمى واجبا مخيرا كخصلة من خصال الكفارة فإن الواجب من
جملتها واحد لا بعينه
وأنكرت المعتزلة ذلك وقالوا لا معنى للإيجاب مع
التخيير فإنهما متناقضان
ونحن ندعي أن ذلك جائز عقلا وواقع شرعا
أما دليل جوازه عقلا فهو أن السيد إذا قال لعبده
أوجبت عليك خياطة هذا القميص أو بناء هذا الحائط في هذا اليوم أيهما
فعلت اكتفيت به وأثبتك عليه وإن تركت الجميع عاقبتك ولست أوجب الجميع
وإنما أوجب واحدا لا بعينه أي واحد أردت فهذا كلام معقول ولا يمكن أن
يقال أنه لم يوجب عليه شيئا لأنه عرضه للعقاب بترك الجميع فلا ينفك عن
الوجوب ولا يمكن أن يقال أوجب الجميع فإنه صرح بنقيضه ولا يمكن أن يقال
أوجب واحدا بعينه من الخياطة أو البناء فإنه صرح بالتخيير فلا يبقى إلا
أن يقال الواجب واحد لا بعينه
وأما دليل وقوع شرعا فخصال الكفارة بل إيجاب
إعتاق الرقبة فإنه بالإضافة إلى أعيان العبيد مخير وكذلك تزويج البكر
الطالبة للنكاح من أحد الكفؤين الخاطبين واجب ولا سبيل إلى إيجاب الجمع
وكذلك عقد الإمامة لأحد الإمامين الصالحين للإمامة واجب والجمع محال
فإن قيل: الواجب جميع خصال الكفارة فلو تركها
عوقب على الجميع ولو أتى بجميعها وقع الجميع واجبا ولو أتى بواحد سقط
عنه الآخر وقد يسقط الواجب بأسباب دون الأداء وذلك غير محال
قلنا: هذا لا يطرد في الإمامين والكفؤين فإن
الجمع فيه حرام فكيف
ج / 1 ص -133-
يكون الكل واجبا؟! ثم هو خلاف الإجماع في
خصال الكفارة إذ الأمة مجمعة على أن الجميع غير واجب
واحتجوا بأن الخصال الثلاث: إن كانت متساوية
الصفات عند الله تعالى بالإضافة إلى صلاح العبد فينبغي أن يجب الجميع
تسوية بين المتساويات وأن تميز بعضها بوصف يقتضي الإيجاب فينبغي أن
يكون هو الواجب ولا يجعل مبهما بغيره كيلا يلتبس بغيره
قلنا: ومن سلم لكم أن للأفعال أوصافا في ذواتها
لأجلها يوجبها الله تعالى بل الإيجاب إليه وله أن يعين واحدة من الثلاث
المتساويات فيخصصها بالإيجاب دون غيرها وله أن يوجب واحدا لا بعينه
ويجعل مناط التعيين اختيار المكلف لفعله حتى لا يتعذر عليه الامتثال
احتجوا بأن الواجب هو الذي يتعلق به الإيجاب
وإذا كان الواجب واحدا من الخصال الثلاث علم الله تعالى ما تعلق به
الإيجاب فيتميز ذلك في علمه فكان هو الواجب
قلنا: إذا أوجب واحدا لا بعينه فإنا نعلمه غير
معين ولو خاطب السيد عبده بأني أوجبت عليك الخياطة أو البناء فكيف
يعلمه الله تعالى ولا يعلمه إلا على ما هو عليه من نعته ونعته أنه غير
معين فيعلمه غير معين كما هو عليه وهذا التحقيق وهو أن الواجب ليس له
وصف ذاتي من تعلق الإيجاب به وإنما هو إضافة إلى الخطاب والخطاب بحسب
النطق والذكر وخلق السواد في أحد الجسمين لا بعينه وخلق العلم في أحد
الشخصين لا بعينه غير ممكن فأما ذكر واحد من اثنين لا على التعيين
فممكن كمن يقول لزوجتيه إحداكما طالق فالإيجاب قول يتبع النطق
فإن قيل :الموجب طالب ومطلوبه لا بد أن يتميز
عنده
قلنا: يجوز أن يكون طلبه متعلقا بأحد أمرين كما
تقول المرأة زوجني من
ج / 1 ص -134-
أحد الخاطبين أيهما كان وأعتق رقبة من هذه
الرقاب أيها كانت وبايع أحد هذين الإمامين أيهما كان فيكون المطلوب
أحدهما لا بعينه وكل ما تصور طلبه تصور إيجابه
فإن قيل: أن الله سبحانه يعلم ما سيأتي به
المكلف ويتأدى به الواجب فيكون معينا في علم الله تعالى ؟
قلنا: يعلمه الله تعالى غير معين ثم يعلم أنه
يتعين بفعله ما لم يكن متعينا قبل فعله ثم لو أتى بالجميع أو لم يأت
بالجميع فكيف يتعين واحد في علم الله تعالى فإن قيل فلم لا يجوز أن
يوجب على أحد شخصين لا بعينه ولم قلتم بأن فرض الكفاية على الجميع مع
أن الوجوب يسقط بفعل واحد ؟
قلنا: لأن الوجوب يتحقق بالعقاب ولا يمكن عقاب
أحد الشخصين لا بعينه ويجوز أن يقال أنه يعاقب على أحد الفعلين لا
بعينه
مسألة: الواجب المضيق والواجب الموسع
مسألة أصناف الواجب من حيث الوقت الواجب ينقسم
بالإضافة إلى الوقت إلى مضيق وموسع
وقال قوم: التوسع يناقض الوجوب وهو باطل عقلا
وشرعا
أما العقل فإن السيد إذا قال لعبده خط هذا الثوب
في بياض هذا النهار إما في أوله أو في أوسطه أو في آخره كيفما أردت
فمهما فعلت فقد امتثلت إيجابي فهذا معقول ولا يخلو إما أن يقال لم يوجب
شيئا أصلا أو أوجب شيئا مضيقا وهما محالان فلم يبق إلا أنه أوجب موسعا
وأما الشرع فالإجماع منعقد على وجوب الصلاة عند
الزوال وأنه مهما صلى كان مؤديا للفرض وممتثلا لأمر الأيجاب مع أنه لا
تضييق
فإن قيل: حقيقة الواجب ما لا يسع تركه بل يعاقب
عليه والصلاة والخياطة إن أضيفا إلى آخر الوقت فيعاقب على تركه فيكون
وجوبه في آخر الوقت أما قبله فيتخير بين فعله وتركه وفعله خير من تركه
وهذا حد الندب
قلنا :كشف الغطاء عن هذا أن الأقسام في العقل
ثلاثة :فعل لا عقاب على
ج / 1 ص -135-
تركه مطلقا وهو الندب وفعل يعاقب على تركه
مطلقا وهو الواجب وفعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت ولكن
لا يعاقب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت وهذا قسم ثالث فيفتقر إلى عبارة
ثالثة وحقيقته لا تعدو الندب والوجوب فأولى الألقاب به الواجب الموسع
أو الندب الذي لا يسع تركه وقد وجدنا الشرع يسمي هذا القسم واجبا بدليل
انعقاد الإجماع على نية الفرض في ابتداء وقت الصلاة وعلى أنه يثاب على
فعله ثواب الفرض لا ثواب الندب
فإذا الأقسام الثلاثة لا ينكرها العقل والنزاع
يرجع إلى اللفظ والذي ذكرناه أولى
فإن قيل ليس هذا قسما ثالثا بل هو بالإضافة إلى
أول الوقت ندب إذ يجوز تركه وبالإضافة إلى آخر الوقت حتم إذ لا يسع
تأخيره عنه وقولكم أنه ينوي الفرض فمسلم لكنه فرض بمعنى أنه يصير فرضا
كمعجل الزكاة ينوي فرض الزكاة ويثاب ثواب معجل الفرض لا ثواب الندب ولا
ثواب الفرض الذي ليس بمعجل
قلنا :قولكم :أنه بالإضافة إلى أول الوقت يجوز
تأخيره فهو ندب خطأ إذ ليس هذا حد الندب بل الندب ما يجوز تركه مطلقا
وهذا لا يجوز تركه إلا بشرط وهو الفعل بعده أو العزم على الفعل وما جاز
تركه ببدل وشرط فليس بندب بدليل ما لو أمر بالإعتاق فإنه ما من عبد إلا
ويجوز له ترك اعتاقه لكن بشرط أن يعتق عبدا آخر وكذلك خصال الكفارة ما
من واحدة إلا ويجوز تركها لكن ببدل ولا يكون ندبا بل كما يسمى ذلك
واجبا مخيرا يسمى هذا واجبا غير مضيق وإذا كان حظ المعنى منه متفقا
عليه وهو الانقسام إلى الأقسام الثلاثة فلا معنى للمناقشة وما جاز تركه
بشرط يفارق ما لا يجوز تركه مطلقا وما يجوز تركه مطلقا فهو قسم ثالث
وأما ما ذكرتموه من أنه تعجيل للفرض فلذلك سمي
فرضا فمخالف للإجماع إذ يجب نية التعجيل في الزكاة وما نوى أحد من
السلف في الصلاة في أول الوقت إلا ما نواه في آخره ولم يفرقوا أصلا وهو
مقطوع به
ج / 1 ص -136-
فإن قيل: :قد قال قوم يقع نفلا ويسقط الفرض
عنده وقال قوم يقع موقوفا فإن بقي بنعت المكلفين إلى آخر الوقت تبين
وقوعه فرضا وإن مات أو جن وقع نفلا
قلنا: :لو كان يقع نفلا لجازت بنية النفل بل
استحال وجود نية الفرض من العالم بكونه نفلا إذ النية قصد يتبع العلم
والوقف باطل إذ الأمة مجمعة على أن من مات في وسط الوقت بعد الفراغ من
الصلاة مات مؤديا فرض الله تعالى كما نواه وأداه إذا قال نويت أداء فرض
الله تعالى
فإن قيل: بنيتم كلامكم على أن تركه جائز بشرط وهو
العزم على الامتثال أو الفعل وليس كذلك فإن الواجب المخير ما خير فيه
بين شيئين كخصال الكفارة وما خير الشرع بين فعل الصلاة والعزم ولأن
مجرد قوله صل في هذا الوقت ليس فيه تعرض للعزم فإيجابه زيادة على مقتضى
الصيغة ولأنه لو غفل وخلا عن العزم ومات في وسط الوقت لم يكن عاصيا.
قلنا: أما قولكم لو ذهل لا يكون عاصيا فمسلم
وسببه أن الغافل لا يكلف أما إذا لم يغفل عن الأمر فلا يلخو عن العزم
إلا بضده وهو العزم على الترك مطلقا وذلك حرام وما لا خلاص من الحرام
إلا به فهو واجب فهذا الدليل قد دل على وجوبه وإن لم يدل عليه مجرد
الصيغة من حيث وضع اللسان ودليل العقل أقوى من دلالة الصيغة
فإذا يرجع حاصل الكلام إلى أن الواجب الموسع
كالواجب المخير بالإضافة إلى أول الوقت وبالإضافة إلى آخره أيضا فإنه
لو أخلي عنه في آخره لم يعص إذا كان قد فعل في أوله
مسألة: حكم من توفي أثناء وقت الصلاة بعد العزم عليها
إذا مات في أثناء وقت الصلاة فجأة بعد العزم
على الامتثال لا يكون عاصيا
ج / 1 ص -137-
وقال بعض من أراد تحقيق معنى الوجوب أنه
يعصي وهو خلاف إجماع السلف فإنا نعلم أنهم كانوا لا يؤثمون من مات فجأة
بعد انقضاء مقدار أربع ركعات من وقت الزوال أو بعد انقضاء مقدار ركعتين
من أول الصبح وكانوا لا ينسبونه إلى تقصير ولا سيما إذا اشتغل بالوضوء
أو نهض إلى المسجد فمات في الطريق بل محال أن يعصي وقد جوز له التأخير
فمن فعل ما يجوز له كيف يمكن تعصيته؟
فإن قيل: جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة
قلنا: هذا محال فإن العاقبة مستورة عنه فإذا
سألنا وقال العاقبة مستورة عني وعلي صوم يوم وأنا أريد أن أؤخره إلى غد
فهل يحل لي التأخير مع الجهل بالعاقبة أم أعصي بالتأخير فلا بدل له من
جواب فإن قلنا لا يعصي فلم أثم بالموت الذي ليس إليه وإن قلنا يعصي فهو
خلاف الإجماع في الواجب الموسع وإن قلنا إن كان في علم الله تعالى أنك
تموت قبل الغد فأنت عاص وإن كان في علمه أن تحيا فلك التأخير فيقول وما
يدريني ماذا في علم الله فما فتواكم في حق الجاهل فلا بد من الجزم
بالتحليل أو التحريم
فإن قيل :فإن جاز تأخيره أبدا ولا يعصي إذا مات
فأي معنى لوجوبه؟
قلنا: تحقق الوجوب بأنه لم يجز التأخير إلا بشرط
العزم ولا يجوز العزم على التأخير إلا إلى مدة يغلب على ظنه البقاء
إليها كتأخيره الصلاة من ساعة إلى ساعة وتأخيره الصوم من يوم إلى يوم
مع العزم على التفرغ له في كل وقت وتأخيره الحج من سنة إلى سنة فلو عزم
المريض المشرف على الهلاك على التأخير شهرا أو الشيخ الضعيف على
التأخير سنين وغالب ظنه أنه لا يعيش إلى تلك المدة عصي بهذا التأخير
وإن لم يمت ووفق للعمل لكنه مأخوذ بموجب ظنه كالمعزر إذا ضرب ضربا يهلك
أو قاطع سلعة وغالب ظنه الهلاك أثم وإن سلم
ج / 1 ص -138-
ولهذا قال أبو حنيفة لا يجوز تأخير الحج لأن
البقاء إلى سنة لا يغلب على الظن وأما تأخير الصوم والزكاة إلى شهر
وشهرين فجائز لأنه لا يغلب على الظن الموت إلى تلك المدة
و الشافعي رحمة الله يرى البقاء إلى السنة
الثانية غالبا على الظن في حق الشاب الصحيح دون الشيخ والمريض
ثم المعزر إذا فعل ما غالب ظنه السلامة فهلك ضمن
لا لأنه آثم لكن لأنه أخطأ في ظنه والمخطىء ضامن غير آثم
مسألة: ما لا يتم الواجب إلا به
اختلفوا في أن ما لا يتم الوجب إلا به هل
يوصف بالوجوب ؟
والتحقيق في هذا أن هذا ينقسم إلى ما ليس إلى
المكلف كالقدرة على الفعل وكاليد في الكتابة وكالرجل في المشي فهذا لا
يوصف بالوجوب بل عدمه يمنع الإيجاب إلا على مذهب من يجوز تكليف ما لا
يطاق وكذلك تكليف حضور الإمام الجمعة وحضور تمام العدد فإنه ليس إليه
فلا يوصف بالوجوب بل يسقط بتعذره الواجب
وأما ما يتعلق باختيار العبد فينقسم إلى الشرط
الشرعي وإلى الحسي
فالشرعي كالطهارة في الصلاة يجب وصفها بالوجوب
عند وجوب الصلاة فإن إيجاب الصلاة إيجاب لما يصير به الفعل صلاة
وأما الحسي فكالسعي إلى الجمعة وكالمشي إلى الحج
وإلى مواضع المناسك فينبغي أن يوصف أيضا بالوجوب إذ أمر البعيد عن
البيت بالحج أمر بالمشي إليه لا محالة وكذلك إذا وجب غسل الوجه ولم
يمكن إلا بغسل جزء من الرأس وإذا وجب الصوم ولم يمكن إلا بالإمساك جزء
من الليل قبل الصبح فيوصف ذلك بالوجوب
ونقول: ما لا يتصول إلى الواجب إلا به وهو فعل
المكلف فهو واجب وهذا أولى من أن نقول يجب التوصل إلى الواجب بما ليس
بواجب إذ قولنا يجب فعل ما ليس بواجب متناقض وقولنا ما ليس بواجب صار
ج / 1 ص -139-
واجبا غير متناقض فإنه واجب لكن الأصل وجب
بالإيجاب قصدا إليه والوسيلة وجبت بواسطة وجوب المقصود وقد وجب كيفما
كان وإن كان علة وجوبه غير علة وجوب المقصود
فإن قيل :لو كان واجبا لكان مقدرا فما المقدار
الذي يجب غسله من الرأس وإمساكنه من الليل؟
قلنا: قد وجب التوصل به إلى الواجب وهو غير مقدر
بل يجب مسح الرأس ويكفي أقل ما ينطلق عليه الاسم وهو غير مقدر فكذلك
الواجب أقل ما يمكن به غسل الوجه وهذا التقدير كاف في الوجوب
فإن قيل :لو كان واجبا لكان يثاب على فعله
ويعاقب على تركه وتارك الوضوء لا يعاقب على ما تركه من غسل الرأس بل من
غسل الوجه وتارك الصوم لا يعاقب على ترك الإمساك ليلا
قلنا: ومن أنبأكم بذلك ؟ومن أين عرفتم أن ثواب
البعيد عن البيت لا يزيد على ثواب القريب في الحج؟ وأن من زاد عمله لا
يزيد ثوابه وإن كان بطريق التوصل؟ وأما العقاب فهو عقاب على ترك الصوم
والوضوء وليس يتوزع على أجزاء الفعل فلا معنى لإضافته إلى التفاصيل ؟
فإن قيل: لو قدر على الاقتصار على غسل الوجه لم
يعاقب
قلنا: هذا مسلم لأنه إنما يجب على العاجز أما
القادر فلا وجوب عليه
مسألة : حكم اختلاط المنكوحة بالأجنبية
قال قائلون: إذا اختلطت منكوحة بأجنبية وجب الكف
عنهما لكن الحرام هي الأجنبية والمنكوحة حلال ويجب الكف عنها
وهذا متناقض بل ليس الحرمة والحل وصفا ذاتيا لهما
بل هو متعلق بالفعل فإذا حرم فعل الوطء فيهما فأي معنى لقولنا وطء
المنكوحة حلال
ج / 1 ص -140-
ووطء الأجنبية حرام ؟!بل هما حرامان إحداهما
بعلة الأجنبية والأخرى بعلة الاختلاط بالأجنبية فالاختلاف في العلة لا
في الحكم وإنما وقع هذا في الأوهام من حيث ضاهى الوصف بالحل والحرمة
الوصف بالعجز والقدرة والسواد والبياض والصفات الحسية وذلك وهم نبهنا
عليه إذ ليست الأحكام صفات للأعيان أصلا بل نقول إذا اشتبهت رضيعة
بنساء بلدة فنكح واحدة حلت واحتمل أن تكون هي الرضيعة في علم الله
تعالى ولا نقول إنها ليست في علم الله تعالى زوجة له إذ لا معنى للزوجة
إلا من حل وطؤها بنكاح وهذه قد حل وطؤها فهي حلال عنده وعند الله تعالى
ولا نقول هي حرام عند الله تعالى وحلال عنده في ظنه بل إذا ظن الحل فهي
حلال عند الله تعالى وسيأتي تحقيق هذا في مسألة تصويب المجتهد
أما إذا قال لزوجتيه إحداكما طالق فيحتمل أن يقال
يحل وطؤها والطلاق غير واقع لأنه لم يعين له محلا فصار كما إذا باع أحد
عبديه ويحتمل أن يقال حرمتا جميعا فإنه لا يشترط تعيين محل الطلاق ثم
عليه التعيين وإليه ذهب أكبر الفقهاء والمتبع في ذلك موجب ظن المجتهد
أما المصير إلى أن إحداهما محرمة والأخرى منكوحة كما توهموه في اختلاط
المنكوحة بالأجنية فلا ينقدح هاهنا لأن ذلك جهل من الآدمي عرض بعد
التعيين وأما هنا فليس متعينا في نفسه بل يعلمه الله تعالى مطلقا
لإحداهما لا بعينها
ج / 1 ص -141-
فإن قيل إذا وجب عليه التعيين فالله تعالى
يعلم ما سيعينه فتكون هي المحرمة المطلقة بعينها في علم الله تعالى
وإنما هو مشكل علينا
قلنا: الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه
فلا يعلم الطلاق الذي لم يعين محله متعينا بل يعلمه قابلا للتعيين إذا
عينه المطلق ويعلم أنه سيعين زينب مثلا فيتعين الطلاق بتعيينه إذا عين
لا قبله وكذلك نقول في الواجب المخير الله تعالى يعلم ما سيفعله العبد
من خلال الكفارة ولا يعلمه واجبا بعينه بل واجبا غير معين في حال ثم
يعلم صيرورته متعينا بالتعيين بدليل أنه لو علم أنه يموت قبل التكفير
وقبل التعيين فيعلم الوجوب والطلاق على ما هو عليه من عدم التعيين
مسألة:حكم الواجب غير المعروف
اختلفوا في الواجب الذي لا يتقدر بحد محدود كمسح
الرأس والطمأنينة في الركوع والسجود ومدة القيام إنه إذا زاد على أقل
الواجب هل توصف الزيادة بالوجوب؟ فلو مسح جميع الرأس هل يقع فعله
بجملته واجبا أو الواجب الأقل والباقي ندب؟
فذهب قوم إلى أن الكل يوصف بالوجوب لأن نسبة
الكل إلى الأمر واحد والأمر في نفسه أمر واحد وهو أمر إيجاب ولا يتميز
البعض من البعض فالكل امتثال
والأولى أن يقال الزيادة على الأقل ندب فإنه لم
يجب إلا أقل ما ينطلق عليه الاسم وهذا في الطمأنينة والقيام وما وقع
متعاقبا أظهر وكذلك المسح إذا وقع متعاقبا وما وقع من جملته معا وإن
كان لا يتميز بعضه من بعض بالإشارة والتعيين فيحتمل أن يقال قدر الأقل
منه واجب والباقي ندب وإن لم يتميز بالإشارة المندوب عن الواجب لأن
الزيادة على الأقل لا عقاب على تركها مطلقا من غير شرط بدل فلا يتحقق
فيه حد الوجوب
ج / 1 ص -142-
مسألة: حقيقة الوجوب والجواز
الوجوب يباين الجواز والإباحة بحده فلذلك قلنا
يقضي بخطأ من ظن أن الوجوب إذا نسخ بقي الجواز بل الحق أنه إذا نسخ رجع
الأمر إلى ما كان قبل الوجوب من تحريم أو إباحة وصار الوجوب بالنسخ كأن
لم يكن فإن قيل كل واجب فهو جائز وزيادة إذ الجائز ما لا عقاب على فعله
والواجب أيضا لا عقاب على فعله وهو معنى الجواز فإذا نسخ الوجوب فكأنه
أسقط العقاب على تركه فيبقى سقوط العقاب على فعله وهو معنى الجواز
قلنا :هذا كقول القائل: كل واجب فهو ندب وزيادة
فإذا نسخ الوجوب بقي الندب ولا قائل به ولا فرق بين الكلامين وكلاهما
وهم بل الواجب لا يتضمن معنى الجواز فإن حقيقة الجواز التخيير بين
الفعل والترك والتساوي بينهما بتسوية الشرع وذلك منفي عن الواجب
وذكر هذه المسألة ههنا أولى من ذكرها في كتاب
النسخ فإنه نظر في حقيقة الوجوب والجواز لا في حقيقة النسخ
مسألة الجواز ليس فيه أمر
كما فهمت أن الواجب لا يتضمن الجواز فافهم أن
الجائز لا يتضمن الأمر وأن المباح غير مأمور به لتناقض حديهما كما سبق
خلافا للبلخي فإنه قال المباح مأمور به لكنه دون الندب كما أن الندب
مأمور به لكنه دون الواجب
وهذا محال إذ الأمر اقتضاء وطلب والمباح غير
مطلوب بل مأذون فيه ومطلق له فإن استعمل لفظ الأمر في الإذن فهو تجوز
ج / 1 ص -143-
فإن قيل: ترك الحرام واجب والسكون المباح
يترك به الحرام من الزنا والسرقة والسكوت المباح أو الكلام المباح يترك
به الكفر والكذب وترك الكفر والكذب والزنا مأمور به
قلنا: قد يترك بالندب حرام فليكن واجبا وقد يترك
بالحرام حرام آخر فليكن الشيء الواحد واجبا حراما وهو تناقض ويلزم هذا
على مذهب من زعم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بأحد
أضداده بل يلزم عليه كون الصلاة حراما إذا تحرم بها من ترك الزكاة
الواجبة لأنه أحد أضداد الواجب وكل ذلك قياس مذهب هؤلاء لكنهم لم
يقولوا به
مسألة : هل المباح مكلف به؟
فإن قيل فالمباح هل يدخل تحت التكليف؟ وهل
هو من التكاليف؟
قلنا إن كان التكليف عبارة عن طلب ما فيه كلفة
فليس ذلك في المباح وإن أريد به ما عرف من جهة الشرع إطلاقه والإذن فيه
فهو تكليف وإن أريد به أنه الذي كلف اعتقاد كونه من الشرع فقد كلف ذلك
لكن لا بنفس الإباحة بل بأصل الإيمان وقد سماه الأستاذ أبو إسحق رحمه
الله تكليفا بهذا التأويل الأخير وهو بعيد مع أنه نزاع في اسم
فإن قيل فهل المباح حسن ؟
قلنا إن كان الحسن عبارة عما لفاعله أن يفعله فهو
حسن وإن كان عبارة عما أمر بتعظيم فاعله والثناء عليه أو وجب اعتقاد
استحقاقه للثناء والقبيح ما يجب اعتقاد استحقاق صاحبه للذم أو العقاب
فليس المباح بحسن واحترزنا باعتقاد الاستحقاق عن معاصي الأنبياء فقد دل
الدليل على وقوعها منهم ولم يأمر بإهانتهم وذمهم لكنا نعتقد استحقاقهم
لذلك مع تفضل الله تعالى بإسقاط المستحق من حيث أمرنا بتعظيمهم والثناء
عليهم
مسألة
هل المباح من الشريعة؟
ج / 1 ص -144-
المباح من الشرع وقد ذهب بعض المعتزلة إلى
أنه ليس من الشرع إذ معنى المباح رفع الحرج عن الفعل والترك وذلك ثابت
قبل السمع فمعنى إباحة الشرع شيئا أنه تركه على ما كان عليه قبل ورود
السمع ولم يغير حكمه وكل ما لم يثبت تحريمه ولا وجوبه بقي على النفي
الأصلي فعبر عنه بالمباح
وهذا له غور وكشف الغطاء عنه أن الأفعال ثلاثة
أقسام
قسم بقي على الأصل فلم يرد فيه من الشرع تعرض لا
بصريح اللفظ ولا بدليل من أدلة السمع فينبغي أن يقال استمر فيه ما كان
ولم يتعرض له السمع فليس فيه حكم
وقسم صرح الشرع فيه بالتخيير وقال إن شئتم
فافعلوه وإن شئتم فاتركوه فهذا خطاب والحكم لا معنى له إلا الخطاب ولا
سبيل إلى إنكاره وقد ورد
وقسم ثالث لم يرد فيه خطاب بالتخيير لكن دل دليل
السمع على أنه نفي الحرج عن فعله وتركه فقد عرف بدليل السمع ولولا هذا
الدليل لكان يعرف بدليل العقل نفي الحرج عن فاعله وبقاؤه على النفي
الأصلي فهذا فيه نظر إذ اجتمع عليه دليل العقل والسمع
وفي الطرفين الآخرين أيضا نظر إذ يمكن أن يقال
قول الشارع إن شئت فقم وإن شئت فاقعد ليس بتجديد حكم هو تقرير للحكم
السابق ومعنى تقريره أنه ليس يغير أمره بل يتركه على ما هو عليه فليس
ذلك أمرا حادثا بالشرع فلا يكون شرعيا وأما الطرف الآخر وهو الذي لم
يرد فيه خطاب ولا دليل فيمكن أيضا إنكاره بأن يقال قد دل السمع على أن
ما لم يرد فيه طلب فعل ولا طلب ترك فالمكلف فيه مخير وهذا دليل على
العموم فيما لا يتناهى من الأفعال فلا يبقى فعل إلا مدلولا عليه من جهة
الشرع فتكون إباحته من الشرع
ج / 1 ص -145-
وإلا عورض أن الإباحة من جهة الشرع تقرير لا
تغيير وليس مع التقرير تجديد أمر بل بيان أنه لم يجدد فيه أمرا بل كف
عن التعرض له وسيأتي لهذا تحقيق في مسألة إقامة الدليل على النافي
مسألة:
التفريق بين المندوب والمباح
المندوب مأمور به وإن لم يكن المباح مأمورا
به لأن الأمر اقتضاء وطلب والمباح غير مقتضى أما المندوب فإنه مقتضى
لكن مع إسقاط الذم عن تاركه والواجب مقتضى لكن مع ذم تاركه إذا تركه
مطلقا أو تركه وبدله وقال قوم المندوب غير داخل تحت الأمر
وهو فاسد من وجهين:
أحدهما أنه شاع في لسان العلماء أن الأمر ينقسم
إلى أمر إيجاب وأمر استحباب وما شاع أنه ينقسم إلى أمر إباحة وأمر
إيجاب مع أن صيغة الأمر قد تطلق لإرادة الإباحة كقوله تعالى
{ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } ]المائدة :2[{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا } ]الجمعة:10[
الثاني :إن فعل المندوب طاعة بالاتفاق وليس طاعة
لكونه مرادا إذ الأمر عندنا يفارق الإرادة ولا لكونه موجودا أو حادثا
أو لذاته أو نفسه إذ يجري ذلك في المباحات ولا لكونه مثابا عليه فإن
المأمور وإن لم يثب ولم يعاقب إذا امتثل كان مطيعا وإنما الثواب
للترغيب في الطاعة ولأنه قد يحبط بالكفر ثواب طاعته ولا يخرج عن كونه
مطيعا
فإن قيل: الأمر عبارة عن اقتضاء جازم لا تخيير
معه والندب مقرون بتجويز الترك والتخيير فيه وقولكم أنه يسمى مطيعا
يقابله أنه لو ترك لا يسمى
ج / 1 ص -146-
عاصيا
قلنا: الندب اقتضاء جازم لا تخيير فيه لأن
التخيير عبارة عن التسوية فإذا رجح جهة الفعل بربط الثواب به ارتفعت
التسوية والتخيير وقد قال تعالى في المحرمات أيضا فمن شاء فليؤمن ومن
شاء فليكفر الكهف فلا ينبغي أن يظن أن الأمر اقتضاء جازم بمعنى أن
الشرع يطلب منه شيئا لنفسه بل يطلب منه لما فيه من صلاحه والله تعالى
يقتضي من عباده ما فيه صلاحهم ولا يرضى الكفر لهم وكذلك يقتضي الندب
لنيل الثواب ويقول الفعل والترك سيان بالإضافة إلي أما في حقك فلا
مساواة ولا خيرة إذ في تركه ترك صلاحك وثوابك فهو اقتضاء جازم
وأما قولهم: أنه لا يسمى عاصيا فسببه أن العصيان
اسم ذم وقد أسقط الذم عنه نعم يسمى مخالفا وغير ممتثل كما يسمى فاعله
موافقا ومطيعا
مسألة: الواجب غير الحرام
إذا عرفت أن الحرام ضد الواجب لأنه المقتضى
تركه والواجب هو المقتضى فعله فلا يخفى عليك أن الشيء الواحد يستحيل أن
يكون واجبا حراما طاعة معصية
لكن ربما تخفى عليك حقيقة الواحد فالواحد ينقسم
إلى واحد بالنوع وإلى واحد بالعدد
أما الواحد بالنوع كالسجود مثلا فإنه نوع واحد من
الأفعال فيجوز أن ينقسم إلى الواجب والحرام ويكون انقسامه بالأوصاف
والإضافات كالسجود لله تعالى والسجود للصنم إذ أحدهما واجب والآخر حرام
ولا تناقض
ج / 1 ص -147-
وذهب بعض المعتزلة إلى أنه تناقض فإن السجود
نوع واحد مأمور به فيستحيل أن ينهى عنه بل الساجد للصنم عاص بقصد تعظيم
الصنم لا بنفس الجسود
وهذا خطأ فاحش فإنه إذا تغاير متعلق الأمر والنهي
لم يتناقض والسجود للصنم غير السجود لله تعالى لأن اختلاف الإضافات
والصفات يوجب المغايرة إذ الشيء لا يغاير نفسه والمغايرة تارة تكون
باختلاف النوع وتارة باختلاف الوصف وتارة باختلاف الإضافة وقد قال الله
تعالى{ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ } ] فصلت:37[ وليس المأمور به هو المنهي عنه والإجماع منعقد على أن
الساجد للشمس عاص بنفس السجود والقصد جميعا فقولهم إن السجود نوع واحد
لا يغني مع انقسام هذا النوع إلى أقسام مختلفة المقاصد إذ مقصود بهذا
السجود تعظيم الصنم دون تعظيم الله تعالى واختلاف وجوه الفعل كاختلاف
نفس الفعل في حصول الغيرية الرافعة للتضاد فإن التضاد إنما يكون
بالإضافة إلى واحد ولا وحدة مع المغايرة
مسألة: الواحد بالتعيين
ما ذكرناه في الواحد بالنوع ظاهر أما الواحد
بالتعيين كصلاة زيد في دار مغصوبة من عمرو فحركته في الصلاة فعل واحد
بعينه هو مكتسبه ومتعلق قدرته فالذين سلموا في النوع الواحد نازعوا
ههنا فقالوا لا تصح هذه الصلاة إذ يؤدي القول بصحتها إلى أن تكون العين
الواحدة من الأفعال حراما واجبا وهو متناقض فقيل لهم هذا خلاف إجماع
السلف فإنهم ما أمروا الظلمة عند التوبة بقضاء الصلوات المؤداة في
الدور المغصوبة مع كثرة وقوعها ولا نهوا الظالمين عن الصلاة في الأراضي
المغصوبة
ج / 1 ص -148-
فأشكل الجواب على القاضي أبي بكر رحمه الله
فقال يسقط الوجوب عندها لا بها بدليل الإجماع ولا يقع واجبا لأن الواجب
ما يثاب عليه وكيف يثاب على ما يعاقب عليه وفعله واحد وهو كون في الدار
المغصوبة وسجوده وركوعه أكوان اختيارية هو معاقب عليها ومنهي عنها وكل
من غلب عليه الكلام قطع بهذا نظرا إلى اتحاد أكوانه في كل حالة من
أحواله وإن الحادث منه الأكوان لا غيرها وهو معاقب عليها عاص بها فكيف
يكون متقربا بما هو معاقب عليه ومطيعا بما هو به عاص؟!
وهذا غير مرضي عندنا بل نقول الفعل وإن كان
واحدا في نفسه فإذا كان له وجهان متغايران يجوز أن يكون مطلوبا من أحد
الوجهين مكروها من الوجه الآخر وإنما المحال أن يطلب من الوجه الذي
يكره بعينه وفعله من حيث أنه صلاة مطلوب ومن حيث أنه غصب مكروه والغصب
معقول دون الصلاة والصلاة معقولة دون الغصب
وقد اجتمع الوجهان في فعل واحد ومتعلق الأمر
والنهي الوجهان المتغايران وكذلك يعقل من السيد أن يقول لعبده صل اليوم
ألف ركعة وخط هذا الثواب ولا تدخل هذه الدار فإن ارتكبت النهي ضربتك
وإن امتثلت الأمر أعتقتك فخاط الثوب في الدار وصلى ألف ركعة في تلك
الدار فيحسن من السيد أن يضربه ويعتقه ويقول أطاع بالخياطة والصلاة
وعصى بدخول الدار فكذلك فيما نحن فيه من غير فرق
فالفعل وإن كان واحدا فقد تضمن تحصيل أمرين
مختلفين يطلب أحدهما ويكره الآخر ولو رمى سهما واحدا إلى مسلم بحيث
يمرق إلى كافر أو إلى كافر بحيث يمرق إلى مسلم فإنه يثاب ويعاقب ويملك
سلب الكافر ويقتل بالمسلم قصاصا لتضمن فعله الواحد أمرين مختلفين
فإن قيل :ارتكاب المنهى عنه إذا أخل بشرط
العبادة أفسدها بالاتفاق ونية التقرب بالصلاة شرط والتقرب بالمعصية
محال فكيف ينوي التقرب؟
ج / 1 ص -149-
فالجواب من أوجه:
الأول: إن الإجماع إذا انعقد على صحة هذه الصلاة فليعلم به بالضرورة أن
نية التقرب ليس بشرط أو نية التقرب بهذه الصلاة ممكن وأبو هاشم
والجبائي ومن خالف في صحة الصلاة مسبوق بإجماع الأمة على ترك تكليف
الظلمة قضاء الصلوات مع كثرتهم وكيف ينكر سقوط نية التقرب وقد اختلفوا
في اشتراط نية الفرضية ونية الإضافة إلى الله تعالى فقال قوم لا يجب
إلا أن ينوي الظهر أو العصر فهو في محل الاجتهاد وقد ذهب قوم إلى أن
الصلاة تجب في آخر الوقت والصبي إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ آخره
أجزأه ولو بلغ في وسط الوقت مع أنه لا تتحقق الفرضية في حقه
فإن قيل :من نوى الصلاة فقد تضمنت نيته القربة.
قلنا: إذا صحت الصلاة بالإجماع واستحالت نية
التقرب فتلغى تلك النية ويصح أن يقال تعلقت نية التقرب ببعض أجزاء
الصلاة من الذكر والقراءة وما لا يزاحم حق المغصوب منه فإن الأكوان هي
التي تتناول منافع الدار ثم كيف يستقيم من المعتزلة هذا وعندهم لا يعلم
المأمور كونه مأمورا ولا كون العبادة واجبة قبل الفراغ من الامتثال كما
سيأتي فكيف ينوي التقرب بالواجب وهو لا يعرف وجوبه ؟
الجواب الثاني: وهو الأصح أنه
ينوي التقرب بالصلاة ويعصي بالغصب وقد بينا انفصال أحدهما عن الآخر
ولذلك يجد المصلي من نفسه نية التقرب بالصلاة وإن كان في دار مغصوبة
لأنه لو سكن ولم يفعل فعلا لكان غاصبا في حالة النوم وعدم استعمال
القدرة وإنما يتقرب بأفعاله وليست تلك الأفعال شرطا لكونه غاصبا؟
فإن قيل: هو في حالة القعود والقيام غاصب بفعله
ولا فعل له إلا قيامه وقعوده وهو متقرب بفعله فيكون متقربا بعين ما هو
عاص به؟
ج / 1 ص -150-
قلنا: هو من حيث أنه مستوف منافع الدار غاصب
ومن حيث أنه أتى بصورة الصلاة متقرب كما ذكرناه في صورة الخياطة إذ قد
يعقل كونه غاصبا ولا يعلم كونه مصليا ويعلم كونه مصليا ولا يعلم كونه
غاصبا فهما وجهان مختلفان وإن كان ذات الفعل واحدا
الجواب الثالث: هو أنا نقول بم
تنكرون على القاضي رحمه الله حيث حكم بأن الفرض يسقط عندها لا بها
بدليل الإجماع فسلم أنه معصية ولكن الأمر لا يدل على الأجزاء إذا أتى
بالمأمور ولا النهي يدل على عدم الأجزاء بل يؤخذ الأجزاء من دليل آخر
كما سيأتي
فإن قيل: هذه المسألة اجتهادية أم قطعية؟
قلنا: هي قطعية والمصيب فيها واحد لأن من صحح أخذ
من الإجماع وهو قاطع ومن أبطل أخذ من التضاد الذي بين القربة والمعصية
ويدعى كون ذلك محالا بدليل العقل فالمسألة قطعية
فإن قيل: ادعيتم الإجماع في هذه المسألة وقد ذهب
أحمد بن حنبل إلى بطلان هذه الصلاة وبطلان كل عقد منهي عنه حتى البيع
في وقت النداء يوم الجمعة فكيف تحتجون عليه بالإجماع؟
قلنا: الإجماع حجة عليه إذ علمنا أن الظلمة لم
يؤمروا بقضاء الصلوات مع كثرة وقوعها مع أنهم لو أمروا به لانتشر وإذا
أنكر هذا فيلزمه ما هو أظهر منه وهو أن لا تحل امرأة لزوجها وفي ذمته
دانق ظلم به ولا يصح بيعه ولا صلاته ولا تصرفاته وأنه لا يحصل التحليل
بوطء من هذه حاله لأنه عصى بترك رد المظلمة ولم يتركها إلا بتزويجه
وبيعه وصلاته وتصرفاته فيؤدي إلى تحريم أكثر النساء وفوات أكثر الأملاك
وهو خرق للإجماع قطعا وذلك لا سبيل إليه
ج / 1 ص -151-
مسألة: المكروه غير الواجب
كما يتضاد الحرام والواجب فيتضاد المكروه والواجب
فلا يدخل مكروه تحت الأمر حتى يكون شيء واحد مأمورا به مكروها إلا أن
تنصرف الكراهية عن ذات المأمور إلى غيره ككراهية الصلاة في الحمام
وأعطان الإبل وبطن الوادي وأمثاله فإن المكروه في بطن الوادي التعرض
لخطر السيل وفي الحمام التعرض للرشاش أو لتخبط الشياطين وفي أعطان
الإبل التعرض لنفارها وكل ذلك مما يشغل القلب في الصلاة وربما شوش
الخشوع.
بحيث لا ينقدح صرف الكراهة عن المأمور إلى ما هو
في جواره وصحبته لكونه خارجا عن ماهيته وشروطه وأركانه فلا يجتمع الأمر
والكراهية فقوله تعالى
{ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }
]الحج: [29 لا يتناول طواف المحدث الذي نهي عنه لأن المنهي عنه لا يكون
مأمورا به والمنهي عنه في
مسألة:الصلاة في الدار المغصوبة
انفصل عن المأمور إذ المأمور به الصلاة
والمنهي عنه الغصب وهو في جواره مسألة أصناف الترك ذات المتروك
المتفقون على صحة الصلاة في الدار المغصوبة ينقسم النهي عندهم إلى ما
يرجع إلى ذات المنهي عنه فيضاد وجوبه وإلى ما يرجع إلى غيره فلا يضاد
وجوبه وإلى ما يرجع إلى وصف المنهي عنه لا إلى أصله وقد اختلفوا في هذا
القسم الثالث
ومثال القسمين الأولين ظاهر ومثال القسم الثالث
أن يوجب الطواف وينهى عن إيقاعه مع الحدث أو يأمر بالصوم وينهى عن
إيقاعه في يوم النحر فيقال الصوم من حيث أنه صوم مشروع مطلوب ومن حيث
أنه واقع في هذا اليوم غير مشروع والطواف مشروع بقوله تعالى
{ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ]الحج[29:
ج / 1 ص -152-
ولكن وقوعه في حالة الحدث مكروه والبيع من
حيث أنه بيع: مشروع ولكن من حيث وقوعه مقترنا بشرط فاسد أو زيادة في
العوض في الربويات مكروه والطلاق من حيث أنه طلاق مشروع ولكن من حيث
وقوعه في الحيض مكروه وحراثة الولد من حيث أنها حراثة مشروعة ولكنها من
حيث وقوعها في غير المنكوحة مكروهة والسفر من حيث أنه سفر مشروع ولكن
من حيث قصد الأباق به عن السيد غير مشروع
فجعل أبو حنيفة هذا قسما ثالثا وزعم أن ذلك يوجب
فساد الوصف لا انتفاء الأصل لأنه راجع إلى الوصف لا إلى الأصل
والشافعي رحمه الله ألحق هذا بكراهة الأصل ولم
يجعله قسما ثالثا وحيث نفذ الطلاق في الحيض صرف النهي عن أصله ووصفه
إلى تطويل العدة أو لو حق الندم عند الشك في الولد وأبو حنيفة حيث أبطل
صلاة المحدث دون طواف المحدث زعم أن الدليل قد دل على كون الطهارة شرطا
في الصلاة فإنه قال عليه الصلاة والسلام لا صلاة إلا بطهور فهو نفي
للصلاة لا نهي
وفي المسألة نظران أحدهما في موجب مطلق النهي من
حيث اللفظ وذلك نظر في مقتضى الصيغة وهو بحث لغوي نذكره في كتاب
الأوامر والنواهي
والنظر الثاني نظر في تضاد هذه الأوصاف وما يعقل
اجتماعه وما لا يعقل إذا وقع التصريح به من القائل وهو أنه هل يعقل أن
يقول السيد لعبده أنا آمرك بالخياطة وأنهاك عنها ولا شك في أن ذلك لا
يعقل منه فإنه فيه يكون الشيء الواحد مطلوبا مكروها ويعقل منه أن يقول
أنا أطلب منك الخياطة وأكره دخول هذه الدار والكون فيها ولا يتعرض في
النهي للخياطة وذلك معقول وإذا خاط في تلك الدار أتى بمطلوبه ومكروهه
جميعا وهل يعقل أن يقول أطلب منك الخياطة وأنهاك عن إيقاعها في وقت
الزوال فإذا خاط في
ج / 1 ص -153-
وقت الزوال فهل جمع بين المكروه والمطلوب أو
ما أتى بالمطلوب هذا في محل النظر
والصحيح أنه ما أتى بالمطلوب وأن المكروه هي
الخياطة الواقعة وقت الزوال لا الوقوع في وقت الزوال مع بقاء الخياطة
مطلوبة إذ ليس الوقوع في الوقت شيئا منفصلا عن الواقع
فإن قيل فلم صحت الصلاة في أوقات الكراهة ولم صحت
الصلاة الواقعة في الأماكن السبعة من بطن الوادي وأعطان الإبل وما
الفرق بينهما وبين النهي عن صوم يوم النحر؟
قلنا من صحح هذه الصلوات لزمه صرف النهي عن أصل
الصلاة ووصفها إلى غيره وقد اختلفوا في انعقاد الصلاة في الأوقات
المكروهة لترددهم في أن النهي نهي عن إيقاع الصلاة من حيث أنه إيقاع
صلاة أو من أمر آخر مقترن به
وأما صوم يوم النحر فقطع الشافعي رحمه الله
ببطلانه لأنه لم يظهر انصراف النهي عن عينه ووصفه ولم يرتض قولهم أنه
نهى عنه لما فيه من ترك إجابة الدعوة بالأكل فإن الأكل ضد الصوم فكيف
يقال له كل أي أجب الدعوة ولا تأكل أي صم ؟
والآن تفصيل هذه المسائل ليس على الأصولي بل هو
موكول إلى نظر المجتهدين في الفروع وليس على الأصولي إلا حصر هذه
الأقسام الثلاثة وبيان حكمها في التضاد وعدم التضاد وأما النظر في آحاد
المسائل أنها من أي قسم هي فإلى المجتهد وقد يعلم ذلك بدليل قاطع وقد
يعلم ذلك بظن وليس على الأصولي شيء من ذلك.
وتمام النظر في هذا ببيان أن النهي المطلق يقتضي
من هذه الأقسام أيها وأنه يقتضي كون المنهي عنه مكروها لذاته أو لغيره
أو لصفته وسيأتي
ج / 1 ص -154-
مسألةهل الأمر بشيء ترك لغيره؟
اختلفوا في أن الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده ؟.
وللمسألة طرفان:
أحدهما يتعلق بالصيغة :ولا
يستقيم ذلك عند من لا يرى للأمر صيغة ومن رأى ذلك فلا شك في أن قوله قم
غير قوله لا تقعد فإنهما صورتان مختلفتان فيجب عليهم الرد إلى المعنى
وهو أن قوله قم له مفهومان أحدهما طلب القيام والآخر ترك القعود فهو
دال على المعنيين فالمعنيان المفهومان منه متحدان أو أحدهما غير الآخر
فيجب الرد إلى المعنى؟
والطرف الثاني: البحث عن المعنى
القائم بالنفس وهو أن طلب القيام هل هو بعينه طلب ترك القعود أم لا
وهذا لا يمكن فرضه في حق الله تعالى فإن كلامه واحد هو أمر ونهي ووعد
ووعيد فلا تتطرق الغيرية إليه فليفرض في المخلوق وهو أن طلبه للحركة هل
هو بعينه كراهة للسكون وطلب لتركه؟
وقد أطلق المعتزلة أنه ليس الأمر بالشيء نهيا عن
ضده
واستدل القاضي أبو بكر رحمه الله عليهم بأن قال
لا خلاف أن الآمر بالشيء ناه عن ضده فإذا لم يقم دليل على اقتران شيء
آخر بأمره دل على أنه ناه بما هو آمر به قال وبهذا علمنا أن الكسون عين
ترك الحركة وطلب السكون عين طلب ترك الحركة وشغل الجوهر بحيز انتقل
إليه عين تفريغه للحيز المنتقل عنه والقرب من المغرب عين البعد من
المشرق فهل فعل واحد بالإضافة إلى المشرق بعد وبالإضافة إلى المغرب قرب
وكون واحد بالإضافة إلى خير شغل وبلإضافة إلى آخر تفريغ زكذلك ههنا طلب
واحد
ج / 1 ص -155-
بالإضافة إلى السكون أمر وإلى الحركة نهي
قال: والدليل على أنه ليس معه غيره أن ذلك الغير
لا يخلو من أن يكون ضدا له أو مثلا أو خلافا ومحال كونه ضدا لأنهما لا
يجتمعان وقد اجتمعا ومحال كونه مثلا لتضاد المثلين ومحال كونه خلافا إذ
لو كان خلافا لجاز وجود أحدهما دون الآخر أما هذا دون ذاك أو ذاك دون
هذا كإرادة الشيء مع العلم به لما اختلفا تصور وجود العلم دون الإرادة
وإن لم يتصور وجود الإرادة دون العلم بل كان يتصور وجوده مع ضد الآخر
وضد النهي عن الحركة الأمر بها فلنجز أن يكون آمرا بالسكون والحركة معا
فيقول تحرك واسكن وقم واقعد.
وهذا الذي ذكره دليل على المعتزلة حيث منعوا
تكليف المحال وإلا فمن يجوز ذلك يجوز أن يقول إجمع بين القيام والقعود
ولا نسلم أيضا أن ضرورة كل آمر بالشيء أن يكون ناهيا عن ضده بل يجوز أن
يكون آمرا بضده فضلا عن أن يكون لا آمرا ولا ناهيا
وعلى الجملة فالذي صح عندنا بالبحث النظري
الكلامي تفريعا على إثبات كلام النفس أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده
لا بمعنى أنه عينه ولا بمعنى أنه يتضمنه ولا بمعنى أنه يلازمه بل يتصور
أن يأمر بالشيء من هو ذاهل عن أضداده فكيف يقوم بذاته قول متعلق بما هو
ذاهل عنه وكذلك ينهى عن الشيء ولا يخطر بباله أضداده حتى يكون آمرا
بأحد أضداده ولا بعينه فإن أمر ولم يكن ذاهلا عن أضداد المأمور به فلا
يقوم بذاته زجر عن أضداده مقصود إلا من حيث يعلم أنه لا يمكن فعل
المأمور به إلا بترك أضداده فيكون ترك أضداد المأمور ذريعة بحكم ضرورة
الوجود لا بحكم ارتباط الطلب به حتى لو تصور على الاستحالة الجمع بين
القيام والقعود إذا قيل له قم فجمع كان ممتثلا لأنه لم يؤمر إلا بإيجاد
القيام وقد أوجده
ومن ذهب إلى هذا المذهب لزمه فضائح الكعبي من
المعتزلة حيث أنكر المباح وقال ما من مباح إلا وهو ترك لحرام فهو واجب
ويلزمه وصف الصلاة بأنها
ج / 1 ص -156-
حرام إذا ترك بها الزكاة الواجبة على الفور
وإن فرق مفرق فقال النهي ليس أمرا بالضد والأمر نهي عن الضد لم يجد
إليه سبيلا إلا التحكم المحض
فإن قيل: فقد قلتم إن ما لا يتوصل إلى الواجب
إلا به فهو واجب ولا يتوصل إلى فعل الشيء إلا بترك ضده فليكن واجبا
قلنا: ونحن نقول ذلك واجب وإنما الخلاف في
إيجابه هل هو عين إيجاب المأمور به أو غيره فإذا قيل إغسل الوجه فليس
عين هذا إيجابا بالغسل جزء من الرأس ولا قوله صم النهار إيجابا بعينه
لإمساك جزء من الليل ولذلك لا يجب أن ينوي إلا صوم النهار ولكن ذلك يجب
بدلالة العقل على وجوبه من حيث هو ذريعة إلى المأمور لا أنه عين ذلك
الإيجاب فلا منافاة بين الكلامين |