المستصفى من علم الأصول، ط الرسالة

ج / 1 ص -157-       الفن الثالث من القطب الأول في أركان الحكم
وهي أربعة الحاكم والمحكوم عليه والمحكوم فيه ونفس الحكم
أما نفس الحكم فقد ذكرناه وأنه يرجع إلى الخطاب وهو الركن الأول
الركن الثاني الحاكم
وهو المخاطب فإن الحكم خطاب وكلام فاعله كل متكلم فلا يشترط في وجود صورة الحكم إلا هذا القدر أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه ولا مالك إلا الخالق فلا حكم ولا أمر إلا له أما النبي والسلطان والسيد والأب والزوج فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا كان للموجب عليه أن يقلب عليه الإيجاب إذ ليس أحدهما أولى من الآخر فإذا الواجب طاعة الله تعالى وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته
فإن قيل: لا بل من قدر على التوعد بالعقاب وتحقيقه حسا فهو أهل للإيجاب إذ الوجوب إنما يتحقق بالعقاب
قلنا: قد ذكرنا من مذهب القاضي رحمه الله أن الله تعالى لو أوجب شيئا لوجب وإن لم يتوعد عليه بالعقاب لكن عند البحث عن حقيقة الوجوب لا يتحصل على طائل إذا لم يتعلق به ضرر محذور وإن كان في الدنيا فقد يقدر عليه إلا أن العادة جارية

 

ج / 1 ص -158-       بتخصيص هذا الإسم بالضرر الذي يحذر في الآخرة ولا قدرة عليه إلا لله تعالى فإن أطلق على كل ضرر محذور وإن كان في الدنيا فقد يقدر عليه الآدمي فعند ذلك يجوز أن يكون موجبا لا بمعنى أنا نتحقق قدرته عليه فإنه ربما يعجز عنه قبل تحقيق الوعيد لكن نتوقع قدرته ويحصل به نوع خوف
الركن الثالث المحكوم عليه وهو المكلف
وشرطه أن يكون عاقلا يفهم الخطاب فلا يصح خطاب الجماد والبهيمة بل خطاب المجنون والصبي الذي لا يميز لأن التكليف مقتضاه الطاعة والامتثال ولا يمكن ذلك إلا بقصد الامتثال وشرط القصد العلم بالمقصود والفهم للتكليف فكل خطاب متضمن للأمر بالفهم فمن لا يفهم كيف يقال له إفهم؟ ومن لا يسمع الصوت كالجماد كيف يكلم؟ وإن سمع الصوت كالبهيمة ولكنه لا يفهم فهو كمن لا يسمع ومن يسمع وقد يفهم فهما ما لكنه لا يعقل ولا يثبت كالمجنون وغير المميز فمخاطبته ممكنة لكن اقتضاء الامتثال منه مع أنه لا يصح منه قصد صحيح غير ممكن.
 فإن قيل فقد وجبت الزكاة والغرامات والنفقات على الصبيان؟
 قلنا: ليس ذلك من التكليف في شيء إذ يستحيل التكليف بفعل الغير وتجب الدية على العاقلة لا بمعنى أنهم مكلفون بفعل الغير ولكن بمعنى أن فعل الغير سبب لثبوت الغرم في ذمتهم فكذلك الإتلاف وملك النصاب سبب لثبوت هذه الحقوق في ذمة الصبيان بمعنى أنه سبب لخطاب الولي بالأداء في الحال وسبب لخطاب الصبي بعد البلوغ وذلك غير محال إنما المحال أن يقال لمن لا يفهم إفهم وأن يخاطب من لا يسمع ولا يعقل

 

ج / 1 ص -159-       وأما أهلية ثبوت الأحكام في الذمة فمستفاد من الإنسانية التي بها يستعد لقبول قوة العقل الذي به فهم التكليف في ثاني الحال حتى أن البهيمة لما لم تكن لها أهلية فهم الخطاب بالفعل ولا بالقوة لم تتهيأ لإضافة الحكم إلى ذمتها والشرط لا بد أن يكون حاصلا أو ممكنا أن يحصل على القرب فيقال أنه موجود بالقوة كما أن شرط المالكية الإنسانية وشرط الإنسانية الحياة والنطفة في الرحم قد يثبت لها الملك بالإرث والوصية والحياة غير موجودة بالفعل ولكنها بالقوة إذ مصيرها إلى الحياة فكذلك الصبي مصيره إلى العقل فصلح لإضافة الحكم إلى ذمته ولم يصلح للتكليف في الحال
 فإن قيل :فالصبي المميز مأمور بالصلاة ؟!
قلنا: مأمور من جهة الولي والولي مأمور من جهة الله تعالى إذ قال عليه السلام مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وذلك لأنه يفهم خطاب الولي ويخاف ضربه فصار أهلا له ولا يفهم خطاب الشارع إذ لا يعرف الشارع ولا يخاف عقابه إذ لا يفهم الآخرة
فإن قيل: فإذا قارب البلوغ عقل ولم يكلفه الشرع أفيدل ذلك على نقصان عقله؟
 قلنا: قال القاضي أبو بكر رحمه الله ذلك يدل عليه وليس يتجه ذلك لأن انفصال النطفة منه لا يزيده عقلا لكن حط الخطاب عنه تخفيفا لأن العقل خفي وإنما يظهر فيه على التدريج فلا يمكن الوقوف بغتة على الحد الذي يفهم به خطاب الشرع ويعرف المرسل والرسول والآخرة فنصب الشرع له علامة ظاهرة
 مسألة: هل يكلف الغافل والناسي
 تكليف الناسي والغافل عما يكلف محال إذ من لا يفهم كيف يقال له إفهم؟! أما ثبوت الأحكام بأفعاله في النوم والغفلة فلا ينكر كلزوم الغرامات وغيرها

 

ج / 1 ص -160-       وكذلك تكليف السكران الذي لا يعقل محال كتكليف الساهي والمجنون والذي يسمع ولا يفهم بل السكران أسوأ حالا من النائم الذي يمكن تنبيهه ومن المجنون الذي يفهم كثيرا من الكلام وأما نفوذ طلاقه ولزوم الغرم فذلك من قبيل ربط الأحكام بالأسباب وذلك مما لا ينكر
 فإن قيل: فقد قال الله تعالى في النساء
{ لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } ]النساء :43 [وهذا خطاب للسكران
 قلنا: إذا ثبت بالبرهان استحالة خطابه وجب تأويل الآية ولها تأويلان:
أحدهما: أنه خطاب مع المنتشي الذي ظهر فيه مبادىء النشاط والطرب ولم يزل عقله فإنه قد يستحسن من اللعب والانبساط ما لا يستحسنه قبل ذلك ولكنه عاقل وقوله تعالى
{ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ }[النساء :43]  معناه حتى تتبينوا ويتكامل فيكم ثباتكم كما يقال للغضبان إصبر حتى تعلم ما تقول أي حتى يسكن غضبك فيكمل علمك وإن كان أصل عقله باقيا وهذا لأنه لا يشتغل بالصلاة مثل هذا السكران وقد يعسر عليه تصحيح مخارج الحروف وتمام الخشوع
الثاني: أنه ورد الخطاب به في ابتداء الإسلام قبل تحريم الخمر وليس المراد المنع من الصلاة بل المنع من إفراط الشرب في وقت الصلاة كما يقال لا تقرب التهجد وأنت شبعان ومعناه لا تشبع فيثقل عليك التهجد
مسألة تكليف المعدوم
مسألة أمر الله تعالى في الأزل فإن قال قائل ليس من شرط الأمر عندكم كون المأمور موجودا إذ قضيتم بأن الله تعالى آمر في الأزل لعباده قبل خلقهم فكيف شرطتم كون المكلف سميعا عاقلا والسكران والناسي والصبي والمجنون أقرب إلى التكليف من المعدوم؟
 قلنا :ينبغي أن يفهم معنى قولنا إن الله تعالى آمر وإن المعدوم مأمور،

 

ج / 1 ص -161-       فإنا نعني به أنه مأمور على تقدير الوجود لا أنه مأمور في حالة العدم إذ ذلك محال لكن أثبت الذاهبون إلى إثبات كلام النفس أنه لا يبعد أن يقوم بذات الأب طلب تعلم العلم من الولد الذي سيوجد وإنه لو قدر بقاء ذلك الطلب حتى وجد الولد صار الولد مطالبا بذلك الطلب ومأمورا به فكذلك المعنى القائم بذات الله تعالى الذي هو اقتضاء الطاعة من العباد قديم تعلق بعباده على تقدير وجودهم فإذا وجدوا صاروا مأمورين بذلك الاقتضاء ومثل هذا جار في حق الصبي والمجنون فإن انتظار العقل لا يزيد على انتظار الوجود ولا يسمى هذا المعنى في الأزل خطابا إنما يصير خطابا إذا وجد المأمور وأسمع
وهل يسمى أمرا ؟فيه خلاف والصحيح أنه يسمى به إذ يحسن أن يقال فيمن أوصى أولاده بالتصدق بماله أن يقال فلان أمر أولاده بكذا وإن كان بعض أولاده مجتنا في البطن أو معدوما ولا يحسن أن يقال خاطب أولاده إلا إذا حضروا وسمعوا ثم إذا أوصى فنفذوا وصيته يقال قد أطاعوه وامتثلوا أمره مع أن الآمر الآن معدوم والمأمور كان وقت وجود الآمر معدوما وكذلك نحن الآن بطاعتنا ممتثلون أمر رسول الله وهو معدوم عن عالمنا هذا وإن كان حيا عند الله تعالى فإذا لم يكن وجود الآمر شرطا لكون المأمور مطيعا ممتثلا فلم يشترط وجود المأمور لكون الأمر أمرا
فإن قيل أفتقولون إن الله تعالى في الأزل آمر للمعدوم على وجه الإلزام؟
 قلنا نعم نحن نقول هو آمر لكن على تقدير الوجود كما يقال الوالد موجب وملزم على أولاده التصدق إذا عقلوا وبلغوا فيكون الإلزام والإيجاب حاصلا ولكن بشرط الوجود والقدرة
ولو قال لعبده :صم غدا فقد أوجب وألزم في الحال صوم الغد ولا يمكن صوم الغد في الوقت بل في الغد وهو موصوف بأنه ملزم وموجب في الحال

 

ج / 1 ص -162-       الركن الرابع المحكوم فيه وهو الفعل
إذ لا يدخل تحت التكليف إلا الأفعال الاختيارية
وللداخل تحت التكليف شروط
الأول صحة حدوثه لاستحالة تعلق الأمر بالقديم والباقي وقلب الأجناس والجمع بين الضدين وسائر المحالات التي لا يجوز التكليف بها عند من يحيل تكليف ما لا يطاق
فلا أمر إلا بمعدوم يمكن حدوثه
وهل يكون الحادث في أول حال حدوثه مأمورا به كما كان قبل الحدوث أو يخرج عن كونه مأمورا كما في الحالة الثانية من الوجود ؟اختلفوا فيه وفيه بحث كلامي لا يليق بمقاصد أصول الفقه ذكره
الثاني: جواز كونه مكتسبا للعبد حاصلا باختياره إذ لا يجوز تكليف زيد كتابة عمرو وخياطته وإن كان حدوثه ممكنا فليكن مع كونه ممكنا مقدورا للمخاطب
الثالث: كونه معلوما للمأمور معلوم التمييز عن غيره حتى يتصور قصده إليه وأن يكون معلوما كونه مأمورا به من جهة الله تعالى حتى يتصور منه قصد الامتثال وهذا يختص بما يجب فيه قصد الطاعة والتقرب
فإن قيل: فالكافر مأمور بالإيمان بالرسول عليه السلام وهو لا يعلم أنه مأمور به
قلنا: الشرط لا بد أن يكون معلوما أو في حكم المعلوم بمعنى أن يكون العلم ممكنا بأن تكون الأدلة منصوبة والعقل والتمكن من النظر حاصلا حتى أن ما لا دليل عليه أومن لا عقل له مثل الصبي والمجنون لا يصح في حقه
الرابع: أن يكون بحيث يصح إرادة إيقاعه طاعة وهو أكثر العبادات ويستثنى من هذا شيئان:

 

ج / 1 ص -163-       أحدهما: الواجب الأول وهو النظر المعرف للوجوب فإنه لا يمكن قصد إيقاعه طاعة وهو لا يعرف وجوبه إلا بعد الإتيان به
والثاني: أصل إرادة الطاعة والإخلاص فإنه لو افتقرت إلى إرادة لافتقرت الإرادة إلى إرادة ولتسلسل ويتشعب عن شروط الفعل خمس مسائل
مسألة :هل المكلف به ممكن الحدوث؟
 ذهب قوم إلى أن كون المكلف به ممكن الحدوث ليس بشرط بل يجوز تكليف ما لا يطاق والأمر بالجمع بين الضدين وقلب الأجناس وإعدام القديم وإيجاد الموجود
وهو المنسوب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله
وهو لازم على مذهبه من وجهين :
أحدهما: أن القاعدة عنده غير قادر على القيام إلى الصلاة لأن الاستطاعة عنده مع الفعل لا قبله وإنما يكون مأمورا قبله
والآخر: أن القدرة الحادثة لا تأثير لها في إيجاد المقدور بل أفعالنا حادثة بقدرة الله تعالى واختراعه فكل عبد هو عنده مأمور بفعل الغير
واستدل على هذا بثلاثة أشياء
أحدها قوله تعالى
{ وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [البقرة:  286] والمحال لا يسأل دفعه فإنه مندفع بذاته
وهو ضعيف لأن المراد به ما يشق ويثقل علينا إذ من أتعب بالتكليف بأعمال تكاد تفضي إلى هلاكه لشدتها كقوله
{ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ } [النساء من الآية:66 ] فقد يقال حمل ما لا طاقة له به فالظاهر المؤول

 

ج / 1 ص -164-       ضعيف الدلالة في القطعيات
الثاني قولهم أن الله تعالى أخبر أن أبا جهل لا يصدق وقد كلفه الإيمان ومعناه أن يصدق محمدا فيما جاء به ومما جاء به أنه لا يصدقه فكأنه أمره أن يصدقه في أن لا يصدقه وهو محال
وهذا ضعيف أيضا لأن أبا جهل أمر بالإيمان بالتوحيد والرسالة والأدلة منصوبة والعقل حاضر إذ لم يكن هو مجنونا فكان الإمكان حاصلا لكن الله تعالى علم أنه يترك ما يقدر عليه حسدا وعنادا فالعلم يتبع المعلوم ولا يغيره فإذا علم كون الشيء مقدورا لشخص وممكنا منه ومتروكا من جهته مع القدرة عليه فلو انقلب محالا لانقلب العلم جهلا ويخرج عن كونه ممكنا مقدورا وكذلك نقول القيامة مقدور عليها من جهة الله تعالى في وقتنا هذا وإن أخبر أنه لا يقيمها ويتركها مع القدرة عليها وخلاف خبره محال إذ يصير وعيده كذبا ولكن هذه استحالة لا ترجع إلى نفس الشيء فلا تؤثر فيه
الثالث قولهم لو استحال تكليف المحال لاستحال إما لصيغته أو لمعناه أو لمفسدة تتعلق به أو لأنه يناقض الحكمة ولا يستحيل لصيغته إذ لا يستحيل أن يقول{ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } ]البقرة :65[وأن يقول السيد لعبده الأعمى أبصر وللزمن إمش وأما قيام معناه بنفسه فلا يستحيل أيضا إذ يمكن أن يطلب من عبده كونه في حالة واحدة في مكانين ليحفظ ماله في بلدين ومحال أن يقال أنه ممتنع للمفسدة أو مناقضة الحكمة فإن بناء الأمور على ذلك في حق الله تعالى محال إذ لا يقبح منه شيء ولا يجب عليه

 

ج / 1 ص -165-       الأصلح. ثم الخلاف فيه وفي العباد واحد والفساد والسفه من المخلوق ممكن فلم يمتنع ذلك مطلقا
 والمختار استحالة التكليف بالمحال لا لقبحه ولا لمفسدة تنشأ عنه ولا لصيغته إذ يجوز أن ترد صيغته ولكن للتعجيز لا للطلب كقوله تعالى
{ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } [الإسراء :50] وكقوله { كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة :65] أو لإظهار القدرة كقوله تعالى{ كُنْ فَيَكُونُ }[البقرة :117] لا بمعنى أنه طلب من المعدوم أن يكون بنفسه
ولكن يمتنع لمعناه إذ معنى التكليف طلب ما فيه كلفة والطلب يستدعي مطلوبا وذلك المطلوب ينبغي أن يكون مفهوما للمكلف بالاتفاق فيجوز أن يقول تحرك إذ التحرك مفهوم فلو قال له تحرك فليس بتكليف إذ معناه ليس بمعقول ولا مفهوم ولا له معنى في نفسه فإنه لفظ مهمل
 فلو كان له معنى في بعض اللغات يعرفه الآمر دون المأمور فلا يكون ذلك تكليفا أيضا لأن التكليف هو الخطاب بما فيه كلفة وما لا يفهمه المخاطب لا يكون خطابا معه وإنما يشترط كونه مفهوما ليتصور منه الطاعة لأن التكليف اقتضاء طاعة فإذا لم يكن في العقل طاعة لم يكن اقتضاء الطاعة متصورا معقولا إذ يستحيل أن يقوم بذات العاقل طلب الخياطة من الشجر لأن الطلب يستدعي مطلوبا معقولا أولا وهذا غير معقول أي لا وجود له في العقل فإن الشيء قبل أن يوجد في نفسه فله وجود في العقل وإنما يتوجه إليه الطلب بعد حصوله في العقل وإحداث القديم غير داخل في العقل فكيف يقوم بذاته طلب إحداث القديم؟! وكذلك سواد الأبيض لا وجود له في العقل وكذلك قيام القاعدة فكيف يقول له قم وأنت قاعد؟
 فهذا الطلب يمتنع قيامه بالقلب لعدم المطلوب فإنه كما يشترط في المطلوب أن

 

ج / 1 ص -166-       يكون معدوما في الأعيان يشترط أن يكون موجودا في الأذهان أي في العقل حتى يكون إيجاده في الأعيان على وفقه في الأذهان فيكون طاعة وامتثالا أي احتذاء لمثال ما في نفس الطالب فما لا مثال له في النفس لا مثال له في الوجود
فإن قيل فإذا لم يعلم عجز المأمور عن القيام تصور أن يقوم بذاته طلب القيام
قلنا ذلك طلب مبني على الجهل وربما يظن الجاهل أن ذلك تكليف فإذا انكشف تبين أنه لم يكن طلبا وهذا لا يتصور من الله تعالى
فإن قيل فإذا لم تؤثر القدرة الحادثة في الإيجاد وكانت مع الفعل كان كل تكليف تكليفا بما لا يطاق
 قلنا نحن ندرك بالضرورة تفرقه بين أن يقال للقاعد الذي ليس بزمن أدخل البيت وبين أن يقال له إطلع السماء أو يقال له قم مع استدامة القعود أو إقلب السواد حركة والشجرة فرسا إلا أن النظر في أن هذه التفرقة إلى ماذا ترجع ويعلم أنها ترجع إلى تمكن وقدرة بالإضافة إلى أحد هذه الأوامر دون البقية ثم النظر في تفصيل تأثير القدرة وقت حدوث القدرة كيف ما استقر أمره لا يشككنا في هذا ولذلك جاز أن نقول
{ وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [البقرة :286] فإن استوت الأمور كلها فأي معنى لهذا الدعاء؟ وأي معنى لهذه

 

ج / 1 ص -167-       التفرقة الضرورية ؟فغرضنا من هذه المسألة غير موقوف على البحث عن وجه تأثير القدرة ووقتها
وعلى الجملة: سبب غموض هذا أن التكليف نوع خاص من كلام النفس وفي فهم أصل كلام النفس غموض فالتفريع عليه وتفصيل أقسامه لا محالة يكون أغمض
مسألة: الجمع بين الأضداد
كما لا يجوز أن يقال إجمع بين الحركة والسكون لا يجوز أن يقال لا تتحرك ولا تسكن لأن الانتهاء عنهما محال كالجمع بينهما
فإن قيل: فمن توسط مزرعة مغصوبة فيحرم عليه المكث ويحرم عليه الخروج إذ في كل واحد إفساد زرع الغير فهو عاص بهما
قلنا: حظ الأصولي من هذا أن يعلم أنه لا يقال له لا تمكث ولا تخرج ولا ينهى عن الضدين فإنه محال كما لا يؤمر بجمعهما
فإن قيل: فما يقال له ؟
قلنا: يؤمر بالخروج كما يؤمر المولج في الفرج الحرام بالنزع وإن كان به مماسا للفرج الحرام ولكن يقال له إنزع على قصد التوبة لا على قصد الإلتذاذ فكذلك في الخروج من الغصب تقليل الضرر في المكث تكثيره وأهون الضررين يصير واجبا وطاعة بالإضافة إلى أعظمهما كما يصير شرب الخمر واجبا في حق من غص بلقمة وتناول طعام الغير واجبا على المضطر في المخمصة وإفساد مال الغير ليس حراما لعينه ولذلك لو أكره عليه بالقتل وجب أو جاز
فإن قيل :فلم يجب الضمان بما يفسده في الخروج؟

 

ج / 1 ص -168-       قلنا :الضمان لا يستدعي العدوان إذ يجب على المضطر في المخمصة مع وجوب الإتلاف ويجب على الصبي وعلى من رمى إلى صف الكفار وهو مطيع به
فإن قيل: فالمضي في الحج الفاسد إن كان حراما للزوم القضاء فلم يجب وإن كان واجبا وطاعة فلم وجب القضاء ؟ولم عصى به؟
 قلنا: عصى بالوطء المفسد وهو مطيع بإتمام الفاسد والقضاء يجب بأمر مجدد وقد يجب بما هو طاعة إذا تطرق إليه خلل وقد يسقط القضاء بالصلاة في الدار المغصوبة مع أنه عدوان فالقضاء كالضمان
 فإن قيل: فبم تنكرون على أبي هاشم حيث ذهب إلى أنه لو مكث عصى ولو خرج عصى وأنه ألقى بنفسه في هذه الورطة فحكم العصيان ينسحب على فعله؟
 قلنا وليس لأحد أن يلقي بنفسه في حال تكلف ما لا يمكن فمن ألقى نفسه من سطح فانكسرت رجله لا يعصى بالصلاة قاعدا وإنما يعصى بكسر الرجل لا بترك الصلاة قائما وقول القائل ينسحب عليه حكم العدوان إن أراد به أنه إنما نهي عنه مع النهي عن ضده فهو محال والعصيان عبارة عن ارتكاب منهي قد نهي عنه فإن لم يكن نهي لم يكن عصيان فكيف يفرض النهي عن شيء وعن ضده أيضا؟
حكم التكليف بالمحال شرعا
 ومن جوز تكليف ما لا يطاق عقلا فإنه يمنعه شرعا لقوله تعالى
{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } [البقرة : 286]
 إن قيل: فإن رجحتم جانب الخروج لتقليل الضرر فما قولكم فيمن سقط على صدر صبي محفوف بصبيان وقد علم أنه لو مكث قتل من تحته أو انتقل قتل من حواليه ولا ترجيح فكيف السبيل؟
 قلنا: يحتمل أن يقال إمكث فإن الانتقال فعل مستأنف لا يصح إلا من

 

ج / 1 ص -169-       حي قادر وأما ترك الحركة فلا يحتاج إلى استعمال قدرة ويحتمل أن يقال يتخير إذ لا ترجيح ويحتمل أن يقال لا حكم لله تعالى فيه فيفعل ما يشاء لأن الحكم لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص ولا نص في هذه المسألة ولا نظير لها في المنصوصات حتى يقاس عليه فبقي على ما كان قبل ورود الشرع ولا يبعد خلو واقعة عن الحكم فكل هذا محتمل وأما تكليف المحال فمحال
مسألة: المقتضى بالتكليف
اختلفوا في المقتضى بالتكليف.
والذي عليه أكثر المتكلمين أن المقتضى به الإقدام أو الكف وكل واحد كسب العبد فالأمر بالصوم أمر بالكف والكف فعل يثاب عليه والمقتضى بالنهي عن الزنا والشرب التلبس بضد من أضداده وهو الترك فيكون مثابا على الترك الذي هو فعله.
وقال بعض المعتزلة :قد يقتضي الكف فيكون فعلا وقد يقتضي أن لا يفعل ولا يقصد التلبس بضده فأنكر الأولون هذا وقالوا المنتهي بالنهي مثاب ولا يثاب إلا على شيء وأن لا يفعل عدم وليس بشيء ولا تتعلق به قدرة إذ القدرة تتعلق بشيء فلا يصح الإعدام بالقدرة وإذا لم يصدر منه شيء فكيف يثاب على لا شيء؟
والصحيح أن الأمر فيه منقسم أما الصوم فالكف فيه مقصود ولذلك تشترط فيه النية وأما الزنا والشرب فقد نهي عن فعلهما فيعاقب فاعلهما ومن لم يصدر منه ذلك فلا يعاقب ولا يثاب إلا إذا قصد كف الشهوة عنهما مع التمكن فهو مثاب على فعله وأما من لم يصدر منه المنهي في

 

ج / 1 ص -170-       فعله فلا يعاقب عليه ولا يثاب لأنه لم يصدر منه شيء ولا يبعد أن يكون مقصود الشرع أن لا تصدر منه الفواحش ولا يقصد منه التلبس بأضدادها
 مسألة: هل المكره مكلف
 فعل المكره يجوز أن يدخل تحت التكليف بخلاف فعل المجنون والبهيمة لأن الخلل تم في المكلف لا في المكلف به فإن شرط تكليف المكلف السماع والفهم وذلك في المجنون والبهيمة معدوم والمكره يفهم وفعله في حيز الإمكان إذ يقدر على تحقيقه وتركه فإن أكره على أن يقتل جاز أن يكلف ترك القتل لأنه قادر عليه وإن كان فيه خوف الهلاك
وإن كلف على وفق الإكراه فهو أيضا ممكن بأن يكره بالسيف على قتل حية همت بقتل مسلم إذ يجب قتلها أو أكره الكافر على الإسلام فإذا أسلم نقول قد أدى ما كلف
وقالت المعتزلة إن ذلك محال لأنه لا يصح منه إلا فعل ما أكره عليه فلا يبقى له خيرة
 وهذا محال لأنه قادر على تركه ولذلك يجب عليه ترك ما أكره عليه إذا أكره على قتل مسلم وكذلك لو أكره على قتل حية فيجب قتل الحية وإذا أكره على إراقة الخمر فيجب عليه إراقة الخمر
وهذا ظاهر ولكن فيه غور وذلك لأن الامتثال إنما يكون طاعة إذا كان الانبعاث له بباعث الأمر والتكليف دون باعث الإكراه فإن أقدم للخلاص من سيف المكره لا يكون مجيبا داعي الشرع وإن انبعث بداعي الشرع بحيث كان يفعله لولا الإكراه بل كان يفعله لو أكره على تركه فلا يمتنع وقوعه طاعة لكن لا يكون مكرها وإن وجد صورة التخويف فليتنبه لهذه الدقيقة

 

ج / 1 ص -171-       مسألة الأمر بالشرط والمشروط
 ليس من شرط الفعل المأمور به أن يكون شرطه حاصلا حالة الأمر بل يتوجه الأمر بالشرط والمشروط ويكون مأمورا بتقديم الشرط فيجوز أن يخاطب الكفار بفروع الإسلام كما يخاطب المحدث بالصلاة بشرط تقديم الوضوء والملحد بتصديق الرسول بشرط تقديم الإيمان بالمرسل
 وذهب أصحاب الرأي إلى إنكار ذلك
والخلاف إما في الجواز وإما في الوقوع
أما الجواز العقلي فواضح إذ لا يمتنع أن يقول الشارع بني الإسلام على خمس وأنتم مأمورون بجميعها وبتقديم الإسلام من جملتها فيكون الإيمان مأمورا به لنفسه ولكونه شرطا لسائر العبادات كما في المحدث والملحد
 فإن منع مانع الجميع وقال كيف يؤمر بما لا يمكن امتثاله؟ والمحدث لا يقدر على الصلاة فهو مأمور بالوضوء فإذا توضأ توجه عليه حينئذ الأمر بالصلاة
قلنا فينبغي أن يقال لو ترك الوضوء والصلاة جميع عمره لا يعاقب على ترك الصلاة لأنه لم يؤمر قط بالصلاة وهذا خلاف الإجماع وينبغي أن لا يصح أمره بعد الوضوء بالصلاة بل بالتكبير فإنه يشترط تقديمه ولا بالتكبير بل بهمزة التكبير أولا ثم بالكاف ثانيا وعلى هذا الترتيب وكذلك السعي إلى الجمعة ينبغي أن لا يتوجه الأمر به إلا بالخطوة الأولى ثم بالثانية وأما الوقوع الشرعي فنقول كان يجوز أن يخصص خطاب الفروع بالمؤمنين كما خصص وجوب العبادات بالأحرار والمقيمين والأصحاء والطاهرات دون الحيض ولكن وردت الأدلة بمخاطبتهم وأدلته ثلاثة
الأول قوله تعالى
{ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } [ المدثر: الآية42.43]  فأخبر أنه عذبهم بترك الصلاة وحذر المسلمين به
 فإن قيل هذه حكاية قول الكفار فلا حجة فيها
 قلنا :ذكره الله تعالى في معرض التصديق لهم بإجماع الأمة وبه يحصل

 

ج / 1 ص -172-       التحذير إذ لو كان كذبا لكان كقولهم عذبنا لأنا مخلوقون وموجودون كيف وقد عطف عليه قوله {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } [المدثر:46] فكيف يعطف ذلك على ما لا عذاب عليه؟
فإن قيل: العقاب بالتكذيب لكن غلظ بإضافة ترك الطاعات إليه
قلنا لا يجوز أن يغلظ بترك الطاعات كما لا يجوز أن يغلظ بترك المباحات التي لم يخاطبوا بها
فإن قيل: عوقبوا إلا بترك الصلاة لكن لإخراجهم أنفسهم بترك الإيمان عن العلم بقبح ترك الصلاة قلنا هذا باطل من أوجه أحدها أنه ترك للظاهر من غير ضرورة ولا دليل فإن ترك العلم بقبح ترك الصلاة غير ترك الصلاة وقد قالوا
{ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } [ المدثر43]
الثاني: أن ذلك يوجب التسوية بين كافر باشر القتل وسائر المحظورات وبين من اقتصر على الكفر لأن كليهما استويا في إخراج النفس بالكفر عن العلم بقبح المحظورات والتسوية بينهما خلاف الإجماع
الثالث: أن من ترك النظر والاستدلال ينبغي أن لا يعاقب على ترك الإيمان لأنه أخرج نفسه بترك النظر عن أهلية العلم بوجوب المعرفة والإيمان
فإن قيل
:{ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } أي من المؤمنين لكن عرفوا أنفسهم بعلامة المؤمنين كما قال صلى الله عليه وسلم " نهيت عن قتل المصلين "أي المؤمنين لكن عرفهم بما هو شعارهم
قلنا: هذا محتمل لكن الظاهر لا يترك إلا بدليل ولا دليل للخصم
الدليل الثاني: قوله تعالى
:{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ

 

ج / 1 ص -173-       الْعَذَابُ } إلى قوله تعالى { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ } [الفرقان:،69،68 ]فالآية نص في مضاعفة عذاب من جمع بين الكفر والقتل والزنا لا كمن جمع بين الكفر والأكل والشرب
 والدليل الثالث: إنعقاد الإجماع على تعذيب الكافر على تكذيب الرسول كما يعذب على الكفر بالله تعالى وهذا يهدم معتمدهم إذ قالوا لا تتصور العبادة مع الكفر فكيف يؤمر بها ؟
احتجوا: بأنه لا معنى لوجوب الزكاة وقضاء الصلاة عليه مع استحالة فعله في الكفر ومع انتفاء وجوبه لو أسلم فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله؟
 قلنا: وجب حتى لو مات على الكفر لعوقب على تركه لكن إذا أسلم عفى له عما سلف فالإسلام يجب ما قبله ولا يبعد نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال فكيف يبعد سقوط الوجوب بالإسلام ؟
فإن قيل: إذا لم تجب الزكاة إلا بشرط الإسلام والإسلام الذي هو شرط الوجوب هو بعينه مسقط فالإستدلال بهذا على أنه لم يجب أولى من إيجابه ثم الحكم بسقوطه؟
 قلنا: لا بعد في قولنا: استقر الوجوب بالإسلام وسقط بحكم العفو فليس في ذلك مخالفة نص ونصوص القرآن دلت على عقاب الكافر المتعاطي للفواحش وكذا الإجماع دل على الفرق بين كافر قتل الأنبياء والأولياء وشوش الدين وبين كافر لم يرتكب شيئا من ذلك فما ذكرناه أولى
 فإن قيل: فلم أوجبتم القضاء على المرتد دون الكافر الأصلي؟
 قلنا: القضاء إنما وجب بأمر مجدد فيتبع فيه موجب الدليل ولا حجة فيه إذ قد يجب القضاء على الحائض ولم تؤمر بالأداء وقد يؤمر بالأداء من لا يؤمر بالقضاء
وقد اعتذر الفقهاء بأن المرتد قد التزم بالإسلام القضاء والكافر لم يلتزم وهذا ضعيف فإن ما ألزمه الله تعالى فهو لازم التزمه العبد أو لم يلتزمه

 

ج / 1 ص -174-       فإن كان يسقط بعدم التزامه فالكافر الأصلي لم يلتزم العبادات وترك المحظورات فينبغي أن لا يلزمه ذلك