المستصفى من علم الأصول، ط الرسالة ج / 1 ص -175-
الفن الرابع من القطب الأول فيما يظهر الحكم به
وهو الذي يسمى سببا
وكيفية نسبة الحكم إليه
وفيه أربعة فصول
الفصل الأول في الأسباب
إعلم أنه لما عسر على الخلق
معرفة خطاب الله تعالى في كل حال لا سيما بعد انقطاع الوحي
أظهر الله سبحانه خطابه لخلقه بأمور محسوسة نصبها أسبابا
لأحكامه وجعلها موجبة ومقتضية للأحكام على مثال اقتضاء
العلة الحسية معلولها
ونعني بالأسباب ها هنا أنها هي التي
أضاف الأحكام إليها كقوله تعالى:{
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ }
[الإسراء :78] وقوله تعالى
{ فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }
[البقرة:185] وقوله صلى الله عليه وسلم "
صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" .
ج / 1 ص -176-
وهذا ظاهر فيما يتكرر من العبادات كالصلاة
والصوم والزكاة فإن ما يتكرر الوجوب بتكرره فجدير بأن يسمى سببا أما ما
لا يتكرر كالإسلام والحج فيمكن أن يقال ذلك معلوم بقوله تعالى
{ولله على الناس حج البيت } [آل
عمران:79] وكذا وجوب المعرفة على كل مكلف يعلم بالعمومات فلا حاجة إلى
إضافتها إلى سبب
ويمكن أن يقال: سبب وجوب الإيمان والمعرفة الأدلة
المنصوبة وسبب وجوب الحج البيت دون الاستطاعة ولما كان البيت واحدا لم
يجب الحج إلا مرة واحدة والإيمان معرفة فإذا حصلت دامت والأمر فيه قريب
هذا قسم العبادات
وأما قسم الغرامات والكفارات والعقوبات فلا تخفى
أسبابها.
وأما قسم المعاملات فلحل الأموال والإبضاع
وحرمتها أيضا أسباب ظاهرة من نكاح وبيع وطلاق وغيره وهذا ظاهر.
وإنما المقصود أن نصب الأسباب أسبابا للأحكام
أيضا حكم من الشرع فلله تعالى في الزاني حكمان
أحدهما: وجوب الحد عليه
والثاني: نصب الزنا سببا للوجوب
في حقه لأن الزنا لا يوجب الرجم لذاته وعينه بخلاف العلل العقلية وإنما
صار موجبا بجعل الشرع إياه موجبا فهو نوع من الحكم فلذلك أوردناه في
هذا القطب ولذلك يجوز تعليله ونقول نصب الزنا علة للرجم والسرقة علة
للقطع لكذا وكذا فاللواط في معناه فينتصب أيضا سببا والنباش في معنى
السارق.
وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب القياس .
وأعلم أن اسم السبب مشترك في اصطلاح الفقهاء وأصل
اشتقاقه من
ج / 1 ص -177-
الطريق ومن الحبل الذي به ينزح الماء من
البئر وحده ما يحصل الشيء عنده لا به فإن الوصول بالسير لا بالطريق
ولكن لا بد من الطريق ونزح الماء بالاستقاء لا بالحبل ولكن لا بد من
الحبل فاستعار الفقهاء لفظ السبب من هذا الموضع وأطلقوه على أربعة
أوجه:
الوجه الأول: وهو أقربها إلى
المستعار منه :ما يطلق في مقابلة المباشرة إذ يقال إن حافر البئر مع
المردي فيه صاحب سبب والمردي صاحب علة فإن الهلاك بالتردية لكن عند
وجود البئر فما يحصل الهلاك عنده لا به يسمى سببا
الثاني: تسميتهم الرمي سببا
للقتل من حيث أنه سبب للعلة وهو على التحقيق علة العلة ولكن لما حصل
الموت لا بالرمي بل بالواسطة أشبه ما لا يحصل الحكم إلا به
الثالث تسميتهم ذات العلة مع
تخلف وصفها سببا كقولهم الكفارة تجب باليمين دون الحنث فاليمين هو
السبب وملك النصاب هو سبب الزكاة دون الحول مع أنه لا بد منهما في
الوجوب ويريدون بهذا السبب ما تحسن إضافة الحكم إليه ويقابلون هذا
بالمحل والشرط فيقولون ملك النصاب سبب والحول شرط
الرابع تسميتهم الموجب سببا
فيكون السبب بمعنى العلة وهذا أبعد الوجوه عن وضع اللسان فإن السبب في
الوضع عبارة عما يحصل الحكم عنده
ج / 1 ص -178-
لا به ولكن هذا يحسن في العلل الشرعية لأنها
لا توجب الحكم لذاتها بل بإيجاب الله تعالى ولنصبه هذه الأسباب علامات
لإظهار الحكم فالعلل الشرعية في معنى العلامات المظهرة فشابهت ما يحصل
الحكم عنده
الفصل الثاني: في وصف السبب بالصحة والبطلان والفساد
إعلم أن هذا يطلق في العبادات تارة وفي
العقود أخرى
وإطلاقه في العبادات مختلف فيه
فالصحيح عند المتكلمين عبارة عما وافق الشرع وجب
القضاء أو لم يجب وعند الفقهاء عبارة عما أجزأ وأسقط الفضاء حتى أن
صلاة من ظن أن متطهر صحيحة في إصطلاح المتكلمين لأنه وافق الأمر
المتوجه عليه في الحال وأما القضاء فوجوبه بأمر مجدد فلا يشتق منه إسم
الصحة وهذه الصلاة فاسدة عند الفقهاء لأنها غير مجزئة وكذلك من قطع
صلاته بإنقاذ غريق فصلاته صحيحة عند المتكلم فاسدة عند الفقيه
وهذه الإصطلاحات وإن اختلفت فلا مشاحة فيها إذ
المعنى متفق عليه
وأما إذا أطلق في العقود فكل سبب منصوب لحكم إذا
أفاد حكمه المقصود منه يقال أنه صح وإن تخلف عنه مقصوده يقال إنه بطل
فالباطل هو الذي لا يثمر لأن السبب مطلوب لثمرته والصحيح هو الذي أثمر
ج / 1 ص -179-
والفاسد مرادف للباطل في إصطلاح أصحاب
الشافعي رضي الله عنه فالعقد إما صحيح وإما باطل وكل باطل فاسد
وأبو حنيفة أثبت قسما آخر في العقود بين البطلان
والصحة وجعل الفاسد عبارة عنه وزعم أن الفاسد معتقد لإفادة الحكم لكن
المعني بفساده أنه غير مشروع بوصفه والمعني بانعقاده أنه مشروع بأصله
كعقد الربا فإنه مشروع من حيث أنه بيع وممنوع من حيث أنه يشتمل على
زيادة في العوض فاقتضى هذا درجة بين الممنوع بأصله ووصفه جميعا وبين
المشروع بأصله ووصفه جميعا فلو صح له هذا القسم لم يناقش في التعبير
عنه بالفاسد ولكنه ينازع فيه إذ كل ممنوع بوصفه فهو ممنوع بأصله كما
سبق ذكره
الفصل الثالث: في وصف العبادة بالأداء والقضاء والإعادة
أعلم أن الواجب إذا أدي في وقته سمي أداء وإن
أدي بعد خروج وقته المضيق أو الموسع المقدر سمي قضاء وإن فعل مرة على
نوع من الخلل ثم فعل ثانيا في الوقت سمي إعادة فالإعادة اسم لمثل ما
فعل والقضاء اسم لفعل مثل ما فات وقته المحدود.
ويتصدى النظر في شيئين :
أحدهما: أنه لو غلب على ظنه في
الواجب الموسع أنه يخترم قبل الفعل فلو أخر عصي بالتأخير فلو أخر وعاش
قال القاضي رحمه الله :ما يفعله
ج / 1 ص -180-
هذا قضاء لأنه تقدر وقته بسبب غلبة الظن
وهذا غير مرضي عندنا فإنه لما انكشف خلاف ما ظن
زال حكمه وصار كما لو علم أنه يعيش فينبغي أن ينوي الأداء أعني المريض
إذا أخر الحج إلى السنة الثانية وهو مشرف على الهلاك ثم شفي .
الثاني أن الزكاة على الفور عند الشافعي رحمه
الله فلو أخر ثم أدى فيلزم على مساق كلام القاضي رحمه الله أن يكون
قضاء والصحيح أنه أداء لأنه لم يعين وقته بتقدير وتعيين وأنما أوجبنا
البدء بقرينة الحاجة وإلا فالأداء في جميع الأوقات موافق لموجب الأمر
وامتثال له وكذلك من لزمه قضاء صلاة على الفور فأخر فلا نقول أنه قضاء
القضاء.
ولذلك نقول: يفتقر وجوب القضاء إلى أمر مجدد
ومجرد الأمر بالأداء كاف في دوام اللزوم فلا يحتاج إلى دليل آخر وأمر
مجدد
فإذا الصحيح أن إسم القضاء مخصوص بما عين وقته
شرعا ثم فات الوقت قبل الفعل
دقيقة: أعلم أن القضاء قد يطلق مجازا وقد يطلق
حقيقة فإنه تلو الأداء وللأداء أربعة أحوال
الأولى: أن يكون واجبا فإذا تركه
المكلف عمدا أو سهوا وجب عليه القضاء ولكن حط المأثم عنه عند سهوه على
سبيل العفو فالإتيان بمثله بعده يسمى قضاء حقيقة
الثانية: أن لا يجب الأداء
كالصيام في حق الحائض فإنه حرام فإذا صامت بعد الطهر فتسميته قضاء مجاز
محض وحقيقته أنه فرض مبتدأ لكن لما تجدد هذا الفرض بسبب حالة عرضت منعت
من إيجاب الأداء حتى فات لفوات إيجابه سمي قضاء
وقد أشكل هذا على طائفة فقالوا وجب الصوم على
الحائض دون الصلاة
ج / 1 ص -181-
بدليل وجوب القضاء.
وجعل هذا الاسم مجازا أولى من مخالفة الإجماع إذ
لا خلاف أنه لو ماتت الحائض لم تكن عاصية فكيف تؤمر بما تعصي به لو
فعلته؟ وليس الحيض كالحدث فإن إزالته تمكن.
فإن قيل: فلم تنوي قضاء رمضان؟
قلنا :إن عينت بذلك أنها تنوي قضاء ما منع الحيض
من وجوبه فهو كذلك وإن عنيت أنه قضاء لما وجب عليها في حالة الحيض فهو
خطأ ومحال
فإن قيل: فلينو البالغ القضاء لما فات في حالة
الصغر
قلنا: لو أمر بذلك لنواه ولكن لم يجعل فوات
الإيجاب بالصبا سببا لإيجاب فرض مبتدأ بعد البلوغ كيف والمجاز إنما
يحسن بالاشتهار وقد اشتهر ذلك في الحيض دون الصبا
ولعل سبب اختصاص اشتهاره أن الصبا يمنع أصل
التكليف والحائض مكلفة فهي بصدد الإيجاب.
الحالة الثالثة :حالة المريض
والمسافر إذا لم يجب عليهما لكنهما إن صاما وقع عن الفرض فهذا يحتمل أن
يقال أنه مجاز أيضا إذ لا وجوب ويحتمل أن يقال إنه حقيقة إذ فعله في
الوقت لصح منه فإذا أخل بالفعل،
ج / 1 ص -182-
مع صحته فعله فهو شبيه بمن وجب عليه وتركه
سهوا أو عمدا أو نقول: قال الله تعالى:{ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }
[البقرة:184] فهو على سبيل التخيير فكان الواجب أحدهما لا بعينه إلا
أن هذا البدل لا يمكن إلا بعد فوات الأول والأول سابق بالزمان فسمي
قضاء لتعلقه بفواته بخلاف العتق والصيام في الكفارة إذ لا يتعلق أحدهما
بفوات الآخر ولكن يلزم على هذا أن تسمى الصلاة في آخر الوقت قضاء لأنه
مخير بين التقديم والتأخير كالمسافر .
والأظهر أن تسمية صوم المسافر قضاء مجاز أو
القضاء إسم مشترك بين ما فات أداؤه الواجب وبين ما خرج عن وقته المشهور
المعروف به ولرمضان خصوص نسبة إلى الصوم ليس ذلك لسواه بدليل أن الصبي
المسافر لو بلغ بعد رمضان لا يلزمه ولو بلغ في آخر وقت الصلاة لزمته
فإخراجه عن مظنة أدائه في حق العموم يوهم كونه قضاء .
والذي يقتضيه التحقيق أنه ليس بقضاء .
فإن قيل: فالنائم والناسي يقضيان ولا خطاب عليهما
لأنهما لا يكلفان
قلنا: هما منسوبان إلى الغفلة والتقصير ولكن الله
تعالى عفا عنهما وحط عنهما المأثم بخلاف الحائض والمسافر ولذلك يجب
عليهما الإمساك بقية النهار تشبها بالصائمين دون الحائض
ثم في المسافر مذهبان ضعيفان :أحدهما :مذهب أصحاب
الظاهر أن المسافر لا يصح صومه في السفر لقوله تعالى:{ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }
[البقرة:184]فلم يأمره إلا بأيام أخر
وهو فاسد، لأن سياق الكلام يفهمنا إضمار الإفطار
ومعناه :من كان منكم
ج / 1 ص -183-
مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر
كقوله تعالى
{ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ } [البقرة:60] يعني فضرب فانفجرت ولأن أصحاب رسول الله صلى الله عيه
وسلم في السفر كانوا يصومون ويفطرون ولا يعترض بعضهم على بعض
والثاني: مذهب الكرخي: أن الواجب
أيام أخر ولكن لو صام رمضان صح وكان معجلا للواجب كمن قدم الزكاة على
الحول .
وهو فاسد لأن الآية لا تفهم إلا الرخصة في
التأخير وتوسيع الوقت عليه والمؤدي في أول الوقت الموسع غير معجل بل هو
مؤد في وقته كما سبق في الصلاة في أول الوقت.
الحالة الرابعة: حال المريض فإن
كان لا يخشى الموت في الصوم فهو كالمسافر أما الذي يخشى الموت أو الضرر
العظيم فيعصي بترك الأكل فيشبه الحائض من هذا الوجه فلو صام يحتمل أن
يقال لا ينعقد لأنه عاص به فكيف يتقرب بما يعصي به؟ ويحتمل أن يقال:
إنما عصي بجنايته على الروح التي هي حق الله تعالى فيكون كالمصلي في
الدار المغصوبة يعصي لتناوله حق الغير ويمكن أن يقال قد قيل للمريض كل
فكيف يقال له لا تأكل ؟وهو معنى الصوم بخلاف الصلاة والغصب
ويمكن أن يجاب بأنه قيل له: لا تهلك نفسك وقيل
له: صم فلم يعص من حيث أنه صائم ،بل من حيث سعيه في الهلاك ويلزم عليه
صوم يوم النحر فإنه نهي عنه لترك إجابة الدعوة إلى أكل القرابين
والضحايا ،وهي ضيافة الله تعالى .ويعسر الفرق بينهما جدا. فهذه
احتمالات يتجاذبها المجتهدون
فإن قلنا: لا ينعقد صومه فتسمية تداركه قضاء مجاز
محض كما في حق الحائض وإلا فهو كالمسافر
ج / 1 ص -184-
الفصل الرابع: في العزيمة والرخصة
اعلم أن العزم عبارة عن القصد المؤكد قال الله
تعالى {
فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }[طه:115]
أي قصدا بليغا وسمي بعض الرسل أولي العزم لتأكيد قصدهم في طلب الحق.
والعزيمة: في لسان حملة الشرع عبارة عما لزم
العباد بإيجاب الله تعالى
والرخصة: في اللسان عبارة عن اليسر والسهولة يقال
رخص السعر إذا تراجع وسهل الشراء
وفي الشريعة: عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر
وعجز عنه مع قيام السبب المحرم فإن لم يوجبه الله تعالى علينا من صوم
شوال وصلاة الضحى لا يسمى رخصة وما أباحه في الأصل من الأكل والشرب لا
يسمى رخصة ويسمى تناول الميتة رخصة وسقوط صوم رمضان عن المسافر يسمى
رخصة
وعلى الجملة فهذا الاسم يطلق حقيقة ومجازا
فالحقيقة في الرتبة العليا كإباحة النطق بكلمة
الكفر بسبب الإكراه وكذلك إباحة شرب الخمر وإتلاف مال الغير بسب
الإكراه والمخمصة والغصص
ج / 1 ص -185-
بلقمة لا يسيغها إلا الخمر التي معه
وأما المجاز البعيد عن الحقيقة فتسمية ما حط عنا
من الأصر والإغلال التي وجبت على من قبلنا في الملل المنسوخة رخصة وما
لم يجب علينا ولا على غيرنا لا يسمى رخصة وهذا لما أوجب على غيرنا فإذا
قابلنا أنفسنا به حسن إطلاق اسم الرخصة تجوزا فإن الإيجاب على غيرنا
ليس تضييقا في حقنا والرخصة فسحة في مقابلة التضييق
ويتردد بين هاتين الدرجتين صور بعضها أقرب إلى
الحقيقة وبعضها أقرب إلى المجاز منها القصر والفطر في حق المسافر وهو
جدير بأن يسمى رخصة حقيقة لأن السبب هو شهر رمضان وهو قائم وقد دخل
المسافر تحت قوله تعالى:{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [البقرة184] وأخرج عن العموم بعذر وعسر
أما التيمم عند عدم الماء فلا يحسن تسميته رخصة
لأنه لا يمكن تكليف استعمال الماء مع عدمه فلا يمكن أن يقال السبب قائم
مع استحالة التكليف بخلاف المكره على الكفر والشرب فإنه قادر على الترك
نعم تجويز ذلك عند المرض أو الجراحة أو بعد الماء عنه أو بيعه بأكثر من
ثمن المثل رخصة بل التيمم عند فقهاء الماء كالإطعام عند فقد الرقبة
وذلك ليس برخصة بل أوجبت الرقبة في حالة والإطعام في حالة فلا نقول
السبب قائم عند فقد الرقبة بل الظهار سبب لوجوب العتق في حالة ولوجوب
الإطعام في حالة
فإن قيل: إن كان سبب وجوب الوضوء مندفعا عند فقد
الماء فسبب تحريم الكفر والشرب والميتة مندفع عند خوف الهلاك فكان
المحرم محرم بشرط انتفاء الخوف.
ج / 1 ص -186-
قلنا: المحرم في الميتة الخبث وفي الخمر
الإسكار وفي الكفر كونه جهلا بالله تعالى أو كذبا عليه وهذه المحرمات
قائمة وقد اندفع حكمها بالخوف فكل تحريم اندفع بالعذر والخوف مع إمكان
تركه يسمى اندفاعه رخصة ولا يمنع من ذلك تغيير العبارة بأن يجعل انتفاء
العذر شرطا مضموما إلى الموجب
فإن قيل: فالرخص تنقسم إلى ما يعصى بتركه كترك
أكل الميتة والإفطار عند خوف الهلاك وإلى ما لا يعصى كالإفطار والقصر
وترك كلمة الكفر وترك قتل من أكره على قتل نفسه فكيف يسمى ما يجب
الإتيان به رخصة ؟وكيف فرق بين البعض والبعض ؟
قلنا: أما تسميته رخصة وإن كانت واجبة فمن حيث أن
فيه فسحة إذ لم يكلف إهلاك نفسه بالعطش وجوز له تسكينه بالخمر وأسقط
عنه العقاب فمن حيث إسقاط العقاب عن فعله هو فسحة ورخصة ومن حيث إيجاب
العقاب على تركه هو عزيمة
وأما سبب الفرق فأمور مصلحية رآها المجتهدون وقد
اختلفوا فيها فمنهم من لم يجوز الاستسلام للصائل ومنهم من جوز وقال قتل
غيره محظور كقتله وإنما جوز له نظرا له وله أن يسقط حق نفسه إذا قابله
مثله وليس له أن يهلك نفسه ليمتنع عن ميتة وخمر فإن حفظ المهجة أهم في
الشرع من ترك اليمتة والخمر في حالة نادرة.
ومنها السلم فإنه بيع ما لا يقدر على تسليمه في
الحال فقد يقال: إنه رخصة لأن عموم نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث
حكيم بن حزام عن "بيع ما ليس
ج / 1 ص -187-
عنده" يوجب تحريمه وحاجة المفلس اقتضت
الرخصة في السلم ولا شك في أن تزويج الآبقة يصح ولا يسمى ذلك رخصة فإذا
قوبل ببيع الآبق فهو فسحة لكن قيل النكاح عقد آخر فارق شرطه البيع فلا
مناسبة بينهما ويمكن أن يقال السلم عقد آخر فهو بيع دين وذلك بيع عين
فافترقا وافتراقهما في الشرط لا يلحق أحدهما بالرخص فيشبه أن يكون هذا
مجازا فقول الراوي نهي عن بيع ما ليس عند الإنسان وأرخص في السلم تجوز
في الكلام
واعلم أن بعض أصحاب الرأي قالوا حد الرخصة أنه
الذي أبيح مع كونه حراما وهذا متناقض فإن الذي أبيح لا يكون حراما
وحذق بعضهم وقال ما أرخص فيه مع كونه حراما وهو
مثل الأول لأن الترخيص إباحة أيضا
وقد بنوا هذا على أصلهم إذ قالوا الكفر قبيح
لعينه فهو حرام فبالإكراه رخص له فيما هو قبيح في نفسه وعن هذا لو أصر
ولم يتلفظ بالكفر كان مثابا وزعموا أن المكره على الإفطار لو لم يفطر
يثاب لأن الإفطار قبيح والصوم قيام بحق الله تعالى والمكره على إتلاف
المال أيضا لو استسلم قالوا يثاب والمكره على تناول الميتة وشرب الخمر
زعموا أنه يأثم إن لم يتناول وفي هذه التفاصيل نظر فقهي لا يتعلق بمحض
الأصول
والمقصود أن قولهم أنه رخص في الحرام متناقض لا
وجه له
ج / 1 ص -188-
والله تعالى أعلم
وقد تم النظر في القطب الأول وهو النظر في حقيقة
الحكم وأقسامه فلننظر الآن في مثمر الحكم وهو الدليل |