المستصفى من علم الأصول، ط الرسالة ج / 1 ص -189-
القطب الثاني: في أدلة الأحكام
وهي أربعة :
الكتاب
والسنة
والإجماع
ودليل العقل المقرر على النفي الأصلي
فأما قول الصحابي وشريعة من قبلنا
فمختلف فيه
الأصل الأول من
أصول الأدلة: كتاب الله تعالى
واعلم أنا إذا حققنا النظر بان أن
أصل الأحكام واحد وهو قول الله تعالى إذ قول مشغول الرسول
صلى الله عليه وسلم ليس بحكم ولا ملزم بل هو مخبر عن الله
تعالى أنه حكم بكذا وكذا فالحكم لله تعالى وحده والإجماع
يدل على السنة والسنة على حكم الله تعالى
وأما العقل فلا يدل على الأحكام
الشرعية، بل يدل على نفي الأحكام عند
ج / 1 ص -190-
انتفاء السمع فتسمية العقل أصلا من أصول
الأدلة تجوز على ما يأتي تحقيقه
إلا أنا إذا نظرنا إلى ظهور الحكم في حقنا فلا
يظهر إلا بقول الرسول صلى الله عليه السلام
لأنا لا نسمع الكلام من الله تعالى ولا من جبريل
فالكتاب يظهر لنا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم
فإذن إن اعتبرنا المظهر لهذه الأحكام فهو قول
الرسول فقط إذ الإجماع يدل على أنهم استندوا إلى قوله وإن اعتبرنا
السبب الملزم فهو واحد وهو حكم الله تعالى
لكن إذا لم نجرد النظر وجمعنا المدارك صارت
الأصول التي يجب النظر فيها أربعة كما سبق
فلنبدأ بالكتاب
والنظر في حقيقته
ثم في حده المميز له عما ليس بكتاب
ثم في ألفاظه
ثم في أحكامه
النظر الأول: في حقيقته ومعناه
هو الكلام القائم بذات الله تعالى وهو صفة
قديمة من صفاته والكلام اسم مشترك قد يطلق على الألفاظ الدالة على ما
في النفس تقول سمعت
ج / 1 ص -191-
كلام
فلان وفصاحته وقد يطلق على مدلول العبارات وهي المعاني التي في النفس
كما قيل
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وقال الله تعالى
{ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا
نَقُولُ }
[المجادلة :8] وقال تعالى { وَأَسِرُّوا
قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ }
[الملك:13] فلا سبيل إلى إنكار كون هذا الاسم مشتركا
وقد قال قوم: وضع في الأصل للعبارات وهو مجاز في مدلولها وقيل عكسه ولا
يتعلق به غرض بعد ثبوت الاشتراك وكلام النفس ينقسم إلى خبر واستخبار
وأمر ونهي وتنبيه وهي معان تخالف بجنسها الإرادات والعلوم وهي متعلقة
بمتعلقاتها لذاتها كما تتعلق القدرة والإرادة والعلم وزعم قوم أنه يرجع
إلى العلوم والإرادات وليس جنسا برأسه وإثبات ذلك على المتكلم لا على
الأصولي
ج / 1 ص -192-
فصل
كلام الله تعالى واحد وهو مع وحدته متضمن لجميع
معاني الكلام كما أن علمه واحد وهو مع وحدته محيط بما لا يتناهى من
المعلومات حتى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وفهم
ذلك غامض وتفهيمه على المتكلم لا على الأصولي
وأما كلام النفس في حقنا فهو يتعدد كما تتعدد
العلوم
ويفارق كلامه كلامنا من وجه آخر وهو أن أحدا من
المخلوقين لا يقدر على أن يعرف غيره كلام نفسه إلا بلفظ أو رمز أو فعل
والله تعالى قادر على أن يخلق لمن يشاء من عباده علما ضروريا بكلامه من
غير توسط حرف وصوت ودلالة ويخلق لهم السمع أيضا بكلامه من غير توسط صوت
وحرف ودلالة ومن سمع ذلك من غير توسط فقد سمع كلام الله تحقيقا وهو
خاصية موسى صلوات الله تعالى عليه وعلى نبينا وسائر الأنبياء وأما من
سمعه من غيره ملكا كان أو نبيا كان تسميته سامعا كلام الله تعالى
كتسميتنا من سمع شعر المتنبي من غيره بأنه سمع شعر المتنبي وذلك أيضا
جائز ولأجله قال الله تعالى
{ وَإِنْ
أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ
كَلامَ اللَّهِ } [التوبة:6]
ج / 1 ص -193-
النظر الثاني: في حده
وحد الكتاب ما نقل إلينا بين دفتي المصحف على
الأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا
ونعني بالكتاب القرآن المنزل وقيدناه بالمصحف لأن
الصحابة بالغوا في الاحتياط في نقله حتى كرهوا التعاشير والنقط وأمروا
بالتجريد كيلا يختلط بالقرآن غيره ونقل إلينا متواترا فعلم أن المكتوب
في المصحف المتفق عليه هو القرآن وأن ما هو خارج عنه فليس منه إذ
يستحيل في العرف والعادة مع توفر الدواعي على حفظه أن يهمل بعضه فلا
ينقل أو يخلط به ما ليس منه
فإن قيل: هلا حددتموه بالعجز ؟
قلنا: لا لأن كونه معجزا يدل على صدق الرسول عليه
السلام لا على كونه كتاب الله تعالى لا محالة إذ يتصور الإعجاز بما ليس
بكتاب الله تعالى ولأن بعض الآية ليس بمعجز وهو من الكتاب
فإن قيل: فلم شرطتم التواتر؟
قلنا: ليحصل العلم به لأن الحكم بما لا يعلم جهل
وكون الشيء كلام الله تعالى أمر حقيقي ليس بوضعي حتى يتعلق بظننا فيقال
إذا ظننتم كذا فقد حرمنا عليكم فعلا أو حللناه لكم فيكون التحريم
معلوما عند ظننا ويكون ظننا علامة يتعلق التحريم به لأن التحريم بالوضع
فيمكن الوضع عند الظن وكون الشيء كلام الله تعالى أمر حقيقي ليس بوضعي
فالحكم فيه بالظن جهل ويتشعب عن حد الكلام مسألتان:
ج / 1 ص -194-
مسألة: [حكم تتابع الصيام في كفارة اليمين]
التتابع في صوم كفارة اليمين ليس بواجب على قول
وإن قرأ ابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات لأن هذه الزيادة لم
تتواتر فليست من القرآن فتحمل على أنه ذكرها في معرض البيان لما اعتقده
مذهبا فلعله اعتقد التتابع حملا لهذا المطلق على المقيد بالتتابع في
الظهار.
وقال أبو حنيفة :يجب لأنه وإن لم يثبت كونه قرآنا
فلا أقل من كونه خبرا والعمل يجب بخبر الواحد.
وهذا ضعيف لأن خبر الواحد لا دليل على كذبه وهو
أن جعله من القرآن فهو خطأ قطعا لأنه وجب على رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يبلغه طائفة من الأمة تقوم الحجة بقولهم وكان لا يجوز له
مناجاة الواحد به وإن لم يجعله من القرآن احتمل أن يكون ذلك مذهبا له
لدليل قد دله عليه واحتمل أن يكون خبرا وما تردد بين أن يكون خبرا أو
لا يكون فلا يجوز العمل به وإنما يجوز العمل بما يصرح الراوي بسماعه من
رسول الله صلى الله عليه وسلم
مسألة: [هل البسملة آية أم لا]
البسملة آية من القرآن لكن هل هي آية من أول
كل سورة فيه خلاف وميل الشافعي رحمه الله إلى أنها آية من كل سورة
الحمد وسائر السور لكنها في أول كل سورة آية برأسها وهي مع أول آية من
سائر السور آية وهذا مما نقل
ج / 1 ص -195-
عن الشافعي رحمه الله فيه تردد وهذا أصح من
قول من حمل تردد قول الشافعي على أنها هل هي من القرآن في أول كل سورة
؟بل الذي يصح أنها حيث كتبت مع القرآن بخط القرآن فهي من القرآن
فإن قيل: القرآن لا يثبت إلا بطريق قاطع متواتر
فإن كان هذا قاطعا فكيف اختلفوا فيه ؟وإن كان مظنونا فكيف يثبت القرآن
بالظن؟ ولو جاز هذا لجاز إيجاب التتابع في صوم كفارة اليمين بقول ابن
مسعود ولجاز للروافض أن يقولوا قد ثبتت إمامة علي رضي الله عنه بنص
القرآن ونزلت فيه آيات أخفاها الصحابة بالتعصب .
وإنما طريقنا في الرد عليهم أنا نقول نزل القرآن
معجزة للرسول عليه السلام وأمر الرسول عليه السلام بإظهاره مع قوم تقوم
الحجة بقولهم وهم أهل التواتر فلا يظن بهم التطابق على الإخفاء ولا
مناجاة الآحاد به حتى لا يتحدث أحد بالإنكار فكانوا يبالغون في حفظ
القرآن حتى كانوا يضايقون في الحروف ويمنعون من كتبة أسامي السور مع
القرآن ومن التعاشير والنقط كيلا يختلط بالقرآن غيره فالعادة تحيل
الإخفاء فيجب أن يكون طريق ثبوت القرآن القطع.
وعن هذا المعنى قطع القاضي رحمه الله بخطأ من جعل
البسملة من القرآن إلا في سورة النمل فقال لو كانت من القرآن لوجب على
الرسول عليه السلام أن يبين أنها من القرآن بيانا قاطعا للشك والاحتمال
إلا أنه قال أخطىء القائل به ولا أكفره لأن نفيها من القرآن لم يثبت
أيضا بنص صريح متواتر فصاحبه مخطىء وليس بكافر واعترف بأن البسملة
منزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة وأنها كتبت مع
القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال ابن عباس رضي الله
عنهما كان رسول الله لا يعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتى ينزل عليه
جبريل ببسم الله الرحمن الرحيم
لكنه لا يستحيل أن ينزل عليه ما ليس بقرآن .
وأنكر قول من نسب عثمان رضي الله عنه إلى البدعة
في كتبه بسم الله
ج / 1 ص -196-
الرحمن الرحيم في أول كل سورة .
وقال لو أبدع لاستحال في العادة سكوت أهل الدين
عنه مع تصلبهم في الدين كيف وقد أنكروا على من أثبت أسامي السور والنقط
والتعشير فما بالهم لم يجيبوا بأنا أبدعنا ذلك كما أبدع عثمان رضي الله
عنه كتبه البسملة لا سيما واسم السور يكتب بخط آخر متميز عن القرآن
والبسملة مكتوبة بخط القرآن متصلة به بحيث لا تتميز عنه فتحيل العادة
السكوت على من يبدعها لولا أنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والجواب: أنا نقول لا وجه لقطع القاضي بتخطئة
الشافعي رحمه الله لأن إلحاق ما ليس بقرآن بالقرآن كفر كما أنه من ألحق
القنوت أو التشهد أو التعوذ بالقرآن فقد كفر فمن ألحق البسملة لم لا
يكفر ولا سبب له إلا أنه يقال لم يثبت انتفاؤه من القرآن بنص متواتر
فنقول لو لم يكن من القرآن لوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم التصريح
بأنه ليس من القرآن وإشاعة ذلك على وجه يقطع الشك كما في التعوذ
والتشهد.
فإن قيل: ما ليس من القرآن لا حصر له حتى ينفي
إنما الذي يجب التنصيص عليه ما هو من القرآن.
قلنا: هذا صحيح ،لو لم تكتب البسملة بأمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم مع القرآن بخط القرآن ولو لم يكن منزلا على
رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة وذلك يوهم قطعا أنه من
القرآن ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يعرف كونه موهما
ولا جواز السكوت عن نفيه مع توهم الحاقه.
فإذا القاضي رحمه الله يقول لو كان من القرآن
لقطع الشك بنص متواتر تقوم الحجة به .
ج / 1 ص -197-
ونحن نقول: لو لم يكن من القرآن لوجب على
رسول الله صلى الله عليه وسلم التصريح بأنه ليس من القرآن وإشاعته
ولنفاه بنص متواتر بعد أن أمر بكتبه بخط القرآن ،إذ لا عذر في السكوت
عن قطع هذا التوهم فأما عدم التصريح بأنه من القرآن فإنه كان اعتمادا
على قرائن الأحوال، إذ كان يملي على الكاتب مع القرآن، وكان الرسول صلى
الله عليه وسلم وعليه السلام في أثناء إملائه لا يكرر مع كل كلمة وآية
أنها من القرآن، بل كان جلوسه له وقرائن أحواله تدل عليه وكان يعرف كل
ذلك قطعا ثم لما كانت البسملة أمر بها في أول كل أمر ذي بال ووجد ذلك
في أوائل السور ظن قوم أنه كتب على سبيل التبرك وهذا الظن خطأ ولذلك
قال ابن عباس رضي الله عنهما"سرق الشيطان من الناس آية من القرآن لما
ترك بعضهم قراءة البسملة في أول السورة" فقطع بأنها آية ولم ينكر عليه
كما ينكر على من ألحق التعوذ والتشهد بالقرآن. فدل على أن ذلك كان
مقطوعا به، وحدث الوهم بعده.
فإن قيل :بعد حدوث الوهم والظن صارت البسملة
اجتهادية، وخرجت عن مظنة القطع فكيف يثبت القرآن بالاجتهاد ؟
قلنا: جوز القاضي رحمه الله الخلاف في عدد الآيات
ومقاديرها، وأقر بأن ذلك منوط باجتهاد القراء، وأنه لم يبين بيانا
شافيا قاطعا للشك والبسملة من القرآن في سورة النمل هي مقطوع بكونها من
القرآن وإنما الخلاف في أنها من القرآن مرة واحدة أو مرات كما كتبت
فهذا يجوز أن يقع الشك فيه ويعلم بالاجتهاد لأنه نظر في تعيين موضع
الآية بعد كونها مكتوبة بخط القرآن فهذا جائز وقوعه والدليل على إمكان
الوقوع وأن الاجتهاد قد تطرق إليه: أن
ج / 1 ص -198-
النافي لم يكفر الملحق والملحق لم يكفر
النافي بخلاف القنوت والتشهد فصارت البسملة نظرية، وكتبها بخط القرآن
مع القرآن مع صلابة الصحابة وتشددهم في حفظ القرآن عن الزيادة قاطع أو
كالقاطع في أنها من القرآن
فإن قيل :فالمسألة صارت نظرية وخرجت عن أن تكون
معلومة بالتواتر علما ضروريا فهي قطعية أو ظنية؟
قلنا: الإنصاف أنها ليست قطعية بل هي اجتهادية.
ودليل جواز الاجتهاد فيها وقوع الخلاف فيها في زمان الصحابة رضي الله
عنهم حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما سرق الشيطان من الناس آية ولم
يكفر بإلحاقها بالقرآن ولا أنكر عليه ونعلم أنه لو نقل الصديق رضي الله
عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: البسملة من سورة الحمد وأوائل
السور المكتوبة معها لقبل ذلك بسبب كونها مكتوبة بأمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم ولو نقل أن القنوت مع القرآن لعلم بطلان ذلك بطريق قاطع
لا يشك فيه
وعلى الجملة: إذا أنصفنا وجدنا أنفسنا شاكين في
مسألة البسملة قاطعين في مسألة التعوذ والقنوت وإذا نظرنا في كتبها مع
القرآن بأمر رسول الله مع سكوته عن التصريح بنفي كونها من القرآن بعد
تحقق سبب الوهم كان ذلك دليلا ظاهرا كالقطع في كونها من القرآن فدل أن
الاجتهاد لا يتطرق إلى أصل القرآن أما ما هو من القرآن وهو مكتوب بخطه
فالاجتهاد فيه يتطرق إلى تعيين موضعه وأنه من القرآن مرة أو مرات وقد
أوردنا أدلة ذلك في كتاب حقيقة القرآن وتأويل ما طعن به على الشافعي
رحمه الله من ترديده القول في هذه المسألة
فإن قيل: قد أوجبتم قراءة البسملة في الصلاة وهو
مبني على كونها قرآنا وكونها قرآنا لا يثبت بالظن فإن الظن علامة وجوب
العمل في المجتهدات وإلا فهو جهل أي ليس بعلم فليكن كالتتابع في قراءة
ابن مسعود
ج / 1 ص -199-
قلنا: وردت أخبار صحيحة صريحة في وجوب قراءة
البسملة وكونها قرآنا متواترا معلوم وإنما المشكوك فيه أنها قرآن مرة
في سورة النمل أو مرات كثيرة في أول كل سورة فكيف تساوي قراءةابن مسعود
ولا يثبت بها القرآن ولا هي خبر وهاهنا صحت أخبار في وجوب البسملة وصح
بالتواتر أنها من القرآن؟ وعلى الجملة فالفرق بين المسألتين ظاهر
النظر الثالث في ألفاظه
وفيه ثلاث مسائل:
مسألة: [الحقيقة والمجاز ؟]:
ألفاظ العرب تشتمل على الحقيقة والمجاز كما
سيأتي في الفرق بينهما.
فالقرآن يشتمل على المجاز. خلافا لبعضهم فنقول:
المجاز: اسم مشترك: قد يطلق على الباطل الذي لا
حقيقة له والقرآن منزه عن ذلك ولعله الذي أراده من أنكر اشتمال القرآن
على المجاز وقد يطلق على اللفظ الذي تجوز به عن موضوعه وذلك لا ينكر في
القرآن مع قوله تعالى
{ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ } [يوسف:82] وقوله { جِدَاراً
ج / 1 ص -200-
يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } [الكهف :77] وقوله { لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ } [الحج :40 ] فالصلوات كيف تهدم؟ { َأوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة:6]
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [النور :35]
{يُؤْذُونَ اللَّهَ}
[ الأحزاب: 57] وهو يريد رسوله
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ
قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
مَعَ الْمُتَّقِينَ }[ البقرة:194] والقصاص حق فكيف يكون عدوانا
؟{ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [الشورى: من الآية40]
{ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ }
[البقرة:14] {وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللَّهُ}
[الأنفال:30]
{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة:64]
{أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا }]الكهف:
من الآية29[وذلك ما لا يحصى وكل ذلك مجاز كما سيأتي
مسألة[هل القرآن كله عربي؟!]
قال القاضي رحمه الله القرآن عربي كله لا
عجمية فيه وقال قوم فيه لغة غير العرب واحتجوا بأن المشكاة هندية
والإستبرق فارسية وقوله وفاكهة وأبا عبس قال بعضهم الأب ليس من لغة
العرب والعرب قد تستعمل اللفظة العجمية فقد استعمل في بعض القصائد
ج / 1 ص -201-
العثجاة يعني صدر المجلس وهو معرب كمشكاة
وقد تكلف القاضي إلحاق هذه الكلمات بالعربية وبين أوزانها وقال كل كلمة
في القرآن استعملها أهل لغة أخرى فيكون أصلها عربيا وإنما غيرها غيرهم
تغييرا ما كما غير العبرانيون فقالوا للإله لاهوت وللناس ناسوت وأنكر
أن يكون في القرآن لفظ عجمي مستدلا بقوله تعالى
{ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ
عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } [النحل:103 ] وقال: أقوى الأدلة قوله تعالى
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ }
[فصلت:44] ولوكان فيه لغة العجم لما كان عربيا محضا، بل عربيا
وعجميا ولاتخذ العرب ذلك حجة وقالوا نحن لا نعجز عن العربية أما
العجمية فنعجز عنها
وهذا غير مرضي عندنا إذ اشتمال جميع القرآن على
كلمتين أو ثلاث أصلها عجمي وقد استعملتها العرب ووقعت في ألسنتهم لا
يخرج القرآن عن كونه عربيا وعن إطلاق هذا الاسم عليه ولا يتمهد للعرب
حجة فإن الشعر الفارسي يسمى فارسيا وإن كانت فيه آحاد كلمات عربية إذا
كانت تلك الكلمات متداولة في لسان الفرس فلا حاجة إلى هذا التكلف
ج / 1 ص -202-
مسألة: [المحكم والمتشابه في القرآن]
في القرآن محكم ومتشابه كما قال تعالى
{ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ }[آل
عمران:7] .
واختلفوا في معناه وإذا لم يرد توقيف في بيانه
فينبغي أن يفسر بما يعرفه أهل اللغة ويناسب اللفظ من حيث الوضع
ولا يناسبه قولهم المتشابه هي الحروف المقطعة في
أوائل السور والمحكم ما وراء ذلك ولا قولهم المحكم ما يعرفه الراسخون
في العلم والمتشابه ما ينفرد الله تعالى بعلمه ولا قولهم المحكم الوعد
والوعيد والحلال والحرام والمتشابه القصص والأمثال وهذا أبعد بل الصحيح
أن المحكم يرجع إلى معنيين:
أحدهما: المكشوف المعنى الذي لا
يتطرق إليه إشكال واحتمال والمتشابه ما تعارض فيه الإحتمال
الثاني: أن المحكم ما انتظم
وترتب ترتيبا مفيدا ما على ما ظاهر أو على تأويل ما لم يكن فيه متناقض
ومختلف لكن هذا المحكم يقابله المثبج
ج / 1 ص -203-
والفاسد دون المتشابه وأما المتشابه فيجوز أن يعبر به عن الأسماء
المشتركة كالقرء وكقوله تعالى{ الذي بيده عقدة النكاح } ]البقرة:237[ فإنه مردد بين الزوج والولي وكاللمس المردد بين المس
والوطء وقد يطلق على ما ورد في صفات الله مما يوهم ظاهره الجهة
والتشبيه ويحتاج إلى تأويله
فإن قيل: قوله تعالى{
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ }[آل عمران:7] الواو للعطف أم الأولى الوقف على الله ؟
قلنا: كل واحد محتمل فإن كان المراد به وقت القيامة فالوقف أولى وإلا
فالعطف إذ الظاهر أن الله تعالى لا يخاطب العرب بما لا سبيل إلى معرفته
لأحد من الخلق
فإن قيل: فما معنى الحروف في أوائل السور؟ إذ لا يعرف أحد معناها
قلنا: أكثر الناس فيها وأقربها أقاويل:
أحدها: أنها أسامي السور حتى تعرف بها فيقال سورة يس وطه
وقيل: ذكرها الله تعالى لجمع دواعي العرب إلى الاستماع لأنها تخالف
عادتهم فتوقظهم عن الغفلة حتى تصرف قلوبهم إلى الإصغاء فلم يذكرها
لإرادة معنى
وقيل: إنما ذكرها كناية عن سائر حروف المعجم التي لا يخرج عنها جميع
كلام العرب تنبيها أنه ليس يخاطبهم إلا بلغتهم وحروفهم وقد ينبه ببعض
الشيء على كله يقال قرأ سورة البقرة وأنشد ألاهبي يعني جميع السورة
والقصيدة قال الشاعر:
يناشدني حاميم والرمح شاجر
فهلا تلا حاميم قبل التقدم
ج / 1 ص -204-
كنى بحاميم عن القرآن فقد ثبت أنه ليس في
القرآن ما لا تفهمه العرب فإن قيل العرب إنما تفهم من قوله تعالى{ وهو القاهر فوق عباده}
الأنعام و { الرحمن على العرش استوى}
طه الجهة والاستقرار وقد أريد به غيره فهو متشابه؟ قلنا: هيهات! فإن
هذه كنايات واستعارات يفهمها المؤمنون من العرب المصدقون بأن الله
تعالى ليس كمثله شيء وأنها مؤولة تأويلات تناسب تفاهم العرب
النظر الرابع في أحكامه
ومن أحكامه تطرق التأويل إلى ظاهر ألفاظه وتطرق
التخصيص إلى صيغ عمومه وتطرق النسخ إلى مقتضياته
أما التخصيص والتأويل فسيأتي في القطب الثالث إذا
فصلنا وجوه الاستثمار والاستدلال من الصيغ والمفهوم وغيرها
وأما النسخ: فقد جرت العادة بذكره بعد كتاب
الأخبار لأن النسخ يتطرق إلى الكتاب والسنة جميعا لكنا ذكرناه في أحكام
الكتاب لمعنيين أحدهما: إن إشكاله وغموضه من حيث تطرقه إلى كلام الله
تعالى مع استحالة البداءة عليه الثاني: إن الكلام على الأخبار قد طال
لأجل تعلقه بمعرفة طرقها من التواتر والآحاد فرأينا ذكره على أثر أحكام
الكتاب أولى وهذا :
ج / 1 ص -205-
كتاب النسخ
والنظر في حده وحقيقته
ثم في إثباته على منكريه
ثم في أركانه وشروطه وأحكامه
فنرسم فيه أبوابا:
ج / 1 ص -207-
الباب الأول: في حده وحقيقته وإثباته
أما حده فاعلم أن النسخ عبارة عن الرفع والإزالة
في وضع اللسان يقال نسخت الشمس الظل ونسخت الريح الآثار إذا أزالتها
وقد يطلق لإرادة نسخ الكتاب فهو مشترك ومقصودنا النسخ الذي هو بمعنى
الرفع والإزالة
فنقول: حده أنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم
الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه
وإنما آثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص ليكون شاملا
للفظ والفحوى والمفهوم وكل دليل إذ يجوز النسخ بجميع ذلك
وإنما قيدنا الحد بالخطاب المتقدم لأن ابتداء
إيجاب العبادات في الشرع مزيل حكم العقل من براءة الذمة ولا يسمى نسخا
لأنه لم يزل حكم خطاب
وإنما قيدنا بارتفاع الحكم ولم نقيد بارتفاع
الأمر والنهي ليعم جميع أنواع الحكم من الندب والكراهة والإباحة فجميع
ذلك قد ينسخ
وإنما قلنا لولاه لكان الحكم ثابتا به لأن حقيقة
النسخ الرفع فلو لم يكن هذا ثابتا لم يكن هذا رافعا لأنه إذا ورد أمر
بعبادة موقتة وأمر بعبادة أخرى بعد تصرم ذلك الوقت لا يكون الثاني نسخا
فإذا قال{ أَتِمُّوا
ج / 1 ص -208-
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }
[البقرة:187 ] ثم قال في الليل لا تصوموا لا يكون ذلك نسخا بل الرافع
ما لا يرتفع الحكم لولاه
وإنما قلنا: مع تراخيه عنه لأنه لو اتصل به لكان
بيانا وإتماما لمعنى الكلام وتقديرا له بمدة أو شرط
وإنما يكون رافعا إذا ورد بعد أن ورد الحكم
واستقر بحيث يدوم لولا الناسخ
وأما الفقهاء فإنهم لم يعقلوا الرفع لكلام الله
تعالى فقالوا في حد النسخ أنه الخطاب الدال الكاشف عن مدة العبادة أو
عن زمن انقطاع العبادة
وهذا يوجب أن يكون قوله صم بالنهار وكل بالليل
نسخا وقوله تعالى{ثُمَّ
أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}
[البقرة:187] نسخا وليس فيه معنى الرفع ولا يغنيهم أن يزيدوا شرط
التراخي فإن قوله الأول إذا لم يتناول إلا النهار فهو متقاعد عن الليل
بنفسه فأي معنى لنسخه وإنما يرفع ما دخل تحت الخطاب الأول وأريد باللفظ
الدلالة عليه وما ذكروه تخصيص وسنبين وجه مفارقة النسخ للتخصيص بل
سنبين أن الفعل الواحد إذا أمر به في وقت واحد يجوز نسخه قبل التمكن من
الامتثال وقبل وقته فلا يكون بيانا لانقطاع مدة العبادة
وأما المعتزلة فإنهم حدوه بأنه الخطاب الدال على
أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجهه لولاه لكان ثابتا
وربما أبدلوا لفظ الزائل بالساقط وربما أبدلوه بالغير الثابت كل ذلك
حذرا من الرفع وحقيقة النسخ الرفع فكأنهم أخلوا الحد عن حقيقة المحدود
فإن قيل: تحقيق معنى الرفع في الحكم يمتنع من
خمسة أوجه
الأول: أن المرفوع إما حكم ثابت
أو ما لا ثبات له ؟والثابت لا يمكن رفعه وما لا ثبات له لا حاجة إلى
رفعه فدل أن النسخ هو رفع مثل الحكم
ج / 1 ص -209-
الثابت لا رفع عينه أو هو بيان لمدة العبادة
كما قاله الفقهاء
الثاني: أن كلام الله تعالى قديم
عندكم والقديم لا يتصور رفعه
الثالث: أن ما أثبته الله تعالى
إنما أثبته لحسنه فلو نهى عنه لأدى إلى أن ينقلب الحسن قبيحا وهو محال
الرابع: أن ما أمر به أراد وجوده
فما كان مرادا كيف ينهى عنه حتى يصير مراد العدم مكروها؟
الخامس:
أنه يدل على البداء فإنه نهى عنه بعدما أمر به فكأنه بدا له فيما كان
قد حكم به وندم عليه
فالاستحالة الأولى من جهة استحالة نفس الرفع
والثانية من جهة قدم الكلام والثالثة من جهة صفة ذات المأمور في كونه
حسنا قبيحا والرابعة من جهة الإرادة المقترنة بالأمر والخامسة من جهة
العلم المتعلق به وظهور البداء بعده
والجواب عن الأول: أن الرفع من المرفوع كالكسر من
المكسور وكالفسخ من العقد إذ لو قال قائل ما معنى كسر الآنية وإبطال
شكلها من تربيع وتسديس وتدوير؟ فإن الزائل بالكسر تدوير موجود أو معدوم
؟والمعدوم لا حاجة إلى إزالته والموجود لا سبيل إلى إزالته فيقال معناه
أن استحكام شكل الآنية يقتضي بقاء صورتها دائما لولا ما ورد عليه من
السبب الكاسر فالكاسر قطع ما اقتضاه استحكام بنية الآنية لولا الكسر
فكذلك الفسخ يقطع حكم العقد من حيث أن الذي ورد عليه لولاه لدام فإن
البيع سبب للملك مطلقا بشرط أن لا يطرأ قاطع وليس طريان القاطع من
الفسخ مبينا لنا أن البيع في وقته انعقد مؤقتا ممدودا إلى غاية الفسخ
فإنا نعقل أن نقول بعتك هذه الدار سنة ونعقل أن نقول بعتك وملكتك أبدا
ثم نفسخ بعد انقضاء السنة وندرك الفرق بين الصورتين وأن الأول وضع لملك
قاصر
ج / 1 ص -210-
بنفسه والثاني وضع لملك مطلق مؤبد إلى أن
يقطع بقاطع فإذا فسخ كان الفسخ قاطعا لحكمه الدائم بحكم العقد لولا
القاطع لا بيانا لكونه في نفسه قاصر
وبهذا يفارق النسخ التخصيص فإن التخصيص يبين لنا
أن اللفظ ما أريد به الدلالة إلا على البعض والنسخ يخرج عن اللفظ ما
أريد به الدلالة عليه
ولأجل خفاء معنى الرفع أشكل على الفقهاء ووقعوا
في إنكار معنى النسخ
وأما الجواب عن الثاني: وهو استحالة رفع الكلام
القديم فهو فاسد إذ ليس معنى النسخ رفع الكلام بل قطع تعلقه بالمكلف
والكلام القديم يتعلق بالقادر العاقل فإذا طرأ العجز والجنون زال
التعلق فإذا عاد العقل والقدرة عاد التعلق والكلام القديم لا يتغير في
نفسه فالعجز والموت سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب عنه والنسخ
سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب كما أن حكم البيع وهو ملك المشتري
إياه تارة ينقطع بموت العبد المبيع وتارة بفسخ العاقد ولأجل خفاء هذه
المعاني أنكر طائفة قدم الكلام
وأما الجواب عن الثالث: وهو انقلاب الحسن قبيحا
فقد أبطلنا معنى الحسن والقبح وأنه لا معنى لهما وهذا أولى من الاعتذار
بأن الشيء يجوز أن يحسن في وقت ويقبح في وقت لأنه قد قال في رمضان لا
تأكل بالنهار وكل بالليل لأن النسخ ليس مقصورا عندنا على مثل ذلك بل
يجوز أن يأمر بشيء واحد في وقت وينهى عنه قبل دخول الوقت فيكون قد نهى
عما أمر به كما سيأتي
وأما الجواب عن الرابع: وهو صيرورة المراد مكروها
فهو باطل لأن الأمر عندنا يفارق الإرادة فالمعاصي مرادة عندنا وليست
مأمورا بها وسيأتي تحقيقه في كتاب الأوامر
وأما الجواب عن الخامس: وهو لزوم البداء فهو فاسد
لأنه إن كان المراد أنه يلزم من النسخ أن يحرم ما أباح وينهى عما أمر
فذلك جائز {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39 ] ولا تناقض فيه كما أباح الأكل بالليل
ج / 1 ص -211-
وحرمه بالنهار وإن كان المراد أنه انكشف له
ما لم يكن عالما به فهو محال ولا يلزم ذلك من النسخ بل يعلم الله تعالى
أنه يأمرهم بأمر مطلق ويديم عليهم التكليف إلى وقت معلوم ثم يقطع
التكليف بنسخه عنهم فينسخه في الوقت الذي علم نسخه فيه وليس فيه تبين
بعد جهل
فإن قيل: فهم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ أو
أبدا فإن كان إلى وقت النسخ فالنسخ قد بين وقت العبادة كما قاله
الفقهاء وإن كانوا مأمورين أبدا فقد تغير علمه ومعلومه
قلنا: هم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ الذي هو
قطع الحكم المطلق عنهم الذي لولاه لدام الحكم كما يعلم الله تعالى
البيع المطلق مفيدا للملك إلى أن ينقطع بالفسخ ولا يعلم البيع في نفسه
قاصرا على مدة بل يعلمه مقتضيا لملك مؤبد بشرط أن لا يطرأ قاطع لكن
يعلم أن النسخ سيكون فينقطع الحكم لانقطاع شرطه لا لقصوره في نفسه
فليس إذا في النسخ لزوم البداء ولأجل قصور فهم
اليهود عن هذا أنكروا النسخ ولأجل قصور فهم الروافض عنه ارتكبوا البداء
ونقلوا عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يخبر عن الغيب مخافة أن يبدو له
تعالى فيه فيغيره وحكوا عن جعفر بن محمد أنه قال ما بدا الله في شيء
كما بدا له في إسماعيل أي في أمره بذبحه وهذا هو الكفر الصريح ونسبة
الإله تعالى إلى الجهل والتغير ويدل على استحالته ما دل على أنه محيط
بكل شيء علما وأنه ليس محلا للحوادث والتغيرات وربما احتجوا بقوله
تعالى{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}
[الرعد:39 [ وإنما معناه أنه يمحو الحكم المنسوخ ويثبت الناسخ أو
يمحو السيئات بالتوبة كما قال تعالى
{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [هود: من الآية11] ويمحو الحسنات بالكفر والردة أو يمحو ما ترفع إليه
الحفظة من المباحات ويثبت الطاعات
فإن قيل:فما الفرق بين التخصيص والنسخ؟
قلنا :هما مشتركان من وجه إذ كل واحد يوجب
اختصاص الحكم
ج / 1 ص -212-
ببعض ما تناوله اللفظ لكن التخصيص بيان أن
ما أخرج عن عموم الصيغة ما أريد باللفظ الدلالة عليه والنسخ يخرج عن
اللفظ ما قصد به الدلالة عليه فإن قوله إفعل أبدا يجوز أن ينسخ وما
أريد باللفظ بعض الأزمنة بل الجميع لكن بقاؤه مشروط بأن لا يرد ناسخ
كما إذا قال ملكتك أبدا ثم يقول فسخت فالفسخ هذا إبداء ما ينافي شرط
استمرار الحكم بعد ثبوته وقصد الدلالة عليه باللفظ
فلذلك يفترقان في خمسة أمور:
الأول: أن الناسخ يشترط
تراخيه والتخصيص يجوز اقترانه لأنه بيان بل يجب اقترانه عند من لا يجوز
تأخير البيان
الثاني: أن التخصيص لا يدخل في
الأمر بمأمور واحد والنسخ يدخل عليه
والثالث: أن النسخ لا يكون إلا
بقول وخطاب والتخصيص قد يكون بأدلة العقل والقرائن وسائر أدلة السمع
الرابع: أن التخصيص يبقى دلالة
اللفظ على ما بقي تحته حقيقة كان أو مجازا على ما فيه من الاختلاف
والنسخ يبطل دلالة المنسوخ في مستقبل الزمان بالكلية
الخامس: أن تخصيص العام المقطوع
بأصله جائز بالقياس وخبر الواحد وسائر الأدلة ونسخ القاطع لا يجوز إلا
بقاطع
وليس من الفرق الصحيح قول بعضهم: أن النسخ لا
يتناول إلا الأزمان والتخصيص يتناول الأزمان والأعيان والأحوال وهذا
تجوز واتساع لأن الأعيان والأزمان ليست من أفعال المكلفين والنسخ يرد
على الفعل في بعض الأزمان والتخصيص أيضا يرد على الفعل في بعض الأحوال
فإذا قال اقتلوا المشركين إلا المعاهدين معناه لا تقتلوهم في حالة
العهد واقتلوهم في حالة الحرب والمقصود أن ورود كل واحد منهما على
ج / 1 ص -213-
الفعل
وهذا القدر كاف في الكشف عن حقيقة النسخ
الفصل الثاني: من هذا الباب في إثباته على منكريه
والمنكر إما جوازه عقلا أو وقوعه سمعا
أما جوازه عقلا فيدل عليه أنه لو امتنع لكان إما
ممتنعا لذاته وصورته أو لما يتولد عنه من مفسدة أو أداء إلى محال
ولا يمتنع لاستحالة ذاته وصورته بدليل ما حققناه
من معنى الرفع ودفعناه من الإشكالات عنه
ولا يمتنع لادائه إلى مفسدة وقبح فإنا أبطلنا هذه
القاعدة وإن سامحنا بها فلا بعد في أن يعلم الله تعالى مصلحة عباده في
أن يأمرهم بأمر مطلق حتى يستعدوا له ويمتنعوا بسبب العزم عن معاص
وشهوات ثم يخفف عنهم
وأما وقوعه سمعا فيدل عليه الإجماع والنص
أما الإجماع :فاتفاق الأمة قاطبة على أن شريعة
محمد صلى الله عليه وسلم نسخت شرع من قبله إما بالكلية وإما فيما
يخالفها فيه وهذا متفق عليه فمنكر هذا خارق للإجماع
وقد ذهب شذوذ من المسلمين إلى إنكار النسخ وهم
مسبوقون بهذا الإجماع فهذا الإجماع حجة عليهم وإن لم يكن حجة على
اليهود
وأما النص: فقوله تعالى
{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَر}
][النحل:101 ]الآية والتبديل يشتمل على رفع وإثبات والمرفوع إما تلاوة
وإما حكم وكيفما كان فهو رفع ونسخ
ج / 1 ص -214-
فإن قيل: ليس المعني به رفع المنزل فإن ما
أنزل لا يمكن رفعه وتبديله لكن المعني به تبديل مكان الآية بإنزال آية
بدل ما لم ينزل فيكون ما لم ينزل كالمبدل بما أنزل
قلنا: هذا تعسف بارد فإن الذي لم ينزل كيف يكون
مبدلا والبدل يستدعي مبدلا؟ وكيف يطلق اسم التبديل على ابتداء الإنزال
فهذا هوس وسخف
والدليل الثاني: قوله تعالى{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ
أُحِلَّتْ لَهُمْ }
[النساء:160]
ولا معنى للنسخ إلا تحريم ما أحل وكذلك قوله
تعالى { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا
أَوْ مِثْلِهَا }[البقرة:106]
فإن قيل: لعله أراد به التخصيص
قلنا: قد فرقنا بين التخصيص والنسخ فلا سبيل إلى
تغيير اللفظ كيف والتخصيص لا يستدعي بدلا مثله أو خيرا منه؟! وإنما هو
بيان معنى الكلام
الدليل الثالث: ما اشتهر في
الشرع من نسخ تربص الوفاة حولا بأربعة أشهر وعشر ونسخ فرض تقديم الصدقة
أمام مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى
{فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } [المجادلة: من الآية12] ومنه نسخ تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى
الكعبة بقوله تعالى{
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }
[البقرة :144]
وعلى الجملة اتفقت الأمة على إطلاق لفظ النسخ في
الشرع
فإن قيل: معناه نسخ ما في اللوح المحفوظ إلى صحف
الرسل والأنبياء وهو بمعنى نسخ الكتاب ونقله
قلنا: فإذا شرعنا منسوخ كشرع من قبلنا، لأن شرعنا
قد نقل من اللوح
ج / 1 ص -215-
المحفوظ، وهذا اللفظ كفر بالاتفاق كيف وقد
نقلنا من قبلة إلى قبلة ومن عدة إلى عدة فهو تغيير وتبديل ورفع قطعا
الفصل الثالث في مسائل تتشعب عن النظر في حقيقة النسخ
وهي ست مسائل :
مسألة:[ هل ينسخ الأمر]
يجوز عندنا نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال
خلافا للمعتزلة وصورته أن يقول الشارع في رمضان حجوا في هذه السنة ثم
يقول قبل يوم عرفة لا تحجوا فقد نسخت عنكم الأمر أو يقول إذبح ولدك
فيبادر إلى إحضار أسبابه فيقول قبل ذبحه لا تذبح فقد نسخت عنك الأمر
لأن النسخ عندنا رفع للأمر أي لحكم الأمر ومدلوله وليس بيانا لخروج
المنسوخ عن لفظ الأمر بخلاف التخصيص فلو قال صلوا أبدا فيجوز أن ينسخ
بعد سنة وجوب في المستقبل لا بمعنى أنه لم يقصد باللفظ الأول الدلالة
على جميع الأزمان ولكن بمعنى قطع حكم اللفظ بعد دوامه إذ كان دوامه
مشروطا بعدم النسخ فكل أمر مضمن بشرط أن لا ينسخ فكأنه يقول صلوا أبدا
ما لم أنهكم ولم أنسخ عنكم أمري وإذا كان كذلك عقل نسخ الحج قبل عرفة
ونسخ الذبح قبل فعله لأن الأمر قبل التمكن حاصل وإن كان أمرا بشرط
التمكن لأن الأمر بالشرط ثابت ولذلك يعلم المأمور كونه مأمورا قبل
التمكن من الإمتثال
ولما لم تفهم المعتزلة هذا أنكروا ثبوت الأمر
بالشرط كما سيأتي فساد مذهبهم في كتاب الأوامر
وأقرب دليل على فساده أن المصلي ينوي الفرض
وامتثال الأمر في ابتداء
ج / 1 ص -216-
الصلاة وربما يموت في أثنائها وقبل تمام
التمكن ولو مات قبل لم يتبين أنه لم يكن مأمورا بل نقول كان مأمورا
بأمر مقيد بشرط والأمر المقيد بالشرط ثابت في الحال وجد الشرط أو لم
يوجد وهم يقولون إذا لم يوجد الشرط علمنا انتفاء الأمر من أصله وإنا
كنا نتوهم وجوبه فبان أنه لم يكن فهذه المسألة فرع لتلك المسألة ولذلك
أحالت المعتزلة النسخ قبل التمكن
وقالوا أيضا:إنه يؤدي إلى أن يكون الشيء الواحد
في وقت واحد على وجه واحد مأمورا منهيا حسنا قبيحا مكروها مرادا مصلحة
مفسدة
وجميع ما يتعلق بالحسن والقبح والصلاح والفساد قد
أبطلناه ولكن يبقى لهم مسلكان:
المسلك الأول: أن الشيء الواحد
في وقت واحد كيف يكون منهيا عنه ومأمورا به على وجه واحد؟
وفي الجواب عنه طريقتان:
الأولى إنا لا نسلم أنه منهي عنه على الوجه الذي
هو مأمور به بل على وجهين كما ينهى عن الصلاة مع الحدث ويؤمر بها مع
الطهارة وينهى عن السجود للصنم ويؤمر بالسجود لله عز وجل لاختلاف
الوجهين
ثم اختلفوا في كيفية اختلاف الوجهين فقال قوم هو
مأمور بشرط بقاء الأمر منهي عنه عند زوال الأمر فهما حالتان مختلفتان.
ومنهم من أبدل لفظ بقاء الأمر بانتفاء النهي أو
بعدم المنع والألفاظ متقاربه
وقال قوم: هو مأمور بالفعل في الوقت المعين بشرط
أن يختار الفعل والعزم وإنما ينهى عنه إذا علم أنه لا يختاره وجعلوا
حصول ذلك في علم الله تعالى بشرط هذا النسخ
وقال قوم يأمر بشرط كونه مصلحة وإنما يكون مصلحة
مع دوام الأمر
ج / 1 ص -217-
أما بعد النهي فيخرج عن كونه مصلحة
وقال قوم: إنما يأمر في وقت يكون الأمر مصلحة ثم
يتغير الحال فيصير النهي مصلحة وأنما يأمر الله تعالى به مع علمه بأن
إيجابه مصلحة مع دوام الأمر أما بعد النهي فيخرج عن كونه مصلحة
وقال قوم: إنما يأمر الله به مع العلم بأن الحال
ستتغير ليعزم المكلف على فعله إن بقيت المصلحة في الفعل
وكل هذا متقارب وهو ضعيف لأن الشرط ما يتصور أن
يوجد وأن لا يوجد فإما ما لا بد منه فلا معنى لشرطيته والمأمور لا يقع
مأمورا إلا عند دوام الأمر وعدم النهي فكيف يقول آمرك بشرط أن لا أنهاك
فكأنه يقول آمرك بشرط أن آمرك وبشرط أن يتعلق الأمر بالمأمور وبشرط أن
يكون الفعل المأمور به حادثا أو عرضا أو غير ذلك مما لا بد منه فهذا لا
يصلح للشرطية وليس هذا كالصلاة مع الحدث والسجود للصنم فإن الانقسام
يتطرق إليه
ومن رغب في هذه الطريقة فأقرب العبارات أن يقول
الأمر بالشيء قبل وقته يجوز أن يبقى حكمه على المأمور إلى وقته ويجوز
أن يزال حكمه قبل وقته فيجوز أن يجعل بقاء حكمه شرطا في الأمر فيقال
إفعل ما أمرتك به إن لم يزل حكم أمري عنك بالنهي عنه فإذا نهى عنه كان
قد زال حكم الأمر فليس منهيا على الوجه الذي أمر به
الطريقة الثانية أنا لا نلتزم
إظهار اختلاف الوجه لكن نقول يجوز أن يقول ما أمرناك أن تفعله على وجه
فقد نهيناك عن فعله على ذلك الوجه ولا استحالة فيه إذ ليس المأمور حسنا
في عينه أو لوصف هو عليه قبل الأمر به حتى يتناقض ذلك ولا المأمور
مرادا حتى يتناقض أن يكون مرادا مكروها بل جميع ذلك من أصول المعتزلة
وقد أبطلناها
فإن قيل: فإذا علم الله تعالى أنه سينهى عنه فما
معنى أمره بالشيء الذي يعلم انتفاءه قطعا لعلمه بعواقب الأمور؟
ج / 1 ص -218-
قلنا :لا يصح ذلك إن كانت عاقبة أمره معلومة
للمأمور أما إذا كان مجهولا عند المأمور معلوما عند الآمر أمكن الأمر
لامتحانه بالعزم والاشتغال بالاستعداد المانع له من أنواع اللهو
والفساد حتى يعرض بالعزم للثواب وبتركه للعقاب وربما يكون فيه لطف
واستصلاح كما سيأتي تحقيقه في كتاب الأوامر
والعجب من إنكار المعتزلة ثبوت الأمر بالشرط مع
أنهم جوزوا الوعد من العالم بعواقب الأمور بالشرط وقالوا وعد الله على
الطاعة ثوابا بشرط عدم ما يحبطها من الفسق والردة وعلى المعصية عقابا
بشرط خلوها عما يكفرها من التوبة والله تعالى عالم بعاقبة أمر من يموت
على الردة والتوبة ثم شرط ذلك في وعده فلم يستحل أن يشرط في أمره ونهيه
وتكون شرطيته بالإضافة إلى العبد الجاهل بعاقبة الأمر فيقول أثيبك على
طاعتك ما لم تحبطها بالردة وهو عالم بأنه يحبط أم
لا يحبط وكذلك يقول أمرتك بشرط البقاء والقدرة وبشرط أن لا أنسخ عنك
المسلك الثاني في إحالة النسخ
قبل التمكن: قولهم: الأمر والنهي عندكم كلام الله تعالى القديم وكيف
يكون الكلام الواحد أمرا بالشيء الواحد ونهيا عنه في وقت واحد بل كيف
يكون الرافع والمرفوع واحدا والناسخ والمنسوخ كلام الله تعالى؟
قلنا: هذا إشارة إلى إشكالين:
أحدهما: كيفية اتحاد كلام الله
تعالى ولا يختص ذلك بهذه المسألة بل ذلك عندنا كقولهم العالمية حالة
واحدة ينطوي فيها العلم بما لا نهاية من التفاصيل وإنما يحل إشكاله في
الكلام
أما الثاني: فهو أن كلامه واحد
وهو أمر بالشيء ونهي عنه ولو علم المكلف ذلك دفعة واحدة لما تصور منه
اعتقاد الوجوب والعزم على الأداء ولم يكن ذلك منه بأولى من اعتقاد
التحريم والعزم على الترك
فنقول: كلام الله تعالى في نفسه واحد وهو
بالإضافة إلى شيء أمر،
ج / 1 ص -219-
وبالإضافة إلى شيء خبر ولكنه إنما يتصور
الامتحان به إذا سمع المكلف كليهما في وقتين ولذلك شرطنا التراخي في
النسخ ولو سمع كليهما في وقت واحد لم يجز وأما جبريل عليه السلام فإنه
يجوز أن يسمعه في وقت واحد إذ لم يكن هو مكلفا ثم يبلغ الرسول صلى الله
عليه وسلم في وقتين إن كان ذلك الرسول داخلا تحت التكليف فإن لم يكن
فيبلغ في وقت واحد لكن يؤمر بتبيلغ الأمة في وقتين فيأمرهم مطلقا
بالمسالمة وترك قتال الكفار ومطلقا باستقبال بيت المقدس في كل صلاة ثم
ينهاهم عنها بعد ذلك فيقطع عنهم حكم الأمر المطلق كما يقطع حكم العقد
بالفسخ
ومن أصحابنا من قال: الأمر لا يكون أمرا قبل بلوغ
المأمور فلا يكون أمرا ونهيا في حالة واحدة بل في حالتين فهذا أيضا
يقطع التناقض ويدفعه.
ثم الدليل القاطع من جهة السمع على جوازه قصة
إبراهيم عليه السلام ونسخ ذبح ولده عنه قبل الفعل وقوله تعالى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] فقد أمر بفعل واحد ولم يقصر في البدار والامتثال ثم
نسخ عنه .
وقد اعتاص هذا على القدرية حتى تعسفوا في تأويله
وتحزبوا فرقا وطلبوا الخلاص من خمسة أوجه:
أحدها: أن ذلك كان مناما لا أمرا
الثاني: أنه كان أمرا، لكن قصد
به تكليفه العزم على الفعل لامتحان سره في صبره على العزم فالذبح لم
يكن مأمورا به
الثالث: أنه لم ينسخ الأمر لكن
قلب الله تعالى عنقه نحاسا أو حديدا فلم ينقطع فانقطع التكليف لتعذره
الرابع: المنازعة في المأمور وأن المأمور به كان هو الإضجاع والتل
للجبين وإمرار السكين دون حقيقة الذبح الخامس: جحود النسخ وأنه ذبح
امتثالا فالتأم واندمل
والذاهبون إلى هذا التأويل اتفقوا على أن إسماعيل
ليس بمذبوح واختلفوا
ج / 1 ص -220-
في كون إبراهيم عليه السلام ذابحا فقال قوم
هو ذابح للقطع والولد غير مذبوح لحصول الالتئام وقال قوم ذابح لا مذبوح
له محال وكل ذلك تعسف وتكلف
[الرد على هذه الأوجه المتقدمة:]
أما الأول: وهو كونه مناما
فمنام الأنبياء جزء من النبوة وكانوا يعرفون أمر الله تعالى به فلقد
كانت نبوة جماعة من الأنبياء عليهم السلام بمجرد المنام ويدل على فهمه
الأمر قول ولده:
{افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}
[الصافات :102] ولو لم يؤمر لكان كاذبا وأنه لا يجوز قصد الذبح والتل
للجبين بمنام لا أصل له وأنه سماه البلاء المبين وأي بلاء في المنام؟
وأي معنى للفداء ؟
وأما الثاني: وهو أنه كان مأمورا
بالعزم اختبارا فهو محال لأن علام الغيوب لا يحتاج إلى الاختبار ولأن
الاختبار إنما يحصل بالإيجاب فإن لم يكن إيجاب لم يحصل اختبار وقولهم
العزم هو الواجب محال لأن العزم على ما ليس بواجب لا يجب بل هو تابع
للمعزوم ولا يجب العزم ما لم يعتقد وجوب المعزوم عليه ولو لم يكن
المعزوم عليه واجبا لكان إبراهيم عليه السلام أحق بمعرفته من القدرية
كيف وقد قال
{ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } [الصافات:102[فقال له ولده
{افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}
[الصافات :102] يعني الذبح وقوله تعالى{ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:
من الآية103] استسلام لفعل الذبح لا للعزم
وأما الثالث: وهو أن الإضجاع
بمجرده هو المأمور به فهو محال إذ لا يسمى ذلك ذبحا ولا هو بلاء ولا
يحتاج إلى الفداء بعد الامتثال
وأما الرابع: وهو إنكار النسخ
وأنه امتثل لكن انقلب عنقه حديدا ففات التمكن فانقطع التكليف فهذا لا
يصح على أصولهم لأن الأمر بالمشروط لا يثبت عندهم بل إذا علم الله
تعالى أنه يقلب عنقه حديدا فلا يكون آمرا بما يعلم امتناعه فلا يحتاج
إلى الفداء فلا يكون بلاء في حقه
وأما الخامس: وهو أنه فعل والتأم
فهو محال لأن الفداء كيف يحتاج إليه
ج / 1 ص -221-
بعد الالتئام ؟ولو صح ذلك لاشتهر وكان ذلك
من آياته الظاهرة ولم ينقل ذلك قط وإنما هو اختراع من القدرية
فإن قيل: أليس قد قال
{قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا }[الصافات:
من الآية105]
قلنا: معناه أنك عملت في مقدماته عملا مصدقا
بالرؤيا والتصديق غير التحقيق والعمل
مسألة: هل نسخ بعض العبادة نسخ لها
إذا نسخ بعض العبادة أو شرطها أو سنة من
سننها كما لو أسقطت ركعتان من أربع أو أسقط شرط الطهارة فقد قال قائلون
هو نسخ لبعض العبادة لا لأصلها قال قائلون هو نسخ لأصل العبادة وقال
قائلون نسخ الشرط ليس نسخا للأصل أما نسخ البعض فهو نسخ للأصل ولم
يسمحوا بتسمية الشرط بعضا ومنهم من أطلق ذلك.
وكشف الغطاء عندنا أن نقول: إذا أوجب أربع ركعات
ثم اقتصر على ركعتين فقد نسخ أصل العبادة لأن حقيقة النسخ الرفع
والتبديل ولقد كان حكم الأربع الوجوب فنسخ وجوبها بالكلية والركعتان
عبادة أخرى لا أنها بعض من الأربعة إذ لو كانت بعضا لكان من صلى الصبح
أربعا فقد أتى بالواجب وزيادة كما لو صلى بتسليمتين وكما لو وجب عليه
درهم فتصدق بدرهمين
فإن قيل: إذا رد الأربع إلى ركعة فقد كانت الركعة
حكمها أنها غير مجزية والآن صارت مجزئة فهل هذا نسخ آخر مع نسخ الأربع؟
قلنا: كون الركعة غير مجزئة معناه أن وجودها
كعدمها وهذا حكم أصلي عقلي ليس من الشرع والنسخ هو رفع ما ثبت بالشرع
فإذا لم يرد بلفظ النسخ إلا الرفع كيف كان من غير نظر إلى المرفوع فهذا
نسخ لكنا بينا في حد النسخ خلافه
ج / 1 ص -222-
وأما إذا أسقطت الطهارة فقد نسخ وجوب
الطهارة وبقيت الصلاة واجبة نعم كان حكم الصلاة بغير طهارة أن لا تجزىء
والآن صارت مجزئة لكن هذا تغيير لحكم أصلي لا لحكم شرعي فإن الصلاة
بغير طهارة لم تكن مجزئة لأنها لم تكن مأمورا بها شرعا
فإن قيل: كانت صحة الصلاة متعلقة بالطهارة فنسخ
تعلق صحتها بها شرعا فهو نسخ متعلق بنفس العبادة فالصلاة مع الطهارة
غير الصلاة مع الحدث كما أن الثلاث غير الأربع فليكن هذا نسخا لتلك
الصلاة أو إيجابا بغيرها ؟
قلنا :لهذا تخيل قوم أن نسخ شرط العبادة كنسخ
البعض ولا شك أنه لو أوجب الصلاة مع الحدث لكان نسخا لإيجابها مع
الطهارة وكانت هذه عبادة أخرى أما إذا جوزت الصلاة كيف كانت مع الطهارة
وغير الطهارة فقد كانت الصلاة بغير طهارة غير مجزئة لبقائها على الحكم
الأصلي إذ لم يؤمر بها فالآن جعلت مجزئة وارتفع الحكم الأصلي أما صحة
الصلاة وأنها كانت متعلقة بالطهارة فنسخ هذا التعلق نسخ لأصل العبادة
أو نسخ لتعلق الصحة ولمعنى الشرطية هذا فيه نظر والخطب فيه يسير فليس
يتعلق به كبر فائدة
وأما إذا نسخت سنة من سننها لا يتعلق بها الأجزاء
كالوقوف على يمين الإمام أو ستر الرأس فلا شك أن هذا لا يتعرض للعبادة
بالنسخ
فإذا :تبعيض مقدار العبادة نسخ لأصل العبادة
وتبعيض السنة لا يتعرض للعبادة وتبعيض الشرط فيه نظر وإذا حقق كان
إلحاقه بتبعيض قدر العبادة أولى.
مسألة:[ هل الزيادة على النص نسخ أم لا؟:]
الزيادة على النص نسخ عند قوم وليست بنسخ عند قوم
.
والمختار عندنا التفصيل: فنقول: ينظر إلى تعلق
الزيادة بالمزيد عليه
ج / 1 ص -223-
والمراتب فيه ثلاثة
الأولى: أن يعلم أنه لا يتعلق به
كما إذا أوجب الصلاة والصوم ثم أوجب الزكاة والحج لم يتغير حكم المزيد
عليه إذ بقي وجوبه وأجزاؤه والنسخ هو رفع حكم وتبديل ولم يرتفع
الرتبة الثانية: وهي في أقصى
البعد عن الأولى أن تتصل الزيادة بالمزيد عليه اتصال اتحاد يرفع التعدد
والانفصال كما لو زيد في الصبح ركعتان فهذا نسخ إذ كان حكم الركعتين
الأجزاء والصحة وقد ارتفع نعم الأربعة استؤنف إيجابها ولم تكن واجبة
وهذا ليس بنسخ إذ المرفوع هو الحكم الأصلي دون الشرعي
فإن قيل: اشتملت الأربعة على الثنتين وزيادة فهما
قارتان لم ترفعا وضمت إليهما ركعتان.
قلنا: النسخ رفع الحكم لا رفع المحكوم فيه فقد
كان من حكم الركعتين الأجزاء والصحة وقد ارتفع كيف وقد بينا أنه ليست
الأربعة ثلاثة وزيادة بل هي نوع آخر إذ لو كان لكانت الخمسة أربعة
وزيادة فإذا أتى بالخمسة فينبغي أن تجزىء ولا صائر إليه
الرتبة الثالثة: وهي بين
المرتبتين زيادة عشرين جلدة على ثمانين جلدة في القذف وليس انفصال هذه
الزيادة كانفصال الصوم عن الصلاة ولا اتصالها كاتصال الركعات :
وقد قال أبو حنيفة رحمه الله: هو نسخ
وليس بصحيح بل هو بالمنفصل أشبه لأن الثمانين نفي
وجوبها وأجزاؤها عن نفسها ووجبت زيادة عليها مع بقائها فالمائة ثمانون
وزيادة ولذلك لا ينتفي الأجزاء عن الثمانين بزيادة عليها بخلاف الصلاة
وفائدة هذه المسألة: جواز إثبات التغريب بخبر
الواحد عندنا ،ومنعه
ج / 1 ص -224-
عندهم لأن القرآن لا ينسخ بخبر الواحد.
فإن قيل: قد كانت الثمانون حدا كاملا فنسخ اسم
الكمال رفع لحكمه لا محالة.
قلنا: هو رفع ولكن ليس ذلك حكما مقصودا شرعيا بل
المقصود وجوده وأجزاؤه وقد بقي كما كان فلو أثبت مثبت كونه حكما مقصودا
شرعيا لامتنع نسخه بخبر الواحد بل هو كما لو أوجب الشرع الصلاة فقط فمن
أتى بها فقد أدى كلية ما أوجبه الله تعالى عليه بكماله فإذا أوجب الصوم
خرجت الصلاة عن كونها كلية الواجب لكن ليس هذا حكما مقصودا .
فإن قيل: هو نسخ لوجوب الاقتصار على الثمانين لأن
إيجاب الثمانين مانع من الزيادة
قلنا: ليس منع الزيادة بطريق المنطوق بل بطريق
المفهوم ولا يقولون به ولا نقول به هاهنا
ثم رفع المفهوم كتخصيص العموم فإنه رفع بعض مقتضى
اللفظ فيجوز بخبر الواحد.
ثم أنما يستقيم هذا لو ثبت أنه ورد حكم المفهوم
واستقر ثم ورد التغريب بعده وهذا لا سبيل إلى معرفته بل لعله ورد بيانا
لإسقاط المفهوم متصلا به أو قريبا منه
فإن قيل: التفسيق ورد الشهادة يتعلق بالثمانين
فإذا زيد عليها أزال تعلقه
ج / 1 ص -225-
بها
قلنا: يتعلق التفسيق ورد الشهادة بالقذف لا بالحد
ولو سلمنا لكان ذلك حكما تابعا للحد لا مقصودا وكان كحل النكاح بعد
انقضاء أربعة أشهر وعشر من عدة الوفاة وتصرف الشرع في العدة بردها من
حول إلى أربعة أشهر وعشر ليس تصرفا في إباحة النكاح بل في نفس العدة
.والنكاح تابع
فإن قيل: فلو أمر بالصلاة مطلقا ثم زيد شرط
الطهارة فهل هو نسخ ؟
قلنا: نعم لأنه كان حكم الأول أجزاء الصلاة بغير
طهارة فنسخ أجزاؤها وأمر بصلاة مع طهارة
فإن قيل: فيلزمكم المصير إلى أجزاء طواف المحدث
لأنه تعالى قال
{
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:
من الآية29] ولم يشرط الطهارة والشافعي رحمه الله منع الأجزاء لقوله
صلى الله عليه وسلم "الطواف بالبيت صلاة" وهو خبر الواحد وأبو حنيفة
رحمه الله قضى بأن هذا الخبر يؤثر في إيجاب الطهارة أما في إبطال
الطواب وأجزائه وهو معلوم بالكتاب فلا
قلنا: لو استقر قصد العموم في الكتاب واقتضى
أجزاء الطواف محدثا ومع الطهارة فاشتراط الطهارة رفع ونسخ ولا يجوز
بخبر الواحد ولكن قوله تعالى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: من الآية29] يجوز أن يكون أمرا بأصل الطواف ويكون بيان شروطه
موكولا إلى الرسول عليه السلام فيكون قوله بيانا وتخصيصا للعموم لا
نسخا فإنه نقصان من النص لا زيادة على النص لأن عموم النص يقتضي أجزاء
الطواف بطهارة وغير طهارة فأخرج خبر الواحد أحد القسمين من لفظ القرآن
فهو نقصان من النص لا زيادة عليه
ويحتمل أن يكون رفعا إن استقر العموم قطعا وبيانا
إن لم يستقر ولا معنى لدعوى استقراره بالتحكم وهذا نظير قوله تعالى{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
[النساء: من الآية92] فإنه يعم المؤمنة وغير المؤمنة فيجوز تخصيص
العموم إذ قد يراد بالآية ذكر أصل الكفارة ويكون أمرا بأصل الكفارة دون
قيودها وشروطها فلو استقر العموم وحصل القطع بكون العموم مرادا لكان
نسخه ورفعه بالقياس وخبر الواحد ممتنعا
ج / 1 ص -226-
فإن قيل: فما قولكم في تجويز المسح على
الخفين هل هو نسخ لغسل الرجلين؟
قلنا :ليس نسخا لأجزائه ولا لوجوبه لكنه نسخ
لتضييق وجوبه وتعينه وجاعل إياه أحد الواجبين ويجوز أن يثبت بخبر
الواحد
فإن قيل :فالكتاب أوجب غسل الرجلين على التضييق ؟
قلنا :قد بقي تضييقه في حق من لم يلبس خفا على
الطهارة وأخرج من عمومه من لبس الخف على الطهارة وذلك في ثلاثة أيام أو
يوم وليلة
فإن قيل :فقوله تعالى
{ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } [البقرة: من الآية282] توجب إيقاف الحكم على شاهدين فإذا حكم بشاهد
ويمين بخبر الواحد فقد رفع إيقاف الحكم فهو نسخ ؟
قلنا: ليس كذلك فإن الآية لا تقتضي إلا كون
الشاهدين حجة وجواز الحكم بقولهما أما امتناع الحكم بحجة أخرى فليس من
الآية بل هو كالحكم بالإقرار وذكر حجة واحدة لا يمنع وجود أخرى وقولهم
ظاهر الآية أن لا حجة سواه فليس هذا ظاهر منطوقة ولا حجة عندهم
بالمفهوم ولو كان فرفع المفهوم رفع بعض مقتضى اللفظ وكل ذلك لو سلم
استقرار المفهوم وثباته وقد ورد خبر الشاهد واليمين بعده وكل ذلك غير
مسلم
مسألة :[إثبات بدل غير المنسوخ] :
ليس من شرط النسخ إثبات بدل غير المنسوخ.
وقال قوم: يمتنع ذلك.
فنقول: يمتنع ذلك عقلا أو سمعا؟ ولا يمتنع عقلا
جوازه إذ لو امتنع لكان الإمتناع لصورته أو لمخالفته المصلحة والحكمة
ولا يمتنع لصورته إذ يقول قد أوجبت عليك القتال ونسخته عنك ورددتك إلى
ما كان قبل من
ج / 1 ص -227-
الحكم الأصلي ولا يمتنع للمصلحة فإن الشرع
لا ينبني عليها وإن ابتنى فلا يبعد أن تكون المصلحة في رفعه من غير
إثبات بدل وإن منعوا جوازه سمعا فهو تحكم بل نسخ النهي عن إدخار لحوم
الأضاحي وتقدمة الصدقة أمام المناجاة ولا بدل لها وإن نسخت القبلة إلى
بدل ووصية الأقربين إلى بدل وغير ذلك وحقيقة النسخ هو الرفع فقط
أما قوله تعالى
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا
أَوْ مِثْلِهَا }
[البقرة: من الآية106] أن تمسكوا به فالجواب من أوجه:
الأول: أن هذا لا يمنع الجواز وإن منع الوقوع عند
من يقول بصيغة العموم ومن لا يقول بها فلا يلزمه أصلا
ومن قال بها فلا يلزمه من هذا أنه لا يجوز في
جميع المواضع إلا ببدل بل يتطرق التخصيص إليه بدليل الأضاحي والصدقة
أمام المناجاة
ثم ظاهره أنه أراد أن نسخ آية بآية أخرى مثلها لا
يتضمن الناسخ إلا رفع المنسوخ أو يتضمن مع ذلك غيره فكل ذلك محتمل
مسألة: [الأخف والأثقل في النسخ] :
قال قوم: يجوز النسخ بالأخف ولا يجوز
بالأثقل.
فنقول: امتناع النسخ بالأثقل عرفتموه عقلا أو
شرعا ولا يستحيل عقلا لأنه لا يمتنع لذاته ولا للاستصلاح فإنا ننكره
وإن قلنا به فلم يستحيل أن تكون المصلحة في التدريج والترقي من الأخف
إلى الأثقل كما كانت المصلحة في ابتداء التكليف ورفع الحكم الأصلي؟
فإن قيل إن الله تعالى رؤوف رحيم بعباده ولا يليق
به التشديد
ج / 1 ص -228-
قلنا: فينبغي أن لا يليق به ابتداء التكليف
ولا تسليط المرض والفقر وأنواع العذاب على الخلق
فإن قالوا :إنه يمتنع سمعا لقوله تعالى
{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }
[البقرة: من الآية185]ولقوله تعالى{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ }[النساء: من الآية28]
قلنا: فينبغي أن يتركهم وإباحة الفعل ففيه اليسر
ثم ينبغي أن لا ينسخ بالمثل لأنه لا يسر فيه إذ اليسر في رفعه إلى غير
بدل أو بالأخف وهذه الآيات وردت في صور خاصة أريد بها التخفيف وليس فيه
منع إرادة التثقيل والتشديد
فإن قيل: فقد قال {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } [البقرة: من الآية106] وهذا خير عام والخير ما هو خير لنا وإلا
فالقرآن خير كله والخير لنا ما هو أخف علينا؟
قلنا: لا بل الخير ما هو أجزل ثوابا وأصلح لنا في
المآل وإن كان أثقل في الحال.
فإن قيل: لا يمتنع ذلك عقلا، بل سمعا لأنه لم
يوجد في الشرع نسخ بالأثقل
قلنا: ليس كذلك إذ أمر الصحابة أولا بترك القتال
والأعراض ثم بنصب القتال مع التشديد بثبات الواحد للعشرة وكذلك نسخ
التخيير بين الصوم والفدية بالإطعام بتعيين الصيام وهو تضييق وحرم
الخمر ونكاح المتعة والحمر الأهلية بعد إطلاقها ونسخ جواز تأخير الصلاة
عند الخوف إلى إيجابها في أثناء القتال ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان
وكانت الصلاة ركعتين عند قوم فنسخت بأربع في الحضر
ج / 1 ص -229-
مسألة :[هل هناك نسخ في حق من لم يبلغه الخبر أم لا]:
اختلفوا في النسخ في حق من لم يبلغه الخبر :
فقال قوم :النسخ حصل في حقه وإن كان جاهلا به.
وقال قوم: ما لم يبلغه لا يكون نسخا في حقه.
والمختار أن للنسخ حقيقة وهو ارتفاع الحكم السابق
ونتيجة وهو وجوب القضاء وانتفاء الأجزاء بالعمل السابق:
أما حقيقته فلا يثبت في حق من لم يبلغه وهو رفع
الحكم لأن من أمر باستقبال بيت المقدس فإذا نزل النسخ بمكة لم يسقط
الأمر عمن هو باليمن في الحال بل هو مأمور بالتمسك بالأمر السابق ولو
ترك لعصى وإن بان أنه كان منسوخا ولا يلزمه استقبال الكعبة بل لو
استقبلها لعصى وهذا لا يتجه فيه خلاف
وأما لزوم القضاء للصلاة إذا عرف النسخ فيعرف ذلك
بدليل نص أو قياس وربما يجب القضاء حيث لا يجب الإداء كما في الحائض لو
صامت عصت ويجب عليها القضاء فكذلك يجوز أن يقال هذا لو استقبل الكعبة
عصى ويلزمه استقبالها في القضاء وكما نقول في النائم والمغمى عليه إذا
تيقظ وأفاق يلزمهما قضاء ما لم يكن واجبا لأن من لا يفهم لا يخاطب
فإن قيل: إذا علم النسخ ترك تلك القبلة بالنسخ أو
بعلمه بالنسخ والعلم لا تأثير له فدل أن الحكم انقطع بنزول الناسخ لكنه
جاهل به وهو مخطىء فيه لكنه معذور.
قلنا: الناسخ هو الرافع لكن العلم شرط ويحال عند
وجود الشرط على الناسخ ولكن لا نسخ قبل وجود الشرط لأن الناسخ خطاب ولا
يصير خطابا في حق من لم يبلغه وقولهم أنه مخطىء :محال لأن اسم الخطأ
يطلق على
ج / 1 ص -230-
من طلب شيئا فلم يصب أو على من وجب عليه
الطلب فقصر ولا يتحقق شيء منه في محل النزاع.
ج / 1 ص -231-
الباب الثاني في أركان النسخ وشروطه
ويشتمل عى تمهيد لمجامع الأركان والشروط وعلى
مسائل تتشعب من أحكام الناسخ والمنسوخ
أما التمهيد:
فاعلم أن أركان النسخ أربعة النسخ والناسخ
والمنسوخ والمنسوخ عنه فإذا كان النسخ حقيقته رفع الحكم فالناسخ هو
الله تعالى فإنه الرافع للحكم والمنسوخ هو الحكم المرفوع والمنسوخ عنه
هو المتعبد المكلف والنسخ قوله الدال على رفع الحكم الثابت
وقد يسمى الدليل ناسخا على سبيل المجاز فيقال هذه
الآية ناسخة لتلك وقد يسمى الحكم ناسخا مجازا فيقال صوم رمضان ناسخ
لصوم عاشوراء
والحقيقة هو الأول لأن النسخ هو الرفع والله
تعالى هو الرافع بنصب الدليل على الارتفاع وبقوله الدال عليه
وأما مجامع شروطه فالشروط أربعة:
الأول: أن يكون المنسوخ حكما
شرعيا لا عقليا أصليا كالبراءة الأصلية التي ارتفعت بإيجاب العبادات
الثاني: أن يكون النسخ بخطاب
فارتفاع الحكم بموت المكلف ليس نسخا إذ ليس المزيل خطابا رافعا لحكم
خطاب سابق ولكنه قد قيل أولا الحكم عليك ما دمت حيا فوضع الحكم قاصر
على الحياة فلا يحتاج إلى الرفع.
ج / 1 ص -232-
الثالث: أن لا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدا بوقت يقتضي دخوله زوال الحكم
كقوله تعالى
{ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }[البقرة:
من الآية187]
لآ أن يكون الخطاب الناسخ متراخيا لا كقوله تعالى
{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}[البقرة: من الآية222[ وقوله تعالى{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[
التوبة: من الآية29]
وليس يشترط فيه تسعة أمور:
الأول: أن يكون رافعا للمثل
بالمثل بل أن يكون رافعا فقط.
الثاني: أن لا يشترط ورود النسخ
بعد دخول وقت المنسوخ بل يجوز قبل دخول وقته.
الثالث: أن لا يتشرط أن يكون
المنسوخ مما يدخله الاستثناء والتخصيص بل يجوز ورود النسخ على الأمر
بفعل واحد في وقت واحد
الرابع: أن لا يشترط أن يكون نسخ
القرآن بالقرآن والسنة بالسنة فلا تشترط الجنسية بل يكفي أن يكون مما
يصح النسخ به
الخامس: أن لا يشترط أن يكونا
نصين قاطعين إذ يجوز نسخ خبر الواحد بخبر
ج / 1 ص -233-
الواحد وبالمتواتر وإن كان لا يجوز نسخ
المتواتر بخبر الواحد
السادس :لا يشترط أن يكون الناسخ
منقولا بمثل لفظ منسوخ بل أن يكون ثابتا بأي طريق كان فإن التوجه إلى
بيت المقدس لم ينقل إلينا بلفظ القرآن والسنة وناسخه نص صريح في القرآن
وكذلك لا يمتنع نسخ الحكم المنطوق به باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم
وقياسه، وإن لم يكن ثابتا بلفظ ذي صيغة وصورة يجب نقلها.
السابع: لا يشترط أن يكون الناسخ
مقابلا للمنسوخ حتى لا ينسخ الأمر إلا بالنهي ولا النهي إلا بالأمر بل
يجوز أن ينسخ كلاهما بالإباحة وأن ينسخ الواجب المضيق بالموسع وإنما
يشترط أن يكون الناسخ رافعا حكما من المنسوخ كيف كان
الثامن :لا يشترط كونهما ثابتين
بالنص بل لو كان بلحن القول وفحواه وظاهره وكيف كان بدليل أن النبي صلى
الله عليه وسلم بين أن آية وصية الأقارب نسخت بقوله
"إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث" مع أن الجمع بين الوصية والميراث ممكن فليسا متنافيين تنافيا
قاطعا.
التاسع :لا يشترط نسخ الحكم ببدل
أو بما هو أخف بل يجوز بالمثل والأثقل وبغير بدل كما سبق.
ولنذر الآن مسائل تتشعب عن النظر في ركني المنسوخ
والناسخ وهي
ج / 1 ص -234-
مسألتان في المنسوخ وأربع مسائل في المنسوخ
به
مسألة:[ هل الحكم الشرعي قابل للنسخ أم لا؟ ]
ما من حكم شرعي إلا وهو قابل للنسخ خلافا
للمعتزلة فإنهم قالوا من الأفعال مالها صفات نفسية تقتضي حسنها وقبحها
فلا يمكن نسخها مثل معرفة الله تعالى والعدل وشكر المنعم فلا يجوز نسخ
وجوبه ومثل الكفر والظلم والكذب فلا يجوز نسخ تحريمه وبنوا هذا على
تحسين العقل وتقبيحه وعلى وجوب الأصلح على الله تعالى وحجروا بسببه على
الله تعالى في الأمر والنهي وربما بنوا هذا على صحة إسلام الصبي وأن
وجوبه بالعقل وإن استثناء الصبي عنه غير ممكن
وهذه أصول أبطلناها وبينا أنه لا يجب أصل التكليف
على الله تعالى كان فيه صلاح العباد أو لم يكن نعم بعد أن كلفهم لا
يمكن أن ينسخ جميع التكاليف إذ لا يعرف النسخ من لا يعرف الناسخ وهو
الله عز وجل ويجب على المكلف معرفة النسخ والناسخ والدليل المنصوب عليه
فيبقى هذا التكليف بالضرورة
ونسلم أيضا أنه لا يجوز أن يكلفهم أن لا يعرفوه
وأن يحرم عليهم معرفته لأن قوله أكلفك أن لا تعرفني يتضمن المعرفة أي
إعرفني لأني كلفتك أن لا تعرفني وذلك محال فيمكتنع التكليف فيه عند من
يمنع تكليف المحال وكذلك لا يجوز أن يكلفه معرفة شيء من الحوادث على
خلاف ما هو به لأنه محال لا يصح فعله ولا تركه
مسألة :[ نسخ الحكم أو التلاوة أو نسخهما معا] :
الآية إذا تضمنت حكما يجوز نسخ تلاوتها دون
حكمها ونسخ حكمها دون تلاوتها ونسخهما جميعا وظن قوم استحالة ذلك.
ج / 1 ص -235-
فنقول هو جائز عقلا وواقع شرعا
أما جوازه عقلا: فإن التلاوة وكتبتها في القرآن
وانعقاد الصلاة بها كل ذلك حكمها كما أن التحريم والتحليل المفهوم من
لفظها حكمها وكل حكم فهو قابل للنسخ وهذا حكم فهو إذن قابل للنسخ.
وقد قال قوم: نسخ التلاوة أصلا ممتنع لأنه لو كان
المراد منها الحكم لذكر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وما
أنزله الله تعالى عليه إلا ليتلى ويثاب عليه فكيف يرفع .
قلنا: وأي استحالة في أن يكون المقصود مجرد الحكم
دون التلاوة لكن أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ معين؟
فإن قيل: فإن جاز نسخها فلينسخ الحكم معها لأن
الحكم تبع للتلاوة فكيف يبقى الفرع مع نسخ الأصل؟ قلنا: لا بل التلاوة
حكم وانعقاد الصلاة بها حكم آخر فليس بأصل وإنما الأصل دلالتها وليس في
نسخ تلاوتها والحكم بأن الصلاة لا تنعقد بها نسخ لدلالتها فكم من دليل
لا يتلى ولا تنعقد به صلاة وهذه الآية دليل لنزولها وورودها لا لكونها
متلوة في القرآن والنسخ لا يرفع ورودها ونزولها ولا يجعلها كأنها غير
واردة بل يلحقها بالوارد الذي لا يتلى كيف ويجوز أن ينعدم الدليل ويبقى
المدلول؟! فإن الدليل علامة لا علة فإذا دل فلا ضرر في انعدامه كيف
والموجب للحكم كلام الله تعالى القديم ولا ينعدم ولا يتصور رفعه ونسخه
فإذا قلنا الآية منسوخة أردنا به انقطاع تعلقها عن العبد وارتفاع
مدلولها وحكمها لا ارتفاع ذاتها.
فإن قيل: نسخ الحكم مع بقاء التلاوة متناقض لأنه
رفع للمدلول مع بقاء الدليل.
قلنا: إنما يكون دليلا عند انفكاكه عما يرفع حكمه
فإذا جاء خطاب ناسخ لحكمه زال شرط دلالته.
ثم الذي يدل على وقوعه سمعا قوله تعالى
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [البقرة:
من الآية184 ] وقد بقيت تلاوتها ونسخ حكمها بتعيين الصوم
ج / 1 ص -236-
والوصية للوالدين ووقربين متلوة في القرآن
وحكمها منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم
"لا وصية لوارث" ونسخ تقديم الصدقة أمام المناجاة والتلاوة
باقية ونسخ التربص حولا عن المتوفى عنها زوجها والحبس والأذى عن اللاتي
يأتين الفاحشة بالجلد والرجم مع بقاء التلاوة
وأما نسخ التلاوة: فقد تظاهرت الأخبار بنسخ تلاوة
آية الرجم مع بقاء حكمها وهي قوله تعالى" الشيخ والشيخة إذا زنيا
فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم"
واشتهر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت "أنزلت
عشر رضعات من محرمات فنسخن بخمس" وليس ذلك في الكتاب.
مسألة:[ أنواع النسخ]
يجوز نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن لأن
الكل من عند الله عز وجل فما المانع منه ولم يعتبر التجانس مع أن العقل
لا يحيله كيف وقد دل السمع على وقوعه إذ التوجه إلى بيت المقدس ليس في
القرآن وهو في السنة وناسخه في القرآن وكذلك قوله تعالى{
فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ }[البقرة:
من الآية187] نسخ لتحريم المباشرة وليس التحريم في القرآن ونسخ صوم
عاشوراء بصوم رمضان وكان عاشوراء ثابتا بالسنة وصلاة الخوف وردت في
القرآن ناسخة لما ثبت في السنة من جواز تأخيرها إلى انجلاء القتال حتى
قال
ج / 1 ص -237-
عليه السلام يوم الخندق وقد أخر الصلاة:
"حشا الله قبورهم نارا" لحبسهم له عن الصلاة وكذلك قوله تعالى{ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}[الممتحنة: من الآية10] نسخ لما قرره عليه السلام من العهد والصلح
وأما نسخ القرآن بالسنة فنسخ الوصية للوالدين
والأقربين بقوله ألا لا وصية لوارث لأن آية الميراث لا تمنع الوصية
للوالدين والأقربين إذ الجمع ممكن وكذلك قال صلى الله عليه وسلم قد
"جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب
جلد مائة والرجم" فهو ناسخ لإمساكهن في البيوت
وهذا فيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم بين أن آية
الميراث نسخت آية الوصية ولم ينسخها هو بنفسه صلى الله عليه وسلم، وبين
أن الله تعالى جعل لهن سبيلا، وكان قد وعد الله تعالى به، فقال:
{ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: من الآية15]
فإن قيل: قال الشافعي رحمه الله: لا يجوز نسخ
السنة بالقرآن كما لا يجوز نسخ القرآن بالسنة وهو أجل من أن لا يعرف
هذه الوجوه في النسخ فكأنه يقول إنما تلتغي السنة بالسنة إذ يرفع النبي
سنته بسنته ويكون هو مبينا لكلام نفسه وللقرآن ولا يكون القرآن مبينا
للسنة وحيث لا يصادف ذلك فلأنه لم ينقل وإلا فلم يقع النسخ إلا كذلك
قلنا: هذا إن كان في جوازه عقل فلا يخفى أنه يفهم
من القرآن وجوب
ج / 1 ص -238-
التحول إلى الكعبة وإن كان التوجه إلى بيت
المقدس ثابتا بالسنة وكذلك عكسه ممكن وإن كان يقول لم يقع هذا فقد
نقلنا وقوعه ولا حاجة إلى تقدير سنة خافية مندرسة إذ لا ضرورة في هذا
التقدير والحكم بأن ذلك لم يقع أصلا تحكم محض وإن قال الأكثر كان ذلك
فربما لا ينازع فيه
احتجوا بقوله تعالى{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ
قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ
أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ
رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ]يونس:15[ فدل أنه لا ينسخ القرآن بالسنة
قلنا :لا خلاف في أنه لا ينسخ من تلقاء نفسه بل
بوحي يوحى إليه لكن لا يكون بنظم القرآن وإن جوزنا النسخ في الاجتهاد
فالإذن في الاجتهاد يكون من الله عز وجل والحقيقة أن الناسخ هو الله عز
وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم
والمقصود أنه ليس من شرطه أن ينسخ حكم القرآن
بقرآن بل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بوحي ليس بقرآن وكلام الله
تعالى واحد هو الناسخ باعتبار والمنسوخ باعتبار وليس له كلامان أحدهما
قرآن والآخر ليس بقرآن وإنما الاختلاف في العبارات فربما دل على كلامه
بلفظ منظوم يأمرنا بتلاوته فيسمى قرآنا وربما دل بغير لفظ متلوفيسمى
سنة والكل مسموع من الرسول عليه السلام والناسخ هو الله تعالى في كل
حال
على أنهم طالبوه بقرآن مثل هذا القرآن فقال لا
أقدر عليه من تلقاء نفسي وما طالبوه بحكم غير ذلك فأين هذا من نسخ
القرآن بالسنة وامتناعه؟
ج / 1 ص -239-
احتجوا بقوله تعالى
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } ]البقرة: من الآية106[وبين أن الآية لا تنسخ إلا بمثلها أو بخير
منها فالسنة لا تكون مثلها ثم تمدح وقال
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}]البقرة: من الآية106[بين أنه لا يقدر عليه غيره
قلنا: قد حققنا أن الناسخ هو الله تعالى وأنه
المظهر له على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم المفهم إيانا بواسطته نسخ
كتابه ولا يقدر عليه غيره .
ثم لو نسخ الله تعالى آية على لسان رسوله صلى
الله عليه وسلم، ثم أتى بآية أخرى مثلها كان قد حقق وعده فلم يشترط أن
تكون الآية الأخرى هي الناسخة للأولى.
ثم نقول ليس المراد الإتيان بقرآن آخر خير منها
،لأن القرآن لا يوصف بكون بعضه خيرا من البعض كيفما قدر قديما أو
مخلوقا بل معناه أن يأتي بعمل خير من ذلك العمل لكونه أخف منه أو لكونه
أجزل ثوابا
مسألة: لا ينسخ الإجماع
الإجماع لا ينسخ به إذ لا نسخ بعد انقطاع
الوحي، وما نسخ بالإجماع
ج / 1 ص -240-
فالإجماع يدل على ناسخ قد سبق في زمان نزول
الوحي من كتاب أو سنة
مسألة: نسخ المتواتر بالآحاد
أما السنة فينسخ المتواتر منها بالمتواتر
والآحاد بالآحاد
أما نسخ المتواتر منها بالآحاد فاختلفوا في وقوعه
سمعا وجوازه عقلا
فقال قوم :وقع ذلك سمعا فإن أهل مسجد القباء
تحولوا إلى الكعبة بقول واحد أخبرهم وكان ثابتا بطريق قاطع فقلبوا نسخه
عن الواحد
والمختار جواز ذلك عقلا لو تعبد به ووقوعه سمعا
في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قصة قباء وبدليل أنه كان
ينفذ آحاد الولاة إلى الأطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعا
ولكن ذلك ممتنع بعد وفاته بدليل الإجماع من الصحابة على أن القرآن
والمتواتر المعلوم لا يرفع بخبر الواحد فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف
والخلف والعمل بخبر الواحد تلقى من الصحابة وذلك فيما لا يرفع قاطعا بل
ذهب الخوارج إلى منع نسخ القرآن بالخبر المتواتر حتى أنهم قالوا رجم
ماعز وإن كان متواترا لا يصلح لنسخ القرآن
وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز نسخ القرآن
بالسنة وإن تواترت .
وليس ذلك بمحال لأنه يصح أن يقال: تعبدناكم
بالنسخ بخبر الواحد في زمان نزول الوحي وحرمنا ذلك بعده
فإن قيل: كيف يجوز ذلك عقلا وهو رفع القاطع
بالظن؟ وأما حديث قباء فلعله انضم إليه من القرائن ما أورث العلم.
ج / 1 ص -241-
قلنا: تقدير قرائن معرفة توجب إبطال أخبار
الآحاد وحمل عمل الصحابة على المعرفة بالقرائن ولا سبيل إلى وضع ما لم
ينقل وأما قولهم إنه رفع للقاطع بالظن فباطل إذ لو كان كذلك لقطعنا
بكذب الناقل ولسنا نقطع به بل نجوز صدقه وإنما هو مقطوع به بشرط أن لا
يرد خبر نسخه كما أن البراءة الأصلية مقطوع بها وترتفع بخبر الواحد
لأنها تفيد القطع بشرط عدم خبر الواحد .
فإن قيل: بم تنكرون على من يقطع بكونه كاذبا لأن
الرسول عليه السلام أشاع الحكم فلو ثبت نسخه للزمه الإشاعة؟
قلنا: ولم يستحيل أن يشيع الحكم ويكل النسخ إلى
الآحاد كما يشيع العموم وبكل التخصيص إلى المخصص؟
مسألة لا يصح نسخ المتواتر بالقياس :
لا يجوز نسخ النص القاطع المتواتر بالقياس
المعلوم بالظن والاجتهاد على اختلاف مراتبه جليا كان أو خفيا
هذا ما قطع به الجمهور إلا شذوذا منهم قالوا ما
جاز التخصيص به جاز النسخ به
وهو منقوض بدليل العقل وبالإجماع وبخبر الواحد
فالتخصيص بجميع ذلك جائز دون النسخ ثم كيف يتساويان والتخصيص بيان
والنسخ رفع والبيان تقرير والرفع إبطال؟
وقال بعض أصحاب الشافعي: يجوز النسخ بالقياس
الجلي
ونحن نقول لفظ الجلي مبهم فإن أرادوا المقطوع به
فهو صحيح وأما المظنون فلا
وما يتوهم القطع به على ثلاث مراتب:
الأولى: ما يجري مجرى النص وأوضح
منه كقوله تعالى
{ فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}
]الاسراء: من الآية23[فإن تحريم الضرب مدرك منه قطعا فلو كان ورد
ج / 1 ص -242-
نص بإباحة الضرب لكان هذا ناسخا لأنه أظهر
من المنطوق به وفي درجته قوله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}]الزلزلة:7[ في أن ما هو فوق الذرة كذلك. وكذلك قوله تعالى
{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ }]النساء: من الآية11 [ النساء في أن للأب الثلثين
الرتبة الثانية: لو ورد نص بأن
العتق لا يسري في الأمة ثم ورد قوله صلى الله عليه وسلم من أعتق شركا
له في عبد قوم عليه الباقي لقضينا بسراية عتق الأمة قياسا على العبد
لأنه مقطوع به إذ علم قطعا قصد الشارع إلى المملوك لكونه مملوكا
الرتبة الثالثة: أن يرد النص
مثلا بإباحة النبيذ ثم يقول الشارع حرمت الخمر لشدتها فينسخ إباحة
النبيد بقياسه على الخمر إن تعبدنا بالقياس
وقال قوم :وإن لم نتعبد بالقياس نسخنا أيضا إذ لا
فرق بين قوله حرمت كل منتبذ وبين قوله حرمت الخمر لشدتها ولذلك أقر
النظام بالعلة المنصوصة وإن كان منكرا لأصل القياس ولنبين أنه إن لم
نتعبد بالقياس فقوله حرمت الخمر عليكم لشدتها ليس قاطعا في تحريم
النبيذ بل يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة كما تكون العلة في الرجم
زنا المحصن خاصة
والمقصود أن القاطع لا يرفع بالظن بل بالقاطع
فإن قيل: استحالة رفعه بالمظنون عقلي أو سمعي؟
قلنا: الصحيح أنه سمعي ولا يستحيل عقلا أن يقال
:تعبدناكم بنسخ النص بالقياس على نص آخر نعم: يستحيل أن نتعبد بنسخ
النص بقياس مستنبط من عين ذلك النص لأن ذلك يؤدي إلى أن يصير هو مناقضا
لنفسه ،فيكون واجب العمل به وساقط العمل به
فإن قيل :فما الدليل على امتناعه سمعا؟
ج / 1 ص -243-
قلنا: يدل عليه الإجماع على بطلان كل قياس
مخالف للنص وقول معاذ رضي الله عنه" اجتهد رأيي" بعد فقد النص وتزكية
رسول الله صلى الله عليه وسلم له وإجماع الصحابة على ترك القياس بأخبار
الآحاد فكيف بالنص القاطع المتواتر؟ واشتهار قولهم عند سماع خبر الواحد
لولا هذا لقضينا برأينا ولأن دلالة النص قاطع في المنصوص ودلالة الأصل
على الفرع مظنون فكيف يترك الأقوى بالأضعف ؟وهذا مستند الصحابة في
إجماعهم على ترك القياس بالنص.
فإن قيل: إذا تناقض قاطعان وأشكل المتأخر فهل
يثبت تأخر أحدهما بقول الواحد حتى يكون هو الناسخ؟ قلنا: يحتمل أن يقال
ذلك لأنه إذا ثبت الإحصان بقول اثنين مع أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة
دل على أنه لا يحتاط للشرط بما يحتاط به للمشروط ويحتمل أن يقال النسخ
إذا كان بالتأخير والمنسوخ قاطع فلا يكفي فيه قول الواحد فهذا في محل
الاجتهاد
والأظهر قبوله لأن أحد النصين منسوخ قطعا وإنما
هذا مطلوب قبوله للتعيين
مسألة:[ نسخ الحكم بقول الصحابي]
لا ينسخ حكم بقول الصحابي: نسخ حكم كذا ما لم
يقل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نسخت حكم كذا فإذا قال
ذلك نظر في الحكم إن كان ثابتا بخبر الواحد صار منسوخا بقوله وإن كان
قاطعا فلا أما قوله نسخ حكم كذا فلا يقبل قطعا فلعله ظن ما ليس ينسخ
نسخا فقد ظن أن الزيادة على النص نسخ وكذلك في مسائل
وقال قوم: إن ذكر لنا ما هو الناسخ عنده لم نقلده
لكن نظرنا فيه وإن أطلق فنحمله على أنه لم يطلق إلا عن معرفة قطعية .
وهذا فاسد بل الصحيح أنه إن ذكر الناسخ تأملنا
فيه وقضينا برأنيا وإن
ج / 1 ص -244-
لم يذكر لم نقلده وجوزنا أن يقول ذلك عن
اجتهاد ينفرد به هذا ما ذكره القاضي رحمه الله
والأصح عندنا أن نقبل كقول الصحابي أمر صلى الله
عليه وسلم بكذا ونهى عن كذا فإن ذلك يقبل كما سنذكره في كتاب الأخبار
ولا فرق بين اللفظين.
فإن قيل: قالت عائشة رضي الله عنها ما مات رسول
الله إلا وقد أحلت له النساء اللاتي حظرن عليه بقوله تعالى إنا أحللنا
لك أزواجك الأحزاب فقبل ذلك منها
قلنا: ليس ذلك مرضيا عندنا ومن قبل فإنما قبل ذلك
للدليل الناسخ ورآه صالحا للنسخ ولم يقلد مذهبها
خاتمة الكتاب فيما يعرف به تاريخ الناسخ
اعلم أنه إذا تناقض نصان فالناسخ هوالمتأخر ولا
يعرف تأخره بدليل العقل ولا بقياس الشرع بل بمجرد النقل وذلك بطرق:
الأول: أن يكون في اللفظ ما يدل
عليه كقوله عليه السلام "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي" فالآن
ادخروها" وكقوله "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"
الثاني: أن تجمع الأمة في حكم
على أنه المنسوخ وأن ناسخه الآخر
الثالث: أن يذكر الراوي التاريخ
مثل أن يقول سمعت عام الخندق أو عام الفتح وكان المنسوخ معلوما قبله
ولا فرق بين أن يروي الناسخ
ج / 1 ص -245-
والمنسوخ راو واحد أو راويان.
ولا يثبت التاريخ بطرق
الأول: أن يقول الصحابي كان
الحكم علينا كذا ثم نسخ لأنه ربما قاله عن اجتهاد
الثاني: أن يكون أحدهما مثبتا في
المصحف بعد الآخر لأن السور والآيات ليس إثباتها على ترتيب النزول بل
ربما قدم المتأخر
الثالث: أن يكون راويه من أحداث
الصحابة فقد ينقل الصبي عمن تقدمت صحبته وقد ينقل الأكابر عن الأصاغر
وبعكسه
الرابع: أن يكون الراوي أسلم عام
الفتح ولم يقل إني سمعت عام الفتح إذ لعله سمع في حاله كفره ثم روى بعد
الإسلام أو سمع ممن سبق بالإسلام
الخامس: أن يكون الراوي قد
انقطعت صحبته فربما يظن أن حديثه مقدم على حديث من بقيت صحبته وليس من
ضرورة من تأخرت صحبته أن يكون حديثه متأخرا عن وقت انقطاع صحبة غيره
السادس: أن يكون أحد الخبرين على
وفق قضية العقل والبراءة الأصلية فربما يظن تقدمه ولا يلزم ذلك كقوله
لا وضوء مما مسته النار ولا يلزم أن يكون متقدما على إيجاب الوضوء مما
مست النار إذ يحتمل أنه أوجب ثم نسخ والله أعلم
وقد فرغنا من الأصل الأول من الأصول الأربعة وهو
الكتاب ويتلوه القول في سنة رسول الله صلى الله وسلم |