المستصفى من علم الأصول، ط الرسالة

ج / 1 ص -246-       الأصل الثاني من أصول الأدلة: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة لدلالة المعجزة على صدقه ولأمر الله تعالى إيانا باتباعه ولأنه وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى النجم لكن بعض الوحي يتلى فيسمى كتابا وبعضه لا يتلى وهو السنة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة على من سمعه شفاعا فأما نحن فلا يبلغنا قوله إلا على لسان المخبرين إما على سبيل التواتر وإما بطريق الآحاد فلذلك اشتمل الكلام في هذا الأصل على مقدمة وقسمين قسم في أخبار التواتر وقسم في أخبار الآحاد ويشتمل كل قسم على أبواب

 

ج / 1 ص -247-       أما المقدمة
ففي بيان ألفاظ الصحابة رضي الله عنهم في نقل الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على خمس مراتب :
الأولى :وهي أقواها أن يقول الصحابي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا أو أخبرني أو حدثني أو شافهني فهذا لا يتطرق إليه الاحتمال وهو الأصل في الرواية والتبليغ قال نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها الحديث
الثانية: أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أخبر أو أخبر أو حدث فهذا ظاهره النقل إذا صدر من الصحابي وليس نصا صريحا إذ قد يقول الواحد منا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمادا على ما نقل إليه وإن لم يسمعه منه فلا يستحيل أن يقول الصحابي ذلك اعتمادا على ما بلغه تواترا أو بلغه على لسان من يثق به
ودليل الاحتمال ما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :"من أصبح جنبا فلا صوم له" فلما استكشف قال :حدثني به الفضل بن عباس فأرسل الخبر أولا ولم يصرح وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله "إنما الربا في النسيئة" فلما روجع فيه أخبر أنه سمعه من أسامة بن زيد إلا أن هذا وإن كان محتملا فهو بعيد بل الظاهر أن الصحابي إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يقوله إلا وقد سمع رسول الله بخلاف من لم يعاصر إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قرينة حاله تعرف أنه لم يسمع ولا

 

ج / 1 ص -248-       يوهم إطلاقه السماع بخلاف الصحابي فإنه إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوهم السماع فلا يقدم عليه إلا عن سماع هذا هو الظاهر وجميع الأخبار إنما نقلت إلينا كذلك إذ يقال قال أبو بكر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر قال رسول الله فلا نفهم من ذلك إلا السماع
الثالثة: أن يقول الصحابي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أو نهى عن كذا
 فهذا يتطرق إليه احتمالان أحدهما في سماعه كما في قوله قال والثاني في الأمر إذ ربما يرى ما ليس بأمر أمرا فقد اختلف الناس في أن قوله إفعل هو للأمر فلأجل هذا قال بعض أهل الظاهر لا حجة فيه ما لم ينقل اللفظ
والصحيح أنه لا يظن بالصحابي إطلاق ذلك إلا إذا علم تحقيقا أنه أمر بذلك وأن يسمعه يقول أمرتكم بكذا أو يقول إفعلوا وينضم إليه من القرائن ما يعرفه كونه أمرا ويدرك ضرورة قصده إلى الأمر أما احتمال بنائه الأمر على الغلط والوهم فلا نطرقه إلى الصحابة بغير ضرورة بل يحمل ظاهر قولهم وفعلهم على السلامة ما أمكن ولهذا لو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ولكن شرط شرطا ووقت وقتا فيلزمنا اتباعه ولا يجوز أن نقول لعله غلط في فهم الشرط والتأقيت ورأى ما ليس بشرط شرطا ولهذا يجب أن يقبل قول الصحابي نسخ حكم كذا وإلا فلا فرق بين قوله نسخ وقوله أمر ولذلك قال علي رضي الله عنه وأطلق أمرت أن أقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين ولا يظن بمثله أن يقول أمرت إلا عن مستند يقتضي الأمر
 ويتطرق إليه احتمال ثالث في عمومه وخصوصه حتى ظن قوم أن مطلق هذا يقتضي أمر جميع الأمة والصحيح أن من يقول بصيغة العموم أيضا ينبغي أن يتوقف في هذا إذ يحتمل أن يكون ما سمعه أمرا للأمة أو لطائفة أو لشخص بعينه وكل ذلك يتيح له أن يقول أمر فيتوقف فيه على الدليل لكن يدل عليه أن أمره للواحد أمر للجماعة إلا إذا كان لوصف يخصه من
سفر أو

 

ج / 1 ص -249-       حضر ولو كان كذلك لصرح به الصحابي كقوله أمرنا إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن نعم لو قال أمرنا بكذا وعلم من عادة الصحابي أنه لا يطلقه إلا في أمر الأمة حمل عليه وإلا احتمل أن يكون أمرا للأمة أو له أو لطائفة
الرابعة: أن يقول أمرنا بكذا ونهينا عن كذا
فيتطرق إليه ما سبق من الاحتمالات الثلاثة واحتمال رابع وهو الآمر فإنه لا يدري أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأئمة والعلماء
 فقال قوم :لا حجة فيه فإنه محتمل وذهب الأكثرون إلى أنه لا يحمل إلا على أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه يريد به إثبات شرع وإقامة حجة فلا يحمل على قول من لا حجة في قوله
وفي معناه قوله: من السنة كذا والسنة جارية بكذا
فالظاهر أنه لا يريد إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يجب اتباعه دون سنة غيره ممن لا تجب طاعته
ولا فرق بين أن يقول الصحابي ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته
أما التابعي إذا قال أمرنا احتمل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الأمة بأجمعها والحجة حاصلة به ويحتمل أمر الصحابة لكن لا يليق بالعالم أن يطلق ذلك إلا وهو يريد من تجب طاعته ولكن الاحتمال في قول التابعي أظهر منه في قول الصحابي
الخامسة: أن يقول: كانوا يفعلون كذا فإن أضاف ذلك إلى زمن الرسول

 

ج / 1 ص -250-       عليه السلام فهو دليل على جواز الفعل لأن ذكره في معرض الحجة يدل على أنه أراد ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت عليه دون ما لم يبلغه وذلك يدل على الجواز وذلك مثل قول ابن عمر رضي الله عنه كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان فيبلغ ذلك رسول الله فلا ينكره وقال كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج الحديث وقالأبو سعيد كنا نخرج على عهد رسول الله صاعا من بر في زكاة الفطر وقالت عائشة رضي الله عنها كانوا لا يقطعون في الشيء التافه
وأما قول التابعي كانوا يفعلون لا يدل على فعل جميع الأمة بل على البعض فلا حجة فيه إلا أن يصرح بنقله عن أهل الإجماع فيكون نقلا للإجماع وفي ثبوته بخبر الواحد كلام سيأتي
فقد ظهر من هذه المقدمة ما هو خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ليس خبرا عنه والآن فلا بد من بيان طرق انتهاء الخبر إلينا وذلك إما بنقل التواتر أو الآحاد

 

ج / 1 ص -251-       عمل القسم الأول من هذا الأصل الكلام في التواتر
وفيه أبواب:
الباب الأول في إثبات أن التواتر يفيد العلم
ولنقدم عليها حد الخبر.
وحده أنه القول الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب أو هو القول الذي يدخله الصدق أو الكذب
وهو أولى من قولهم يدخله الصدق والكذب إذ الخبر الواحد لا يدخله كلاهما بل كلام الله تعالى لا يدخله الكذب أصلا والخبر عن المحالات لا يدخله الصدق أصلا
والخبر قسم من أقسام الكلام القائم بالنفس وأما العبارة فهي الأصوات المقطعة التي صيغتها مثل قول القائل زيد قائم وضارب وهذا ليس خبرا لذاته بل يصير خبرا بقصد القاصد إلى التعبير به عما في النفس ولهذا إذا صدر من نائم أو مغلوب لم يكن خبرا وأما كلام النفس فهو خبر لذاته وجنسه إذا وجد لا يتغير بقصد القاصد
التواتر يفيد العلم 
أما إثبات كون التواتر مفيدا للعلم فهو ظاهر خلافا للسمنية حيث

 

ج / 1 ص -252-       حصروا العلوم في الحواس وأنكروا هذا
وحصرهم باطل فإنا بالضرورة نعلم كون الألف أكثر من الواحد واستحالة كون الشيء الواحد قديما محدثا وأمورا أخر ذكرناها في مدارك اليقين سوى الحواس بل نقول حصرهم العلوم في الحواس معلوم لهم وليس ذلك مدركا بالحواس الخمس
ثم لا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى بغداد وإن لم يدخلها ولا يشك في وجود الأنبياء بل في وجود الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله بل في الدول والوقائع الكبيرة
فإن قيل لو كان هذا معلوما ضرورة لما خالفناكم
قلنا: من يخالف في هذا فإنما يخالف بلسانه أو عن خبط في عقله أو عن عناد ولا يصدر إنكار هذا من عدد كثير يستحيل إنكارهم في العادة لما علموه وعنادهم ولو تركنا ما علمناه ضرورة لقولكم للزمكم ترك المحسوسات بسبب خلاف السوفسطائية
أما بطلان مذهب الكعبي حيث ذهب إلى أن هذا العلم نظري فإنا نقول النظري هو الذي يجوز أن يعرض فيه الشك وتختلف فيه الأحوال فيعلمه بعض الناس دون بعض ولا يعلمه النساء والصبيان ومن ليس من أهل النظر ولا يعلمه من ترك النظر قصدا وكل علم نظري فالعالم به قد يجد نفسه فيه شاكا ثم طالبا ونحن لا نجد أنفسنا شاكين في وجود مكة ووجود الشافعي رحمه الله طالبين لذلك فإن عنيتم بكونه نظريا شيئا من ذلك فنحن

 

ج / 1 ص -253-       ننكره وإن عنيتم به أن مجرد قول المخبر لا يفيد العلم ما لم ينتظم في النفس مقدمتان إحداهما أن هؤلاء مع اختلاف أحوالهم وتباين أغراضهم ومع كثرتهم على حال لا يجمعهم على الكذب جامع ولا يتفقون إلا على الصدق والثانية أنهم قد اتفقوا على الأخبار عن الواقعة فيبتني العلم بالصدق على مجموع المقدمتين فهذا مسلم ولا بد وأن تشعر النفس بهاتين المقدمتين حتى يحصل له العلم والتصديق وإن لم تتشكل في النفس هذه المقدمات بلفظ منظوم فقد شعرت به حتى حصل التصديق وإن لم يشعر بشعورها
 وتحقيق القول فيه أن الضروري إن كان عبارة عما يحصل بغير واسطة كقولنا القديم لا يكون محدثا والموجود لا يكون معدوما فهذا ليس بضروري فإنه حصل بواسطة المقدمتين المذكورتين وإن كان عبارة عما يحصل بدون تشكل الواسطة في الذهن فهذا ضروري ورب واسطة حاضرة في الذهن لا يشعر الإنسان بوجه توسطها وحصول العلم بواسطتها فيسمى أوليا وليس بأولي كقولنا الإثنان نصف الأربعة فإنه لا يعلم ذلك إلا بواسطة وهو أن النصف أحد جزئي الجملة المساوي للآخر والإثنان أحد الجزأين المساوي للثاني من جملة الأربعة فهو إذا نصف فقد حصل هذا العلم بواسطة لكنها جلية في الذهن حاضرة ولهذا لو قيل ستة وثلاثون هل هو نصف اثنين وسبعين؟ يفتقر فيه إلى تأمل ونظر حتى يعلم أن هذه الجملة تنقسم بجزأين متساويين أحدهما ستة وثلاثون
 فإذا العلم بصدق خبر التواتر يحصل بواسطة هذه المقدمات وما هو كذلك فهو ليس بأولي وهل يسمى ضروريا هذا ربما يختلف في الاصطلاح والضروري عند الأكثرين عبارة عن الأولي لا عما نجد أنفسنا مضطرين إليه فإن العلوم الحسابية كلها ضرورية وهي نظرية ومعنى كونها نظرية أنها ليست بأولية وكذلك العلم بصدق خبر التواتر ويقرب منه العلم المستفاد من التجربة التي يعبر عنها باطراد العادات كقولنا الماء مرو والخمر مسكر كما نبهنا عليه في مقدمة الكتاب
فإن قيل: لو استدل مستدل على كونه غير ضروري بأنه لو كان ضروريا

 

ج / 1 ص -254-       لعلمنا بالضرورة كونه ضروريا ولما تصور الخلاف فيه فهذا الاستدلال صحيح أم لا ؟
قلنا: إن كان الضروري عبارة عما نجد أنفسنا مضطرين إليه فبالضرورة نعلم من أنفسنا أنا مضطرون إليه وإن كان عبارة عما يحصل بغير واسطة فيجوز أن يحتاج في معرفة ذلك إلى تأمل ويقع الشك فيه كما يتصور أن نعتقد شيئا على القطع ونتردد في أن اعتقادنا علم محقق أم لا
الباب الثاني في شروط التواتر
وهي أربعة :
الأول
: :أن يخبروا عن علم لا عن ظن فإن أهل بغداد لو أخبرونا عن طائر أنهم ظنوه حماما أو عن شخص أنهم ظنوه زيدا لم يحصل لنا العلم بكونه حماما وبكونه زيدا وليس هذا معللا بل حال المخبر لا تزيد على حال المخبر لأنه كان في قدرة الله تعالى أن يخلق لنا العلم بخبرهم وإن كان عن ظن ولكن العادة غير مطردة بذلك
الشرط الثاني: أن يكون علمهم ضروريا مستندا إلى محسوس إذ لو أخبرنا أهل بغداد عن حدوث العالم وعن صدق بعض الأنبياء لم يحصل لنا العلم وهذا أيضا معلوم بالعادة وإلا فقد كان في قدرة الله تعالى أن يجعل ذلك سببا للعلم في حقنا الشرط .
الثالث: أن يستوي طرفاه وواسطته في هذه الصفات وفي كمال العدد فإذا نقل الخلف عن السلف وتوالت الأعصار ولم تكن الشروط قائمة في كل عصر لم يحصل العلم بصدقهم لأن خبر أهل كل عصر خبر مستقل بنفسه فلا بد من شروط ولا جل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم عن موسى صلوات الله عليه تكذيب كل ناسخ لشريعته ولا بصدق الشيعة والعباسية والبكرية في نقل النص على إمامة علي

 

ج / 1 ص -255-       أو العباس أو أبي بكر رضي الله عنهم وإن كثر عدد الناقلين في هذه الأعصار القريبة لأن بعض هذا وضعه الآحاد أولا ثم أفشوه ثم كثر الناقلون في عصره وبعده والشرط إنما حصل في بعض الأعصار فلم تستو فيه الأعصار ولذلك لم يحصل التصديق بخلاف وجود عيسى عليه السلام وتحديه بالنبوة ووجود أبي بكر وعلي رضي الله عنهما وانتصابهما للإمامة فإن كل ذلك لما تساوت فيه الأطراف والواسطة حصل لنا علم ضروري لا نقدر على تشكيك أنفسنا فيه ونقدر على التشكيك فيما نقلوه عن موسى وعيسى عليهما السلام وفي نص الإمامة
الشرط الرابع: في العدد وتهذب الغرض منه برسم مسائل:
مسألة:[العدد الذي يحصل به التواتر] :
عدد المخبرين ينقسم إلى ما هو ناقص فلا يفيد العلم وإلى ما هو كامل وهو الذي يفيد العلم وإلى زائد وهو الذي يحصل العلم ببعضه وتقع الزيادة فضلا عن الكفاية والكامل وهو أقل عدد يورث العلم ليس معلوما لنا لكنا بحصول العلم الضروري نتبين كمال العدد لا أنا بكمال العدد نستدل على حصول العلم
فإذا عرفت هذا فالعدد الكامل الذي يحصل التصديق به في واقعة هل يتصور أن لا يفيد العلم في بعض الوقائع قال القاضي رحمه الله ذلك محال بل كل ما يفيد العلم في واقعة يفيد في كل واقعة وإذا حصل العلم لشخص فلا بد وأن يحصل لكل شخص يشاركه في السماع ولا يتصور أن يختلف
وهذا صحيح إن تجرد الخبر عن القرائن فإن العلم لا يستند إلى مجرد العدد ونسبة كثرة العدد إلى سائر الوقائع وسائر الأشخاص واحدة أما إذا

 

ج / 1 ص -256-       اقترنت به قرائن تدل على التصديق فهذا يجوز أن تختلف فيه الوقائع والأشخاص
 وأنكر القاضي ذلك ولم يلتفت إلى القرائن ولم يجعل لها أثرا
وهذا غير مرضي لأن مجرد الأخبار يجوز أن يورث العلم عند كثرة المخبرين وإن لم تكن قرينة ومجرد القرائن أيضا قد يورث العلم وإن لم يكن فيه أخبار فلا يبعد أن تنضم القرائن إلى الأخبار فيقوم بعض القرائن مقام بعض العدد من المخبرين
ولا ينكشف هذا إلا بمعرفة معنى القرائن وكيفية دلالتها.
دور القرائن في حصول اليقين :
 فنقول: لا شك في أن نعرف أمورا ليست محسوسة إذ نعرف من غيرنا حبه لإنسان وبغضه له وخوفه منه وغضبه وخجله وهذه أحوال في نفس المحب والمبغض لا يتعلق الحس بها قد تدل عليها دلالات آحادها ليست قطعية بل يتطرق إليها الاحتمال ولكن تميل النفس بها إلى اعتقاد ضعيف ثم الثاتي والثالث يؤكد ذلك ول أفردت آحاذها لتطرق إليها الإحتمال يحصل القطع باجتماعها كما أن قول كل واحد من عدد التواتر يتطرق إليه الاحتمال لو قدر مفردا ويحصل القطع بسبب الاجتماع ومثاله أنا نعرف عشق العاشق لا بقوله بل بأفعال هي أفعال المحبين من القيام بخدمته وبذل ماله وحضور مجالسه لمشاهدته وملازمته في تردداته وأمور من هذا الجنس فإن كل واحد يدل دلالة لو انفرد لاحتمل أن يكون ذلك لغرض آخر يضمره لا لحبه إياه لكن تنتهي كثرة هذه الدلالات إلى حد يحصل لنا علم قطعي بحبه وكذلك ببغضه إذا رؤيت منه أفعال ينتجها البغض وكذلك نعرف غضبه وخجله لا بمجرد حمرة وجهه لكن الحمرة إحدى الدلالات
وكذلك نشهد الصبي يرتضع مرة بعد أخرى فيحصل لنا علم قطعي بوصول اللبن إلى جوفه وإن لم نشاهد اللبن في الضرع لأنه مستور ولا

 

ج / 1 ص -257-       عند خروجه فإنه مستور بالفم ولكن حركة الصبي في الامتصاص وحركة حلقه تدل عليه دلالة ما مع أن ذلك قد يحصل من غير وصول اللبن لكن ينضم إليه أن المرأة الشابة لا يخلو ثديها عن لبن ولا تخلو حلمته عن ثقب ولا يخلو الصبي عن طبع باعث على الامتصاص مستخرج للبن
 وكل ذلك يحتمل خلافه نادرا وإن لم يكن غالبا لكن إذا انضم إليه سكوت الصبي عن بكائه مع أنه لم يتناول طعاما آخر صار قرينة ويحتمل أن يكون بكاؤه عن وجع وسكوته عن زواله ويحتمل أن يكون تناول شيئا آخر لم نشاهده وإن كنا نلازمه في أكثر الأوقات
ومع هذا فاقتران هذه الدلائل كاقتران الأخبار وتواترها وكل دلالة شاهدة يتطرق إليها الاحتمال كقول كل مخبر على حياله وينشأ من الاجتماع العلم
وكأن هذا مدرك سادس من مدارك العلم سوى ما ذكرناه في المقدمة من الأوليات والمحسوسات والمشاهدات الباطنة والتجريبات والمتواترات فيلحق هذا بها
 وإذا كان هذا غير منكر فلا يبعد أن يحصل التصديق بقول عدد ناقص عن انضمام قرائن إليه لو تجرد عن القرائن لم يفد العلم فإنه إذا أخبر خمسة أو ستة عن موت إنسان لا يحصل العلم بصدقهم لكن إذا انضم إليه خروج والد الميت من الدار حاسر الرأس حافي الرجل ممزق الثياب مضطرب الحال يصفق وجهه ورأسه وهو رجل كبير ذو منصب ومروءة لا يخالف عادته ومروءته إلا عن ضرورة فيجوز أن يكون هذا قرينة تنضم إلى قول أولئك فتقوم في التأثير مقام بقية العدد وهذا مما يقطع بجوازه والتجرية تدل عليه
وكذلك العدد الكثير ربما يخبرون عن أمر يقتضي إيالة الملك وسياسة إظهاره والمخبرون من رؤساء جنود الملك فيتصور اجتماعهم تحت ضبط الإيالة بالاتفاق على الكذب ولو كانوا متفرقين خارجين عن ضبط الملك لم

 

ج / 1 ص -258-       يتطرق إليهم هذا الوهم فهذا يؤثر في النفس تأثيرا لا ينكر
ولا أدري لم أنكر القاضي ذلك وما برهانه على استحالته
فقد بان بهذا أن العدد يجوز أن يختلف بالوقائع وبالأشخاص فرب شخص انغرس في نفسه أخلاق تميل به إلى سرعة التصديق ببعض الأشياء فيقوم ذلك مقام القرائن وتقوم تلك القرائن مقام خبر بعض المخبرين فينشأ من ذلك أن لا برهان على استحالته
هل يحصل العلم بقول مخبر واحد ؟
فإن قيل: فهل يجوز أن يحصل العلم بقول واحد ؟
قلنا: حكي عن الكعبي جوازه ولا يظن بمعتوه تجويزه مع انتفاء القرائن أما إذا اجتمعت قرائن فلا يبعد أن تبلغ القرائن مبلغا لا يبقى بينها وبين إثارة العلم إلا قرينة واحدة ويقوم إخبار الواحد مقام تلك القرينة فهذا مما لا يعرف استحالته ولا يقطع بوقوعه فإن وقوعه إنما يعلم بالتجربة ونحن لم نجربه ولكن قد جربنا كثيرا مما اعتقدناه جزما بقول الواحد مع قرائن أحواله ثم انكشف أنه كان تلبيسا وعن هذا أحال القاضي ذلك
وهذا كلام في الوقائع مع بقاء العادات على المعهود من استمرارها فأما لو قدرنا خرق هذه العادة فالله تعالى قادر على أن يحصل لنا العلم بقول واحد من غير قرينة فضلا على أن تنضم إليه القرائن

 

ج / 1 ص -259-       مسألة: هل شهادة الأربعة فيها غلبة الظن:
قطع القاضي رحمه الله بأن قول الأربعة قاصر عن العدد الكامل لأنها بينة شرعية يجوز بالإجماع للقاضي وقفها على المزكين لتحصل غلبة الظن ولا يطلب الظن فيما علم ضرورة.
وما ذكره صحيح إذا لم تكن قرينة فإنا لا نصادف أنفسنا مضطرين إلى خبر الأربعة أما إذا فرضت قرائن مع ذلك فلا يستحيل حصول التصديق لكن لا يكون ذلك حاصلا عن مجرد الخبر بل عن القرائن مع الخبر والقاضي رحمه الله يحيل ذلك مع القرائن أيضا
مسألة هل شهادة الخمسة تفيد العلم:
قال القاضي علمت بالإجماع أن الأربعة ناقص أما الخمس فأتوقف فيها لأنه لم يقم فيها دليل الإجماع
وهذا ضعيف لأنا نعلم بالتجربة ذلك فكم من أخبار نسمعها من خمسة أو ستة ولا يحصل لنا العلم بها فهو أيضا ناقص لا نشك فيه.
مسألة: العدد الذي يفيد التواتر؟:
إذا قدرنا انتفاء القرائن فأقل عدد يحصل به العلم الضروري معلوم لله تعالى وليس معلوما لنا ولا سبيل لنا إلى معرفته فإنا لا ندري متى حصل علمنا بوجود مكة ووجود الشافعي ووجود الأنبياء عليهم السلام عند تواتر الخبر إلينا وأنه كان بعد خبر المائة والمائتين ويعسر علينا تجربة ذلك وإن تكلفناها.
وسبيل التكلف أن نراقب أنفسنا إذا قتل رجل في السوق مثلا وانصرف جماعة عن موضع القتل ودخلوا علينا يخبرونا عن قتله فإن قول الأول يحرك الظن وقول الثاني والثالث يؤكده ولا يزال يتزايد تأكيده إلى أن يصير ضروريا لا يمكننا أن نشكك فيه أنفسنا فلو تصور الوقوف على اللحظة التي يحصل العلم فيها ضرورة وحفظ حساب المخبرين وعددهم لأمكن الوقوف عليه،

 

ج / 1 ص -260-       ولكن درك تلك اللحظة عسير فإنه تتزايد قوة الاعتقاد تزايدا خفي التدريج نحو تزايد عقل الصبي المميز إلى أن يبلغ حد التكليف ونحو تزايد ضوء الصبح إلى أن ينتهي إلى حد الكمال فلذلك بقي هذا في غطاء من الإشكال وتعذر على القوة البشرية إدراكه
فأما ما ذهب إليه قوم التخصيص بالأربعين أخذا من الجمعة وقوم إلى التخصيص بالسبعين أخذا من قوله تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا الأعراف وقوم إلى التخصيص بعدد أهل بدر فكل ذلك تحكمات فاسدة باردة لا تناسب الغرض ولا تدل عليه ويكفي تعارض أقوالهم دليلا على فسادها
فإذا لا سبيل لنا إلى حصر عدده لكنا بالعلم الضروي نستدل على أن العدد الذي هو الكامل عند الله تعالى قد توافقوا على الإخبار
فإن قيل: فكيف علمتم حصول العلم بالتواتر وأنتم لا تعلمون أقل عدده؟
قلنا: كما نعلم أن الخبز يشبع والماء يروي والخمر يسكر وإن كنا لا نعلم أقل مقدار منه ونعلم أن القرائن تفيد العلم وإن لم نقدر على حصر أجناسها وضبط أقل درجاتها مسألة هل يكذب العدد الكامل العدد الكامل إذا أخبروا ولم يحصل العلم بصدقهم فيجب القطع بكذبهم لأنه لا يشترط في حصول العلم إلا شرطان أحدهما كمال العدد والثاني أن يخبروا عن يقين ومشاهدة فإذا كان العدد كاملا كان امتناع العلم

 

ج / 1 ص -261-       لفوات الشرط الثاني فنعلم أنهم بجملتهم كذبوا أو كذب بعضهم في قوله إني شاهدت ذلك بل بناه على توهم وظن أو كذب متعمدا لأنهم لو صدقوا وقد كمل عددهم حصل العلم ضرورة
وهذا أيضا أحد الأدلة على أن الأربعة ليسوا عدد التواتر إذ القاضي لم يحصل له العلم بصدقهم وجاز له القضاء بغلبة الظن بالإجماع ولو تمر عددهم لكان انتفاء العلم بصدقهم دليلا قاطعا على كذب جميعهم أو كذب واحد منهم ولقطعنا بأن فيهم كاذبا أو متوهما ولا يقبل شهادة أربعة يعلم أن فيهم كاذبا أو متوهما
فإن قيل :فإن لم يحصل العلم بقولهم وقد كثروا كثرة يستحيل بحكم العادة توافقهم على الكذب عن اتفاق ويستحيل دخولهم تحت ضابط وتساعدهم على الكذب بحيث ينكتم ذلك على جميعهم ولا يتحدث به واحد منهم فعلى ماذا يحمل كذبهم؟ وكيف يتصور ذلك
قلنا: إنما يمكن ذلك بأن يكونوا منقسمين إلى صادقين وكاذبين أما الصادقون فعددهم ناقص عن المبلغ الذي يستقل بإفادة العلم وأما الكاذبون فيحتمل أن يقع منهم التواطؤ لنقصان عددهم عن مبلغ يستحيل عليهم التواطؤ مع الانكتام فإن كانوا مبلغا لا يستحيل التواطؤ عليهم مع الانكتام فلا يستحيل الانكتام في الحال إلى أن يتحدث به في ثاني الحال
ونقل الشيعة نص الإمامة مع كثرتها إنما لم يفد العلم لأنهم لم يخبروا عن المشاهدة والسماع بل لو سمعوا عن سلف فهم صادقون لكن السلف الواضعون لهذا الكذب يكون عددهم ناقصا عن مبلغ يستحيل منهم التواطؤ مع الانكتام وربما ظن الخلف أن عددهم كامل لا يستحيل عليهم التواطؤ فيخطئون في الظن فيقطعون بالحكم ويكون هذا منشأ غلطهم

 

ج / 1 ص -262-       خاتمة لهذا الباب
في بيان شروط فاسدة ذهب إليها قوم وهي خمسة :
الأول: شرط قوم في عدد التواتر أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد
وهذا فاسد فإن الحجيج بأجمعهم إذا أخبروا عن واقعة صدتهم عن الحج ومنعتهم من عرفات حصل العلم بقولهم وهم محصورون وأهل الجامع إذا أخبروا عن نائبة في الجمعة منعت الناس من الصلاة علم صدقهم مع أنهم يحويهم مسجد فضلا عن بلد وكذلك أهل المدينة إذا أخبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حصل العلم وقد حواهم بلد
الثاني: شرط قوم أن تختلف أنسابهم فلا يكونوا بني أب واحد وتختلف أوطانهم فلا يكونوا في محلة واحدة وتختلف أديانهم فلا يكونوا أهل مذهب واحد
وهذا فاسد لأن كونهم من محلة واحدة ونسب واحد لا يؤثر إلا في إمكان تواطئهم والكثرة إلى كمال العدد تدفع هذا الإمكان وإن لم تكن كثرة أمكن التواطؤ من بني الأعمام كما يمكن من الأخوة ومن أهل بلد كما يمكن من أهل محلة وكيف يعتبر اختلاف الدين ونحن نعلم صدق المسلمين إذا أخبروا عن قتل وقتنة وواقعة ؟بل نعلم صدق أهل قسطنطينية إذا أخبروا عن موت قيصر؟
فإن قيل: فلنعلم صدق النصارى في نقل التثليث عن عيسى عليه السلام وصدقهم في صلبه
قلنا: لم ينقلوا التثليث توقيفا وسماعا عن عيسى بنص صريح لا يحتمل التأويل لكن توهموا ذلك بألفاظ موهمة لم يقفوا على مغزاها كما فهم المشبهة التشبيه من آيات وأخبار لم يفهموا معناها والتواتر ينبغي أن يصدر عن محسوس فأما قتل عيسى عليه السلام فقد صدقوا في أنهم شاهدوا شخصا يشبه عيسى عليه السلام مقتولا
{ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ }[النساء: من الآية157]
فإن قيل: فهل يتصور التشبيه في المحسوس؟فإن تصور فليشك كل واحد

 

ج / 1 ص -263-       منا إذا رأى زوجته وولده فلعله شبه له ؟
قلنا: إن كان الزمان زمان خرق العادة يجوز التشبيه في المحسوس وذلك زمان النبوة لإثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لا يوجب الشك في غير ذلك الزمان إذ لا خلاف في قدرة الله تعالى على قلب العصا ثعبانا وخرق العادة به لتصديق النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك إذا أخذنا العصا في زماننا لم نخف من انقلابها ثعبانا ثقة بالعادات في زماننا
فإن قيل: خرق العادة في زماننا هذا جائز كرامة للأولياء فلعل وليا من الأولياء دعا الله تعالى بذلك فأجابه فلنشك لإمكان ذلك
 قلنا: إذا فعل الله تعالى ذلك نزع عن قلوبنا العلم الضروري الحاصل بالعادات فإذا وجدنا من أنفسنا علما ضروريا بأنه لم تنقلب العصا ثعبانا ولا الجبل ذهبا ولا الحصى في الجبال جواهر ويواقيت قطعنا بأن الله تعالى لم يخرق العادة وإن كان قادرا عليها
الثالث: شرط قوم أن يكونوا أولياء مؤمنين.
وهو فاسد إذ يحصل العلم بقول الفسقة والمرجئة والقدرية بل بقول الروم إذا أخبروا بموت ملكهم حصل العلم
الرابع: شرط قوم أن لا يكونوا محمولين بالسيف على الإخبار.
وهو فاسد لأنهم إن حملوا على الكذب لم يحصل العلم لفقد الشرط وهو الإخبار عن العلم الضروري وإن صدقوا حصل العلم فلو أن أهل بغداد حملهم الخليفة بالسيف على الإخبار عن محسوس شاهدوه أو شهادة كتموها فأخبروا حصل العلم بقولهم
فإن قيل: هل يتصور عدد يحصل العلم بقولهم إذا أخبروا عن اختيار ولا يحصل لو أخبروا عن إكراه؟
قلنا: أجاب القاضي رحمه الله ذلك من حيث أنه لم يجعل للقرائن مدخلا وذلك غير محال عندنا فإنا بينا أن النفس تشعر بأن هؤلاء على كثرتهم لا يجمعهم على الكذب جامع ثم تصدق فإذا ظهر كون السيف جامعا لم يبعد

 

ج / 1 ص -264-       أن لا يحصل العلم
الخامس: شرط الروافض أن يكون الإمام المعصوم في جملة المخبرين
وهذا يوجب العلم بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام لأنه معصوم فأي حاجة إلى أخبار غيره؟ ويجب أن لا يحصل العلم بنقلهم على التواتر النص على علي رضي الله عنه إذ ليس فيهم معصوم وأن لا تلزم حجة الإمام إلا على من شاهده من أهل بلده وسمع منه دون سائر البلاد وأن لا تقوم الحجة بقول أمرائه ودعاته ورسله وقضاته إذ ليسوا معصومين وأن لا يعلم موت أمير وقتله ووقوع فتنة وقتال في غير مصر وكل ذلك لازم على هذيانهم.
الباب الثالث في تقسيم الخبر إلى ما يجب تصديقه وإلى ما يجب تكذيبه وإلى ما يجب التوقف فيه
وهي ثلاثة أقسام:
القسم الأول :ما يجب تصديقه وهي سبعة
الأول
: ما أخبر عنه عدد التواتر فإنه يجب تصديقه ضرورة وإن لم يدل عليه دليل آخر فليس في الأخبار ما يعلم صدقه بمجرد الأخبار إلا المتواتر وما عداه فإنما يعلم صدقه بدليل آخر يدل عليه سوى نفس الخبر.
الثاني: ما أخبر الله تعالى عنه فهو صدق بدليل استحالة الكذب عليه ويدل عليه دليلان أقواهما: إخبار الرسول عليه السلام عن امتناع الكذب عليه تعالى والثاني :أن كلامه تعالى قائم بنفسه ويستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل عليه الجهل إذ الخبر يقوم بالنفس على وفق العلم والجهل .

 

ج / 1 ص -265-       على الله تعالى محال
الثالث: خبر الرسول عليه السلام ودليل صدقه دلالة المعجزة على صدقه مع استحالة إظهار المعجزة على أيدي الكاذبين لأن ذلك لو كان ممكنا لعجز الباري عن تصديقه رسله والعجز عليه محال
الرابع: ما أخبر عنه الأمة إذ ثبت عصمتها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم المعصوم عن الكذب وفي معناه كل شخص أخبر الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم عنه بأنه صادق لا يكذب
الخامس: كل خبر يوافق ما أخبر الله تعالى عنه أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو الأمةأو من صدقه هؤلاء أو دل العقل عليه والسمع فإنه لو كان كاذبا لكان الموافق له كذبا
السادس: كل خبر صح أنه ذكره المخبر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمسمع منه ولم يكن غافلا عنه فسكت عليه لأنه لو كان كذبا لما سكت عنه ولا عن تكذيبه ونعني به ما يتعلق بالدين
السابع: كل خبر ذكر بين يدي جماعة أمسكوا عن تكذيبه والعادة تقضي في مثل ذلك بالتكذيب وامتناع السكوت لو كان كذبا وذلك بأن يكون للخبر وقع في نفوسهم وهم عدد يمتنع في مستقر العادة التواطؤ عليهم بحيث ينكتم التواطؤ ولا يتحدثون به وبمثل هذه الطريقة ثبتت أكثر أعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان ينقل بمشهد جماعات وكانوا يسكتون عن التكذيب مع استحالة السكوت عن التكذيب على مثلهم فمهما كمل الشرط وترك النكير كما سبق نزل منزلة قولهم :

 

ج / 1 ص -266-       صدقت
فإن قيل: لو ادعى واحد أمرا بمشهد جماعة وادعى علمهم به فسكتوا عن تكذيبه فهل يثبت صدقه؟
قلنا: إن كان ذلك في محل النظر والاجتهاد فلا يثبت صدقه لاحتمال أنهم اعتقدوا عن النظر ما ادعاه وإن كان يسنده إلى مشاهدة وكانوا عددا يستحيل عليهم الدخول تحت داع واحد فالسكوت عن تكذيبه تصديق من جهتهم.
فإن قيل: وهل يدل على الصدق تواتر الخبر عن جماعة لا يجوز على مثلهم التواطؤ على الكذب قصدا ولا التوافق على اتفاق؟
قلنا: أحال القاضي رحمه الله ذلك وقال قولهم يورث العلم ضرورة إن بلغوا عدد التواتر في علم الله فإن لم يورث العلم الضروري دل على نقصان العدد ولا يجوز الاستدلال على صدقهم بالنظر في أحوالهم بل نعلم قطعا كذبهم أو اشتمالهم على كاذب أو متوهم وهذا على مذهبه إن لم ينظر إلى القرائن لازم أما من نظر إلى القرائن فلا يبعد أن يعلم صدقهم بنوع من النظر

 

ج / 1 ص -267-       فإن قيل: خبر الواحد الذي عمل به الأمة هل يجب تصديقه؟
قلنا: إن عملوا على وفقه فلعلهم عملوا عن دليل آخر وإن عملوا به أيضا فقد أمروا بالعمل بخبر الواحد وإن لم يعرفوا صدقه فلا يلزم الحكم بصدقه
فإن قيل: لو قدر الراوي كاذبا لكان عمل الأمة بالباطل وهو خطأ ولا يجوز ذلك على الأمة
قلنا: الأمة ما تعبدوا إلا بالعمل بخبر يغلب على الظن صدقهم فيه وقد غلب على ظنهم كالقاضي إذ قضى بشهادة عدلين فلا يكون مخطئا وإن كان الشاهد كاذبا بل يكون محقا لأنه لم يؤمر إلا به.
القسم الثاني من الأخبار: ما يعلم كذبه وهي أربعة :
الأول
: ما يعلم خلافه بضرورة العقل أو نظره أو الحس والمشاهدة أو أخبار التواتر وبالجملة ما خالف المعلوم بالمدارك الستة المذكورة كمن أخبر عن الجمع بين الضدين وإحياء الموتى في الحال وأنا على جناح نسر أو في لجة بحر وما يحس خلافه.
الثاني: ما يخالف النص القاطع من الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة فإنه ورد مكذبا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللأمة
الثالث: ما صرح بتكذيبه جمع كثير يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب إذا قالوا حضرنا معه في ذلك الوقت فلم نجد ما حكاه من الواقعة أصلا
الرابع :ما سكت الجمع الكثير عن نقله والتحدث به مع جريان الواقعة بمشهد منهم ومع إحالة العادة السكوت عن ذكره لتوفر الدواعي على نقله كما لو أخبر مخبر بأن أمير البلدة قتل في السوق على ملأ من الناس ولم يتحدث أهل السوق به فيقطع بكذبه إذ لو صدق لتوفرت الدواعي على نقله ولا حالت العادة اختصاصه بحكايته.

 

ج / 1 ص -268-       وبمثل هذه الطريقة عرفنا كذب من ادعى معارضة القرآن ونص الرسول على نبي آخر بعده وأنه أعقب جماعة من الأولاد الذكور ونصه على إمام بعينه على ملأ من الناس وفرضه صوم شوال وصلاة الضحى وأمثال ذلك مما إذا كان أحالت العادة كتمانه
فإن قيل :فقد تفرد الآحاد بنقل ما تتوفر الدواعي عليه حتى وقع الخلاف فيه كإفراده الحج أو قرانه وكدخوله الكعبة وصلاته فيها وأنه عليه السلام نكح ميمونة وهو حرام وأنه دخل مكة عنوة وقبوله شهادة الأعرابي وحده على رؤية الهلال وانفراد الأعرابي بالرؤية حتى لم يشاركه أحد فيه وانشقاق القمر ولم ينقله إلا ابن مسعود رضي الله عنه وعدد يسير معه وكان ينبغي أن يراه كل مؤمن وكافر وباد وحاضر ونقل النصارى معجزات عيسى عليه السلام ولم ينقلوا كلامه في المهد وهو من أعظم العلامات ونقلت الأمة القرآن ولم ينقلوا بقية معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم كنقل القرآن في الشيوع ونقل الناس أعلام الرسل ولم ينقلوا أعلام شعيب عليه السلام ونقلت الأمة سور القرآن ولم تنقل المعوذتين نقل غيرهما حتى خالف ابن مسعود رضي الله عنه في كونهما من القرآن وما تعم به البلوى من اللمس والمس أيضا
فكل هذا نقض على هذه القاعدة.
والجواب: أن إفراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرانه ليس مما يجب أن ينكشف وأن ينادي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكافة، بل لا يطلع عليه إلا من أطلعه عليه أو على نيته بإخباره إياه نعم ظهر على الاستفاضة تعليمه الناس الإفراد والقران جميعا
وأما دخوله الكعبة وصلاته فيها فقد يكون ذلك مع نفر يسير ومع واحد واثنين ولا يقع شائعا كيف ولو وقع شائعا لم تتوفر الدواعي على دوام نقله لأنه ليس من أصول الدين ولا من فرائضه ومهماته وأما دخوله مكة عنوة فقد صح على الاستفاضة دخوله متسلحا مع الألوية والأعلام وتمام التمكن والاستيلاء وبذله الأمان لمن دخل دار أبي سفيان ولمن ألقى سلاحه واعتصم بالكعبة وكل ذلك غير مختلف فيه

 

ج / 1 ص -269-       ولكن استدل بعض الفقهاء بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ودى قوما قتلهم خالد بن الوليد رضي الله عنه على أنه كان صلحا ووقوع مثل هذه الشبهة للآحاد ممكن إلى أن تزال بالنظر وأن يكون ذلك بنهي خاص عن قوم مخصوصين ولسبب مخصوص.
وأما انفراد الأعرابي برؤية الهلال فممكن وقد يقع مثل ذلك في زماننا في الليلة الأولى لخفاء الهلال ودقته فينفرد به من يتحد بصره وتصدق في الطلب رغبته ويقع على موضع الهلال بصره عن معرفة أو اتفاق
وأما انشقاق القمر فهي آية ليلية وقعت والناس نيام غافلون وإنما كان في لحظة فرآه من ناظره النبي من قريش ونبهه على النظر له وما انشق منه إلا شعبة ثم عاد صحيحا في لحظة فكم من انقضاض كوكب وزلزلة وأمور هائلة من ريح وصاعقة بالليل لا يتنبه له إلا الآحاد على أن مثل هذا إنما يعمله من قيل له انظر إليه فانشق عقيب القول والتحدي ومن لم يعلم ذلك ووقع عليه بصره ربما توهم أنه خيال انقشع أو كوكب كان تحت القمر فانجلى القمر عنه أو قطعة سحاب سترت قطعة من القمر فلهذا لم يتواتر نقله
وأما نقلهم القرآن دون سائر الأعلام فذلك لأمرين أحدهما أن الدواعي لا تتوفر بعد ثبوت النبوة بالقرآن واستقلالها به على نقل ما يقع بعده بحيث تقع المداومة عليه اكتفاء بثبوتها بالقرآن الذي هو أعظم الآيات
ولأن غير القرآن إنما ظهر في عمر كل واحد مرة واحدة وربما ظهر بين يدي نفر يسير والقرآن كان يردده طول عمره مرة بعد أخرى ويلقيه على

 

ج / 1 ص -270-       كافتهم قصدا ويأمرهم بحفظه والتلاوة له والعمل بموجبه .
وأما المعوذتان فقد ثبت نقلهما شائعا من القرآن كسائر السور وابن مسعود رضي الله عنه لم ينكر كونهما من القرآن لكن أنكر إثباتهما في المصحف وإثبات الحمد أيضا لأنه كانت السنة عنده أن لا يثبت إلا ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإثباته وكتبته ولما لم يجده كتب ذلك ولا سمع أمره به أنكره وهذا تأويل وليس جحدا لكونه قرآنا ولو جحد ذلك لكان فسقا عظيما لا يضاف إلى مثله ولا إلى أحد من الصحابة
وأما ترك النصارى نقل كلام عيسى عليه السلام في المهد فلعله لم يتكلم إلا بحضرة نفر يسير ومرة واحدة لتبرئة مريم عليها السلام عما نسبوها إليه فلم ينتشر ذلك ولم يحصل العلم بقول من سمع ذلك منهم فا ندرس فيما بينهم
وأما شعيب ومن يجري مجراه من الرسل عليهم السلام فلم يكن لهم شريعة ينفردون بها بل كانوا يدعون إلى شريعة من قبلهم فلم تتوفر الدواعي على نقل معجزاتهم إذ لم يكن لهم معجزات ظاهرة لكن ثبت صدقهم بالنص والتوقيف من نبي ذي معجزة
وأما الخبر عن اللمس والمس للذكر وما تعم به البلوى فيجوز أن يخبر به الرسول عليه السلام عددا يسيرا ثم ينقلونه آحادا ولا يستفيض وليس ذلك مما يعظم في الصدور وتتوفر الدواعي على التحدث به دائما

 

ج / 1 ص -271-       القسم الثالث ما لا يعلم صدقه ولا كذبه.
فيجب التوقف فيه
وهو جملة الأخبار الواردة في أحكام الشرع والعبادات مما عدا القسمين المذكورين وهو كل خبر لم يعرف صدقه ولا كذبه.
فإن قيل: عدم قيام الدليل على صدقه يدل على كذبه إذ لو كان صدقا لما أخلانا الله تعالى عن دليل على صدقه.
قلنا: ولم يستحيل أن يخلينا عن دليل قاطع على صدقه ولو قلب هذا وقيل يعلم صدقه لأنه لو كان كذبا لما أخلانا الله تعالى عن دليل قاطع على كذبه لكان مقاوما لهذا الكلام وكيف يجوز ذلك ويلزم منه أن يقطع بكذب كل شاهد لا يقطع بصدقه وكفر كل قاض ومفت وفجوره إذا لم يعلم إسلامه وورعه بقاطع وكذا كل قياس ودليل في الشرع لا يقطع بصحته فليقطع ببطلانه
وهذا بخلاف التحدي بالنبوة إذا لم تظهر معجزة فإنا نقطع بكذبه لأن النبي هو الذي كلفنا تصديقه وتصديقه بغير دليل محال وتكليف المحال محال فبه علمنا أنا لم نكلف تصديقه فلم يكن رسولا إلينا قطعا
أما خبر الواحد وشهادة الإثنين فلم نتعبد فيه بالتصديق بل بالعمل عند ظن الصدق والظن حاصل والعمل ممكن ونحن مصيبون وإن كان هو كاذبا ولو عملنا بقول شاهد واحد فنحن مخطئون وإن كان هو صادقا
فإن قيل: إنما وجب إقامة المعجزة لنعرف صدقه فنتبعه فيما يشرعه فليجب عليه إزالة الشك فيما يبلغ من الشرع بالمشافهة والإشاعة إلى حد التواتر ليحصل العلم في حق من لم يشافهه به
قلنا: لا استحالة في أن يقسم الشارع شرعه إلى ما يتعبد فيه بالعلم والعمل فيجب فيه ما ذكرتموه وإلى ما يتعبد فيه بالعمل دون العلم فيكون فرض من يسمع من الرسول العلم والعمل جميعا وفرض من غاب العمل دون العلم ويكون العمل منوطا بظن الصدق في الخبر وإن كان هو كاذبا عند الله تعالى وكذا الظن الحاصل من قياس وقول شاهد ويمين المدعى عليه أو يمين المدعي مع النكول فلا نحيل شيئا من ذلك

 

ج / 1 ص -272-       القسم الثاني من هذا الأصل في أخبار الآحاد
وفيه أبواب :
الباب الأول
في إثبات التعبد به مع قصوره عن إفادة العلم وفيه أربع مسائل :
مسألة:] هل خبر الواحد يفيد العلم؟ [:
اعلم أنا نريد بخبر الواحد في هذا المقام ما لا ينتهي من الأخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم فما نقله جماعة من خمسة أو ستة مثلا فهو خبر الواحد وأما قول الرسول عليه السلام مما علم صحته فلا يسمى خبر الواحد
وإذا عرفت هذا فنقول خبر الواحد لا يفيد العلم وهو معلوم بالضرورة إنا لا نصدق بكل ما نسمع ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين فكيف نصدق بالضدين ؟
وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل إذ يسمى الظن علما ولهذا قال بعضهم يورث العلم الظاهر والعلم ليس له ظاهر وباطن وإنما هو الظن ولا تمسك لهم في قوله تعالى
{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: من الآية10] وأنه أراد الظاهر لأن المراد به العلم الحقيقي بكلمة الشهادة التي هي ظاهر الإيمان دون الباطن الذي لم

 

ج / 1 ص -273-       يكلف به والإيمان باللسان يسمى إيمانا مجازا .
ولا تمسك لهم في قوله تعالى
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الاسراء: من الآية36] وأن الخبر لو لم يفد العلم لما جاز العمل به لأن المراد بالآية منع الشاهد عن جزم الشهادة إلا بما يتحقق وأما العلم بخبر الواحد فمعلوم الوجوب بدليل قاطع أوجب العمل عند ظن الصدق والظن حاصل قطعا ووجوب العمل عنده معلوم قطعا كالحكم بشهادة اثنين أو يمين المدعي مع نكول المدعى عليه
مسألة: هل يتعبد بخبر الواحد؟  :
أنكر منكرون جواز التعبد بخبر الواحد عقلا فضلا عن وقوعه سمعا
فيقال لهم: من أين عرفتم استحالته ؟ أبالضرورة ونحن نخالفكم فيه ؟ولا نزاع في الضرورة أو بدليل ولا سبيل لهم إلى إثباته لأنه لو كان محالا لكان يستحيل إما لذاته أو لمفسدة تتولد منه ولا يستحيل لذاته ولا التفات إلى المفسدة ولا نسلم أيضا لو التفتنا إليها فلا بد من بيان وجه المفسدة
فإن قيل: وجه المفسدة أن يروي الواحد خبرا في سفك دم أو في استحلال بضع وربما يكذب فيظن أن سفك الدم هو بأمر الله تعالى ولا يكون بأمره فكيف يجوز الهجوم بالجهل ومن شككنا في إباحة بضعه وسفك دمه فلا يجوز الهجوم عليه بالشك فيقبح من الشارع حوالة الخلق على الجهل واقتحام الباطل بالتوهم بل إذا أمر الله تعالى بأمر فليعرفنا أمره لنكون على بصيرة إما ممتثلون أو مخالفون ؟
والجواب: أن هذا السؤال إن صدر ممن ينكر الشرائع فنقول له أي استحالة في أن يقول الله تعالى لعباده إذا طار بكم طائر وظننتموه غرابا فقد أوجبت عليكم كذا وكذا وجعلت ظنكم علامة وجوب العمل كما جعلت زوال

 

ج / 1 ص -274-       الشمس علامة وجوب الصلاة فيكون نفس الظن علامة الوجوب والظن مدرك بالحس وجوده فيكون الوجوب معلوما فمن أتى بالواجب عند الظن فقد امتثل قطعا وأصاب فإذا جاز أن يجعل الزوال أو ظن كونه غرابا علامة فلم لا يجوز أن يجعل ظنه علامة ويقال له إذا ظننت صدق الراوي والشاهد والحالف فاحكم به ولست متعبدا بمعرفة صدقه ولكن بالعمل عند ظن صدقه وأنت مصيب وممتثل صدق أو كذب ولست متعبدا بالعلم بصدقه ولكن بالعمل عند ظنك الذي تحسه من نفسك
وهذا ما نعتقده في القياس وخبر الواحد والحكم بالشاهد واليمين وغير ذلك
وأما إذا صدر هذا من مقر بالشرع فلا يتمكن منه لأنه تعبد بالعمل بالشهادة والحكم والفتوى ومعاينة الكعبة وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه خمسة
ثم الشهادة قد يقطع بها كشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وشهادة خزيمة بن ثابت حين صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهادة موسى وهارون والأنبياء صلوات الله عليهم وقد يظن ذلك كشهادة غيرهم ثم ألحق المظنون بالمقطوع به في وجوب العمل وكذلك فتوى النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه مقطوع به وفتوى سائر الأئمة وحكم سائر القضاة مظنون وألحق بالمعلوم والكعبة تعلم قطعا بالعيان وتظن بالاجتهاد وعند الظن يجب العمل كما يجب عند المشاهدة فكذلك خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يجب العمل به عند التواتر فلم يستحيل أن يلحق المظنون بالمعلوم في وجوب العلم خاصة؟ ومن أراد أن يفرق بين هذه الخمسة في مفسدة أو مصلحة لم يتمكن منه أصلا.
فإن قيل: فهل يجوز التعبد بالعمل بخبر الفاسق

 

ج / 1 ص -275-       قلنا: قال قوم يجوز بشرط ظن الصدق وهذا الشرط عندنا فاسد بل كما يجوز أن تجعل حركة الفلك علامة التعبد بالصلاة فحركة لسان الفاسق يجوز أن تجعل علامة فتكليف العمل عند وجود الخبر شيء وكون الخبر صدقا أو كذبا شيء آخر
مسألة:هل يجب العمل بخبر الواحد ؟:
ذهب قوم إلى أن العقل يدل على وجوب العمل بخبر الواحد دون الأدلة السمعية
واستدلوا عليه بدليلين:
أحدهما: أن المفتي إذا لم يجد دليلا قاطعا من كتاب أو إجماع أو سنة متواترة ووجد خبر الواحد فلو لم يحكم به لتعطلت الأحكام
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مبعوثا إلى أهل العصر يحتاج إلى إنفاذ الرسل إذ لا يقدر على مشافهة الجميع ولا إشاعة جميع أحكامه على التواتر إلى كل أحد إذ لو أنفذ عدد التواتر إلى كل قطر لم يف بذلك أهل مدينته وهذا ضعيف لأن المفتي إذا فقد الأدلة القاطعة يرجع إلى البراءة الأصلة والاستصحاب كما لو فقد خبر الواحد أيضا وأما الرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقتصر على من يقدر على تبليغه فمن الناس في الجزائر من لم يبلغه الشرع فلا يكلف به فليس تكليف الجميع واجبا نعم لو تعبد نبي بأن يكلف جميع الخلق ولا يخلي واقعة عن حكم الله تعالى ولا شخصا عن التكليف فربما يكون الاكتفاء بخبر الواحد ضرورة في حقه
والدليل الثاني: إنهم قالوا صدق الراوي ممكن فلو لم نعمل بخبر الواحد لكنا قد تركنا أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فالاحتياط والحزم في العمل
وهو باطل من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن كذبه ممكن فربما يكون عملنا بخلاف الواجب

 

ج / 1 ص -276-       الثاني :أنه كان يجب العمل بخبر الكافر والفاسق لأن صدقه ممكن.
الثالث: هو أن براءة الذمة معلومة بالعقل والنفي الأصلي فلا ترفع بالوهم وقد استدل به قوم في نفي خبر الواحد وهو وإن كان فاسدا فهو أقوم من قوله إن الصدق إذا كان ممكنا يجب العمل به
مسألة: هل يتعبد بخبر الواحد :
الصحيح الذي ذهب إليه الجماهير من سلف الأمة من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين أنه لا يستحيل التعبد بخبر الواحد عقلا ولا يجب التعبد به عقلا وأن التعبد به واقع سمعا.
وقال جماهير القدرية ومن تابعهم من أهل الظاهر كالقاساني بتحريم العمل به سمعا
ويدل على بطلان مذهبهم مسلكان قاطعان: أحدهما: إجماع الصحابة على قبول خبر الواحد والثاني:تواتر الخبر بإنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاة والرسل إلى البلاد وتكليفه إياهم تصديقهم فيما نقلوه من الشرع ونحن نقرر هذين المسلكين.
المسلك الأول: ما تواتر واشتهر من عمل الصحابة بخبر الواحد في وقائع شتى لا تنحصر وإن لم تتواتر آحادها فيحصل العلم بمجموعها ونحن نشير إلى بعضها.
فمنها ما روي عن عمر رضي الله عنه في وقائع كثيرة من ذلك قصة الجنين وقيامه في ذلك يقول أذكر الله امرءا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا في الجنين فقام إليه حمل بن مالك بن النابغة وقال كنت بين جارتين يعني ضرتين.

 

ج / 1 ص -277-       فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا فقضى فيه رسول الله بغرة عبد أو وليدة فقال عمر لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا أي لم نقض بالغرة أصلا وقد انفصل الجنين ميتا للشك في أصل حياته
ومن ذلك أنه كان رضي الله عنه لا يرى توريث المرأة من دية زوجها فلما أخبره الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته رجع إلى ذلك
ومن ذلك ما تظاهرت به الأخبار عنه في قصة المجوس أنه قال ما أدري ما الذي أصنع في أمرهم وقال أنشد الله امرءا سمع فيهم شيئا إلا رفعه إلينا فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب فأخذ الجزية منهم وأقرهم على دينهم
ومنها ما ظهر منه ومن عثمان رضي الله عنهما وجماهير الصحابة رضي الله عنهم من الرجوع عن سقوط فرض الغسل من التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها وقولها فعلت ذلك أنا ورسول الله فاغتسلنا
ومن ذلك ما صح عن عثمان رضي الله عنه أنه قضى في السكنى بخبر فريعة بنت مالك بعد أن أرسل إليها وسألها
ومنها ما ظهر من علي رضي الله عنه من قبوله خبر الواحد واستظهاره باليمين حتى قال في الخبر المشهور كنت إذا سمعت من رسول الله حديثا نفعني الله بما شاء منه وإذا حدثني غيره أحلفته فإذا حلف

 

ج / 1 ص -278-       صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال قال رسول الله ما من عبد يصيب ذنبا الحديث فكان يحلف المخبر لا لتهمة بالكذب ولكن للاحتياط في سياق الحديث على وجهه والتحرز والتحرز من تغيير لفظه نقلا بالمعنى ولئلا يقدم على الرواية بالظن بل عند السماع المحقق
ومنها ما روي عنزيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كان يرى أن الحائض لا يجوز لها أن تصدر حتى يكون آخر عهدها الطواف بالبيت وأنكر على ابن عباس خلافه في ذلك فقيل له إن ابن عباس سأل فلانة الأنصارية
هل أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فأخبرته فرجع زيد بن ثابت يضحك ويقول لابن عباس ما أراك إلا قد صدقت ورجع إلى موافقته بخبر الأنصارية
ومنها ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا من فضيخ تمر إذا أتانا آت فقال إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت ومنها ما اشتهر من عمل أهل قباء في التحول عن القبلة بخبر الواحد وأنهم أتاهم آت فأخبرهم بنسخ القبلة فانحرفوا إلى الكعبة بخبره
ومنها ما ظهر من ابن عباس رضي الله عنه وقد قيل أن فلانا رجلا من المسلمين يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس بموسى نبي إسرائيل عليه السلام فقال ابن عباس كذب عدو الله أخبرني أبي بن كعب قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل فتجاوز ابن عباس العمل بخبر الواحد وبادر

 

ج / 1 ص -279-       إلى التكذيب بأصله والقطع بذلك لأجل خبر أبي بن كعب
ومنها أيضا ما روي عن أبي الدرداء أنه لما باع معاوية شيئا من آنية الذهب والورق بأكثر من وزنه فقال له أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك فقال له معاوية إني لا أرى بذلك بأسا فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أبدا
ومنها ما اشتهر عن جميعهم في أخبار لا تحصى الرجوع إلى عائشة وأم سلمة وميمونة وحفصة رضوان الله عليهن وإلى فاطمة بنت أسد وفلانة وفلانة ممن لا يحصى كثرة وإلى زيد وأسامة بن زيد وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم من الرجال والنساء والعبيد والموالي
وعلى ذلك جرت سنة التابعين بعدهم حتى قال الشافعي رحمه الله وجدنا علي بن الحسين رضي الله عنه يعول على أخبار الآحاد وكذلك محمد بن علي وجبير بن مطعم ونافع بن جبير وخارجة بن زيد وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وكذلك كان حال طاوس وعطاء ومجاهد وكان سعيد بن المسيب يقول أخبرني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصرف فيثبت حديثه سنة ويقول حدثني أبو هريرة وعروة بن الزبير يقول حدثتني عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان ويعترض بذلك على قضية عمر بن عبد العزيز فينقض عمر قضاءه

 

ج / 1 ص -280-       لأجل ذلك وكذلك ميسرة باليمن ومكحول بالشام
وعلى ذلك كان فقهاء البصرة كالحسن وابن سيرين وفقهاء الكوفة وتابعوهم كعلقمة والأسود والشعبي ومسروق وعليه جرى من بعدهم من الفقهاء ولم ينكر عليهم أحد في عصر ولو كان نكير لنقل ولوجب في مستقر العادة اشتهاره وتوفرت الدواعي على نقله كما توفرت على نقل العمل به
فقد ثبت أن ذلك مجمع عليه من السلف وإنما الخلاف حدث بعدهم فإن قيل لعلهم عملوا بها مع قرائن أو بأخبار أخر صاحبتها أو ظواهر ومقاييس وأسباب قارنتها لا بمجرد هذه الأخبار كما زعمتم كما قلتم عملهم بالعموم وصيغة الأمر والنهي ليس نصا صريحا على أنهم عملوا بمجردها بل بها مع قرائن قارنتها
 قلنا :لأنهم لم ينقل عنهم لفظ إنما عملنا بمجرد الصيغة من أمر ونهي وعموم وقد قالوا هاهنا لولا هذا لقضينا بغير هذا وصرح ابن عمر رضي الله عنهما برجوعهم عن المخابرة بخبر رافع بن خديج ورجوعهم في التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها
كيف وصيغة العموم والأمر والنهي قط لا تنفك عن قرينة من حال المأمور والمأمور به والآمر ؟أما ما يرويه الراوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فماذا يقترن به حتى يكون دليلا بسببه ؟فتقدير ذلك كتقدير قرائن في عملهم بنص الكتاب وبالخبر المتواتر وبالإجماع وذلك يبطل جميع الأدلة
وبالجملة فمناشدتهم في طلب الأخبار لا داعي لها إلا بالعمل بها

 

ج / 1 ص -281-       فإن قيل: فقد تركوا العمل بأخبار كثيرة أيضا
قلنا :ذلك لفقدهم شرط قبولها كما سيأتي وكما تركوا العمل بنص القرآن وبأخبار متواترة لاطلاعهم على نسخها أو فوات الأمر وانقراض من كان الخطاب متعلقا به
الدليل الثاني: ما تواتر من إنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءه وقضاته ورسله وسعاته إلى الأطراف وهم آحاد ولا يرسلهم إلا لقبض الصدقات وحل العهود وتقريرها وتبليغ أحكام الشرع
فمن ذلك تأميره أبا بكر الصديق على الموسم سنة تسع وإنفاذه سورة براءة مع علي وتحميله فسخ العهود والعقود التي كانت بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم
ومن ذلك توليته عمر رضي الله عنه على الصدقات وتوليته معاذا قبض صدقات اليمن والحكم على أهلها
ومن ذلك إنفاذه صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أهل مكة متحملا ورسولا مؤديا عنه حتى بلغه أن قريشا قتلته فقلق لذلك وبايع لأجله بيعة الرضوان وقال والله لئن كانوا قتلوه لأضرمنها عليهم نارا
ومن ذلك توليته صلى الله عليه وسلم على الصدقات والجبايات قيس بن عاصم ومالك بن نويرة والزبرقان بن بدر وزيد بن حارثة وعمرو بن العاص وعمرو بن حزم وأسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة بن الجراح وغيرهم

 

ج / 1 ص -282-       ممن يطول ذكرهم
وقد ثبت باتفاق أهل السير أنه صلى الله عليه وسلم كان يلزم أهل النواحي قبول قول رسله وسعاته وحكامه ولو احتاج في كل رسول إلى تنفيذ عدد التواتر معه لم يف بذلك جميع أصحابه وخلت دار هجرته عن أصحابه وأنصاره وتمكن منه أعداؤه من اليهود وغيرهم وفسد النظام والتدبير وذلك وهم باطل قطعا
فإن قيل: كان قد أعلمهم صلى الله عليه وسلم تفصيل الصدقات شفاها وبأخبار متواترة وإنما بعثهم لقبضها
قلنا: ولم وجب تصديقهم في دعوى القبض وهم آحاد ؟ ثم لم يكن بعثه صلى الله عليه وسلم في الصدقات فقط بل كان في تعليمهم الدين والحكم بين المتخاصمين وتعريف وظائف الشرع
فإن قيل :فليجب عليهم قبول أصل الصلاة والزكاة بل أصل الدعوة والرسالةوالمعجزة
قلنا: أما أصل الزكاة والصلاة فكان يجب قبوله لأنهم كانوا ينفذون لشرح وظائف الشرع بعد انتشار أصل الدعوة وأما أصل والرسالة والإيمان وأعلام النبوة فلا إذ كيف يقول رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجب عليكم تصديقي وهم لم يعرفوا برسالته أما بعد التصديق به فيمكن الإصغاء إلى رسله بإيجابه الإصغاء إليهم
فإن قيل: فإنما يجب قبول خبر الواحد إذا دل قاطع على وجوب العمل به كما دل الإجماع والتواتر عندكم فأولئك بماذا صدقوا الولاة في قولهم يجب عليكم العمل بقولنا؟
قلنا: قد كان تواتر إليهم من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ينفذ الولاة

 

ج / 1 ص -283-       والرسل آحادا كسائر الأكابر والرؤساء ولولا علمهم بذلك لجاز للمتشكك أن يجادل فيه إذ عرض له شك ولكن قل ما يعرض الشك فيه مع القرائن فإن الذي يدخل بلادنا مع منشور القضاء قد لا يخالجنا ريب في صدقه وإن لم يتواتر إلينا ولكن بقرائن الأحوال والمعرفة لخط الكاتب وببعد جرأته على الكذب مع تعريضه للخطر في أمثال ذلك
الدليل الثالث: إن العامي بالإجماع مأمور باتباع المفتي وتصديقه مع أنه ربما يخبر عن ظنه فالذي يخبر بالسماع الذي لا يشك فيه أولى بالتصديق والكذب والغلط جائزان على المفتي كما على الراوي بل الغلط على الراوي أبعد لأن كل مجتهد وإن كان مصيبا فإنما يكون مصيبا إذا لم يقصر في إتمام النظر وربما يظن أنه لم يقصر ويكون قد قصر وهذا على مذهب من يجوز تقليد مقلد الشافعي رحمه الله إذا نقل مذهبه أوقع لأنه يروي مذهب غيره فكيف لا يروي قول غيره
فإن قيل: هذا قياس لا يفيد إلا الظن ولا يجوز إثبات الأصول بالظن والقياس والعمل بخبر الواحد أصل كيف ولا ينقدح وجه الظن فإن المجتهد مما يضطر إليه ولو كلف آحاد العوام درجة الاجتهاد تعذر ذلك فهو مضطر إلى تقليد المفتي
قلنا :لا ضرورة في ذلك بل ينبغي أن يرجع إلى البراءة الأصلية إذ لا طريق له إلى المعرفة كما وجب على المفتي بزعمكم إذا بلغه خبر الواحد أن يرد الخبر فيرجع إلى البراءة الأصلية إذا تعذر عليه التواتر
ثم نقول: ليس هذا قياسا مظنونا بل هو مقطوع به بأنه في معناه لأنه لو

 

ج / 1 ص -284-       صح العمل بخبر الواحد في الأنكحة لقطعنا به في البياعات ولم يختلف الأمر باختلاف المروي وهاهنا لم يختلف إلا المخبر عنه فإن المفتي يخبر عن ظن نفسه والراوي عن قول غيره كما لم يفرق في حق الشاهدين بين أن يخبرا عن أنفسهما أو عن غيرهما إذا شهدا على عدالة غيرهما أو يخبرا عن ظن أنفسهما العدالة في غيرهما
الدليل الرابع قوله تعالى
{ فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ } [التوبة: من الآية122]  فالطائفة نفر يسير كالثلاثة ولا يحصل العلم بقولهم
وهذا فيه نظر لأنه إن كان قاطعا فهو في وجوب الإنذار لا في وجوب العمل على المنذر عنه اتحاد المنذر كما يجب على الشاهد الواحد إقامة الشهادة لا ليعمل بها وحدها لكن إذا انضم غيرها إليها
وهذا الاعتراض هو الذي يضعف أيضا التمسك بقوله تعالى :{
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: من الآية159] وبقوله صلى الله عليه وسلم نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها الحديث وأمثالهما

 

ج / 1 ص -285-       ثم اعلم أن المخالف في المسألة له شبهتان:
الشبهة الأولى :قولهم لا مستند في إثبات خبر الواحد إلا الإجماع فكيف يدعي ذلك وما من أحد من الصحابة إلا وقد رد خبر الواحد فمن ذلك توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبول خبر ذي اليدين حيث سلم عن اثنتين حتى سأل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وشهدا بذلك وصدقاه ثم قبل وسجد للسهو
ومن ذلك رد أبي بكر رضي الله عنه خبر المغيرة بن شعبة من ميراث الجد حتى أخبره معه محمد بن مسلمة
ومن ذلك رد أبي بكر وعمر خبر عثمان رضي الله عنهم فيما رواه من استئذانه الرسول في رد الحكم بن أبي العاص وطالباه بمن يشهد معه بذلك؟

 

ج / 1 ص -286-       ومن ذلك ما اشتهر من رد عمر رضي الله عنه خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتى شهد له أبو سعد الخدري رضي الله عنه
ومن ذلك رد علي رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث
ومن ذلك رد عائشة رضي الله عنها خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه
وظهر من عمر نهيه لأبي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم

 

ج / 1 ص -287-       وأمثال ذلك مما يكثر
وأكثر هذه الأخبار تدل على مذهب من يشترط عددا في الراوي لا على مذهب من يشترط التواتر فإنهم لم يجتمعوا فينتظروا التواتر
لكنا نقول في الجواب عما سألوا عنه الذي رويناه قاطع في عملهم وما ذكرتموه رد لأسباب عارضة تقتضي الرد ولا تدل على بطلان الأصل كما أن ردهم بعض نصوص القرآن وتركهم بعض أنواع القياس ورد القاضي بعض أنواع الشهادات لا يدل على بطلان الأصل
ونحن نشير إلى جنس المعاذير في رد الأخبار والتوقف فيها أما توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول ذي اليدين فيحتمل ثلاثة أمور:
أحدها: أنه جوز الوهم عليه لكثرة الجمع وبعد انفراده بمعرفة ذلك مع غفلة الجميع إذ الغلط عليه أقرب من الغفلة على الجمع الكثير وحيث ظهرت أمارات الوهم يجب التوقف
الثاني: أنه وإن علم صدقه جاز أن يكون سبب توقفه أن يعلمهم وجوب التوقف في مثله ولو لم يتوقف لصار التصديق مع سكوت الجماعة سنة ماضية فحسم سبيل ذلك
الثالث: أنه قال قولا لو علم صدقا لظهر أثره في حق الجماعة واشتغلت ذمتهم فألحق بقبيل الشهادة فلم يقبل فيه قول الواحد
والأقوى ما ذكرناه من قبل
نعم: لو تعلق بهذا من يشترط عدد الشهادة فيلزمه اشتراط ثلاثة ويلزمه أن تكون في جمع يسكت عليه الباقون لأنه كذلك كان.
أما توقف أبي بكر في حديث المغيرة في توريث الجدة فلعله كان هناك وجه اقتضى التوقف وربما لم يطلع عليه أحد أو لينظر أنه حكم مستقر أو منسوخ أو ليعلم هل عند غيره مثل ما عنده ليكون الحكم أوكدا أو خلافه

 

ج / 1 ص -288-       فيندفع أو توقف في انتظار استظهار بزيادة كما يتسظهر الحاكم بعد شهادة اثنين على جزم الحكم إن لم يصادف الزيادة لا على عزم الرد أو أظهر التوقف لئلا يكثر الإقدام على الرواية عن تساهل ويجب حمله على شيء من ذلك إذ ثبت منه قطعا قبول خبر الواحد وترك الإنكار على القائلين به
وأما رد حديث عثمان في حق الحكم بن أبي العاص فلأنه خبر عن إثبات حق لشخص فهو كالشهادة لا تثبت بقول واحد أو توقف لأجل قرابة عثمان من الحكم وقد كان معروفا بأنه كلف بأقاربه فتوقف تنزيها لعرضه ومنصبه من أن يقول متعنت إنما قال ذلك لقرابته حتى ثبت ذلك بقول غيره أو لعلهما توقفا ليسنا للناس التوقف في حق القريب الملاطف ليتعلم منهما التثبت في مثله
وأما خبر أبي موسى في الاستئذان فقد كان محتاجا إليه ليدفع به سياسة عمر عن نفسه لما انصرف عن بابه بعد أن قرع ثلاثا كالمترفع عن المثول ببابه فخاف أن يصير ذلك طريقا لغيره إلى أن يروي الحديث على حسب غرضه بدليل أنه لما رجع مع أبي سعيد الخدري وشهد له قال عمر إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجوز للإمام التوقف مع انتفاء التهمة لمثل هذه المصلحة
كيف ومثل هذه الأخبار لا تساوي في الشهرة والصحة أحاديثنا في نقل القبول عنهم

 

ج / 1 ص -289-       وأما رد علي خبر الأشجعي فقد ذكر علته وقال كيف نقبل قول أعرابي بوال على عقبيه؟ بين أنه لم يعرف عدالته وضبطه ولذلك وصفه بالجفاء وترك التنزه عن البول كما قال عمر في فاطمة بنت قيس في حديث السكنى لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت .
فهذا سبيل الكلام على ما ينقل من التوقف في الأخبار
الشبهة الثانية: تمسكهم بقوله تعالى
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }] الاسراء: من الآية36[  {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}] الأعراف من الآية:33[وقوله تعالى {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا }]يوسف: من الآية81[وقوله تعالى { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ }]الحجرات: من الآية6[والجهالة في قول العدل حاصلة
وهذا باطل من أوجه:
الأول: أن إنكارهم القول بخبر الواحد غير معلوم ببرهان قاطع بل يجوز الخطأ فيه فهو إذا حكم بغير علم الثاني: أن وجوب العمل به معلوم بدليل قاطع من الإجماع فلا جهالة فيه
الثالث :إن المراد من الآيات منع الشاهد عن جزم الشهادة بما لم يبصر ولم يمسع والفتوى بما لم يرو ولم ينقله العدول.
الرابع: إن هذا لو دل على رد خبر الواحد لدل على شهادة الاثنين والأربعة والرجل والمرأتين والحكم باليمين فكما علم بالنص في القرآن

 

ج / 1 ص -290-       وجوب الحكم بهذه الأمور مع تجويز الكذب فكذلك بالإخبار.
الخامس: أنه يجب تحريم نصب الخلفاء والقضاة لأنا لا نتيقن إيمانهم فضلا عن ورعهم ولا نعلم طهارة إمام الصلاة عن الجنابة والحدث فليمتنع الاقتداء.
الباب الثاني: في شروط الراوي وصفته
وإذا ثبت وجوب العمل بخبر الواحد فاعلم أن كل خبر فليس بمقبول.
وافهم أولا أنا لسنا نعني بالقبول التصديق ولا بالرد التكذيب بل يجب علينا قبول قول العدل وربما كان كاذبا أو غالطا ولا يجوز قبول قول الفاسق وربما كان صادقا بل نعني بالمقبول ما يجب العمل به وبالمردود ما لا تكليف علينا في العمل به
والمقبول :رواية كل مكلف عدل مسلم ضابط منفردا كان بروايته أو معه غيره.
فهذه خمسة أمور لا بد من النظر فيها.
الأول: أن رواية الواحد تقبل وإن لم تقبل شهادته خلافا للجبائي وجماعة حيث شرطوا العدد ولم يقبلوا إلا قول رجلين ثم لا تثبت رواية

 

ج / 1 ص -291-       كل واحد إلا من رجلين آخرين وإلى أن ينتهي إلى زماننا يكثر كثرة عظيمة لا يقدر معها على إثبات حديث أصلا
وقال قوم :لا بد من أربعة أخذا من شهادة الزنا
ودليل بطلان مذهبهم أنا نقول إذا ثبت قبول قول الآحاد مع أنه لا يفيد العلم فاشتراط العدد تحكم لا يعرف إلا بنص أو قياس على منصوص ولا سبيل إلى دعوى النص وما نقل الصحابة من طلب استظهار فهو في واقعتين أو ثلاث لأسباب ذكرناها أما ما قضوا فيه بقول عائشة وحدها وقول زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم فهو خارج عن الحصر فقد علمنا قطعا من أحوالهم قبول خبر الواحد كما علمنا قطعا رد شهادة الواحد
وإن أخذوا من قياس الشهادة فهو قياس باطل إذ عرف من فعلهم الفرق ولم لا يقاس عليه في شرط الحرية والذكورة واشترط في أخبار الزنا أربعة وفيما يتعلق برؤية الهلال وشهادة القابلة واحد والمصير إلى ذلك خرق للإجماع ولا فرق إن وجب القياس
الشرط الثاني: وهو الأول تحقيقا فإن العدد ليس عندنا من الشروط وهو التكليف فلا تقبل رواية الصبي لأنه لا يخاف الله تعالى فلا وازع له من الكذب فلا تحصل الثقة بقوله وقد اتبعوا في قبول الشهادة سكون النفس وحصول الظن والفاسق أوثق من الصبي فإنه يخاف الله تعالى وله وازع من

 

ج / 1 ص -292-       دينه وعقله والصبي لا يخاف الله تعالى أصلا فهو مردود بطريق الأولى
والتمسك بهذا أولى من التمسك برد إقراره وإنه إذا لم يقبل قوله فيما يحكيه عن نفسه فبأن لا يقبل فيما يرويه عن غيره أولى فإن هذا يبطل بالعبد فإنه قد لا يقبل إقراره وتقبل روايته فإن كان سببه أنه يتناول ملك السيد وملك السيد معصوم عنه فملك الصبي أيضا محفوظ عنه لمصلحته فما لا يتعلق به قد يؤثر فيه قوله بل حاله حتى يجوز الاقتداء به اعتمادا على قوله أنه ظاهر وعلى أنه لا يصلي إلا طاهر لكنه كما يجوز الاقتداء بالبر والفاجر فكذلك بالصبي والبالغ وشهادة الفاسق لا تقبل والصبي أجرأ على الكذب منه
أما إذا كان طفلا مميزا عند التحمل بالغا عند الرواية فإنه يقبل لأنه لا خلل في تحمله ولا في أدائه ويدل على قبول سماعه إجماع الصحابة على قبول خبر ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهم من أحداث الصحابة من غير فرق بين ما تحملوه بعد البلوغ أو قبله وعلى ذلك درج السلف والخلف من إحضار الصبيان مجالس الرواية ومن قبول شهادتهم فيما تحملوه في الصغر
فإن قيل: فقد قال بعض العلماء تقبل شهادة الصبيان في الجنايات التي تجري بينهم
قلنا: ذلك منه استدلال بالقرائن إذا كثروا وأخبروا قبل التفرق أما إذا تفرقوا فيتطرق إليهم التلقين الباطل ولا وازع لهم فمن قضى به فإنما قضى به لكثرة الجنايات بينهم ولمسيس الحاجة إلى معرفته بقرائن الأحوال فلا يكون ذلك على منهاج الشهادة
الشرط الثالث: أن يكون ضابطا فمن كان عند التحمل غير مميز أو كان مغفلا لا يحسن ضبط ما حفظه ليؤديه على وجهه فلا ثقة بقوله وإن لم يكن فاسقا

 

ج / 1 ص -293-       الشرط الرابع: أن يكون مسلما. ولا خلاف في أن رواية الكافر لا تقبل لأنه متهم في الدين وإن كان تقبل شهادة بعضهم على بعض عند أبي حنيفة ولا يخالف في رد روايته والاعتماد في ردها على الإجماع المنعقد على سلبه أهلية هذا المنصب في الدين وإن كان عدلا في دين نفسه وهو أولى من قولنا الفاسق مردود الشهادة والكفر أعظم أنواع الفسق وقد قال تعالى {  إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا } ]الحجرات: من الآية6[لأن الفاسق متهم لجرأته على المعصية والكافر المترهب قد لا يتهم لكن التعويل على الإجماع في سلب الكافر هذا المنصب
فإن قيل: هذا يتجه في اليهود والنصارى ومن لا يؤمن بديننا إذ لا يليق في السياسة تحكيمه في دين لا يعتقد تعظيمه فما قولكم في الكافر المتأول وهو الذي قد قال ببدعة يجب التكفير بها فهو معظم للدين وممتنع من المعصية وغير عالم بأنه كافر فلم لا تقبل روايته وقد قبل الشافعي رواية بعض أهل البدع وإن كان فاسقا ببدعته لأنه متأول في فسقه
قلنا: في رواية المبتدع المتأول كلام سيأتي.
وأما الكافر وإن كان متأولا فلا تقبل روايته لأن كل كافر متأول فإن اليهودي أيضا لا يعلم كونه كافرا أما الذي ليس بمتأول وهو المعاند بلسانه بعد معرفة الحق بقلبه فذلك مما يندر وتورع المتأول عن الكذب كتورع النصراني فلا ينظر إليه بل هذا المنصب لا يتسفاد إلا بالإسلام وعرف ذلك بالإجماع لا بالقياس
الشرط الخامس: العدالة قال الله تعالى
{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا} ]الحجرات: من الآية6[ وهذا زجر عن اعتماد قول الفاسق ودليل على شرط العدالة في الرواية والشهادة
ماتحقق به العدالة  :
والعدالة عبارة عن استقامة السيرة والدين ويرجع حاصلها إلى هيئة

 

ج / 1 ص -294-       راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفا وازغا عن الكذب
ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي
ولا يكفي أيضا اجتناب الكبائر بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة وتطفيف في حبة قصدا
وبالجملة :كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يستجرىء على الكذب بالأعراض الدنيوية كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة نحو الأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأراذل وإفراط المزح
والضابط في ذلك فيما جاوز محل الإجماع: أن يرد إلى اجتهاد الحاكم فما دل عنده على جراءته على الكذب رد الشهادة به وما لا فلا وهذا يختلف بالإضافة إلى المجتهدين وتفصيل ذلك من الفقه لا من الأصول ورب شخص يعتاد الغيبة ويعلم الحاكم أن ذلك له طبع لا يصبر عنه ولو حمل على شهادة الزور لم يشهد أصلا فقوله شهادته بحكم اجتهاده جائز في حقه ويختلف ذلك بعادات البلاد واختلاف أحوال الناس في استعظام بعض الصغائر دون بعض
ويتفرع عن هذا الشرط مسألتان:
مسألة:تعريف العدالة :
قال بعض أهل العراق العدالة عبارة عن إظهار الإسلام فقط مع سلامته عن فسق ظاهر فكل مسلم مجهول عنده عدل

 

ج / 1 ص -295-       وعندنا لا تعرف عدالته إلا بخبرة باطنة والبحث عن سيرته وسريرته
ويدل على بطلان ما قالوه أمور:
الأول: أن الفاسق مردود الشهادة والرواية بنص القرآن ولعلمنا بأن دليل قبول خبر الواحد قبول الصحابة إياه وإجماعهم ولم ينقل ذلك عنهم إلا في العدل والفاسق لو قبلت روايته لقبل بدليل الإجماع أو بالقياس على العدل المجمع عليه ولا إجماع في الفاسق ولا هو في معنى العدل في حصول الثقة بقوله فصار الفسق مانعا من الرواية كالصبا والكفر وكالرق في الشهادة ومجهول الحال في هذه الخصال لا يقبل قوله فكذلك مجهول الحال في الفسق لأنه إن كان فاسقا فهو مردود الرواية وإن كان عدلا فغير مقبول أيضا للجهل به كما لو شككنا في صباه ورقه وكفره ولا فرق
الثاني: أنه لا تقبل شهادة المجهول وكذلك روايته وإن منعوا شهادة المال فقد سلموا شهادة العقوبات ثم المجهول مردود في العقوبات وطريق الثقة

 

ج / 1 ص -296-       في الرواية والشهادة واحد وإن اختلفا في بقية الشروط
الثالث: أن المفتي المجهول الذي لا يدري أنه بلغ رتبة الاجتهاد أم لا يجوز للعامي قبول قوله وكذلك إذا لم يدر أنه عالم أم لا بل سلموا أنه لو لم تعرف عدالته وفسقه فلا يقبل وأي فرق بين حكاية المفتي عن نفسه اجتهاده وبين حكايته خبرا عن غيره
الرابع: أن شهادة الفرع لا تسمع ما لم يعين الفرع شاهد الأصل وهو مجهول عند القاضي فلم يجب تعيينه وتعريفه إن كان قول المجهول مقبولا؟ وهذا رد على من قبل شهادة المجهول ولا جواب عنه
فإن قيل: يلزمه ذكر شاهد الأصل فلعل القاضي يعرفه بفسق فيرد شهادته
قلنا: إذا كان حد العدالة هو الإسلام من غير ظهور فسق فقد تحقق ذلك فلم يجب التتبع حتى يظهر الفسق؟
ثم يبطل ما ذكره بالخبر المرسل فإنهم لم يوجبوا ذكر الشيخ ولعل المروي له يعرف فسقه
الخامس: أن مستندنا في خبر الواحد عمل الصحابة وهم قد ردوا خبر المجهول فرد عمر رضي الله عنه فاطمة بنت قيس وقال كيف نقبل قول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت ؟ ورد علي خبر الأشجعي في المفوضة وكان يحلف الراوي وإنما يحلف من عرف من ظاهره العدالة دون الفسق ومن رد قول المجهول منهم كان لا ينكر عليه غيره فكانوا بين راد وساكت وبمثله ظهر إجماعهم في قبول العدل إذ كانوا بين قابل وساكت غير منكر ولا معترض

 

ج / 1 ص -297-       السادس: ما ظهر من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه العدالة والعفاف وصدق التقوى ممن كان ينفذه للأعمال وأداء الرسالة وإنما طلب الأشد التقوى لأنه كان قد كلفهم أن لا يقبلوا إلا قول العدل فهذه أدلة قوية في محل الاجتهاد قريبة من القطع والمسألة اجتهادية لا قطعية
شبه الخصوم الدالة عندهم على قبول رواية مجهول الحال
وهي أربع:
الأولى :أنه صلى الله عليه وسلم قبل شهادة الأعرابي وحده على رؤية الهلال ولم يعرف منه إلا الإسلام
قلنا: وكونه أعرابيا لا يمنع كونه معلوم العدالة عنده إما بالوحي وإما بالخبرة وإما بتزكية من عرف حاله فمن يسلم لكم أنه كان مجهولا عنده ؟
الثانية: أن الصحابة قبلوا قول العبيد والنسوان والأعراب لأنهم لم يعرفوهم بالفسق وعرفوهم بالإسلام
قلنا: إنما قبلوا قول أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواج أصحابه وكانت عدالتهن وعدالة مواليهم مشهورة عندهم وحيث جهلوا ردوا كرد قول الأشجعي وقول فاطمة بنت قيس
الثالثة :قولهم لو أسلم كافر وشهد في الحال أو روى فإن قلتم لا نقبل شهادته فهو بعيد وإن قبلتم فلا مستند للقبول إلا إسلامه وعدم معرفة الفسق منه فإذا انقضت مدة ولم نعرف منه فسقا لطول مدة إسلامه لم نوجب

 

ج / 1 ص -298-       رده
قلنا: لا نسلم قبول روايته فقد يسلم الكذوب ويبقى على طبعه فما لم نطلع على خوف في قلبه وازع عن الكذب لا نقبل شهادته والتقوى في القلب وأصله الخوف وإنما تدل عليه أفعاله في مصادره وموارده فإن سلمنا قبول روايته فذلك لطرق إسلامه وقرب عهده بالدين وشتان بين من هو في طراوته وبدايته وبين من قسا قلبه بطول الألف
فإن قيل إذا رجعت العدالة إلى هيئة باطنة في النفس وأصلها الخوف وذلك لا يشاهد بل يستدل عليه بما ليس بقاطع بل هو مغلب على الظن فأصل ذلك الخوف هو الإيمان فذلك يدل على الخوف دلالة ظاهرة فلنكتف به
قلنا: لا يدل عليه فإن المشاهدة والتجربة دلت على أن عدد فساق المؤمنين أكثر من عدد عدولهم فكيف نشكك نفوسنا فيما عرفناه يقينا
ثم هلا أكتفي بذلك في شهادة العقوبات وشهادة الأصل وحال المفتي في العدالة وسائر ما سلموه؟
الرابعة: قولهم: يقبل قول المسلم المجهول في كون اللحم لحم ذكي وكون الماء في الحمام طاهرا وكون الجارية المبيعة رقيقة غير مزوجة ولا معتدة حتى يحل الوطء بقوله وقول المجهول في كونه متطهرا للصلاة عن الحدث والجنابة إذا أم الناس وكذلك قول من يخبر عن نجاسة الماء وطهارته بناء على ظاهر الإسلام وكذلك قول من يخبر الأعمى عن القبلة

 

ج / 1 ص -299-       قلنا: أما قول العاقد فمقبول لا لكونه مجهولا لكنه مع ظهور الفسق وذلك رخصة لكثرة الفساق ولمسيس حاجتهم إلى المعاملات وكذلك جواز الاقتداء بالبر والفاجر فلا يشترط الستر أما الخبر عن القبلة وعن طهارة الماء فلم يحصل سكون النفس بقول المخبر فلا يجب قبوله والمجهول لا تسكن النفس إليه بل سكون النفس إلى قول فاسق جرب باجتناب الكذب أغلب منه إلى قول المجهول وما يخص العبد بينه وبين الله تعالى فلا يبعد أن يرد إلى سكون نفسه فأما الرواية والشهادة فأمرهما أرفع وخطرهما عام فلا يقاسان على غيرهما وهذه صور ظنية اجتهادية أما رد خبر الفاسق والمجهول فقريب من القطع
مسألة :هل تقبل شهادة الفاسق المتأول؟:
الفاسق المتأول وهو الذي لا يعرف فسق نفسه اختلفوا في شهادته
وقد قال الشافعي أقبل شهادة الحنفي وأحده إذا شرب النبيذ لأن هذا فسق غير مقطوع به إنما المقطوع به فسق الخوارج الذين استباحوا الديار وقتلوا الذراري وهم لا يدرون أنهم فسقة

 

ج / 1 ص -300-       وقد قال الشافعي تقبل شهادة أهل الأهواء لا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم في المذهب
واختار القاضي: أنه لا تقبل رواية المبتدع وشهادته لأنه فاسق بفعله وبجهله بتحريم فعله ففسقه مضاعف وزعم أن جهله بفسق نفسه كجهله بكفر نفسه ورق نفسه
ومثار هذا الخلاف أن الفسق يرد الشهادة لأنه نقصان منصب يسلب الأهلية كالكفر والرق أو هو مردود القول للتهمة فإن كان للتهمة فالمبتدع متورع عن الكذب فلا يتهم وكلام الشافعي مشير إلى هذا وهو في محل الاجتهاد
فذهب أبي حنيفة أن الكفر والفسق لا يسلبان الأهلية بل يوجبان التهمة ولذلك قبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ومذهب القاضي أن كليهما نقصان منصب يسلب الأهلية ومذهب الشافعي أن الكفر نقصان والفسق موجب للرد للتهمة وهذا هو الأغلب على الظن عندنا
فإن قيل: هذا مشكل على الشافعي من وجهين:
أحدهما: أنه قضى بأن النكاح لا ينعقد بشهادة الفاسق وذلك لسلب الأهلية
الثاني أنه إن كان للتهمة فإذا غلب على ظن القاضي صدقه فليقبل ؟
قلنا أما الأول :فأخذه قوله صلى الله عليه وسلم "لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدل"

 

 

ج / 1 ص -301-       وللشارع أن يشترط زيادة على أهلية الشهادة كما شرط في الولي وكما شرط في الزنا زيادة عدد
وأما الثاني: فسببه أن الظنون تختلف وهو أمر خفي ناطه الشرع بسبب ظاهر وهو عدد مخصوص ووصف مخصوص وهو العدالة فيجب اتباع السبب الظاهر دون المعنى الخفي كما في العقوبات وكما في رد شهادة الوالد لأحد ولديه على الآخر فإنه قد يتهم وترد شهادته لأن الأبوة مظنة للتهمة فلا ينظر إلى الحال وإنما مظنة التهمة ارتكاب الفسق مع المعرفة دون من لا يعرف ذلك
ويدل أيضا على مذهب الشافعي قبول الصحابة قول الخوارج في الأخبار والشهادة وكانوا فسقة متأولين وعلى قبول ذلك درج التابعون لأنهم متورعون عن الكذب جاهلون بالفسق
فإن قيل: فهل يمكن دعوى الإجماع في ذلك ؟
قلنا: لا فإنا نعلم أن عليا والأئمة قبلوا قول قتلة عثمان والخوارج لكن لا نعلم ذلك من جميع الصحابة فلعل فيهم من أضمر إنكارا لكن لم يرد على الإمام في محل الاجتهاد فكيف ولو قبل جميعهم خبرهم فلا يثبت أن جميعهم اعتقدوا فسقهم وكيف يفرض والخوارج من جملة أهل الإجماع وما اعتقدوا فسق أنفسهم بل فسق خصومهم وفسق عثمان وطلحة ووافقهم عليه عمار بن ياسر وعدي بن حاتم وابن الكواء والأشتر النخعي وجماعة من الأمراء وعلي في تقية من الإنكار عليهم خوف

 

ج / 1 ص -302-       الفتنة
فإن قيل: لو لم يعتقدوا فسق الخوارج لفسقوا.
قلنا: ليس كذلك فليس الجهل بما يفسق ويكفر فسقا وكفرا .
وعلى الجملة فقبولهم روايتهم يدل على أنهم اعتقدوا رد خبر الفاسق للتهمة ولم يتهموا المتأول والله أعلم
خاتمة جامعة للرواية والشهادة
اعلم أن التكليف والإسلام والعدالة والضبط يشترك فيه الرواية والشهادة فهذه أربعة.
أما الحرية والذكورة والبصر والقرابة والعدد والعداوة فهذه الستة تؤثر في الشهادة دون الرواية لأن الرواية حكمها عام لا يختص بشخص حتى تؤثر فيه الصداقة والقرابة والعداوة فيروي أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ويروي كل ولد عن والده .
والضرير الضابط للصوت تقبل روايته وإن لم تقبل شهادته إذ كانت الصحابة يروون عن عائشة اعتمادا على صوتها وهم كالضرير في حقها.
ولا يشترط كون الراوي عالما فقيها سواء خالف ما رواه القياس أو وافق إذ رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه فلا يشترط إلا الحفظ ولا يشترط مجالسة العلماء وسماع الأحاديث بل قبل الصحابة قول أعرابي لم يرو إلا حديثا واحدا نعم إذا عارضه حديث العالم

 

ج / 1 ص -303-       الممارس ففي الترجيح نظر سيأتي
ولا تقبل رواية من عرف باللعب والهزل في أمر الحديث أو التساهل في أمر الحديث أو بكثرة السهو فيه إذ تبطل الثقة بجميع ذلك أما الهزل والتساهل في حديث نفسه فقد لا يوجب الرد .
ولا يشترط كون الراوي معروف النسب بل إذا عرف عدالة شخص بالخبرة قبل حديثه وإن لم يكن له نسب فضلا عن أن يكون لا يعرف نسبه .
رواية المجهول العين
ولو روى عن مجهول العين لم نقبله بل من يقبل رواية المجهول صفته لا يقبل رواية المجهول عينه إذ لو عرف عينه ربما عرفه بالفسق بخلاف من عرف عينه ولم يعرفه بالفسق فلو روى عن شخص ذكر اسمه واسمه مردد بين مجرح وعدل فلا يقبل لأجل التردد
الباب الثالث في الجرح والتعديل
وفيه أربعة فصول
الأول:
في عدد المزكى
وقد اختلفوا فيه فشرط بعض المحدثين العدد في المزكى والجارح كما في مزكى الشاهد
وقال القاضي: لا يشترط العدد في تزكية الشاهد ولا في تزكية الراوي وإن كان الأحوط في الشهادة الاستظهار بعدد المزكى .

 

ج / 1 ص -304-       وقال قوم يشترط في الشهادة دون الرواية
وهذه مسألة فقهية والأظهر عندنا أنه يشترط في الشهادة دون الرواية وهذا لأن العدد الذي تثبت به الرواية لا يزيد على نفس الرواية
فإن قيل: صح من الصحابة قبول رواية الواحد ولم يصح قبول تزكية الواحد فيرجع فيه إلى قياس الشرع
قلنا: نحن نعلم مما فعلوه كثيرا مما لم يفعلوه إذ نعلم أنهم كما قبلوا حديث الصديق رضي الله عنه كانوا يقبلون تعديله لمن روى الحديث وكيف يزيد شرط الشيء على أصله والإحصان يثبت بقول اثنين وإن لم يثبت الزنا إلا بأربعة ولم يقس عليه وكذلك نقول تقبل تزكية العبد والمرأة في الرواية كما تقبل روايتهما
وهذه مسائل فقهية ثبتت بالمقاييس الشبيهة فلا معنى للإطناب فيها في الأصول
الفصل الثاني: في ذكر سبب الجرح والتعديل
قال الشافعي: يجب ذكر سبب الجرح دون التعديل إذ قد يجرح بما لا يراه جارحا لاختلاف المذاهب فيه وأما العدالة فليس لها إلا سبب واحد
وقال قوم :مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى البناء على الظاهر فلا بد من ذكر سببه .
وقال قوم: لا بد من السبب فيهما جميعا أخذا بمجامع كلام الفريقين.
وقال القاضي :لا يجب ذكر المسبب فيهما جميعا لأنه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن فلا يصلح للتزكية وإن كان بصيرا فأي معنى للسؤال؟
والصحيح عندنا أن هذا يختلف باختلاف حال المزكي فمن حصلت الثقة .

 

ج / 1 ص -305-       ببصيرته وضبطه يكتفى بإطلاقه. ومن عرفت عدالته في نفسه ولم تعرف بصيرته بشروط العدالة فقد نراجعه إذا فقدنا عالما بصيرا به وعند ذلك نستفصله.
تعارض الجرح والتعديل
أما إذا تعارض الجرح والتعديل قدمنا الجرح فإن الجارح أطلع على زيادة ما أطلع عليها المعدل ولا نفاها فإن نفاها بطلت عدالة المزكي إذ النفي لا يعلم إلا إذا جرحه بقتل إنسان فقال المعدل رأيته حيا بعده تعارضا
وعدد المعدل إذا زاد قيل إنه يقدم على الجارح وهو ضعيف لأن سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على مزيد ولا ينتفي ذلك بكثرة العدد
الفصل الثالث في نفس التزكية
وذلك إما بالقول أو بالرواية عنه أو بالعمل بخبره أو بالحكم بشهادته فهذه أربعة :
أعلاها: صريح القول وتمامه أن يقول هو عدل رضا لأني عرفت منه كيت وكيت فإن لم يذكر السبب وكان بصيرا بشروط العدالة كفى
الثانية: أن يروي عنه خبرا وقد اختلفوا في كونه تعديلا والصحيح أنه إن عرف من عادته أو بصريح قوله أنه لا يستجيز الرواية إلا من عدل كانت الرواية تعديلا وإلا فلا إذ من عادة أكثرهم الرواية من كل من سمعوه ولو كلفوا الثناء عليهم سكتوا فليس في روايته ما يصرح بالتعديل.
فإن قيل :لو عرفه بالفسق ثم روى عنه كان غاشا في الدين؟

 

ج / 1 ص -306-       قلنا: لم نوجب على غيره العمل لكن قال: سمعت فلانا قال كذا وصدق فيه ثم لعله لم يعرفه بالفسق ولا العدالة فروى ووكل البحث إلى من أراد القبول
الثالثة :العمل بالخبر إن أمكن حمله على الاحتياط أو على العمل بدليل آخر وافق الخبر فليس بتعديل وإن عرفنا يقينا أنه عمل بالخبر فهو تعديل إذ لو عمل بخبر غير العدل لفسق وبطلت عدالته.
فإن قيل: لعله ظن أن مجرد الإسلام مع عدم الفسق عدالة.
قلنا :هذا يتطرق إلى التعديل بالقول ونحن نقول العمل كالقول وهذا الاحتمال ينقطع بذكر سبب العدالة وما ذكرناه تفريع على الاكتفاء بالتعديل المطلق إذ لو شرط ذكر السبب لشرط في شهادة البيع والنكاح عد جميع شرائط الصحة وهو بعيد.
فإن قيل :لعله عرفه عدلا ويعرفه غيره بالفسق.
قلنا: من عرفه لا جرم لا يلزمه العمل به كما لو عدل جريحا
الرابعة: أن يحكم بشهادته فذلك أقوى من تزكيته بالقول.
أما ترك الحكم بشهادته وبخبره فليس جرحا إذ قد يتوقف في شهادة العدل وروايته لأسباب سوى الجرح كيف وترك العمل لا يزيد على الجرح المطلق وهو غير مقبول عند الأكثرين؟
وبالجملة إن لم ينقدح وجه لتزكية العمل من تقديم أو دليل آخر فهو كالجرح المطلق

 

ج / 1 ص -307-       الفصل الرابع في عدالة الصحابة رضي الله عنهم
والذي عليه سلف الأمة وجماهير الخلف أن عدالتهم معلومة بتعديل الله عز وجل إياهم وثنائه عليهم في كتابه فهو معتقدنا فيهم إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به وذلك مما لا يثبت فلا حاجة لهم إلى التعديل قال الله تعالى
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ]آل عمران: من الآية110[وقال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } ]البقرة: من الآية143[وهو خطاب مع الموجودين في ذلك العصر وقال تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ }]الفتح: من الآية18[وقال عز وجل {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }]التوبة: من الآية100[وقد ذكر الله تعالى المهاجرين والأنصار في عدة مواضع وأحسن الثناء عليهم.
وقال صلى الله عليه وسلم:
" خير الناس قرني ثم الذين يلونهم" وقال صلى الله عليه وسلم: "لو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" وقال صلى الله عليه وسلم"إن الله اختار لي أصحابا وأصهارا وأنصارا"
فأي تعديل أصح من تعديل علام الغيوب سبحانه وتعديل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كيف ولو لم يرد الثناء لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم في الهجرة والجهاد وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأهل في موالاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته، كفاية في القطع بعدالتهم.

 

ج / 1 ص -308-       وقد زعم قوم أن حالهم كحال غيرهم في لزوم البحث.
وقال قوم: حالهم العدالة في بداية الأمر إلى ظهور الحرب والخصومات ثم تغير الحال وسفكت الدماء فلا بد من البحث.
وقال جماهير المعتزلة: عائشة وطلحة والزبير وجميع أهل العراق والشام فساق بقتال الإمام الحق .
وقال قوم من سلف القدرية :يجب رد شهادة علي وطلحة والزبير مجتمعين ومفترقين لأن فيهم فاسقا لا نعرفه بعينه.
وقال قوم: نقبل شهادة كل واحد إذا انفرد لأنه لم يتعين فسقه أما إذا كان مع مخالفه فشهدا ردا إذ نعلم أن أحدهما فاسق
وشك بعضهم في فسق عثمان وقتلته
وكل هذا جراءة على السلف على خلاف السنة بل قال قوم ما جرى بينهم ابتنى على الاجتهاد وكل مجتهد مصيب أو المصيب واحد والمخطىء معذور لا ترد شهادته.
وقال قوم: ليس ذلك مجتهدا فيه ولكن قتلة عثمان والخوارج مخطئون قطعا لكنهم جهلوا خطأهم وكانوا متأولين والفاسق المتأول لا ترد روايته وهذا أقرب من المصير إلى سقوط تعديل القرآن مطلقا.

 

ج / 1 ص -309-       من هو الصحابي ؟ [
فإن قيل القرآن أثنى على الصحابة فمن الصحابة؟ من عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من لقيه مرة أو من صحبه ساعة أو من طالت صحبته ؟وما حد طولها؟
قلنا: الإسم لا يطلق إلا على من صحبه ثم يكفي للاسم من حيث الوضع الصحبة ولو ساعة ولكن العرف يخصص الاسم بمن كثرت صحبته.
ويعرف ذلك بالتواتر والنقل الصحيح وبقول الصحابي كثرت صحبتي ولا حد لتلك الكثرة بتقدير بل بتقريب.
الباب الرابع في مستند الراوي وكيفية ضبطه
ومستنده إما قراءة الشيخ عليه أو قراءته على الشيخ أو إجازته أو مناولته أو رؤيته بخطه في كتاب.
فهي خمس مراتب:
الأول: وهي الأعلى قراءة الشيخ في معرض الأخبار ليروى عنه .
وذلك يسلط الراوي على أن يقول حدثنا وأخبرنا وقال فلان وسمعته يقول
الثانية :أن يقرأ على الشيخ وهو ساكت فهو كقوله: هذا صحيح
فتجوز الرواية به، خلاف لبعض أهل الظاهر إذ لو لم يكن صحيحا لكان سكوته وتقريره عليه فسقا قادحا في عدالته ولو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكذب

 

ج / 1 ص -310-       إذا نطق بكونه صحيحا نعم لو كان ثم مخيلة قلة اكتراث أو غفلة فلا يكفي السكوت
وهذا يسلط الراوي على أن يقول: أخبرنا وحدثنا فلان قراءة عليه أما قوله حدثنا مطلقا أو سمعت فلانا اختلفوا فيه والصحيح أنه لا يجوز لأنه يشعر بالنطق لأن الخبر والحديث والمسموع كل ذلك نطق وذلك منه كذب إلا إذا علم بصريح قوله أو بقرينة حاله أنه يريد به القراءة على الشيخ دون سماع حديثه
الثالثة: الإجازة وهو أن يقول أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني أو ما صح عندك من مسموعاتي وعند ذلك يجب الاحتياط في تعيين المسموع أما إذا اقتصر على قوله هذا مسموعي من فلان فلا تجوز الرواية عنه لأنه لم يأذن في الرواية فلعله لا يجوز الرواية لخلل يعرفه فيه وإن سمعه وكذلك لو قال عندي شهادة لا يشهد ما لم يقل أذنت لك في أن تشهد على شهادتي أو لم تقم تلك الشهادة في مجلس الحكم لأن الرواية شهادة والإنسان قد يتساهل في الكلام لكن عند جزم الشهادة قد يتوقف .
ثم الإجازة تسلط الراوي على أن يقول حدثنا وأخبرنا إجازة أما قوله حدثنا مطلقا جوزه قوم وهو فاسد لأنه يشعر بسماع كلامه وهو كذب كما ذكرناه في القراءة على الشيخ.
الرابعة: المناولة وصورته أن يقول :خذ هذا الكتاب وحدث به عني فقد

 

ج / 1 ص -311-       سمعته من فلان
ومجرد المناولة دون هذا اللفظ لا معنى له وإذا وجد هذا اللفظ فلا معنى للمناولة فهو زيادة تكلف أحدثه بعض المحدثين بلا فائدة
كما يجوز رواية الحديث بالإجازة فيجب العمل به خلافا لبعض أهل الظاهر لأن المقصود معرفة صحة الخبر لا عين الطريق المعرف
وقوله: هذا الكتاب مسموعي فاروه عني في التعريف كقراءته والقراءة عليه
وقولهم: إنه قادر على أن يحدثه به فهو كذلك لكن أي حاجة إليه؟ ويلزم أن لا تصح القراءة عليه لأنه قادر على القراءة بنفسه ويجب أن لا يروى في حياة الشيخ لأنه قادر على الرجوع إلى الأصل كما في الشهادة فدل أن هذا لا يعتبر في الرواية
الخامسة: الاعتماد على الخط بأن يرى مكتوبا بخطه :إني سمعت على فلان كذا
فلا يجوز أن يروي عنه لأن روايته شهادة عليه بأنه قاله والخط لا يعرفه

 

ج / 1 ص -312-       هذا نعم يجوز أن يقول رأيت مكتوبا في كتاب بخط ظننت أنه خط فلان فإن الخط أيضا قد يشبه الخط
أما إذا قال: هذا خطي قبل قوله ولكن لا يروي عنه ما لم يسلطه على الرواية بصريح قوله أو أما بقرينة حاله في الجلوس لرواية الحديث
أما إذا قال عدل: هذه نسخة صحيحة من صحيح البخاري مثلا فرأى فيه حديثا فليس له أن يروي عنه
لكن هل يلزمه العمل ؟
إن كان مقلدا فعليه أن يسأل المجتهد وإن كان مجتهدا فقال قوم لا يجوز له العلم به ما لم يسمعه وقال قوم إذا علم صحة النسخة بقول عدل جاز العمل لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحملون صحف الصدقات إلى البلاد وكان الخلق يعتمدون تلك الصحف بشهادة حامل الصحف بصحته دون أن يسمعه كل واحد منه فإن ذلك يفيد سكون النفس وغلبة الظن
وعلى الجملة فلا ينبغي أن يروي إلا ما يعلم سماعه أولا وحفظه وضبطه إلى وقت الأداء بحيث يعلم أن ما أداه هو الذي سمعه ولم يتغير منه حرف فإن شك في شيء منه فليترك الرواية
ويتفرع عن هذا الأصل مسائل :
مسألة: الشك في الرواية:
إذا كان في مسموعاته عن الزهري مثلا حديث واحد شك أنه سمعه من

 

ج / 1 ص -313-       الزهري أم لا ؟لم يجز له أن يقول سمعت الزهري ولا أن يقول قال الزهري لأن قوله قال الزهري شهادة على الزهري فلا يجوز إلا عن علم فلعله سمعه من غيره فهو كمن سمع إقرارا ولم يعلم أن المقر زيد و عمرو فلا يجوز أن يشهد على زيد
بل نقول: لو سمع مائة حديث من شيخ وفيها حديث واحد علم أنه لم يسمعه ولكنه التبس عليه عينه فليس له روايته بل ليس له رواية شيء من الأحاديث عنه إذ ما من حديث إلا ويمكن أن يكون هو الذي لم يسمعه
الرواية بغلبة الظن :
ولو غلب على ظنه في حديث أنه مسموع من الزهري لم تجز الرواية بغلبة الظن
وقال قوم: يجوز لأن الاعتماد في هذا الباب على غلبة الظن.
وهو بعيد، لأن الاعتماد في الشهادة على غلبة الظن ولكن في حق الحاكم فإنه لا يعلم صدق الشاهد أما الشاهد فينبغي أن يتحقق لأن تكليفه أن لا يشهد إلا على المعلوم فيما تمكن فيه المشاهدة ممكن وتكليف الحاكم أن لا يحكم إلا بصدق الشاهد محال وكذلك الراوي لا سبيل له إلى معرفة صدق الشيخ ولكن له طريق إلى معرفة قوله بالسماع فإذا لم يتحقق فينبغي أن لا يروي.
فإن قيل: فالواحد في عصرنا يجوز أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتحقق ذلك.
قلنا: لا طريق له إلى تحقق ذلك ولا يفهم من قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  أنه سمعه لكن يفهم منه أنه سمع هذا الحديث من غيره أو رواه في كتاب يعتمد عليه وكل من سمع ذلك لا يلزمه العمل به لأنه مرسل لا يدري من أين

 

ج / 1 ص -314-       يقوله وإنما يلزم العمل إذا ذكر مستنده حتى ينظر في حاله وعدالته والله أعلم
مسألة :تكذيب الشيخ الراوي :
إذا أنكر الشيخ الحديث إنكار جاحد قاطع بكذب الراوي ولم يعمل به لم يصر الراوي مجروحا لأن الجرح ربما لا يثبت بقول واحد ولأنه مكذب شيخه كما أن شيخه مكذب له وهما عدلان فهما كبينتين متكاذبتين فلا يوجب الجرح.
أما إذا أنكر إنكار متوقف وقال لست أذكره فيعمل بالخبر لأن الراوي جازم أنه سمعه منه وهو ليس بقاطع بتكذيبه وهما عدلان فصدقهما إذا ممكن.
وذهب الكرخي إلى أن نسيان الشيخ الحديث يبطل الحديث وبنى عليه اطراح خبر الزهري أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها واستدل بأنه الأصل ولأنه ليس للشيخ أن يعمل بالحديث والراوي فرعه، فكيف يعمل به؟
قلنا: للشيخ أن يعمل به إذا روى العدل له عنه فإن بقي شك له مع رواية العدل فليس له العمل به وعلى الراوي العمل إذا قطع بأنه سمع وعلى غيرهما العمل جمعا بين تصديقهما والحاكم يجب عليه العمل بقول الشاهد المزور الظاهر العدالة ويحرم على الشاهد ويجب على العامي العمل بفتوى المجتهد وإن تغير اجتهاده إذا لم يعلم تغير اجتهاده والمجتهد لا يعمل

 

ج / 1 ص -315-       به بعد التغير لأنه علمه فعمل كل واحد على حسب حاله .
وقد ذهب إلى العمل به مالك والشافعي وجماهير المتكلمين وهذا لأن النسيان غالب على الإنسان وأي محدث يحفظ في حينه جميع ما رواه في عمره؟ فصار كشك الشيخ في زيادة في الحديث أو في إعراب في الحديث فإن ذلك لما لم يبطل الحديث لكثرة وقوع الشك فيه فكذلك أصل الحديث
مسألة : هل تقبل زيادة الثقة بالحديث :
انفراد الثقة بزيادة في الحديث عن جماعة النقلة مقبول عند الجماهير سواء كانت الزيادة من حيث اللفظ أو من حيث المعنى لأنه لو انفرد بنقل حديث عن جميع الحفاظ لقبل فكذلك إذا انفرد بزيادة لأن العدل لا يتهم بما أمكن
فإن قيل: يبعد انفراده بالحفظ مع إصغاء الجميع
قلنا :تصديق الجميع أولى إذا كان ممكنا وهو قاطع بالسماع والآخرون ما قطعوا بالنفي فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذكره في مجلسين فحيث ذكر الزيادة لم يحضر إلا الواحد أو كرر في مجلس واحد وذكر الزيادة في إحدى الكرتين ولم يحضر إلا الواحد ويحتمل أن يكون راوي النقص دخل في أثناء المجلس فلم يسمع التمام أو اشتركوا في الحضور ونسوا الزيادة إلا واحدا أو طرأ في أثناء الحديث سبب شاغل مدهش فغفل به البعض عن الإصغاء فيختص بحفظ الزيادة المقبل على الإصغاء أو عرض لبعض السامعين خاطر شاغل عن الزيادة أو عرض له مزعج يوجب قيامه قبل التمام فإذا احتمل ذلك فلا يكذب العدل ما أمكن

 

ج / 1 ص -316-       مسألة: هل تقبل رواية بعض الخبر
رواية بعض الخبر ممتنعة عند أكثر من منع نقل الحديث بالمعنى ومن جوز النقل على المعنى جوز ذلك إن كان قد رواه مرة بتمامه ولم يتعلق المذكور بالمتروك تعلقا يغير معناه وأما إذا تعلق كشرط العبادة أو ركنها أو ما به التمام فنقل البعض تحريف وتلبيس
أما إذا روى الحديث مرة تاما ومرة ناقصا نقصانا لا يغير فهو جائز ولكن بشرط أن لا يتطرق إليه سوء الظن بالتهمة فإذا علم أنه يتهم باضطراب النقل وجب عليه الاحتراز عن ذلك
مسألة : هل يصح رواية الحديث بالمعنى
نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ حرام على الجاهل بمواقع الخطاب ودقائق الألفاظ
أما العالم بالفرق بين المحتمل وغير المحتمل والظاهر والأظهر والعام والأعم فقد جوز له الشافعي ومالك وأبو حنيفة وجماهير الفقهاء أن ينقله على المعنى إذا فهمه
وقال فريق: لا يجوز له إلا إبدال بما يرادفه ويساويه في المعنى كما يبدل القعود بالجلوس والعلم بالمعرفة والاستطاعة بالقدرة والإبصار بالإحساس بالبصر والحظر بالتحريم وسائر ما لا يشك فيه وعلى الجملة ما لا يتطرق إليه تفاوت بالاستنباط والفهم وإنما ذلك فيما فهمه قطعا لا فيما فهمه بنوع استدلال يختلف فيه الناظرون.
ويدل على جواز ذلك للعالم الإجماع على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم فإذا جاز إبدال العربية بعجمية ترادفها فلأن يجوز عربية بعربية ترادفها وتساويها أولى وكذلك كان سفراء رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد:

 

ج / 1 ص -317-       يبلغونهم أوامره بلغتهم وكذلك من سمع شهادة الرسول فله أن يشهد على شهادته بلغة أخرى وهذا لأنا نعلم أنه لا تعبد في اللفظ وإنما المقصود فهم المعنى وإيصاله إلى الخلق وليس ذلك كالتشهد والتكبير وما تعبد فيه باللفظ
فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وسلم :"نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"
قلنا :هذا هو الحجة لأنه ذكر العلة وهو اختلاف الناس في الفقه فما لا يختلف الناس فيه من الألفاظ المترادفة فلا يمنع منه
وهذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وإن أمكن أن تكون جميع الألفاظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة لكن الأغلب أنه حديث واحد ونقل بألفاظ مختلفة فإنه روى رحم الله امرءا ونضر الله امرءا وروي ورب حامل فقه لا فقه له وروى حامل فقه غير فقيه
وكذلك الخطب المتحدة والوقائع المتحدة رواها الصحابة رضي الله عنهم

 

ج / 1 ص -318-       بألفاظ مختلفة فدل ذلك على الجواز
مسألة: هل يقبل الحديث المرسل أم لا ؟:
المرسل مقبول عند مالك وأبي حنيفة والجماهير ومردود عند الشافعي والقاضي وهو المختار
وصورته أن يقول :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يعاصره أو قال من لم يعاصر أبا هريرة قال أبو هريرة.
والدليل أنه لو ذكر شيخه ولم يعدله وبقي مجهولا عندنا لم نقبله فإذا لم يسمه فالجهل أتم فمن لا يعرف عينه كيف تعرف عدالته ؟
فإن قيل: رواية العدل عنه تعديل
فالجواب من وجهين:
الأول: أنا لا نسلم فإن العدل قد يروي عمن لو سئل عنه لتوقف فيه أو جرحه وقد رأيناهم رووا عمن إذا سئلوا عنه عدلوه مرة وجرحوه أخرى أو قالوا لا ندري فالراوي عنه ساكت عن تعديله ولو كان السكوت عن الجرح تعديلا لكان السكوت عن التعديل جرحا ولوجب أن يكون الراوي إذا جرح من روى عنه مكذبا نفسه ولأن شهادة الفرع ليس تعديلا للأصل ما لم يصرح وافتراق الرواية والشهادة في بعض التعبدات لا يوجب فرقا في هذا المعنى كما

 

ج / 1 ص -319-       لم يوجب فرقا في منع قبول رواية المجروح والمجهول وإذا لم يجز أن يقال لا يشهد العدل إلا على شهادة عدل لم يجز ذلك في الرواية ووجب فيها معرفة عين الشيخ والأصل حتى ينظر في حالهما
فإن قيل: العنعنة كافية في الرواية مع أن قوله روى فلان عن فلان عن فلان يحتمل ما لم يسمعه فلان عن فلان بل بلغه بواسطة ومع الاحتمال يقبل ومثل ذلك في الشهادة لا يقبل
قلنا: هذا إذا لم يوجب فرقا في رواية المجهول والمرسل مروي عن مجهول فينبغي أن لا يقبل ثم العنعنة جرت العادة بها في الكتبة فإنهم استثقلوا أن يكتبوا عند كل اسم روي عن فلان سماعا منه وشحوا على القرطاس والوقت أن يضيعوه فأوجزوا وإنما يقبل في الرواية ذلك إذا علم بصريح لفظه أو عامته أنه يريد به السماع فإن لم يرد السماع فهو متردد بين المسند والمرسل فلا يقبل
الجواب الثاني: أنا إن سلمنا جدلا أن الرواية تعديل فتعديله المطلق لا يقبل ما لم يذكر السبب فلو صرح بأنه سمعه من عدل ثقة لم يلزم قبوله وإن سلم قبول التعديل المطلق فذلك في حق شخص نعرف عينه ولا يعرف بفسق أما من لم نعرف عينه فلعله لو ذكره لعرفناه بفسق لم يطلع عليه المعدل وإنما يكتفي في كل مكلف بتعريف غيره عند العجز عن معرفة نفسه ولا يعلم عجزه ما لم يعرفه بعينه وبمثل هذه العلة لم يقبل تعديل شاهد الفرع مطلقا ما لم يعرف الأصل ولم يعينه فلعل الحاكم يعرفه بفسق وعداوة وغيره
احتجوا باتفاق الصحابة والتابعين على قبول مرسل العدل فابن عباس مع كثرة روايته قيل أنه لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعة أحاديث لصغر سنه وصرح بذلك في حديث الربا في النسيئة وقال حدثني به أسامة بن

 

ج / 1 ص -320-       زيد
وروى أن رسول الله لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة فلما روجع قال حدثني به أخي الفضل بن عباس
وروى ابن عمر عن النبي أنه قال:
"من صلى على جنازة فله قيراط" ثم أسنده إلى أبي هريرة
وروى أبو هريرة أن من أصبح جنبا في رمضان فلا صوم له وقال ما أنا قلتها ورب الكعبة ولكن محمدا قالها
فلما روجع قال حدثني به الفضل بن عباس وقال البراء بن عازب ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله لكن سمعنا بعضه وحدثنا أصحابه ببعضه
أما التابعون فقد قال النخعي: إذا قلت: حدثني فلان عن عبد الله فهو حدثني وإذا قلت: قال عبد الله فقد سمعته من غير واحد
وكذلك نقل عن جماعة من التابعين قبول المرسل
والجواب من وجهين:
الأول
: أن هذا صحيح ويدل على قبول بعضهم المراسيل ،والمسألة في

 

ج / 1 ص -321-       محل الاجتهاد ولا يثبت فيها إجماع أصلا وفيه ما يدل على أن الجملة لم يقبلوا المراسيل ولذلك باحثوا ابن عباس وابن عمر وأبا هريرة مع جلالة قدرهم لا لشك في عدالتهم ولكن للكشف عن الراوي .
فإن قيل: قبل بعضهم وسكت الآخرون فكان إجماعا.
 قلنا: لا نسلم ثبوت الإجماع بسكوتهم لا سيما في محل الاجتهاد بل لعله سكت مضمرا للإنكار أو مترددا فيه
والجواب الثاني: أن من المنكرين للمرسل من قبل مرسل الصحابي لأنهم يحدثون عن الصحابة وكلهم عدول ومنهم من أضاف إليه مراسيل التابعين لأنهم يروون عن الصحابة ومنهم من خصص كبار التابعين بقبول مرسله
 والمختار على قياس رد المرسل أن التابعي والصحابي إذا عرف بصريح خبره أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي قبل مرسله وإن لم يعرف ذلك فلا يقبل لأنهم قد يروون عن غير الصحابي من الأعراب الذين لا صحبة لهم وإنما ثبتت لنا عدالة أهل الصحبة قال الزهري بعد الإرسال حدثني به رجل على باب عبد الملك وقال عروة بن الزبير فيما أرسله عن بسرة حدثني به بعض الحرس .
مسألة: هل يقبل خبر الواحد  :
خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول خلافا للكرخي وبعض أصحاب الرأي لأن كل ما نقله العدل وصدقه فيه ممكن وجب تصديقه فمس الذكر مثلا نقله العدل وصدقه فيه ممكن فإنا لا نقطع بكذب ناقله بخلاف ما لو انفرد واحد بنقل ما تحيل العادة فيه أن لا يستفيض كقتل أمير في السوق وعزل وزير وهجوم واقعة في الجامع منعت الناس من الجمعة أو كخسف أو زلزلة أو انقضاض كوكب عظيم وغيره من العجائب فإن الدواعي تتوفر على إشاعة جميع ذلك ويستحيل انكتامه وكذلك القرآن لا يقبل فيه خبر الواحد لعلمنا بأنه صلى الله عليه وسلم تعبد بإشاعته واعتنى بإلقائه إلى كافة الخلق فإن الدواعي تتوفر على إشاعته ونقله لأنه أصل الدين والمنفرد برواية سورة أو آية كاذب قطعا فأما ما تعم به البلوى فلا نقطع بكذب خبر الواحد فيه

 

ج / 1 ص -322-       فإن قيل: بم تنكرون على من يقطع بكذبه ؟لأن خروج الخارج من السبيلين لما كان الإنسان لا ينفك عنه في اليوم والليلة مرارا وكانت الطهارة تنتقض به فلا يحل لرسول الله أن لا يشيع حكمه ويناجي به الآحاد إذ يؤدي إلى إخفاء الشرع وإلى أن تبطل صلاة العباد وهم لا يشعرون فتجب الإشاعة في مثله ثم تتوفر الدواعي على نقله وكذلك مس الذكر مما يكثر وقوعه فكيف يخفى حكمه ؟
قلنا: هذا يبطل أولا بالوتر وحكم الفصد والحجامة والقهقهة ووجوب الغسل من غسل الميت وإفراد الإقامة وتثنيتها وكل ذلك مما تعم به البلوى وقد أثبتوها بخبر الواحد
فإن زعموا أن ليس عموم البلوى فيها كعمومها في الأحداث فنقول فليس عموم البلوى في اللمس والمس كعمومها في خروج الأحداث فقد يمضي على الإنسان مدة لا يلمس ولا يمس الذكر إلا في حالة الحدث كما لا يفتصد ولا يحتجم إلا أحيانا فلا فرق
والجواب الثاني: وهو التحقيق :أن الفصد والحجامة وإن كان لا يتكرر كل يوم ولكنه يكثر فكيف أخفي حكمه حتى يؤدي إلى بطلان صلاة خلق كثير؟ وإن لم يكن هو الأكثر فكيف وكل ذلك إلى الآحاد ولا سبب له إلا أن الله تعالى لم يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إشاعة جميع الأحكام بل كلفه إشاعة البعض،

 

ج / 1 ص -323-       وجوز له رد الخلق إلى خبر الواحد في البعض كما جوز له ردهم إلى القياس في قاعدة الربا وكان يسهل عليه أن يقول لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم أو المكيل بالمكيل حتى يستغنى عن الاستنباط من الأشياء الستة فيجوز أن يكون ما تعم به البلوى من جملة ما تقتضي مصلحة الخلق أن يردوا فيه إلى خبر الواحد ولا استحالة فيه وعند ذلك يكون صدق الراوي ممكنا فيجب تصديقه
وليس علة الإشاعة عموم الحاجة أو ندورها بل علته التعبد والتكليف من الله وإلا فما يحتاج إليه كثير كالفصد والحجامة كما يحتاج إليه الأكثر في كونه شرعا لا ينبغي أن يخفى
فإن قيل: فما الضابط لما تعبد الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بالإشاعة ؟
قلنا: إن طلبتم ضابطا لجوازه عقلا فلا ضابط بل لله تعالى أن يفعل في تكليف رسوله من ذلك ما يشاء وإن أردتم وقوعه فإنما يعلم ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا استقرينا السمعيات وجدناها أربعة أقسام:
الأول: القرآن وقد علمنا أنه عني بالمبالغة في إشاعته.
الثاني: مباني الإسلام الخمس ،ككلمتي الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج وقد أشاعه إشاعة اشترك في معرفته العام الخاص
الثالث: أصول المعاملات التي ليست ضرورية مثل أصل البيع والنكاح فإن ذلك أيضا قد تواتر بل كالطلاق والعتاق والاستيلاد والتدبير والكتابة فإن هذا تواتر عند أهل العلم وقامت به الحجة القاطعة إما بالتواتر وإما بنقل الآحاد في مشهد الجماعات مع سكوتهم والحجة تقوم به لكن العوام لم يشاركوا العلماء في العلم بل فرض العوام فيه القبول من العلماء
 الرابع: تفاصيل هذه الأصول فما يفسد الصلاة والعبادات وينقض الطهارة من اللمس والمس والقيء وتكرار مسح الرأس فهذا الجنس منه ما شاع ومنه ما نقله الآحاد
ويجوز أن يكون مما تعم به البلوى فما نقله الآحاد فلا استحالة فيه ولا

 

ج / 1 ص -324-       مانع فإن ما أشاعه كان يجوز أن لا يتعبد فيه بالإشاعة وما وكله إلى الآحاد كان يجوز أن يتعبد فيه بالإشاعة لكن وقوع هذه الأمور يدل على أن التعبد وقع كذلك فما كان يخالف أمر الله سبحانه وتعالى في شيء من ذلك هذا تمام الكلام في الأخبار والله أعلم