المستصفى من علم الأصول، ط الرسالة ج / 2 ص -7-
القطب الثالث في كيفية استثمار الأحكام من مثمرات الأصول
ويشتمل هذا
القطب على:
صدر
ومقدمة
وثلاثة فنون
صدر القطب الثالث:
اعلم أن هذا القطب هو عمدة علم
الأصول لأن ميدان سعي المجتهدين في اقتباس الأحكام من
أصولها واجتنائها من أغصانها إذ نفس الأحكام ليست ترتبط
باختيار المجتهدين ورفعها ووضعها والأصول الأربعة من
الكتاب والسنة والإجماع والعقل لا مدخل لاختيار العباد في
تأسيسها وتأصيلها وإنما مجال اضطراب المجتهد واكتسابه
استعمال الفكر في استنباط الأحكام واقتباسها من مداركها
والمدارك هي الأدلة السمعية ومرجعها إلى الرسول صلى الله
عليه وسلم إذ منه يسمع الكتاب أيضا وبه يعرف الإجماع
والصادر منه من مدارك الأحكام ثلاثة
إما لفظ وإما فعل وإما سكوت وتقرير
ونرى أن نؤخر الكلام في الفعل
والسكوت، لأن الكلام فيهما أوجز
واللفظ إما أن يدل على الحكم بصيغته
ومنظومه أو بفحواه ومفهومه أو بمعناه ومعقوله وهو الاقتباس
الذي يسمى قياسا
فهذه ثلاثة فنون: المنظوم والمفهوم
والمعقول
ج / 2 ص -8-
الفن الأول في المنظوم وكيفية الاستدلال بالصيغة من حيث اللغة والوضع
ويشتمل هذا الفن على مقدمة وأربعة أقسام:
القسم الأول: في المجمل والمبين
القسم الثاني: في الظاهر والمؤول
القسم الثالث: في الأمر والنهي
القسم الرابع: في العام والخاص
فهذا صدر هذا القطب
أما المقدمة
فتشتمل على سبعة فصول
الفصل الأول: في مبدأ اللغات
أنه اصطلاح أم توقيف ؟
الفصل الثاني: في أن اللغة هل
تثبت قياسا
الفصل الثالث: في الأسماء
العرفية
ج / 2 ص -9-
الفصل الرابع: في الأسماء الشرعية
الفصل الخامس: في اللفظ المفيد
وغير المفيد
الفصل السادس: في طريق فهم
المراد من الخطاب على الجملة
الفصل السابع: في المجاز
والحقيقة
الفصل الأول في مبدأ اللغات
وقد ذهب قوم إلى أنها اصطلاحية إذ كيف تكون
توقيفا ولا يفهم التوقيف إذا لم يكن لفظ صاحب التوقيف معروفا للمخاطب
باصطلاح سابق
وقال قوم :إنها توقيفية إذ الاصطلاح لا يتم إلا
بخطاب ومناداة ودعوة إلى الوضع ولا يكون ذلك إلا بلفظ معروف قبل
الاجتماع للاصطلاح
وقال قوم :القدر الذي يحصل به التنبيه والبعث على
الاصطلاح يكون بالتوقيف وما بعده يكون بالاصطلاح
والمختار :أن النظر في هذا إما أن يقع في الجواز
أو في الوقوع .
أما الجواز العقلي :فشامل للمذاهب الثلاثة والكل
في حيز الإمكان .
أما التوقيف :فبأن يخلق الأصوات والحروف بحيث
يسمعها واحد أو جمع ويخلق لهم العلم بأنها قصدت للدلالة على المسميات
والقدرة الأزلية لا تقصر عن ذلك
ج / 2 ص -10-
وأما الاصطلاح :فبأن يجمع الله دواعي جمع من
العقلاء للاشتغال بما هو مهمهم وحاجتهم من تعريف الأمور الغائبة التي
لا يمكن الإنسان أن يصل إليها فيبتدىء واحد ويتبعه الآخر حتى يتم
الاصطلاح بل العاقل الواحد ربما ينقدح له وجه الحاجة وإمكان التعريف
بتأليف الحروف فيتولى الوضع ثم يعرف الآخرين بالإشارة والتكرير معها
للفظ مرة بعد أخرى كما يفعل الوالدان بالولد الصغير وكما يعرف الأخرس
ما في ضميره بالإشارة
وإذا أمكن كل واحد من القسمين أمكن التركيب منهما
جميعا .
أما الواقع من هذه الأقسام فلا مطمع في معرفته
يقينا إلا ببرهان عقلي أو بتواتر خبر أو سمع قاطع ولا مجال لبرهان
العقل في هذا ولم ينقل تواتر ولا فيه سمع قاطع فلا يبقى إلا رجم الظن
في أمر لا يرتبط به تعبد عملي ولا ترهق إلى اعتقاده حاجة فالخوض فيه
إذا فصول لا أصل له
فإن قيل: قال الله تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا }[البقرة: من الآية31] وهذا يدل على أنه كان بوحي وتوقيف فيدل على
الوقوع وإن لم يدل على استحالة خلافه
ج / 2 ص -11-
قلنا: وليس ذلك دليلا قاطعا على الوقوع أيضا إذ
يتطرق إليه أربعة احتمالات :
أحدها :أنه ربما ألهمه الله
تعالى الحاجة إلى الوضع فوضع بتدبيره وفكره ونسب ذلك إلى تعليم الله
تعالى لأنه الهادي والملهم ومحرك الداعية كما تنسب جميع أفعالنا إلى
الله تعالى .
الثاني:أن الأسماء ربما كانت
موضوعة باصطلاح من خلق الله تعالى قبل آدم من الجن أو فريق من الملائكة
فعلمه الله تعالى ما تواضع عليه غيره
الثالث:أن الأسماء صيغة عموم
فلعله أراد به أسماء السماء والأرض وما في الجنة والنار دون الأسامي
التي حدثت مسمياتها بعد آدم عليه السلام من الحرف والصناعات والآلات
وتخصيص قوله تعالى
{كُلَّهَا}
كتخصيص قوله تعالى
{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ }[النمل: من الآية23] وقوله تعالى{ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى
إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ }[الاحقاف:
من الآية25]
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[المائدة: من الآية120] إذ يخرج عنه ذاته وصفاته
الرابع: أنه ربما علمه ثم نسيه
أو لم يعلم غيره ثم اصطلح بعده أولاده على هذه اللغات المعهودة الآن
والغالب أن أكثرها حادثة بعده
الفصل الثاني في أن الأسماء اللغوية هل تثبت قاسا
وقد اختلفوا فيه فقال بعضهم سموا الخمر من
العنب خمرا لأنها تخمر العقل فيسمى النبيذ خمرا لتحقق ذلك المعنى فيه
قياسا عليه حتى يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "حرمت الخمر
لعينها" وسمي الزاني زانيا لأنه مولج فرجه
ج / 2 ص -12-
في فرج محرم فيقاس عليه اللائط في إثبات اسم
الزاني حتى يدخل في عموم قوله تعالى{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}[النور:
من الآية2] وسمي السارق سارقا لأنه أخذ مال الغير في خفية وهذه العلة
موجودة في النباش فيثبت له اسم السارق قياسا حتى يدخل تحت عموم قوله
تعالى{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } [المائدة: من الآية38]
وهذا غير مرضي عندنا لأن العرب إن عرفتنا
بتوقيفها أنا وضعنا الاسم للمسكر المعتصر من العنب خاصة فوضعه لغيره
تقول عليهم واختراع فلا يكون لغتهم بل يكون وضعا من جهتنا وإن عرفتنا
أنها وضعته لكل ما يخامر العقل أو يخمره فكيفما كان قاسم الخمر ثابت
للنبيذ بتوقيفهم لا بقياسنا كما أنهم عرفونا أن كل مصدر فله فاعل فإذا
سمينا فاعل الضرب ضاربا كان ذلك عن توقيف لا عن قياس وإن سكتوا عن
الأمرين احتمل أن يكون الخمر اسم ما يعتصر من العنب خاصة واحتمل غيره
فلم نتهكم عليهم ونقول لغتهم هذا وقد رأيناهم يضعون الاسم لمعاني
ويخصصونها بالمحل كما يسمون الفرس أدهم لسواده كميتا لحمرته والثوب
المتلون بذلك اللون بل الآدمي المتلون بالسواد لا يسمونه بذلك الاسم
لأنهم ما وضعوا الأدهم والكميت للأسود والأحمر بل لفرس أسود وأحمر وكما
سموا الزجاج الذي تقر فيه المائعات قارورة أخذا من القرار ولا يسمون
الكوز والحوض قارورة وإن قر الماء فيه
فإذا كل ما ليس على قياس التصريف الذي عرف منهم
بالتوقيف فلا سبيل
ج / 2 ص -13-
إلى إثباته ووضعه بالقياس
وقد أطنبنا في شرح هذه المسألة في كتاب أساس
القياس
فثبت بهذا أن اللغة وضع كلها وتوقيف ليس فيها
قياس أصلا
الفصل الثالث في الأسماء العرفية
اعلم أن الأسماء اللغوية تنقسم إلى وضعية
وعرفية
ج / 2 ص -14-
والاسم يسمى عرفيا باعتبارين :
أحدهما :أن يوضع الاسم لمعنى عام ثم يخصص عرف
الاستعمال من أهل اللغة ذلك الاسم ببعض مسمياته كاختصاص اسم الدابة
بذوات الأربع مع أن الوضع لكل ما يدب واختصاص اسم المتكلم بالعالم بعلم
الكلام مع أن كل قائل ومتلفظ متكلم وكاختصاص اسم الفقيه والمتعلم ببعض
العلماء وبعض المتعلمين مع أن الوضع عام قال الله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا }[البقرة: من الآية31] وقال تعالى{خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}
[الرحمن:3]وقال عز وجل :
{ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: من الآية78]
الاعتبار الثاني :أن يصير الاسم شائعا في غير ما
وضع له أولا بل فيما هو مجاز فيه كالغائط المطمئن من الأرض والعذرة
البناء الذي يستتر به وتقضى الحاجة من ورائه فصار أصل الوضع منسيا
والمجاز معروفا سابقا إلى الفهم بعرف الاستعمال وذلك بالوضع الأول
فالأسامي اللغوية :إما وضعية وإما عرفية .
أما ما انفرد المحترفون وأرباب الصناعات بوضعه
لأدواتهم فلا يجوز أن يسمى عرفيا لأن مبادىء اللغات والوضع الأصلي كلها
كانت
ج / 2 ص -15-
كذلك فيلزم أن يكون جميع الأسامي اللغوية
عرفية
الفصل الرابع في الأسماء الشرعية
قالت المعتزلة والخوارج وطائفة من الفقهاء
الأسماء لغوية ودينية وشرعية أما اللغوية فظاهرة وأما الدينية فما
نقلته الشريعة إلى أصل الدين كلفظ الإيمان والكفر والفسق وأما الشرعية
فكالصلاة والصوم والحج والزكاة
واستدل القاضي على إفساد مذهبهم بمسلكين :
الأول: أن هذه الألفاظ يشتمل
عليها القرآن والقرآن نزل بلغة العرب قال الله تعالى
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } [يوسف:
من الآية2]
{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } [ابراهيم: من الآية4] إبراه ولو قال أطعموا العلماء وأراد الفقراء لم
يكن هذا بلسانهم وإن كان اللفظ المنقول عربيا فكذلك إذا نقل اللفظ عن
موضوعه إلى غير موضوعه أو جعل عبارة عن بعض موضوعه أو متناولا لموضوعه
وغير موضوعه فكل ذلك ليس من لسان العرب
الثاني: أن الشارع لو فعل ذلك
للزمه تعريف الأمة بالتوقيف نقل
ج / 2 ص -16-
تلك الأسامي فإنه إذا خاطبهم بلغتهم لم
يفهموا إلا موضوعها ولو ورد فيه توقيف لكان متواترا فإن الحجة لا تقوم
بالآحاد احتجوا بقوله تعالى
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ }[البقرة:
من الآية143] وأراد به الصلاة نحو بيت المقدس وقال صلى الله عليه وسلم
"نهيت عن قتل المصلين" وأراد به المؤمنين وهو خلاف اللغة
قلنا :أراد بالإيمان التصديق بالصلاة والقبلة
وأراد بالمصلين المصدقين بالصلاة وسمي التصديق بالصلاة صلاة على سبيل
التجوز وعادة العرب تسمية الشيء بما يتعلق به نوعا من التعلق والتجوز
من نفس اللغة
احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع
وسبعون بابا أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن
الطريق "وتسمية الإماطة إيمانا خلاف الوضع
قلنا: هذا من أخبار الآحاد فلا يثبت به مثل هذه
القاعدة وإن ثبتت فهي دلالة الإيمان فيتجوز بتسميته أيمانا
واحتجوا بأن الشرع وضع عبادات لم تكن معهودة
فافتقرت إلى أسام وكان استعارتها من اللغة أقرب من نقلها من لغة أخرى
أو إبداع أسام لها
ج / 2 ص -17-
قلنا: لا نسلم أنه حدث في الشريعة عبادة لم يكن
لها اسم في اللغة
فإن قيل :فالصلاة في اللغة ليست عبارة عن الركوع
والسجود ولا الحج عبارة عن الطواف والسعي
قلنا: عنه جوابان :
الأول :أنه ليست الصلاة في الشرع
أيضا عبارة عنه بل الصلاة عبارة عن الدعاء كما في اللغة والحج عبارة عن
القصد والصوم عبارة عن الإمساك والزكاة عبارة عن النمو لكن الشرع شرط
في أجزاء هذه الأمور أمورا أخر تنضم إليها فشرط في الاعتداد بالدعاء
الواجب انضمام الركوع والسجود إليه وفي قصد البيت أن ينضم إليه الوقوف
والطواف والاسم غير متناول له لكنه شرط الاعتداد بما ينطلق عليه الاسم
فالشرع تصرف بوضع الشرط لا بتغيير الوضع
الثاني:أنه يمكن أن يقال سميت
جميع الأفعال صلاة لكونها متبعا بها فعل الإمام فإن التالي للسابق في
الخيل يسمى مصليا لكونه متبعا هذا كلام القاضي رحمه الله .
والمختار عندنا أنه لا سبيل إلى إنكار تصرف الشرع
في هذه الأسامي ولا سبيل إلى دعوى كونها منقولة عن اللغة بالكلية كما
ظنه قوم ولكن عرف اللغة تصرف في الأسامي من وجهين :
أحدهما:التخصيص ببعض المسميات كما في الدابة
فتصرف الشرع في الحج والصوم والإيمان من هذا الجنس إذ للشرع عرف في
الاستعمال كما للعرب
ج / 2 ص -18-
والثاني في إطلاقهم الاسم على ما يتعلق به
الشيء ويتصل به كتسميتهم الخمر محرمة والمحرم شربها والأم محرمة
والمحرم وطؤها فتصرفه في الصلاة كذلك لأن الركوع والسجود شرطه الشرع في
تمام الصلاة فشمله الاسم بعرف استعمال الشرع إذ إنكار كون الركوع
والسجود ركن الصلاة ومن نفسها بعيد فتسليم هذا القدر من التصرف بتعارف
الاستعمال للشرع أهون من إخراج السجود والركوع من نفس الصلاة وهو
كالمهم المحتاج إليه إذ ما يصوره الشرع من العبادات ينبغي أن يكون لها
أسام معروفة ولا يوجد ذلك في اللغة إلا بنوع تصرف فيه
وأما ما استدل به من أن القرآن عربي فهذا لا يخرج
هذه الأسامي عن أن تكون عربية ولا يسلب اسم العربي عن القرآن فإنه لو
اشتمل على مثل هذه الكلمات بالعجمية لكان لا يخرجه عن كونه عربيا أيضا
كما ذكرناه في القطب الأول من الكتاب
وأما قوله إنه كان يجب عليه التوقيف على تصرفه
فهذا أيضا إنما يجب إذا لم يفهم مقصوده من هذه الألفاظ بالتكرير
والقرائن مرة بعد أخرى فإذا فهم هذا فقد حصل الغرض فهذا أقرب عندنا بما
ذكره القاضي رحمه الله
ج / 2 ص -19-
الفصل الخامس في الكلام المفيد
اعلم أن الأمور منقسمة إلى ما يدل على غيره وإلى
ما لا يدل
فأما ما يدل فينقسم إلى ما يدل بذاته وهو الأدلة
العقلية وقد ذكرنا مجامع أقسامها في مدارك العقول من مقدمة الكتاب وإلى
ما يدل بالوضع
وهو ينقسم إلى صوت وغير صوت كالإشارة والرمز
والصوت ينقسم في دلالته إلى مفيد وغير مفيد
والمفيد كقولك زيد قائم وزيد خرج راكبا وغير المفيد كقولك زيد لا وعمرو
في فإن هذا لا يحصل منه معنى وإن كان آحاد كلماته موضوعة للدلالة .
وقد اختلف في تسمية هذا كلاما فمنهم من قال هو
كمقلوب رجل وزيد لجر وديز فإن هذا لا يسمى كلاما ومنهم من سماه كلاما
لأن آحاده وضعت للإفادة
واعلم :أن المفيد من الكلام ثلاثة أقسام اسم وفعل
وحرف كما في علم النحو وهذا لا يكون مفيدا حتى يشتمل على اسمين أسند
أحدهما إلى الآخر نحو زيد أخوك والله ربك أو اسم أسند إلى فعل نحو قولك
ضرب زيد وقام عمرو وأما الاسم والحرف كقولك زيد من وعمرو في
ج / 2 ص -20-
فلا يفيد حتى تقول من مضر وفي الدار وكذلك
قولك ضرب قام لا يفيد إذ لم يتخلله اسم وكذلك قولك من في قد على
واعلم أن المركب من الاسم والفعل والحرف تركيبا
مفيدا ينقسم إلى مستقل بالإفادة من كل وجه وإلى ما لا يستقل بالإفادة
إلا بقرينة وإلى ما يستقل بالإفادة من وجه دون وجه
مثال الأول :قوله تعالى {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى } [الاسراء:
من الآية32]
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}[النساء:
من الآية29] وذلك يسمى نصا لظهوره والنص في السير هو الظهور فيه ومنه
منصة العروس للكرسي الذي تظهر عليه
والنص ضربان :ضرب هو نص بلفظه ومنظومه كما ذكرناه
وضرب هو نص بفحواه ومفهومه نحو قوله تعالى{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}]الاسراء:
من الآية23]
{وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً }
[النساء: من الآية77]
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}[الزلزلة:7]
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
[آل عمران:75] فقد اتفق أهل اللغة على أن فهم ما فوق التأفيف من الضرب
والشتم وما وراء الفتيل والذرة من المقدار الكثير أسبق إلى الفهم منه
من نفس الذرة والفتيل والتأفيف ومن قال إن هذا معلوم بالقياس فإن أراد
به أن المسكوت عنه عرف بالمنطوق فهو حق وإن أراد به أن يحتاج فيه إلى
تأمل أو يتطرق إليه احتمال فهو غلط
وأما الذي لا يستقل إلا بقرينة فكقوله تعالى{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ
يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ
تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:237] وقوله {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ }
[البقرة: من الآية228] وكل لفظ مشترك
ج / 2 ص -21-
ومبهم وكقوله :رأيت أسدا وحمارا وثورا إذا
أراد شجاعا وبليدا فإنه لا يستقل بالدلالة على مقصوده إلا بقرينة
وأما الذي يستقل من وجه دون وجه فكقوله تعالى{ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: من الآية141] وكقوله تعالى:{ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة: من الآية29] فإن الإيتاء ويوم الحصاد معلوم ومقدار ما يؤتى
غير معلوم والقتال وأهل الكتاب معلوم وقدر الجزية مجهول
فخرج من هذا أن اللفظ المفيد بالإضافة إلى
مدلوله :إما أن لا يتطرق إليه احتمال فيسمى نصا أو يتعارض فيه
الاحتمالات من غير ترجيح فيسمى مجملا ومبهما أو يترجح أحد احتمالاته
على الآخر فيسمى بالإضافة إلى الاحتمال الأرجح ظاهرا وبالإضافة إلى
الاحتمال البعيد مؤولا .
فاللفظ المفيد إذا :ما نص أو ظاهر أو مجمل
الفصل السادس في طريق فهم المراد من الخطاب
اعلم أن الكلام إما أن يسمعه نبي أو ملك من
الله تعالى أو يسمعه نبي أو ولي من ملك أو تسمعه الأمة من النبي
فإن سمعه ملك أو نبي من الله تعالى فلا يكون حرفا
ولا صوتا ولا لغة موضوعة حتى يعرف معناه بسبب تقدم المعرفة بالمواضعة
لكن يعرف المراد منه بأن يخلق الله تعالى في السامع علما ضروريا بثلاثة
أمور بالمتكلم وبأن ما سمعه من كلامه وبمراده من كلامه فهذه ثلاثة أمور
لا بد
ج / 2 ص -22-
وأن تكون معلومة والقدرة الأزلية ليست قاصرة
عن اضطرار الملك والنبي إلى العلم بذلك ولا متكلم إلا وهو محتاج إلى
نصب علامة لتعريف ما في ضميره إلا الله تعالى فإنه قادر على اختراع علم
ضروري به من غير نصب علامة
وكما أن كلامه ليس من جنس كلام البشر فسمعه الذي
يخلقه لعبده ليس من جنس سمع الأصوات ولذلك يعسر علينا تفهم كيفية سماع
موسى كلام الله تعالى الذي ليس بحرف ولا صوت كما يعسر على الأكمة تفهم
كيفية إدراك البصير للألوان والأشكال
أما سماع النبي من الملك فيحتمل أن يكون بحرف
وصوت دال على معنى كلام الله فيكون المسموع الأصوات الحادثة التي هي
فعل الملك دون نفس الكلام ولا يكون هذا إسماعا لكلام الله بغير واسطة
وإن كان يطلق عليه اسم سماع كلام الله تعالى كما يقال فلان سمع شعر
المتنبي وكلامه وإن سمعه من غيره وسمع صوت غيره وكما قال تعالى{وَإِنْ
أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ
كَلامَ اللَّهِ } [التوبة:
من الآية6]
وكذلك سماع الأمة من الرسول صلى الله عليه وسلم
كسماع الرسول من الملك ويكون طريق فهم المراد تقدم المعرفة بوضع اللغة
التي بها المخاطبة
ثم إن كان نصا لا يحتمل كفى معرفة اللغة
وإن تطرق إليه الاحتمال فلا يعرف المراد منه
حقيقة إلا بانضمام قرينة إلى اللفظ والقرينة إما لفظ مكشوف كقوله تعالى{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
ج / 2 ص -23-
حَصَادِهِ} [الأنعام: من الآية141]والحق هو العشر وإما إحالة على دليل العقل
كقوله تعالى
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67]وقوله
عليه السلام: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" وإما قرائن
أحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق لا تدخل تحت الحصر
والتخمين يختص بدركها المشاهد لها فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى
التابعين بألفاظ صريحة أو مع قرائن من ذلك الجنس أو من جنس آخر حتى
توجب علما ضروريا بفهم المراد أو توجب ظنا
وكل ما ليس عبارة موضوعة في اللغة فتتعين فيه
القرائن وعند منكري صيغة العموم والأمر يتعين تعريف الأمر والاستغراق
بالقرائن فإن قوله تعالى{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ }[التوبة:
من الآية5] وإن أكده بقوله كلهم وجميعهم فيحتمل الخصوص عندهم كقوله
تعالى{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}[الاحقاف: من الآية25] {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ }[النمل:
من الآية23] فإنه أريد به البعض وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى
الفصل السابع في الحقيقة والمجاز
اعلم أن اسم الحقيقة مشترك إذ قد يراد به ذات
الشيء وحده ويراد به حقيقة الكلام ولكن إذا استعمل في الألفاظ أريد به
ما استعمل في موضوعه
ج / 2 ص -24-
والمجاز: ما استعمله العرب في غير موضوعه
وهو ثلاثة أنواع:
الأول: ما استعير للشيء بسببه
المشابهة في خاصية مشهورة كقولهم للشجاع أسد وللبليد حمار فلو سمي
الأبخر أسدا لم يجز لأن البخر ليس مشهورا في حق الأسد
الثاني: الزيادة كقوله تعالى{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:
من الآية11]فإن الكاف وضعت للإفادة فإذا استعملت على وجه لا يفيد كان
على خلاف الوضع
الثالث: النقصان الذي لا يبطل
التفهيم كقوله عز وجل {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ }[يوسف:
من الآية82] والمعنى واسأل أهل القرية وهذا النقصان اعتادته العرب فهو
توسع وتجوز وقد يعرف المجاز بإحدى علامات أربع الأولى أن الحقيقة جارية
على العموم في نظائره إذ قولنا عالم لما عني به ذو علم صدق على كل ذي
علم وقوله {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}يصح
ج / 2 ص -25-
في بعض الجمادات لإرادة صاحب القرية ولا
يقال سل البساط والكوز وإن كان قد يقال سل الطلل والربع لقربه من
المجاز المستعمل
الثانية: أن يعرف بامتناع
الاشتقاق عليه إذ الأمر إذا استعمل في حقيقته اشتق منه اسم الآمر وإذا
استعمل في الشأن مجازا لم يشتق منه آمر والشأن هو المراد بقوله تعالى
{ وَمَا
أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}[هود: من الآية97]وبقوله تعالى{ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا}[هود:
من الآية40]
الثالثة: أن تختلف صيغة الجمع
على الاسم فيعلم أنه مجاز في أحدهما إذ الأمر الحقيقي يجمع على أوامر
وإذا أريد به الشأن يجمع على أمور
ج / 2 ص -26-
الرابعة: أن الحقيقي إذا كان له تعلق بالغير فإذا استعمل فيما لا تعلق له
به لم يكن له متعلق كالقدرة إذا أريد بها الصفة كان لها مقدور وإن أريد
بها المقدور كالنبات الحسن العجيب إذ يقال انظر إلى قدرة الله تعالى أي
إلى عجائب مقدوراته لم يكن له متعلق إذ النبات لا مقدور له
واعلم أن كل مجاز فله حقيقة وليس من ضرورة كل
حقيقة أن يكون لها مجاز بل ضربان من الأسماء لا يدخلهما المجاز :
الأول: أسماء الأعلام نحو زيد
وعمرو لأنها أسام وضعت للفرق بين الذوات لا للفرق في الصفات نعم
الموضوع للصفات قد يجعل علما فيكون مجازا كالأسود بن الحرث إذ لا يراد
به الدلالة على الصفة مع أنه وضع له فهو مجاز أما إذا قال قرأت المزني
وسيبويه وهو يريد كتابيهما فليس ذلك إلا كقوله تعالى
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ }
[يوسف: من الآية82] فهو على طريق حذف اسم الكتاب معناه قرأت كتاب
المزني فيكون في الكلام مجاز بالمعنى الثالث المذكور للمجاز
الثاني: الأسماء التي لا أعم
منها ولا أبعد كالمعلوم والمجهول والمدلول
ج / 2 ص -27-
والمذكور إذ لا شيء إلا وهو حقيقة فيه فكيف
يكون مجازا عن شيء
هذا تمام المقدمة
ولنشتغل بالمقاصد وهي كيفية اقتباس الأحكام من
الصيغ والألفاظ المنطوق بها وهي أربعة أقسام
[القسم الاول : في المجمل
والمبين]
[القسم الثاني : في الظاهر
والمؤول ]
[القسم
الثالث: في الأمر والنهي]
[القسم
الرابع : في العام والخاص] |