المستصفى من علم الأصول، ط الرسالة ج / 1 ص -390-
خاتمة لهذا القطب ببيان أن ثم ما يظن أنه من أصول الأدلة
وليس منها
وهو أيضا
أربعة:
شرع من قبلنا
وقول الصحابي
والاستحسان
والاستصلاح
فهذه أيضا لا بد من شرحها
ج / 1 ص -391-
الأصل الأول من الأصول الموهومة شرع من قبلنا من الأنبياء فيما لم يصرح
شرعنا بنسخه
ونقدم على هذا الأصل:
مسألة وهي أنه قبل مبعثه هل كان متعبدا بشرع أحد
من الأنبياء؟
فمنهم من قال لم يكن متعبدا ومنهم من قال كان
متعبدا ثم منهم من نسبه إلى نوح عليه السلام وقوم نسبوه إلى إبراهيم
عليه السلام وقوم نسبوه إلى موسى وقوم إلى عيسى عليهما السلام .
والمختار أن جميع هذه الأقسام جائز عقلا لكن
الواقع منه غير معلوم بطريق قاطع ورجم الظن فيما لا يتعلق به الآن تعبد
عملي لا معنى له
فإن قيل: الدليل القاطع على أنه لم يكن على ملة
أنه لو كان لافتخر به أولئك القوم ونسبوه إلى أنفسهم ولكان يشتهر تلبسه
بشعارهم وتتوفر الدواعي على نقله
قلنا: هذا يعارضه أنه لو كان منسلخا عن التكليف
والتعبد بالشرائع لظهر مخالفته أصناف الخلق وتوفرت الدواعي على نقله
ويشبه أن يكون اختفاء حاله قبل البعث معجزة خارقة للعادة وذلك من عجائب
أموروه
وللمخالف شبهتان :
الأولي: أن موسى وعيسى دعوا إلى
دينهما كافة المكلفين من عباد الله تعالى فكان هو داخلا تحت العموم
وهذا باطل من وجهين :أحدهما أنه لم ينقل إلينا
على التواتر عنهما
ج / 1 ص -392-
عموم صيغة حتى ننظر في فحواه فلا مستند لهذه
الدعوى إلا المقايسة بدين نبينا صلى الله عليه وسلم والمقايسة في مثل
هذا باطل وإن كان عموم فلعله استثنى عنه من ينسخ شريعتهما
الثاني: أنه ربما كان زمانه زمان
فترة الشرائع واندراسها وتعذر القيام بها ولأجله بعث فمن أين يعلم قيام
الحجة على تفصيل شريعتهما
الثانية :من شبههم أنه كان يصلي
ويحج ويعتمر ويتصدق ويذبح الحيوان ويجتنب الميتة وذلك لا يرشد إليه
العقل
قلنا: هذا فاسد من وجهين أحدهما أن شيئا من ذلك
لم يتواتر بنقل مقطوع به ولا سبيل إلى إثباته بالظن الثاني: أنه ربما
ذبح الحيوان بناء على أنه لا تحريم إلا بالسمع ولا حكم قبل ورود الشرع
وترك الميتة عيافة بالطبع كما ترك أكل الضب عيافة والحج والصلاة إن صح
فلعله فعله تبركا بما نقل جملته من أنبياء السلف وإن اندرس تفصيله
ونرجع الآن إلى الأصل المقصود وهو أنه بعد بعثته
هل كان متعبدا بشريعة من قبله ؟
والقول في الجواز العقلي والوقوع السمعي
ج / 1 ص -393-
أما الجواز العقلي: فهو حاصل إذ لله تعالى
أن يتعبد عباده بما شاء من شريعة سابقة أو مستأنفة أو بعضها سابقة
وبعضها مستأنفة ولا يستحيل منه شيء لذاته ولا لمفسدة فيه
وزعم بعض القدرية أنه لا يجوز بعثة نبي إلا بشرع
مستأنف فإنه إن لم يجدد أمرا فلا فائدة في بعثته ولا يرسل الله تعالى
رسولا بغير فائدة ويلزمهم على هذا تجويز بعثته بمثل تلك الشريعة إذا
كانت قد اندرست وإرساله بمثلها إذا كانت قد اشتملت على زوائد وأن يكون
الأول مبعوثا إلى قوم والثاني مبعوثا إليهم وإلى غيرهم ولعلهم يخالفون
إذا كانت الأولى غضة طرية ولم تشتمل الثانية على مزيد
فنقول: يدل على جوازه ما يدل على جواز نصب دليلين
وبعثة رسولين معا كما قال تعالى
{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا
بِثَالِثٍ}]يّـس: من الآية14[وكما أرسل موسى وهارون وداود وسليمان بل كخلق
العينين مع الاكتفاء في الإبصار بإحداهما .
ثم كلامهم بناء على طلب الفائدة في أفعال الله
تعالى وهو تحكم
أما الوقوع السمعي: فلا خلاف في أن شرعنا ليس
بناسخ جميع الشرائع بالكية إذ لم ينسخ وجوب الإيمان وتحريم الزنا
والسرقة والقتل والكفر ولكن حرم عليه صلى الله عليه وسلم هذه المحظورات
بخطاب مستأنف أو بالخطاب الذي نزل إلى غيره وتعبد باستدامته ولم ينزل
عليه الخطاب إلا بما خالف شرعهم فإذا نزلت واقعة لزمه اتباع دينهم إلا
إذا أنزل عليه وحي مخالف لما سبق فإلى هذا يرجع الخلاف
ج / 1 ص -394-
والمختار :أنه لم يتعبد بشريعة من قبله
ويدل عليه أربعة مسالك :
المسلك الأول :أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث
معاذاً إلى اليمن قال له بم تحكم ؟قال بالكتاب والسنة والاجتهاد ولم
يذكر التوراة والإنجيل وشرع من قبلنا فزكاه رسول الله وصوبه ولو كان
ذلك من مدارك الأحكام لما جاز العدول إلى الاجتهاد إلا بعد العجز عنه
فإن قيل: إنما لم يذكر التوراة والإنجيل لأن في
الكتاب آيات تدل على الرجوع إليهما
قلنا: سنبين سقوط تمسكهم بتلك الآيات بل فيه قوله
تعالى
{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً }]المائدة: من الآية48[وقال صلى الله عليه وسلم :"لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي"
ثم نقول: في الكتاب ما يدل على اتباع السنة
والقياس فكان ينبغي أن يقتصر على ذكر الكتاب فإن شرع في التفصيل كانت
الشريعة السابقة أهم مذكور
فإن قيل: اندرجت التوراة والإنجيل تحت الكتاب
فإنه اسم يعم كل كتاب
قلنا: إذا ذكر الكتاب والسنة لم يسبق إلى فهم
المسلمين شيء سوى القرآن وكيف يفهم غيره ولم يعهد من معاذ قط تعلم
التوراة والإنجيل والعناية بتمييز المحرف عن غيره كما عهد منه تعلم
القرآن ولو وجب ذلك لتعلمه جميع
ج / 1 ص -395-
الصحابة لأنه كتاب منزل لم ينسخ إلا بعضه
وهو مدرك بعض الأحكام ولم يتعهد حفظ القرآن إلا لهذه العلة وكيف وطالع
عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة فغضب صلى الله عليه وسلم حتى احمرت
عيناه وقال لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي
المسلك الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لو كان
متعبدا بها للزمه مراجعتها والبحث عنها ولكان لا ينتظر الوحي ولا يتوقف
في الظهار ورمي المحصنات والمواريث ولكان يرجع أولا إليها لا سيما
أحكام هي ضرورة كل أمة فلا تخلو التوراة عنها فإن لم يراجعها لاندراسها
وتحريفها فهذا يمنع التعبد وإن كان ممكنا فهذا يوجب البحث والتعلم ولم
يراجع قط إلا في رجم اليهود ليعرفهم أن ذلك ليس مخالفا لدينهم
المسلك الثالث: أن ذلك لو كان مدركا لكان تعلمها
ونقلها وحفظها من فروض الكفايات كالقرآن والأخبار ولوجب على الصحابة
مراجعتها في تعرف الأحكام كما وجب عليهم المناشدة في نقل الأخبار
ولرجعوا إليها في مواضع اختلافهم حيث أشكل عليهم كمسألة العول وميراث
الجد والمفوضة وبيع أم الولد وحد الشرب والربا في غير النسيئة ومتعة
النساء ودية الجنين وحكم المكاتب إذا كان عليه شيء من النجوم والرد
بالعيب بعد الوطء والتقاء الختانين وغير ذلك من أحكام لا تنفك الأديان
والكتب عنها
ولم ينقل عن واحد منهم مع طول أعمارهم وكثرة
وقائعهم واختلافاتهم مراجعة التوراة لا سيما وقد أسلم من أخبارهم من
تقوم الحجة بقولهم
ج / 1 ص -396-
كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب وغيرهم
ولا يجوز القياس إلا بعد اليأس من الكتاب فكيف يحصل القياس قبل العلم
؟!
المسلك الرابع: إطباق الأمة
قاطبة على أن هذه الشريعة ناسخة وأنها شريعة رسولنا صلى الله عليه وسلم
بجملتها ،ولو تعبد بشرع غيرها لكان مخبرا لا شارعا ولكان صاحب نقل لا
صاحب شرع
إلا أن هذا ضعيف لأنه إضافة تحتمل المجاز وأن
معلوما بواسطته وإن لم يكن هو شارعا لجميعه
أدلة القائلين بالأخذ بشرع من قبلنا
وللمخالف التمسك بخمس آيات وثلاثة أحاديث:
الآية الأولى: أنه تعالى لما ذكر الأنبياء قال:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } ]الأنعام: من الآية90[
قلنا: أراد بالهدى التوحيد ودلالة الأدلة العقلية
على وجدانيته وصفاته بدليلين أحدهما أنه قال
{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}]الأنعام:
من الآية90[ولم يقل بهم وإنما هداهم الأدلة التي ليست منسوبة إليهم أما
الشرع فمنسوب إليهم فيكون اتباعهم فيه اقتداء بهم
الثاني: أنه كيف أمر بجميع شرائعهم وهي مختلفة
وناسخة ومنسوخة ومتى بحث عن جميع ذلك وشرائعهم كثيرة؟ فدل على أنه أراد
الهدى المشترك بين جميعهم وهو التوحيد
الآية الثانية:قوله تعالى
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفاً }]النحل: من الآية123[وهذا يتمسك به من نسبه
إلى إبراهيم عليه السلام
ج / 1 ص -397-
وتعارضه الآية الأولى
ثم لا حجة فيها إذ قال:
{أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ }
فوجب بما أوحي إليه لا بما أوحي إلى غيره وقوله{ أَنِ اتَّبِعْ}
أي افعل مثل فعله وليس معناه كن متبعا له وواحدا من أمته كيف والملة
عبارة عن أصل الدين والتوحيد والتقديس الذي تتفق فيه جميع الشرائع
ولذلك قال تعالى{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاًَّ مَنْ سَفِهَ
نَفْسَهُ}]البقرة: من الآية130[ولا يجوز تسفيه
الأنبياء المخالفين له
ويدل عليه أنه لم يبحث عن ملة إبراهيم وكيف كان
يبحث مع اندراس كتابه وأسناد أخباره
الآية الثالثة:قوله تعالى{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً}]الشورى: من الآية13[ وهذا يتمسك به من نسبه إلى نوح عليه السلام
وهو فاسد، إذا تعارضه الآيتان السابقتان.
ثم الدين عبارة عن أصل التوحيد وإنما خصص نوحا
بالذكر تشريفا له وتخصيصا ومتى راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم
تفصيل شرع نوح وكيف أمكن ذلك مع أنه أقدم الأنبياء وأشد الشرائع
اندراسا كيف وقد قال تعالى{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً}]الشورى: من الآية13[ فلو قال شرع لنوح ما وصاكم به لكان ربما دل
هذا على غرضهم وأما هذا فيصرح بضده
الآية الرابعة: قوله تعالى
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ
بِهَا النَّبِيُّونَ}]المائدة:
من الآية44[ المائدة الآية وهو أحد الأنبياء فليحكم بها
واستدل بهذا من نسبه إلى موسى عليه السلام
وتعارضه الآيات السابقة
ج / 1 ص -398-
ثم المراد بالنور والهدى أصل التوحيد وما
يشترك فيه النبيون دون الأحكام المعرضة للنسخ
ثم لعله أراد النبيين في زمانه دون من بعدهم
ثم هو على صيغة الخبر لا على صيغة الأمر فلا حجة
فيه
ثم يجوز أن يكون المراد حكم النبيين بها بأمر
ابتدأهم به الله تعالى وحيا إليهم لا بوحي موسى عليه السلام
الآية الخامسة قوله تعالى بعد ذكر التوراة
وأحكامها
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ}
]المائدة: من الآية44[
قلنا: المراد به ومن لم يحكم بما أنزل الله مكذبا
به وجاحدا له لا من حكم بما أنزل الله عليه خاصة أو من لم يحكم به ممن
أوجب عليه الحكم به من أمته وأمة كل نبي إذا خالفت ما أنزل على نبيهم
أو يكون المراد به يحكم بمثلها النبيون وإن كان بوحي خاص إليهم لا
بطريق التبعية
وأما الأحاديث :
فأولها: أنه صلى الله عليه وسلم طلب منه القصاص
في سن كسرت فقال "كتاب الله
ج / 1 ص -399-
يقضي بالقصاص" وليس في القرآن قصاص السن إلا
ما حكي عن التوراة في قوله تعالى{ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ }]المائدة:
من الآية45[ قلنا :بل فيه
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}]البقرة: من الآية194[فدخل السن تحت عمومه.
الحديث الثاني :قوله صلى الله عليه وسلم:
"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" وقرأ قوله تعالى
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}]طـه:
من الآية14[ وهذا خطاب مع موسى عليه السلام
قلنا: ما ذكره صلى الله عليه وسلم تعليلا للإيجاب
لكن أوجب بما أوحي إليه ونبه على أنهم أمروا كما أمر موسى وقوله
{ لِذِكْرِي}
أي لذكر إيجابي للصلاة ولولا الخبر لكان السابق إلى الفهم أنه لذكر
الله تعالى بالقلب أو لذكر الصلاة بالإيجاب
الحديث الثالث: مراجعته صلى الله عليه وسلم
التوراة في رجم اليهوديين
وكان ذلك تكذيبا لهم في إنكار الرجم إذ كان يجب
أن يراجع الإنجيل فإنه آخر ما أنزل الله فلذلك لم يراجع في واقعة سوى
هذه والله أعلم
ج / 1 ص -400-
الأصل الثاني من الأصول الموهومة قول الصحابي
وقد ذهب قوم إلى أن مذهب الصحابي حجة مطلقا وقوم
إلى أنه حجة إن خالف القياس وقوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر
خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم "اقتدوا باللذين من بعدي" وقوم إلى أن
الحجة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا.
والكل باطل عندنا فإن من يجوز عليه الغلط والسهو
ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ
وكيف تدعى عصمتهم من غير حجة متواترة وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم
الاختلاف وكيف يختلف المعصومان كيف وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة
الصحابة فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد بل أوجبوا في
مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه
فانتفاء الدليل على العصمة ووقوع الإختلاف بينهم
وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه ثلاثة أدلة قاطعة
وللمخالف خمس شبه:
الشبهة الأولى: قولهم وإن لم
تثبت عصمتهم فإذا تعبدنا باتباعهم لزم الاتباع كما أن الراوي الواحد لم
تثبت عصمتهم لكن لزم اتباعه للتعبد به وقد قال صلى الله عليه وسلم
"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"
ج / 1 ص -401-
والجواب أن هذا خطاب مع عوام أهل عصره ب صلى
الله عليه وسلم ،تعريف درجة الفتوى لأصحابه حتى يلزم اتباعهم وهو تخيير
لهم في الاقتداء بمن شاؤوا منهم بدليل أن الصحابي غير داخل فيه إذ له
أن يخالف صحابيا آخر فكما خرج الصحابة بدليل فكذلك خرج العلماء بدليل
وكيف وهذا لا يدل على وجوب الاتباع بل على الاهتداء إذا اتبع ؟ فلعله
يدل على مذهب من يجوز للعالم تقليد العالم أو من يخير العامي في تقليد
الأئمة من غير تعيين الأفضل
الشبهة الثانية: أن دعوى وجوب
الاتباع إن لم تصح لجميع الصحابة فتصح للخلفاء الأربعة لقوله صلى الله
عليه وسلم
"عليكم سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"
وظاهر قوله: عليكم للإيجاب وهو عام
قلنا: فيلزمكم على هذا تحريم الاجتهاد على سائر
الصحابة رضي الله عنهم إذا اتفق الخلفاء ولم يكن كذلك بل كانوا يخالفون
وكانوا يصرحون بجواز الاجتهاد فيما ظهر لهم وظاهر هذا تحريم مخالفة كل
واحد من الصحابة وإن انفرد فليس في الحديث شرط الاتفاق وما اجتمعوا في
الخلافة حتى يكون اتفاقهم اتفاق الخلفاء
ج / 1 ص -402-
وإيجاب اتباع كل واحد منهم محال مع اختلافهم
في مسائل لكن المراد بالحديث إما أمر الخلق بالانقياد وبذل الطاعة لهم
أي عليكم بقبول إمارتهم وسنتهم أو أمر الأمة بأن ينهجوا منهجهم في
العدل والإنصاف والإعراض عن الدنيا وملازمة سيرة رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الفقر والمسكنة والشفقة على الرعية أو أراد منع من بعدهم
عن نقض أحكامهم فهذه احتمالات ثلاثة تعضدها الأدلة التي ذكرناها
الشبهة الثالثة قولهم إنه إن لم
يجب اتباع الخلفاء فيجب اتباع أبي بكر وعمر بقوله صلى الله عليه وسلم "اقتدوا
باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"
قلنا تعارضه الأخبار السابقة فيتطرق إليه الاحتمالات الثلاثة
ثم نقول بموجبه فيجب الاقتداء بهما في تجويزهما
لغيرهما مخالفتهما بموجب الاجتهاد
ثم ليت شعري لو اختلفا كما اختلفا في التسوية في
العطاء فأيهما يتبع
الشبهة الرابعة: أن عبد الرحمن
بن عوف ولى عليا الخلافة بشرط الاقتداء بالشيخين فأبى وولى عثمان فقبل
ولم ينكر عليه
ج / 1 ص -403-
قلنا لعله اعتقد بقوله عليه السلام من بعدي
جواز تقليد العالم للعالم وعلي رضي الله عنه لم يعتقد أو اعتقد أن قوله
صلى الله عليه وسلم
:"اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" إيجاب التقليد ولا حجة في مجرد مذهبه
ويعارضه مذهب علي إذ فهم أنه إنما أراد عبد الرحمن اتباعهما في السيرة
والعدل وفهم على إيجاب التقليد
الشبهة الخامسة: أنه إذا قال
الصحابي قولا يخالف القياس فلا محمل له إلا سماع خبر فيه
قلنا: فهذا إقرار بأن قوله ليس بحجة وإنما الحجة
الخبر إلا أنكم أثبتم الخبر بالتوهم المجرد ومستندنا إجماع الصحابة رضي
الله عنهم في قبول خبر الواحد وهم إنما عملوا بالخبر المصرح بروايته
دون الموهوم المقدر الذي لا يعرف لفظه ومورده فقوله ليس بنص صريح في
سماع خبر بل ربما قاله عن دليل ضعيف ظنه دليلا وأخطأ فيه والخطأ جائز
عليه وربما يتمسك الصحابي بدليل ضعيف وظاهر موهوم ولو قاله عن نص قاطع
لصرح به
ج / 1 ص -404-
نعم لو تعارض قياسان وقول الصحابي مع أحدهما
فيجوز للمجتهد إن غلب على ظنه الترجيح بقول الصحابي أن يرجح وكذلك نوع
من المعنى يقتضي تغليظ الدية بسبب الجرم وقياس أظهر منه يقتضي نفي
التغليظ فربما يغلب على ظن المجتهد أن ذلك المعنى الأخفى الذي ذهب إليه
الصحابي يترجح به ولكن يختلف ذلك باختلاف المجتهدين أما وجوب اتباعه
ولم يصرح بنقل خبر فلا وجه له
وكيف وجميع ما ذكروه أخبار آحاد ونحن أثبتنا
القياس والإجماع وخبر الواحد بطرق قاطعة لا بخبر الواحد وجعل قول
الصحابي حجة كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وخبره إثبات أصل من
أصول الأحكام ومداركه فلا يثبت إلا بقاطع كسائر الأصول
مسألة: هل يجوز تقليد الصحابي؟
إن قال قائل إن لم يجب تقليدهم فهل يجوز
تقليدهم؟
قلنا أما العامي فيقلدهم وأما العالم فإنه إن جاز
له تقليد العالم جاز له تقليدهم وإن حرمنا تقليد العالم للعالم فقد
اختلف قول الشافعي رحمه الله في تقليد الصحابة فقال في القديم يجوز
تقليد الصحابي إذا قال قولا وانتشر قوله ولم يخالف وقال في موضع آخر
يقلد وإن لم ينتشر ورجع في الجديد إلى أنه لا يقلد العالم صحابيا كما
لا يقلد عالما
ج / 1 ص -405-
آخر ونقل المزني عنه ذلك وأن العمل على
الأدلة التي بها يجوز للصحابة الفتوى
وهو الصحيح المختار عندنا إذ كل ما دل على تحريم
تقليد العالم للعالم كما سيأتي في كتاب الاجتهاد لا يفرق فيه بين
الصحابي وغيره
فإن قيل: كيف لا يفرق بينهم مع ثناء الله تعالى
وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ
مِنْكُمْ } ]النساء: من الآية59[وقال تعالى
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ } ]الفتح: من الآية18[وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"خير الناس قرني"
وقال صلى الله عليه وسلم
:"أصحابي كالنجوم" إلى غير ذلك
قلنا: هذا كله ثناء يوجب حسن الاعتقاد في علمهم
ودينهم ومحلهم عند الله تعالى ولا يوجب تقليدهم لا جوازا ولا وجوبا
فإنه صلى الله عليه وسلم أثنى أيضا على آحاد الصحابة ولا يتميزون عن
بقية الصحابة بجواز التقليد أو وجوبه كقوله صلى الله عليه وسلم:
"لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح إيمان أبي بكر"
وقال صلى الله عليه وسلم
:"إن الله قد ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه، يقول الحق وإن كان مرا"
وقال لعمر "والله ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجا غير
فجك" وقال في قصة أسارى بدر حيث نزلت الآية على
وفق رأي عمر:
"لو نزل بلاء من السماء ما نجا منه إلا عمر"
وقال صلوات الله عليه "إن منكم لمحدثين وإن عمر لمنهم" وكان علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة يقولون "ما كنا نظن إلا
أن ملكا بين عينيه يسدده وأن ملكا ينطق على
ج / 1 ص -406-
لسانه" وقال صلى الله عليه وسلم في حق علي
"اللهم أدر الحق مع علي حيث دار" وقال صلى الله عليه وسلم :"أقضاكم علي وأفرضكم زيد وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل" وقال عليه السلام:
"رضيت لأمتي ما رضي ابن أم عبد"
وقال عليه السلام لأبي بكر وعمر لو اجتمعا على شيء ما خالفتهما وأراد
في مصالح الحرب وكل ذلك ثناء لا يوجب الاقتداء أصلا
فصل في تفريع الشافعي في القديم على تقليد الصحابة ونصوصه
قال في كتاب اختلاف الحديث إنه روي عن علي
أنه صلى في ليلة ست ركعات في كل ركعة ست سجدات قال لو ثبت ذلك عن علي
لقلت به وهذا لأنه رأى أنه لا يقول ذلك إلا عن توقيف إذ لا مجال للقياس
فيه
وهذا غير مرضي لأنه لم ينقل فيه حديثا حتى يتأمل
لفظه ومورده وقرائنه وفحواه وما يدل عليه ولم نتعبد إلا بقبول خبر
يرويه صحابي مكشوفا يمكن النظر فيه كما كان الصحابة يكتفون بذكر مذهب
مخالف للقياس ويقدرون ذلك حديثا من غير تصريح به
ج / 1 ص -407-
وقد نص في موضع أن قول الصحابي إذا انتشر
ولم يخالف فهو حجة وهو ضعيف لأن السكوت ليس بقول فأي فرق بين أن ينتشر
أو لا ينتشر
وقد نص على أنه إذا اختلفت الصحابة فالأئمة أولى
فإن اختلف الأئمة فقول أبي بكر وعمر أولى لمزيد فضلهما وقال في موضع
آخر يجب الترجيح بقول الأعلم والأكثر قياسا لكثرة القائلين على كثرة
الرواة وكثرة الأشباه وإنما يجب ترجيح الأعلم لأن زيادة علمه تقوي
اجتهاده وتبعده عن الإهمال والتقصير والخطأ
وإن اختلف الحكم والفتوى من الصحابة فقد اختلف
قول الشافعي فيه فقال مرة الحكم أولى لأن العناية به أشد والمشورة فيه
أبلغ
وقال مرة: الفتوى أولى لأن سكوتهم على الحكم يحمل
على الطاعة للوالي.
ج / 1 ص -408-
وكل هذا مرجوع عنه
فإن قيل: فما قولكم في ترجيح أحد القياسين بقول
الصحابي ؟
قلنا :قال القاضي لا ترجيح إلا بقوة الدليل ولا
يقوى الدليل بمصير مجتهد إليه
والمختار أن هذا في محل الاجتهاد فربما يتعارض
ظنان والصحابي في أحد الجانبين فتميل نفس المجتهد إلى موافقة الصحابي
ويكون ذلك أغلب على ظنه ويختلف ذلك باختلاف المجتهدين
وقال قوم :إنما يجوز ترجيح قياس المصير إذا كان
أصل القياس في واقعة شاهدها الصحابي وإلا فلا فرق بينه وبين غيره
وهذا قريب ولكن مع هذا يحتمل أن يكون مصيره إليه
لا لاختصاصه بمشاهدة ما يدل عليه بل بمجرد الظن
ج / 1 ص -409-
أما إذا حمل الصحابي لفظ الخبر على أحد
محتمليه فمنهم من رجح ومنهم من قال إذا لم يقل علمت ذلك من لفظ الرسول
صلى الله عليه وسلم بقرينة شاهدتها فلا ترجيح به وهذا اختيار القاضي
فإن قيل:فقد ترك الشافعي في الجديد القياس في
تغليظ الدية في الحرم بقول عثمان .وكذلك فرق بين الحيوان وغيره في شرط
البراءة بقول علي
قلنا :له في مسألة شرط البراءة أقوال فلعل هذا
مرجوع عنه
وفي مسألة التغليظ: الظن به أنه قوي القياس
بموافقة الصحابة فإن لم يكن كذلك فمذهبه في الأصول أن لا يقلد والله
أعلم
الأصل الثالث من
الأصول الموهومة الاستحسان
وقد قال به أبو حنيفة
وقال الشافعي: من استحسن فقد شرع
ورد الشيء قبل فهمه محال فلا بد أولا من فهم
الاستحسان وله ثلاثة معان:
ج / 1 ص -410-
الأول وهو الذي يسبق إلى الفهم ما يستحسنه المجتهد بعقله
ولا شك في أنا نجوز ورود التعبد باتباعه عقلا بل
لو ورد الشرع بأن ما سبق إلى أوهامكم أو استحسنتموه بعقولكم أو سبق إلى
أوهام العوام مثلا فهو حكم الله عليكم لجوزناه ولكن وقوع التعبد لا
يعرف من ضرورة العقل ونظره بل من السمع ولم يرد فيه سمع متواتر ولا نقل
آحاد ولو ورد لكان لا يثبت بخبر الواحد فإن جعل الاستحسان مدركا من
مدارك أحكام الله تعالى ينزل منزلة الكتاب والسنة والإجماع وأصلا من
الأصول لا يثبت بخبر الواحد ومهما انتفى الدليل وجب النفي
المسلك الثاني أنا نعلم قطعا
إجماع الأمة قبلهم على أن العالم ليس له أن يحكم بهواه وشهوته من غير
نظر في دلالة الأدلة والاستحسان من غير نظر في أدلة الشرع حكم بالهوى
المجرد وهو كاستحسان العامي ومن لا يحسن النظر فإنه إنما جوز الاجتهاد
للعالم دون العامي لأنه يفارقه في معرفة أدلة الشريعة وتمييز صحيحها من
فاسدها وإلا فالعامي أيضا يستحسن ولكن يقال لعل مستند استحسانك وهم
وخيال لا أصل له ونحن نعلم أن النفس لا تميل إلى الشيء إلا بسبب مميل
إليه لكن السبب ينقسم إلى ما هو وهم وخيال إذا عرض على الأدلة لم يتحصل
منه طائل وإلى ما هو مشهور من أدلة الشرع فلم يميز المستحسن ميله عن
الأوهام وسوابق الرأي إذا لم ينظر في الأدلة ولم يأخذ منها؟!
ج / 1 ص -411-
ولهم شبه ثلاث
الشبهة الأولى قوله تعالى{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}]الزمر: من الآية55[وقال {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }]الزمر: من الآية18[
قلنا: اتباع أحسن ما أنزل إلينا هو اتباع الأدلة
فبينوا أن هذا مما أنزل إلينا فضلا عن أن يكون من أحسنه وهو كقوله
تعالى
{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}]الزمر: من الآية55[ثم نقول نحن نستحسن إبطال الاستحسان وأن لا يكون
لنا شرع سوى المصدق بالمعجزة فليكن هذا حجة عليهم
الجواب الثاني :أن يلزم من ظاهر هذا اتباع
استحسان العامي والطفل والمعتوه لعموم اللفظ فإن قلتم المراد بعض
الاستحسانات وهو استحسان من هو من أهل النظر فكذلك نقول المراد كل
استحسان صدر عن أدلة الشرع وإلا فأي وجه لاعتبار أهلية النظر في الأدلة
مع الاستغناء عن النظر
الشبهة الثانية :قوله صلى الله
عليه وسلم"ما
رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن"
ولا حجة فيه ، من أوجه:
الأول: أنه خبر واحد لا تثبت به
الأصول.
الثاني: أن المراد به ما رآه
جميع المسلمين لأنه لا يخلو أن يريد به جميع المسلمين أو آحادهم فإن
أراد الجميع فهو صحيح إذ الأمة لا تجتمع على حسن شيء إلا عن دليل
والإجماع حجة وهو مراد الخبر وإن أراد الآحاد
ج / 1 ص -412-
لزم استحسان العوام فإن فرق بأنهم ليسوا
أهلا للنظر قلنا إذا كان لا ينظر في الأدلة فأي فائدة لأهلية النظر؟
الثالث: أن الصحابة أجمعوا على
استحسان منع الحكم بغير دليل ولا حجة لأنهم مع كثرة وقائعهم تمسكوا
بالظواهر والأشباه وما قال واحد حكمت بكذا وكذا لأني استحسنته ولو قال
ذلك لشددوا الإنكار عليه وقالوا من أنت حتى يكون استحسانك شرعا وتكون
شارعا لنا ؟ وما قال معاذ حيث بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن
أني أستحسن بل ذكر الكتاب والسنة والاجتهاد فقط
الشبهة الثالثة: إن الأمة
استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة وعوض الماء ولا تقدير مدة
السكون واللبث فيه وكذلك شرب الماء من يد السقاء بغير تقدير العوض ولا
مبلغ الماء المشروب لأن التقدير في مثل هذا قبيح في العادات فاستحسنوا
ترك المضايقة فيه ولا يحتمل ذلك في إجارة ولا بيع
والجواب من وجهين:
الأول: أنهم من أين عرفوا أن
الأمة فعلت ذلك من غير حجة ولا دليل ولعل الدليل جريان ذلك في عصر رسول
الله صلى الله عليه وسلم مع معرفته به وتقريره عليه لأجل المشقة في
تقدير الماء المشروب والمصبوب في الحمام وتقدير مدة المقام والمشقة سبب
الرخصة
الثاني: أن نقول شرب الماء
بتسليم السقاء مباح وإذا أتلف ماءه فعليه ثمن المثل إذ قرينة حاله تدل
على طلب العوض فيما بذله في الغالب وما يبذل له
ج / 1 ص -413-
في الغالب يكون ثمن المثل فيقبله السقاء فإن
منع فعليه مطالبته فليس في هذا إلا الاكتفاء في معرفة الإباحة
بالمعاطاة والقرينة وترك المماسكة في العوض وهذا مدلول عليه من الشرع
وكذلك داخل الحمام مستبيح بالقرينة ومتلف بشرط
العوض بقرينة حال الحمامي ثم ما يبذله إن ارتضى به الحمامي واكتفى به
عوضا أخذه وإلا طالبه بالمزيد إن شاء فليس هذا أمرا مبدعا ولكنه منقاس
والقياس
حجة التأويل الثاني للاستحسان: قولهم المراد به
دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إبرازه
وإظهاره
وهذا هوس لأن ما لا يقدر على التعبير عنه لا يدري
أنه وهم وخيال أو تحقيق ولا بد من ظهوره ليعتبر بأدلة الشريعة لتصححه
الأدلة أو تزيفه أما الحكم بما لا يدري ما هو فمن أين يعلم جوازه
أبضرورة العقل أو نظره أو بسمع متواتر أو آحاد ؟ ولا وجه لدعوى شيء من
ذلك كيف وقد قال أبو حنيفة إذا شهد أربعة على زنا شخص لكن عين كل واحد
منهم زاوية من زوايا البيت وقال زنى فيها فالقياس أن لا حد عليه لكنا
نستحسن حده
فيقول له: لم يستحسن سفك دم مسلم من غير حجة إذ
لم تجتمع شهادة الأربعة على زنا واحد ؟
وغايته أن يقول :تكذيب المسلمين قبيح وتصديقهم
وهم عدول
ج / 1 ص -414-
حسن فنصدقهم ونقدر دورانه في زنية واحدة على
جميع الزوايا بخلاف ما لو شهدوا في أربعة بيوت فإن تقدير التزاحف بعيد
وهذا هوس لأنا نصدقهم ولا نرجم المشهود عليه كما
لو شهد ثلاثة وكما لو شهدوا في دور وندرأ الرجم من حيث لم نعلم يقينا
اجتماع الأربعة على شهادة واحدة فدرء الحد بالشبهة أحسن كيف وإن كان
هذا دليلا فلا ننكر الحكم بالدليل ولكن لا ينبغي أن يسمى بعض الأدلة
استحسانا
التأويل الثالث للاستحسان: ذكره الكرخي وبعض
أصحاب أبي حنيفة ممن عجز عن نصرة الاستحسان وقال ليس هو عبارة عن قول
بغير دليل بل هو بدليل وهو أجناس:
منها العدول بحكم المسألة عن نظائرها بدليل خاص
من القرآن مثل قوله مالي صدقة أو لله علي أن أتصدق بمالي فالقياس لزوم
التصدق بكل ما يسمى مالا لكن استحسن أبو حنيفة التخصيص بمال الزكاة
لقوله تعالى{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}]التوبة: من الآية103[ولم يرد إلا مال الزكاة
ومنها :أن يعدل بها عن نظائرها بدليل السنة
كالفرق في سبق الحدث والبناء على الصلاة بين السبق والتعمد على خلاف
قياس الأحداث
وهذا مما لا ينكر وإنما يرجع الاستنكار إلى اللفظ
وتخصيص هذا النوع من الدليل بتسميته استحسانا من بين سائر الأدلة والله
أعلم
الأصل الرابع من
الأصول الموهومة الاستصلاح
وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة
المرسلة.
ولا بد من كشف معنى المصلحة وأقسامها
فنقول: المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة
أقسام قسم شهد الشرع لاعتبارها وقسم شهد لبطلانها وقسم لم يشهد الشرع
لا لبطلانها ولا
ج / 1 ص -415-
لاعتبارها
أما ما شهد الشرع لاعتبارها فهي حجة ويرجع حاصلها
إلى القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع وسنقيم الدليل
عليه في القطب الرابع فإنه نظر في كيفية استثمار الأحكام من الأصول
المثمرة ومثاله حكمنا أن كل ما أسكر من مشروب أو مأكول فيحرم قياسا على
الخمر لأنها حرمت لحفظ العقل الذي هو مناط التكليف فتحريم الشرع الخمر
دليل على ملاحظة هذه المصلحة
القسم الثاني ما شهد الشرع لبطلانها مثاله قول
بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان إن عليك صوم شهرين
متتابعين فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله قال
لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر إعتاق رقبة في جنب قضاء شهوته فكانت
المصلحة في إيجاب الصوم لينزجر به
ج / 1 ص -416-
فهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بالمصلحة
وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير
الأحوال ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم
وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي
القسم الثالث :ما لم يشهد له من
الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين وهذا في محل النظر
فلنقدم على تمثيله تقسيما آخر وهو أن المصلحة
باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في رتبة الضرورات وإلى ما هي
في رتبة الحاجات وإلى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات وتتقاعد أيضا عن
رتبة الحاجات
ويتعلق بأذيال كل قسم من الأقسام ما يجري منها
مجرى التكملة والتتمة لها ولنفهم أولا معنى المصلحة ثم أمثلة مراتبها:
معنى المصلحة
أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة
أو دفع مضرة ولسنا نعني به ذلك فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد
الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على
ج / 1 ص -417-
مقصود الشرع
ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم
دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة
فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة وإذا أطلقنا
المعنى المخيل والمناسب في كتاب القياس أردنا به هذا الجنس
وهذه الأصول الخمسة :حفظها واقع في رتبة الضرورات
فهي أقوى المراتب في المصالح
ومثاله: قضاء الشرع بقتل الكافر المضل وعقوبة
المبتدع الداعي إلى بدعته فإن هذا يفوت على الخلق دينهم وقضاؤه بإيجاب
القصاص أدبه حفظ النفوس وإيجاب حد الشرب إذ به حفظ العقول التي هي ملاك
التكليف وإيجاب حد الزنا إذ به حفظ النسل والأنساب وإيجاب زجر الغصاب
والسراق إذ به يحصل حفظ الأموال التي هي معاش الخلق وهم مضطرون إليها
وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها
يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها
إصلاح الخلق ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتال والزنا
والسرقة وشرب المسكر
أما ما يجري مجرى التكملة والتتمة لهذه المرتبة
فكقولنا المماثلة مرعية في استيفاء القصاص لأنه مشروع للزجر والتشفي
ولا يحصل ذلك إلا بالمثل وكقولنا القليل من الخمر إنما حرم لأنه يدعو
إلى الكثير فيقاس عليه النبيذ
فهذا دون الأول ولذلك اختلفت فيه الشرائع أما
تحريم السكر فلا تنفك عنه شريعة لأن السكر يسد باب التكليف والتعبد
ج / 1 ص -418-
الرتبة الثانية: ما يقع في رتبة الحاجات من المصالح
والمناسبات كتسليط الولي على تزويج الصغيرة والصغير فذلك لا ضرورة إليه
لكنه محتاج إليه في اقتناء المصالح وتقييد الأكفاء خيفة من الفوات
واستغناما للصلاح المنتظر في المآل وليس هذا كتسليط الولي على تربيته
وإرضاعه وشراء الملبوس والمطعوم لأجله فإن ذلك ضرورة لا يتصور فيها
اختلاف الشرائع المطلوب بها مصالح الخلق أما النكاح في حال الصغر فلا
يرهق إليه توقان شهوة ولا حاجة تناسل بل يحتاج إليه لصلاح المعيشة
باشتباك العشائر والتظاهر بالإصهار وأمور من هذا الجنس لا ضرورة إليها
أما ما يجري مجرى التتمة لهذه الرتبة فهو كقولنا
لا تزوج الصغيرة إلا من كفؤ وبمهر مثل فإنه أيضا مناسب ولكنه دون أصل
الحاجة إلى النكاح ولهذا اختلف العلماء فيه
الرتبة الثالثة :ما لا يرجع إلى
ضرورة ولا إلى حاجة ولكن يقع موقع التحسين والتزيين والتيسير للمزايا
والمزائد ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات
مثاله :سلب العبد أهلية الشهادة مع قبول فتواه
وروايته من حيث أن العبد نازل القدر والرتبة ضعيف الحال والمنزلة
باستسخار المالك إياه فلا يليق بمنصبه التصدي للشهادة أما سلب ولايته
فهو من مرتبة الحاجات لأن ذلك مناسب للمصلحة إذ ولاية الأطفال تستدعي
استغراقا وفراغا والعبد مستغرق بالخدمة فتفويض أمر الطفل إليه إضرار
بالطفل أما الشهادة فتتفق أحيانا كالرواية والفتوى
ج / 1 ص -419-
ولكن قول القائل سلب منصب الشهادة لخسة قدره
ليس كقوله سلب ذلك لسقوط الجمعة عنه فإن ذلك لا يشم منه رائحة مناسبة
أصلا وهذا لا ينفك عن الانتظام لو صرح به الشرع ولكن تنتفي مناسبته
بالرواية والفتوى بل ذلك ينقص عن المناسب إلى أن يعتذر عنه والمناسب قد
يكون منقوصا فيترك أو يحترز عنه بعذر أو تقييد
كتقييد النكاح بالولي لو أمكن تعليله بفتور
رأيها في انتقاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظواهر لكان واقعا في الرتبة
الثانية ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها وفي نكاح الكفؤ فهو في الرتبة
الثالثة لأن ألأليق بمحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقد لأن
ذلك يشعر بتوقان نفسها إلى الرجال ولا يليق ذلك بالمروءة ففوض الشرع
ذلك إلى الولي حملا للخلق على أحسن المناهج
وكذلك تقييد النكاح بالشهادة لو أمكن تعليله
بالإثبات عند النزاع لكان من قبيل الحاجات ولكن سقوط الشهادة على رضاها
يضعف هذا المعنى فهو لتفخيم أمر النكاح وتمييزه عن السفاح بالأعلان
والإظهار عند من له رتبة ومنزلة
على الجملة فليلحق برتبة التحسينات
ج / 1 ص -420-
فإذا عرفت هذه الأقسام فنقول :
الواقع في الرتبتين الأخيرتين لا يجوز الحكم
بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل إلا أنه يجري مجرى وضع الضرورات فلا بعد
في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد وإن لم يشهد الشرع بالرأي فهو كالاستحسان
فإن اعتضد بأصل فذاك قياس وسيأتي
أما الواقع في رتبة الضرورات فلا بعد في أن يؤدي
إليه اجتهاد وإن لم يشهد له أصل معين ومثاله إن الكفار إذا تترسوا
بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار
الإسلام وقتلوا كافة المسلمين ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم
يذنب ذنبا وهذا لا عهد به في الشرع ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع
المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضا فيجوز أن يقول قائل هذا
الأسير مقتول بكل حال فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنا
نعلم قطعا أن مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان
فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتا إلى مصلحة
علم بالضرورة
ج / 1 ص -421-
كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد وأصل معين
بل بأدلة خارجة عن الحصر لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من
لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق
القياس على أصل معين
وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف أنها ضرورة
قطعية كلية
وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم
إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة فينا غنية عن القلعة فنعدل عنها
وليس في معناها إذا لم نقطع بظفرنا بها لأنها
ليست قطعية بل ظنية
مسالة: طرح واحد من سفينة مشرفة على الغرق لإنقاذ الباقين :
وليس في معناها :جماعة في سفينة لو طرحوا
واحدا منهم لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك
عدد محصور وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين ولأنه ليس يتعين واحد
للإغراق إلا أن يتعين بالقرعة ولا أصل لها وكذلك جماعة في مخمصة لو
أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا فلا رخصة فيه لأن المصلحة ليست كلية
وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظا للروح فإنه
تنقدح الرخصة فيه
ج / 1 ص -422-
لأنه إضرار به لمصلحته وقد شهد الشرع
للأضرار بشخص في قصد صلاحه كالفصد والحجامة وغيرهما
وكذا قطع المضطر قطعة من فخذه إلى أن يجد الطعام
فهو كقطع اليد لكن ربما يكون القطع سببا ظاهرا في الهلاك فيمنع منه
لأنه ليس فيه يقين الخلاص فلا تكون المصحلة قطعية
مسألة : الضرب في التهمة لإظهرا الحق
فإن قيل: فالضرب بالتهمة للاستنطاق بالسرقة
مصلحة فهل تقولون بها ؟
قلنا: قد قال بها مالك رحمه الله ولا نقول به لا
لإبطال النظر إلى جنس المصلحة لكن لأن هذه مصلحة تعارضها أخرى وهي
مصلحة المضروب فإنه ربما يكون بريئا من الذنب وترك الضرب في مذنب أهون
من ضرب بريء فإن كان فيه فتح باب يعسر معه انتزاع الأموال ففي الضرب
فتح باب إلى تعذيب البريء
فإن قيل: فالزنديق المتستر إذا تاب فالمصلحة في
قتله وأن لا تقبل توبته وقد قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله
إلا الله فماذا ترون ؟
قلنا :هذه المسألة في محل الاجتهاد ولا يبعد قتله
إذ وجب بالزندقة قتله وإنما كلمة الشهادة تسقط القتل في اليهود
والنصارى لأنهم يعتقدون ترك دينهم بالنطق بكلمة الشهادة والزنديق يرى
التقية عين الزندقة فهذا لو
ج / 1 ص -423-
قضينا به فحاصله استعمال مصلحة في تخصيص
عموم وذلك لا ينكره أحد
فإن قيل: رب ساع في الأرض بالفساد بالدعوة إلى
البدعة أو بإغراء الظلمة بأموال الناس وحرمهم وسفك دمائهم بإثارة
الفتنة والمصلحة قتله لكف شره فماذا ترون فيه.؟
قلنا: إذا لم يقتحم جريمة موجبة لسفك الدم فلا
يسفك دمه إذ في تخليد الحبس عليه كفاية شره فلا حاجة إلى القتل فلا
تكون هذه المصلحة ضرورية
فإن قيل :إذا كان الزمان زمان فتنة ولم يقدر على
تخليد الحبس فيه مع تبدل الولايات على قرب فليس في إبقائه وحبسه إلا
إيغار صدره وتحريك داعيته ليزداد في الفساد والإغراء جدا عند الإفلات
قلنا: هذا الآن رجم بالظن وحكم بالوهم فربما لا
يفلت ولا تتبدل
ج / 1 ص -424-
الولاية والقتل بتوهم المصلحة لا سبيل إليه
فإن قيل :فإذا تترس الكفار بالمسلمين فلا نقطع
بتسلطهم على استئصال الإسلام لو لم يقصد الترس بل يدرك ذلك بغلبة الظن
قلنا: لا جرم ذكر العراقيون في المذهب وجهين في
تلك المسألة وعللوا بأن ذلك مظنون ونحن إنما نجوز ذلك عند القطع أو ظن
قريب من القطع والظن القريب من القطع إذا صار كليا وعظم الخطر فيه
فتحتقر الأشخاص الجزئية بالإضافة إليه
فإن قيل: إن في توقفنا عن الساعي في الأرض
بالفساد ضررا كليا بتعريض أموال المسلمين ودمائهم للهلاك وغلب ذلك على
الظن بما عرف من طبيعته وعادته المجربة طول عمره
قلنا: لا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى قتله إذا
كان كذلك بل هو أولى من الترس فإنه لم يذنب ذنبا وهذا قد ظهرت منه
جرائم توجب العقوبة وإن لم توجب القتل وكأنه التحق بالحيوانات الضارية
لما عرف من طبيعته وسجيته
فإن قيل: كيف يجوز المصير إلى هذا في هذه المسألة
وفي مسألة الترس
ج / 1 ص -425-
وقد قدمتم أن المصلحة إذا خالفت النص لم
تتبع كإيجاب صوم شهرين على الملوك إذا جامعوا في نهار رمضان وهذا يخالف
قوله تعالى
{وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً }]النساء:
من الآية93[وقوله تعالى
{وَلا
تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ }]الأنعام:
من الآية151[ وأي ذنب لمسلم يتترس به كافر ؟
فإن زعمتم أنا نخصص العموم بصورة ليس فيها خطر
كلي فلنخصص العتق بصورة يحصل بها الانزجار عن الجناية حتى يخرج عنها
الملوك فإذا غاية الأمر في مسألة الترس أن يقطع باستئصال أهل الإسلام
فما بالنا نقتل من لم يذنب قصدا ونجعله فداء للمسلمين ونخالف النص في
قتل النفس التي حرم الله تعالى
قلنا: لهذا نرى المسألة في محل الاجتهاد ولا يبعد
المنع من ذلك ويتأيد بمثله السفينة وأنه يلزم منه قتل ثلث الأمة
لاستصلاح ثلثيها ترجيحا للكثرة إذ لا خلاف في أن كافرا لو قصد قتل عدد
محصور كعشرة مثلا وتترس بمسلم فلا يجوز لهم قتل الترس في الدفع بل
حكمهم كحكم عشرة أكرهوا على قتل أو اضطروا في مخمصة إلى أكل واحد
وإنما نشأ هذا من الكثرة ومن كونه كليا لكن للكلي
الذي لا يحصر حكم آخر أقوى من الترجيح بكثرة العدد وكذلك لو اشتبهت
أخته بنساء بلدة حل له النكاح ولو اشتبهت بعشرة وعشرين لم يحل ولا خلاف
أنهم لو تترسوا بنسائهم وذراريهم قاتلناهم وإن كان التحريم عاما لكن
تخصصه بغير هذه الصورة فكذلك هاهنا التخصيص ممكن وقول القائل هذا سفك
دم محرم معصوم يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها
ونحن نعلم أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي فإن حفظ أهل الإسلام عن
اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد فهذا مقطوع به
من مقصود الشرع والمقطوع به لا يحتاج إلى شهادة أصل
ج / 1 ص -426-
مسألة : توظيف الخراج من المصالح ، فهل إليه سبيل أم لا ؟
فإن قيل: فتوظيف الخراج من المصالح فهل إليه سبيل
أم لا قلنا لا سبيل إليه مع كثرة الأموال في أيدي الجنود أما إذا خلت
الأيدي من الأموال ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر ولو
تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام أو خيف
ثوران الفتنة من أهل العرامنة في بلاد الإسلام فيجوز للإمام أن يوظف
على الأغنياء مقدار كفاية الجند ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص
بالأراضي فلا حرج لأنا نعلم أنه إذا تعارض شران أو ضرران قصد الشرع دفع
أشد الضررين وأعظم الشرين وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما
يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام
الأمور ويقطع مادة الشرور.
وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة فإن لولي
الطفل عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد وثمن الأدوية وكل ذلك تنجيز
خسران لتوقع ما هو أكثر منه
وهذا أيضا يؤيد مسلك الترجيح في مسألة الترس لكن
هذا تصرف في الأموال والأموال مبتذلة يجوز ابتذالها في الأغراض التي هي
أهم منها وإنما لمحظور سفك دم معصوم من غير ذنب سافك
ج / 1 ص -427-
مسألة حد الشارب ثمانين هل فعله الصحابة سياسة ؟
فإن قيل: فبأي طريق بلغ الصحابة حد الشرب إلى
ثمانين ؟فإن كان حد الشرب مقدرا فكيف زادوا بالمصلحة ؟وإن لم يكون
مقدرا وكان تعزيرا فلم افتقروا إلى الشبه بحد القذف؟
قلنا :الصحيح أنه لم يكن مقدرا لكن ضرب الشارب في
زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنعال وأطراف الثياب فقدر ذلك
على سبيل التعديل والتقويم بأربعين فرأوا المصلحة في الزيادة فزادوا
والتعزيرات مفوضة إلى رأي الأئمة فكأنه ثبت الإجماع أنهم أمروا بمراعاة
المصلحة وقيل لهم اعملوا بما رأيتموه أصوب بعد أن صدرت الجناية الموجبة
للعقوبة ومع هذا فلم يريدوا الزيادة على تعزير رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلا بتقريب من منصوصات الشرع فرأوا الشرب مظنة القذف لأن من سكر
هذى ومن هذى افترى ورأوا الشرع يقيم مظنة الشيء مقام نفس الشيء كما
أقام النوم مقام الحدث وأقام الوطء مقام شغل الرحم والبلوغ مقام نفس
العقل لأن هذه الأسباب مظان هذه المعاني فليس ما ذكروه مخالفة للنص
بالمصلحة أصلا
مسألة فسخ النكاح لرفع الضرر عن امرأة المفقود ونحو
فإن قيل: فما قولكم في المصالح الجزئية المتعلقة
بالأشخاص مثل المفقود زوجها إذا اندرس خبر موته وحياته وقد انتظرت سنين
وتضررت بالعزوبة أيفسخ نكاحها للمصلحة أم لا ؟
ج / 1 ص -428-
وكذلك إذا عقد وليان أو وكيلان نكاحين
أحدهما سابق واستبهم الأمر ووقع اليأس عن البيان بقيت المرأة محبوسة
طول العمر عن الأزواج ومحرمة على زوجها المالك لها في علم الله تعالى
وكذلك المرأة إذا تباعد حيضها عشر سنين وتعوقت
عدتها وبقيت ممنوعة من النكاح هل يجوز لها الاعتداد بالأشهر أو تكتفي
بتربص أربع سنين ؟وكل ذلك مصلحة ودفع ضرر ونحن نعلم أن دفع الضرر مقصود
شرعا
قلنا: المسألتان الأوليان مختلف فيهما فهما في
محل الاجتهاد فقد قال عمر تنكح زوجة المفقود بعد أربع سنين من انقطاع
الخبر وبه قال الشافعي في القديم وقال في الجديد تصبر إلى قيام البينة
على موته أو انقضاء مدة يعلم أنه لا يعيش إليها لأنا إن حكمنا بموته
بغير بينة فهو بعيد إذ لا تدارس الأخبار أسباب سوى الموت لا سيما في حق
الخامل الذكر النازل القدر وإن فسخنا فالفسخ إنما يثبت بنص أو قياس على
منصوص والمنصوص أعذار وعيوب من جهة الزوج من أعسار وجب وعنة فإذا كانت
النفقة دائمة فغايته الامتناع من الوطء وذلك في الحضرة لا يؤثر فكذلك
في الغيبة
فإن قيل: سبب الفسخ دفع الضرر عنها ورعاية جانبها
فيعارضه أن رعاية جانبه أيضا مهم ودفع الضرر عنه واجب وفي تسليم زوجته
إلى غيره في غيبته ولعله محبوس أو مريض معذور إضرار به فقد تقابل
الضرران وما من ساعة إلا وقدوم الزوج فيها ممكن فليس تصفو هذه المصلحة
عن
ج / 1 ص -429-
معارض
وكذلك اختلف قول الشافعي في مسألة الوليين ولو
قيل بالفسخ من حيث تعذر إمضاء العقد فليس ذلك حكما بمجرد مصلحة لا
يعتضد بأصل معين بل تشهد له الأصول المعينة
أما تباعد الحيضة فلا خلاف فيها في مذهب الشافعي
ولم يبلغنا خلاف عن العلماء وقد أوجب الله تعالى التربص بالأقراء إلا
على اللائي يئسن من المحيض وليست هذه من الآيسات وما من لحظة إلا
ويتوقع فيها هجوم الحيض وهي شابة فمثل هذا القدر النادر لا يسلطنا على
تخصيص النص فإنا لم نر الشرع يلتفت إلى النوادر في أكثر الأحوال وكان
لا يبعد عندي لو اكتفي بأقصى مدة الحمل وهو أربع سنين لكن لما أوجبت
العدة مع تعليق الطلاق على يقين البراءة غلب التعبد
فإن قيل: فقد ملتم في أكثر هذه المسائل إلى القول
بالمصالح ثم أوردتم هذا الأصل في جملة الأصول الموهومة فليلحق هذا
بالأصول الصحيحة ليصير أصلا خامسا بعد الكتاب والسنة والإجماع والعقل
قلنا: هذا من الأصول الموهومة إذ من ظن أنه أصل
خامس فقد أخطأ لأنا
ج / 1 ص -430-
رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع ومقاصد
الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود
فهم من الكتاب والسنة والإجماع وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم
تصرفات الشرع فهي باطلة مطرحة ومن صار إليها فقد شرع كما أن من استحسن
فقد شرع وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودا بالكتاب
والسنة والإجماع فليس خارجا من هذه الأصول لكنه لا يسمى قياسا بل مصلحة
مرسلة إذ القياس أصل معين وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد
بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق
الإمارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة وإذا
فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه
للخلاف في اتباعها بل يجب القطع بكونها حجة
وحيث ذكرنا خلافا فذلك عند تعارض مصلحتين
ومقصودين وعند ذلك يجب ترجيح الأقوى ولذلك قطعنا بكون الإكراه مبيحا
لكلمة الردة وشرب الخمر وأكل مال الغير وترك الصوم والصلاة لأن الحذر
من سفك الدم أشد من هذه الأمور ولا يباح به الزنا لأنه مثل محذور
الإكراه
فإذا منشأ الخلاف في مسألة الترس الترجيح إذ
الشرع ما رجح الكثير على القليل في مسألة السفينة ورجح الكل على الجزء
في قطع اليد المتأكلة وهل يرجح الكلي على الجزئي في مسألة الترس؟ فيه
خلاف
ولذلك يمكن إظهار هذه المصالح في صيغة البرهان إذ
تقول في مسألة الترس مخالفة مقصود الشرع حرام
وفي الكف عن قتال الكفار مخالفة لمقصود الشرع
فإن قيل لا ننكر أن مخالفة مقصود الشرع حرام ولكن
لا نسلم أن هذه مخالفة
قلنا قهر الكفار واستعلاء الإسلام مقصود وفي هذا
استئصال
ج / 1 ص -431-
الإسلام واستعلاء الكفر
فإن قيل: فالكف عن المسلم الذي لم يذنب مقصود وفي
هذا مخالفة المقصود
قلنا: هذا مقصود وقد اضطررنا إلى مخالفة أحد
المقصودين ولا بد من الترجيح والجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي وهذا
جزئي بالإضافة فلا يعارض بالكلي
فإن قيل: مسلم أن هذا جزئي ولكن لا يسلم أن
الجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي فاحتقار الشرع له يعرف بنص أو قياس
على منصوص ؟
قلنا: قد عرفنا ذلك لا بنص واحد معين بل بتفاريق
أحكام واقتران دلالات لم يبق معها شك في أن حفظ خطة الإسلام ورقاب
المسلمين أهم في مقاصد الشرع من حفظ شخص معين في ساعة أو نهار وسيعود
الكفار عليه بالقتل فهذا مما لا يشك فيه كما أبحنا أكل مال الغير
بالإكراه لعلمنا بأن المال حقير في ميزان الشرع بالإضافة إلى الدم وعرف
ذلك بأدلة كثيرة
فإن قيل: فهلا فهمتم أن حفظ الكثير أهم من حفظ
القليل في مسألة السفينة وفي الإكراه وفي المخمصة ؟
قلنا لم نفهم ذلك إذ أجمعت الأمة على أنه لو أكره
شخصان على قتل شخص لا يحل لهما قتله وأنه لا يحل لمسلمين أكل مسلم في
المخمصة فمنع الإجماع من ترجيح الكثرة أما ترجيح الكلي فمعلوم إما على
القطع وإما بظن قريب من القطع يجب اتباع مثله في الشرع ولم يرد نص على
خلافه بخلاف الكثرة إذ الإجماع في الإكراه وفي المخمصة منع منه
فبهذه الشروط التي ذكرناها يجوز اتباع المصالح
وتبين أن الاستصلاح ليس أصلا خامسا برأسه بل من
استصلح فقد شرع
ج / 1 ص -432-
كما أن من استحسن فقد شرع وتبين به أن
الاستصلاح على ما ذكرنا وهذا تمام الكلام في القطب الثاني من الأصول |