المنثور في القواعد الفقهية

 [حَرْفُ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ] [الْخَبَرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ]
الْخَبَرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ.
(الْأَوَّلُ) مُنْحَصِرٌ فِي ثَلَاثَةٍ: الْإِقْرَارُ، وَالْبَيِّنَةُ، وَالدَّعْوَى لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَقٍّ عَلَى الْمُخْبِرِ فَهُوَ الْإِقْرَارُ، أَوْ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ الدَّعْوَى، أَوْ لِغَيْرِهِ فَهُوَ الشَّهَادَةُ. وَضَبَطَهَا ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِضَابِطٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ إنْ كَانَ ضَارًّا لِقَائِلِهِ فَهُوَ الْإِقْرَارُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَارًّا بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَافِعًا لَهُ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ (هُوَ) الدَّعْوَى، وَالثَّانِي الشَّهَادَةُ. انْتَهَى.
(وَالثَّانِي) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ عَامًّا، لَا يَخْتَصُّ (بِمُعَيَّنٍ) ، وَيَنْحَصِرُ أَيْضًا فِي ثَلَاثَةٍ: الرِّوَايَةُ، وَالْحُكْمُ، وَالْفَتْوَى لِأَنَّهُ إنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ مَحْسُوسٍ فَهُوَ الرِّوَايَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانَ فِيهِ إلْزَامٌ فَهُوَ الْحُكْمُ، وَإِلَّا فَالْفَتْوَى.
وَعُلِمَ مِنْ هَذَا ضَابِطُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ السِّتَّةِ.
وَمِنْ الْمُشْكِلِ اشْتِرَاطُهُمْ لَفْظَ الشَّهَادَةِ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ (شَهْرِ) رَمَضَانَ، وَفِي الْمُتَرْجِمِ (وَالْمُسْمِع) أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْعُمُومِ فَكَيْفَ تَلْحَقُ بِالشَّهَادَةِ الْخَاصَّةِ

(2/116)


الْخَبَرُ مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: مَنْ أَخْبَرَتْنِي مِنْكُمَا بِكَذَا فَهِيَ طَالِقٌ، فَإِذَا أَخْبَرَتَا طَلُقَتَا صَدَقَتَا أَوْ كَذَبَتَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَقْرُونِ بِالْبَاءِ وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ الْفُورَانِيُّ، لَوْ قَالَ مَنْ أَخْبَرَتْنِي مِنْكُمَا بِقُدُومِ زَيْدٍ لَمْ يَقَعْ، إلَّا إذَا أَخْبَرَتْهُ صَادِقَةً لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَصَارَ فِي مَعْنَى شَرْطِ الْقُدُومِ فِي الْإِخْبَارِ.

وَمَنْ أَخْبَرَ بِبَعْضِ الْوَاقِعِ هَلْ يُسَمَّى كَاذِبًا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَأَخْبَرَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِتِسْعِينَ فَهَلْ يَكُونُ كَاذِبًا فِي إخْبَارِهِ، وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا - لِدُخُولِ التِّسْعِينَ فِي الْمِائَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، لِذَا عُلِمَ الْحَالُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَاذِبٌ لِأَنَّ التِّسْعِينَ بَعْضُ الثَّمَنِ، وَفِي مُقَابَلَةِ جَمِيعِ (الْبَيْعِ) ، وَعَلَى هَذَا فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ.

وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً، ثُمَّ قَالَ كَذَبْت أَوْ هِيَ مُبْطَلَةٌ امْتَنَعَ الْحُكْمُ بِهَا، وَفِي بُطْلَانِ دَعْوَاهُ وَجْهَانِ (اخْتَارَ) صَاحِبُ التَّقْرِيبِ الْبُطْلَانَ لِأَنَّ الْكَذِبَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ عَدَمُ مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِمَا فِي الْخَارِجِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الشَّخْصُ ذَلِكَ، وَعَنْ صُورَةِ الْجَهْلِ احْتَرَزَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» ، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ

(2/117)


{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] لِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِالرِّسَالَةِ وَهُمْ لَا يَشْهَدُونَ بِهَا لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِهَا اعْتِقَادُهَا أَوْ الْإِخْبَارُ بِهَا عَلَى وَجْهِ الِانْقِيَادِ وَمُوَاطَأَةُ الظَّاهِرِ لِلْبَاطِنِ وَأَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ بِكَذِبِ الشُّهُودِ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَلَهُمْ حُكْمُ الْكَاذِبِينَ (إذْ) رَضُوا بِخَبَرٍ يُجَوِّزُونَ كَذِبَهُ جَوَازًا غَيْرَ بَعِيدٍ، (فَذَلِكَ) رِضًا بِالْكَذِبِ، وَهَذَا فِي قَوْلِهِ مُبْطِلِينَ غَيْرُ مُنَافٍ لِلظَّاهِرِ، فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ.

[الْخِبْرَةُ الْبَاطِنَة]
ُ قَالَ الْإِمَامُ: قَالَ الْأَئِمَّةُ: تُعْتَبَرُ فِي ثَلَاثِ شَهَادَاتٍ: الشَّهَادَةِ عَلَى أَنْ لَا وَارِثَ لَهُ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الْعَدَالَةِ، وَعَلَى الْإِعْدَامِ. قُلْت: وَالْأُولَيَانِ مِنْ مَنْصُوصَاتِ الْأُمِّ، وَشَرْطُ الثَّانِيَةِ أَنْ تَكُونَ مَعْرِفَتُهُ مُتَقَادِمَةً، قَالَ الْإِمَامُ، وَإِنَّمَا (شَرَطْنَاهَا) فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّ مُسْتَنَدَ الشَّهَادَةِ فِيهَا (السَّتْرُ) عَلَى وَجْهٍ لَا يُسْتَيْقَنُ، وَلَكِنْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى قَبُولِ الْبَيِّنَةِ فِي هَذِهِ الْمَنَازِلِ، وَالِاكْتِفَاءِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَإِلَّا لَتَعَطَّلَ تَعْدِيلُ الشُّهُودِ وَتَسْلِيمُ التَّرِكَاتِ لِلْوَرَثَةِ، وَالِاكْتِفَاءُ وَلَتَخَلَّدَ الْحَبْسُ عَلَى الْمُعْسِرِ. قَالَ: ثُمَّ أَهْلُ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ مَنْ عَاشَرَهُ سَفَرًا وَحَضَرًا، وَكَانَ يَطَّلِعُ عَلَى بَاطِنِ حَالِهِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْقَاضِي خِبْرَتَهُمْ بِإِخْبَارِهِمْ، وَلَا يُشْتَرَطُ (ذِكْرُهُ) فِي صِيغَةِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ عَلِمَ الْقَاضِي بِهِ فَلَا إشْكَالَ.
وَذَكَرَ الْأَصْحَابُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ صُورَةً رَابِعَةً، وَهِيَ إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ غَيْبَةَ وَلِيِّهَا، فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، أَنَّهُ لَا يُزَوِّجُهَا السُّلْطَانُ حَتَّى يَشْهَدَ

(2/118)


شَاهِدَانِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ (خَاصٌّ حَاضِرٌ) ، وَأَنَّهَا خَلِيَّةٌ مِنْ النِّكَاحِ وَالْعِدَّةِ وَهَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَجْهَانِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ وَلَا تُقْبَلُ فِي (هَذِهِ) إلَّا شَهَادَةُ مَنْ يَطَّلِعُ عَلَى حَالِهَا، كَمَا فِي شَهَادَةِ الْإِعْسَارِ وَحَصْرِ الْوَرَثَةِ.
وَخَامِسَةٌ ذَكَرَهَا الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ وَهِيَ الشَّهَادَةُ عَلَى الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ.
(وَسَادِسَةٌ) مَنْصُوصَةٌ فِي الْمُخْتَصَرِ (وَهِيَ) الشَّهَادَةُ بِالرُّشْدِ.

[الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ]
«الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» (هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ) وَمَعْنَاهُ مَا خَرَجَ مِنْ الشَّيْءِ مِنْ عَيْنٍ وَمَنْفَعَةٍ (وَغَلَّةٍ) فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي عِوَضَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ضَمَانِ الْمِلْكِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ كَانَ مِنْ ضَمَانِهِ، فَالْغَلَّةُ لَهُ، لِيَكُونَ الْغُنْمُ فِي مُقَابَلَةِ الْغُرْمِ.
وَقَدْ ذَكَرُوا عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ سُؤَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخَرَاجُ فِي مُقَابَلَةِ الضَّمَانِ لَكَانَتْ الزَّوَائِدُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِلْبَائِعِ تَمَّ الْعَقْدُ أَوْ انْفَسَخَ إذْ لَا ضَمَانَ حِينَئِذٍ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ (مِنْهُمْ) بِذَلِكَ، (وَإِنَّمَا) يَكُونُ لَهُ إذَا تَمَّ الْعَقْدُ حِينَئِذٍ.

(2/119)


وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْخَرَاجَ يُعَلَّلُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْمِلْكِ وَبَعْدَهُ بِالضَّمَانِ وَالْمِلْكِ جَمِيعًا، وَاقْتَصَرَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَأَقْطَعُ لِطَلَبِهِ وَاسْتِبْعَادِهِ أَنَّ الْخَرَاجَ لِلْمُشْتَرِي (يَبْذُلُهُ) ، (فَقِيلَ لَهُ) إنَّ الْغُنْمَ فِي مُقَابَلَةِ الْغُرْمِ.
الثَّانِي: لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ (الضَّمَانَ) لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الزَّوَائِدُ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَهُ أَشَدُّ مِنْ ضَمَانِ غَيْرِهِ، وَمَتَى كَانَتْ الْعِلَّةُ أَشَدَّ كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا أَوْلَى وَبِهَذَا اُحْتُجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) (فِي) أَنَّ الْغَاصِبَ لَا يَضْمَنُ مَنَافِعَ الْمَغْصُوبِ.
وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِذَلِكَ فِي ضَمَانِ الْمِلْكِ وَجَعَلَ الْخَرَاجَ لِمَنْ هُوَ مَالِكُهُ إذَا تَلِفَ» (تَلِفَ) عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ الْمُشْتَرِي وَالْغَاصِبُ لَا يَمْلِكُ الْمَغْصُوبَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَرَاجَ هُوَ الْمَنَافِعُ جَعَلَهَا لِمَنْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْغَاصِبَ لَا يَمْلِكُ الْمَنَافِعَ، بَلْ إذَا أَتْلَفَهَا، (فَالْخِلَافُ) فِي ضَمَانِهَا عَلَيْهِ، فَلَا يَتَنَاوَلُ مَوْضِعَ الْخِلَافِ، وَهَذَا جَوَابُ (الْإِمَامِ) الشَّافِعِيِّ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) .

(2/120)


نَعَمْ، خَرَجَ عَنْ (هَذَا مَسْأَلَةٌ) ، وَهِيَ مَا لَوْ أَعْتَقَتْ الْمَرْأَةُ عَبْدًا، فَإِنَّ وَلَاءَهُ يَكُونُ (لِابْنِهَا) ، وَلَوْ جَنَى (جِنَايَةً) خَطَأً فَالْعَقْلُ عَلَى عَصَبَتِهَا دُونَهُ وَقَدْ يَجِيءُ مِثْلُهُ فِي بَعْضِ الْعَصَبَاتِ يَعْقِلُ وَلَا يَرِثُ.

[الْخُطَبُ اثْنَتَا عَشْرَةَ]
َ أَرْبَعٌ فِي الصَّلَاةِ، وَأَرْبَعٌ فِي الْحَجِّ، وَأَرْبَعٌ فِي النِّكَاحِ.
فَالْأُوَلُ: خُطْبَتَا الْجُمُعَةِ وَهُمَا فَرْضَانِ، وَخُطْبَتَا الْعِيدَيْنِ، وَهُمَا سُنَّةٌ، وَكَذَلِكَ خُطْبَتَا الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَكُلُّهَا مَثْنَى إلَّا الْكُسُوفَ فَتُجْزِئُ (فِيهَا) وَاحِدَةٌ عَلَى النَّصِّ، حَكَاهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ.
وَالثَّانِي: يَوْمَ سَابِعِ ذِي الْحِجَّةِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَهِيَ فَرْدَةٌ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ بِمِنًى بَعْدَ الزَّوَالِ (خُطْبَتَيْنِ) قَبْلَ الظُّهْرِ وَخُطْبَةٌ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الزَّوَالِ.
(وَخُطْبَةُ يَوْمِ النَّفْرِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَالْجَمْعِ بَعْدَ الصَّلَاةِ) ، إلَّا خُطْبَةَ عَرَفَةَ، فَإِنَّهَا قَبْلَهَا كَالْجُمُعَةِ.
وَالثَّالِثُ: الْخُطْبَةُ عِنْدَ الْخِطْبَةِ، وَعِنْدَ إجَابَةِ الْوَلِيِّ وَعِنْدَ الْعَقْدِ وَخُطْبَةُ الزَّوْجِ عِنْدَ الْقَبُولِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ سُرَاقَةَ فِي كِتَابِ الْأَعْدَادِ، فَقَالَ: كُلُّهَا سُنَّةٌ، إلَّا الْجُمُعَةُ وَخُطْبَةُ عَرَفَةَ (فَهُمَا فَرْضٌ يُفْعَلَانِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَ الزَّوَالِ) وَكَذَا قَالَ

(2/121)


الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ صَلَاةِ (الْعِيدِ كُلُّهَا) (تَتَعَقَّبُ) الصَّلَاةَ، إلَّا الْجُمُعَةَ وَعَرَفَةَ قَالَ وَمَا يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ وَاجِبٌ، وَمَا يَتَعَقَّبُهَا سُنَّةٌ.

[الْخَطَأُ يَرْفَعُ الْإِثْمَ]
َ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» ، أَمَّا فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ الْعَامِدُ وَالْمُخْطِئُ فِيهَا سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَتْلِ الصَّيْدِ وَالْخَطَأِ فِي الْعِبَادَةِ مَرْفُوعٌ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَضَاءِ، إنْ لَمْ يُؤْمَنْ (وُقُوعُ) مِثْلِهِ فِي الْمَفْعُولِ ثَانِيًا، كَمَا لَوْ أَخْطَأَ الْحَجِيجُ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَوَقَفُوا الْعَاشِرَ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ لَا يُؤْمَنُ فِي السِّنِينَ الْمُسْتَقْبَلَةِ.
وَمِثْلُهُ الْأَكْلُ فِي الصَّوْمِ نَاسِيًا وَمُفْسِدُ الْحَجِّ بِالْجِمَاعِ، إذَا أَفْسَدَ الْقَضَاءَ بِالْجِمَاعِ، لَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُ قَضَاءٍ وَاحِدٍ.
وَلَوْ اجْتَهَدُوا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَحْرَمُوا، ثُمَّ بَانَ الْخَطَأُ عَامًّا، فَهَلْ يَنْعَقِدُ حَجًّا كَمَا لَوْ وَقَفُوا الْعَاشِرَ (أَوْ عُمْرَةً) ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرُّويَانِيُّ، أَمَّا إذَا أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ الْخَطَأُ عُذْرًا فِي إسْقَاطِ الْقَضَاءِ، كَمَا إذَا أَخْطَأَ الْحَجِيجُ فِي الْمَوْقِفِ فَوَقَفُوا فِي غَيْرِ عَرَفَةَ، فَيَلْزَمُهُمْ الْقَضَاءُ سَوَاءٌ كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا، قَالَهُ الْجُرْجَانِيُّ فِي الْمُعَايَاةِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الْمَوْقِفِ يُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ.

(2/122)


وَكَالْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ يَجِدُ النَّصَّ بِخِلَافِهِ، لَا يُعْتَدُّ بِحُكْمِهِ.
وَلَوْ صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَجَبَ الْقَضَاءُ فِي الْأَصَحِّ.
وَلَوْ اجْتَهَدَ فِي أَوَانِ أَوْ ثِيَابٍ ثُمَّ بَانَ أَنَّ الَّذِي (تَوَضَّأَ بِهِ أَوْ لَبِسَهُ) كَانَ نَجِسًا لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ.
وَلَوْ صَلَّى بِنَجِسٍ لَمْ يَعْلَمْهُ، وَجَبَ الْقَضَاءُ فِي الْجَدِيدِ،
وَلَوْ صَلَّتْ الْأَمَةُ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ، ثُمَّ أُعْتِقَتْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَكَانَ لَهَا سُتْرَةٌ وَلَمْ تَعْلَمْ بِالْعِتْقِ، إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ فَقَوْلَانِ، كَالَّتِي قَبْلَهَا.
وَلَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ نَاسِيًا وَجَبَ الْقَضَاءُ فِي الْجَدِيدِ
وَلَوْ أَكَلَ الصَّائِمُ أَوْ جَامَعَ بِاجْتِهَادٍ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ، وَكَانَ قَدْ (طَلَعَ) ، أَوْ ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ وَلَمْ (تَغْرُبْ) لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَلَوْ اجْتَهَدَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ (أَوْ اجْتَهَدَ) فِي الصِّيَامِ فَوَافَقَ شَعْبَانَ وَتَبَيَّنَ الْحَالَ بَعْدَ انْقِضَاءِ رَمَضَانَ أَوْ أَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، لِكَوْنِهِ مَعْضُوبًا فَبَرِئَ، أَوْ غَلِطُوا (فَوَقَفُوا) بِعَرَفَةَ الثَّامِنَ، أَوْ رَأَوْا سَوَادًا (فَظَنُّوهُ) عَدُوًّا، فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ فَبَانَ خِلَافُهُ أَوْ دَفَعَ الزَّكَاةَ لِمَنْ ظَنَّهُ فَقِيرًا، فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ (قَوْلَانِ وَبَعْضُهُ مُرَتَّبٌ عَلَى بَعْضٍ أَوْ أَقْوَى، وَالصَّحِيحُ فِي الْجَمِيعِ أَنَّهُ لَا يَجْزِيهِ) .

(2/123)


[الْخَلْطُ بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ بِمَنْزِلَةِ الْإِتْلَافِ]
ِ وَلِهَذَا لَوْ خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَالِهِ وَلَمْ تَتَمَيَّزْ ضَمِنَ.
وَلَوْ غَصَبَ حِنْطَةً أَوْ زَيْتًا وَخَلَطَهَا بِمِثْلِهَا فَهُوَ إهْلَاكٌ، حَتَّى يَنْتَقِلَ (ذَلِكَ) الْمَالُ إلَيْهِ وَيَتَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ بَدَلُهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَضْمَنُ ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ هَلَاكًا فِي (الْفَلَسِ) ، فَإِذَا خَلَطَ الْمُشْتَرِي صَاعُ (الْبَائِعِ) بِصَاعٍ مِثْلِهِ، ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ أَخَذَ الْبَائِعُ صَاعًا مِنْهُ مُقَدَّمًا عَلَى الْغُرَمَاءِ وَلَمْ يَسْلُكُوا بِهِ فِي الْبَيْعِ مَسْلَكَ الْغَصْبِ، وَلَا الْفَلَسِ، بَلْ جَعَلُوهُ (تَعْيِيبًا) ، فَقَالُوا: لَوْ بَاعَ فَاخْتَلَطَتْ بِغَيْرِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِي الْأَصَحِّ لِبَقَاءِ (الْمَبِيعِ) ، وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي.
وَلَوْ اخْتَلَطَ الثَّوْبُ بِأَمْثَالِهِ وَالشَّاةُ الْمَبِيعَةُ بِأَمْثَالِهَا، فَالصَّحِيحُ الِانْفِسَاخُ.
وَفِي فَتَاوَى النَّوَوِيِّ، لَوْ غَصَبَ دَرَاهِمَ أَوْ حِنْطَةً مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ شَيْئًا مُعَيَّنًا، ثُمَّ خَلَطَ الْجَمِيعَ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ، ثُمَّ فَرَّقَ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ الْمَخْلُوطِ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ يَحِلُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ قَدْرُ حَقِّهِ، وَإِنْ (فَرَّقَ) عَلَى بَعْضِهِمْ لَزِمَ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ أَنْ يُقَسِّمَ الْقَدْرَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِ وَعَلَى (الْبَاقِينَ) بِالنِّسْبَةِ إلَى قَدْرِ أَمْوَالِهِمْ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ يَصِيرُ مُشْتَرَكًا لَا مُسْتَهْلَكًا.
وَلَوْ أَوْصَى بِحِنْطَةٍ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ خَلَطَهَا كَانَ رُجُوعًا فِي الْأَصَحِّ، وَقِيلَ إنْ خَلَطَ بِأَجْوَدَ فَرُجُوعٌ.

(2/124)


وَلَوْ أَوْصَى بِصَاعٍ مِنْ صُبْرَةٍ، ثُمَّ خَلَطَهَا بِأَجْوَدَ مِنْهَا فَرُجُوعٌ فِي الْأَصَحِّ) ؛ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ بِالْخَلْطِ زِيَادَةً لَمْ يَرْضَ بِتَسْلِيمِهَا، أَوْ بِمِثْلِهَا فَلَا إذْ الْمُوصَى بِهِ كَانَ مُشَاعًا، فَلَا تَضُرُّهُ زِيَادَةُ الْخَلْطِ وَكَذَا بِأَرْدَأَ فِي الْأَصَحِّ.
وَفِي تَرْتِيبِ الْأَقْسَامِ لِلْمَرْعَشِيِّ، ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ، لَوْ خَلَطَ الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْحُبُوبِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا (كَذَلِكَ) وَهُوَ عِنْدِي جَائِزٌ، لِإِمْكَانِ تَمْيِيزِهَا، وَإِنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ (مِنْهُمَا) بَقِيَّةً، وَلَكِنْ إذَا كَانَتْ فِضَّةً مُخْتَلِطَةً بِشَيْءٍ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ مَجْهُولٌ فَهُوَ كَتُرَابِ الْمَعْدِنِ الَّذِي نَصَّ الشَّافِعِيُّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِهِ، وَكَأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى مَنْعِ الْمُعَامَلَةِ بِالْمَغْشُوشِ.

[الْخُلْفُ فِي الصِّفَةِ]
ِ (هَلْ) يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ (خُلْفِ) الْعَيْنِ الضَّابِطُ فِيهِ أَنَّ مَا قَامَ الْوَصْفُ فِيهِ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ فَهُوَ مَحَلُّ الْقَوْلَيْنِ كَالنِّكَاحِ، فَإِذَا شَرَطَ فِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَصْفَ إسْلَامٍ أَوْ حُرِّيَّةٍ فَأَخْلَفَ فَالْأَظْهَرُ الصِّحَّةُ، وَيَتَخَيَّرُ إنْ بَانَ دُونَ الْمَشْرُوطِ.
وَأَمَّا مَا لَا يُغْنِي فِيهِ الْوَصْفُ عَنْ الرُّؤْيَةِ كَالْبَيْعِ، فَلَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ خُلْفِ الْعَيْنِ قَطْعًا، فَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ أَنَّهُ كَاتِبٌ، فَبَانَ خِلَافَهُ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ قَطْعًا، وَلَكِنْ يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ، وَمِنْ ذَلِكَ بَدَلُ الْخُلْعِ، فَإِذَا قَالَ خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ الْمَرْوِيِّ، أَوْ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ، وَكَانَ هَرَوِيًّا فَقَبِلَتْ طَلُقَتْ، قَالَ الْإِمَامُ، وَقَطَعَ الْأَئِمَّةُ

(2/125)


أَجْوِبَتَهُمْ بِهِ، فَإِنَّ الْفُرْقَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَلَا نَظَرَ إلَى خُلْفِ الصِّفَةِ الْمُشْتَرَطَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الْخَلِّ أَوْ هَذَا الْعَبْدِ فَبَانَ خَمْرًا أَوْ حُرًّا، فَالْفُرْقَةُ وَاقِعَةٌ، فَإِذَا كَانَ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَالِيَّةِ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ، فَخُلْفُ الصِّفَةِ أَوْلَى.
وَمِنْ هَا هُنَا يَظْهَرُ ضَعْفُ مَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ (السَّرَخْسِيِّ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ لِحَاظِ أَنَّ الْخُلْفَ فِي الصِّفَةِ هَلْ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ خُلْفِ الْعَيْنِ أَمْ لَا.
وَمِنْهَا، لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ الْقَتْلَ (عَمْدًا، فَأَقَرَّ) بِالْقَتْلِ وَنَفَى الْعَمْدَ، فَهَلْ تُغَلَّظُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، كَمَا فِي أَصْلِ الْقَتْلِ.
وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ آكَدُ مِنْ الصِّفَةِ، فَإِذَا حَلَفَ فَهَلْ لِلْمُدَّعِي طَلَبُ الدِّيَةِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: فِيهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً (أَمْ) تَلَقِّيًا، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَيْسَ لَهُ طَلَبُ الدِّيَةِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي فَيَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْخُلْفَ فِي الصِّفَةِ، هَلْ هُوَ كَالْخُلْفِ فِي الْمَوْصُوفِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ مِنْ النِّكَاحِ، إنْ قُلْنَا نَعَمْ فَكَأَنَّهُ ادَّعَى مَالًا وَاعْتَرَفَ بِمَالٍ آخَرَ لَا يَدَّعِيهِ، وَإِنْ قُلْنَا لَا، طَالَبَ بِالدِّيَةِ، وَنَازَعَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ.
أَمَّا اخْتِلَافُ الْجِنْسِ، فَهَلْ هُوَ (كَاخْتِلَافِ) الْعَيْنِ أَوْ الصِّفَةِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ.

(2/126)


وَلِهَذَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنَّهُ كَتَّانٌ فَبَانَ قُطْنًا (أَوْ عَكْسَهُ) فَالْأَصَحُّ فَسَادُ الْعِوَضِ لِمَا (ذَكَرْنَاهُ) فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَالَعَ عَلَى عَبْدٍ فَقَبَضَ أَمَةً قَالَ الرَّافِعِيُّ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: لَوْ بَاعَ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ كَتَّانٌ فَبَانَ قُطْنًا فَسَدَ الْبَيْعُ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْمُصَحِّحَ لِلْعِوَضِ يُصَحِّحُ صُورَةَ الْبَيْعِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ.
وَلَوْ رَدَّ الْعَقْدَ فِي الصَّرْفِ عَلَى مُعَيَّنٍ، وَخَرَّجَ أَحَدُهُمَا نُحَاسًا بَطَلَ الْعَقْدُ، وَقِيلَ لَا تَغْلِيبًا لِلْإِشَارَةِ، وَيَحْتَاجُ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا (إذَا) اشْتَرَى زُجَاجَةً ظَنَّهَا جَوْهَرَةً يَصِحُّ وَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ.
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي الْجِهَةِ فَلَا يَضُرُّ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ، فِيمَا إذَا قَالَ أَنْتَ أَعْتَقْت هَذَا الْعَبْدَ فَأَنْكَرَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ وَذَكَرَ فِي بَابِ الْعَارِيَّةِ فِيمَا إذَا قَالَ الرَّاكِبُ أَعَرْتنِي هَذِهِ الدَّابَّةَ، وَقَالَ الْمَالِكُ (غَصَبْتهَا) خَرَّجَهُ الْبَغَوِيّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْجِهَةِ، وَقَالَ الْإِمَامُ لَا يُخَرَّجُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مُتَّحِدَةٌ، وَلَا أَثَرَ لِلِاخْتِلَافِ فِي الْجِهَةِ مَعَ اتِّحَادِ الْعَيْنِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ عَنْ ضَمَانٍ فَقَالَ الْمُقِرُّ لَهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لَزِمَهُ فِي الْأَصَحِّ وَاخْتِلَافُ الْجِهَةِ لَا يَمْنَعُ (الْأَخْذَ) ، لَكِنَّ الرَّافِعِيَّ صَحَّحَ فِيمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدٌ بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ، وَآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ عَنْ قَرْضٍ عَدَمَ اللُّزُومِ وَبَنَاهُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ، وَهُوَ بِنَاءٌ لَا يَصِحُّ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ فِي صُورَةِ الشَّهَادَةِ عَدَمُ تَوَارُدِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ.

[الْخِلَافُ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَبَاحِثُ]
ُ الْأَوَّلُ: يُسْتَحَبُّ الْخُرُوجُ مِنْهُ بِاجْتِنَابِ مَا اُخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِهِ وَفِعْلِ مَا اُخْتُلِفَ فِي

(2/127)


وُجُوبِهِ، إنْ قُلْنَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُصِيبُ، وَكَذَا إنْ قُلْنَا إنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا كَانَ يُجَوِّزُ خِلَافَ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَنَظَرَ فِي مُتَمَسِّكِ مُخَالِفِهِ، فَرَأَى لَهُ مَوْقِعًا، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاعِيَهُ عَلَى وَجْهٍ، وَكَذَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْمُجْتَهِدَيْنِ، إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا إمَامًا لِمَا فِي الْمُخَالَفَةِ مِنْ الْخُرُوجِ (عَلَى) الْأَئِمَّةِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) أَنَّهُ عَابَ عَلَى عُثْمَانَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) صَلَاتَهُ بِمِنًى أَرْبَعًا وَصَلَّى مَعَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: الْخِلَافُ شَرٌّ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْقَوَاعِدِ أَطْلَقَ بَعْضُ أَكَابِرِ الْأَصْحَابِ، قِيلَ وَيَعْنِي بِهِ (ابْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْخِلَافِ حَيْثُ وَقَعَ أَفْضَلُ مِنْ التَّوَرُّطِ فِيهِ، وَلَيْسَ كَمَا أَطْلَقَهُ، بَلْ الْخِلَافُ أَقْسَامٌ.
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فَالْخُرُوجُ مِنْ الْخِلَافِ (بِالِاجْتِنَابِ) أَفْضَلُ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي الِاسْتِحْبَابِ وَالْإِيجَابِ، فَالْفِعْلُ أَفْضَلُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي الشَّرْعِيَّةِ، كَقِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي الْفَاتِحَةِ، فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَاجِبَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) ، (وَكَذَلِكَ صَلَاةُ

(2/128)


الْكُسُوفِ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمَنْقُولَةِ فِي الْحَدِيثِ) ، فَإِنَّهَا سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَأَنْكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - "، " فَالْفِعْلُ أَفْضَلُ ".
قَالَ وَالضَّابِطُ أَنَّ مَأْخَذَ الْخِلَافِ، إنْ كَانَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، فَلَا نَظَرَ إلَيْهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مِمَّا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ تَقَارَبَتْ الْأَدِلَّةُ، بِحَيْثُ لَا يَبْعُدُ قَوْلُ الْمُخَالِفِ كُلَّ الْبُعْدِ، فَهَذَا مِمَّا يُسْتَحَبُّ الْخُرُوجُ مِنْهُ حَذَرًا مِنْ كَوْنِ الصَّوَابِ مَعَ الْخَصْمِ انْتَهَى.
قُلْت: لِمُرَاعَاتِهِ شُرُوطٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَأْخَذُ الْمُخَالِفِ قَوِيًّا، فَإِنْ كَانَ وَاهِيًا لَمْ " يُرَاعَ " - كَالرِّوَايَةِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ أَنْكَرَهَا وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا لَا يَصِحُّ لَهَا مُسْتَنَدٌ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مُعَارِضَةٌ

(2/129)


لَهَا، وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ " عَطَاءٍ " مِنْ إبَاحَةِ وَطْءِ الْجَوَارِي بِالْعَارِيَّةِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الرَّافِعِيِّ: إنَّمَا وَجَبَ الْحَدُّ، "؛ لِأَنَّهُمْ " لَمْ يُصَحِّحُوا النَّقْلَ عَنْهُ " فَإِنَّا " نَقُولُ وَلَوْ صَحَّ فَشُبْهَتُهُ " ضَعِيفَةٌ، لَا أَثَرَ لَهَا "، فَإِنَّ الْأَبْضَاعَ لَا تُبَاحُ بِالْإِذْنِ، كَمَا فِي بِضْعِ الْحُرَّةِ فَصَارَ كَشُبْهَةِ الْحَنَفِيِّ فِي النَّبِيذِ، فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لَهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَذَاهِبِ السَّالِفَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا أَوْ فِي مَذْهَبِنَا كَخِلَافِ الْإِصْطَخْرِيِّ فِي تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ وَقَوْلُهُ إنَّمَا حُرِّمَ لِقُرْبِ عَهْدِ النَّاسِ " بِالْأَصْنَامِ ".
وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْقَفَّالِ مُرَاعَاةُ الْخِلَافِ، وَأَنَّ ضَعْفَ الْمَأْخَذِ إذَا كَانَ فِيهِ احْتِيَاطٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي فَتَاوِيهِ، إذَا نَقَصَ " مِنْ " " الْقُلَّتَانِ " شَيْءٌ يَسِيرٌ " وَوَقَعَ فِيهِمَا " نَجَاسَةٌ، قَالَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ يَقُولُ الْقُلَّتَيْنِ خَمْسُمِائَةِ " رَطْلٍ " تَحْدِيدًا، فَإِذَا نَقَصَ شَيْءٌ وَوَقَعَ فِيهَا نَجَسٌ تَأَثَّرَتْ وَحِينَئِذٍ يَتَيَمَّمُ ثُمَّ يَقْضِي بِنَاءً عَلَى الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَثَّرُ بِالنَّجَاسَةِ، وَكَأَنَّهُ رَأَى اسْتِحْبَابَ الْإِعَادَةِ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ.
وَقَالَ الْمُتَوَلِّي فِي التَّتِمَّةِ يُسْتَحَبُّ " التَّحْجِيلُ " فِي

(2/130)


التَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ " الْأَزْهَرِيِّ "، مَسْحَ جَمِيعِ " الْيَدِ " وَاجِبٌ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ عَنْ الْخِلَافِ، هَذَا مَعَ ثُبُوتِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِالِاقْتِصَادِ عَلَى الْكَفَّيْنِ.
الثَّانِي: أَنْ لَا تُؤَدِّيَ مُرَاعَاتُهُ إلَى خَرْقِ الْإِجْمَاعِ، كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ أُذُنَيْهِ مَعَ الْوَجْهِ وَيَمْسَحُهُمَا مَعَ الرَّأْسِ وَيُفْرِدُهُمَا بِالْغَسْلِ مُرَاعَاةً لِمَنْ قَالَ إنَّهُمَا مِنْ الْوَجْهِ أَوْ الرَّأْسِ أَوْ عُضْوَانِ مُسْتَقِلَّانِ فَوَقَعَ فِي خِلَافِ الْإِجْمَاعِ، " إذْ " لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِالْجَمْعِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ مَنْ غَلَّطَهُ فِي ذَلِكَ فَغَالَطَ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " وَالْأَصْحَابَ اسْتَحَبُّوا غَسْلَ " النَّزْعَتَيْنِ " مَعَ الْوَجْهِ مَعَ أَنَّهُمَا يُمْسَحَانِ فِي الرَّأْسِ أَيْ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ قَالَ هُمَا مِنْ الْوَجْهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ " بِوُجُوبِ " غَسْلِهِمَا وَمَسْحِهِمَا، وَمَعَ ذَلِكَ اسْتَحَبُّوهُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ مُمْكِنًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَلَا يُتْرَكُ الرَّاجِحُ

(2/131)


عِنْدَ مُعْتَقَدِهِ لِمُرَاعَاةِ الْمَرْجُوحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عُدُولٌ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ اتِّبَاعِ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ قَطْعًا.
وَمِثَالُهُ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " فِي اشْتِرَاطِ الْمِصْرِ الْجَامِعِ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ، لَا يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ أَهْلَ الْقُرَى إذَا بَلَغَتْ الْعَدَدَ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ لَزِمَتْهُمْ، وَلَا " يَجْزِيهِمْ " الظُّهْرُ فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَمِثْلُهَا أَيْضًا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا إنَّ مَنْ تَقَدَّمَ الْإِمَامَ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ إعَادَتُهَا، فَإِنَّ الْقَائِلَ بِهَذَا الْوَجْهِ، لَا يُمْكِنُ مَعَهُ مُرَاعَاةُ الْقَائِلِ بِأَنَّ تَكْرَارَ الْفَاتِحَةِ مَرَّتَيْنِ مُبْطِلٌ، إلَّا أَنْ يَخُصَّ الْبُطْلَانَ بِغَيْرِ " الْعُذْرِ ".
" وَمِثْلُهَا " أَيْضًا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ مَصِيرُ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلَيْهِ، وَقَوْلُ الْإِصْطَخْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّ هَذَا آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ مُطْلَقًا وَيَصِيرُ بَعْدَهُ قَضَاءٌ، وَإِنْ كَانَ هَذَا وَجْهًا ضَعِيفًا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ مِنْ خِلَافِهِمَا جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ الصُّبْحُ، فَإِنَّ عِنْدَ الْإِصْطَخْرِيِّ " أَنْ " يَخْرُجَ وَقْتُ الْجَوَازِ بِالْأَسْفَارِ وَذَلِكَ الْوَقْتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " هُوَ الْأَفْضَلُ قُلْت يُمْكِنُ " بِفِعْلِهَا " مَرَّتَيْنِ فِي الْوَقْتَيْنِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَضْعُفُ الْخُرُوجُ مِنْ الْخِلَافِ، إذَا أَدَّى " الْمَنْعَ " مِنْ الْعِبَادَةِ لِقَوْلِ الْمُخَالِفِ بِالْكَرَاهَةِ أَوْ الْمَنْعِ كَالْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِ

(2/132)


مَالِكٍ إنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَتَكَرَّرُ فِي السَّنَةِ، وَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " إنَّهَا تُكْرَهُ " لِلْمُقِيمِ بِمَكَّةَ " فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَيْسَ التَّمَتُّعُ مَشْرُوعًا لَهُ وَرُبَّمَا قَالُوا إنَّهَا تُحَرَّمُ فَلَا يَنْبَغِي لِلشَّافِعِيِّ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ، لِضَعْفِ مَأْخَذِ الْقَوْلَيْنِ، وَلِمَا يُفَوِّتُهُ مِنْ كَثْرَةِ الِاعْتِمَارِ، وَهُوَ مِنْ الْقُرُبَاتِ الْفَاضِلَةِ.
أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَيَنْبَغِي الْخُرُوجُ مِنْ الْخِلَافِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ فِيهِ زِيَادَةُ تَعَبُّدٍ كَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ يَجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِنْشَاقُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ مِنْ وُلُوغِ كَلْبٍ ثَمَانِي مَرَّاتٍ وَالْغَسْلُ مِنْ سَائِرُ النَّجَاسَاتِ ثَلَاثًا " لِخِلَافِ " أَبِي حَنِيفَةَ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " وَسَبْعًا لِخِلَافِ أَحْمَدَ، وَالتَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِخِلَافِ أَحْمَدَ فِي وُجُوبِهَا، وَالتَّبْيِيتُ فِي نِيَّةِ صَوْمِ النَّفْلِ فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " وُجُوبُهُ، وَإِتْيَانُ الْقَارِنِ بِطَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ مُرَاعَاةً لِخِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - "، وَالْمُوَالَاةُ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ؛ لِأَنَّ مَالِكًا (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) يُوجِبُهَا وَكَذَلِكَ التَّنَزُّهُ عَنْ بَيْعِ الْعِينَةِ وَنَحْوُهُ " مِنْ " الْعُقُودِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا.
وَأَصْلُ هَذَا الِاحْتِيَاطِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ: فَأَمَّا أَنَا فَأُحِبُّ أَنْ لَا أَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ احْتِيَاطًا عَلَى نَفْسِي.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ أَفْتَى بِمَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عِنْدَهُ عَلَيْهِ أَيْ مِنْ مَرْحَلَتَيْنِ ثُمَّ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ اخْتِيَارًا لَهَا، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَرَادَ خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي

(2/133)


الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمَرِيضِ الْقَاعِدِ قَائِمًا الْأَفْضَلُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ صَحِيحًا يُصَلِّي بِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ وَكَقَوْلِهِ إذَا حَلَفَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُكَفِّرَ بِالْمَالِ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ وَقَدْ أُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ شَرَطَ لِلْقَصْرِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ فَكَانَ يَنْبَغِي اعْتِبَارُهُ وَالْجَوَابُ ضَعْفُ دَلِيلَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا وَقُوَّةُ دَلِيلِهَا.
وَمِنْ هُنَا كَانَ الصَّوْمُ أَفْضَلَ لِلْمُسَافِرِ إنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ " بِهِ " وَإِنْ كَانَتْ الظَّاهِرِيَّةُ لَا يَرَوْنَهُ جَائِزًا إذْ لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُمْ فِيمَا ضَعُفَ مَأْخَذُهُ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ إنَّ الشَّافِعِيَّ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " اعْتَبَرَ خِلَافَ " دَاوُد " فِي الْكِتَابَةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ فَقَدْ " غَلَّطَهُ " فِيهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ فَإِنَّ دَاوُد لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَ الشَّافِعِيِّ " رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ ".
قُلْت: إنَّمَا أَرَادَ دَاوُد بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارَ " " أَحَدَ أَشْيَاخِ " الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " سَمِعْت ذَلِكَ " عَنْ " بَعْضِ الْأَشْيَاخِ.
سُؤَالٌ: " لِمَ اعْتَبَرْتُمْ " الْخِلَافَ وَإِنْ وَهِيَ عَلَى رَأْيٍ ضَعِيفٍ فِي مَسْأَلَةِ عَطَاءٍ فِي

(2/134)


إبَاحَةِ الْجَوَارِي فَلَمْ تُوجِبُوا الْحَدَّ عَلَى وَجْهٍ وَلَمْ تَعْتَبِرُوا خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ بَلْ أَوْجَبْتُمْ الْقِصَاصَ جَزْمًا فَهَلَّا أَجْرَيْتُمْ خِلَافًا كَمَا أَجْرَيْتُمْ فِي مَسْأَلَةِ عَطَاءٍ وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَأَجَابَ بَعْضُ مَنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ بِأَنَّ عَطَاءً أَجَلُّ مِنْ الْمُخَالِفِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُثْقَلِ فَمِنْ ثَمَّ اُعْتُبِرَ عَلَى رَأْيٍ وَإِنْ ضَعُفَ وَهَذَا جِوَابُ بِالْجَاهِ فَإِنَّا لَا نَنْظُرُ إلَى الْقَائِلِينَ وَإِنَّمَا نَنْظُرُ إلَى الْأَقْوَالِ وَمَآخِذِهَا.
" وَإِنَّمَا الْجَوَابُ " أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " لَمْ يَقُلْ بِحِلِّ قَتْلِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالْمُثْقَلِ بَلْ هُوَ عِنْدَهُ عَظِيمٌ مِنْ الْوِزْرِ وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِهِ وَعَطَاءٌ أَبَاحَ الْجَوَارِي بِالْعَارِيَّةِ فَلَوْ أَبَاحَ أَبُو حَنِيفَةَ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " فِي الْمُثْقَلِ مَا أَبَاحَهُ عَطَاءٌ فِي الْجَوَارِي لَرُوعِيَ خِلَافُهُ وَإِنَّمَا هُوَ مُوَافِقٌ لَنَا عَلَى التَّحْرِيمِ وَمَنْ عَلِمَ حُرْمَةَ شَيْءٍ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْحَدِّ لَمْ يَنْفَعْهُ جَهْلٌ بِالْحَدِّ بِخِلَافِ مَنْ جَهِلَ الْحُرْمَةَ أَوْ يُنَازِعُ فِيهَا.
فَائِدَةٌ قَالُوا يَجِبُ الْحَدُّ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ إنْ صَحَّ رُجُوعُ " ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - "

(2/135)


لِحُصُولِ الْإِجْمَاعِ وَاسْتَشْكَلَهُ الرَّافِعِيُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْ " زُفَرَ " " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " أَنَّهُ أَلْغَى التَّأْقِيتَ وَصَحَّحَ النِّكَاحَ مُؤَبَّدًا فَيَسْقُطُ الْحَدُّ لِذَلِكَ وَيُعَضِّدُهُ أَنَّهُ صَحَّ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ السَّلَفِ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - " وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ الرُّجُوعُ فَإِنْ لَمْ نُصَحِّحْ رُجُوعَ ابْنِ عَبَّاسٍ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " فَقَدْ أَجْمَعُوا بَعْدَهُ عَلَى بُطْلَانِهَا.
فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ عَصْرٍ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ اتَّفَقَ مَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ (وَجَبَ) الْحَدُّ وَإِلَّا فَلَا كَالْوَطْءِ فِي سَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَقَدْ يُقَالُ فِي الْجَزْمِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ مُحَقَّقٌ وَإِنْ ادَّعَى الْأَوَّلُ نَفْيَهُ.
وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ إذَا أَذِنَ " الرَّاهِنُ " لِلْمُرْتَهِنِ فِي وَطْءِ الْمَرْهُونَةِ فَوَطِئَهَا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ قِيلَ لَا يُحَدُّ لِخِلَافِ عَطَاءٍ.
وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهُ فَقِيلَ إنَّ هَذَا يَبْطُلُ " بِنِكَاحِ " الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالْوَطْءِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ قَائِلٌ الْيَوْمَ فَقَالَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِهِ قَوْمٌ مِنْ بَعْدِ الْخِلَافِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالْأَخْبَارُ فِيهِ كَثِيرَةٌ بِخِلَافِ هَذَا.
قِيلَ لَهُ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَبَيْنَ شُرْبِ الْمُسْكِرِ حَيْثُ أُوجِبَ الْحَدُّ هُنَاكَ وَلَمْ يُوجَبْ هَا هُنَا فَقَالَ:؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ

(2/136)


هُنَاكَ وَقَعَ فِي الْحَدِّ، وَالْخِلَافُ فِي الْحَدِّ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ كَمَا أَنَّ الْخِلَافَ فِي الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ وَلَا نَظَرَ إلَى الْخِلَافِ كَذَا هَا هُنَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَقَعَ فِي إبَاحَةِ ذَلِكَ الْوَطْءِ وَفِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ قِيلَ لَهُ وَكَذَلِكَ هَا هُنَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ شُرْبَهُ مُبَاحٌ أَمْ لَا فَعِنْدَنَا لَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " مُبَاحٌ، فَلَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهُ بِشَيْءٍ.
وَكَتَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ دُوَيْرٌ الْكَرْخِيُّ عَلَى الْحَاشِيَةِ جَوَابًا عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ فَقَالَ: حَدُّ الْخَمْرِ لِلْجِنَايَةِ عَلَى الْعَقْلِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمَفَاسِدِ وَالْقَلِيلُ يَدْعُو إلَى الْكَثْرَةِ الْمُفْسِدَةِ فَزُجِرَ عَنْهُ تَأْكِيدًا وَهُوَ أَمْرٌ حِسِّيٌّ كَمَا فِي الْخَمْرِ وَحَدُّ الزِّنَى لِإِفْسَادِ الْفَرْشِ فِي مَوْضِعِ " إتْيَانِ " الْأَمَةِ وَذَلِكَ حُكْمٌ لَمْ يَثْبُتْ هَا هُنَا مَعَ إجَازَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مُضَافًا إلَى الشَّرْعِ بِالدَّلِيلِ فَلِذَلِكَ " سَقَطَ " " وَلِهَذَا " لَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ.

الثَّانِي: إذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ شَيْءٍ فَأَتَى بِهِ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ احْتِيَاطًا كَالْحَنَفِيِّ يَنْوِي فِي الْوُضُوءِ وَيُبَسْمِلُ فِي الصَّلَاةِ فَهَلْ يَخْرُجُ مِنْ الْخِلَافِ وَتَصِيرُ الْعِبَادَةُ مِنْهُ صَحِيحَةً بِالْإِجْمَاعِ؟ قَالَ " الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ " لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ

(2/137)


يَأْتِ بِهِ عَلَى اعْتِقَادِ وُجُوبِهِ، وَمَنْ اقْتَدَى بِهِ " مِمَّنْ يُخَالِفُهُ " لَا تَكُونُ صَلَاتُهُ صَحِيحَةً بِالْإِجْمَاعِ وَقَالَ الْجُمْهُورُ بَلْ يَخْرُجُ لِأَجَلِ وُجُودِ الْفِعْلِ وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ حَنَفِيٌّ هَذَا حَالُهُ وَآخَرُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ فَالصَّلَاةُ خَلْفَ الثَّانِي أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِالْأَوَّلِ عَنْ الْخِلَافِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَوْ قَلَّدَ فِيهِ " فَكَذَلِكَ " لِلْخِلَافِ فِي امْتِنَاعِ التَّقْلِيدِ.
فَإِنْ قِيلَ هَلْ مِنْ طَرِيقٍ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ فِي الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ. قُلْت قَدْ عَلِمْت أَنَّ الْإِتْيَانَ بِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ إيجَابِهِ لَا يَكْفِي عَلَى رَأْيٍ، وَتَقْلِيدُ مَنْ يَرَى الْوُجُوبَ " فِيهِ " وَاعْتِقَادَ " حَقِيقَتِهِ " لَا يَكْفِي أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ الْمَذَاهِبِ خِلَافٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّرَ فِعْلَ ذَلِكَ لِيَقَعَ وَاجِبًا وَلَوْ مَسَحَ الشَّافِعِيُّ جَمِيعَ رَأْسِهِ فِي الْوُضُوءِ وَصَلَّى خَلْفَهُ الْمَالِكِيُّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْخِلَافِ وَلَا يَجْرِي فِيهِ خِلَافُ أَبِي إِسْحَاقَ لِأَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا مَسَحَ الْجَمِيعَ يَقَعُ وَاجِبًا عَلَى رَأْيٍ عِنْدَنَا.
الثَّانِي: أَنَّ " الْإِمَامَ " الشَّافِعِيَّ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " " بَدَأَ " فِي " نِيَّةِ " الْوُضُوءِ بِإِجْمَاعٍ وَهَذِهِ النِّيَّةُ اقْتَضَتْ عِنْدَ مَالِكٍ " - رَحِمَهُ اللَّهُ -، " وُجُوبَ مَسْحِ الرَّأْسِ فَوَقَعَ مَسْحُ

(2/138)


الرَّأْسِ بِنِيَّةٍ وَاجِبَةٍ؛ لِأَنَّ تَفْصِيلَ النِّيَّةِ عِنْدَ كُلِّ عُضْوٍ " غَيْرُ " وَاجِبٍ لِدُخُولِهِ فِي النِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ فَظَهَرَ أَنَّهُ إذَا مَسَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ خَرَجَ مِنْ خِلَافِ مَالِكٍ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " وَإِنْ اعْتَقَدَ النَّدْبَ فِي مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ.
" نَعَمْ " يَنْبَغِي أَنْ يَمْسَحَ الْجَمِيعَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ، فَإِنْ مَسَحَ بِنِيَّةِ النَّدْبِ كَانَ صَارِفًا عَنْ وُقُوعِهِ عَنْ الْإِيجَابِ عِنْدَ مَالِكٍ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - ".
وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْقَفَّالِ يَقْتَضِي مُوَافَقَةَ الْأُسْتَاذِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي فَتَاوِيهِ اخْتِيَارِي أَنْ أُوتِرَ بِرَكْعَةٍ. فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ وَيَكُونَ احْتِيَاطًا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " فِي الْقَصْرِ فِي " ثَلَاثٍ " قُلْنَا: هَذَا لَا يُشْبِهُ ذَاكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ وَقَعَدَ فِي " الثَّانِيَةِ " لِلتَّشَهُّدِ كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " لَا يَكُونُ ذَلِكَ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْوِي بِهِ التَّطَوُّعَ وَإِنْ اتَّفَقَ الْفِعْلَانِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " يُؤَدِّي الْوِتْرَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ وَإِنْ نَوَى بِتِلْكَ الصَّلَاةِ الْوِتْرَ فَقَطْ لَا يَكُونُ أَيْضًا خُرُوجًا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ وَإِنْ نَوَى الْوِتْرَ لَا يَكُونُ (تَامًّا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْخِلَافِ لِتَضَادِّ الِاعْتِقَادِ وَفِيمَا دُونَ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ الْإِتْمَامُ) أَوْلَى مِنْ الْقَصْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ، وَإِذَا بَلَغَ ثَلَاثَ مَرَاحِلَ حِينَئِذٍ نَأْمُرُهُ بِالْقَصْرِ فَيَنْتَقِلُ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ بِيَقِينٍ.

(2/139)


الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْكَارَ مِنْ الْمُنْكِرِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا " اُجْتُمِعَ " عَلَيْهِ فَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَلَا إنْكَارَ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَلَا نَعْلَمُهُ، وَلَمْ يَزَلْ " الْخِلَافُ " بَيْنَ السَّلَفِ فِي الْفُرُوعِ وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ عَلَى غَيْرِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا خَالَفَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا قَطْعِيًّا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا وَهَذَا إذَا كَانَ الْفَاعِلُ لَا يَرَى تَحْرِيمَهُ فَإِنْ كَانَ يَرَاهُ فَالْأَصَحُّ الْإِنْكَارُ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْوَلِيمَةِ.
فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ شَرِبَ الْحَنَفِيُّ النَّبِيذَ حَدَدْنَاهُ وَأَيُّ إنْكَارٍ أَعْظَمُ مِنْ الْحَدِّ، قُلْنَا: لِأَنَّ الْحَدَّ إلَى الْإِمَامِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ عَقِيدَتُهُ وَالْإِنْكَارُ " يَعْتَمِدُهُ " عَقِيدَةُ الْفَاعِلِ وَلِهَذَا لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ.

الرَّابِعُ: قَدْ يُرْتَكَبُ فِي الْمُنَاظَرَةِ الْخِلَافُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ وَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُهُ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ فَلَا يَنْبَغِي نَقْلُهُ إلَّا إذَا تَحَقَّقَ اسْتِقْرَارُهُ عَلَيْهِ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَحْسُنْ نَقْلُ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَجْهًا فِي صَوْمِ النَّفْلِ بَعْدَ الْأَكْلِ قَبْلَ الزَّوَالِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ فَإِنَّهُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ " الْمُرَافَعَةِ "، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ نَقْلُهُ عَنْ " أَبِي يَعْقُوبَ الْأبِيوَرْدِيِّ " جَوَازَ طَوَافِ الْوَدَاعِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، قَالَ الْإِمَامُ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا

(2/140)


مِنْ حَيْثُ " إنَّهُ " أَلْزَمُ وَقِيلَ لَهُ: لَوْ جَازَ جَبْرُ طَوَافِ " الْوَدَاعِ بِالدَّمِ " لَجَازَ جَبْرُ الطَّهَارَةِ " بِهِ " كَالدَّمِ فَارْتَكَبَهُ، وَقَالَ يُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَهَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ الْجَبْرَ لِلطَّوَافِ لَا لِلطَّهَارَةِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ الْأَصْحَابِ إنَّ الْمَنْصُورَ فِي الْخِلَافِ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ طَلَاقٌ.

الْخَامِسُ: ذَكَرَ " ابْنُ هُبَيْرَةَ " فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ " قَدْ " يَتَعَذَّرُ الْخُرُوجُ مِنْ الْخِلَافِ، كَمَا فِي الْبَسْمَلَةِ فَإِنَّ الْجَهْرَ بِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " هُوَ السُّنَّةُ (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " وَأَحْمَدَ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " الْإِسْرَارُ هُوَ السُّنَّةُ) ، وَعِنْدَ مَالِكٍ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " التَّرْكُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ يُقَالُ إذَا كَانَ الْمَنْعُ مَعَ الْأَكْثَرِ كَانَ هُوَ الْأَوْلَى، هَذَا فِي الْمُقَلِّدِ، فَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَمَعَ اجْتِهَادِهِ، قَالَ: عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْيَوْمَ لَا يُتَصَوَّرُ لِاجْتِهَادِهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي قَدْ تَحَرَّرَتْ فِي الْمَذَاهِبِ ثَمَرَةٌ؛ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ " - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - " الْمُتَقَدِّمِينَ قَدْ فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ وَأَتَوْا بِمَبَالِغِ الْأَقْسَامِ لَهَا فَلَا يُؤَدِّي اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ، إلَّا إلَى مِثْلِ مَذْهَبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ انْتَهَى.

(2/141)


وَمِنْ هَذَا " أَيْضًا " قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ قَدْ يَتَعَذَّرُ الْوَرَعُ عَلَى الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، كَمَا إذَا كَانَ لِيَتِيمٍ عَلَى يَتِيمٍ حَقٌّ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهِ، فَلَا " يُمْكِنُهُ " الصُّلْحُ هَا هُنَا " إذْ لَا " يَجُوزُ الْمُسَامَحَةُ بِمَالِ أَحَدِهِمَا، وَعَلَى الْحَاكِمِ التَّوَرُّطُ فِي الْخِلَافِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ.

السَّادِسُ: إذَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي إيقَاعِ الْعِبَادَاتِ عَلَى أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ (- رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ التَّرْجِيحِ بِاخْتِيَارِ " أَحَدِهِمَا "، وَهِيَ طَرِيقَةُ " الْإِمَامِ " الشَّافِعِيِّ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " غَالِبًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ الْجَمْعِ بِفِعْلِهَا فِي أَوْقَاتٍ وَيَرَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ مِنْ الْجِنْسِ الْمُبَاحِ، وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ: مِنْهَا " الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ "، وَرَجَّحَ الشَّافِعِيُّ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " " حَدِيثَ التَّوَجُّهِ " لِمُوَافَقَتِهِ لِلْقُرْآنِ.

(2/142)


وَمِنْهَا " أَحَادِيثُ التَّشَهُّدِ " وَرَجَّحَ " الْإِمَامُ " الشَّافِعِيُّ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " " أَحَادِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِمُوَافَقَتِهِ لِلْقُرْآنِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَحْدَثِ.
وَمِنْهَا كَيْفِيَّةُ قَبْضِ أَصَابِعِ الْيُمْنَى عَلَى الرُّكْبَةِ فِي التَّشَهُّدِ " فِيهِ أَوْجُهٌ " لِاخْتِلَافِ " الْأَحَادِيثِ "، " وَأَصَحُّهَا أَنَّهُ يَضَعُهَا تَحْتَ الْمِسْبَحَةِ، كَأَنَّهُ عَاقِدٌ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ: وَكَيْفَ مَا فَعَلَ مِنْ هَذِهِ الْهَيْئَاتِ،

(2/143)


فَقَدْ أَتَى بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ قَدْ وَرَدَتْ بِهَا جَمِيعًا وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصْنَعُ هَكَذَا مَرَّةً وَهَكَذَا مَرَّةً، كَذَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ وَنَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ.
وَمِنْهَا الْجَمْعُ فِي إجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ بَيْنَ الْحَيْعَلَةِ وَالْحَوْقَلَةِ عَمَلًا " بِحَدِيثِ التَّفْصِيلِ " " وَالْإِطْلَاقِ "، " لَكِنَّ " الْإِمَامَ " الشَّافِعِيَّ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " أَخَذَ بِحَدِيثِ التَّفْصِيلِ "؛ لِأَنَّهُ مُفَسِّرٌ مُبَيِّنٌ وَهُوَ قَاضٍ عَلَى " الْمُجْمَلِ "
وَمِنْهَا الْخِلَافُ فِي تَثْنِيَةِ الْأَذَانِ وَإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ نَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُبَاحِ، وَلَيْسَ بَعْضُهُ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ وَهَذَا قَوْلٌ " مُنْطَرِحٌ " بِإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَوْلَاهُ وَأَفْضَلِهِ وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ

(2/144)


ابْنِ خُزَيْمَةَ " نَحْوَ مَا قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ.
وَمِنْهَا الِاخْتِلَافُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ " وَبَعْدَهُ "، وَرَجَّحَ الشَّافِعِيُّ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَحْدَثُ الْأَمْرَيْنِ وَفِي مَوْضِعٍ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَحُمِلَ مَا قَبْلَهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِنَقْصٍ وَبَعْدَهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِزِيَادَةٍ وَحُمِلَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا صَلَاةُ الْخَوْفِ فِي الْأَنْوَاعِ الْمَشْهُورَةِ، وَنَزَّلَهَا الشَّافِعِيُّ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " عَلَى كَوْنِ الْعَدُوِّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ تَارَةً، وَعَلَى " مَا إذَا " " لَمْ يَكُنْ " أُخْرَى وَأَخَذَ فِي صَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ " بِرِوَايَةِ سَهْلٍ " وَقَدَّمَهَا عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ؛ لِأَنَّهَا أَحْوَطُ

(2/145)


لِلْحَرْبِ وَأَقَلُّ مُخَالَفَةً لِقَاعِدَةِ الصَّلَاةِ وَمِنْهَا عَدَدُ التَّكْبِيرَاتِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ مَا وَرَدَ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ، وَالْجَمِيعُ سَائِغٌ، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ وَقَالُوا كَانَ فِيهِ خِلَافٌ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْأَرْبَعِ. نَعَمْ، لَوْ خَمْسٌ عَمْدًا لَمْ تَبْطُلْ فِي الْأَصَحِّ، " لِثُبُوتِهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، وَهُوَ ظَاهِرٌ إذَا فَعَلَهُ عَنْ اجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، وَإِلَّا فَيَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ كَالْعَابِثِ.
وَمِنْهَا " قَوْلُهُ " اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، وَيُرْوَى " بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ "، قَالَ النَّوَوِيُّ وَيَنْبَغِي الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ بَعِيدٌ، بَلْ الْأَوْلَى تَنْزِيلُهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، فَتَقُولُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً.

[الْخِيَارُ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَبَاحِثُ]
ُ الْأَوَّلُ: شُرِعَ لِدَفْعِ الْغَبْنِ، وَهُوَ إمَّا لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَوَقَّعٍ، وَهُوَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَالشَّرْطِ، فَإِنَّهُمَا إنَّمَا ثَبَتَا لِضَرَرٍ يَتَوَقَّعُ الْعَاقِدُ حُصُولَهُ فَيَسْتَدْرِكُهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَوْ مُدَّةِ الْخِيَارِ وَيَتَخَلَّصُ مِنْهُ.

(2/146)


وَإِمَّا لِدَفْعِ ضَرَرٍ وَاقِعٍ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَالشُّفْعَةِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ، وَخِيَارِ عُيُوبِ النِّكَاحِ وَنَحْوِهِ.
ثُمَّ الْخِيَارُ إنْ كَانَ مُقَدَّرًا مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ، كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَخِيَارِ التَّصْرِيَةِ، إذَا قَدَّرْنَاهُ بِهَا فَلَا يُوصَفُ بِفَوْرٍ وَلَا بِتَرَاخٍ.
وَإِمَّا أَنْ لَا يُقَدَّرَ، وَالضَّابِطُ فِيهِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي تَأْخِيرِ الِاخْتِيَارِ ضَرَرٌ عَلَى " مَنْ يُقَابِلُهُ "، فَهُوَ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الْإِجَارَةُ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِزِرَاعَةٍ فَانْقَطَعَ مَاؤُهَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْعَيْبِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ تَعَذُّرُ نَقْصِ الْمَنْفَعَةِ وَذَلِكَ يَتَكَرَّرُ بِمُرُورِ الزَّمَانِ وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الرَّافِعِيِّ، لَوْ أَجَازَ ثُمَّ بَدَا لَهُ مُكِّنَ مِنْ الْفَسْخِ إنْ كَانَ يَرْجُو زَوَالَهُ، وَقَدْ غَلَطَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جَمَاعَةٌ، فَأَفْتَوْا بِأَنَّ خِيَارَ الْمُسْتَأْجِرِ، إذَا وَجَدَ عَيْبًا عَلَى الْفَوْرِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ مِنْهُمْ ابْنُ الْجُمَّيْزِيِّ وَابْنُ السُّكَّرِيِّ

(2/147)


الثَّانِيَةُ:
كُلُّ مَقْبُوضٍ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ مِنْ سَلَمٍ أَوْ كِتَابَةٍ إذَا قَبَضَهُ فَوَجَدَهُ مَعِيبًا قَالَ الْإِمَامُ إنْ قُلْنَا بِمِلْكِهِ بِالرِّضَا، فَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّدَّ (لَيْسَ) عَلَى الْفَوْرِ، وَأَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ عَلَى الرِّضَا، وَإِنْ قُلْنَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الرَّدُّ عَلَى الْفَوْرِ، كَمَا فِي شِرَاءِ الْأَعْيَانِ وَالْأَوْجَهُ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ " مَعْقُودًا " عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْفَوْرُ فِيمَا يُؤَدِّي رَدُّهُ إلَى رَفْعِ الْعَقْدِ إبْقَاءً لِلْعَقْدِ.
وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ خِيَارُ النَّقِيصَةِ وَالْخُلْفِ وَإِذَا شَرَطَ الرَّهْنَ وَالضَّمِينَ فَلَمْ يَفِ بِهِ وَكَذَا الْعِتْقُ فِي الْعَبْدِ الْمَبِيعِ وَلَمْ يَفِ وَقُلْنَا الْعِتْقُ حَقٌّ لِلْبَائِعِ وَفِي " صُوَرِ " تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ إذَا أَثْبَتْنَا فِيهِ الْخِيَارَ. الثَّانِي: مَا هُوَ عَلَى التَّرَاخِي قَطْعًا كَخِيَارِ الْوَالِدِ فِي الرُّجُوعِ، وَخِيَارِ مَنْ أَبْهَمَ الطَّلَاقَ بَيْنَ زَوْجَتَيْهِ " أَوْ الْعِتْقَ " بَيْنَ أَمَتَيْهِ، وَخِيَارِ التَّعْيِينِ لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَى الزَّائِدِ عَلَى الْعَدَدِ الشَّرْعِيِّ، وَخِيَارِ امْرَأَةِ الْمَوْلَى، وَامْرَأَةِ الْمُعْسِرِ بِالنَّفَقَةِ، وَخِيَارِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إذَا " تَشَطَّرَ " الصَّدَاقُ، وَهُوَ زَائِدٌ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً أَوْ نَاقِصٌ، فِي الرُّجُوعِ إلَى نِصْفِهِ " أَوْ إلَى نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَخِيَارِ الْمُشْتَرِي إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ قَبْلَ قَبْضِهِ قَالَهُ " صَاحِبُ الْعُدَّةِ "

(2/148)


وَتَخْيِيرِ وَلِيِّ الدَّمِ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْقِصَاصِ.
الثَّالِثُ: مَا فِيهِ خِلَافٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ كَخِيَارِ تَلَقِّي الرُّكْبَانَ وَالْبَائِعِ فِي الرُّجُوعِ لَعَيْنِ مَتَاعِهِ بِإِفْلَاسِ الْمُشْتَرِي وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَالْفَسْخِ بِعَيْبِ النِّكَاحِ وَخِيَارِ الْخُلْفِ فِي النِّكَاحِ وَخِيَارِ الْغُرُورِ وَالْفَسْخِ بِالْإِعْسَارِ بِالْمَهْرِ.
الرَّابِعُ: مَا فِيهِ خِلَافٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي كَخِيَارِ السَّلَمِ إذَا انْقَطَعَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ عِنْدَ مَحَلِّهِ لِجَائِحَةٍ وَفِيهِ وَجْهٌ فِي التَّتِمَّةِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ إذَا جَوَّزْنَا بَيْعَ الْغَائِبِ عِنْدَ امْتِدَادِ مَجْلِسِ الرُّؤْيَةِ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: مُدَّةُ الْخِيَارِ فِي الْعَقْدِ هَلْ تُجْعَلُ كَابْتِدَائِهِ؟ هُوَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَيَلْحَقُ بِهِ كَمَا إذَا زَادَ فِي الثَّمَنِ " أَوْ الْمُثَمَّنِ أَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ أَوْ الْأَجَلَ " أَوْ قَدْرَهُمَا " عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ وَلِأَنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ

(2/149)


كَنَفْسِ الْعَقْدِ إذْ يَصِحُّ فِيهِ تَعْيِينُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَالْعِوَضِ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ.
وَمِنْهُ لَوْ أَلْحَقَ بِالْعَقْدِ شَرْطًا فَاسِدًا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَعَلَى الْخِلَافِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ كَالْمُقَارَنِ لَهُ.
وَمِنْهُ إذَا " أَطْلَقَا " عَقْدَ السَّلَمِ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْحُلُولِ فَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى التَّأْجِيلِ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ " عَلَى " الْأَصَحِّ وَكَذَا لَوْ عَقَدَاهُ مُؤَجَّلًا ثُمَّ إنْ أَسْقَطَا فِي الْمَجْلِسِ صَارَ حَالًّا.
الثَّانِي: الْعَقْدُ الْفَاسِدُ لِاقْتِرَانِ شَرْطٍ بِهِ لَوْ " حَذَفَاهُ " فِي الْمَجْلِسِ لَمْ يَنْقَلِبْ الْعَقْدُ صَحِيحًا فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لَا عِبْرَةَ بِهِ فَلَا يَكُونُ لِمَجْلِسِهِ حُكْمٌ وَكَمَا لَوْ كَانَ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ دَرَاهِمُ فَقَالَ أَسْلَمْت إلَيْك الدَّرَاهِمَ الَّتِي فِي ذِمَّتِك فِي كَذَا فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ الْأَجَلَ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، " وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ حَالًّا " وَلَمْ يَقْبِضْ الْمُسَلَّمَ فِيهِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَإِنْ أَحْضَرَهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ " وَسَلَّمَهُ " فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ صَالَحَ مِنْ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ عَلَى دَنَانِيرَ وَسَلَّمَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُسَلَّمِ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا أَنَّهُ لَوْ بَاعَ طَعَامًا بِطَعَامٍ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ تَبَرُّعًا بِالْإِحْضَارِ وَالْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لَمْ يَنْقَلِبْ الْعَقْدُ صَحِيحًا.

الثَّالِثُ: قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: إذَا انْعَقَدَ الْبَيْعُ لَمْ يَتَطَرَّقْ إلَيْهِ الْفَسْخُ إلَّا بِأَحَدِ سَبْعَةِ أَشْيَاءَ

(2/150)


وَهِيَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ، وَخِيَارُ الْخُلْفِ كَأَنْ شَرَطَهُ الْبَائِعُ كَاتِبًا فَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَخِيَارُ الْعَيْبِ "، وَالْإِقَالَةُ، وَالتَّحَالُفُ، وَتَلَفُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ.
وَأَمَّا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ إذَا جَوَّزْنَاهُ فَهُوَ مُلْحَقٌ فِي الْمَعْنَى بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَخِيَارُ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ يَرْجِعُ لِلْعَيْبِ وَخِيَارُ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْعِتْقِ الْمَشْرُوطِ يَرْجِعُ لِلْخُلْفِ فِي الشَّرْطِ وَقَدْ " تُرَدُّ " هَذِهِ الْخِيَارَاتُ الْأَرْبَعُ إلَى اثْنَيْنِ فَيُقَالُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارُ النَّقِيصَةِ فَيَدْخُلُ فِي الْأَوَّلِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ وَرُؤْيَةِ الْمَبِيعِ الْغَائِبِ وَفِي الثَّانِي الْعَيْبُ وَالْخُلْفُ. وَقَدْ يَرِدُ عَلَى الْحَصْرِ صُوَرٌ مِنْهَا اخْتِلَاطُ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهِ.
وَمِنْهَا خِيَارُ تَعَذُّرِ قَبْضِ الثَّمَنِ فِي الْأَصَحِّ وَخِيَارُ الرُّجُوعِ فِي الْمَبِيعِ عِنْدَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الْبَائِعَ وَكِيلٌ، أَوْ أَمِينٌ حَاكِمٌ، أَوْ وَصِيٌّ، أَوْ أَبٌ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ، فَهَلْ " يُرَدُّ " بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ؟ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا نَعَمْ لِمَا يُخَافُ مِنْ فَسَادِ النِّيَابَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الدَّرْكِ، وَالْأَصَحُّ لَا، لِجَوَازِ " تَبَرُّعِهِمْ " وَحَكَى فِي الْبَحْرِ وَجْهًا ثَالِثًا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ الْوَلِيُّ ثِقَةً ظَاهِرًا فَلَهُ الْخِيَارُ.

الرَّابِعُ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَوْدِهِ بَعْدَ إسْقَاطِهِ
ضَابِطُهُ: أَنَّ الْخِيَارَ يَسْتَدْعِي وُجُودَ سَبَبِهِ فَمَتَى وُجِدَ ثَبَتَ الْخِيَارُ ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ مَا ثَبَتَ بِهِ الْخِيَارُ شَيْئًا وَاحِدًا " يُوجَدُ " جُمْلَةً وَيَظْهَرُ نَفْعُهُ وَضَرَرُهُ حَالَةَ ظُهُورِهِ كَالْعَيْبِ وَالْقِصَاصِ فَمَتَى وُجِدَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَإِسْقَاطُ الْقِصَاصِ فَلَا رُجُوعَ، وَكَذَا لَوْ رَضِيَتْ بِإِعْسَارِهِ بِالصَّدَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْعَوْدُ إلَى الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ لَا يَتَجَدَّدُ وَإِنْ كَانَ مَا ثَبَتَ بِهِ الْخِيَارُ يَثْبُتُ فِي الْأَزْمِنَةِ وَيَتَجَدَّدُ كَالْخِيَارِ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ بِالْإِعْسَارِ

(2/151)


بِالنَّفَقَةِ وَالْإِيلَاءِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِانْقِطَاعِ النَّفَقَةِ وَالْوَطْءِ وَهُوَ يَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَإِنَّ لِكُلِّ زَمَانٍ نَفَقَةً وَوَطْئًا.
فَإِذَا رَضِيَ فِي زَمَنٍ ثَبَتَ الْخِيَارُ فِي الزَّمَنِ الْآخَرِ لَكِنْ إذَا " عَادَتْ " فِي النَّفَقَةِ اُسْتُؤْنِفَتْ الْمُدَّةُ بِنَاءً عَلَى " قَوْلِ " الْإِمْهَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا رَضِيَتْ بِتَرْكِ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَيْئَةِ ثُمَّ عَادَتْ " فَطَلَبَتْ " لَا تَحْتَاجُ لِضَرْبِ الْمُدَّةِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُدَّةَ تُضْرَبُ بِطَلَبِهَا فَسَقَطَتْ بِإِسْقَاطِهَا وَالْمُدَّةُ فِي الْإِيلَاءِ تُضْرَبُ بِغَيْرِ طَلَبِهَا " وَمِثْلُهُ " انْقِطَاعُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ يُوجِبُ الْخِيَارَ فَلَوْ أَجَازَ ثُمَّ بَدَا لَهُ مُكِّنَ مِنْ الْفَسْخِ " كَزَوْجَةِ " الْمَوْلَى، وَوَجَّهَهُ الْإِمَامُ بِأَنَّ هَذِهِ الْإِجَازَةَ إنْظَارٌ قَالَ الرَّافِعِيُّ وَقَدْ يَتَوَقَّفُ النَّاظِرُ فِي كَوْنِهَا إنْظَارًا وَيَمِيلُ إلَى أَنَّهَا إسْقَاطُ حَقٍّ كَإِجَازَةِ زَوْجَةِ الْعِنِّينِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ فِيهِ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ حَكَى وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ لَوْ صُرِّحَ بِإِسْقَاطِ حَقِّ الْفَسْخِ هَلْ يَسْقُطُ وَقَالَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ.
وَمِثْلُهُ السَّيِّدُ لَوْ فَسَخَ الْكِتَابَةَ إذَا عَجَزَ الْعَبْدُ نَفْسُهُ فَلَوْ أَنْظَرَهُ ثُمَّ بَدَا لَهُ جَازَ الْفَسْخُ قَالَهُ الْإِمَامُ فِي " بَابِ " الْكِتَابَةِ.
وَمِثْلُهُ إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لَهَا مَاءٌ فَانْقَطَعَ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فَإِنْ أَجَازَ ثُمَّ نَدِمَ وَأَرَادَ الْفَسْخَ فَلَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ إجَازَتَهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى تَوَقُّعِ الْعَوْدِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَفْسَخَ بَعْدَ مَا قَدَّمَ الْإِجَازَةَ قَالَ الْإِمَامُ وَهَذَا شَبَّهَهُ " الْأَصْحَابُ " فِي خِيَارِ الْمَرْأَةِ بِالنَّفَقَةِ وَالْإِيلَاءِ.
وَمِثْلُهُ إذَا قَتَلَ الْأَجْنَبِيُّ الْعَبْدَ فِي يَدِ الْبَائِعِ تَخَيَّرَ الْمُشْتَرِي فَإِنْ قَالَ أَبْتَعُ هَذَا الْجَانِي بِالْقِيمَةِ وَرَضِيت بِهِ وَلَا أَفْسَخُ الْبَيْعَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ أَنَا أَفْسَخُ الْبَيْعَ قَالَ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ لَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ غَصَبَ الْمَبِيعَ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ فَإِنَّ لِلْمُشْتَرِي الْفَسْخَ فَلَوْ

(2/152)


أَجَازَ وَقَالَ رَضِيت بِمُطَالَبَةِ الْغَاصِبِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بَدَا لَهُ الْفَسْخُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ.
فَقِيلَ لَهُ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ بِالْقِيمَةِ فِي " ذِمَّةِ " الْجَانِي كَالْمَقْبُوضِ " لِلْمُشْتَرِي كَمَا فِي الْمُحْتَالِ لَا يَرْجِعُ بَعْدَ الْحَوَالَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْقِيمَةِ فِي ذِمَّتِهِ وَأَنَّهَا كَالْمَقْبُوضَةِ لَهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ عَنْ تِلْكَ الْقِيمَةِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ " حُكْمًا قَالَ " الشَّيْخُ فِي الِاسْتِبْدَالِ نَظَرٌ، قِيلَ: وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْغَصْبِ أَنَّ الْخِيَارَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِتْلَافِ لِأَجْلِ الْعَيْبِ " سَقَطَ " بِالرِّضَا وَفِي الْغَصْبِ لِعَدَمِ الْقَبْضِ وَتَعَذُّرِهِ وَالْقَبْضُ مُسْتَحَقٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ.
" وَمِنْهُ " الْمُمَيِّزُ إذَا اخْتَارَ أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ كَانَ عِنْدَهُ، فَلَوْ اخْتَارَ بَعْدَهُ الْآخَرَ حُوِّلَ إلَيْهِ.

الْخَامِسُ: إذَا اجْتَمَعَ أَنْوَاعٌ مِنْ الْخِيَارِ كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ وَالْعَيْبِ فَفَسَخَ الْعَاقِدُ قَالَ الدَّارِمِيُّ فِي كِتَابِهِ جَامِعِ الْجَوَامِعِ يُنْظَرُ إنْ صَرَّحَ بِالْفَسْخِ بِجَمِيعِهَا انْفَسَخَ بِالْجَمِيعِ وَإِنْ صَرَّحَ بِالْبَعْضِ انْفَسَخَ بِهِ وَإِنْ أَطْلَقَ يَنْفَسِخُ بِالْجَمِيعِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ قُلْت: وَيُحْتَمَلُ انْصِرَافُهُ لِلْمُتَقَدِّمِ إنْ تَرَتَّبَتْ " فِي ذِمَّتِهِ ".
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمِلْكَ فِي زَمَنِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ مَوْقُوفٌ وَأَمَّا فِي زَمَنِ خِيَارِ الشَّرْطِ فَفِيهِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَالْمِلْكُ لَهُ أَوْ لِلْمُشْتَرِي فَلَهُ أَوَّلُهُمَا فَمَوْقُوفٌ فَإِذَا

(2/153)


اجْتَمَعَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ " وَخِيَارُ الشَّرْطِ لِأَحَدِهِمَا فَقَدْ تَنَافَيَا؛ لِأَنَّ قَضِيَّةَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ " تُعْطِي كَوْنَ الْمِلْكِ مَوْقُوفًا وَقَضِيَّةَ كَوْنِهِ لِأَحَدِهِمَا تُعْطِي كَوْنَهُ لِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ فَمَا الْمُغَلَّبُ؟ الظَّاهِرُ تَغَلُّبُ خِيَارِ الشَّرْطِ لِثُبُوتِهِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَحِينَئِذٍ فَلَوْ انْقَطَعَ خِيَارُ الشَّرْطِ وَهُمَا مُجْتَمِعَانِ فَالظَّاهِرُ بَقَاءُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِعَدَمِ التَّفَرُّقِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ إنَّمَا رَفَعَ الْمُدَّةَ لَا أَصْلَ الْخِيَارِ.

(2/154)