المنثور في القواعد الفقهية

 [قَوَاعِدُ يُخْتَمُ بِهَا] [مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِينَ]
الْأُولَى: مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ (تَعَالَى) عَلَى الْمُكَلَّفِينَ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ جِنَايَةً وَيُسَمَّى عُقُوبَةً وَالْجِنَايَاتُ سَبْعٌ.
وَإِلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ إتْلَافًا وَيُسَمَّى ضَمَانًا وَإِلَى مَا يَكُونُ سَبَبُهُ الْتِزَامًا وَيُسَمَّى ثَمَنًا أَوْ أُجْرَةً أَوْ مَهْرًا أَوْ غَيْرَهُ.
وَمِنْهُ أَدَاءُ الدُّيُونِ وَالْعَوَارِيّ وَالْوَدَائِعُ وَاجِبَةٌ بِالِالْتِزَامِ وَنَفَقَةُ الْقَرِيبِ وَالزَّوْجَةِ وَالرَّقِيقِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَةِ الضَّمَانِ وَإِنَّمَا هُوَ الْتِمَاسُ إتْلَافٍ بِعِوَضٍ وَكَذَلِكَ اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى كَذَا وَكَذَا الْتِزَامُ الْجُعْلِ فِي الْجَعَالَةِ وَبَدَلِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَعِوَضِ الْقَرْضِ وَسَائِرِ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَهَذَا غَيْرُ الِالْتِزَامِ بِضَمَانِ الْغَيْرِ وَمِنْهُ نَوْعٌ يُسَمَّى فِدَاءً كَخُلْعِ الْأَجْنَبِيِّ وَفِدَاءِ الْأَسِيرِ (وَكَذَا) الْإِقْرَارُ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ ثُمَّ (يَشْتَرِيهِ) وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُعَاوَضَاتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فَأَمَّا خُرُوجُ الْمَدْفُوعِ عَنْ مِلْكِ دَافِعِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ فَإِنْ وَقَعَ فِي مُعَاوَضَةٍ فَذَاكَ.

(3/392)


وَمِنْهُ الِافْتِدَاءُ فِي الْخُلْعِ فَإِنَّ فِيهِ إزَالَةَ مِلْكٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الزَّوْجِ بِإِزَالَةِ يَدِ الْعِصْمَةِ وَجَانِبِ الْبَاذِلِ فَإِنَّ فِيهِ إزَالَةَ مِلْكِهِ عَنْ الْمَالِ الْمَبْذُولِ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ عَلَى عِوَضٍ.
وَأَمَّا افْتِدَاءُ الْأَسِيرِ فَلَيْسَ فِيهِ إزَالَةُ مِلْكٍ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَمْ يَمْلِكْ الْمُسْلِمَ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْفَادِي فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَمَّا بَذَلَ مِنْ الْفِدَاءِ وَالْكَافِرُ لَا يَمْلِكُهُ وَإِنَّمَا نُعْطِيهِ لَهُ لِلضَّرُورَةِ.
وَلِهَذَا لَوْ ظَفِرْنَا بِهِ أَعْطَيْنَاهُ لَهُ.
وَأَمَّا افْتِدَاءُ الْحُرِّ مِمَّنْ يَسْتَرِقُّهُ فَإِنْ عَلِمَ صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهُ ظَالِمٌ فَكَالْأَسِيرِ وَإِنْ جَهِلَ كَانَ مَعْذُورًا.
وَأَمَّا ضَمَانُ السَّفِينَةِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى الْغَرَقِ وَلَا يُنْقِذُهُمْ إلَّا إلْقَاءُ الْمَتَاعِ يَجِبُ إلْقَاؤُهُ وَلَكِنْ بِعِوَضٍ إذَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ تَعُودُ إلَى غَيْرِ صَاحِبِ الْمَتَاعِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ: إنَّ الْمُلْقَى (لَا) يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ حَتَّى لَوْ لَفَظَهُ الْبَحْرُ عَلَى السَّاحِلِ وَظَفِرْنَا بِهِ فَهُوَ لِمَالِكِهِ وَيُسْتَرَدُّ (أَيْضًا مِنْهُ) الْمَبْذُولُ وَهَلْ لِلْمَالِكِ أَنْ يَمْسِكَ مَا يَأْخُذُهُ وَيَرُدُّ بَدَلَهُ؟ فِيهِ خِلَافٌ كَالْخِلَافِ فِي الْعَيْنِ الْمُقْرَضَةِ إذَا كَانَتْ بَاقِيَةً هَلْ لِلْمُقْرَضِ إمْسَاكُهَا وَرَدُّ بَدَلِهَا؟

[مَنْ مَلَكَ شَيْئًا لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهِ]
الثَّانِيَةُ: مَنْ مَلَكَ شَيْئًا لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهِ عَيْنًا كَانَ أَوْ مَنْفَعَةً بِالتَّمْلِيكِ بِأَنْوَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَبِالْإِبْرَاءِ، إنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ كَإِسْقَاطِ الْأَبِ حَقَّ الْوِلَايَةِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ أَوْ التَّزْوِيجِ لَا يَسْقُطُ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ اسْتِحْقَاقُ حَقٍّ كَهِبَةِ الْمَرْأَةِ نَوْبَتَهَا لِضَرَّتِهَا وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَخُصَّ بِهِ غَيْرَهَا وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ شَائِعًا بَيْنَ بَقِيَّةِ النِّسَاءِ،

(3/393)


وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ النُّزُولَ عَنْ الْوَظَائِفِ وَهُوَ صَحِيحٌ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ فَإِنْ كَانَ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) فِي صُورَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَكَذَلِكَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ وَالتَّحَجُّرُ وَمَقَاعِدُ الْأَسْوَاقِ.
وَعَنْ الْمَاوَرْدِيِّ إذَا كَانَ لِإِنْسَانٍ غَرَضٌ فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ فَاسْتَنْزَلَ عَنْهَا زَوْجُهَا بِمَالٍ جَازَ وَفِيهِ نَظَرٌ وَلَا يُسْتَدَلُّ لَهُ بِقِصَّةِ (سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ) حَيْثُ قَالَ (لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) : (اُنْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ شِئْت أَنْزِلُ لَك عَنْهَا) فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ.
وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ اسْتِنْبَاطُهُ مِنْ صُورَةِ الْخُلْعِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِضَرُورَةِ الِافْتِدَاءِ وَخَرَجَ عَنْ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ شَيْءٌ فِي مُقَابَلَةِ (مَا بَذَلَهُ) .
نَعَمْ وَرَدَ أَنَّ (الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ) نَزَلَ عَنْ الْخِلَافَةِ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ

(3/394)


قَالَ (ابْنُ بَطَّالٍ) فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ (فِيهِ) مِنْ الْفِقْهِ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الِانْخِلَاعِ مِنْ الْخِلَافَةِ وَالْعَهْدِ بِهَا عَلَى أَخْذِ مَالٍ جَائِزٌ لِلْمُخْتَلَعِ وَالْمَالُ لَهُ طَيِّبٌ، وَكَذَلِكَ هُوَ جَائِزٌ لِلْمُصَالِحِ الدَّافِعِ لِلْمَالِ وَكَانَ ذَكَرَ قَبْلَ ذَلِكَ قَوْلَ الْحَسَنِ: إنَّا بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَمَجْبُولُونَ عَلَى الْكَرَمِ وَالتَّوَسُّعِ لِمَنْ حَوَالَيْنَا مِنْ الْأَهْلِ وَالْمَوَالِي، وَقَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ مَا صَارَتْ لَنَا بِهِ عَادَةُ اتِّفَاقٍ وَإِفْضَالٍ عَلَى الْأَهْلِ وَالْحَاشِيَةِ فَإِنْ، تَخَلَّيْت عَنْ هَذَا الْأَمْرِ قَطَعْنَا الْعَادَةَ فَقَالَ (مُعَاوِيَةُ) : نَفْرِضُ لَك مِنْ الْمَالِ (عَلَى الْعَامِ) كَذَا وَمِنْ الْأَقْوَاتِ وَالثِّيَابِ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ لِكُلِّ مَا ذَكَرْت فَصَالَحَهُ عَلَى ذَلِكَ.

[اتِّبَاعُ خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ وَاجْتِنَابُ شَرِّ الشَّرَّيْنِ]
الثَّالِثَةُ: اتِّبَاعُ خَيْرِ " الْخَيْرَيْنِ مَطْلُوبٌ وَاجْتِنَابُ شَرِّ الشَّرَّيْنِ (فِيهِ) مَرْغُوبٌ

(3/395)


[حَدِيثُ النَّفْسِ الْوَارِدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْرَارٍ]
الرَّابِعَةُ: حَدِيثُ النَّفْسِ الْوَارِدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْرَارٍ (فِي الْقَلْبِ) مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الشَّرِّ مَكْتُوبٌ فِي الْخَيْرِ فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِي الْقَلْبِ وَوَقَعَ الْإِصْرَارُ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ فِي الْمُحَرَّمِ وَيَنْقُصُ الْأَجْرُ فِي الْمَكْرُوهِ وَيُتَجَاوَزُ عَنْهُ فِي الْمُبَاحِ وَيَزْدَادُ الْأَجْرُ بِهِ فِي الْوَاجِبِ (وَالْمَنْدُوبِ وَالْعَمَلِ) بِمَا اسْتَقَرَّ (يَنْزِلُ) عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي زِيَادَةِ الْأَجْرِ وَحُصُولِ الْإِثْمِ وَعَدَمِهِمَا وَسَبَقَ (فِي حَرْفِ الْحَاءِ) .

[الْأَخْذُ بِالرُّخَصِ وَالْعَزَائِمِ فِي مَحَلِّهَا]
الْخَامِسَةُ: الْأَخْذُ بِالرُّخَصِ وَالْعَزَائِمِ فِي مَحَلِّهَا مَطْلُوبٌ رَاجِحٌ فَإِذَا قَصَدَ بِالرُّخْصَةِ قَبُولَ فَضْلِ اللَّهِ (تَعَالَى) كَانَ أَفْضَلَ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» إذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَطْلُوبُ الشَّرْعِ الْوِفَاقُ وَرَدُّ الْخِلَافِ إلَيْهِ.
وَلِهَذَا كَانَ عَمَلُ الْأَئِمَّةِ عَلَى الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مَا أَمْكَنَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَزَائِمِ وَالْعَمَلِ بِالْمُخْتَلِفِ فِيهِ مِنْ بَابِ الرُّخَصِ (فَإِذَا وَقَعَ لِلْإِنْسَانِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ وَأَمْكَنَهُ الْأَخْذُ فِيهِ بِالْعَزِيمَةِ) (فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ) (وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْقُوَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ

(3/396)


الْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ) أَخَذَ بِالرُّخْصَةِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْقُوَّةِ (وَإِنْ) كَانَ رَاجِحًا، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ (الضَّعْفِ) إنْ كَانَ مَرْجُوحًا فَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُخَالَفَةِ الْمَحْضَةِ.
إذَا عَلِمْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَتَقَلَّدْ أَمْرًا لِلْمُسْلِمِينَ رُخْصَةً وَعَزِيمَةً إلَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقَوَاعِدِ فَلْتَعْرِفْ مَقَاصِدَهُمْ وَتَقْتَدِي بِأَفْعَالِهِمْ.

[الشَّرِيعَةُ قِسْمَانِ مَأْمُورَاتٌ وَمَنْهِيَّاتٌ]
السَّادِسَةُ: الشَّرِيعَةُ قِسْمَانِ مَأْمُورَاتٌ وَمَنْهِيَّاتٌ وَاعْتِنَاءُ الشَّرْعِ بِالْمَنْهِيَّاتِ فَوْقَ اعْتِنَائِهِ بِالْمَأْمُورَاتِ.
وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» .
وَمِنْ ثَمَّ سُومِحَ فِي تَرْكِ (بَعْضِ) الْوَاجِبَاتِ بِأَدْنَى مَشَقَّةٍ فِي الْإِقْدَامِ كَالْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ وَعَنْ الصَّوْمِ.
وَالْفَاقِدِ لِلْمَاءِ يَعْدِلُ لِلتَّيَمُّمِ وَلَمْ يُسَامَحْ

(3/397)


فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ) وَخُصُوصًا الْكَبَائِرَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْقَتْلِ (أَوْ الزِّنَى أَوْ الْمُضْطَرَّ) إلَى تَنَاوُلِ الْخَمْرِ لَا يُبَاحُ لَهُمْ وَإِنْ عَظُمَتْ الْمَشَقَّةُ فِي التَّرْكِ حَتَّى بَلَغَتْ الرُّوحَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَامَحَةَ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْسَعُ مِنْ الْمُسَامَحَةِ فِي فِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَإِنْ بَلَغَ الْعُذْرُ نِهَايَتَهُ
(وَانْبَنَى) عَلَى ذَلِكَ قَوَاعِدُ: مِنْهَا: أَنَّ النِّسْيَانَ لَيْسَ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ وَهُوَ عُذْرٌ فِي الْمَنْهِيَّاتِ وَقَدْ (سَبَقَتْ) .

[الْمُطَارَحَاتُ]
ُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي أَوَّلِ الْمُطَارَحَاتِ التَّحَاسُدُ عَلَى الْعِلْمِ دَاعِيَةُ التَّعَلُّمِ وَمُطَارَحَةُ الْأَقْرَانِ فِي الْمَسَائِلِ ذَرِيعَةٌ إلَى الدِّرَايَةِ وَالتَّنَاظُرُ فِيهَا يُنَقِّحُ الْخَوَاطِرَ وَالْأَفْهَامَ، وَالْخَجَلُ الَّذِي يَحِلُّ بِالْمَرْءِ مِنْ غَلَطِهِ يَبْعَثُهُ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِ الْعِلْمِ لِيَعْلَمَ وَيَتَصَفَّحَ الْكُتُبَ فَيَتَسَبَّبُ بِذَلِكَ إلَى بَسْطِ الْمَعَانِي وَيَحْفَظُ الْكُتُبَ.

مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِخَمْسِ وُضُوآت فَلَمَّا فَرَغَ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ مَسْحَ الرَّأْسِ فِي أَحَدِهَا وَلَمْ يَعْرِفْ عَيْنَهُ فَجَاءَ إلَى الْمُفْتِي وَلَمْ يُحْدِثْ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ

(3/398)


لَهُ) : تَوَضَّأْ وَأَعِدْ الْخَمْسَ (فَتَوَضَّأَ وَأَعَادَ الْخَمْسَ) فَلِمَا فَرَغَ تَيَقَّنَ أَنَّهُ (تَرَكَ) مَسْحَ الرَّأْسِ فِي هَذَا الْوُضُوءِ أَيْضًا فَجَاءَ إلَى الْمُفْتِي فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ (لَهُ) : تَوَضَّأْ وَأَعِدْ الْعِشَاءَ (الْآخِرَةَ) .
وَقَدْ يَسْتَشْكِلُ ذَلِكَ وَحَلُّهُ أَنَّ وُضُوءَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا أَوْ بَاطِلًا فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا وَتَرَكَ الْمَسْحَ مِنْ غَيْرِهِ فَقَدْ أَعَادَ الْخَمْسَ (بِوُضُوءٍ صَحِيحٍ) وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا بِأَنْ يَكُونَ تَرَكَ الْمَسْحَ فِيهِ فَلَا يَلْزَمُ إلَّا الْعِشَاءُ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْمَسْحَ فِيهِ وَغَيْرُهُ وَقَعَ صَحِيحًا، وَلَوْ لَمْ يُعِدْ الْوُضُوءَ فِي الْأُولَى بَلْ أَعَادَ الْخَمْسَ مُعْتَقِدًا لِلطَّهَارَةِ كَانَ كَمَا لَوْ أَعَادَ الْوُضُوءَ وَتَرَكَ فِيهِ مَسْحَ الرَّأْسِ فَلَا (يَلْزَمُهُ إلَّا إعَادَةُ) الْعِشَاءِ.

[الْمُمْتَحَنَاتُ]
قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ الْعَالِمُ (مَعَ أَصْحَابِهِ) (تَشْحِيذًا) لِلْأَذْهَانِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْأَلَةِ النَّخْلَةِ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ

(3/399)


الزُّهْرِيُّ) قَالَ (سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) : حَدِّثُونِي بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ يُتَشَهَّدُ فِيهِنَّ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ فَإِذَا سُئِلَ عَنْهَا قَالَ: تِلْكَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ يَسْبِقُ الرَّجُلُ (فِيهَا) بِرَكْعَةٍ، ثُمَّ يُدْرِكُ الرَّكْعَتَيْنِ فَيَتَشَهَّدُ (فِيهِمَا) .
قُلْت: وَيُتَصَوَّرُ فِيهَا أَرْبَعُ تَشَهُّدَاتٍ كَأَنْ يُدْرِكَ الْإِمَامُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فَيَتَشَهَّدُ مَعَهُ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ ثُمَّ يَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ بِتَشَهُّدَيْنِ وَيُتَصَوَّرُ فِيهَا خَمْسَةٌ بِأَنْ يَشُكَّ (وَهُوَ) فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فِي رَكْعَةٍ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهَا وَيَتَشَهَّدُ.
وَعَنْ أَبِي ثَوْرٍ (قَالَ) لَمَّا قَدِمَ (عَلَيْنَا الشَّافِعِيُّ) الْعِرَاقَ قَصَدْنَاهُ وَامْتَحَنَّاهُ بِمَسَائِلَ (عَوِيصَةٍ مِنْ فِقْهِ) أَبِي حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) فَأَجَابَ عَنْهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ثَوْرٍ بِمَاذَا تَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِفَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ قُلْت: بِفَرْضٍ، فَقَالَ: أَخْطَأْت، قُلْت: بِنَفْلٍ، قَالَ: أَخْطَأْت، قُلْت: بِمَاذَا؟ قَالَ: بِهِمَا، وَهُمَا التَّكْبِيرُ وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ. التَّكْبِيرُ فَرْضٌ (وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ سُنَّةٌ فِيهَا بِهِمَا) تَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ.
قُلْت: وَتَجِيءُ (مَسْأَلَةُ) الِامْتِحَانِ بِمَا تُخْتَتَمُ الصَّلَاةُ. وَيُحْكَى أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ لَمَّا حَجَّ وَمَعَهُ أَبُو يُوسُفَ حَضَرَ (مَعَ) مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -)

(3/400)


فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لِمَالِكٍ: مَا يَقُولُ الشَّيْخُ (فِي الْمُحْرِمِ) إذَا أَخَذَ فِي كُمِّهِ مِيزَانًا فَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَهَلْ يَكُونُ لِلْمُحْرِمِ كُمٌّ؟ فَقَالَ (مَالِكٌ) : مَا ذَهَبْتُ إلَى مَا ذَهَبْتَ إلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَادَةُ الشُّيُوخِ كَذَا تَارَةً يُخْطِئُونَ وَتَارَةً (يُصِيبُونَ) فَقَالَ مَالِكٌ: مَا عَلِمْت أَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِحَضْرَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنْ مَا تَقُولُ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَوْمَ) الْجُمُعَةِ بِعَرَفَاتٍ أَصَلَّى جُمُعَةً أَمْ (صَلَّى) ظُهْرًا مَقْصُورَةً (لِأَنَّهُ أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ) ؟ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: صَلَّى جُمُعَةً؛ (لِأَنَّهُ) خَطَبَ (لَهَا) قَبْلَ الصَّلَاةِ فَقَالَ مَالِكٌ: أَخْطَأَتْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ يَوْمَ السَّبْتِ لَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَا الَّذِي صَلَّاهَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ: صَلَّى ظُهْرًا مَقْصُورَةً؛ لِأَنَّهُ أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ فَصَوَّبَهُ هَارُونُ فِي احْتِجَاجِهِ عَلَى أَبِي يُوسُفَ وَقِيلَ: إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ (يَقُولُ) : أَبَا يُوسُفَ بَلْ يَقُولُ: يَا يَعْقُوبُ.

(وَمِنْ الْمُمْتَحَنَاتِ مِنْ عَوِيصِ مَسَائِلِ الْمِفْتَاحِ) لِابْنِ الْقَاصِّ رَمَى رَجُلَانِ صَيْدًا فَقَتَلَاهُ كَانَ حَرَامًا وَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ قَالَ (الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيُّ) تِلْمِيذُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ: سَأَلَنِي بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَقُلْت:

(3/401)


لَيْسَتْ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ صَيْدٌ مُحَرَّمٌ يُمْلَكُ وَيَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صُورَتَيْنِ: فَالصُّورَةُ الْأُولَى الَّتِي يَكُونُ فِيهَا حَرَامًا إذَا أَثْبَتَهُ أَحَدُهُمَا وَرَمَاهُ الْآخَرُ فِي (غَيْرِ) الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ ذَكَاتُهُ فِي (غَيْرِ) الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ وَقَدْ تَرَكَ ذَلِكَ فَإِنْ عَلِمَ السَّابِقُ وَجَبَتْ قِيمَتُهُ مَجْرُوحًا عَلَى الْآخَرِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحَالَفَا وَتَرَكَا.
وَأَمَّا الصُّورَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا نِصْفَيْنِ فَهِيَ إذَا أَثْبَتَ الْأَوَّلُ وَذَبَحَهُ الْآخَرُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ وَاخْتَلَفَا فِي السَّابِقِ تَحَالَفَا وَجُعِلَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، قَالَ الْقَاضِي: فَلَمَّا ذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ قَبْلَ قُدُمِي فَقُلْت لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا؟ قَالَ: سَأَلْت عَنْ ذَلِكَ الْإِمَامَ الْمُتَوَلِّي مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَكَانَ آخِرَ جَوَابِهِ أَنِّي لَا أَعْلَمُ، فَقُلْت لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا قُلْته صَحِيحٌ؟ فَقَالَ: لِأَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْنَا شَيْخٌ فَقِيهٌ مِنْ جِيلَانَ قَرَأَ عَلَى الْإِمَامِ أَبِي حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيِّ شَيْخِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ (الشِّيرَازِيِّ) وَالشَّيْخُ أَبُو حَاتِمٍ قَرَأَ عَلَى ابْنِ الْقَاصِّ فَذَكَرَ نَحْوَ مَا ذَكَرْته فَعَلِمْت صِحَّتَهُ قَالَ الْفَارِقِيُّ: وَهَذَا غَرَضٌ مَقْصُودٌ لِلْمُصَنِّفِينَ أَنْ يَضَعُوا (فِي تَصَانِيفِهِمْ) أَسْرَارًا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهُمْ لِيَحْتَاجَ إلَى مُرَاجَعَتِهِمْ فِي شَرْحِهَا.
وَقَدْ كَانَ (الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَيْضَاوِيُّ) قَدْ اعْتَزَلَ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي نَصْرِ بْنِ الصَّبَّاغِ

(3/402)


يُدَرِّسُ فِي مَسْجِدٍ فَأَشْكَلَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ مِنْ مَسَائِلِ السَّبَقِ وَالرَّمْيِ فَجَاءَ إلَى ابْنِ الصَّبَّاغِ رَاجَعَهُ فِيهَا (فَذَكَرَهَا لَهُ) فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تُسَطَّرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: لَوْ لَمْ تُسَطَّرْ هَكَذَا كَيْفَ كُنْت تَتْرُكُ التَّدْرِيسَ وَتَحْضُرُ لِلسُّؤَالِ.

مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْغَضَائِرِيُّ فِي كِتَابِ الْوَشَائِحِ سُئِلَتْ عَنْ قَوْلِ (أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ) فِي كِتَابِ التَّهْذِيبِ: وَلَا يَرِثُ (الْحَمْلُ) إلَّا بِالْبَيِّنَةِ. مَا صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ فَأَجَبْت: صُورَتُهَا مَمْلُوكَانِ سُبِيَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَأَعْتَقَهُمَا سَيِّدُهُمَا ثُمَّ أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ هَذَا أَخُوهُ وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَطَلَبَ الْآخَرُ مِيرَاثَهُ (نُظِرَ) إلَى السَّيِّدِ فَإِنْ صَدَّقَهُمَا وَرِثَهُ وَإِنْ أَنْكَرَ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلسَّيِّدِ وَذَلِكَ (سَبَبُ) الْمِيرَاثِ (فَمَنْ) ادَّعَى شَيْئًا (يَتَقَدَّمُ فَعَلَيْهِ) إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ.

[الْمُغَالَطَاتُ]
رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا يُحْسِنُ النِّصْفَ الْأَوَّلَ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَآخَرُ يُحْسِنُ النِّصْفَ الْآخَرَ

(3/403)


لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ: هَذَا مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ (الْمُتَعَنِّتُ) فَيُقَالُ: أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ.
(وَمِثْلُهُ) أَنْ يُقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْخَنَاثَى إمَامُهُمْ أَيْنَ يَقِفُ؟ وَهَذَا مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ: سَأَلْت الْقَفَّالَ عَنْ تَجْدِيدِ التَّيَمُّمِ فَقَالَ: كِدْت تُغَالِطُنِي، التَّجْدِيدُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي التَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إنَّمَا يَجُوزُ بِالطَّلَبِ وَطَلَبُ الْمَاءِ يُبْطِلُهُ فَإِذَا تَيَمَّمَ ثَانِيًا فَيَكُونُ هُوَ الْفَرْض.
قُلْت: وَفِي اعْتِرَاضِ الْقَفَّالِ عَلَى الْقَاضِي نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ (قَدْ) لَا يَجِبُ الطَّلَبُ لِلتَّيَمُّمِ إذَا قُطِعَ بِعَدَمِ الْمَاءِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ مِنْ مَوْضِعِهِ.
وَفِي الذَّخَائِرِ أَنَّ الْقَفَّالَ قَالَ: لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْمَاءِ.
وَأَمَّا (الْجُرْحُ) فَيُجَدَّدُ الْمَغْسُولُ وَهَلْ يُسْتَحَبُّ تَجْدِيدُ التَّيَمُّمِ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الشَّاشِيُّ وَيَنْبَغِي أَنْ يُجَدَّدَ لِعَدَمِ الْمَاءِ فِي (النَّافِلَةِ) .
اجْتَمَعَ أَبُ الْمُعْتِقِ وَمُعْتِقُ الْأَبِ فَأَيُّهُمَا أَوْلَى؟
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ أَبٌ وَمُعْتِقٌ كَانَ لَا مَحَالَةَ مُعْتِقًا وَكَانَ قَدْ مَسَّهُ الرِّقُّ ثُمَّ لَحِقَهُ الْعِتْقُ وَحِينَئِذٍ لَا وَلَاءَ لِمُعْتِقِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ تُقَدَّمُ عَلَى الِانْجِرَارِ فَلَا مَعْنَى لِمُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَطَلَبِ (الْأَوْلَوِيَّةِ) .
شَرْطُ السَّعْيِ وُقُوعُهُ بَعْدَ (طَوَافِ مَا) فَرْضًا أَوْ نَفْلًا فَإِنْ قُلْت: هَلْ يَصِحُّ بَعْدَ طَوَافِ الْوَدَاعِ؟ قُلْت: هَذَا مُغَالَطَةٌ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ لَا يَصِحُّ قَبْلَ إتْمَامِ الْمَنَاسِكِ فَكَيْفَ يَصِحُّ قَبْلَ السَّعْيِ.

(3/404)


[نُكْتَةٌ جَدَلِيَّةٌ]
يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِنَا: إذَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ (بِجِمَاعٍ فِي يَوْمَيْنِ) لُزُومَ كَفَّارَتَيْنِ وُجُوبُ النِّيَّةِ لِكُلِّ (يَوْمٍ) وَقَدْ وَافَقْنَا الْمَالِكِيَّةَ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَوَجْهُ الْإِلْزَامِ (إمَّا أَنْ) يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ (مُتَّحِدًا) فَمَا وَجْهُ (تَعَدُّدِ) الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ (كَانَا) عِبَادَتَيْنِ فَيَلْزَمُ لِكُلِّ (وَاحِدٍ مِنْهُمَا) نِيَّةٌ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا (كَانَتْ تَفْتَقِرُ) إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ صَارَتْ كَالْوَاحِدَةِ.
قُلْنَا: كَفَى بِاللَّيْلِ فَاصِلًا.
وَكَانَ بَعْضُ الْأَشْيَاخِ يَحْكِي أَنَّ الشَّيْخَ شَمْسَ الدِّينِ (الْأَصْفَهَانِيَّ) كَانَ

(3/405)


يَحْفَظُ مِائَةَ نُكْتَةٍ فِي الْجَدَلِ وَكَانَ شَيْخُهُ (التَّاجُ الْأُرْمَوِيُّ) يَحْفَظُ أَلْفَ نُكْتَةٍ فِي الْجَدَلِ وَكَانَ أُسْتَاذُهُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيّ يَحْفَظُ عَشْرَةَ آلَافِ نُكْتَةٍ فِي الْجَدَلِ.
(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا دَائِمًا أَبَدًا وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. عَلَّقَ هَذِهِ النُّسْخَةَ بِيَدِهِ الْفَانِيَةِ عَلِيٌّ عَبْدُ الْمُحْسِنِ عَلِيٌّ عُمَرُ الرَّاجِي عَفْوًا بِهِ وَمَغْفِرَتَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَلِوَالِدِيهِ وَلِمَنْ نَظَرَ فِيهِ وَدَعَا لَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْهُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ الْحَرَامِ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَثَمَانِي مِائَةٍ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) .

(3/406)