المنخول من تعليقات الأصول
باب الكلام في حقائق العلوم
والكلام فيه يحصره بابان ويشتمل كل باب على خمسة فصول
الفصل الأول من الباب
الأول في اثبات أصل العلم على منكريه من السوفسطائية وقد
نفوا العلم والحقائق في الذوات وأثبت مثبتون للذوات حقائق
وقالوا لا تعلم بالقوى البشرية
(1/92)
وقال بعض
اصحابنا هؤلاء لا يناظرون فإنهم انكروا المحسوسات فإن
كلمناهم فأقرب مسلك أن نقول أتعلمون تمييزكم سعيد في
اعتقادكم عن مخالفيكم فإن علموه بطل اعتقادهم وإن جهلوه لم
يسمع قولهم
(1/93)
الفصل الثاني في حقيقة العلم وحده
ولاصحابنا فيه ست عبارات
أولها قول شيخنا أبى الحسن العلم ما يوجب بمن قام به كونه
عالما وهذا فاسد فإنه لا يفيد بيانا ولا يجدي وضوحا إذ
العالم مشتق من العلم فمن جهل العلم جهله فهو حوالة على
المجهول كقول من فقد خاتما في بيت لمن يسأله عن البيت
فيقول البيت الذي تركت فيه خاتمي وثانيها قول أبى القاسم
الإسكافي العلم ما يعلم به ووجه تزييفه كالأول إذ الحد يرد
للبيان ولا بيان
(1/94)
وثالثها قول
ابن فورك العلم صفة يتأتى للموصوف بها اتقان الفعل وأحكامه
وهو باطل بالعلم بالله وبجملة المستحيلات فانه علم ولا
يتأتى به الإتقان ثم الإتقان بالقدرة لا بالعلم ولا معنى
للإتقان فإنه عبارة عن الانتظام وليس الانتظام صفة لذات
المنتظم ولكن إن وقع حسب المراد فهو المنتظم بالنسبة إليه
وقد يقبح بالنسبة إلى غيره ورابعها قول بعضهم تبيين
المعلوم على ما هو به أو درك المعلوم ولفظ التبيين مشعر
باستفتاح علم بعد سبق استبهام ويخرج عنه علم الباري سبحانه
وكذا لفظ الدرك
(1/95)
وهو أيضا متردد
بين درك الحاسة والعقل واللفظ المتردد لا يحد به وخامسها
قولهم الإحاطة بالمعلوم والرب تعالى معلوم ولا يحاط به إذ
الإحاطة تشعر بالإنطواء والإحتواء وسادسها قول القاضي رضي
الله عنه معرفة المعلوم على ما هو به قال القاضي تحديد
العلم لا يتأتى إلا بذكر عبارة تزيد في الوضوح عليه تنبئ
عنه فغاية الإمكان ترديد العبارة على السائل حتى يفهم قال
لو سألني سائل عن العلم فأقول هو المعرفة ولو سأل عن
المعرفة فأقول هو العلم
(1/96)
وهذا غير سديد
لانهما عبارتنا عن معبر واحد ولو سئل عن المعرفة والعلم
فماذا يقول ثم المعرفة خلاف العلم في اللغة فإنها لا تتعدى
إلا إلى مفعول واحد والعلم والعلم يتعدى إلى مفعولين وأما
المعتزلة فقالوا اعتقاد الشئ على ما هو به فأبطل عليهم
بالعلم بنفي الشريك وليس ذلك شيئا فإن الشئ عندهم هو
المعدوم الذي يجوز وجوده ويبطل بالمخمن وفي وقد زادوا عليه
مع طمأنينة النفس إليه ونحن نعلم سكون نفس المقلد إلى
اعتقاده فإنه يقطع اربا ولا يكيع
عنه
(1/97)
فإن زادوا مع
كونه مستندا إلى ضرورة أو نظر قيل لهم لو خلق الرب سبحانه
جنس اعتقاد المقلد على سبيل الاختراع لم ينقلب علما وهو
مستند إلى الضرورة والمختار أن العلم لا حد له إذ العلم
صريح في وصفه مفصح عن معناه ولا عبارة أبين منه وعجزنا عن
التحديد لا يدل على جهلنا بنفس العلم كما إذا سئلنا عن حد
رائحة المسك عجزنا عنه لكون العبارة عنها صريحة ولا يدل
ذلك على جهلنا ولكن سنبين العلم بالتقاسيم فنقول لا خفاء
بتمييزه عن الظن والشك والجهل وإنما مظنة الإشتباه
الإعتقاد المشتبه مع العلم ووجه الفرق إن المقلد لو طلب
متنفسا عز في مسلك النظر لوجده والعالم لا يتمكن منه إذ لا
وضوح بعد الوضوح والمعتقد المقلد إن اصغي إلى الشبه تزلزل
اعتقاده دون العالم
(1/98)
ولو عرض على
المعتقد ما يعلم ضرورة لأدرك الفرق بينه وبين ما يعتبره
تقليدا مع إن العلوم بعد حصولها ضرورية بأسرها لا تختلف
والمعتقد إذا نظر فعلم ذاق من نفسه أمرا على خلاف ما وجده
قبله والإعتقاد إفتعال من العقد وهو مشعر بتكليف ربط العقد
به والعلم انشراح صدر من غير ربط تكليف والقول الوجيز أن
المعتقد سابق إلى أحد معتقدي الشاك وواقف عليه إذا الشاك
يقول أزيد في الدار أم لا فيقف المعتقد على أنه في
الدار ولا يقدر خلافه ولو قدره لتمكن من ذلك ولذلك نقول في
إعتقاد المعتقد أن زيدا في الدار وهو في الدار كاعتقاد من
يعتقد أنه في الدار وليس فيها والعلم لا يجانسه الجهل فقد
بان الفرق
(1/99)
الفصل الثالث في تقاسيم العلوم
العلم ينقسم إلى قديم وإلى حادث فالقديم علم الباري سبحانه
الذي لا أول له وهو محيط بجملة المعلومات فلا يتعدد
بتعددها ولا يوصف بكونه كسبيا ولا ضروريا وأما الحادث
فينقسم إلى الهجمي والنظري فالهجمي كل ما يضطر إلى علمه
بأول العقل كالعلم بوجود الذات والآلام والملذات والنظري
ما يفضي إليه النظر الصحيح مع انتفاء الآفات على وجه
التضمن لا على وجه التولد خلافا للمعتزلة
(1/100)
والنظر مكتسب
بالاتفاق والعلم المترتب عليه ضروري بعد حصوله عندنا خلافا
لجماهير الاصحاب ودليله أنه لو كان مقدورا لقدر على دفعه
بعد اتمام النظر وانتفاء
الآفات ودفعه غير ممكن كدفع الرعدة التي لا اختيار له فيها
وهو بها أشبه منه بالحركة المرادة المجتلبة بالإيثار
(1/101)
الفصل الرابع في ماهية العقل
ذكرناه في هذا الباب لأنه من جملة العلوم وليس كلها إذ
الخالي عن جمل العلوم عاقل وليس من النظري إذ شرط كل نظر
تقدم العقل عليه وليس كل العلوم الضرورية إذ الأصم والأخرس
والأعمى عاقل وقد إختل بعض حواسه وليس آحاد العلوم أي علم
شئت إذ للبهيمة علم في الميز بين التبن والشعير وليست
عاقلة فالوجه أن يقال هو علم بجواز الجائزات واستحالة
المستحيلات احترازا عن البهائم ثم هكذا قاله القاضي
(1/102)
وهو مزيف فإن
الذاهل عن الجواز والإستحالة عاقل والوجه أن يقال هو صفة
يتهيأ للمتصف بها درك العلوم والنظر في المعقولات وقال
الحارث المحاسبي رضي الله عنه هو غريزة يتوصل بها إلى درك
العلوم وقالت الفلاسفة هو تهيؤ الدماغ لفيض النفس عليه
(1/103)
الفصل الخامس في مراتب العلوم
وهي عشرة أولها العلم بوجود الذات والآلام واللذات الثاني
العلم باستحالة اجتماع المتضادات وهو ثاني العلم بأصل
الذوات الثالث العلم بالمحسوسات ووجه استئخاره ما يتطرق
إليه من التخيلات والآفات الرابع العلم الحاصل من اخبار
التواتر إذ لا بد فيه من مزيد نظر لإستبانة الصدق وعدم
التواطئ على الكذب
(1/104)
الخامس فهم
فحوي فلا الخطاب ودرك قرائن الأحوال من الخجل والغضب
والوجل وهو أخفى من التواتر السادس العلم بالحرف والصناعات
وسبب تأخره توقفه لخفائه على تعلمه ومعاناته
السابع العلم بالنظريات ووجه استئخاره ما فيه من الخفاء
ولذلك كان مظنة ارتباك العقلاء الثامن العلم بانبعاث الرسل
وهو اغمض وادق فإنه يزاحم السمعيات التاسع العلم بالمعجزات
ووجه خفائه بعده عن محض العقل واستناده إلى العلم باطراد
العادات العاشر العلم بالسمعيات وهو يضاهي التقليد فلذلك
جعلناه أخيرا
(1/105)
ولتعلم أن
العلوم لا تفاوت فيها بعد حصولها وإن دق مدركها ولكن لكل
علم مستند من البديهة والضرورة فما قرب من الضرورة كان
أجلى وما بعد عنها كان أغمض وإليه الإشارة بهذه المراتب لا
إلى التفاوت في العلم نفسه ومما ذكر في هذا إن الحواس على
مرتبة واحدة وقيل إن السمع والبصر أقوى ثم قيل إن السمع
أقوى من البصر وقيل عكسه وخلافه أيضا وقال القلانسي
العقليات أقوى من الحسيات لأنها بعرض لحوق العاهات
(1/106)
|