الموافقات ج / 1 ص -298-
النوع الأول في الأسباب:
المسألة
الأولى:
الأفعال الواقعة في الوجود، المقتضية لأمور تشرع لأجلها،
أو توضع فتقتضيها1 على الجملة ضربان:
أحدهما: خارج عن مقدور المكلف.
والآخر: ما يصح دخوله تحت مقدوره.
فالأول قد يكون سببا، ويكون شرطا، ويكون مانعا.
فالسبب2 مثل3 كون الاضطرار سببا في إباحة الميتة, وخوف
العنت سببا في إباحة نكاح الإماء، والسلس سببا في إسقاط
وجوب الوضوء لكل صلاة مع وجود الخارج، وزوال الشمس أو
غروبها أو طلوع الفجر سببا في إيجاب تلك الصلوات، وما أشبه
ذلك.
والشرط ككون الحول شرطا في إيجاب الزكاة، والبلوغ شرطا في
التكليف مطلقا، والقدرة على التسليم شرطا في صحة البيع,
والرشد شرطا في دفع مال اليتيم إليه، وإرسال الرسل شرطا في
الثواب والعقاب، وما كان نحو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "فيقتضيها" بالتحتية بعد الفاء.
2
فسبب منه الوجود والعدم
لذاته مثل الزوال منحتم
أعني أن السبب هو الذي
يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته؛ كزوال الشمس
لوجوب الظهر مثلا. "ماء".
3 ذكر في السبب أمثلة لما يشرع من أجله وما يوضع من أجله
كالسلس، ولم يذكر ما يوضع من أجله في الشرط والمانع، إلا
أن يقال: إن الحيض مثلا مانع مسقط لحق الوطء ووجوب الصلاة،
وعدم الرشد مسقط لحقه في التصرفات. "د".
ج / 1 ص -299-
ذلك1.
والمانع ككون الحيض مانعا من الوطء والطلاق والطواف بالبيت
ووجوب الصلوات وأداء الصيام، والجنون مانعا من القيام
بالعبادات وإطلاق التصرفات، وما أشبه ذلك.
وأما الضرب الثاني؛ فله نظران:
نظر من حيث هو مما يدخل2 تحت خطاب التكليف، مأمورا به أو
منهيا عنه، أو مأذونا فيه3، من جهة اقتضائه للمصالح أو
المفاسد جلبا أو دفعا؛ كالبيع4 والشراء للانتفاع، والنكاح
للنسل، والانقياد5 للطاعة لحصول الفوز، وما أشبه ذلك، وهو
بين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يتحد السبب والشرط في أن كلًّا منهما يتوقف الحكم الشرعي
على تحققه، ويتمايزان بأن مناسبة السبب في ذاته ومناسبة
الشرط لغيره، فملك النصاب يتحقق به الغنى الذي يقتضي إنفاق
قسط من المال على وجه الشكر للنعمة، وأما مرور الحول؛
فإنما هو مكمل لوصف الغنى، إذ في مدة الحول يتمكن مالك
النصاب من تنميته غالبا, فمعنى الشرطية في الحول بالنسبة
لوجوب الزكاة واضح، وقد استشكل بعض الأصوليين جعل الأوقات
الخمسة أسبابا للصلوات حيث لم يتضح له وجه المناسبة بينها؛
فكان جوابه من بعض الفقهاء بأنها تشتمل على حكمة خفية،
وتصدى آخرون لبيان تلك الحكمة بتفصيل لا يسعه هذا المقام.
"خ".
2 و4 أي: بقطع النظر عن كونه يترتب عليه مشروعية حكم أو
وضعه، وبهذا الاعتبار لا يكون داخلا معنا في بحثنا؛ لأن
بحثنا خاص بالأفعال من حيث كونها يشرع الحكم أو يوضع
لأجلها؛ فالبيع والشراء وضعا سببًا شرعيًّا في حل
الانتفاع، لا لنفس الانتفاع، وكذا النكاح لم يكن سببا
شرعيا أو شرطا للنسل. "د".
3 في الأصل و"م": "مأمور به، أو منهي عنه، أو مأذون فيه".
5 أي: فإن الانقياد لفعل الطاعة الذي وإن ترتب عليه مصلحة
الفوز في الآخرة؛ إلا أنه لا يعد حصول الفوز حكما شرعيا
حتى يكون مما دخل تحت النظر الثاني، ومثله يقال في
الانقياد بالنسبة للوصف بالطاعة والعد من الطائعين. "د".
ج / 1 ص -300-
ونظر
من جهة ما يدخل1 تحت خطاب الوضع؛ إما سببا، أو شرطا، أو
مانعا.
أما السبب؛ فمثل كون النكاح سببا في حصول التوارث بين
الزوجين وتحريم المصاهرة وحلية الاستمتاع، والذكاة سببا
لحلية الانتفاع بالأكل، والسفر سببا في إباحة القصر
والفطر، والقتل والجرح سببا للقصاص، والزنى وشرب الخمر
والسرقة والقذف أسبابا لحصول تلك العقوبات، وما أشبه ذلك؛
فإن هذه الأمور وضعت أسبابا لشرعية تلك المسببات.
وأما الشرط؛ فمثل كون النكاح شرطا في وقوع الطلاق أو في حل
مراجعة المطلقة ثلاثا، والإحصان شرطا في رجم الزاني،
والطهارة شرطا في صحة الصلاة، والنية شرطا في صحة
العبادات؛ فإن هذه الأمور وما أشبهها ليست بأسباب، ولكنها
شروط معتبرة في صحة تلك المقتضيات.
وأما المانع؛ فككون نكاح الأخت مانعا من نكاح الأخرى،
ونكاح المرأة مانعا من نكاح عمتها وخالتها، والإيمان مانعا
من القصاص للكافر2، والكفر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إنه في النظر الأول لوحظ فيه أنه داخل تحت خطاب
التكليف بقطع النظر عن كونه سببا أو شرطا مثلا، أما
الثاني؛ فالنظر فيه إلى جهة كونه شرطا... إلخ، مع كونه في
كل من النظرين داخلا تحت خطاب التكليف، كما ترشد إليه
الأمثلة في كليهما، والضرب الثاني أمثلته جميعها واضحة؛
لأنها أفعال داخلة تحت مقدور المكلف، وشرع أو وضع لأجلها
أحكام أخرى؛ فكانت سببا لها أو شرطا أو مانعا. "د".
2 هذا متفق عليه في حكم الكافر الحربي، وأما من دخل في ذمة
الإسلام؛ فقد ذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى
إلى أنه يقتص له من المسلم في كل حال، واستندوا في ذلك إلى
أحاديث أيدوها بالقياس على ما انعقد عليه الإجماع من قطع
يد المسلم متى سرق مالًا لبعض أهل الذمة، وقالوا, حيث كانت
حرمة ماله كحرمة مال المسلم: فلتكن حرمة دمه مساوية لحرمة
دمه. "خ".
ج / 1 ص -301-
مانعا
من قبول الطاعات، وما أشبه ذلك، وقد يجتمع في الأمر الواحد
أن يكون سببا وشرطا ومانعا؛ كالإيمان هو سبب في الثواب،
وشرط في وجوب الطاعات أو في صحتها، ومانع من القصاص منه
للكافر، ومثله كثير.
غير أن هذه الأمور الثلاثة لا تجتمع للشيء الواحد، فإذا
وقع سببا لحكم شرعي؛ فلا يكون شرطا فيه نفسه ولا مانعا له
لما في ذلك من التدافع، وإنما يكون سببا لحكم، وشرطا لآخر،
ومانعا لآخر، ولا يصح اجتماعها على الحكم الواحد، ولا
اجتماع اثنين منها من جهة واحدة، كما لا يصح ذلك في أحكام
خطاب التكليف.
المسألة الثانية:
مشروعية الأسباب1 لا تستلزم مشروعية المسبَّبات، وإن
صح التلازم بينهما عادة، ومعنى ذلك أن الأسباب إذا تعلق
بها حكم شرعي؛ من إباحة, أو ندب، أو منع, أو غيرها من
أحكام التكليف؛ فلا يلزم أن تتعلق تلك الأحكام
بمسبَّباتها، فإذا أمر بالسبب لم يستلزم الأمر بالمسبب،
وإذا نهى عنه لم يستلزم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 محصل المسألة أن المسببات عن الأمور التكليفية لا يلزم
أن تأخذ حكمها من إباحة أو منع مثلا، بل قد تكون المسببات
غير داخلة في مقدور العبد؛ كإزهاق الروح، ونفس الإحراق،
ووجود الرزق؛ فهذه لا يعقل فيها تعلق حكم شرعي بها فضلا عن
نفس الحكم الذي تعلق بسببها، وقد تكون في مقدوره ولكنها
تأخذ حكما آخر؛ كأكل لحم الخنزير المسبب عن ذبحه؛ فذبحه
ليس بحرام، ولكن مسببه وهو أكل لحمه حرام، ومشتري الحيوان
مباح، ولكن مسببه وهو النفقة عليه واجبة، وقد يكون المسبب
مقدورا عليه وآخذا حكم السبب، وذلك كتحريم الربا وتحريم ما
تسبب عنه، وهو الانتفاع بمال الربا، والذكاة مباحة،
ولازمها وهو الأكل من المذبوح مباح، وهكذا؛ فالذي يقرره
هنا هو أنه لا استلزام بين حكم السبب وحكم المسبب، بل قد
لا يكون للمسبب حكم شرعي رأسا؛ فعليك بتطبيق ما يذكره في
المسألة على هذا, والتوفيق بين ما يظهر ببادئ الرأي مخالفا
له. "د".
ج / 1 ص -302-
النهي
عن المسبب، وإذا خير فيه لم يلزم أن يخير في مسببه.
مثال ذلك الأمر بالبيع مثلا، لا يستلزم1 الأمر بإباحة
الانتفاع بالمبيع، والأمر بالنكاح لا يستلزم الأمر بحلية
البُضْع، والأمر بالقتل في القصاص لا يستلزم الأمر بإزهاق
الروح، والنهي عن القتل العدوان لا يستلزم النهي عن
الإزهاق، والنهي عن التردي في البئر لا يستلزم النهي عن
تهتك المردى فيها، والنهي عن جعل الثوب في النار لا يستلزم
النهي عن نفس الإحراق، ومن ذلك كثير.
والدليل على ذلك: ما ثبت في الكلام من أن الذي للمكلف
تعاطي الأسباب، وإنما المسببات من فعل الله وحكمه، لا كسب
فيه للمكلف، وهذا يتبين في علم آخر، والقرآن والسنة دالان
عليه؛ فمما يدل على ذلك ما يقتضي ضمان الرزق؛ كقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ
رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132].
وقوله:
{وَمَا
مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ
رِزْقُهَا} [هود: 6].
وقوله: {وَفِي
السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}
[الذاريات: 22] إلى آخر الآية.
وقوله:
{وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}
الآية [الطلاق: 2].
إلى غير ذلك مما يدل على ضمان الرزق، وليس المراد نفس
التسبب إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فالبيع سبب في حل الانتفاع بالمبيع، وليس الأمر
بالبيع سببا في الأمر بحل الانتفاع؛ لأن الحل المسبب ليس
إلا حكما لله؛ فلا يتعلق به الحكم الشرعي الذي في السبب،
وهو الأمر، ومثله يقال في النكاح؛ ليتم له أن هذه الأمثلة
الستة لا يوجد فيها أن الحكم الذي في السبب أخذه المسبب،
بل لا حكم في المسبب؛ لأنه ليس من كسب العبد، إلا أنه يبقى
أن المناسب أن يقول: زهوق الروح واحتراق الثوب. "د".
ج / 1 ص -303-
الرزق،
بل الرزق المتسبب إليه.
ولو كان المراد نفس التسبب؛ لما كان المكلف مطلوبا بتكسب
فيه على حال، ولو بجعل اللقمة في الفم ومضغها، أو ازدراع1
الحب، أو التقاط النبات أو الثمرة المأكولة، لكن ذلك باطل
باتفاق؛ فثبت أن المراد إنما هو عين المسبب إليه. وفي
الحديث: "لو توكلتم على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير"2 الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ازدرع القوم: اتخذوا زرعا لأنفسهم خصوصا، أو احترثوا؛
كما في "لسان العرب" "ز ر ع".
2 أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 559" -ومن طريقه
الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب في التوكل على
الله، 4/ 573/ رقم 2344", والنسائي في "الكبرى"؛ كما في
"تحفة الأشراف" "8/ 79", والطيالسي في "المسند" "ص50"،
وابن أبي الدنيا في "التوكل" "رقم 1"، وأبو نعيم في
"الحلية" "10/ 69"، والبغوي في شرح السنة" "14/ 301/ رقم
4108"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 1444" عن حيوة بن شريح
عن بكر بن عمرو عن عبد الله بن هبيرة عن عمر بن الخطاب
مرفوعا.
وتابع حيوة عبد الله بن يزيد المقرئ؛ كما عند أبي يعلى في
"المسند" "1/ 212/ رقم 247", وعنه ابن حبان في "الصحيح"
"2/ 509/ رقم 730- الإحسان"، وأحمد في "المسند" "1/ 30",
و"الزهد" "ص18"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "2/ 488"،
والحاكم في "المستدرك" "4/ 318"، وأبو نعيم في "الحلية"
"10/ 69".
وإسناده جيد، رجاله رجال الصحيح؛ سوى بكر بن عمرو، روى له
البخاري حديثا واحدا متابعة، واحتج به الباقون سوى ابن
ماجه، وقال الدارقطني: "يعتبر به"، وقال أبو حاتم: "شيخ"،
وقال أحمد: "يروى له"، وذكره ابن حبان في "الثقات" "6/
103"، وقال الذهبي في "الميزان" "1/ 347": "كان ذا فضل
وتعبد, محله الصدق".
ومع هذا؛ فقد تابعه ابن لهيعة، ورواه عنه عبد الله بن وهب،
وهو ممن روى عنه قديما قبل احتراق كتبه، أخرجه أحمد في
"المسند" "1/ 52"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد, باب
التوكل واليقين/ رقم 4164"؛ فإسناده صحيح.
قال "د": "بقيته:
"تغدو خماصا وتروح بطانا"؛
فهي تغدو وتروح في طلب الرزق والتسبب إليه، والله تعالى
يخلق لها الرزق، فلم يقل: تترك كل سبب؛ فيحصل لها الرزق".
ج / 1 ص -304-
وفيه:
"اعقلها1
وتوكل"2؛
ففي هذا ونحوه بيان لما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقد جمع بين طلب عقل الناقة والاعتماد على الله في حفظها
المسبب عادة عن عقلها، ولو كان الحفظ مأمورا به؛ كالسبب ما
جمع بين العقل والتوكل، بل كان يطلب الحفظ أيضا، أو يسكت
عن التوكل على الأقل؛ فالجمع قاضٍ بأن المسبب لا يتعلق به
مشروعية. "د".
قلت: وفي الأصل و"ط": "قيدها".
2 أخرجه ابن حبان في "الصحيح" "2/ 510 رقم 731- الإحسان"،
والحربي في "الغريب" "3/ 1226-1227"، ومحمد بن العباس
البزار في "حديثه" "2/ 117/ 2"، وأبو بكر الكلاباذي في
"مفتاح معاني الآثار"
"ق 251/ 2" -كما في "تخريج أحاديث مشكلة الفقر" "رقم 22"-
والحاكم في "المستدرك" "3/ 623", وابن أبي عاصم في "الآحاد
والمثاني" "2/ 215/ رقم 970، 971"، وأبو نعيم في "معرفة
الصحابة" "2/ ق 84/ ب"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم
633" من طرق عن يعقوب بن عبد الله عن جعفر بن عمرو بن أمية
عن أبيه بلفظ:
"اعقلها
وتوكل"، أو: "قيدها
وتوكل".
وقال الهيثمي في "المجمع" "10/ 303": "رواه الطبراني من
طرق، ورجال أحدها رجال الصحيح؛ غير يعقوب بن عبد الله بن
عمرو بن أمية الضمري, وهو ثقة"، وقال أيضا "10/ 291":
"رواه الطبراني بإسنادين, وفي أحدهما عمرو بن عبد الله بن
أمية الضمري، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات", وجود إسناده
الذهبي في "التلخيص"، وعزاه العراقي في "تخريج الإحياء"
"4/ 279" إلى الطبراني وابن خزيمة في "التوكل", وجود
إسناده أيضا، ونقل المناوي في "الفيض" "2/ 8" عن الزركشي؛
أنه قال: "إسناده صحيح", وله شواهد من حديث أنس، كما عند
أبي داود في "القدر" -كما في "تهذيب الكمال" "3/ ق 1363"-
والترمذي في "الجامع" "رقم 2517"، وآخر "العلل" "5/ 762"
الملحق مع "الجامع"، وابن أبي الدنيا في "التوكل" "رقم
11"، وأبي نعيم في "الحلية" "8/ 390"، والقشيري في
"الرسالة" "466-467"، وابن الجوزي في "التلبيس" "279"،
وابن عساكر في "التاريخ"، والضياء في "المختارة" -كما في
"إتحاف السادة المتقين" "9/ 507"- وفيه المغيرة بن أبي
قرة، لم يوثقه إلا ابن حبان، وقال ابن حجر: "مستور", ونقل
الترمذي عن يحيى القطان قوله: "وهذا عندي حديث منكر"، ثم
قال الترمذي: "وهذا حديث غريب من حديث أنس، لا نعرفه إلا
من هذا الوجه، وقد روي عن عمرو بن أمية الضمري عن النبي
-صلى الله عليه وسلم- نحو هذا".
قلت: تقدم حديث عمرو بن أمية، وهو حسن إن شاء الله تعالى.
ج / 1 ص -305-
ومما
يبينه قوله تعالى:
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ
الْخَالِقُونَ}
[الواقعة: 58، 59].
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ}1 [الواقعة: 63].
{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ}
[الواقعة: 68].
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ}
[الواقعة: 71].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
{أَأَنْتُمْ
تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}؛
أي: تنبتونه أم نحن المنبتون المثمرون له؟ والآيات الثلاث
الأولى واضحة في البيان هنا؛ لأن في كل منها نسبة التسبب
للعبد، وإنكار أن يكون له إيجاد للمسبب، بل الموجد هو
الله، أما الآية بعدها؛ فليست مما تعلق به كسب للعبد
مطلقا، لا في تسبب ولا غيره؛ لأن الإنزال من المزن -وهو
محل الغرض- لا شأن لنا به ولا تسببا، فلو كان الكلام في
الري المسبب عن الشرب وكانت الآية: "أأنتم تخلقون الري أم
نحن الخالقون"؛ لكانت الآية مما نحن فيه؛ فتأمل، وانظر في
الآية التي بعدها أيضا، وعليك بالتأمل في صنيعه لتعرف
السبب في هذا الأسلوب: جعل الآيات الأولى دليلا وبدأ بها
وعلق عليها أولا، ثم ذكر الآيات الأخيرة قائلا: "ومما
يبينه" دخولا عليه، وقال بعد الحديثين: "فيهما بيان لما
تقدم", وخذ نموذجا لطريق التأمل مثلا:
الآية الأولى: فيها نفي التكليف بالمسبب صراحة:
{لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} مع العلم بطلب الرزق والتسبب فيه لأدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
الآية الثانية: حصر الرزق في كونه عليه تعالى؛ فطبعا لا
يكلف به غيره.
الآية الثالثة: جعل الرزق في السماء على ما هو ظاهرها،
وليس في متناول العبد؛ فلا يكلف به، مع أنه طلب بالتسبب
إلى الرزق.
أما الآيات الأخرى؛ فنسب الخلق إليه تعالى لا للعبد,
ويلزمه ألا يطلب من العبد؛ فهو ظاهر في أنه لا يكلف به
غيره, مع بقاء احتمال أنه سبحانه هو الخالق مع تسبب العبيد
فيها ومطالبتهم بذلك التسبب, بخلاف الآيات الأولى؛ ففيها
عدم المطالبة بالتسبب صريحة أو كالصريحة. "د".
ج / 1 ص -306-
وأتى
على ذلك كله:
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
{اللَّهُ
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62].
وإنما جعل إليهم العمل ليجازوا عليه، ثم الحكم فيه لله
وحده.
واستقراء هذا المعنى من الشريعة مقطوع به، وإذا كان كذلك؛
دخلت الأسباب المكلف بها1 في مقتضى هذا العموم الذي دل
عليه العقل والسمع، فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب
العباد دون المسببات، فإذًا لا يتعلق التكليف وخطابه إلا
بمكتسب؛ فخرجت المسببات2 عن خطاب التكليف؛ لأنها ليست من
مقدورهم، ولو تعلق بها؛ لكان تكليفا بما لا يطاق، وهو غير
واقع كما تبين في الأصول.
ولا يقال: إن الاستلزام موجود، ألا ترى أن إباحة عقود
البيوع والإجارات وغيرها تستلزم إباحة الانتفاع الخاص بكل
واحد منها؟ وإذا تعلق بها التحريم؛ كبيع الربا, والغرر،
والجهالة, استلزم تحريم الانتفاع المسبب عنها، وكما في
التعدي والغصب والسرقة ونحوها، والذكاة في الحيوان إذا
كانت على وفق المشروع مباحة، وتستلزم إباحة الانتفاع، فإذا
وقعت على غير المشروع؛ كانت ممنوعة، واستلزمت منع
الانتفاع... إلى أشياء من هذا النحو كثيرة؛ فكيف يقال: إن
الأمر بالأسباب والنهي عنها لا يستلزم الأمر بالمسببات ولا
النهي عنها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فيها".
2 لو أخذ هذا على عموم؛ لكرّ على المسألة بالنقض, وكان
الواجب أن يقال بدل "لا تستلزم": لا يترتب حكم شرعي على
مسبباتها ولا يتعلق بها حكم مطلقا؛ لأنها كلها خارجة عن
مقدوره، مع أن صنيعه الآتي يسلم فيه أن بعضها يتعلق بها
حكم، لكن لا على طريق الاستلزام، والواقع أن المسببات
كثيرة؛ منها ما هو كالسبب من مقدور المكلف، ومنها ما ليس
كذلك، والأول قد يأخذ حكم سببه وقد يأخذ حكما غيره. "د".
ج / 1 ص -307-
وكذلك
في الإباحة؟
لأنا نقول: هذا كله لا يدل على الاستلزام، من وجهين:
أحدهما: أن ما تقدم من الأمثلة أول المسألة قد دل على عدم
الاستلزام، وقام الدليل على ذلك، فما جاء بخلافه؛ فعلى حكم
الاتفاق لا على حكم الالتزام.
الثاني: أن ما ذكر ليس فيه استلزام، بدليل ظهوره في بعض
تلك الأمثلة؛ فقد يكون السبب مباحا والمسبب مأمورا به؛
فكما نقول في الانتفاع بالمبيع: إنه مباح؛ نقول في النفقة
عليه: إنها واجبة إذا كان حيوانا، والنفقة من مسببات العقد
المباح، وكذلك حفظ الأموال المتملكة مسبب عن سبب مباح، وهو
مطلوب، ومثل ذلك الذكاة؛ فإنها لا توصف بالتحريم إذا وقعت
في غير المأكول؛ كالخنزير، والسباع العادية، والكلب,
ونحوها، مع أن الانتفاع محرم في جميعها أو في بعضها ومكروه
في البعض.
هذا في الأسباب المشروعة، وأما الأسباب الممنوعة؛ فأمرها
أسهل1؛ لأن معنى تحريمها أنها في الشرع ليست بأسباب، وإذا
لم تكن أسبابا لم تكن2 لها مسببات؛ فبقي المسبب عنها على
أصلها من المنع، لا أن3 المنع تسبب عن وقوع أسباب ممنوعة،
وهذا كله ظاهر؛ فالأصل مطرد والقاعدة مستتبة، وبالله
التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم أنه يتفق فيها أن تكون مسبباتها ممنوعة؛ كالغصب
والسرقة، وقد تكون غير متعلق بها حكم شرعي؛ كالقتل مع
الموت مثلا؛ فلا يظهر فرق بين الممنوعة والمأمور بها في
درجة عدم الاستلزام. "د".
2 في الأصل: "يكن".
3 يقال مثله في المأمور بها والمباحة ما دام الجميع لا
استلزام فيه، وأنه أمر اتفاقي. "د".
ج / 1 ص -308-
وينبني
على هذا الأصل:
المسألة الثالثة:
وهي أنه لا يلزم في تعاطي الأسباب من جهة المكلف الالتفات
إلى المسببات ولا القصد إليها1, بل المقصود منه الجريان
تحت الأحكام الموضوعة لا غير، أسبابا كانت أو غير أسباب،
معللة كانت أو غير معللة.
والدليل على ذلك ما تقدم من أن المسببات راجعة إلى الحاكم
المسبب، وأنها ليست2 من مقدور المكلف، فإذا لم تكن راجعة
إليه, فمراعاته ما هو راجع لكسبه هو اللازم، وهو السبب،
وما سواه غير لازم، وهو المطلوب.
وأيضا, فإن3 من المطلوبات الشرعية ما يكون للنفس فيه حظ،
وإلى جهته ميل، فيمنع من الدخول تحت مقتضى الطلب؛ فقد كان
عليه الصلاة والسلام لا يولي على العمل من طلبه4، والولاية
الشرعية كلها مطلوبة؛ إما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال "ماء": "وفي نسخة: إليه".
2 مما سبق يعلم أنه ليس مطردا، وأن من المسببات ما هو من
مقدور المكلف، ويتعلق به الخطاب المتعلق بنفس السبب؛
كالانتفاع بالمبيع في عقد البيع. "د".
3 فالولاية الشرعية مثلا لها مسببات كثيرة، وقد يكون القصد
إلى بعض هذه المسببات مانعا من التسبب فيها مع كونها
مطلوبا شرعيا؛ كالقصد إلى حظوظ نفسه ومنافعه المسببة عن
الولاية؛ فلا تكون الولاية حينئذ مطلوبة شرعا, وجعل الشارع
من أدلة قصد المكلف لحظوظه فيها طلبه لها, فلذلك منع من
طلب الولاية منها، وإذا كان النظر إلى المسبب قد يكون
قاضيا بجعل المطلوب شرعا غير مطلوب، بل ويجعل المباح غير
مباح؛ فأولى ألا يلزم القصد إلى المسبب, يعني أن القصد إلى
المسبب قد يضر؛ فضلا عن لزومه؛ فهو ترقٍّ في الاستدلال،
على أنه لا يلزم. "د".
4 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب
الأحكام, باب ما يكره من الحرص على الإمارة، 13/ 125/ رقم
7149"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة, باب النهي عن طلب
الإمارة والحرص عليها، 3/ 1456/ رقم 1733" عن أبي موسى؛
قال: دخلتُ =
ج / 1 ص -309-
طلب
الوجوب، أو الندب، ولكن راعى عليه السلام في ذلك ما لعله
يتسبب عن اعتبار الحظ، وشأن طلب الحظ في مثل هذا أن ينشأ
عنه أمور تكره، كما سيأتي بحول الله تعالى1، بل قد راعى
عليه السلام مثل هذا في المباح؛ فقال:
"ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف فخذه"2
الحديث؛ فشرط في قبوله عدم إشراف النفس؛ فدل على أن أخذه
بإشراف على خلاف ذلك، وتفسيره في الحديث الآخر:
"من يأخذ مالًا بحقه؛ يبارك له فيه, ومن يأخذ مالًا بغير
حقه؛ فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع"3، وأخذه
بحقه هو أن لا ينسى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنا ورجلان من بني عمي؛
فقال أحد الرجلين: يا رسول الله! أمرنا على بعض ما ولاك
الله, عز وجل, وقال الآخر مثل ذلك؛ فقال:
"إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله, ولا أحدا حرص عليه".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "طلب الرجل الولاية لمقصد غير صحيح؛
كالتباهي بمقامها، أو التمتع بما تجره إليه من المنافع
المادية؛ تهمة تنادي بالحذر من عاقبته، فإن من كان هذا
شأنه لا يبالي أن يضحي بمصلحتها أو يحتمل الإهانة في سبيل
بقائه على منصتها، وعلى مثل هذا الوجه تحمل الأحاديث
الواردة في كراهة الحرص على الولاية، أما من سعى إليها
ليدبر شئونها بحزم ونصيحة، أو ليتخذ مكانتها وسيلة إلى
القيام بأعمال شريفة؛ فله أسوة بقول يوسف, عليه السلام:
{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}".
1 انظر: "2/ 298-299، 327، 330 وما بعد، 344 وما بعد، 438
وما بعد".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب من أعطاه
الله شيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس، 2/ 337/ رقم 1473"،
ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أعطي
من غير مسألة ولا إشراف، 2/ 723/ رقم 1045" عن عمر -رضي
الله عنه- وتتمته:
"وما لا؛ فلا تتبعه نفسك".
3 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة،
باب الاستعفاف عن المسألة، 3/ 335/ رقم 1472، وكتاب
الوصايا، باب تأويل قوله تعالى:
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، 5/ 277/ رقم 2750، وكتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي -صلى الله
عليه وسلم- يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، 6/
249-250/ رقم 3143، وكتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله
عليه وسلم:
"هذا المال خضرة حلوة"، 11/ 258/ رقم 6441"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب بيان أن
اليد العليا خير من اليد السفلى، 2/ 717/ رقم 1035" من
حديث حكيم بن حزام, رضي الله عنه.
ج / 1 ص -310-
حق
الله فيه، وهو من آثار عدم إشراف النفس، وأخذه بغير حقه
خلاف ذلك، وبين1 هذا المعنى الرواية الأخرى:
"نعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل"2، أو كما
قال: "وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع, ويكون عليه شهيدا
يوم القيامة"3.
ووجه ثالث: وهو أن العباد من هذه الأمة -ممن يعتبر مثله
ههنا- أخذوا أنفسهم بتخليص الأعمال عن شوائب الحظوظ، حتى
عدوا ميل النفوس إلى بعض الأعمال الصالحة من جملة مكائدها,
وأسسوها قاعدة بنوا عليها -في تعارض الأعمال وتقديم بعضها
على بعض- أن يقدموا ما لا حظ للنفس فيه، أو ما ثقل عليها؛
حتى لا يكون لهم عمل إلا على مخالفة ميل النفس، وهم الحجة
فيما انتحلوا؛ لأن إجماعهم إجماع، وذلك دليل على صحة
الإعراض عن المسببات في الأسباب, وقال عليه السلام إذ سأله
جبريل عن الإحسان:
"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك"4، وكل تصرف للعبد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "ويبين".
2 هو قطعة من حديث في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري،
سيأتي تخريجه في الحديث الآتي.
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواطن -تقدم بيانها "ص309"-
وليس عنده: "ويكون عليه
شهيدا يوم القيامة" من حديث
أبي هريرة.
وأخرجه البخاري في "صحيحه" أيضا "كتاب الزكاة، باب الصدقة
على اليتامى، 3/ 327/ رقم 1465"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا, 2/ 727-729" من
حديث أبي سعيد الخدري بلفظ المصنف.
4 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب
الإيمان، باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن
الإيمان والإسلام والإحسان، 1/ 114/ رقم 50"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام
والإحسان، 1/ 36-38/ رقم 8" عن عمر, رضي الله عنه.
ج / 1 ص -311-
تحت
قانون الشرع؛ فهو عبادة، والذي يعبد الله على المراقبة
يعزب عنه -إذا تلبس بالعبادة- حظ نفسه فيها, هذا مقتضى
العادة الجارية بأن يعزب عنه كل ما سواها، وهو معنى بينه
أهله؛ كالغزالي1 وغيره.
فإذًا ليس من شرط الدخول في الأسباب المشروعة الالتفات إلى
المسببات، وهذا أيضا جارٍ في الأسباب الممنوعة كما يجري في
الأسباب المشروعة، ولا يقدح عدم الالتفات إلى المسبب في
جريان الثواب والعقاب2؛ فإن ذلك راجع إلى من إليه إبراز
المسبب عن سببه، والسبب هو المتضمن له؛ فلا يفوته شيء إلا
بفوت شرط أو جزء أصلي أو تكميلي في السبب خاصة.
المسألة الرابعة:
وضع الأسباب يستلزم قصد الواضع إلى المسببات، أعني الشارع،
والدليل على ذلك أمور:
أحدها: أن العقلاء قاطعون بأن الأسباب لم
تكن أسبابا لأنفسها من حيث هي موجودات فقط، بل من حيث ينشأ
عنها أمور أخر، وإذا كان كذلك؛ لزم من القصد إلى وضعها
أسباب القصد إلى ما ينشأ عنها من المسببات.
والثاني: أن الأحكام الشرعية إنما شرعت
لجلب المصالح أو درء المفاسد، وهي مسبباتها قطعا، فإذا كنا
نعلم أن الأسباب إنما شرعت لأجل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "إحياء علوم الدين" "3/ 66، 67، 69".
2 يعني: مع أنهما من المسببات؛ فيجريان على العبد بدون قصد
إليهما. "د".
ج / 1 ص -312-
المسببات؛ لزم من القصد إلى الأسباب القصد إلى المسببات.
والثالث1:
أن المسببات لو لم تقصد بالأسباب؛ لم يكن وضعها على أنها
أسباب، لكنها فرضت كذلك؛ فهي ولا بد موضوعة على أنها
أسباب، ولا تكون أسبابا إلا لمسببات، فواضع الأسباب قاصد
لوقوع المسببات من جهتها، وإذا ثبت هذا، وكانت الأسباب
مقصودة الوضع للشارع؛ لزم أن تكون المسببات كذلك.
فإن قيل: فكيف هذا مع ما تقدم من أن المسببات غير مقصودة
للشارع من جهة الأمر بالأسباب2؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن القصدين متباينان، فما تقدم هو بمعنى أن الشارع
لم يقصد في التكليف بالأسباب التكليف بالمسببات؛ فإن
المسببات غير مقدورة للعباد كما تقدم, وهنا إنما معنى
القصد إليها أن الشارع [مما]3 يقصد وقوع المسببات عن
أسبابها؛ ولذلك وضعها أسبابا، وليس في هذا ما يقتضي أنها
داخلة تحت خطاب التكليف, وإنما فيه ما يقتضي القصد إلى
مجرد الوقوع خاصة؛ فلا تناقض بين الأصلين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تأمل في هذه المقدمات لتعرف ما يحتاج إليه منها في غرضه
وما لا يحتاج إليه، وهل بقيت حاجة إلى قوله: "وإذا ثبت
هذا..." إلخ بعد قوله: فواضع الأسباب قاصد المسببات من
جهتها؟ أليس هذا هو الدعوى المطلوبة؟ لكنه جعلها من
المقدمات ورتب عليها قوله: "وإذا ثبت هذا..." إلخ، وهل
معنى قصد وضعها مسببات زائد على قصد وقوع المسببات من
جهتها؟ "د".
قلت: قارن ما عند المصنف بـ"مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/
179-183، 287".
2 في الأصل: "المسببات".
3 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".
ج / 1 ص -313-
والثاني1:
أنه لو فرض توارد القصدين2 على شيء واحد؛
لم يكن محالا إذا كان باعتبارين مختلفين3، كما توارد قصد
الأمر والنهي معا على الصلاة في الدار المغصوبة باعتبارين.
والحاصل أن الأصلين غير متدافعين على الإطلاق.
المسألة الخامسة:
إذا ثبت أنه لا يلزم القصد إلى المسبب؛ فللمكلف ترك
القصد إليه بإطلاق، وله القصد إليه.
أما الأول؛ فما تقدم4 يدل عليه.
فإذا قيل لك: لِمَ تكتسب لمعاشك بالزراعة أو بالتجارة أو
بغيرهما؟
قلت: لأن الشارع ندبني إلى تلك الأعمال؛ فأنا أعمل على
مقتضى ما أمرت به، كما أنه أمرني أن أصلي وأصوم وأزكي
وأحج، إلى غير ذلك من الأعمال التي كلفني بها.
فإن قيل لك: إن الشارع أمر ونهى لأجل المصالح.
قلت: نعم، وذلك إلى الله لا إلي؛ فإن الذي إلي التسبب،
وحصول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا لازم لما قبله وليس شيئا جديدا، فإن تباين القصدين
إنما جاء من عدم تواردهما باعتبار واحد. "د".
2 في الأصل و"ط": "فرض القصدان".
3 هذا الجواب مبني على أن القصدين: المثبت والمنفي متوجهان
إلى شيء واحد، وهو المسببات، ولكن القصد المثبت يتعلق بها
من جهة وقوعها، والقصد المنفي من حيث التكليف بها. "خ".
4 أي: في أدلة المسألة الثالثة؛ لأنه إذا كان لا يلزمه؛
فله تركه. "د".
ج / 1 ص -314-
المسببات ليس إلي؛ فاصرف قصدي إلى ما جعل إلي, وأكل ما ليس
لي إلى من هو له.
ومما يدل على هذا أيضا؛ أن السبب غير فاعل بنفسه، بل إنما
وقع المسبب عنده لا به, فإذا تسبب المكلف؛ فالله خالق
السبب، والعبد مكتسب له
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
{اللَّهُ
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62].
{وَمَا
تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}
[التكوير: 29].
{وَنَفْسٍ
وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8].
وفي حديث العدوى قوله, عليه الصلاة والسلام: "فمن أعدى الأول؟"1، وقول عمر في حديث الطاعون: "نفر من قدر
الله إلى قدر الله"، حين قال له عمرو بن العاص: "أفرارا من
قدر الله؟"2، وفي الحديث:
"جف القلم بما
هو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الطب، باب
لا هامة, 10/ 241/ رقم 5770، وباب لا صفر، 10/ 171/ رقم
5717"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام, باب لا عدوى ولا
طيرة ولا هامة ولا صفر، 4/ 1742-1743/ رقم 2220" من حديث
أبي هريرة -رضي الله عنه- ولفظه:
"لا عدوى ولا صفر ولا هامة". فقال أعرابي: يا رسول الله! فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها
الظباء، فيأتي البعير الأجرب؛ فيدخل بينها فيجربها؟ قال: "فمن أعدى الأول".
2 جزء من قول عمر في قصة خروجه إلى الشام وسماعه في الطريق
عن وقوع الطاعون فيها، واستشارته الصحابة في ذلك، ثم
عودته؛ أخرجه مطولا البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب ما
يذكر في الطاعون، 10/ 179/ رقم 5729"، ومسلم في "صحيحه"
"كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، 4/
1740/ رقم 2219".
والقائل لعمر: "أفرارا..." هو أبو عبيدة بن الجراح وليس
عمرو بن العاص؛ كما ذكر المصنف.
ج / 1 ص -315-
كائن، فلو
اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك؛ لم
يقدروا عليه، وعلى أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك؛ لم يقدروا
عليه"1.
والأدلة على هذا تنتهي إلى القطع, وإذا كان كذلك؛
فالالتفات إلى المسبب في فعل السبب لا يزيد2 على ترك
الالتفات إليه؛ فإن المسبب قد يكون وقد لا يكون، هذا وإن
كانت مجاري العادات تقتضي أنه يكون؛ فكونه داخلا تحت قدرة
الله يقتضي أنه قد يكون وقد لا يكون، ونقض3 مجاري العادات
دليل على ذلك، وأيضا؛ فليس في الشرع دليل ناص على طلب
القصد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث طويل، أوله:
"يا غلام! ألا أعلمك شيئا ينفعك..."،
وفيه:
"احفظ الله يحفظك..."؛ أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في "الكبير" "11/ 223/ رقم 11560"؛
والبيهقي في "الأسماء والصفات" "رقم 126" من حديث ابن
عباس, رضي الله عنه.
وأخرجه من حديث ابن عباس أيضا بلفظ مقارب: الترمذي في
"الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه، 4/ 667/ رقم 2516"
-وقال: "حسن صحيح"- وأحمد في "المسند" "1/ 293، 307"، وأبو
يعلى في "المسند" "4/ 430/ رقم 2556"، والطبراني في
"الدعاء" "رقم 41، 42" و"الكبير" "11/ 123/ رقم 11243"،
والحاكم في "المستدرك" "3/ 541، 542"، والآجري في
"الشريعة" "198"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 634"،
وابن السني في "عمل اليوم والليلة" "رقم 427"، والبيهقي في
"الشعب" "1/ 148" و"الآداب" "رقم 1073"، وأبو نعيم في
"الحلية" "1/ 314" من طرق عن ابن عباس، وبعضها فيه ضعف.
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" "1/ 460-461": "وقد
روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه
علي، ومولاه عكرمة، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار,
وعبيد الله بن عبد الله، وعمر مولى غفرة، وابن أبي مليكة،
وغيرهم، وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها
الترمذي، كذا قاله ابن منده وغيره".
وانظر: "فتح الباري" "11/ 492"؛ ففيه شواهد أخرى للحديث،
وهو صحيح.
2 أي: من جهة إيجاد المسبب وعدمه. "د".
3 فكم وجد السبب ولم يوجد المسبب، وكم وجد المسبب بدون
سببه العادي، ولله خرق العوائد. "د".
ج / 1 ص -316-
إلى
المسبب.
فإن قيل1: قصد الشارع إلى المسببات والتفاته إليها دليل
على أنها مطلوبة القصد من المكلف، وإلا؛ فليس المراد
بالتكليف إلا مطابقة قصد المكلف لقصد الشارع؛ إذ لو خالفه
لم يصح التكليف كما تبين في موضعه2 من هذا الكتاب، فإذا
طابقه صح، فإذا فرضنا هذا المكلف غير قاصد للمسببات، وقد
فرضناها مقصودة للشارع؛ كان بذلك مخالفا له، وكل تكليف قد
خالف3 القصد فيه قصد الشارع فباطل كما تبين؛ فهذا كذلك.
فالجواب: أن هذا إنما يلزم إذا فرضنا أن الشارع قصد وقوع
المسببات بالتكليف بها كما قصد ذلك بالأسباب, وليس كذلك؛
لما مر أن المسببات غير مكلف بها، وإنما قصده وقوع
المسببات بحسب ارتباط العادة الجارية في الخلق، وهو أن
يكون خلق المسببات على إثر إيقاع المكلف للأسباب4 ليسعد من
سعد ويشقى من شقي، فإذًا قصد الشارع لوقوع المسببات لا
ارتباط له
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الإشكال مبني على المسألة الرابعة، وبه تعلم جودة
صنيعه في تقديمها على هذه المسألة. "د".
2 في النوع الرابع من قصد الشارع من كتاب "المقاصد" "ص2/
289 وما بعدها".
3 ترويج للسؤال يجعل أن للمكلف قصدا غير قصد الشارع، مع أن
الفرض أن المكلف لا قصد له في المسبب مطلقا، لا بموافقة
ولا بمخالفة. "د".
4 هذا جار على مذهب أهل السنة من أن الآثار صادرة عن قدرة
الخالق مباشرة، ولكنه يوجدها عند وجود أسبابها المرتبطة
بها في النظام العام ما لم يرد خرق السنن المعروفة لحكمة
بالغة، وقالت القدرية: وَهِم المعتزلة أن الله أودع في
العبد قدرة تصدر عنها آثارها بطريق الاختيار أو التوليد
والسببية، ووافقوا الفلاسفة في قولهم: إن السبب يوجب أثره
إلا أن يمنع منه مانع؛ فالسبب والمسبب عندهم مقدوران
للعبد؛ إلا أن أحدهما مباشرة والآخر بواسطة. "خ".
قلت: قارن لزاما بـ"مجموع فتاوى ابن تيمية" "9/ 287، 288
و10/ 388-393 و484-488".
ج / 1 ص -317-
بالقصد
التكليفي؛ فلا يلزم قصد المكلف إليه إلا أن يدل على ذلك
دليل، ولا دليل عليه، بل لا يصح ذلك1 لأن القصد إلى ذلك
قصد إلى ما هو فعل الغير، [ولا يلزم أحدا أن يقصد وقوع ما
هو فعل الغير]2؛ لأنه غير مكلف بفعل الغير، وإنما يكلف بما
هو من فعله، وهو السبب خاصة؛ فهو الذي يلزم القصد إليه، أو
يطلب القصد إليه، ويعتبر فيه موافقة قصد الشارع.
فصل:3
وأما أن للمكلف القصد إلى المسبب؛ فكما إذا قيل لك: لم
تكتسب؟ قلت: لأقيم صلبي، وأقوم في حياة نفسي وأهلي، أو
لغير ذلك من المصالح التي توجد عن السبب؛ فهذا القصد إذا
قارن التسبب صحيح؛ لأنه التفات إلى العادات الجارية، وقد
قال تعالى:
{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ
فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الجاثية: 12].
وقال:
{وَمِنْ
آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم: 23].
وقال:
{فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا4 مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لزوم قصد المكلف، وقد تقدمت أدلته، ولا يجوز أن يعود
الضمير على نفس القصد؛ لأن ما دلل به هنا عليه لا يفيده،
وأيضا ينابذ الأدلة الآتية على صحة قصد المسبب، على أن
قوله بعد "فهو الذي يلزم القصد إليه" يؤيد ما قررناه. "د".
2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
3 قارن بـ"مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 175-179، 165، 169".
4 كأنه قال: اقصدوا فضل الله ورزقه بأخذكم في الأسباب من
الانتشار في الأرض مثلا، وهو قصد إلى المسبب بالسبب، وحيث
كان في مقام الامتنان؛ فهو باق على ظاهره؛ لأن الامتنان
إنما يظهر فيما كان من فعله تعالى الذي لا شأن للغير فيه،
وإنما يكون ذلك في المسبب لا في السبب.
ولو قال: عبر بالقصد الذي هو المسبب مقارنا أو مرتبا على
السبب في مقام الامتنان؛ فدل على أنه يصح قصد المسبب
بالسبب؛ لكان ظاهرا لأن فيه قصد المسبب بنفسه لا قصد
السبب، وعبر عنه بقصد المسبب مجازا؛ لأنه لو كان مجازا
وكان المسبب ليس مقصودا حقيقة؛ ما دل على مدعاه ولو في
مقام الامتنان، إذا فرضنا أنه يظهر مقام الامتنان في هذه
الحالة. "د".
ج / 1 ص -318-
فمن
حيث عبر بالقصد إلى الفضل عن القصد إلى السبب الذي هو
الاكتساب، وسيق مساق الامتنان من غير إنكار؛ أشعر بصحة ذلك
القصد، وهذا جار في أمور الآخرة كما هو جار في أمور
الدنيا؛ كقوله تعالى:
{وَمَنْ
يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا
يُدْخِلْهُ1
جَنَّاتٍ}
[الطلاق: 11]، وأشباه ذلك مما يؤذن بصحة القصد إلى المسبب
بالسبب.
وأيضا؛ فإنما محصول هذا أن يبتغي ما يهيئ الله له بهذا
السبب؛ فهو راجع إلى الاعتماد على الله واللجأ إليه في أن
يرزقه مسببا يقوم به أمره ويصلح به حاله, وهذا لا نكير فيه
شرعا، وذلك أن المعلوم من الشريعة أنها شرعت لمصالح
العباد؛ فالتكليف كله إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أو
لهما معا؛ فالداخل تحته مقتض لما وضعت له، فلا مخالفة في
ذلك لقصد الشارع، والمحظور إنما هو أن يقصد2 خلاف ما قصده،
مع أن هذا القصد لا ينبني عليه عمل غير مقصود للشارع، ولا
يلزم منه عقد مخالف؛ فالفعل3 موافق، والقصد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس فيه ما يدل على القصد من المكلف، ولكن آية
{انْتَشِرُوا}
و{ابْتَغُوا}،
وقوله:
{وَلِتَبْتَغُوا}
مثلا ظاهرة فيما أراد، وقوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا
الصَّلاةَ...} إلخ، وقوله تعالى:
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا} الآية، واضح الدلالة على صحة قصد المسبب في أمور الآخرة. "د".
2 هذا يؤيد ما سبق لنا تعليقه على قوله: "وكل تكليف خالف
القصد فيه قصد الشارع باطل". "د".
3 يشير إلى ما يأتي في موافقة ومخالفة قصد المكلف وعمله في
المسألة الساسة من النوع الرابع. "د".
ج / 1 ص -319-
موافق؛
فالمجموع موافق.
فإن قيل: هل يستتب هذان1 الوجهان في جميع الأحكام العادية
والعبادية أم لا؟ فإن الذي يظهر لبادئ الرأي أن قصد
المسببات لازم في العاديات، لظهور وجوه المصالح فيها،
بخلاف العبادات؛ فإنها مبنية على عدم معقولية المعنى؛
فهنالك يستتب عدم الالتفات إلى المسببات؛ لأن المعاني
المعلل بها راجعة إلى جنس المصالح فيها أو المفاسد، وهي
ظاهرة في العاديات، وغير ظاهرة في العباديات, وإذا كان
كذلك؛ فالالتفات إلى المسببات والقصد إليها معتبر في
العاديات، ولا سيما في المجتهد؛ فإن المجتهد إنما يتسع
مجال اجتهاده بإجراء العلل والالتفات إليها، ولولا ذلك لم
يستقم له إجراء الأحكام على وفق المصالح إلا بنص أو إجماع،
فيبطل القياس, وذلك غير صحيح؛ فلا بد من الالتفات إلى
المعاني التي شرعت لها الأحكام2 والمعاني هي مسببات
الأحكام، أما العباديات؛ فلما كان الغالب عليها فقد ظهور
المعاني الخاصة بها، والرجوع إلى مقتضى النصوص فيها؛ كان
ترك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المراد بهما قصد المسبب وعدمه بقطع النظر عما سبق من
اعتبار عدم اللزوم فيهما؛ لأنه سيبني سؤاله على لزوم القصد
في العاديات ولزوم عدم القصد في العبادات. "د".
قلت: وقارن بـ"مجموع فتاوى ابن تيمية" "8/ 536".
2 سرد ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين" "1/ 196-200"
عشرات الأمثلة من تعليلات القرآن والسنة، وله تفصيل وتقعيد
حسن نحو ما عند المصنف في "مفتاح دار السعادة" "2/ 22"،
وسيأتي للمصنف في "2/ 526 وما بعدها" تفصيل مسهب في هذا
الموضوع.
وانظر: "شفاء الغليل" "205" للغزالي، و"أصول الفقه
الإسلامي" "2/ 762" لوهبة الزحيلي، و"شرح الكوكب المنير"
"1/ 312"، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي"
"ص169-207".
ج / 1 ص -320-
الالتفات أجرى على مقصود الشارع فيها، والأمران بالنسبة
إلى المقلد سواء في أن حقه أن لا يلتفت إلى المسببات؛ إلا
فيما كان من مدركاته ومعلوماته العادية في التصرفات
الشرعية.
فالجواب: أن الأمرين في الالتفات وعدمه سواء، وذلك أن
المجتهد إذا نظر في علة الحكم عدى الحكم بها إلى محل هي
فيه لتقع المصلحة المشروع لها الحكم، هذا نظره خاصة1،
ويبقى قصده إلى حصولها بالعمل أو عدم القصد مسكوتا عنه
بالنسبة إليه؛ فتارة يقصد إذا كان هو العامل، وتارة لا
يقصد، وفي الوجهين لا يفوته في اجتهاده أمر؛ كالمقلد سواء،
فإذا سمع قوله, عليه الصلاة والسلام:
"لا يقضي القاضي وهو غضبان"2؛ نظر إلى علة منع القضاء؛ فرآه الغضب، وحكمته تشويش الذهن عن
استيفاء الحجاج بين الخصوم؛ فألحق بالغضب الجوع والشبع
المفرطين، والوجع، وغير ذلك مما فيه تشويش الذهن، فإذا وجد
في نفسه شيئا من ذلك -وكان قاضيا- امتنع من القضاء بمقتضى
النهي، فإن قصد بالانتهاء مجرد النهي فقط, من غير التفات
إلى الحكمة التي لأجلها نهي عن القضاء؛ حصل مقصود الشارع,
وإن لم يقصده القاضي، وإن قصد به ما ظهر قصد الشرع إليه من
مفسدة عدم استيفاء الحجاج؛ حصل مقصود الشارع أيضا؛ فاستوى
قصد القاضي إلى المسبب وعدم قصده، وهكذا المقلد فيما فهم
حكمته من الأعمال وما لم يفهم؛ فهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهو ينظر إلى محلات العلل ليثبت فيها مثل الحكم في
الأصل، وهذا أمر نظري غير [عملي]* أخذه هو بالعمل في هذا
الفرع الذي استنبطه، وعند أخذه في العمل يستوي مع المقلد
في مراعاة المسبب وعدم مراعاته. "د".
2 سيأتي تخريجه "ص411", والحديث في "الصحيحين" وغيرهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سقط من المطبوع.
ج / 1 ص -321-
كالعبادات بالنسبة إلى الجميع، وقد علم أن العبادات وضعت
لمصالح العباد في الدنيا أو في الآخرة1 على الجملة وإن لم
يعلم ذلك على التفصيل ويصح القصد إلى مسبباتها الدنيوية
والأخروية على الجملة؛ فالقصد إليها أو عدم القصد كما
تقدم.
المسألة السادسة:
إذا تقرر ما تقدم؛ فللدخول في الأسباب مراتب تتفرع على
القسمين؛ فالالتفات إلى المسببات بالأسباب له ثلاث مراتب:
إحداها: أن يدخل فيها على أنه فاعل للمسبب أو مولد له؛
فهذا شرك أو مضاه له والعياذ بالله2، والسبب غير فاعل
بنفسه، والله خالق كل شيء،
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
وفي الحديث:
"أصبح من عبادي
مؤمن بي وكافر"3 الحديث؛
فإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله: "أو في الآخرة" ليس شكا منه في وجود فوائد ومصالح
دنيوية للعبادات، وإنما هو مجرد احتياط لبعض الجزئيات،
ولبعض الحالات التي لا تظهر لها مصلحة دنيوية عاجلة، ومما
يؤيد ذلك قوله فيا سيأتي "3/ 144" بعد أن ذكر فوائد الصلاة
في الدنيا والآخرة: ".... وكذلك سائر العبادات فيها فوائد
أخروية وهي العامة، وفوائد دنيوية وهي كلها تابعة للفائدة
الأصلية".
2 انظر في هذا: "الواسطة بين الحق والخلق"، و"مجموع
الفتاوى" "8/ 175-179"، كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب يستقبل
الإمام الناس إذا سلم، 2/ 333/ رقم 846"، ومسلم في "صحيحه"
"كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، 1/
83-84/ رقم 71"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في
النجوم، 4/ 16/ رقم 3906"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب
الاستسقاء، باب كراهية الاستمطار بالكواكب، 3/ 164-165"
وغيرهم من حديث زيد بن خالد الجهني, رضي الله عنه.
وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس وغيرهما.
ج / 1 ص -322-
المؤمن
بالكوكب الكافر بالله هو الذي جعل الكوكب [فاعلا بنفسه،
وهذه المسألة قد تولى النظر فيها أرباب الكلام]1.
والثانية:
أن يدخل في السبب على أن المسبب يكون عنده عادة، وهذا هو
المتكلم على حكمه قبل، ومحصوله طلب المسبب عن السبب لا
باعتقاد الاستقلال، بل من جهة2 كونه موضوعا على أنه سبب
لمسبب؛ فالسبب لا بد أن يكون سببا لمسبب؛ لأنه معقوله،
وإلا لم يكن سببا؛ فالالتفات إلى المسبب من هذا الوجه ليس
بخارج عن مقتضى عادة الله في خلقه، ولا هو مناف لكون السبب
واقعا بقدرة الله تعالى؛ فإن قدرة الله تظهر عند وجود
السبب وعند عدمه؛ فلا ينفي وجود السبب كونه خالقا للمسبب،
لكن هنا قد يغلب الالتفات إليه حتى يكون فقد المسبب مؤثرا
ومنكرا، وذلك لأن العادة غلبت على النظر في السبب بحكم
كونه سببا، ولم ينظر إلى كونه موضوعا بالجعل لا مقتضيا
بنفسه، وهذا هو غالب أحوال الخلق في الدخول في الأسباب.
والثالثة:
أن يدخل في السبب على أن المسبب من الله تعالى؛ لأنه
المسبب؛ فيكون الغالب على صاحب هذه المرتبة اعتقاد أنه
مسبب عن قدرة الله وإرادته، من غير تحكيم لكونه سببا؛ فإنه
لو صح كونه سببا محققا لم يتخلف، كالأسباب العقلية3، فلما
لم4 يكن كذلك؛ تمحض جانب التسبيب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "خ"، وكتب محشيها: "هكذا بياض
في الأصل وهو غير خفي على المتأمل"، وأثبتها "م" و"ط"
أيضا.
2 كلمة "جهة" ليست في "م" و"خ".
3 الأسباب العقلية لا يعترضها مانع ولا يتأخر عنها أثرها
في حال؛ كالزيادة في حجم أحد الشيئين علة في كونه أكبر من
الآخر، ولهذا لم يستطع المعتزلة أن يعطوا السبب المولد
كالتقريب من النار المولد للإحراق حكم العلة العقلية،
واضطروا إلى أن قالوا: إنه يوجب الأثر ما لم يمنع منه
مانع. "خ".
4 في "خ": "لما".
ج / 1 ص -323-
الرباني، بدليل السبب الأول، وهنا يقال لمن حكمه1: فالسبب
الأول عن ماذا تسبب؟ وفي مثله قال عليه الصلاة والسلام:
"فمن أعدى
الأول؟!"2.
فإذا كانت الأسباب مع المسببات داخلة تحت قدرة الله؛ فالله
هو المسبب، لا هي؛ إذ ليس له شريك في ملكه، وهذا كله مبين
في علم الكلام، وحاصله يرجع إلى عدم اعتبار السبب في
المسبب من جهة نفسه، واعتباره فيه من جهة أن الله مسببه،
وذلك صحيح3.
فصل:
وترك الالتفات إلى المسبب له ثلاث مراتب:
إحداها:
أن يدخل في السبب من حيث هو ابتلاء للعباد [وامتحان لهم
لينظر كيف يعملون، من غير التفات إلى غير ذلك، وهذا مبني
على أن الأسباب والمسببات موضوعة في هذه الدار ابتلاء
للعباد]4 وامتحانا لهم؛ فإنها طريق إلى السعادة أو
الشقاوة، وهي على ضربين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بأن اعتقد أنه إذا وُجد وُجد المسبب، وإذا فُقد فُقد
المسبب. "د".
2 مضى تخريجه "ص314"، وكتب "خ" هنا ما نصه: "جاء في
الشريعة ما يقتضي الحذر من العدوى؛ كحديث:
"فر من المجذوم فرارك من الأسد"؛
فالقصد إذًا من حديث:
"لا عدوى" إبطال الاعتقاد بأن العدوى من الأسباب المؤثرة على سبيل الوجوب،
ونبه في الحديث على وجه إبطال هذا الاعتقاد بالإشارة إلى
أن المرض الذي يحدث عند مخالطة بعض المرضى قد يكون مثل
الإصابة الأولى ناشئا عن سبب غير سبب العدوى".
3 وبذلك كانت الأسباب جعلية لا عقلية طبعية، تفضي إلى
آثارها بذوقها.
وانظر: "مدارج السالكين" "3/ 395-401"، و"بدائع الفوائد"
"3/ 178-180"، و"أصول التشريع الإسلامي" "ص285"، و"بحوث
مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "2/ 412" لفتحي الدريني.
4 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
ج / 1 ص -324-
أحدهما: ما وضع لابتلاء العقول، وذلك العالم كله1 من حيث
هو منظور فيه، وصنعة يستدل بها على ما وراءها.
والثاني: ما وضع لابتلاء النفوس، وهو العالم كله أيضا من
حيث هو موصل إلى العباد المنافع والمضار، ومن حيث هو مسخر
لهم ومنقاد لما يريدون فيه؛ لتظهر تصاريفهم تحت حكم القضاء
والقدر، ولتجري أعمالهم تحت حكم الشرع، ليسعد بها من سعد
ويشقى من شقي، وليظهر مقتضى العلم السابق والقضاء المحتم
الذي لا مرد له؛ فإن الله غني عن العالمين، ومنزه عن
الافتقار في صنع ما يصنع إلى الأسباب والوسائط، لكن وضعها
للعباد ليبتليهم فيها.
والأدلة على هذا المعنى كثيرة؛ كقوله سبحانه:
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ2
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:
7].
{الَّذِي
خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
{إِنَّا
جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا
لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7].
{ثُمَّ
جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ
لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14].
{ثُمَّ
بَعَثْنَاهُمْ3 لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى
لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف: 12].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: جملة وتفصيلا، وكذا يقال فيما بعده، وإن كانت تصاريف
كل شخص لا تمس جميع التفاصيل؛ إلا أن الجزئيات مرتبة
بالكليات. "د".
2 تصح دليلا على الابتلاء للعقول والنفوس على مقتضى ما
قرره. "د".
3 ما قبل هذه الآية يرجع إلى قوله: "لتظهر تصاريفهم تحت
حكم القضاء والقدر..." إلخ، والآية وما بعدها -عدا الآية
الأخيرة- يرجع إلى قوله: "وليظهر مقتضى العلم السابق....
إلخ". "د".
ج / 1 ص -325-
{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا...} إلى قوله:
{وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}
[آل عمران: 142].
{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ
وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154].
{ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ}
[آل عمران: 152].
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن وضع الأسباب إنما هي
للابتلاء، فإذا كانت كذلك؛ فالآخذ لها من هذه الجهة آخذ
لها من حيث وضعت مع التحقق1 بذلك فيها، وهذا صحيح، وصاحب
هذا القصد متعبد لله بما تسبب به منها؛ لأنه إذا تسبب
بالإذن فيما أذن فيه لتظهر عبوديته لله فيه، لا ملتفتا إلى
مسبباتها وإن انجرت معها؛ فهو كالمتسبب بسائر العبادات
المحضة.
والثانية:
أن يدخل فيه بحكم قصد التجرد عن الالتفات إلى الأسباب من
حيث هي أمور محدثة، فضلا عن الالتفات إلى المسببات، بناء
على أن تفريد المعبود بالعبادة أن لا يشرك معه في قصده
سواه2، واعتمادا على أن التشريك خروج عن خالص التوحيد
بالعبادة؛ لأن بقاء الالتفات إلى ذلك كله بقاء مع
المحدثات، وركون إلى الأغيار، وهو تدقيق في نفي الشركة،
وهذا أيضا في موضعه صحيح، ويشهد له من الشريعة ما دل على
نفي الشركة؛ كقوله تعالى:
{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ
عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ
أَحَدًا}
[الكهف: 110].
وقوله:
{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ
الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2، 3].
وسائر ما كان من هذا الباب، وكذلك دلائل طلب الصدق في
التوجه لله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "التحقيق".
2 في الأصل و"ط": "سواها".
ج / 1 ص -326-
رب
العالمين، كل ذلك يشعر بهذا المعنى المستنبط في خلوص
التوجه وصدق العبودية؛ فصاحب هذه المرتبة متعبد لله تعالى
بالأسباب الموضوعة على اطراح النظر فيها من جهته، فضلا عن
أن ينظر في مسبباتها؛ فإنما يرجع إليها من حيث هي وسائل
إلى مسببها وواضعها، وسلم إلى الترقي لمقام القرب منه؛ فهو
إنما يلحظ فيها المسبب خاصة.
والثالثة:
أن يدخل في السبب بحكم الإذن1 الشرعي مجردا عن النظر في
غير ذلك، وإنما توجهه في القصد إلى السبب تلبية للأمر2
لتحققه بمقام العبودية؛ لأنه لما أذن له في السبب أو أمر
به؛ لباه من حيث قصد الآمر في ذلك السبب، وقد تبين له أنه
مسببه, وأنه أجرى العادة به، ولو شاء لم يجرها كما أنه قد
يخرقها إذا شاء، وعلى أنه ابتلاء وتمحيص، وعلى أنه يقتضي
صدق التوجه به إليه؛ فدخل على ذلك كله؛ فصار هذا القصد
شاملا لجميع ما تقدم لأنه توخى قصد الشارع من غير نظر في
غيره, وقد علم قصده في تلك الأمور، فحصل له كل ما في ضمن
ذلك التسبب، مما علم ومما لم يعلم؛ فهو طالب للمسبب من
طريق السبب، وعالم بأن الله هو المسبب, وهو المبتلى به،
ومتحقق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو وقوله بعد "وعلى أنه ابتلاء" إشارة للمعنى الأول في
هذا الفصل، وقوله: "يقتضي صدق توجهه هو المعنى الثاني في
الفصل"، وقوله: "وقد تبين له أنه مسببه وأنه أجرى العادة
به ولو شاء... إلخ" إشارة للمعنى الثالث فيما فيه الالتفات
للمسبب، وقد صرح بهذه المعاني بعد؛ فقال: "فهو طالب
للمسبب... إلخ"؛ فقوله: "شاملا لجميع ما تقدم"؛ أي: من
المرتبة الثالثة من القسم الأول والمرتبتين المذكورتين في
هذا الفصل، ويبقى الكلام معه في عد هذه المرتبة الثالثة
هنا مندرجة تحت هذا الفصل الذي موضوعه ترك الالتفات إلى
المسبب؛ فإن هذه المرتبة مزيج من القسمين كما عرفت، كما
يبقى تصحيح الجمع بين الالتفات إلى المسبب وعدم الالتفات
إليه، معا في حال واحدة من شخص واحد. "د".
2 في الأصل العبارة: "تتوجه في القصد إلى السبب... تلبية
إلى الأمر".
ج / 1 ص -327-
في صدق
التوجه به إليه؛ فقصده مطلق وإن دخل فيه قصد المسبب، لكن
ذلك كله منزه عن الأغيار، مصفى من الأكدار1.
المسألة السابعة:
الدخول في الأسباب لا يخلو أن يكون منهيا عنه أو لا.
فإن كان منهيا عنه؛ فلا إشكال في طلب رفع [ذلك] التسبب،
سواء علينا أكان المتسبب قاصدا لوقوع المسبب أم لا؛ فإنه
يتأتى منه الأمران: فقد يقصد بالقتل العدوان إزهاق الروح
فيقع، وقد يقصد بالغصب انتفاعه بالمغصوب فيقع، على مقتضى
[العادة لا على]2مقتضى الشرع، وقد لا يقع ألبتة، وقد يعزب
عن نظره القصد إلى المسبب والالتفات إليه لعارض يطرأ، غير
العارض المتقدم الذكر3 ولا اعتبار به.
وإن كان غير منهي عنه؛ فلا يطلب رفع التسبب في المراتب
المذكورة كلها.
أما الأولى:
فإذا فرضنا نفس التسبب مباحا أو مطلوبا على الجملة؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذلك أن التعلق بالمسببات قد ينسي المسبب الحقيقي، أو
ينسي شكره على ما أعطى من نتائج وثمرات، وقد يكون مرهقا
لصاحبه؛ لشدة همه وفرط حرصه على المسببات، وخوفه من عدم
حصولها، أو حزنه لعدم مجيئها على ما يؤمل، قاله الريسوني
في "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص160".
2ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
3تقدم له ذكر الغفلة التي تعتري العالم حتى تجعله غير عالم
بما يفعل، ومثله بمن يطرأ عليه غفلة ترفع منه منفعة العين
فيصاب, ولكن هذا العارض لما كان يمنع نفس التكليف، وأصل
كلامه أنه منهي عنه ومكلف بعدم التسبب، قال: "غير العارض
المتقدم الذكر"، وقوله: "ولا اعتبار به"؛ أي: بهذا العارض
هنا لأنه لا يزال معه منهيا عن التسبب ومكلفا. "د".
ج / 1 ص -328-
فاعتقاد المعتقد لكون السبب هو الفاعل معصية قارنت ما هو
مباح أو مطلوب، فلا يبطله؛ إلا إن قيل: إن مثل هذه
المقارنة مفسدة، وإن المقارن للمعصية تصيره منهيا عنه،
كالصلاة في الدار المغصوبة، والذبح بالمدية المغصوبة، وذلك
مبين في الأصول.
وأما الثانية:
فظاهر أن التسبب صحيح؛ لأن العامل فيها إذا اعتمد على
جريان العادات، وكان الغالب فيها وقوع المسببات عن
أسبابها، وغلب على الظن ذلك؛ كان ترك التسبب كإلقاء باليد
إلى التهلكة أو هو هو، وكذلك إذا بلغ [اعتقاده] مبلغ القطع
العادي؛ فواجب عليه أن يتسبب، ولأجل هذا قالوا في المضطر:
إنه1 إذا خاف الهلكة وجب عليه السؤال أو الاستقراض أو أكل
الميتة ونحوها، ولا يجوز أن يترك نفسه حتى يموت، ولذلك قال
مسروق: "ومن اضطر إلى شيء مما حرم الله عليه فلم يأكل ولم
يشرب حتى مات؛ دخل النار"2.
وأما الثالثة:
فالتسبب أيضا ظاهر؛ إلا أنه يبقى فيها بحث: هل يكون
صاحبها بمنزلة3 صاحب المرتبة الثانية أم لا؟ هذا مما ينظر
فيه، وإطلاق كلام الفقهاء يقتضي عدم التفرقة، وأحوال
المتوكلين ممن دخل تحت ترجمة التصوف لا تقتضي ذلك، هذا وإن
كان ظاهر كلام الغزالي تساوي المرتبتين في هذا الحكم
كطريقة الفقهاء، على تفصيل له في ذلك4؛ فالذي يظهر في
المسألة نظر آخر، وذلك أن هذه المرتبة تكون علمية وتكون
حالية5، والفرق بين العلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
2 "استدراك1".
3 لأن الفرق بينهما لا يترتب عليه فرق في غلبة الظن بوقوع
المسبب عند السبب؛ فيجيء فيه التفصيل المذكور من وجوب
التسبب وعصيانه بتركه. "د".
4 انظر: "إحياء علوم الدين" "4/ 261 وما بعدها".
5 يعلم الإنسان حقيقة التوكل أو الصبر أو الخشية، ولا شك
أن علمه بهذه الحقائق وما شاكلها غير اتصافه بها، فإذا
ارتقى قلبه إليها، وانصبغت نفسه بأثرها حتى غلب عليها
حاله؛ انتقل من حكم العمل بالعلم وحده إلى حكم العمل
بالحال المصاحب للعلم؛ فالحال ثمرة العلم، ولا يكمل إلا
إذا تصرف في صاحبه على مقتضى قانون العلم المثمر إليه.
"خ".
ج / 1 ص -329-
والحال
معروف عند أهله، فإذا كانت علمية؛ فهي المرتبة الثانية1؛
إذ كان واجبا على كل مؤمن أن يعتقد أن الأسباب غير فاعلة
بأنفسها، وإنما الفاعل2 فيها مسببها سبحانه، لكن عادته في
خلقه جارية بمقتضى العوائد المطردة، وقد يخرقها إذا شاء
لمن شاء، فمن حيث كانت عادة؛ اقتضت الدخول في الأسباب، ومن
حيث كانت الأسباب فيها بيد خالق المسببات؛ اقتضت أن للفاعل
أن يفعل بها وبدونها؛ فقد يغلب على المكلف أحد الطرفين،
فإن غلب الطرف الأول وهو العادي؛ فهو ما تقدم3، وإن غلب
الثاني؛ فصاحبه مع السبب أو بدونه على حالة واحدة؛ فإنه
إذا جاع مثلا فأصابته مخمصة؛ فسواء عليه أتسبب أم لا؛ إذ
هو على بينة أن السبب كالمسبب بيد الله تعالى، فلم يغلب
على ظنه -والحال هذه- أن تركه للسبب إلقاء باليد إلى
التهلكة؛ بل عقده في كلتا الحالتين واحد؛ فلا يدخل تحت
قوله:
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}4 [البقرة: 195]؛ فلا يجب عليه التسبب في رفع ذلك؛ لأن علمه5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهي بمنزلتها، وتشترك معها في المآل؛ فحكمها حكمها.
"د".
2 في الأصل: "الدليل"، وهناك إشارة لخطئها مع عدم ذكر
الصحيح، والله أعلم.
3 أي: ويكون صاحبها لم يرتق فيها عن الحالة العلمية إلى
التحقق بها وصيرورتها صفة له كالطبعية، يجري في أفعاله على
مقتضاها دون كلفة ولا حمل لنفسه عليها. "د".
4 في "صحيح مسلم" وغيره أن أبا أيوب الأنصاري -رضي الله
عنه- رد على من فهموا أن حمل الغازي الواحد على جماعة
العدو من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وبين لهم أن الإلقاء
باليد إلى التهلكة الذي نزلت فيه الآية هو ترك الجهاد
والإقبال على الدنيا وعمارتها، والتحقيق أنه يجوز للواحد
الحمل على الكتيبة متى غلب على ظنه أن يكون لإقدامه أثر
نافع؛ كالفتك ببعض رجال العدو، أو إرهابهم, أو تشجيع غيره
من المسلمين. "خ".
5 أي: الذي صار حالة له كالأوصاف الطبيعية. "د".
ج / 1 ص -330-
بأن
السبب في يد المسبب أغناه عن تطلب المسبب من جهته على
التعيين، بل السبب وعدمه في ذلك سواء، فكما أن أخذه للسبب
لا يعد إلقاء باليد إذا كان اعتماده على المسبب، كذلك في
الترك، ولو فرض أن آخذ السبب أخذه بإسقاط الاعتماد على
المسبب؛ لكان إلقاء باليد إلى التهلكة لأنه اعتمد على نفس
السبب، وليس في السبب نفسه ما يعتمد عليه, وإنما يعتمد
عليه من جهة كونه موضوعا سببا، فلذلك إذا ترك السبب لا
لشيء1؛ فالسبب وعدمه في الحالين سواء في عقد الإيمان
وحقائق الإيقان2.
وكل أحد فقيه نفسه، وقد مر الدليل على ذلك3، وقد قال في
الحديث:
"جف القلم بما هو كائن، فلو
اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك؛ لم
يقدروا عليه، [وعلى أن
يمنعوك شيئا كتبه الله لك؛ لم يقدروا عليه]"4،
وحكى عياض5 عن الحسن بن نصر السوسي -من فقهاء المالكية- أن
ابنه قال له في سنة غلا فيها السعر: يا أبت! اشتر طعاما؛
فإني أرى السعر قد غلا. فأمر ببيع ما كان في داره من
الطعام، ثم قال لابنه: لست من المتوكلين على الله، وأنت
قليل اليقين، كأن القمح إذا كان عند أبيك ينجيك من قضاء
الله عليك! من توكل على الله؛ كفاه الله.
ونظير مسألتنا في الفقه؛ الغازي إذا حمل وحده على جيش
الكفار؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا لسبب آخر. "د".
2 تكلم ابن تيمية على نحو ما عند المصنف، ولكن على وجه
آخر. انظر: "مجموع الفتاوى" "8/ 520-523".
3 في المسألة الخامسة.
4 مضى تخريجه "ص315"، وهو حديث صحيح، وما بين المعقوفتين
زيادة من الأصل و"ط".
5 في "ترتيب المدارك" "6/ 36-ط المغربية".
ج / 1 ص -331-
فالفقهاء يفرقون بين أن يغلب على ظنه السلامة، أو الهلكة،
أو يقطع بإحداهما؛ فالذي اعتقد السلامة جائز له ما فعل،
والذي اعتقد الهلكة من غير نفع يمنع من ذلك، ويستدلون على
ذلك بقوله تعالى:
{وَلا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
وكذلك داخل المفازة بزاد أو بغير زاد؛ إذا غلب على ظنه
السلامة فيها جاز له الإقدام، وإن غلب على ظنه الهلكة لم
يجز.
وكذلك إذا غلب على ظنه الوصول إلى الماء في الوقت؛ أمر
بالتأخير ولا يتيمم [فإن غلب على ظنه أن لا ماء يتيمم]،
[وكذلك راكب البحر1 وعلى هذا يباح له التيمم مع وجود الماء
في رحله أو يمنع، وإن غلب على ظنه الوصول إلى الماء في
الوقت]2، وإذا غلب على ظن المريض زيادة المرض أو تأخر
البرء أو إصابة المشقة بالصوم، أفطر... إلى غير ذلك من
المسائل المبنية3 على غلبات الظنون، وإن كانت موجبات
الظنون تختلف؛ فذلك غير قادح في هذا الأصل، فمسألتنا داخلة
تحت هذه القاعدة.
فمن تحقق بأن الخروج عن السبب كالدخول فيه بالنسبة إلى
ضمان الله تعالى الرزق؛ صح أن يقال: إنه لا يجب عليه
التسبب فيه, ولذلك نجد أصحاب الأحوال يركبون الأهوال،
ويقتحمون الأخطار، ويلقون بأيديهم إلى ما هو عند غيرهم
تهلكة؛ فلا يكون كذلك، بناء على أن ما هم فيه من مواطن
الغرر وأسباب الهلكة، يستوي مع ما هو عندنا من مواطن الأمن
وأسباب النجاة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا غلب على ظنه السلامة في ركوب السفينة ركبها، وإلا؛
منع من ركوبها. "د". وانظر في المسألة: "5/ 354" مع
التعليق عليه.
2 ينظر في هذا. "د". قلت: انظر في المسألة: "الإشراف"
للقاضي عبد الوهاب "1/ 38"، و"الخلافيات" للبيهقي "2/
519-525" مع تعليقي عليها, وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
3 في الأصل: "المبنيات".
ج / 1 ص -332-
وقد
حكى عياض1 عن أبي العباس الإبياني2: "أنه دخل عليه عطية
الجزري العابد؛ فقال له: أتيتك زائرا ومودعا إلى مكة. فقال
له أبو العباس: لا تخلنا من بركة دعائك. وبكى، وليس مع
عطية ركوة ولا مزود، فخرج مع أصحابه, ثم أتاه بأثر ذلك
رجل؛ فقال له: أصلحك الله! عندي خمسون مثقالا ولي بغل؛ فهل
ترى لي الخروج إلى مكة؟ فقال له: لا تعجل حتى توفر هذه
الدنانير. قال الراوي: فعجبنا من اختلاف جوابه للرجلين مع
اختلاف أحوالهما. فقال أبو العباس: عطية جاءني مودعا غير
مستشير، وقد وثق بالله، وجاءني هذا يستشيرني ويذكر ما
عنده؛ فعلمت ضعف نيته، فأمرته بما رأيتم".
فهذا إمام من أهل العلم أفتى لضعيف النية بالحزم في
استعداد الأسباب، والنظر في مراعاتها، وسلم لقوي اليقين في
طرح الأسباب3؛ بناء -والله أعلم- على القاعدة المتقدمة في
الاعتقادات وغلبات الظنون في السلامة والهلكة، وهي مظان
النظر الفقهي، ولذلك يختلف الحكم باختلاف الناس في النازلة
الواحدة؛ كما تقدم.
فإن قيل؛ فصاحب هذه المرتبة؛ أي الأمرين أفضل له؛ الدخول
في السبب, أم تركه؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ترتيب المدارك" "2/ 351 - ط مكتبة دار الحياة -
بيروت".
2 قال عياض في "ترتيب المدارك" "2/ 347": "بكسر الهمزة
وتشديد الباء ويقال: صوابه تخفيفهما". وانظر: "التبصير"
"1/ 36"، و"الأنساب" "1/ 128" مع الحاشية.
3 تهافت على هذا المسلك طوائف زين لهم الكسل أن يفسروا به
معنى فضيلة التوكل؛ فنفضوا أيديهم من العمل واستعاضوا عنه
البطالة والتطلع بما في أيدي الناس؛ فكانوا حملا ثقيلا على
أعناق العاملين، ومن البلية أن هذا التحريف الباطل لكلمة
التوكل قد ضرب وباؤه في القلوب، وكان من أكبر العلل التي
قعدت بالشعوب الإسلامية عن القيام بوسائل المنعة حتى هوت
إلى درك الشقاء والتخبط في أسر الذلة والاضطهاد. "خ".
ج / 1 ص -333-
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الأسباب في حقه لا بد منها، كما أنها كذلك في
حق غيره؛ فإن خوارق العادات وإن قامت له مقام الأسباب في
حقه؛ فهي في أنفسها أسباب، لكنها أسباب غريبة، والتسبب غير
منحصر في الأسباب المشهورة؛ فالخارج مثلا للحج بغير زاد
يرزقه الله من حيث لا يحتسب؛ إما من نبات الأرض، وإما من
جهة من يلقى من الناس في البادية وفي الصحراء، وإما من
حيوان الصحراء، أو من غير ذلك، ولو أن ينزل عليه من
السماء، أو يخرجه من الأرض بخوارق العادات أسباب جارية،
يعرفها أربابها المخصوصون بها؛ فليس هذا الرجل خارجا عن
العمل بالأسباب، ومنها الصلاة؛ لقوله تعالى:
{وَأْمُرْ
أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}
[طه: 132].
وروي أنه, عليه الصلاة والسلام "كان يأمر أهله بالصلاة إذا
لم يجدوا قوتا"1، وإذا كان كذلك؛ فالسؤال غير وارد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطبراني في "الأوسط" "1/ 487"، والواحدي في
"الوسيط" "3/ 228"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 176"،
والبيهقي في "الشعب" "7/ رقم 9705"، وسعيد بن منصور في
"سننه" وابن المنذر في "تفسيره"؛ كما قال السيوطي في "حصول
الرفق" "رقم 29" من طريق معمر عن محمد بن حمزة عن عبد الله
بن سلام؛ قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا
نزلت بأهله شدة أو ضيق؛ أمرهم بالصلاة، وتلا:
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}".
ورجاله ثقات؛ كما في "مجمع الزوائد" "7/ 67"، إلا أنه
منقطع، محمد بن حمزة لم يسمع من جده عبد الله بن سلام.
وله شاهد من مرسل ثابت البناني؛ قال: كان رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- إذا أصابه خصاصة نادى أهله:
"يا أهلاه! يا أهلاه! صلوا".
أخرجه أحمد في "الزهد" "10"، وابن أبي حاتم في "التفسير"
-كما في "تفسير ابن كثير" "3/ 79"- وهو مرسل؛ فالحديث
ضعيف.
وأخرج عبد الرزاق نحوه بإسناد ضعيف، وانظر: "الدر المنثور"
"5/ 613"، و"الفتح السماوي بتخريج أحاديث تفسير البيضاوي"
"2/ 824-825".
ج / 1 ص -334-
والثاني, على تسليم وروده: أن أصحاب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يُعلم قطعا أنهم حازوا هذه المرتبة واستيقنوها
حالا وعلما، ولكنه -عليه السلام- ندبهم إلى الدخول في
الأسباب المقتضية لمصالح الدنيا، كما أمرهم بالأسباب
المقتضية لمصالح الآخرة، ولم يتركهم مع هذه الحالة؛ فدل
ذلك على أن الأفضل ما دلهم عليه، ولأن هذه الحالة لا يعتد
بها مقاما يقام1 فيه؛ ألا ترى إلى قوله, عليه الصلاة
والسلام:
"قيدها وتوكل"2؟!
وأيضا؛ فأصحاب هذه الحالة هم أهل خوارق العادات، ولم
يتركوا معها التسبب تأدبا بآداب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وكانوا أهل علم، ولم يكونوا ليتركوا الأفضل إلى
غيره.
وأما المرتبة الرابعة:
وهي مرتبة الابتلاء؛ فالتسبب فيها أيضا ظاهر، فإن
الأسباب قد صارت عند صاحبها تكليفا يبتلى به على الإطلاق،
لا يختص ذلك بالأسباب العبادية دون العادية، فكما أن
الأسباب العبادية لا يصح فيها الترك اعتمادا على الذي
سببها من حيث كانت مصروفة إليه؛ كذلك الأسباب العادية، ومن
هنا لما قال عليه السلام:
"ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار". قالوا: يا
رسول الله! فلم نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال:
"لا، اعملوا؛ فكل ميسر لما خلق له".
ثم قرأ:
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] إلى آخرها3؛ فكذلك العاديات؛ لأنها عبادات، فهي عنده
جارية على الأحكام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "يقدم"، وفي النسخ المطبوعة: "يقوم"، والمثبت
من "ط".
2 مضى تخريجه "ص304" وهو حديث حسن.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب القدر، باب وكان أمر
الله قدرا مقدورا، 11/ 494/ رقم 6605"، ومسلم في "الصحيح"
"كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابه:
رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، 4/ 2040/ رقم 2647"
بألفاظ، المذكور لفظ مسلم برقم "2647" بعد "7"، ولكن ليس
فيه لفظة "منفوسة"، وهي فيه برقم "2647" بعد "1"، لكن بلفظ
مغاير عن هذا السياق، وهو من حديث علي, رضي الله عنه.
ج / 1 ص -335-
الموضوعة، ونظر صاحب هذه المرتبة في الأسباب مثل نظره في
العبادات، يعتبر فيها مجرد الأسباب ويدع المسببات لمسببها.
وأما المرتبة الخامسة:
فالتسبب فيها صحيح أيضا؛ لأن صاحبها وإن لم يلتفت إلى
السبب من حيث هو سبب، ولا إلى المسبب من باب أحرى؛ فلا بد
منه من جهة ما هو راق به وملاحظ للمسبب من جهته، بدليل
الأسباب العبادية، ولأنها إنما صارت قرة عينه لكونها سلما
إلى المتعبد إليه بها؛ فلا فارق بين العاديات والعباديات؛
إلا أن صاحب هذه المرتبة مأخوذ في تجريد الأغيار على
الجملة، فربما رمى من الأسباب بما ليس بضروري، واقتصر على
ما هو ضروري، وضيق على نفسه المجال فيها، فرارا من تكاثرها
على قلبه؛ حتى يصح له اتحاد الوجهة، وإذا كانت الأسباب
موصلة إلى المطلوب؛ فلا شك في أخذها في هذه الرتبة؛ إذ من
جهتها يصح المطلوب.
وأما السادسة:
فلما كانت جامعة لأشتات ما ذكر قبلها؛ كان ما يشهد لما
قبلها شاهدا لها؛ غير أن ذلك فيها معتبر من جهة صفة
العبودية وامتثال الأمر، لا من جهة أمر آخر؛ فسواء عليه
أكان التكليف ظاهر المصلحة أم غير ظاهرها؛ كل ذلك تحت قصد
العبد امتثال أمر الله، فإن كان المكلف به مما يرتبط به
بعض الوجود أو جميعه؛ كان قصد في امتثال الأمر شاملا له،
والله أعلم.
المسألة الثامنة:
إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب، قصد ذلك المسبب أو لا؛
لأنه لما جعل مسبب عنه في مجرى العادات؛ عد كأنه فاعل له
مباشرة، ويشهد لهذا
ج / 1 ص -336-
قاعدة
مجاري العادات؛ إذ أجري فيها نسبة المسببات إلى أسبابها،
كنسبة الشبع إلى الطعام، والإرواء إلى الماء، والإحراق إلى
النار، والإسهال إلى السقمونيا1، وسائر المسببات إلى
أسبابها2؛ فكذلك الأفعال التي تتسبب عن كسبنا منسوبة إلينا
وإن لم تكن من كسبنا، وإذ كان هذا معهودا معلوما؛ جرى عرف
الشرع في الأسباب الشرعية مع مسبباتها على ذلك الوزان.
وأدلته في الشرع كثيرة بالنسبة إلى الأسباب المشروعة أو
الممنوعة؛ كقول الله تعالى:
{مِنْ
أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ
مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ...} إلى
قوله:
{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ
جَمِيعًا3} [المائدة: 32].
وفي الحديث:
"ما من نفس
تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من
سن القتل"4.
وفيه:
"من سن سنة
حسنة؛ كان له أجرها وأجر من عمل بها"5.
وكذلك:
"من سن سنة
سيئة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السقمونيا: نبات يستخرج منه دواء مسهل للبطن؛ كما في
"المعجم الوسيط" "س ق م".
2 في الأصل: "الأسباب إلى مسبباتها".
3 هذا مبني على أن المراد بالقتل والإحياء المسبب، وهو في
الآيتين زهوق الروح والحياة؛ فيكون فيه نسبة المسبب وهو
الحياة والموت إلى المتسبب، وقد سبق له في المسألة الثانية
جعل القتل سببا لا مسببا، ويمكن إرادته هنا؛ فلا يكون فيه
دليل. "د".
4 مضى تخريجه "ص223"، والحديث في "الصحيحين".
5 مضى تخريجه "ص222"، وهو صحيح.
ج / 1 ص -337-
وفيه1: "إن الولد لوالديه ستر من النار"2، و"إن من
غرس غرسا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة،
وما أكل السبع؛ فهو له صدقة، وما أكلت الطير؛ فهو له صدقة،
ولا يرزؤه3
أحد إلا كان له صدقة"4،
وكذلك الزرع، والعالم يبث العلم؛ فيكون له أجر كل من انتفع
به5.
ومن ذلك ما لا يحصى، مع أن المسببات التي حصل بها النفع أو
الضر ليست من فعل المتسبب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من هنا إلى آخر المسألة واضح فيه نسبة المسبب إلى
المتسبب، وهو يدل على مدعاه. "د".
2 لم أظفر به بهذا اللفظ، ولكن أخرج أحمد في "المسند" "4/
386" ضمن حديث عمرو بن عبسة السلمي, مرفوعا:
"وأيما رجل مسلم قدم لله -عز وجل- من صلبه ثلاثة لم يبلغوا الحنث أو
امرأة؛ فهم له سترة من النار".
وقد خرجته في تحقيقي لرسالة السيوطي "التعلل والإطفا" "رقم
21"، وهو صحيح.
3 أي: لا ينقصه ويأخذ منه.
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الحرث والمزارعة، باب
فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، 5/ 3/ رقم 2320، وكتاب
الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، 10/ 438/ رقم 6012"،
ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع،
3/ 1189/ رقم 1553" عن أنس مرفوعا بلفظ: "ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو
بهيمة؛ إلا كان له به صدقة".
وأخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 1552" عن جابر بلفظ: "ما من مسلم يغرس غرسا؛ إلا كان من أكل منه..." تتمته باللفظ الذي أورده المصنف.
5 قال الشيخ ابن عرفة في حديث:
"أو علم ينتفع به" إنما تدخل التآليف في الأعمال التي لا
ينقطع ثوابها إذا اشتملت على فوائد زائدة "يعني: على ما في
الكتب السابقة"، وإلا؛ فهي إضاعة للورق، وهذا تلميح منه إلى انحطاط درجة من ليس له
من المعلومات سوى ما يتلقاه بتقليد، وشرف من رزق فكرا
يتجول في حدائق العلم حتى يعود بثمر جديد. "خ".
ج / 1 ص -338-
فإذا
كان كذلك؛ فالداخل في السبب إنما يدخل فيه مقتضيا لمسببه،
لكن تارة يكون مقتضيا له على الجملة والتفصيل، وإن كان غير
محيط بجميع التفاصيل, وتارة يدخل فيه مقتضيا له على الجملة
لا على التفصيل، وذلك أن ما أمر الله به؛ فإنما أمر به
لمصلحة يقتضيها فعله، وما نهى عنه؛ فإنما نهى عنه لمفسدة
يقتضيها فعله, فإذا فعل؛ فقد دخل على شرط أنه يتسبب فيما
تحت السبب من المصالح أو المفاسد، ولا يخرجه عن ذلك عدم
علمه بالمصلحة أو المفسدة أو بمقاديرهما, فإن الأمر قد
تضمن أن في إيقاع [المأمور به مصلحة علمها الله، ولأجلها
أمر به، والنهي قد تضمن أن في إيقاع]1 المنهي عنه مفسدة
علمها الله، ولأجلها نهى عنه؛ فالفاعل ملتزم لجميع ما
ينتجه ذلك السبب من المصالح أو المفاسد، وإن جهل تفاصيل
ذلك.
فإن قيل: أيثاب أو يعاقب على ما لم يفعل؟
فالجواب: أن الثواب والعقاب إنما ترتب على ما فعله
وتعاطاه، لا على ما لم يفعل لكن الفعل يعتبر شرعا بما يكون
عنه2 من المصالح أو المفاسد وقد بين الشرع ذلك، وميز بين
ما يعظم من الأفعال مصلحته؛ فجعله ركنا، أو مفسدته؛ فجعله
كبيرة وبين ما ليس كذلك؛ فسماه في المصالح إحسانا وفي
المفاسد صغيرة، وبهذه الطريقة يتميز ما هو من أركان الدين
وأصوله، وما هو من فروعه وفصوله ويعرف ما هو من الذنوب
كبائر، وما هو منها صغائر، فما عظمه الشرع في المأمورات؛
فهو من أصول الدين، وما جعله دون ذلك؛ فمن فروعه
وتكميلاته، وما عظم أمره في المنهيات؛ فهو من الكبائر, وما
كان دون ذلك؛ فهو من الصغائر، وذلك على مقدار المصلحة أو
المفسدة3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفي "ط": "والنهي كذلك
قد...".
2 أي: يقيم الفعل بما يترتب عليه.
3 سيأتي للمصنف بيان فيه ضابط أدق للفرق بين الضروريات
والحاجيات؛ وذلك في المسألة السابعة عشرة في النوع الرابع
من القسم الأول من المقاصد، وفي "الاعتصام" "2/ 38-39"
للمصنف نحو ما ذكر هنا مع تفصيل زائد.
ج / 1 ص -339-
المسألة التاسعة:
ما ذكر في هذه المسائل من أن المسببات غير مقدورة للمكلف،
وأن السبب هو المكلف به، إذا اعتبر ينبني عليه أمور:
أحدها:
أن متعاطي السبب إذا أتى به بكمال شروطه1 وانتفاء
موانعه، ثم قصد أن لا يقع مسببه؛ فقد قصد محالا، وتكلف رفع
ما ليس له رفعه، ومنع ما لم يجعل له منعه.
فمن عقد نكاحا على ما وضع له في الشرع، أو بيعا أو شيئا من
العقود، ثم قصد أن لا يستبيح بذلك العقد ما عقد عليه؛ فقد
وقع قصده عبثا، ووقع المسبب الذي أوقع سببه، وكذلك إذا
أوقع طلاقا أو عتقا قاصدا به مقتضاه في الشرع, ثم قصد أن
لا يكون مقتضى ذلك؛ فهو قصد باطل، ومثله في العبادات؛ إذا
صلى، أو صام، أو حج كما أمر، ثم قصد في نفسه أن ما أوقع من
العبادة لا يصح له، أو لا ينعقد قربة، وما أشبه ذلك؛ فهو
لغو.
وهكذا الأمر في الأسباب الممنوعة، وفيه جاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} الآية: [المائدة: 87]2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وضع الأصل من أول الأمر على أنه تعاطى السبب بكمال شروطه
ثم قصد ألا يقع... إلخ، وفي تمثيلاته أيضا في العادات
والعبادات لاحظ ذلك ليسلم له الأصل من الإشكالات الآتية؛
فأنت تراه جعل القصد المخالف لقصد الشارع لاحقا لتمام
العمل لا مقارنا، إلا أنه يبقى الكلام في قوله في الطلاق
والعتق؛ "قاصدا به مقتضاه في الشرع", إن كان مراده أنه لم
يغلط ولم يسبق لسانه فواضح، وإن كان مراده ما هو ظاهره من
أنه لا بد من قصد المعنى؛ فالفقه عند المالكية غير ذلك، بل
لو كان هازلا لوقع الطلاق والعتق، ولم يكن له رفعه. "د".
2 فقوله:
{وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ..} إلخ
بعد ذكر التحريم يفيد أن التحريم السابق المنهي عنه لغو؛
كأنه قال: وكلوا من هذا الطيب الذي حرمتموه. "د".
ج / 1 ص -340-
ومن
هنا كان تحريم ما أحل الله عبثا؛ من المأكول، والمشروب,
والملبوس، والنكاح، وهو غير ناكح في الحال ولا قاصد
للتعليق في خاص1 -بخلاف العام- وما أشبه ذلك؛ فجميع ذلك
لغو؛ لأن ما تولى الله حليته بغير سبب من المكلف ظاهر مثل
ما تعاطى المكلف السبب فيه، ومثله قوله, عليه الصلاة
والسلام:
"إنما الولاء2
لمن أعتق"3،
وقوله: "من اشترط شرطا ليس في كتاب الله؛ فهو باطل، وإن كان مائة شرط"4 الحديث.
وأيضا؛ فإن الشارع قاصد لوقوع المسببات عن أسبابها كما
تقدم، فقصد هذا القاصد مناقض لقصد الشارع، وكل قصد ناقض
قصد الشارع فباطل5؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 احتاج إليه على مذهب مالك لا على مذهب الشافعي؛ فالتعليق
عنده كله لغو. "د".
2 فالشارع جعل الولاء لمن أعتق مسببا عن عتقه؛ فمن وقع
العتق منه ثبت له الولاء، فمن أراد رفعه قصد محالا وتكلف
رفع ما ليس له رفعه، وهو دليل على أصل المسألة, وإن كان في
موضوع خاص بالولاء. "د".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الفرائض، باب الولاء
لمن أعتق، 12/ 39/ رقم 6751، 6754"، ومسلم في "صحيحه"
"كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، 2/ 1141/ رقم
1504" من حديث عائشة, رضي الله عنها.
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب إذا اشترط
شروطا في البيع لا تحل، 4/ 376/ رقم 2168"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، 2/ 1042/
رقم 1504" من حديث عائشة, رضي الله عنها.
وهو وما قبله دليل على أن ما جعله الله مسببا عن شيء، فقصد
العبد رفع هذا المسبب لغو؛ إلا أن الأول خاص، وهذا عام في
الولاء وغيره. "د".
5 من الفروع الموضحة لهذه القاعدة أن الزوج لا يملك إسقاط
الرجعة لأنها حق أثبته الله شرعا، فمن قال لزوجته: أنت
طالق ولا رجعة لي عليك؛ نفذ طلاقه وبقي حق الرجعة في يده
لأنها من الحقوق التي رتبها الشارع على الطلاق غير البائن،
وما قرره الشارع لا يملك المكلف رفعه بحال. "خ".
ج / 1 ص -341-
فهذا
القصد باطل، والمسألة واضحة.
فإن قيل: هذا مشكل من وجهين:
أحدهما: أن اختيار المكلف وقصده شرط في وضع الأسباب1، فإذا
كان اختياره منافيا لاقتضاء الأسباب لمسبباتها؛ كان معنى
ذلك أن الأسباب لم يتعاطها المكلف على كمالها، بل مفقودة
الشرط وهو الاختيار، فلم تصح من جهة فقد الشرط؛ فيلزم أن
تكون المسببات الناشئة عن الأسباب غير واقعة لفقد
الاختيار.
والثاني: أن القصد المناقض لقصد الشارع مبطل للعمل حسبما
هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب، وتعاطي الأسباب المبيحة
مثلا بقصد أن لا تكون مبيحة مناقضة لقصد الشارع ظاهرة، من
حيث كان قصد الشارع التحليل2 بوساطة هذه الأسباب؛ فيكون
إذًا تعاطي هذه الأسباب باطلا وممنوعا؛ كالمصلي قاصدا
بصلاته ما لا تجزئه لأجله, والمتطهر يقصد أن لا يكون
مستبيحا للصلاة، وما أشبه ذلك؛ فالجمع بين هذا الأصل
والأصل المذكور جمع بين متنافيين، وهو باطل.
فالجواب عن الأول: أن الفرض إنما هو في موقع الأسباب
بالاختيار لأن تكون أسبابا, لكن مع عدم اختياره للمسبب
وليس الكلام في موقعها بغير اختيار، والجمع بينهما ممكن
عقلا؛ لأن أحدهما سابق على الآخر؛ فلا يتنافيان؛ كما إذا
قصد الوطء واختاره وكره خلق الولد، أو اختار وضع البذر في
الأرض وكره نباته، أو رمى بسهم صوبه على رجل ثم كره أن
يصيبه، وما أشبه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإن الأفعال والتروك إذا عريت عن القصد كانت لغوا, كما
تقرر في المسألة السادسة من كتاب الأحكام. "د".
2 في جميع النسخ "التحصيل" والمثبت من "ط".
ج / 1 ص -342-
ذلك،
فكما يمكن اجتماعها1 في العاديات؛ فكذلك في الشرعيات.
والجواب عن الثاني: أن فاعل السبب في مسألتنا قاصد أن يكون
ما وضعه الشارع منتجا غير منتج, وما وضعه سببا فعله هنا
على أن يكون سببا لا يكون له مسبب، وهذا ليس له؛ فقصده فيه
عبث بخلاف ما هو مذكور في قاعدة مقاصد الشارع؛ فإن فاعل
السبب فيه قاصد لجعله سببا لمسب لم يجعله الشارع مسببا له،
كنكاح المحلل عند القائل بمنعه؛ فإنه قاصد بنكاحه التحليل
لغيره، ولم يضع الشارع النكاح لهذا المسبب؛ فقارن هذا
القصد العقد فلم يكن سببا شرعيا2؛ فلم يكن محللا للناكح
ولا للمحلل له لأنه باطل.
وحاصل الأمر أن أحدهما أخذ السبب على أنه ليس بسبب3،
والآخر أخذه على أنه سبب لا ينتج؛ فالأول لا ينتج له شيئا،
والآخر ينتج له؛ لأنه ليس الإنتاج باختياره ولا عدمه، فهذا
لم يخالف قصد الشارع في السبب من حيث هو سبب، ولكن زعم أنه
لا يقع مسببه، وهذا كذب أو طمع في غير مطمع، والأول تعاطاه
على أنه ليس بالسبب الموضوع للشارع؛ فاعرف الفرق بينهما؛
فهو دقيق.
ويوضحه4 أن القصد في أحدهما مقارن للعمل فيؤثر فيه، والآخر
تابع له بعد استقراره فلا يؤثر فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: اختيار السبب وقصده ليكون سببا، وقصده عدم المسبب،
وقوله: "العاديات"؛ أي: الأمثلة الثلاثة. "د".
2 في الأصل: "مرعيا".
3 أي: مع أنه ليس بسبب, أي: قصد به ما لم يجعل سببا له،
والثاني بعد ما تعاطى السبب كاملا قصد ألا يقع مسببه وطلب
رفع الواقع كما يقولون. "د".
4 أي: يوضح المقام في ذاته لا الحاصل المتقدم. "د".
ج / 1 ص -343-
فإن
قيل: لم لا يكون هذا في الحكم كالرفض في العبادات؟ فإنه في
الحقيقة رفض لكونه سببا شرعيا؛ فالطهارة مثلا سبب في رفع
الحدث، فإذا قصد أنها لا ترفع الحدث؛ فهو معنى رفض النية
فيه، وقد قالوا: إن رفض النية ينهض سببا في إبطال العبادة؛
فرجع البحث إلى أن ذلك كله إبطال لأنفس الأسباب1 لا إبطال
المسببات.
فالجواب: أن الأمر ليس كذلك، وإنما يصح الرفض في أثناء
العبادة إذا كان قاصدا بها امتثال الأمر، ثم أتمها على غير
ذلك، بل بنية أخرى ليست بعبادته التي شرع فيها؛ كالمتطهر
ينوي رفع الحدث، ثم ينسخ تلك النية بنية التبرد أو التنظف
من الأوساخ البدنية، وأما بعد ما تمت العبادة وكملت على
شروطها؛ فقصده أن لا تكون عبادة ولا يترتب عليها حكم آخر
من إجزاء أو استباحة أو غير ذلك غير مؤثر فيها؛ بل هي على
حكمها لو لم يكن ذلك القصد؛ فالفرق بينهما ظاهر.
ولا يعارض ذلك كلام من تكلم في الرفض، وقال إنه يؤثر، ولم
يفصل2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيعود الإشكال الأول. "د".
2 بل جعل رفض الوضوء ولو بعد تمامه وقبل أداء الصلاة به
مبطلا له. "د".
قلت: من نسب القول إلى مالك بأن رفض النية له أثر في بطلان
الطهارة بعد تمامها لم يأخذه من نص كلامه، وإنما قاسوه على
قوله: "من تصنع لنوم؛ فعليه الوضوء، وإن لم ينم". قالو:
هذه عبادة يبطلها الحدث؛ فصح رفضها.
والقول بهذا قول عند الشافعية، والصحيح المشهور في مذهبهم
أنها لا تبطل، ومن الغريب أن يحكي القرافي في "الذخيرة"
"1/ 244-ط المصرية، و2/ 520-ط دار الغرب" أن رفض الصلاة
والصوم يؤثر ولو بعد الكمال، ويقول: "هذا هو المشهور
عندهم"؛ إلا أنه استشكل هذا بأنه يقتضي إبطال جميع
الأعمال، ولعل القول الفصل في هذه المسألة ما قاله ابن
رشد: "من ادعى أن التكليف يرجع بعد سقوطه لأجل الرفض؛
فعليه الدليل". انظر: "مواهب الجليل" "1/ 241"،
و"المجموع" "1/ 388"، و"نهاية الأحكام في بيان ما للنية من
الأحكام" "45 وما بعدها"، و"مقاصد المكلفين" "239-240"،
وانظر رفض النية في أثناء العبادة: "المحلى" "6/ 174"
و"قواعد الأحكام" "1/ 214-215"، و"المجموع" "6/ 331-332"
وما سيأتي "3/ 16".
ج / 1 ص -344-
القول
في ذلك؛ فإن كلام الفقهاء في رفض الوضوء وخلافهم فيه غير
خارج عن هذا الأصل، من جهة أن الطهارة هنا لها وجهان في
النظر: فمن نظر1 إلى فعلها على ما ينبغي؛ قال: إن استباحة
الصلاة بها لازم ومسبب عن ذلك الفعل؛ فلا يصح رفعه إلا
بناقض طارئ، ومن نظر إلى حكمها -أعني: حكم استباحة الصلاة،
مستصحبا إلى أن يصلي, وذلك أمر مستقبل- فيشترط فيه استصحاب
النية الأولى المقارنة للطهارة، وهي بالنية المنافية
منسوخة؛ فلا يصح استباحة الصلاة الآتية بها؛ لأن ذلك
كالرفض المقارن لفعل، ولو قارن الفعل لأثر؛ فكذلك هنا، فلو
رفض نية الطهارة بعدما أدى بها الصلاة وتم حكمها؛ لم يصح
أن يقال: إنه يجب عليه استئناف الطهارة والصلاة؛ فكذلك من
صلى ثم رفض تلك الصلاة بعد السلام منها، وقد كان أتى بها
على ما أمر به، فإن قال به [أحد] في مثل هذا2؛ فالقاعدة
ظاهرة في خلاف ما قال، والله أعلم، وبه التوفيق.
هذا حكم الأسباب إذا فعلت باستكمال شرائطها وانتفاء
موانعها، وأما إذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مآل الفرق بين النظرين أن من اعتبر الوضوء عبادة تامة
مستقلة بنفسها بقطع النظر عن الصلاة وإن كانت شرطا فيها؛
قال: لا يؤثر الرفض بعدما تمت، ومن نظر إلى أن الوضوء شرط
في صحة الصلاة وكأنه جزء منها؛ لم يجعل تمامه إلا بأداء
الصلاة، فرفضه قبل الصلاة رفض له قبل تمامه؛ فيؤثر فيه.
"د".
2 أي: فإن قال: إن الوضوء يبطل حتى إذا كان رفضه بعد تمام
الصلاة به؛ فيكون مخالفا للقاعدة. "د".
ج / 1 ص -345-
لم
تفعل الأسباب على ما ينبغي، ولا استكملت شرائطها، ولم تنتف
موانعها؛ فلا تقع مسبباتها شاء المكلف أو أبى لأن المسببات
ليس وقوعها أو عدم وقوعها لاختياره.
وأيضا؛ فإن الشارع لم يجعلها أسبابا مقتضية إلا مع وجود
شرائطها وانتفاء موانعها، فإذا لم تتوفر؛ لم يستكمل السبب
أن يكون سببا شرعيا، سواء علينا أقلنا: إن الشرط وانتفاء
الموانع أجزاء أسباب أم لا؛ فالثمرة واحدة.
وأيضا، لو اقتضت الأسباب مسبباتها وهي غير كاملة بمشيئة
المكلف، أو ارتفعت اقتضاءاتها وهي تامة؛ لم يكن لما وضع
الشارع منها فائدة، ولكان وضعه لها عبثا؛ لأن معنى كونها
أسبابا شرعية هو أن تقع مسبباتها شرعا، ومعنى كونها غير
أسباب شرعا أن لا تقع مسبباتها شرعا، فإذا كان اختيار
المكلف يقلب حقائقها شرعا؛ لم يكن لها وضع معلوم في الشرع،
وقد فرضناها موضوعة في الشرع على وضع معلوم، هذا خلف محال؛
فما يؤدي إليه مثله, وبه يصح أن اختيارات المكلف لا تأثير
لها في الأسباب الشرعية1.
فإن قيل: كيف هذا مع القول بأن النهي لا يدل على الفساد،
أو بأنه يدل على الصحة، أو بأنه يفرق بين ما يدل على النهي
لذاته أو لوصفه؟ فإن هذه المذاهب تدل على أن التسبب المنهي
عنه -وهو الذي لم يستكمل الشروط ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس في يد المكلف أن يتصرف فيما وضع من الأسباب التي
تترتب عليها مصالح تعود إلى غيره بإجماع، فإن كان الوضع
الشرعي قائما على مراعاة حظ ذلك المكلف خاصة؛ فهذا هو الذي
يطرقه الاختلاف وتتفاوت الأنظار في تحقيق أمره، ومن هذا
نشأ الخلاف في بعض مسائل يلتزم فيها المكلف ما لا يلزمه
شرعا كمن التزم عدم القيام بعيب يجده في المبيع، والذي يرى
أن التزامه لغو يبني الحكم على أن الشارع جعل القيام
بالعيب حقا للمشتري؛ فالتزامه لإسقاطه لا يؤثر في وضعه
الشرعي وله التمسك به حيث أراد. "خ".
ج / 1 ص -346-
انتفت
موانعه- يفيد حصول المسبب، وفي مذهب مالك1 ما يدل على ذلك؛
فإن البيوع الفاسدة عنده تفيد من أولها شبهة ملك عند قبض
المبيع، وأيضا؛ فتفيد الملك بحوالة الأسواق وغير ذلك من
الأمور التي لا تفيت العين, وكذلك الغصب ونحوه يفيد عنده
الملك وإن لم تفت عين المغصوب في مسائل، والغصب أو نحوه
ليس بسبب من أصله؛ فيظهر أن السبب المنهي عنه يحصل به
المسبب، إلا على القول بأن النهي يدل على الفساد مطلقا.
فالجواب: أن القاعدة عامة، إفادة الملك في هذه الأشياء
إنما هو2 لأمور أخر خارجة عن نفس العقد الأول3، وبيان ذلك
لا يسع ههنا، وإنما يذكر فيما بعد هذا إن شاء الله.
فصل:
ومن الأمور التي تنبني على ما تقدم؛ أن الفاعل للسبب
عالما بأن المسبب ليس إليه إذا وكله إلى فاعله وصرف نظره
عنه؛ كان أقرب إلى الإخلاص، والتفويض والتوكل على الله
تعالى، والصبر على الدخول في الأسباب المأمور بها، والخروج
عن الأسباب المحظورة، والشكر، وغير ذلك من المقامات السنية
والأحوال المرضية, ويتبين ذلك بذكر البعض، على أنه ظاهر!
أما الإخلاص؛ فلأن المكلف -إذا لبى الأمر والنهي في السبب
من غير نظر إلى ما سوى الأمر والنهي- خارج عن حظوظه، قائم
بحقوق ربه، واقف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وكما قاله أبو حنيفة وغيره في عدم الحد، وفي ثبوت
النسب في نكاح المحارم. فقالوا: إن هذا ليس حكم العقد،
وإنما هو شيء آخر، وهو حكم الشبهة بصورة العقد، ولم يقل به
الأئمة الثلاثة، بل أوجبوا الحد وعدم ثبوت النسب. "د".
2 في الأصل: "هي".
3 من هذه الأمور مراعاة الخلاف في البيوع التي اختلف أهل
العلم في إجازتها. "خ".
ج / 1 ص -347-
موقف
العبودية بخلاف ما إذا التفت إلى المسبب وراعاه؛ فإنه عند
الالتفات إليه متوجه شطره، فصار توجهه إلى ربه بالسبب,
بواسطة التوجه إلى المسبب، ولا شك في تفاوت ما بين
الرتبتين في الإخلاص.
وأما التفويض؛ فلأنه إذا علم أن المسبب ليس بداخل تحت ما
كلف به, ولا هو من نمط مقدوراته؛ كان راجعا بقلبه إلى من
إليه ذلك، وهو الله سبحانه؛ فصار متوكلا ومفوضا، هذا في
عموم التكاليف العادية والعبادية، ويزيد بالنسبة إلى
العبادية أنه لا يزال بعد التسبب خائفا وراجيا1، فإن كان
ممن2 يلتفت إلى المسبب بالدخول في السبب؛ صار مترقبا له
ناظرا إلى ما يئول إليه تسببه، وربما كان ذلك سببا إلى
إعراضه عن تكميل السبب استعجالا لما ينتجه؛ فيصير توجهه
إلى ما ليس له، وقد ترك التوجه إلى ما طلب بالتوجه إليه،
وهنا تقع حكاية من سمع أن "من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت
ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"3؛ فأخذ -بزعمه- في
الإخلاص لينال الحكمة، فتم الأمد ولم تأته الحكمة، فسأل عن
ذلك؛ فقيل له: إنما أخلصت للحكمة ولم تخلص لله.
وهذا واقع كثيرا في ملاحظات المسببات في الأسباب، ربما غطت
ملاحظاتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: جامعا بين الأمرين, بخلافه إذا نظر إلى المسبب
دائما؛ فإنه يغلب عليه جانب الرجاء، ولا يخفى ما يترتب على
ذلك من تضعضع همته وفتور نفسه عن الأعمال التكليفية. "د".
2 هل هذا غير ما شرحه في الفصل التالي؟ ولا يخفى أن قوله:
"فإن كان" مقابل لقوله: "إذا علم أن المسبب... إلخ"؛
فالكلام هنا شامل للعادي والعبادي، كما هو شامل لهما في
الفصل التالي؛ فكان يمكن الاستغناء بما يأتي عن هذا، على
أنه لا خصوصية لبيان ابتناء مقام التفويض على ما سبق في
ذكر الإعراض عن تكميل السبب، بل هذا شأن آخر يترتب على
النظر للمسبب، ونسبته لموضوع التفويض كنسبته لمقام الصبر
والشكر والإخلاص، وهي الأمور التي بناها على قطع النظر عن
المسبب. "د".
3 سيورده المصنف "3/ 148"، ويصرح بأنه حديث، وهو ضعيف،
ضعفه جماعة من الحفاظ كما سيأتي إن شاء الله تعالى مفصلا،
والصحيح أنه من قول مكحول.
ج / 1 ص -348-
فحالت
بين المتسبب وبين مراعاة الأسباب، وبذلك يصير العابد
مستكثرا لعبادته، والعالم مغترا بعلمه، إلى غير ذلك.
وأما الصبر والشكر؛ فلأنه إذا كان ملتفتا1 إلى أمر الآمر
وحده، متيقنا2 أن بيده ملاك المسببات وأسبابها، وأنه عبد
مأمور؛ وقف مع أمر الآمر، ولم يكن له عن3 ذلك محيد ولا
زوال، وألزم نفسه الصبر على ذلك؛ لأنه تحت حد المراقبة،
وممن عبد الله كأنه يراه، فإذا وقع المسبب كان من أشكر
الشاكرين؛ إذ لم ير لتسببه في ذلك المسبب وِرْدا ولا
صَدَرا4، ولا اقتضى منه في نفسه نفعا ولا ضرا، وإن كان
علامة وسببا عاديا؛ فهو سبب بالتسبب5 ومعتبر في عادي
الترتيب، ولو كان ملتفتا إلى المسبب؛ فالسبب قد ينتج وقد
يعقم، فإذا أنتج فرح، وإذا لم ينتج؛ لم يرض بقسم الله ولا
بقضائه، وعد السبب كلا شيء، وربما مله فتركه، وربما سئم
منه فثقل عليه، وهذا يشبه من يعبد الله على حرف، وهو خلاف
عادة من دخل تحت رق العبودية، ومن تأمل سائر المقامات
السنية وجدها في ترك الالتفات إلى المسببات، وربما كان هذا
أعظم نفع الكرامات والخوارق.
فصل:
- ومنها: أن تارك النظر في المسبب بناء على أن أمره
لله إنما همه السبب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرفت في "د": "ملفتا".
2 في الأصل: "يقينا".
3 هكذا في الأصل, وفي النسخ المطبوعة: "من".
4 الورد والصدر من أورد الماشية الماء وأصدرها عنه،
والمعنى هنا: لم ير لنفسه شيئا أولا ولا آخرا. انظر: "لسان
العرب" "و ر د"، و"ص د ر".
5 في الأصل: "التسبب".
ج / 1 ص -349-
الذي
دخل فيه؛ فهو على بال منه في الحفظ له والمحافظة عليه
والنصيحة فيه؛ لأن غيره ليس إليه، ولو كان قصده المسبب من
السبب؛ لكان مظنة لأخذ السبب على غير أصالته، وعلى غير قصد
التعبد فيه؛ فربما أدى إلى الإخلال به وهو لا يشعر، وربما
شعر به ولم يفكر فيما عليه فيه، ومن هنا تنجر مفاسد كثيرة،
وهو أصل الغش في الأعمال العادية، نعم والعبادية، بل هو
أصل في الخصال المهلكة.
أما في العاديات؛ فظاهر، فإنه لا يغش إلا استعجالا للربح
الذي يأمله في تجارته، أو للنفاق الذي ينتظره في صناعته،
أو ما أشبه ذلك.
وأما في العبادات؛ فإن من شأن من أحبه الله تعالى أن يوضع
له القبول في الأرض، بعد ما يحبه أهل السماء؛ فالتقرب
بالنوافل سبب للمحبة من الله تعالى، ثم من الملائكة، ثم
يوضع القبول في الأرض؛ فربما التفت العابد لهذا المسبب
بالسبب الذي هو النوافل، ثم يستعجل ويداخله طلب ما ليس له؛
فيظهر ذلك السبب، وهو الرياء، وهكذا في سائر المهلكات،
وكفى بذلك فسادا.
فصل:
-ومنها: أن صاحب هذه الحالة مستريح النفس، ساكن البال،
مجتمع الشمل، فارغ القلب من تعب الدنيا، متوحد الوجهة1؛
فهو بذلك طيب المحيا، مجازى في الآخرة، قال تعالى:
{مَنْ
عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} الآية [النحل: 97]2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: جاعل وجهه إلى الله في كل ما يفعل وما يقول من عبادة
وعادة. "ماء".
2 محل شاهده فيما ذكره منها كما سيأتي في بيان معنى الحياة
الطيبة، أما بقية الآية؛ فراجع إلى قوله: "مجازى في
الآخرة", ولا يتعلق به غرضه هنا. "د".
ج / 1 ص -350-
وروي
عن جعفر الصادق؛ أنه قال في الحياة الطيبة: "هي المعرفة
بالله، وصدق المقام مع الله، وصدق الوقوف على أمر الله"1.
وقال ابن عطاء: "العيش مع الله، والإعراض عما سوى الله".
وأيضا؛ ففيه كفاية جميع الهموم، بجعل همه هما واحدا، بخلاف
من كان ناظرا إلى المسبب بالسبب؛ فإنه ناظر إلى كل مسبب في
كل سبب يتناوله، وذلك مكثر ومشتت.
وأيضا؛ ففي النظر إلى كون السبب منتجا أو غير منتج تفرق
بال، وإذا أنتج؛ فليس على وجه واحد، فصاحبه متبدد الحال،
مشغول القلب في أن لو كان المسبب أصلح مما كان؛ فتراه يعود
تارة باللوم على السبب، وتارة بعدم الرضى بالمسبب, وتارة
على غير هذه الوجوه، وإلى هذا النحو يشير معنى قوله, عليه
الصلاة والسلام:
"لا تسبوا الدهر2؛ فإن الله هو الدهر"3
وأمثاله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره عنه القرطبي في "التفسير" "10/ 174".
2 أي: لا تسبوا الدهر؛ لعدم مؤاتاتكم بمطالبكم ومسببات
أعمالكم على ما تشتهونه، فإن الله هو الفاعل للمسببات
الواقعة من الدهر. "د".
3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها،
باب النهي عن سب الدهر، 4/ 1763/ رقم 2246 بعد 5" من حديث
أبي هريرة -رضي الله عنه- بهذا اللفظ.
قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 304" شارحا الحديث: "المعنى:
لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصائب, ولا تنسبوها إليه؛
فإن الله هو الذي أصابكم بذلك لا الدهر، فإنكم إذا سببتم
الدهر؛ وقع السب على الفاعل لا على الدهر؛ لأن العرب كان
من عادتها في الجاهلية أن تنسب الأفعال إلى الدهر؛ فتقول:
أصابه الدهر في ماله، ونابته قوارع الدهر ومصائبه؛ فينسبون
إلى كل شيء تجري به أقدار الله تعالى عليهم إلى الدهر؛
فيقولون: لعن الله الدهر، ومحا الله الدهر، وأشباه ذلك،
وإنما يسبونه لأجل الفعال المنسوبة إليه؛ فكأنهم إنما سبوا
الفاعل، والفاعل هو الله وحده؛ فكأنهم يسبونه سبحانه
وتعالى".
ج / 1 ص -351-
وأما
المشتغل بالسبب معرضا عن النظر في غيره؛ فمشتغل بأمر واحد،
وهو التعبد بالسبب أي سبب كان، ولا شك أن هما واحدا خفيف
على النفس جدا بالنسبة إلى هموم متعددة، بل هم واحد ثابت،
خفيف بالنسبة إلى هم واحد متغير متشتت في نفسه، وقد جاء أن
"من جعل همه هما واحدا؛ كفاه الله سائر الهموم، ومن جعل همه أخراه؛
كفاه الله أمر دنياه"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج ابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب الهم
بالدنيا، 2/ 1375/ رقم 4105"، وأحمد في "المسند" "5/ 183"،
و"الزهد" "33"، والدارمي في "السنن" "1/ 75"، وابن أبي
عاصم في "الزهد" "رقم 163", وابن حبان في "الصحيح" "رقم
67، 68- الإحسان"، والطبراني في "الكبير" "5/ 158", وأبو
نعيم في "أخبار أصبهان" "1/ 354"، وابن أبي الدنيا في "ذم
الدنيا" "رقم 352"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 184"
من طرق عن شعبة عن عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان بن
عثمان بن عفان عن أبيه عن زيد بن ثابت مرفوعا، وفيه:
"من كانت
الدنيا همه؛ فرق الله عليه أمره, وجعل فقره بين عينيه، ولم
يأته من الدنيا؛ إلا ما كتب له, ومن كانت الآخرة نيته؛ جمع
الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة". لفظ أحمد.
وأوله:
"نضر الله امرأ
سمع منا...".
وأخرجه جماعة غير المذكورين بهذا اللفظ دون القطعة
السابقة.
وإسناده صحيح، صححه البوصيري في "زوائد ابن ماجه" "3/
270-271/ رقم 1454"، والمنذري في "الترغيب والترهيب" "4/
121"، وشيخنا الألباني في "الصحيحة" "رقم 404".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "13/ 220-221" -ومن طريقه
ابن ماجه في "السنن" "رقم 257-4106"- وعبد الله بن أحمد في
"زوائد الزهد" "ص29"، والهيثم بن كليب الشاشي في "مسنده"
"رقم 317"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 105"، وابن عدي في
"الكامل" "7/ 2521-2522"، والدارقطني في "العلل" "رقم
688"، و"الأفراد" "ق 207/ أ-مع أطراف الغرائب"، وابن عبد
البر في "الجامع" "رقم 1128" بإسناد ضعيف جدا عن ابن مسعود
مرفوعا: "من جعل الهموم هما واحدا؛ كفاه الله هم آخرته،
ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا؛ لم يبال الله في أي
أوديتها وقع".
ج / 1 ص -352-
ويقرب
من هذا المعنى قول من قال: "من طلب العلم لله؛ فالقليل من
العلم يكفيه1، ومن طلبه للناس؛ فحوائج الناس كثيرة".
وقد لهج الزهاد في هذا الميدان، وفرحوا بالاستباق فيه، حتى
قال بعضهم2: "لو علم الملوك ما نحن عليه؛ لقاتلونا عليه
بالسيوف".
ورُوي في الحديث: "الزهد في الدنيا يُريح القلب والبدن"3،
والزهد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي إسناده نهشل بن سعيد يروي المناكير، وقيل: بل يروي
الموضوعات. قاله البوصيري، وقال أبو حاتم في "العلل" "2/
122-123": "هذا حديث منكر، ونهشل بن سعيد متروك الحديث"،
وبنهشل أعله ابن مفلح في "الآداب الشرعية" "2/ 54".
وللحديث شواهد عن أنس وابن عمر وأبي هريرة وأبي الدرداء
وابن عباس, ومن مرسل سليمان بن حبيب المحاربي ومن مرسل
محمد بن المنكدر، وهو صحيح بها، وأحسنها حديث زيد المتقدم،
وانظر: "الزهد" لابن أبي عاصم "باب ما ذكر أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- قال:
"من كانت همته ونيته الآخرة؛ أتته الدنيا وهي راغمة"، ص62 وما بعدها"، و"زهد وكيع" "رقم 359، 360" والتعليق عليه.
1 أي: من طلبه ليعمل هو به؛ فما يتعلق به منه قليل لا يشتت
عليه باله. "د".
2 هو إبراهيم بن أدهم، أسنده عنه البيهقي في "الزهد" "رقم
81"، وابن الجوزي في "الصفة" "4/ 127"، و"سلوة الأحزان"
"رقم 98"، وأبو نعيم "7/ 370".
3 أخرجه الطبراني في "الأوسط" "2/ ق 78" -وكما في "مجمع
البحرين" "8/ 228/ رقم 5016"- والعقيلي في "الضعفاء
الكبير" "4/ 394"، وابن عدي في "الكامل" "1/ 367" -ومن
طريقه البيهقي في "الشعب" "7/ 348/ رقم 10538"، وابن
الجوزي في "الواهيات" "2/ 803/ رقم 1343"- عن أبي هريرة
مرفوعا.
وإسناده ضعيف جدا مسلسل بالضعفاء، فيه: علي بن زيد بن
جُدْعان، وهو ضعيف، وأشعث بن براز، تصحف على الهيثمي في
"المجمع" "10/ 286" إلى "ابن نزار"؛ فقال: "لم أعرفه"!!
وهو ضعيف جدا، قال البخاري: "منكر الحديث"، وضعفه ابن معين
وغيره، وقال النسائي: "متروك الحديث"، كذا في "الميزان"
"1/ 262"، وقال ابن عدي: "الضعف بيّن على رواياته"، ونقل
تضعيفه عن غير واحد من أئمة الجرح والتعديل, وأعله العقيلي
بيحيى بن بسطام =
ج / 1 ص -353-
ليس
عدم ذات اليد، بل هو حال للقلب يعبر عنها -إن شئت- بما
تقرر من الوقوف مع التعبد [بالأسباب]1، من غير مراعاة
للمسببات التفاتا إليها في الأسباب؛ فهذا أنموذج ينبهك على
جملة هذه القاعدة.
فصل:
- ومنها: أن النظر2 في المسبب قد يكون على التوسط، كما
سيأتي ذكره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الراوي له عن الأشعث، وقال عنه: "حديثه غير محفوظ"، وهو
قد تفرد به، كما أفاده الطبراني.
وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال أحمد: علي بن زيد ليس بشيء، قال يحيى: علي
وأشعث ليسا بشيء".
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 131"، والبيهقي
في "الشعب" "7/ 347-348/ رقم 10536" عن طاوس مرسلا، وفيه
محمد بن مسلم الطائفي، وهو ضعيف لسوء حفظه، وأخرجه أيضا
"برقم 289" بسنده عن الفضيل بن عياض؛ قال: يذكر عن النبي,
صلى الله عليه وسلم... وسرده.
وهو معضل، وفيه إبراهيم بن الأشعث ضعيف من قبل حفظه.
وأخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" "1/ 188/ رقم 278"، عن
عبد الله بن عمرو مرفوعا، وفيه زيادة: "والرغبة في الدنيا
تكثر الهم والحزن، والبطالة تقسي القلب". وإسناده ضعيف
جدا، فيه أحمد بن الفرج الحمصي، وهو ضعيف، ومثله بكر بن
خنيس، وفيه أيضا بقية وقد عنعن، وهو مدلس.
وأخرجه البيهقي في "الشعب" "7/ 368/ رقم 10609" من طريق
ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 155" عن عمر قوله، وهو
الأشبه، وفيه عنعنة بقية.
والخلاصة: الحديث ضعيف مرفوعا، وقد ضعفه شيخنا الألباني في
"السلسلة الضعيفة" "رقم 1292".
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 أي: ومما يبني على أن للمسبب ليس من مقدور المكلف، ولا
هو مكلف به؛ أنه إذا اتفق للمكلف نظره للمسبب فيحسن به أن
يكون نظره على التوسط والاعتدال، ولا يجهد نفسه في العناية
به، حتى إذا زاد عن ذلك؛ نبه على القصد والاعتدال، وإن كان
ذلك ناشئا من مقام العبد من المقامات السنية؛ كالشفقة على
عبادة الله وكثرة الخوف من عدم قيامه بواجبهم عليه. "د".
ج / 1 ص -354-
إن شاء
الله تعالى1، وذلك إذا أخذه من حيث مجاري العادات، وهو
أسلم لمن التفت إلى المسبب، وقد يكون على وجه من المبالغة
فوق ما يحتمل البشر، فيحصل بذلك للمتسبب؛ إما شدة التعب،
وإما الخروج عما هو له إلى ما ليس له.
أما شدة التعب؛ فكثيرا ما يتفق لأرباب الأحوال في السلوك،
وقد يتفق أن يكون صاحب التسبب كثير الإشفاق أو كثير الخوف،
وأصل هذا تنبيه الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- في الكتاب
العزيز -حالة دعائه الخلق بشدة الحرص- على أن الأولى به
الرجوع إلى التوسط بقوله تعالى:
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} الآية، إلى قوله:
{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ
تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي
السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} الآية [الأنعام: 33-35].
وقوله:
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ}
[الشعراء: 3].
وقوله:
{يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ
فِي الْكُفْرِ} الآية [المائدة: 41].
وقوله:
{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ
وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ...} الآية, إلى قوله:
{إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12].
وقوله:
{وَلا
تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا
يَمْكُرُونَ} [النحل: 127].
إلى غير ذلك مما هو في هذا المعنى مما يشير إلى الحض على
الإقصار مما كان يكابد، والرجوع إلى الوقوف مع ما أمر به
مما هو تسبب، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، بقوله2:
{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ}
[الرعد: 7]،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وللمصنف كلام بديع على الوسطية بوجه عام في "2/ 279 وما
بعدها".
2 أفرد هذه الآيات عما قبلها وعلق عليها بأن المطلوب منك
التسبب، وليس في هذه الآيات الحض على الإقصار مما يكابد
كما كان ذلك في الآيات السابقة، وهو وجيه؛ إلا أنه يبقى
الكلام في الآيتين الأخيرتين؛ فإن آية
{لَيْسَ لَكَ...}
إلخ ترجع في المعنى إلى مثل آية:
{إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ}،
ولكن هذه أصرح في طلب الرجوع والوقوف عند حد وظيفته، بخلاف
آية:
{لَيْسَ لَكَ}؛
فلم يذكر فيها ما كلف به من ربه، والآية الأخيرة أبعدت
الآيات المذكورة هنا عما يريده منها؛ إذ إنها ليس فيها ما
يفهم من طلب إقصاره مما يكابد، ولا طلب رجوعه إلى التسبب.
"د".
ج / 1 ص -355-
{إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}
[هود: 12]، وأشباه ذلك.
وجميعه يشير إلى أن المطلوب منك التسبب، والله هو المسبب1،
وخالق المسبب
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ}
الآية [آل عمران: 128]، وهو ينبهك على شدة مقاساته -عليه
الصلاة والسلام- في الحرص على إيمانهم، ومبالغته في
التبليغ؛ طمعا في أن تقع نتيجة الدعوة، وهي إيمانهم الذي
به نجاتهم من العذاب؛ حتى جاء في القرآن:
{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
ومع هذا؛ فقد ندب عليه الصلاة والسلام إلى أمر هو أوفق
وأحرى بالتوسط في مقام النبوة، وأدنى من خفة ما يلقاه في
ذلك من التعب والمشقة، وأجرى في سائر الرتب التي دون
النبوة، هذا وإن كان مقام النبوة على ما يليق به من شرف
المنزلة التي لا يدانيه فيها أحد؛ فلا يقدح ذلك في صحة
الاستدلال بأحكامه فيما دونها من المراتب اللائقة بالأمة،
كما تقرر عند أهل الشريعة من صحة الاستدلال بأحواله
وأحكامه في أحكام أمته، ما لم يدل دليل على اختصاصه دون
أمته.
وأما الخروج عما هو له إلى ما ليس له؛ فلأنه إذا قصد عين
المسبب أن يكون أو لا يكون؛ كان مخالفا لمقصود الشرع؛ إذ
قد تبين أن المسبب ليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وليس هذا مما فيه أن الالتفات إلى المسبب التفات إلى
حظوظ -وهو عليه السلام بريء من مثله- لأن ذلك منه غاية
الرحمة لعباد الله، لا نظر إلى حظه في ذلك. "د".
ج / 1 ص -356-
للمكلف، ولم يكلف به، بل هو لله وحده، فمن قصده؛ فالغالب
عليه بحسب إفراطه أن يكون قاصدا لوقوعه بحسب غرضه المعين،
وهو إنما يجري على مقتضى إرادة الله تعالى، لا على وفق غرض
العبد المعين من كل وجه؛ فقد صار غرض العبد وقصده مخالفا
بالوضع لما أريد به، وذلك خارج عن مقتضى الأدب، ومعارضة
للقدر، أو ما هو ينحو ذلك النحو.
وقد جاء في "الصحيح" التنبيه على هذا المعنى بقوله, عليه
الصلاة والسلام:
"المؤمن القوي
خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على
ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء؛ فلا
تقل: لو أني فعلت كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء الله
فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان"1.
فقد نبهك على أن لو تفتح عمل الشيطان؛ لأنه التفات إلى
المسبب في السبب، كأنه متولد عنه أو لازم عقلا، بل ذلك قدر
الله وما شاء فعل؛ إذ لا يعينه وجود السبب، ولا يعجزه
فقدانه.
فالحاصل أن نفوذ القدر المحتوم هو محصول الأمر، ويبقى
السبب: إن كان مكلفا به عمل فيه بمقتضى التكليف، وإن كان
غير مكلف به لكونه غير داخل في مقدوره، استسلم استسلام من
يعلم أن الأمر كله بيد الله؛ فلا ينفتح [عليه]2 باب
الشيطان، وكثيرا ما يبالغ الإنسان في هذا المعنى، حتى يصير
منه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب القدر، باب في الأمر
بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله،
4/ 2052/ رقم 2664"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب
في القدر/ رقم 79، وكتاب الزهد، باب التوكل واليقين/ رقم
4168"، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 623، 624"،
وأحمد في "المسند" "2/ 366، 370"، والطحاوي في "المشكل"
"رقم 259، 260، 261، 262"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم
356"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 89"، و"الأسماء
والصفات" "1/ 263" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
ج / 1 ص -357-
إلى ما
هو مكروه شرعا؛ من تشويش الشيطان، ومعارضة القدر، وغير
ذلك.
فصل:
- ومنها: أن تارك النظر في المسبب أعلى مرتبة وأزكى
عملا، إذا كان عاملا في العبادات، وأوفر أجرا في العادات؛
لأنه عامل على إسقاط حظه، بخلاف من كان ملتفتا إلى
المسببات، فإنه عامل على الالتفات إلى الحظوظ؛ لأن نتائج
الأعمال راجعة إلى العباد مع أنها خلق الله، فإنها مصالح
أو مفاسد تعود عليهم كما في حديث أبي ذر: "إنما هي أعمالكم أحصيها لكم, ثم أوفيكم إياها"1، وأصله في القرآن:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46]؛ فالملتفت إليها عامل بحظه، ومن رجع إلى مجرد الأمر
والنهي [عامل على إسقاط الحظوظ، وهو مذهب أرباب الأحوال]2،
ولهذا بسط في موضع آخر3.
فإن قيل: على أي معنى يفهم إسقاط النظر في المسببات، وكيف
ينضبط ما يعد كذلك مما لا يعد كذلك؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث إلهي طويل، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب
البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4/ 1994-1995/ رقم
2577"، والترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، باب منه،
4/ 656-657/ رقم 2495" -وقال: "هذا حديث حسن"- وابن ماجه
في "السنن" "كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، 2/ 1422/ رقم
4257"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 20272"، والخطيب في
"التاريخ" "7/ 203-204"، والبيهقي في "الأسماء والصفات"
"ص65، 159، 213-214، 227، 285"، وأبو نعيم في "الحلية" "5/
125-126" من حديث أبي ذر, رضي الله عنه.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 انظر: "2/ 227".
ج / 1 ص -358-
فالجواب: أن ترك الحظوظ قد يكون ظاهرا بمعنى عدم التفات
القلب إليها1 جملة وهذا قليل، وأكثر ما يختص بهذا أرباب
الأحوال من الصوفية2؛ فهو يقوم بالسبب مطلقا من غير أن
ينظر هل له مسبب أم لا، وقد يكون غير ظاهر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "إليه".
2 الصوفي من يزن أفعاله وأقواله بميزان الشريعة ويأخذ نفسه
بالاستقامة على آدابها؛ حتى تستنير بصيرته، وتكون الأخلاق
العالية مثل الإخلاص وخشية الله والغيرة على الحق أقطابا
تدور عليها سائر تصرفاته ومعاملاته؛ وكذلك كان الصوفية إلى
أن خرج في لباسهم قوم نطقوا بكلمات تعبر عن الحلول
والاتحاد، وظهر في أثرهم آخرون بمحدثات تتبرأ منها
الفضيلة، وانخرط فريق منهم في أعوان الحاكم المغتصب؛
فكانوا لسانه الذي ينطق، وقلمه الذي يكتب، وقد كسا هؤلاء
الطوائف الثلاث التصوف صبغة مكروهة اتخذها المتجافون عن
الطرق المنسوبة إليه سندا لحكمهم عليها بأنها منابت أخلاق
ذميمة وبدع سيئة وعقائد غير خالصة. "خ".
قلت: لم يرد في الكتاب ولا في السنة لفظة "التصوف"،
والوارد "التزكية"، وهي إحدى مهمتي رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- إذ حصر الله بعثة رسوله -صلى الله عليه وسلم-
في أمرين اثنين:
{يُزَكِّيهِمْ}،
و{يُعَلِّمُهُمُ}؛
فالواجب النزول عند الأسامي والألقاب الشرعية، وقد ألمح
المصنف إلى فساد الصوفية في عصره في كتابه "الاعتصام" "1/
120-121-ط ابن عفان"؛ فقال نقلا عن أبي القاسم القشيري:
"ثم ظهرت البدع، وادعى كل فريق أن فيهم زهادا وعبادا؛
فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون
قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف". ثم قال عقبه:
"هذا معنى كلامه؛ فقد عد هذا اللقب لهم مخصوصا باتباع
السنة ومباينة البدعة، وفي ذلك ما يدل على خلاف ما يعتقده
الجهال ومن لا عبرة به من المدعين للعلم.
وفي غرضي -إن فسح الله في المدة، وأعانني بفضله، ويسر لي
الأسباب- أن ألخص في طريقة القوم أنموذجا يستدل به على
صحتها وجريانها على الطريقة المثلى، وأنه إنما داخلتها
المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن
عهد ذلك السلف الصالح، وادعوا الدخول فيها من غير سلوك
شرعي ولا فهم لمقاصد أهلها، وتقولوا عليهم ما لم يقولوا
به؛ حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير
ما أتى بها محمد, صلى الله عليه وسلم.
وأعظم من ذلك أنهم يتساهلون في اتباع السنة، ويرون اختراع
العبادات طريقا للتعبد صحيحا، وطريقة القوم بريئة من هذا
الخباط بحمد الله".
ج / 1 ص -359-
-بمعنى أن الحظ لا يسقط جملة من القلب؛ إلا أنه التفت إليه
من وراء الأمر أو النهي- ويكون هذا مع الجريان على مجاري
العادات، مع علمه بأن الله مجريها كيف شاء، ويكون أيضا مع
طلب المسبب بالسبب؛ أي: يطلب من المسبب مقتضى السبب؛ فكأنه
يسأل المسبب باسطا يد السبب، كما يسأله الشيء باسطا يد
الضراعة, أو يكون مفوضا في المسبب إلى من هو إليه؛ فهؤلاء
قد أسقطوا النظر في المسبب بالسبب، وإنما الالتفات للمسبب
بمعنى الجريان مع السبب؛ كالطالب للمسبب من نفس السبب، أو
كالمعتقد أن السبب هو المولد للمسبب؛ فهذا هو المخوف الذي
هو حرٍ بتلك المفاسد المذكورة، وبين هذين الطرفين وسائط هي
مجال نظر المجتهدين؛ فإلى أيهما كان أقرب؛ كان الحكم له،
ومثل هذا مقرر أيضا في مسألة الحظوظ1.
المسألة العاشرة:
ما ذكر من أن المسببات مرتبة2 على فعل الأسباب شرعا، وأن
الشارع يعتبر المسببات في الخطاب بالأسباب، يترتب عليه
بالنسبة إلى المكلف -إذا اعتبره- أمور:
- منها: أن المسبب إذا كان منسوبا إلى المتسبب3 شرعا،
[أو]4 اقتضى أن يكون المكلف في تعاطي السبب ملتفتا إلى جهة
المسبب أن يقع منه ما ليس في حسابه؛ فإنه كما يكون التسبب
مأمورا به كذلك يكون منهيا عنه، وكما يكون التسبب في
الطاعة منتجا ما ليس في ظنه من الخير؛ لقوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: المسألة الثالثة والرابعة من النوع الرابع من كتاب
المقاصد "2/ 305 وما بعد".
2 كما تقدم في المسألة الرابعة "ص311".
3 في "د": "المسبب".
4 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة، وأثبتناه من
الأصل.
ج / 1 ص -360-
{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}
[المائدة: 32].
وقوله, عليه السلام:
"من سن
سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها"1،
وقوله:
"إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أنها تبلغ ما بلغت"2 الحديث3.
كذلك يكون التسبب في المعصية منتجا ما لم يحتسب من الشر؛
لقوله تعالى:
{فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وقوله, عليه الصلاة والسلام:
"ما من نفس تقتل ظلما؛ إلا كان على ابن آدم الأول كفل
منها"4، وقوله:
"ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها"5،
وقوله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله"6 الحديث، إلى أشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص222"، وهو صحيح.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان،
11/ 308/ رقم 6478" بلفظ:
"... من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها
درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها
بالا يهوي بها في جهنم".
وأخرجه أيضا برقم "6477" مقتصرا على الشق الثاني بلفظ
"... بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق".
وأخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب فيمن تكلم
بكلمة يضحك بها الناس، 4/ 557/ رقم 2314"، وابن ماجه في
"السنن" "كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، 2/ 1313/
رقم 3970"، وأحمد في "المسند" "2/ 334، 355، 533" من حديث
ابن مسعود مقتصرين على الشق الثاني بلفظ مقارب.
3 الدليل في بقيته، وهو:
"يرفع الله بها في الجنة" "د".
4 مضى تخريجه "ص223"، والحديث في "الصحيحين".
5 مضى تخريجه "ص222"، وهو صحيح، "و" الدليل في بقية
الحديث. "د".
6 جزء من حديث صحيح, أوله:
"إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله..."
مضى تخريجه أعلاه.
ج / 1 ص -361-
وقد
قرر الغزالي من هذا المعنى في كتاب "الإحياء" وفي غيره ما
فيه كفاية، وقد قال في "كتاب الكسب": "ترويج الدرهم الزائف
من الدراهم في أثناء النقد ظلم؛ إذ به يستضر المعامل إن لم
يعرف، وإن عرف؛ فيروجه على غيره، وكذلك الثاني والثالث،
ولا يزال يتردد في الأيدي، ويعم الضرر، ويتسع الفساد,
ويكون وزر الكل ووباله راجعا إليه, فإنه الذي فتح ذلك
الباب". ثم استدل بحديث:
"من سن سنة حسنة"1
إلخ.
ثم حكى عن بعضهم أن إنفاق درهم زائف أشد من سرقة مائة
درهم؛ قال: "لأن السرقة معصية واحدة، وقد تمت وانقطعت،
وإظهار الزائف بدعة أظهرها في الدين، وسن سنة سيئة يعمل
عليها من بعده؛ فيكون عليه وزرها بعد موته إلى مائة سنة،
ومائتي سنة، إلى أن يفنى ذلك الدرهم، ويكون عليه ما فسد
ونقص من أموال الناس بسببه، وطوبى لمن مات وماتت معه
ذنوبه، والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه مائة سنة
ومائتي سنة، يعذب بها في قبره، ويسأل عنها إلى انقراضها،
وقال تعالى:
{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]؛ أي: نكتب أيضا ما أخروه من آثار أعمالهم كما نكتب ما
قدموه2، ومثله قوله تعالى:
{يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ
وَأَخَّرَ} [القيامة: 13]، وإنما أخر أثر أعماله، من سن سنة سيئة عمل بها
غيره"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص222"، وهو صحيح.
2 فسر بعض أهل العلم الآثار بالخطا مستندا لما يروى من أن
الآية نزلت في قوم كانت منازلهم بعيدة عن المسجد؛ فأرادوا
أن ينتقلوا إلى منازل قريبة منه، وهذه الرواية على فرض
صحتها لا تمنع من إبقاء الآثار في الآية على عمومها حتى
يدخل فيها آثار خيانة الأمم الغافلة، وتمكين يد العدو من
ناصيتها؛ فأي أذية أو إهانة تقع على نفس مسلمة إلا كان على
من فتح له سبيل التسلط أو جرك القلم في مساعدته كفل منها؟!
والوارد في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ
لأولئك القوم هذه الآية ولم يصرح بأنها نزلت في حقهم. "خ".
3 انظر: "الإحياء" "2/ 73-74".
ج / 1 ص -362-
هذا ما
قاله هناك، وقاعدة إيقاع السبب أنه بمنزلة إيقاع المسبب قد
بينت1 هذا.
وله في "كتاب الشكر" ما هو أشد من هذا؛ حيث قدر النعم
أجناسا وأنواعا، وفصل فيها تفاصيل جمة، ثم قال: "بل أقول
من عصى الله ولو في نظرة واحدة؛ بأن فتح بصره حيث يجب غض
البصر؛ فقد كفر [كل]2 نعمة الله في السموات والأرضين وما
بينهما, فإن كل ما خلق الله حتى الملائكة, والسموات،
والحيوانات، والنبات بجملته نعمة على كل واحد من العباد قد
تم بها3 انتفاعه".
ثم قرر شيئا من النعم العائدة إلى البصر من الأجفان، ثم
قال: "قد كفر نعمة الله في الأجفان، ولا تقوم الأجفان إلا
بعين، ولا العين إلا بالرأس، ولا الرأس إلا بجميع البدن,
ولا البدن إلا بالغذاء، ولا الغذاء إلا بالماء والأرض
والهواء والمطر والغيم والشمس والقمر، ولا يقوم شيء من ذلك
إلا بالسموات، ولا السموات إلا بالملائكة؛ فإن الكل كالشيء
الواحد، يرتبط البعض منه بالبعض ارتباط أعضاء البدن بعضها
ببعض".
قال: وكذلك ورد في الأخبار: "إن البقعة التي يجتمع فيها
الناس؛ إما أن تلعنهم إذا تفرقوا، أو تستغفر لهم"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "تبين".
2 زيادة من "الإحياء".
3 في الأصل: "به".
4 قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "4/ 122": "لم
أجد له أصلا"، وقال ابن السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى"
"6/ 360": "لم أجد له إسنادا"، وكذا أودعه السويدي في
كتابه "الموضوعات في الإحياء" "ص101".
وأخرج أبو يعلى في "مسنده" "7/ 143/ رقم 4110" عن أنس
مرفوعا:
"ما من بقعة يذكر الله
عليها بصلاة أو بذكر؛ إلا استبشرت بذلك إلى منتهاها من سبع
أرضين، وفخرت على ما حولها من البقاع، وما من عبد يقوم
بفلاة من الأرض يريد الصلاة إلا تزخرفت له الأرض".
وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي، وشيخه يزيد الرقاشي,
كلاهما ضعيف، وضعفه المناوي في "فيض القدير" "5/ 475".
ج / 1 ص -363-
وكذلك1
ورد:
"إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر"2، وذلك إشارة إلى أن العاصي بتطريفة واحدة جنى على جميع ما في
الملك والملكوت، وقد أهلك نفسه إلا أن يتبع السيئة بحسنة
تمحوها؛ فيتبدل اللعن بالاستغفار؛ فعسى الله أن يتوب عليه
ويتجاوز عنه"3، ثم حكى غير ذلك، ومضى في كلامه.
فإذا نظر المتسبب إلى مآلات الأسباب؛ فربما كان باعثا له
على التحرز من أمثال هذه الأشياء؛ إذ يبدو له يوم الدين من
ذلك ما لم يكن يحتسب، والعياذ بالله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الطبعات الثلاث: "ولذلك"، والمثبت من "الإحياء".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء في
فضل الفقه على العبادة، 5/ 50/ رقم 2685"، والطبراني في
"الكبير" "8/ 278/ رقم 17911، 17912"، وابن عبد البر في
"الجامع" "رقم 183" عن أبي أمامة مرفوعا:
"إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى
الحوت في البحر؛ ليصلون على معلم الناس الخير".
وفي سنده سلمة بن رجاء، صدوق يغرب.
وله شواهد عن علي وعائشة وابن عباس مرفوعا وموقوفا، وأبي
الدرداء ومن مرسل مكحول والحسن، والحديث حسن.
وانظر: "المجالس الخمسة" للسلفي "رقم 8- بتحقيقي".
3 "إحياء علوم الدين" "3/ 122-123".
ج / 1 ص -364-
فصل:
- ومنها: أنه إذا التفت إلى المسببات مع أسبابها ربما
ارتفعت عنه إشكالات ترد في الشريعة، بسبب تعارض أحكام
أسباب تقدمت مع أسباب1 أخر حاضرة، وذلك أن متعاطي السبب قد
يبقى عليه حكمه، وإن رجع عن ذلك السبب أو تاب منه؛ فيظن أن
المسبب يرتفع حكمه برجوعه عن السبب، ولا يكون كذلك.
مثاله: من توسط أرضا مغصوبة ثم تاب وأراد الخروج منها؛
فالظاهر الآن أنه لما أمر بالخروج فأخذ في الامتثال، غير
عاصٍ ولا مؤاخذ؛ لأنه لم يمكنه أن يكون ممتثلا عاصيا في
حالة واحدة، ولا مأمورا منهيا من جهة واحدة؛ لأن ذلك تكليف
ما لا يطاق؛ فلا بد أن يكون في توسطه مكلفا بالخروج على
وجه يمكنه، ولا يمكن مع بقاء حكم النهي في نفس الخروج؛ فلا
بد أن يرتفع عنه حكم النهي في الخروج.
وقال أبو هاشم2: هو على حكم المعصية، ولا يخرج عن ذلك إلا
بانفصاله عن الأرض المغصوبة، ورد الناس عليه قديما وحديثا،
والإمام أشار في "البرهان" إلى تصور هذا وصحته3 باعتبار
أصل السبب الذي هو عصيان؛ فانسحب عليه حكم التسبب وإن
ارتفع بالتوبة4، ونظر ذلك بمسائل، وهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مع أحكام أسباب "د".
2 يراجع المقام في كتب الأصول كالتحرير، وابن الحاجب في
مسألة يستحيل كون الشيء الواحد واجبا حراما من جهة
واحدة... إلخ. "د".
3 بقوله في "البرهان" "2/ 97".
4 أي: ولا تتم التوبة إلا بعد الخروج فعلا؛ لأن من شرط
قبولها رد التبعات والمظالم. "د". =
ج / 1 ص -365-
صحيح
باعتبار الأصل المتقدم؛ فإن أصل التسبب أنتج مسببات خارجة
عن نظره، فلو نظر الجمهور إليها؛ لم يستبعدوا اجتماع
الامتثال مع استصحاب1 حكم المعصية إلى الانفصال عن الأرض
المغصوبة، وهذا أيضا2 ينبني على الالتفات إلى أن المسبب
خارج عن نظره3، فإنه إذا رأى ذلك؛ وجد نفس الخروج ذا
وجهين:
أحدهما: وجه كون الخروج سببا في الخلوص عن التعدي بالدخول
في الأرض، وهو من كسبه.
والثاني: كونه نتيجة دخوله ابتداء، وليس من كسبه بهذا
الاعتبار؛ إذ ليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وكتب "خ" هنا ما نصه: "اعترف إمام الحرمين بانتفاء النهي
عمن شرع في الخروج من الأرض المغصوبة تائبا؛ حيث قال: هو
مرتبك في المعصية بحكم الاستصحاب مع انقطاع تكليف النهي،
والوجه الذي اعترضوا به هذه المقالة أن وصف المعصية
والعقاب إنما يرتبطان بالنهي؛ فيجب ارتفاعهما حيث انتفى
النهي إذ لم يعهد في موارد الشريعة فعل يوصف بكونه معصية
ويستحق صاحبه العقاب من غير أن يتعلق به نهي، والظاهر من
مقام التوبة في نظر... فشارع أن حكمها يسري إلى كل ما
يترتب على السبب من أثر لا قدرة للمكلف على اجتنابه، فمن
سن سنة سيئة، ثم تاب توبة نصوحا، وأصلح وبين جهد استطاعته؛
لا يضره من بقي عاملا بها بعد ذلك البيان".
1 لا أن النهي حاصل مع الأمر حتى يرد ما تقدم: "د".
2 كتب ناسخ الأصل في الهامش ما نصه: قوله: "وهذا أيضا..."
إلخ، معناه أن مسألة أبي هاشم والجمهور تنبني على أن
الداخل في أرض غصبا؛ هل هو محمول على أنه ملتفت إلى ما
تسبب عن دخوله وهو الخروج، فيكون مؤاخذا به في الدنيا،
فيعد فاعل حرام كما هو مؤاخذ به في الآخرة وهو مذهب أبي
هاشم، أو غير محمول على ذلك؛ فيكون ذا وجهين كما قال؟!
وعلى هذا؛ فضمير "في نظره" راجع إلى المكلف الداخل، وقوله:
"وما ذلك"؛ أي: والمسبب خارجا، والمراد بالمسبب بالفتح:
الخروج.
وهذا إيضاح ذلك مأخوذا من كلام المصنف في آخر المسألة
حيث...
3 كما تقدم أنه ليس له رفعه وليس من نمط مقدوراته. "د".
ج / 1 ص -366-
له
قدرة عن الكف عنه.
ومن هذا مسألة من تاب عن القتل بعد رمي السهم عن القوس،
وقبل وصوله إلى الرمية، ومن تاب من بدعة بعد ما بثها في
الناس وقبل أخذهم بها، أو بعد ذلك وقبل رجوعهم عنها، ومن
رجع عن شهادته بعد الحكم بها وقبل الاستيفاء، وبالجملة بعد
تعاطي السبب على كماله، وقبل تأثيره ووجود مفسدته، أو بعد
وجودها وقبل ارتفاعها إن أمكن ارتفاعها؛ فقد اجتمع على
المكلف هنا الامتثال مع بقاء العصيان، فإن اجتمعا في الفعل
الواحد كما في المثال الأول؛ كان عاصيا ممتثلا، إلا أن
الأمر والنهي لا يتواردان عليه في هذا التصوير؛ لأنه من
جهة العصيان غير مكلف به1 لأنه مسبب غير داخل تحت قدرته؛
فلا نهي إذ ذاك، ومن جهة الامتثال مكلف؛ لأنه قادر عليه،
فهو مأمور بالخروج وممتثل به، وهذا معنى ما أراده الإمام،
وما اعترض به عليه وعلى أبي هاشم لا يرد مع هذه الطريقة2
إذا تأملتها، والله أعلم.
فصل:
- ومنها: أن الله -عز وجل- جعل المسببات في العادة
تجري على وزان الأسباب في الاستقامة أو الاعوجاج، فإذا كان
السبب تاما والتسبب على ما ينبغي؛ كان المسبب كذلك،
وبالضد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بل هو باقٍ من أثر التكليف في السبب وهو الدخول، وإيقاع
السبب بمنزلة إيقاع المسبب؛ فهو مؤاخذ بالمسبب وإن لم يكن
مقدورا له. "د".
2 أي: بخلاف ما إذا قيل: إن النهي يتوجه عليه حين الخروج،
كما يتوجه عليه الأمر به؛ لأنه يكون تكليفا بما لا يطاق
كما قال، والذي رفع الإشكال هو الابتناء على القاعدة
القائلة: إن المسببات معتبرة شرعا بفعل الأسباب، ومرتبة
عليها؛ فيبني عليه أن المسببات ما دامت موجودة تأخذ حكم
الأسباب وإن عدمت، وهو ما أشار إليه العضد شارح ابن
الحاجب. "د".
ج / 1 ص -367-
ومن
ههنا إذا وقع خلل في المسبب نظر الفقهاء إلى التسبب: هل
كان على تمامه أم لا؟ فإن كان على تمامه؛ لم يقع على
المتسبب لوم، وإن لم يكن على تمامه؛ رجع اللوم والمؤاخذة
عليه، ألا ترى أنهم يضمنون الطبيب والحجام والطباخ وغيره
من الصناع إذا ثبت التفريط من أحدهم؛ إما بكونه غر من نفسه
وليس بصانع، وإما بتفريط، بخلاف ما إذا لم يفرط؛ فإنه لا
ضمان عليه لأن الغلط في المسببات1 أو وقوعها على غير وزان
التسبب قليل؛ فلا يؤاخذ، بخلاف ما إذا لم يبذل الجهد؛ فإن
الغلط فيها كثير؛ فلا بد من المؤاخذة.
فمن التفت إلى المسببات من حيث كانت علامة على الأسباب في
الصحة أو الفساد، لا من جهة أخرى2؛ فقد حصل على قانون عظيم
يضبط به جريان الأسباب على وزان ما شرع، أو على خلاف ذلك،
ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلا على ما في
الباطن، فإن كان الظاهر منخرما؛ حكم على الباطن بذلك، أو
مستقيما؛ حكم على الباطن بذلك أيضا، وهو أصل عام في الفقه
وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات، بل الالتفات إليها من
هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جدا، والأدلة على صحته
كثيرة جدا، وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن، وكفر
الكافر، وطاعة المطيع، وعصيان العاصي، وعدالة العدل، وجرحة
المجرح، وبذلك تنعقد العقود وترتبط المواثيق، إلى غير ذلك
من الأمور، بل هو كلية التشريع، وعمدة التكليف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "التسببات".
2 أي: من الجهات السابق إبطال النظر إليها؛ ككونها من
مقدور المكلف أو كسبه، وكذا الجهات التي أشار إلى أن
الأفضل عدم النظر إلى المسبب باعتبارها، وهي كثير فيما
تقدم؛ أي: فالنظر في المسببات هنا ليس مقصودا لذاته، بل
لاكتشاف حال السبب: هل أخذه العبد على طريق5 الكمال؟ لتبنى
عليه أحكام شرعية. "د".
ج / 1 ص -368-
بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة.
فصل:
- ومنها: أن المسببات1 قد تكون خاصة، وقد تكون عامة.
ومعنى كونها خاصة أن تكون بحسب وقوع السبب؛ كالبيع المتسبب
به إلى إباحة الانتفاع بالمبيع، والنكاح الذي يحصل به
حلِّية الاستمتاع، والذكاة التي بها يحصل حل الأكل، وما
أشبه ذلك، وكذلك جانب النهي؛ كالسكر الناشئ عن شرب الخمر،
وإزهاق الروح المسبب عن حز الرقبة.
وأما العامة؛ فكالطاعة التي هي سبب في الفوز بالنعيم،
والمعاصي التي هي سبب في دخول الجحيم، وكذلك أنواع المعاصي
التي يتسبب عنها فساد في الأرض؛ كنقص المكيال والميزان
المسبب عنه قطع الرزق، والحكم بغير الحق الناشئ2 عنه الدم،
وختر3 العهد الذي يكون عنه تسليط العدو، والغلول الذي يكون
عنه قذف الرعب، وما أشبه ذلك4، ولا شك أن أضداد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يحتاج الفرق بين مضمون هذا الفصل ومضمون صدر المسألة إلى
دقة نظر؛ لأن الغرض من كل منهما أن المتسبب إذا نظر إلى
المسبب وأنه يجر خيرا كثيرا، أو شرا له آثار كبيرة؛ فإنه
يزداد إقداما على فعل السبب وإتقانا له، أو يخاف من السبب؛
فلا يدخل فيه، إلا أنه في الأول من طريق أنه سن سنة اتبعه
فيها غيره، فوزر فعل غيره لاحق له؛ فالشر الكثير ليس من
فعله مباشرة، أما هنا؛ فإن فعله مما يترتب عليه فساد كبير
في الأرض أو خير كثير من إقامة العدل، إذا كان حاكما مثلا
وإن لم يكن اقتدى به غيره فيه؛ فهذا نوع آخر من النظر إلى
المسبب غاير الأول باعتبار تنوع آثار المسبب. "د".
2 في النسخ المطبوعة: "الفاشي"، والتصحيح من الأصل و"ط".
3 الختر: الغدر، وفي حاشية الأصل: "الغدر والخديعة أو أقبح
الغدر".
4 يشير المصنف إلى ما أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 362-363/
رقم 927- رواية أبي مصعب، و1/ 460- رواية يحيى" عن يحيى بن
سعيد أنه بلغه عن ابن عباس؛ قال:
"ما ظهر =
ج / 1 ص -369-
...........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
الغلول في قوم قط؛ إلا ألقي
في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنى في قوم قط؛ إلا كثر فيهم
الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان؛ إلا قطع عنهم الرزق،
ولا حكم قوم بغير الحق؛ إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر قوم
بالعهد؛ إلا سلط الله عليهم العدو".
قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "14/ 211": "وقد روينا
هذا الحديث عن ابن عباس متصلا"، وقال قبل ذلك: "مثل هذا لا
يكون إلا توقيفا؛ لأن مثله لا يروى بالرأي".
ثم أخرجه "14/ 212" متصلا عن ابن عباس قوله مختصرا، وقال:
"حديث مالك أتم، وكلها تقضي القول بها والمشاهدة بصحتها".
قلت: قوله "كلها"؛ أي: شواهده، وقد ساق له شاهدا من حديث
ابن عمر مرفوعا، وآخر عن بريدة مرفوعا أيضا.
أما حديث ابن عمر؛ فقد أخرجه ابن ماجه في "السنن" "رقم
4019"، وأبو نعيم في "الحلية" "8/ 333-334" من طريق ابن
أبي مالك عن أبيه عن عطاء بن أبي رباح عنه مرفوعا بلفظ:
"يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن
تدركوهن؛ لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا
فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم
الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان؛ إلا أخذوا
بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة
أموالهم؛ إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم
يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله؛ إلا سلط الله
عليهم عدوا من غيرهم, فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم
تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله؛ إلا جعل
الله بأسهم بينهم".
وإسناده ضعيف، فيه ابن أبي مالك، وهو: خالد بن يزيد بن عبد
الرحمن، ضعيف، واتهمه ابن معين، وقال البوصيري في "زوائد
ابن ماجه": "هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختلفوا في ابن
أبي مالك وأبيه"، وتعقبه شيخنا الألباني في "السلسلة
الصحيحة" "رقم 106"؛ فقال: "قلت: الأب لا بأس به، وإنما
العلة من ابنه".
وبه أعله ابن حجر في "بذل الماعون" "ص210".
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "العقوبات" "ق 62/ ب"، وابن عبد
البر في "التمهيد" "14/ 211-212" من طريق نافع بن عبد الله
عن فروة بن قيس المكي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر نحوه
مرفوعا، وإسناده ضعيف، نافع وفروة لا يعرفان. =
ج / 1 ص -370-
..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأخرجه الحاكم في "المستدرك" "4/ 540" من طريق حفص بن
غيلان عن عطاء به، وإسناده حسن، ابن غيلان وثقه الجمهور،
وضعفه بعضهم.
وأخرجه الروياني في "مسنده" "ق 247/ أ" عن عثمان بن عطاء
عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا.
وإسناده ضعيف، عطاء هو ابن أبي مسلم الخراساني، صدوق، لكنه
مدلس، وقد عنعن، وابنه عثمان ضعيف.
وأما حديث بريدة، فقد أخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/
126"، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 346"، وابن عبد البر في
"التمهيد" "14/ 212"، وابن حجر في "بذل الماعون"
"ص211-212" عن بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن
أبيه مرفوعا مختصرا بلفظ: "ما نقض قوم
العهد قط؛ إلا كان القتل بينهم، وما ظهرت فاحشة في قوم قط؛
إلا سلط الله -عز وجل- عليهم الموت، ولا منع قوم الزكاة؛
إلا حبس الله عنهم القطر".
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وبشير تكلم فيه، وقد خولف؛
فقال البيهقي عقبه: "كذا ورواه بشير بن المهاجر"، ثم ساقه
بإسناده من طريق الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن
ابن عباس قوله، وإسناده صحيح.
وعد ابن حجر في "بذل الماعون" "ص212" طريق بشير -وعزاها
لأبي يعلى- أصح طرق هذا الحديث، ثم قال: "وله علة غير
قادحة". ثم ساق طريق ابن واقد، وقال: "ويحتمل أن يكونا
محفوظين، وإلا؛ فهذه الطريق أرجح، لاحتمال أن يكون بشير بن
المهاجر سلك الجادة".
قلت: وتابع بشيرا على رفعه وجعله من "مسند بريدة": الفضيل
بن غزوان، كما عند الطبراني في "الأوسط" -كما في "مجمع
البحرين" "1/ ق 122/ أ"- وتمام في "الفوائد" "رقم 519-
ترتيبه" بإسناد رواته ثقات؛ كما قال المنذري في "الترغيب"
"1/ 543"، والهيثمي في "المجمع" "3/ 66"، وكان ابن حجر قد
أشار أن له شاهدا عند الطبراني من حديث عمرو بن العاص،
وعند تمام في "الفوائد" "رقم 520" عن ابن عباس مرفوعا، وهو
منكر جدا، كما في "الميزان" "4/ 165"، و"اللسان" "6/ 79".
والخلاصة: الحديث صحيح، وصححه شيخنا الألباني في "الصحيحة"
"رقم 106، 107".
ج / 1 ص -371-
هذه
الأمور يتسبب عنها أضداد مسبباتها.
فإذا نظر العامل فيما يتسبب عن عمله من الخيرات أو الشرور؛
اجتهد في اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات، رجاء في الله
وخوفا منه، ولهذا جاء الإخبار في الشريعة بجزاء الأعمال،
وبمسببات الأسباب، والله أعلم بمصالح عباده، والفوائد التي
تنبني على هذه الأصول كثيرة.
فصل:
فإن قيل: تقرر في المسألة التي قبل هذه أن النظر في
المسببات يستجلب مفاسد، والجاري على مقتضى هذا أن لا يلتفت
إلى المسبب في التسبب، وتبين الآن أن النظر في المسببات
يستجر مصالح، والجاري على مقتضى هذا أن يلتفت إليها، فإن
كان هذا على الإطلاق؛ كان تناقضا، وإن لم يكن على الإطلاق؛
فلا بد من تعيين موضع الالتفات الذي يجلب المصالح، من
الالتفات الذي يجر المفاسد، بعلامة يوقف عندها، أو ضابط
يرجع إليه.
فالجواب: أن هذا المعنى مبسوط في غير هذا الموضع1، ولكن
ضابطه أنه إن كان الالتفات إلى المسبب من شأنه التقوية
للسبب، والتكملة له، والتحريض على المبالغة في إكماله؛ فهو
الذي يجلب المصلحة2، وإن كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في تفاصيل المسائل والفصول السابقة؛ لأنه بين النظر
في المسبب بالاعتبار الذي يجر إلى المفاسد، وبالاعتبار
الذي يجر إلى المصالح. "د".
2 من مواضع الالتفات إلى المسبب مقام الدعوة إلى الأسباب؛
فإن الحكمة تقتضي بيان ما ينتج عنها من أثر نافع وعاقبة
حميدة، فلو بذل رئيس القوم وسعه في اتخاذ وسائل المنعة
ومظاهر القوة امتثالا لقوله تعالى:
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، غير ملتفت إلى ما يتصل بها من عزة الجانب والتقلب في نعمة
الاستقلال؛ لأدى الواجب بإخلاص فائق، فإن أخذ يدعو الناس
على القيام بهذه الوسائل؛ فلا غنى له عن إرسال نظره إلى ما
ينتج عن إقامتها من عز وسعادة، ثم إلى ما يحدث عن إضاعتها
من النزول إلى درك الخزي والشقاء. "خ".
ج / 1 ص -372-
من
شأنه أن يكر على السبب بالإبطال، أو بالإضعاف، أو بالتهاون
به؛ فهو الذي يجلب المفسدة.
وهذان القسمان على ضربين:
أحدهما: ما شأنه ذلك بإطلاق، بمعنى أنه يقوي السبب أو
يضعفه بالنسبة إلى كل مكلف، وبالنسبة إلى كل زمان،
وبالنسبة إلى كل حال يكون عليها المكلف.
والثاني: ما شأنه ذلك لا بإطلاق، بل بالنسبة إلى بعض
المكلفين دون بعض، أو بالنسبة إلى بعض الأزمنة دون بعض، أو
بالنسبة إلى بعض أحوال المكلف دون بعض.
وأيضا؛ فإنه ينقسم من جهة أخرى قسمين:
أحدهما: ما يكون في التقوية أو التضعيف مقطوعا به.
والثاني: مظنونا أو مشكوكا فيه؛ فيكون موضع نظر وتأمل؛
فيحكم بمقتضى الظن، ويوقف عند تعارض الظنون، وهذه جملة
مجملة غير مفسرة، ولكن إذا روجع ما تقدم وما يأتي؛ ظهر
مغزاه، وتبين معناه بحول الله.
ويخرج عن هذا التقسيم نظر المجتهدين, فإن على المجتهد أن
ينظر في الأسباب ومسبباتها لما ينبني على ذلك من الأحكام
الشرعية، وما تقدم من التقسيم راجع إلى أصحاب الأعمال من
المكلفين، وبالله التوفيق.
ج / 1 ص -373-
فصل:
وقد يتعارض الأصلان معا على المجتهدين؛ فيميل كل واحد إلى
ما غلب على ظنه:
فقد1 قالوا في السكران إذا طلق، أو أعتق، أو فعل ما يجب
عليه الحد فيه أو القصاص: عومل معاملة من فعلها عاقلا،
اعتبارا بالأصل الثاني2، وقالت طائفة بأنه كالمجنون
اعتبارا بالأصل الأول، على تفصيل لهم في ذلك مذكور في
الفقه، واختلفوا أيضا في ترخص3 العاصي بسفره، بناء على
الأصلين أيضا، واختلفوا في قضاء صوم التطوع4، وفي قطع
التتابع5 بالسفر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "وقد".
2 وهو اعتبار المسببات في الخطاب بالأسباب، وهو المذكور في
صدر هذه المسألة، والأصل الأول هو أن المسببات غير مقدورة
للمكلف، ولا هو مخاطب بها، وأيضا الأصل القائل: إيقاع
السبب بمنزلة إيقاع المسبب وهي المسألة الثامنة يتعارض مع
ظاهر الأصل الأول على المجتهد. "د".
3 أي: فاعتبار المسبب مرتبا على السبب آخذا حكمه يقتضي ألا
رخصة، وإذا اعتبر المسبب منفصلا عن السبب؛ فمنع تحقق السفر
المدة المشترطة يرخص له؛ لأنه مسافر وعصيانه في قصده
السفر؛ أي: عصيانه بالتسبب لا أثر في الترخص. "د".
4 أي: فإذا اعتبر أنه صائم بالفعل وقد أبطل عمله؛ فيجب
عليه القضاء بقطع النظر عن كون تسببه والدخول فيه لم يكن
واجبا؛ لأنا لا نعتبر المسبب مرتبا على السبب حتى يأخذ
حكمه، وإذا اعتبر ذلك؛ فقد كان التسبب غير واجب، فيبقى
المسبب كذلك؛ فلا يجب القضاء. "د".
5 حيث كان مسافرا بدون ضرورة ولكن طرأت عليه ضرورة تلجئه
للفطر؛ فهل تعتبر الضرورة ولا ينقطع التتابع؟ لأن المسبب
له شأن آخر غير شأن السبب؛ فيعتبر منفصلا في أحكامه عن
السبب، أو أن له حكمه، وقد كان مسافرا بدون عذر، فينجر
عليه حكمه ولا يعتبر عذره الذي طرأ، فينقطع التتابع. "د".
ج / 1 ص -374-
الاختياري إذا عرض له فيه عذر أفطر من أجله، وكذلك اختلفوا
في أكل الميتة1 إذا اضطر بسبب السفر الذي عصى بسببه،
وعليهما يجري الخلاف أيضا في المسألة المذكورة قبل هذا بين
أبي هاشم وغيره، فيمن توسط2 أرضا مغصوبة.
المسألة الحادية عشرة:
الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح، كما أن
الأسباب المشروعة أسباب للمصالح لا للمفاسد.
مثال ذلك3: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه أمر
مشروع لأنه سبب لإقامة الدين، وإظهار شعائر الإسلام،
وإخماد الباطل على أي وجه كان، وليس بسبب -في الوضع
الشرعي- لإتلاف مال أو نفس، ولا نيل من عرض، وإن أدى إلى
ذلك في الطريق، وكذلك الجهاد موضوع لإعلاء كلمة الله، وإن
أدى إلى مفسدة في المال أو النفس، ودفع المحارب مشروع لرفع
القتل والقتال وإن أدى إلى القتل والقتال، والطلب بالزكاة
مشروع لإقامة ذلك الركن من أركان الإسلام، وإن أدى إلى
القتال، كما فعله أبو بكر -رضي الله عنه- وأجمع عليه
الصحابة -رضي الله عنهم- وإقامة الحدود والقصاص مشروع
لمصلحة الزجر عن الفساد، وإن أدى إلى إتلاف النفوس، وإهراق
الدماء، وهو في نفسه مفسدة، وإقرار حكم الحاكم4 مشروع
لمصلحة فصل الخصومات، وإن أدى إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على النحو الذي قررناه في ترخص العاصي بسفره. "د".
2 فإذا قلنا: يعتبر المسبب وحده بقطع النظر عن السبب؛ فلا
إثم عليه بالخروج عن الأرض، وإن قلنا: إن السبب ملاحظ فيه،
وقد تسبب؛ فالإثم باقٍ حتى يخرج. "د".
3 انظر حول المثال المذكور: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "28/
126، 129-134، 165-168".
4 أي: عدم نقضه، ولو كان خطأ؛ فلا ينقض إلا إذا خالف
إجماعا أو نصا, أو خالف القواعد الشرعية. "د".
ج / 1 ص -375-
الحكم
بما ليس بمشروع، هذا في الأسباب المشروعة.
وأما في الأسباب1 الممنوعة؛ كالأنكحة2 الفاسدة ممنوعة، وإن
أدت إلى إلحاق الولد، وثبوت الميراث، وغير ذلك من الأحكام،
وهي مصالح3، والغصب ممنوع للمفسدة اللاحقة للمغصوب منه4،
وإن أدى إلى مصلحة الملك عند تغير المغصوب في يد الغاصب،
أو غيره من وجوه الفوت.
فالذي يجب أن يعلم أن هذه المفاسد الناشئة عن الأسباب
المشروعة، [والمصالح الناشئة عن الأسباب الممنوعة]5 ليست
بناشئة عنها في الحقيقة، وإنما هي ناشئة عن أسباب أخر
مناسبة لها6.
والدليل على ذلك ظاهر؛ فإنها7 إذا كانت مشروعة؛ فإما أن
تشرع للمصالح، أو للمفاسد، أو لهما معا، أو لغير شيء من
ذلك؛ فلا يصح أن تشرع للمفاسد لأن السمع يأبى ذلك، فقد ثبت
الدليل الشرعي على أن [تلك]8
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وكذلك الأسباب...".
2 في النسخ المطبوعة: "فالأنكحة".
3 أي: هذه المسببات التي أدت إليها الأسباب الممنوعة هي في
الحقيقة مصالح، والمراد بالمصالح ما يعتد به الشارع؛ فيبني
عليه الحكم الشرعي المترتب على الصحيح من نوعه؛ كالملك في
الغصب يرتب عليه أثره من صحة تصرفات المالك، وكميراث الولد
الملحق بالنكاح الفاسد، وكالأحكام الأخرى للأولاد من
ولايات ومن حقوق الأولاد على آبائهم وحقوق آبائهم عليهم،
وهكذا؛ فلا يقال: كيف يعتبر انتقال الملك من المغصوب إلى
الغاصب مصلحه مع أنه عين المفسدة بعدم استقرار ملك
المالكين وخروجه من أيديهم بطرق غير مشروعة؟ "د".
4 بل ومفسدة في الأرض من حيث عدم استقرار الأملاك والتعدي
المترتب عليه مفاسد اجتماعية عظمى. "د".
5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
6 أي: حدثت لاحقة لها وجاءت تبعا. "د".
7 أي: الأسباب مطلقا. "د".
8 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".
ج / 1 ص -376-
الشريعة إنما جيء بالأوامر فيها جلبا للمصالح، وإن كان ذلك
غير واجب في العقول؛ فقد ثبت في السمع، وكذلك لا يصح أن
تشرع لهما معا بعين ذلك الدليل، ولا لغير شيء لما ثبت من
السمع أيضا1؛ فظهر أنها شرعت للمصالح.
وهذا المعنى يستمر فيما منع؛ إما أن يمنع لأن فعله مؤدٍّ
إلى مفسدة، أو إلى مصلحة، أو إليهما، أو لغير شيء، والدليل
جارٍ إلى آخره؛ فإذًا لا سبب مشروعا إلا وفيه مصلحة لأجلها
شرع، فإن رأيته وقد انبنى عليه مفسدة؛ فاعلم أنها ليست
بناشئة عن السبب المشروع.
وأيضا؛ فلا سبب ممنوعا إلا وفيه مفسدة لأجلها منع، فإن
رأيته وقد انبنى عليه مصلحة فيما يظهر؛ فاعلم أنها ليست
بناشئة عن السبب الممنوع، وإنما ينشأ عن كل واحد منها ما
وضع له في الشرع إن كان مشروعا، وما منع لأجله إن كان
ممنوعا.
وبيان ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا لم
يقصد به الشارع إتلاف نفس ولا مال، وإنما هو أمر يتبع
السبب المشروع لرفع الحق وإخماد الباطل؛ كالجهاد ليس
مقصوده إتلاف النفوس، بل إعلاء الكلمة، لكن يتبعه في
الطريق الإتلاف من جهة نصب الإنسان نفسه في محل يقتضي
تنازع الفريقين، وشهر السلاح، وتناول القتال، والحدود
وأشباهها يتبع المصلحة فيها الإتلاف، من جهة أنه لا يمكن
إقامة المصلحة إلا بذلك، وحكم الحاكم سبب لرفع2 التشاجر،
وفصل الخصومات بحسب الظاهر؛ حتى تكون المصلحة ظاهرة، وكون
الحاكم مخطئا راجع إلى أسباب أخر من تقصير في النظر، أو
كون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من أن التكاليف لم تكن عبثا. "د".
2 في النسخ المطبوعة: "لدفع"، وما أثبتناه من الأصل و"ط".
ج / 1 ص -377-
الظاهر
على خلاف الباطن، ولم يكن له على ذلك دليل، وليس بمقصود1
في أمر الحاكم، ولا ينقض الحكم2 -إذا كان له مساغ ما- بسبب
أمر آخر، وهو أن الفسخ يؤدي إلى ضد ما نصب له الحاكم، من
الفصل بين الخصوم ورفع التشاجر؛ فإن الفسخ ضد3 الفصل.
وأما قسم الممنوع؛ فإن ثبوت تلك الأحكام إنما نشأ من الحكم
بالتصحيح لذلك النكاح بعد الوقوع، لا من جهة كونه فاسدا،
حسبما هو مبين في موضعه4، والبيوع الفاسدة من هذا النوع؛
لأن لليد القابضة هنا حكم الضمان شرعا، فصار القابض
كالمالك للسلعة بسبب الضمان لا بسبب العقد، فإذا فاتت
عينها؛ تعين المثل أو القيمة، وإن بقيت على غير تغير ولا
وجه من وجوه الفوت؛ فالواجب ما يقتضيه النهي من الفساد،
فإذا حصل فيها تغير أو نحوه مما ليس بمفيت للعين؛ تواردت
أنظار المجتهدين: هل يكون ذلك في حكم الفوت جملة بسبب
التغير أم لا؟ فبقي حكم المطالبة بالفسخ، إلا أن في
المطالبة بالفسخ حملا على صاحب السلعة إذا ردت عليه
متغيرة5 مثلا، كما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وليس بمقصود في توليته الحكم أن يخطئ، ولكن الخطأ
جاء تابعا ولاحقا، وهو مفسدة ليست بناشئة عن نفس توليته
القضاء، ولكنها نشأت عن أمر آخر وهو تقصيره في النظر أو
استبهام الأمر عليه، فقد يصادفه أن ظاهر الأمر الذي يمكنه
الاطلاع عليه غير باطنه الذي يعسر الاطلاع عليه؛ فلا يكلف
به. "د".
2 هذه فائدة جديدة لا يتوقف عليها البيان المطلوب، وهو أن
المصلحة التي شرع لها تنصيب القاضي قد يكون في طريقها
مفسدة طرأت بسبب آخر. "د".
3 في "م" زيادة: "هذا" بين المعقوفتين.
4 وسيأتي في موضوع مراعاة الخلاف بعد الوقوع والنزول؛ حتى
إن المجتهد يتغير رأيه ويجعل للواقعة بعد النزول حكما ما
كان يقول به قبله. "د".
5 أي: بنقص، أما بزيادة؛ فيكون الحمل -لو ردت- على المشتري
من هذه الجهة، ومن الجهة التي أشار إليها المؤلف. "د".
قلت: وفي الأصل: "ردت إليه متغيرة".
ج / 1 ص -378-
أن
فيها حملا على المشتري، حيث أعطى ثمنا ولم يحصل له ما
تعنَّى فيه من وجوه التصرفات التي حصلت في المبيع؛ فكان
العدل النظر فيما بين هذين، فاعتبر في الفوت حوالة
الأسواق، والتغير الذي لم يفت العين، وانتقال الملك، وما
أشبه ذلك من الوجوه المذكورة في كتب الفقهاء، وحاصلها أن
عدم الفسخ، وتسليط المشتري على الانتفاع؛ ليس سببه العقد
المنهي عنه، بل الطوارئ المترتبة بعده.
والغصب من هذا النحو أيضا, فإن على اليد العادية حكم
الضمان شرعا1، والضمان2 يستلزم تعين المثل أو القيمة في
الذمة؛ فاستوى في هذا المعنى مع المالك بوجه ما، فصار له
بذلك شبهة ملك، فإذا حدث في المغصوب حادث تبقى معه العين
على الجملة؛ صار محل اجتهاد، نظرا إلى حق صاحب المغصوب،
وإلى الغاصب؛ إذ لا يجني عليه غصبه أن يحمل عليه في الغرم
عقوبة3 له، كما أن المغصوب منه لا يظلم بنقص حقه؛ فكان في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أسباب الضمان ثلاثة: الإتلاف، والتسبب، ووضع اليد غير
المؤتمنة، وقد جعل بعض الفقهاء الغاصب ضامنا للرقبة دون
الغلة مستندا إلى حديث: "قضى أن الخراج بالضمان"، وهذا
الحديث قضية معينة لا يلحق بها إلا ما ماثلها من الصور،
ولا وجه في النظر الصحيح يقضي باستواء المبطل والمحق، كما
أن تضمينه الرقبة بأرفع القيم أقرب إلى العدل من تضمينه
قيمتها يوم الغصب فقط؛ إذ هو مأمور بإرجاعها إلى صاحبها في
كل الأحوال ومن جملتها ارتفاع قيمتها إلى غايتها القصوى.
"خ".
2 في الأصل زيادة: "لا".
3 لا يظهر فيما إذا كان التغير بارتفاع الأسواق، ولا في كل
ما كانت زيادتها لا ترجع إلى تكاليفه أو صنعه، بل كان
ناشئا عن حالتها هي بأن كانت عشراء فولدت مثلا، فيزيد
ثمنها كثيرا، فهذا وأمثاله لا يظهر أن يقال فيه: إنه تغير
يعتد به مفوتا، ويلزم الغاصب بخصوص القيمة يوم الغصب؛ لأن
هذا حمل على خصوص صاحبها، ولذلك جرى الخلاف في مثله. "د".
ج / 1 ص -379-
ذلك
الاجتهاد بين هذين؛ فالسبب في تملك الغاصب المغصوب ليس نفس
الغصب، بل التضمين أولا، منضما إلى ما حدث بعد في المغصوب؛
فعلى هذا النوع أو شبهه يجري النظر في هذه الأمور.
والمقصود أن الأسباب المشروعة لا تكون أسبابا للمفاسد،
والأسباب الممنوعة لا تكون أسبابا للمصالح؛ إذ لا يصح ذلك
بحال.
فصل:
وعلى هذا الترتيب يفهم حكم كثير من المسائل في مذهب مالك
وغيره.
ففي المذهب أن من حلف بالطلاق أن يقضي فلانا حقه إلى زمان
كذا، ثم خاف الحنث بعدم القضاء، فخالع1 زوجته حتى انقضى
الأجل ووقع الحنث وليست بزوجة، ثم راجعها؛ أن الحنث لا يقع
عليه، وإن كان قصده مذموما وفعله مذموما؛ لأنه احتال بحيلة
أبطلت حقا، فكانت المخالعة1 ممنوعة وإن أثمرت عدم الحنث؛
لأن عدم الحنث لم يكن بسبب المخالعة، بل بسبب أنه حنث ولا
زوجة له فلم يصادف الحنث محلا.
وكذلك قول اللخمي فيمن قصد بسفره الترخص بالفطر في رمضان:
إن له أن يفطر وإن كره له هذا القصد؛ لأن فطره بسبب المشقة
اللازمة للسفر، لا بسبب نفس السفر المكروه، وإن علل الفطر
بالسفر؛ فلاشتماله على المشقة لا لنفس السفر، ويحقق ذلك أن
الذي كره له السفر الذي هو من كسبه، والمشقة خارجة عن
كسبه؛ فليست المشقة هي عين المكروه له, بل سببها، والمسبب
هو السبب في الفطر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "فصالح، المصالحة".
ج / 1 ص -380-
فأما
لو فرضنا1 أن السبب الممنوع لم يثمر ما ينهض سببا لمصلحة،
أو السبب المشروع لم يثمر ما ينهض سببا لمفسدة؛ فلا يكون
عن المشروع مفسدة تقصد شرعا؛ ولا عن الممنوع2 مصلحة تقصد
شرعا، وذلك كحيل3 أهل العِينة في جعل السلعة واسطة في بيع
الدينار بالدينارين إلى أجل4؛ فهنا طرفان وواسطة: طرف لم
يتضمن سببا ثابتا على حال؛ كالحيلة المذكورة، وطرف تضمن
سببا قطعا أو ظنا؛ كتغيير المغصوب في يد الغاصب، فيملكه
على التفصيل المعلوم، وواسطة لم ينتفِ فيها السبب ألبتة،
ولا ثبت قطعا5؛ فهو محل أنظار المجتهدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فالأمثلة المتقدمة جميعها مثمرة لذلك. "د".
2 في "د": "المنوع" بنقصان ميم.
3 فالحيلة مدخول فيها على أنها عقدة واحدة في صورة عقدتين؛
فليس هناك شيئان أحدهما يعتبر سببا ممنوعا أنتج مسببا هو
سبب في مصلحة يعتد بها، بخلاف سائر الأمثلة السابقة؛
فتأمل. "د".
4 استدل المالكية والحنفية والحنابلة على تحريم بيع
العِينة بأحاديث لم تكن لها القوة الكافية في الاحتجاج،
ولكن أيدوها من جهة النظر بأنها عقدة ربا، وإنما استعير
لها اسم البيع وألقي عليها ثوب المعاملة الجائزة، ولا عبرة
بالصورة ما دامت الحقيقة التي تترتب عليها المفسدة قائمة،
ومدرك الشافعية في إجازتها أنها تشتمل على عقدين, كل منهما
منفصل عن الآخر، والتفاوت بين الثمنين في العقدين لا أثر
له، وهي وإن كانت وسيلة إلى ما يقصد من الربا وهو الفضل؛
لم تكن وسيلة إلى عين الربا الذي هو مقابلة الدينار
بالدينارين مباشرة، كما أن النكاح وسيلة إلى ما يقصد
بالزنى وهو التلذذ بالوطء؛ لا إلى نفس الزنى الذي هو
التلذذ على وجه غير مشروع. "خ".
قلت: أحاديث تحريم بيع العينة صحيحة، وسيأتي تخريج ذلك "3/
114".
5 يحسن مراعاة الظن أيضا ليتقابل مع سابقه الذي اعتبره
فيه؛ حتى تصح المقابلة. "د".
ج / 1 ص -381-
فصل:
هذا كله إذا نظرنا1 إلى هذه المسائل الفرعية بهذا الأصل
المقرر، فإن تُؤُملت من جهة أخرى؛ كان الحكم آخر، وتردد
الناظرون2 فيه؛ لأنه يصير محلا للتردد.
وذلك أنه قد تقرر أن إيقاع المكلف الأسباب في حكم إيقاع
المسببات، وإذا كان كذلك؛ اقتضى أن المسبب في حكم الواقع
باختياره، فلا يكون سببا شرعيا، فلا يقع له مقتضى؛ فالعاصي
بسفره لا يقصر ولا يفطر؛ لأن المشقة كأنها واقعة3 بفعله؛
لأنها ناشئة عن سببه، والمحتال للحِنْث بمخالعة امرأته لا
يخلصه احتياله من الحنث، بل يقع عليه إذا راجعها، وكذلك
المحتال لمراجعة زوجته بنكاح المحلل، وما أشبه ذلك؛ فههنا
إذا روجع الأصلان كانت المسائل في محل الاجتهاد، فمن ترجح
عنده أصل قال بمقتضاه، والله أعلم.
فصل:4
ما تقدم في هذا الأصل نظر في مسببات الأسباب من حيث كانت
الأسباب مشروعة أو غير مشروعة؛ أي: من جهة ما هي داخلة تحت
نظر الشرع، لا من جهة ما هي أسباب عادية لمسببات عادية؛
فإنها إذا نظر إليها من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م" و"خ": "نظر".
2 في "م": "الناظر".
3 في "د": "واقعلة" بزيادة لام.
4 يقصد به إيضاحا للأصل السابق في المسألة، ويدفع به ما
يقال: كيف لا تكون الأسباب الممنوعة سببا للمصالح، والعاقل
لا يفعلها إلا وهي سبب في مصالحه وأغراضه؟ ومحصله أنه ليس
المراد بالمصلحة ما هي ملائمة لطبعه أو منافرة، بل ما يعتد
بها الشارع ويرتب عليها مقتضياتها. "د".
ج / 1 ص -382-
هذا
الوجه؛ كان النظر فيها آخر؛ فإن قصد التشفي بقصد1 القتل
متسبب فيما هو عنده مصلحة أو دفع مفسدة, وكذلك تارك
العبادات الواجبة إنما تركها فرارا من إتعاب النفس، وقصدا
إلى الدَّعة والراحة بتركها؛ فهو من جهة ما هو فاعل
بإطلاق، أو تارك بإطلاق، متسبب في درء المفاسد عن نفسه، أو
جلب المصالح لها، كما كان الناس في أزمان الفترات،
والمصالح والمفاسد هنا هي المعتبرة بملاءمة الطبع
ومنافرته؛ فلا كلام هنا في مثل هذا.
المسألة الثانية عشرة:
الأسباب -من حيث هي أسباب شرعية لمسببات- إنما شرعت
لتحصيل مسبباتها، وهي المصالح المجتلبة، أو المفاسد
المستدفعة.
والمسببات بالنظر إلى أسبابها ضربان:
أحدهما: ما شرعت الأسباب2 لها؛ إما بالقصد الأول3، وهي
متعلق المقاصد الأصلية4 أو المقاصد5 الأُوَل أيضا، وإما
بالقصد الثاني وهي متعلق المقاصد التابعة6، وكلا الضربين
مبين في كتاب "المقاصد".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "بسبب".
2 أي: علما أو ظنا بدليل مقابليه، وما جاء له في بيانه
لهذا القسم. "د".
3 قصد الشارع في الأمور من جلب المصالح ودفع المفاسد.
"ماء".
4 سيأتي أنها ما لم يكن فيها حظ للمكلف بالقصد الأول،
وأنها هي الواجبات العينية والكفائية، ومقابلها ما كان فيه
حظ للمكلف ولم يؤكد الشارع في طلبها إحالة على ما جبل عليه
طباعه من سد الخلات ونيل الشهوات، وبيانه في المسألة
الثانية من النوع الرابع من المقاصد الشرعية. "د".
5 مغايرة في العبارة. "د".
6 وهو قصد أحدنا لما قصد الشارع... وهو تابع للقصد الأول.
"ماء".
ج / 1 ص -383-
والثاني: ما سوى ذلك مما يعلم أو يظن أن الأسباب لم تشرع
لها، أو لا يعلم ولا يظن أنها شرعت لها، أو لم تشرع لها؛
فتجيء الأقسام ثلاثة:
أحدها:
ما يعلم أو يظن أن السبب شرع لأجله؛ فتسبب المتسبب فيه
صحيح لأنه أتى الأمر من بابه، وتوسل إليه بما أذن الشارع
في التوسل به إلى ما أذن أيضا في التوسل إليه؛ لأنا1 فرضنا
أن الشارع قصد بالنكاح مثلا التناسل أولا2، ثم يتبعه اتخاذ
السكن، ومصاهرة أهل المرأة لشرفهم أو دينهم أو نحو ذلك، أو
الخدمة، أو القيام على مصالحه، أو التمتع بما أحل الله من
النساء، أو التجمل بمال المرأة، أو الرغبة في جمالها، أو
الغبطة بدينها، أو التعفف عما حرم الله, أو نحو ذلك حسبما
دلت عليه الشريعة؛ فصار إذًا ما قصده هذا المتسبب مقصود
الشارع على الجملة، وهذا كاف، وقد تبين في كتاب "المقاصد"
أن القصد المطابق لقصد الشارع هو الصحيح؛ فلا سبيل إلى
القول بفساد هذا التسبب.
لا يقال: إن القصد إلى الانتفاع مجردا لا يغني دون قصد حل
البضع بالعقد أولا؛ فإنه الذي ينبني عليه ذلك القصد،
والشارع إنما قصده بالعقد أولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله سقط هنا كلمة "إذا"، وبعد قوله: "دلت عليه الشريعة"
سقطت هذه الجملة: "وقصد الشخص المتسبب بالنكاح التناسل
وحده أو هو مع بعض المنافع المذكورة، أو مجرد بعض المنافع
غير التناسل" صار إذا... إلخ، وبهذا يلتئم الكلام. "د".
2 فالتناسل مقصد أصلي, كما في الحديث:
"تزوجوا الوَلُود الوَدُود؛ فإني مكاثر بكم الأمم"؛ فجاء بصيغة الأمر على طريقة ما لم يكن من حظ المكلف كما يأتي شرحه
في كتاب "المقاصد"، وبقيتها تبع، فالسكن كما في آية
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} والمال والجمال... إلخ كما في الحديث:
"تنكح المرأة لأربع خصال: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها"، والقيام
على المصالح كما في حديث جابر بن عبد الله في تزوجه المرأة
الثيب للقيام على مصالح أخواته، وهكذا الباقي؛ فكلها مقاصد
للنكاح أقرها الشرع. "د".
ج / 1 ص -384-
الحل،
ثم يترتب عليه الانتفاع، فإذا لم يقصد إلا مجرد الانتفاع؛
فقد تخلف قصده عن قصد الشارع؛ فيكون مجرد القصد إلى
الانتفاع غير صحيح، ويتبين هذا بما إذا1 أراد التمتع
بفلانة كيف اتفق، بحل أو غيره؛ فلم يمكنه ذلك إلا بالنكاح
المشروع، وقصده أنه لو أمكنه [بالزنى] لحصل مقصوده، فإذا
عقد عليها والحال هذه؛ فلم يكن قاصدا لحله، وإذا لم يقصد
حلها؛ فقد خالف قصد الشارع بالعقد فكان باطلا، والحكم في
كل فعل أو ترك جار هذا المجرى.
لأنا نقول: [بل] هو2 على ما فرض في السؤال صحيح وذلك أن
حاصل قصد هذا القاصد أنه لم يقدر على ما قصد من وجه غير
جائز؛ فأتاه من وجه قد جعله الشارع موصلا إليه، ولم يكن
قصده بالعقد أنه ليس بعقد، بل قصد انعقاد النكاح بإذن من
إليه الإذن، وأدى ما الواجب أن يؤدى فيه، لكن ملجأ إلى
ذلك؛ فله بهذا التسبب الجائز مقتضاه، ويبقى النظر في قصده
إلى المحظور الذي لم يقدر عليه، فإن كان عند3 عزم على
المعصية لو قدر عليها؛ أثم عند المحققين4، وإن كان خاطرا
على غير عزيمة؛ فمغتفر كسائر الخواطر، فلم يقترن إذًا
بالعقد ما يصيره باطلا؛ لوقوعه كامل الأركان، حاصل الشروط،
منتفي الموانع، وقصد القاصد للعصيان لو قدر عليه خارج عن
قصده5 الاستباحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "إذ".
2 أي: العقد. "د".
3 في "م" و"خ": "عنده" بزيادة الضمير.
4 من باشر امرأة معتقدا أنها أجنبية فإذا بها زوجته؛ كان
فاسقا، وكتب عليه إثم هذه النية السيئة وإن لم يحتمل خطيئة
الزنى؛ لأن نفس الوطء كان مباحا، وهذه الصورة المنكرة أشد
من مجرد العزم الذي لم ينفذه صاحبه في صورة عمل كأنه يتركه
ناسيا أو مغلوبا على قصده، والظاهر أن موضع الخلاف يختص
بهذا العزم الذي لم يكن له أثر في الظاهر، ولا يتعدى إلى
تلك الصورة التي تمثل فيها العزم بمظهر فظيع. "خ".
5 أي: منفصل عنه ولا يضره لانفكاكه عنه. "د".
ج / 1 ص -385-
بالوجه
المقصود للشارع، وهذا القصد الثاني موجود1 عنده لا محالة،
وهو موافق لقصد الشارع بوضع السبب؛ فصح التسبب، وأما إلزام
قصد الحل؛ فلا يلزم، بل يكفي القصد إلى إيقاع السبب
المشروع، وإن غفل عن وقوع الحل به؛ لأن الحل الناشئ عن
السبب ليس بداخل2 تحت التكليف كما تقدم.
والثاني:
ما يعلم أو يظن أن السبب لم يشرع لأجله ابتداء3؛ فالدليل
يقتضي أن ذلك التسبب غير صحيح؛ لأن السبب لم يشرع أولا
لهذا المسبب المفروض، وإذا لم يشرع له؛ فلا يتسبب عنه
حكمته في جلب مصلحة ولا دفع مفسدة، بالنسبة إلى ما قصد
بالسبب؛ فهو إذًا باطل، هذا وجه.
ووجه ثانٍ: وهو أن هذا السبب بالنسبة إلى هذا المقصود
المفروض غير مشروع؛ فصار كالسبب الذي لم يشرع أصلا, وإذا
كان التسبب غير المشروع أصلا؛ لا يصح، فكذلك ما شرع إذا
أخذ لما لم يشرع له.
ووجه ثالث: أن كون الشارع لم يشرع هذا السبب لهذا المسبب
المعين دليل على أن في ذلك التسبب مفسدة لا مصلحة، أو أن
المصلحة المشروع لها السبب منتفية بذلك المسبب؛ فيصير
السبب بالنسبة إليه عبثا، فإن كان الشارع قد نهى عن ذلك
التسبب الخاص؛ فالأمر واضح4، فإذا قصد بالنكاح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: حكما كما يقتضيه فرض السؤال، وكما يشير إليه قوله:
"وأما إلزام قصد الحل... إلخ". "د".
2 فهو مسبب لا يلزم قصده ولا عدم قصده؛ لأنه فعل غيره.
"د".
3 أي: إنه ليس من مقاصد الشرع بهذا السبب، وإن كان قد
يترتب على مسببه، كالطلاق والعتق بالنسبة لعقد النكاح
والبيع؛ فالطلاق لا يكون إلا عن نكاح، والعتق لا يكون إلا
عن ملك، كما لا يكون هدم البيت إلا عن بناء يهدم، ولكن
الطلاق، والعتق، وهدم البيت؛ لم تقصد بالنكاح والبيع وبناء
البيت. "د".
4 في الأصل: "أوضح".
ج / 1 ص -386-
مثلا
التوصل إلى أمر فيه إبطاله كنكاح المحلل، أو بالبيع التوصل
إلى الربا مع إبطال البيع، وما أشبه ذلك من الأمور التي
يعلم أو يظن أن الشارع لا يقصدها؛ كان هذا العمل باطلا
لمخالفته لقصد الشارع في شرع النكاح والبيع، وهكذا سائر
الأعمال والتسببات العادية والعبادية.
فإن قيل: كيف هذا والناكح في المثال المذكور؟ وإن كان قصد
رفع النكاح بالطلاق لتحل للأول؛ فما قصده إلا ثانيا عن قصد
النكاح لأن الطلاق لا يحصل إلا في ملك نكاح، فهو قصد نكاحا
يرتفع بالطلاق، والنكاح من شأنه ووضعه الشرعي أن يرتفع
بالطلاق، وهو مباح في نفسه؛ فيصح، لكن كونه قصد مع ذلك
التحليل للأول أمر آخر، وإن كان مذموما، فإنه إذا اقترن
أمران مفترقان في أنفسهما؛ فلا تأثير لأحدهما في الآخر؛
لانفكاك أحدهما من الآخر تحقيقا، كالصلاة في الدار
المغصوبة1.
وفي الفقه ما يدل على هذا:
فقد اتفق مالك وأبو حنيفة على صحة التعليق في الطلاق قبل
النكاح، والعتق قبل الملك؛ فيقول للأجنبية: إن تزوجتك فأنت
طالق، وللعبد: إن اشتريتك فأنت حر، ويلزمه الطلاق إن تزوج،
والعتق إذا اشترى، وقد علم أن مالكا وأبا حنيفة يبيحان2 له
أن يتزوج المرأة وأن يشتري العبد.
وفي "المبسوطة" عن مالك فيمن حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها
إلى ثلاثين سنة ثم يخاف العنت؛ قال: "أرى له جائزا أن
يتزوج، ولكن إن تزوج طلقت عليه"3، مع أن هذا النكاح وهذا
الشراء ليس فيهما شيء مما قصده
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي؛ فهو مما يتوجه فيه النهي لوصف منفك، لا للذات ولا
لوصف ملازم، ومعروف أن فيه خلافا في فساده وعدمه. "د".
2 أي: فيحكمان بصحة التسبب مع أنه مما علم أن السبب لم
يشرع له. "د".
3 انظر: "المدونة" "2/ 132-ط العلمية".
ج / 1 ص -387-
الشارع
بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني؛ إلا الطلاق والعتق، ولم
يشرع النكاح للطلاق، ولا الشراء للخروج عن1 اليد، وإنما
شرعا لأمور أخر، والطلاق والعتاق من التوابع غير المقصودة
في مشروعيتهما؛ فما جاز هذا إلا لأن وقوع الطلاق أو العتق
ثانٍ عن حصول النكاح أو الملك وعن القصد إليه؛ فالناكح
قاصد بنكاحه الطلاق، والمشتري قاصد بشرائه العتق، وظاهر
هذا القصد المنافاة لقصد الشارع، ولكنه مع ذلك جائز عند
هذين الإمامين، وإذا كان كذلك؛ فأحد الأمرين جائز2؛ إما
جواز التسبب بالمشروع إلى ما لم يشرع له السبب، وإما بطلان
هذه المسائل.
وفي مذهب مالك من هذا كثير جدا؛ ففي "المدونة" فيمن نكح
وفي نفسه أن يفارق3 أنه ليس من نكاح المتعة، فإذا4 تزوج
المرأة ليمين؛ لزمته أن يتزوج على امرأته فقد فرضوا
المسألة، وقال مالك5: إن النكاح حلال فإن شاء أن يقيم عليه
أقام، وإن شاء أن يفارق فارق، وقال ابن القاسم: وهو مما لا
اختلاف فيه بين أهل العلم مما علمنا أو سمعنا. قال: وهو
عندنا نكاح ثابت، الذي6 يتزوج يريد أن يبر في يمينه، وهو
بمنزلة من يتزوج المرأة للذة يريد أن يصيب منها، لا يريد
حبسها ولا ينوي ذلك، على ذلك نيته وإضماره في تزويجها؛
فأمرهما واحد، فإن شاءا أن يقيما أقاما؛ لأن أصل النكاح
حلال. ذكر هذه في "المبسوطة".
وفي "الكافي" في الذي يقدم البلدة فيتزوج المرأة ومن نيته
أن يطلقها بعد السفر: "أن قول الجمهور جوازه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "من".
2 في "ط": "لازم".
3 لكنه لم يحدد مدة على ما يأتي لمالك. "د". قلت: وانظر
"الذخيرة" "4/ 404".
4 هكذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "فإذًا إذا".
5 في "ط": "قال فيها مالك". قلت: أي: في "المدونة" "2/
131-ط العلمية".
6 أي: نكاح الذي... إلخ. "د".
ج / 1 ص -388-
وذكر
ابن العربي مبالغة مالك في منع نكاح المتعة، وأنه لا يجيزه
بالنية؛ كأن يتزوجها بقصد الإقامة معها مدة وإن لم يلفظ
بذلك، ثم قال: وأجازه سائر العلماء، ومثل بنكاح المسافرين،
قال: "وعندي أن النية لا تؤثر في ذلك؛ فإنا لو ألزمناه أن
ينوي1 بقلبه النكاح الأبدي2؛ لكان نكاحا نصرانيا، فإذا سلم
لفظه؛ لم تضره نيته، ألا ترى أن الرجل يتزوج على حسن
العشرة ورجاء الأُدْمَة3، فإن وجدها وإلا فارق، كذلك يتزوج
على تحصيل العصمة، فإن اغتبط ارتبط، وإن كره فارق"، وهذا
كلامه في كتاب "الناسخ والمنسوخ"، وحكى اللخمي عن مالك
[فمن نكح]4 لغربة أو لهوى ليقضي أَرَبَه ويفارق؛ فلا بأس.
فهذه مسائل دلت على خلاف ما تقدم في القاعدة المستدل
عليها، وأشدها5 مسألة حل اليمين؛ لأنه لم يقصد النكاح رغبة
فيه، وإنما قصد أن يبر في يمينه، ولم يشرع النكاح لمثل
هذا، ونظائر ذلك كثيرة، وجميعها صحيح مع القصد المخالف
لقصد الشارع، وما ذلك إلا لأنه قاصد للنكاح أولا، ثم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فرق بين أن ينوي النكاح الأبدي وبين ألا ينوي النكاح إلا
لمدة، وهو ما يشترطه مالك، والتنظير أيضا نابٍ؛ لأنه متزوج
على الأبدية إن حسنت عشرتها، فليس فيه دخول على التوقيت
القطعي، وهو نكاح المتعة. "د".
2 بعدها في "الناسخ والمنسوخ" لابن العربي "1/ 171": "حتى
لا مثنوية فيه".
3 "استدراك2".
4 سقط ما بين المعقوفتين من الأصل.
5 وإنما كان هذا أشدها؛ لأنه قصد ألا يدخل بها ولا يرتب
المسببات مطلقا على سببها وهو العقد، ولكنه في الأمثلة
الأخرى يرتب المسبب ويتمتع، لكن لا على الوجه المعروف
للشرع في النكاح مثلا، وظاهر أن الكلام في الأمثلة التي
بعد قوله: "وفي مذهب مالك من هذا كثير"، ولا يدخل في
المفضل عليه المسائل السابقة من المحلوف بطلاقها والمعلق
حريته على مشتراه؛ فلا تظهر الأفضلية في الشدة، بل قد يقال
العكس؛ لأن النكاح المقصود به بر اليمين يمكنه أن يرتب
عليه حكمته ويستمسك بها بخلاف المحلوف بطلاقها. "د".
ج / 1 ص -389-
الفراق
ثانيا: وهما قصدان غير متلازمين، [وإلا] فإن جعلتهما
متلازمين في المسألة الأولى1 بحيث يؤثر أحدهما في الآخر،
فليكن كذلك في هذه المسائل، وحينئذ يبطل جميع ما تقدم2؛
فعلى الجملة يلزم: إما بطلان هذا كله، وإما بطلان ما تقدم.
فالجواب من وجهين: أحدهما إجمالي، والآخر تفصيلي.
فأما الإجمالي؛ فهو أن نقول: أصل المسألة صحيح لما تقدم من
الأدلة، وما اعترض به ليس بداخل تحتها ولا هي منها، بدليل
قولهم بالجواز والصحة فيها، فما اتفقوا منها على جوازه؛
فلسلامته من مقتضى أصل المسألة، وما اختلفوا فيه؛ فلدخوله
عند المانعين تحتها، ولسلامته عند المجيزين؛ لأن العلماء
لا يتناقض كلامهم3، ولا ينبغي أن يحمل على ذلك ما وجد إلى
غيره سبيل، وهذا جواب يكفي المقلد في الفقه وأصوله، ويورد
على العالم4 من باب تحسين الظن بمن تقدم من السلف الصالح
ليتوقف، ويتأمل، ويلتمس المخرج، ولا يتعسف بإطلاق الرد.
وأما التفصيلي؛ فنقول: إن هذا المسائل لا تقدح فيما تقدم،
أما مسألة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسألة نكاح المحلل. "د".
2 من هذا الأصل وهو أن الدليل يقتضي أن هذا التسبب غير
صحيح. "د".
3 العالم المتين لا يرضى لنفسه التناقض في الكلام ولبعد
غوصه ودقة ملاحظته قد يبدو لبعض الناظرين أنه وقع في زلة
التناقض، وهو بريء منها، وليس مع هذا بمعصوم من أن يبني
على أصل مرة ويغفل عنه مرة أخرى، فيأخذ بعض الفروع
المندرجة تحته ويرجع بها إلى أصل آخر؛ فيقع في التناقض من
حيث لا يقصد ولا يدري؛ فغرض المصنف من هذه الجملة أخذ طالب
العلم إلى التؤدة والأناة في تفهم أقوال العلماء، وأن لا
يسارع إلى رميها بالخطأ كما يصنع كثير ممن وقفوا على
الشاطئ الأدنى من العلم وتخبطهم الغرور بالإثم؛ فعاثوا في
أعراض العلماء بألسنة حداد. "خ".
4 أي: المجتهد، أي: يعرض عليه ليتنبه، وذلك من تحسين الظن
به. "د".
ج / 1 ص -390-
التعليق؛ فقد قال القرافي1: "إنها من المشكلات على
الإمامين، وإن من قال بشرعية النكاح في صورة التعليق قبل
الملك؛ فقد التزم المشروعية مع انتفاء الحكمة المعتبرة فيه
شرعا". قال: "وكان يلزم أن لا يصح العقد على المرأة ألبتة،
لكن العقد صحيح إجماعا؛ فدل على عدم لزوم الطلاق تحصيلا
لحكمة العقد". قال: "فحيث أجمعنا على شرعيته؛ دل ذلك على
بقاء حكمته، وهو بقاء النكاح المشتمل على مقاصده". قال:
"وهذا موضع مشكل على أصحابنا". انتهى قوله.
وهو عاضد2 لما تقدم، ولكن النظر فيه راجع إلى أصل آخر
ندرجه أثناء هذه المسألة للضرورة إليه، وهي:
المسألة الثالثة عشرة:
وذلك أن السبب المشروع لحكمة لا يخلو أن يعلم أو يظن
وقوع الحكمة به أو لا، فإن علم أو ظن ذلك؛ فلا إشكال في
المشروعية، وإن لم يعلم ولا ظن ذلك؛ فهو على ضربين:
أحدهما: أن يكون ذلك لعدم قبول المحل لتلك الحكمة، أو لأمر
خارجي.
فإن كان الأول؛ ارتفعت المشروعية أصلا، فلا أثر للسبب شرعا
ألبتة بالنسبة إلى ذلك المحل، مثل الزجر بالنسبة إلى غير
العاقل إذا جنى، والعقد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "الفروق" "3/ 171، الفرق الخامس والستون والمائة".
2 لأن فيه تسليما للقاعدة مآلا، وإنما الإشكال في التفريع
كما قال: "وكان يلزم ألا يصح العقد... إلخ"، وقال: "وهذا
موضع مشكل على أصحابنا"؛ أي: حيث فرعوا ما ينافي مع
القاعدة التي سلموها. "د".
ج / 1 ص -391-
على
الخمر والخنزير، والطلاق بالنسبة إلى الأجنبية1، والعتق
بالنسبة إلى ملك الغير2، وكذلك العبادات، وإطلاق التصرفات
بالنسبة إلى غير العاقل، وما أشبه ذلك.
والدليل على ذلك أمران:
الأول: أن أصل السبب قد فرض أنه لحكمة، بناء على قاعدة
إثبات المصالح حسبما هو مبين في موضعه، فلو ساغ شرعه مع
فقدانها جملة؛ لم يصح أن يكون مشروعا، وقد فرضناه مشروعا،
هذا خلف.
والثاني: أنه لو كان كذلك؛ لزم أن تكون الحدود وضعت لغير
قصد الزجر، والعبادات لغير قصد الخضوع لله، وكذلك سائر
الأحكام، وذلك باطل باتفاق القائلين بتعليل الأحكام.
وأما إن كان امتناع وقوع حكم الأسباب -وهي المسببات- لأمر
خارجي، مع قبول المحل من حيث نفسه؛ فهل يؤثر ذلك الأمر
الخارجي في شرعية السبب، أم يجري السبب على أصل مشروعيته؟
هذا محتمل، والخلاف فيه سائغ، وللمجيز أن يستدل على ذلك
بأمور:
أحدها: أن القاعدة الكلية لا تقدح فيها قضايا الأعيان ولا
نوادر3 التخلف، وسيأتي4 لهذا المعنى تقرير في موضعه, إن
شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1، 2 أي: بدون تعليق. "د".
3 في الأصل: "موارد".
4 في كتاب المقاصد في المسألة العاشرة؛ أي: فحيث إن المحل
قابل في ذاته؛ فتخلف الحكمة في هذا الفرد بخصوصه لأمر خارج
لا يضر في اطراد الحكم، كالملك المترفه مثلا، لا مشقة في
سفره ومع ذلك يطرد معه حكم السفر من قصر وفطر؛ ولذلك يقال
فيمن علق الطلاق على النكاح: المحل قابل للحكمة والمانع
خارج؛ فيجري التسبب على أصله.
وهذا الدليل عام في المسائل الفقهية لا يخص موضع تخلف
الحكمة عن سببها. "د".
ج / 1 ص -392-
والثاني, وهو الخاص بهذا المكان: أن الحكمة إما أن تعتبر
بمحلها وكونه قابلا لها فقط، وإما أن تعتبر بوجودها فيه،
فإن اعتبرت بقبول المحل فقط؛ فهو المدعى، والمحلوف بطلاقها
في مسألة التعليق قابلة للعقد عليها من الحالف وغيره؛ فلا
يمنع ذلك إلا بدليل خاص في المنع، وهو غير موجود، وإن
اعتبرت بوجودها في المحل1؛ لزم أن يعتبر في المنع فقدانها
مطلقا، لمانع أو لغير مانع، كسفر الملك المترفه؛ فإنه لا
مشقة له في السفر، أو هو مظنة لعدم وجود المشقة، فكان
القصر والفطر في حقه ممتنعين، وكذلك إبدال الدرهم بمثله،
وإبدال الدينار بمثله، مع أنه لا فائدة في هذا العقد، وما
أشبه ذلك من المسائل التي نجد الحكم فيها جاريا على أصل
مشروعيته، والحكمة غير موجودة.
ولا يقال2: إن السفر مظنة المشقة بإطلاق، وإبدال الدرهم
بالدرهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فعلا. "د".
2 أي: ردا على اعتبار مجرد قابلية المحل، وعلى الاستناد في
ذلك إلى أن الحكمة غير موجودة فعلا في مسألة الملك المترفه
المسافر، وكذا في مسألة إبدال الدينار بمثله، وأمثال ذلك؛
أي: لا يقال: نحن لا نقارن خصوص الملك المترفه بمسألة نكاح
المحلوف بطلاقها، بل إنما يلزم أن نقارن السفر مطلقا بنكاح
المحلوف بطلاقها، يعني: والسفر في ذاته مظنة المشقة وإن لم
توجد في بعض الأفراد النادرة؛ كالملك مثلا, أما مسألة نكاح
المحلوف بطلاقها؛ فليست مظنة وجود الحكمة في أي فرد، فضلا
عن الفرد النادر، وعلى ذلك لا يصح أن تجعل هذه المسألة من
هذا الباب، يعني: فعلى فرض أن المحل قابل؛ فهو قبول ذهني
صرف لا يحتمل تحققه، بخلاف مسألة الملك والدينار؛ فالمحل
قابل ويتحقق وجود الحكمة في السفر المطلق؛ لأن المقيس عليه
السفر بإطلاق، وغالبه تتحقق فيه الحكمة، أما هنا؛ فلا
تتحقق الحكمة في مسألة المحلوف بطلاقها ولا في فرد. "د".
ج / 1 ص -393-
مظنة
لاختلاف الأغراض بإطلاق، وكذلك سائر المسائل التي في
معناها؛ فليجز التسبب بإطلاق، بخلاف نكاح المحلوف بطلاقها
بإطلاق؛ فإنها ليست بمظنة للحكمة، ولا توجد فيها على حال.
لأنا نقول1: إنما نظير السفر بإطلاق نكاح الأجنبية بإطلاق،
فإن قلتم بإطلاق الجواز مع عدم اعتبار [وجود المصلحة في
المسألة]2 المقيدة؛ فلتقولوا بصحة نكاح المحلوف بطلاقها؛
لأنها صورة مقيدة من مطلق صور نكاح الأجنبيات، بخلاف نكاح
القرابة المحرمة، كالأم والبنت مثلا؛ فإنها محرمة بإطلاق3؛
فالمحل غير قابل بإطلاق، فهذا من الضرب الأول، وإذا لم يكن
ذلك4؛ فلا بد من القول به في تلك المسائل، وإذ ذاك يكون
بعض الأسباب مشروعا وإن لم توجد الحكمة ولا مظنتها، إذا
كان المحل في نفسه قابلا؛ لأن قبول المحل في نفسه مظنة
للحكمة وإن لم توجد وقوعا، وهذا معقول.
والثالث: أن اعتبار وجود الحكمة في محل عينا لا ينضبط؛ لأن
تلك الحكمة لا توجد إلا ثانيا عن وقوع السبب، فنحن قبل
وقوع السبب جاهلون بوقوعها أو عدم وقوعها؛ فكم ممن طلق على
أثر إيقاع النكاح، وكم من نكاح فسخ إذ ذاك لطارئ طرأ أو
مانع منع، وإذا لم نعلم وقوع الحكمة؛ فلا يصح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فالمقارنة على ما صورتم غير مستقيمة؛ لأنه يلزم أن
يقارن المطلق بالمطلق, والمطلق هنا نكاح الأجنبية حلف
بطلاقها أو لا، هذا هو الذي يقارن بالسفر مطلقا، فإذا قلتم
بإطلاق الجواز في السفر ولو لم تتحقق المشقة في مثل مسألة
الملك؛ فلتقولوا بإطلاق الجواز في زواج الأجنبية وإن لم
تتحقق الحكمة من النكاح في المحلوف بطلاقها. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفيه: "اعتباره مقيدة"،
وفي "ط" بدله "الصورة".
3 في "د": "بإطلا" من غير قاف.
4 أي: إذا لم يكن المحل غير قابل، بل كان قابلا وإن منع
منه مانع خارج؛ صح التسبب، وتحمل عليه المسائل المتقدمة
التي استشكلها القرافي؛ فينحل الإشكال. "د".
ج / 1 ص -394-
توقف
مشروعية السبب على وجود الحكمة؛ لأن الحكمة لا توجد إلا
بعد وقوع السبب، وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة،
وهو دور محال؛ فإذًا لا بد من الانتقال إلى اعتبار مظنة
قبول المحل لها على الجملة1 كافيا2.
وللمانع أيضا أن يستدل على ما ذهب إليه بأوجه ثلاثة:
أحدها:
أن قبول المحل؛ إما أن يعتبر شرعا بكونه قابلا في الذهن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما قال: "على الجملة"؛ ليصح الكلام، فتدخل مسألة الملك
مثلا ونكاح الأجنبية المحلوف بطلاقها، أما على التفصيل؛
فإن اعتباره ينقض كثيرا من المسائل المحكوم فيها باطراد
السبب، وهي ما لم توجد فيها مظنته في خصوص المحل مهما كان
قابلا وجاء المانع من أمر خارج.
لكن يبقى الكلام في تحديد المعنى الذي أفاده هذا الدليل
الثالث، وبالتأمل فيه نجده دليلا ثانيا على عدم صحة اعتبار
الحكمة بوجودها في المحل، وقد استدل عليه أولا بأنه يلزمه
باطل، وهو كون المسائل الشرعية المذكورة في قصر وفطر الملك
وإبدال الدرهم بالدرهم باطلة مع أنها متفق عليها، ثم استدل
عليه هنا بأمر عقلي، وهو أن الحكمة لا توجد إلا بعد وقوع
السبب، وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة، وهو دور
باطل، فما أدى إليه -وهو اعتبار وجودها في المحل- باطل؛
فلا بد من اعتبار مظنة قبول المحل إجمالا، وعليه؛ فهو وإن
كان دليلا ثالثا على أصول الموضوع، وهو أن الاعتبار بقبول
المحل ولو منع من الحكمة أمر خارج، إلا أنه يشترك مع
الدليل الثاني في الفرض الذي بنيا عليه، وهو اعتبار الحكمة
بوجودها في المحل، وهذا الفرض كان أحد فرضين أدرجهما تحت
قوله: "والدليل الثاني"؛ فحصل بهذا الصنيع شيء من الغموض
في وضع هذا الدليل الثالث وتوجهه، فما جعله الدليل الثاني
في الحقيقة تحته الدليلان الثاني والثالث، بقي شيء آخر وهو
قوله: "وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة"، هذا غير
ظاهر؛ فإن المفروض هو أن اعتبار السبب بعد وجود الحكمة لا
وجوده، ولا يحصل الدور إلا بناء على ما فرضه من توقف كل من
الوجودين على الآخر؛ لأن توقف وجود الحكمة على وقوع السبب
ثم توقف اعتبار السبب ومشروعيته على وجود الحكمة لا دور
فيه, فلا يتم هذا الدليل إذا لوحظ فيه مسألة الدور، ولكنه
يمكن تمامه بما قاله قبل الكلام في مقدمات الدور. "د".
2 وقعت العبارة في الأصل هكذا: "اعتبار أن مظنة... كافٍ".
ج / 1 ص -395-
خاصة1،
وإن فرض غير قابل في الخارج، فما لا يقبل2 لا يشرع التسبب
فيه، وإما بكونه توجد حكمته في الخارج، فما لا توجد حكمته
في الخارج؛ لا يشرع أصلا، كان في نفسه قابلا لها ذهنا أو
لا، فإن كان الأول؛ فهو غير صحيح لأن الأسباب المشروعة
إنما شرعت لمصالح العباد، وهي حكم المشروعية؛ فما ليس فيه
مصلحة ولا هو مظنة مصلحة موجودة في الخارج؛ فقد ساوى ما لا
يقبل3 المصلحة لا في الذهن ولا في الخارج، من حيث المقصد
الشرعي، وإذا استويا؛ امتنعا أو جازا، لكن جوازهما يؤدي
إلى جواز ما اتفق على منعه؛ فلا بد من القول بمنعهما
مطلقا، وهو المطلوب.
والثاني:
أنا لو أعملنا السبب هنا، [مع العلم بأن المصلحة لا تنشأ
عن ذلك السبب ولا توجد به؛ لكان ذلك نقضا لقصد الشارع في
شرع الحكم، لأن التسبب هنا يصير]4 عبثا، والعبث لا يشرع،
بناء على القول بالمصالح؛ فلا فرق بين هذا وبين القسم
الأول، وهذا هو [معنى]4 كلام القرافي5.
والثالث:
أن جواز ما أجيز من تلك المسائل إنما هو باعتبار6 وجود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كنكاح المحلوف بطلاقها مثلا؛ فإن فرض حصول الحكمة فيها
عقلا مع وجود هذا التعليق غير محال. "د".
2 أي: ذهنا، وأما ما يقبل ولو ذهنا فقط؛ فيشرع فيه التسبب.
"د".
3 وذلك كنكاح القرابة المحرمة المتفق على منعه. "د".
4 سقط ما بين المعقوفتين من الأصل.
5 أي في قوله: "وكان يلزم ألا يصح العقد ألبتة". "د". قلت:
انظر "الفروق" "3/ 171".
6 أي: فلا بد من وجود مظنة الحكمة تفصيلا، وهي موجودة كذلك
في مسألة الملك، والمشقات متفاوتة في الأشخاص والأحوال،
حتى الملك المترفه يحصل له مشقة في السفر تناسبه، وإذا فرض
أنه لم يحصل له مشقة؛ فلا يضر لأن الضابط هو المظنة وهي
متحققة فيه، دون مسائل النكاح والعتق المتقدمة؛ لأنه لا
يوجد فيها مظنة الحكمة مطلقا، بل مقطوع فيها بعدم ترتب
الحكمة عليها. "د".
ج / 1 ص -396-
الحكمة، فإن انتفاء المشقة بالنسبة إلى الملك المترفه غير
متحقق، بل الظن بوجودها غالب؛ غير أن المشقة تختلف اختلاف
الناس ولا تنضبط، فنصب الشارع المظنة في موضع الحكمة؛ ضبطا
للقوانين الشرعية، كما جعل التقاء الختانين ضابطا لمسبباته
المعلومة، وإن لم يكن الماء عنه لأنه مظنته، وجعل الاحتلام
مظنة حصول العقل القابل للتكليف؛ لأنه غير منضبط في نفسه،
إلى أشياء من ذلك كثيرة.
وأما إبدال الدرهم بمثله؛ فالمماثلة من كل وجه قد لا تتصور
عقلا، فإنه ما من متماثلين إلا وبينهما افتراق ولو في
تعيينهما، كما أنه ما من مختلفين إلا وبينهما مشابهة ولو
في نفي ما سواهما عنهما، ولو فرض التماثل من كل وجه؛ فهو
نادر، ولا يعتد بمثله أن يكون معتبرا، والغالب المطرد
اختلاف الدرهمين والدينارين ولو بجهة الكسب1؛ فأطلق الجواز
لذلك، [وإذا كان ذلك]6 كذلك؛ فلا دليل في هذه المسائل على
مسألتنا.
فصل:
وقد حصل في ضمن2 هذه المسألة الجواب عن مسألة التعليق.
وأما مسألة النكاح للبر في اليمين وما ذكر معها3؛ فإنه
موضع فيه احتمال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: البريء من الشبهة وغير البريء؛ أي: فإن لم يوجد
اختلاف في ذات الدينارين وأوصافهما اللازمة؛ فقد يوجد
بأوصاف أخرى لاحقة لهما كما أشار إليه. "د".
2 بناء على القول بإجراء السبب على أصله ولو لم توجد
الحكمة بالفعل متى كان المحل قابلا في ذاته وكان المانع
خارجا عنه. "د".
3 هذه المسائل أيسر كثيرا من مسألة التعليق؛ لأن التعليق
لا يتأتى فيه تحقق الحكمة بوجه، أما هذه؛ فإنها لا مانع من
تحقق الحكمة فيها ووجود منافع النكاح ومقاصده الشرعية،
غايته أنه لابسها قصد قضاء اللذة ولو لم ينو التمسك بها،
أو حل اليمين، يعني: والغلب أنه لا يتمسك بها أو قضاء
شهوته مدة إقامته حتى إذا سافر فارق، وهكذا من المقاصد
التي لا تناسب الزوجية أو لا تتفق مع المعتبر فيها، وكلها
لا تنافي تحقق المقاصد المشروعة بالنكاح؛ فصار الفرق أن
كلا من التعليق وهذه المسائل المحل فيها قابل لحصول
الحكمة، لكن يوجد في الأولى مانع من الحصول وفي هذه
المسائل لا مانع منه. "د".
قلت: وانظر في هذه المسائل "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/
534، 535، و29/ 13-21".
ج / 1 ص -397-
للاختلاف، وإن كان وجه الصحة هو الأقوى، فمن نظر إلى أنه
نكاح صدر من أهله في محله القابل له -كما تقدم بسطه- لم
يمنع، ومن نظر إلى أنه -لما كان له نية المفارقة أو كان
مظنة لذلك- أشبه النكاح المؤقت؛ لم يجز، هذا وإن كان ابن
القاسم لم يحك في مسألة نكاح البر خلافا؛ فقد غمزه هو أو
غيره بأنه لا يقع به الإحصان، وهذا كاف فيما فيه من
الشبهة؛ فالموضع مجال نظر المجتهدين.
وإذا نظرنا إلى مذهب مالك؛ وجدنا نكاح البر نكاحا مقصودا
لغرضه المقصود، لكن على أن يرفع حكم اليمين، وكونه مقصودا
به رفع اليمين يكفي بأنه قصد للنكاح المشروع الذي تحل به
المرأة للاستمتاع وغيره من مقاصده؛ إلا أنه يتضمن رفع
اليمين، وهذا غير قادح، وكذلك النكاح لقضاء الوَطَر مقصود
أيضا؛ لأن قضاء الوطر من مقاصده على الجملة1، ونية الفراق
بعد ذلك أمر خارج إلى ما بيده من الطلاق الذي جعل الشارع
له، وقد يبدو له فلا يفارق، وهذا هو الفرق بينه وبين نكاح
المتعة؛ فإنه في نكاح المتعة بانٍ على شرط التوقيت.
وكذلك نكاح التحليل لم يقصد به ما يقصد بالنكاح، إنما قصد
به تحليلها للمطلق الأول بصورة نكاح زوج غيره، لا بحقيقته،
فلم يتضمن غرضا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "الشرع".
ج / 1 ص -398-
من
أغراضه التي شرع لها.
وأيضا، فمن حيث كان لأجل الغير لا يمكن فيه البقاء معها
عرفا أو شرطا؛ فلم يمكن أن يكون نكاحا يمكن استمراره.
وأيضا؛ فالنص1 بمنعه عتيد2، فيوقف عنده، على أنه لو لم يكن
في نكاح المحلل تراوض3 ولا شرط، وكان الزوج هو القاصد
لذلك؛ فإن بعض العلماء يصحح هذا النكاح اعتبارا بأنه قاصد
للاستمتاع على الجملة، ثم الطلاق؛ فقد قصد على الجملة ما
يقصد بالنكاح من أغراضه المقصودة، ويتضمن4 ذلك العود إلى
الأول إن اتفق، على قول، ولا يتضمنه على قول،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
"لعن الله المحلل والمحلل
له"، ولعل هذا هو الوجه الوجيه، وإلا؛ فالتعليق أشد منه بعدا عن صحة
التسبب؛ لأنه لا يترتب عليه مقصد من مقاصد النكاح، بخلاف
نكاح التحليل الذي لا بد فيه من الوطء، وقد يبدو له؛ فلا
يفارق كما حصل كثيرا، فيكون كقضاء الوطر، ولكن ورد النص
فيه بخصوصه لمعنى خاص ومفسدة أخلاقية رأى الشارع دفعها
بتحريمه، وأنت إذا تأملت قوله بعد: "إذا لم يكن تراوض ولا
شرط وكان الزوج هو القاصد؛ فإن بعض العلماء يصحح النكاح
اعتبارا بأنه... إلخ" تعلم وجه ما قلنا، وأن مسألة المنع
لا ترجع إلى عدم وجود منافع النكاح الشرعية؛ لأنها حاصلة
على الجملة، ولا إلى القصد؛ لأنه مع حصول القصد من الزوج
وهو صاحب الشأن صح النكاح، فالكلام في هذا التراوض المهين
للزوج والزوجة والمحلل المؤدي إلى انحطاط الأخلاق وقبول
الجميع ما يشبه الزنى بمن تعتبر زوجة للأول وحرما له حتى
في هذا الوقت نفسه في نظرهم، وهذا أمر يصح أن يرجع فيه
للوجدان ليعلم مقدار ما يصيب الكرامة وعزة النفس من جزائه.
"د" قلت: سيأتي تخريج حديث:
"لعن الله
المحلل..."
"ص429".
2 أي: حاضر مهيأ. انظر:
"لسان
العرب" "ع ت د".
3 أي: كلام بين الطرفين للاتفاق. انظر: "لسان العرب" "ر و
ض".
4 أي: يتضمن نكاح التحليل -مع مقاصد النكاح الأصلية- قصده
أن تعود إلى الزوج الأول إن كان هناك اتفاق وشرط، وقال
بعضهم: بل لا يتضمن حتى مع الشرط، وإنما هو أمر تبعي وليس
مقصودا أصليا؛ فلا يمنع صحة العقد. "د".
ج / 1 ص -399-
وذلك
بحكم التبعية، وإن كان هذا من الأقوال المرجوحة؛ فلا يخلو
من وجه من النظر.
ومما يدل على أن يحل اليمين إذا قصد بالنكاح لا يقدح فيه؛
أنه لو نذر أو حلف على فعل قربة؛ من صلاة، أو حج، أو عمرة،
أو صيام، أو ما أشبه ذلك من العبادات؛ أنه يفعله ويصح منه
قربة، وهذا مثله، فلو كان هذا من اليمين وشبهه قادحا في
أصل العقد؛ لكان قادحا في أصل العبادة؛ لأن شرط العبادة
التوجه بها إلى المعبود قاصدا بذلك التقرب إليه، فكما تصح1
العبادة المنذورة أو المحلوف عليها وإن لم يقصد بها إلا حل
اليمين -وإلا لم يبر فيه- فكذلك هنا، بل أولى، وكذلك من
حلف أن يبيع سلعة يملكها؛ فالعقد ببيعها صحيح وإن لم يقصد
بذلك إلا حل اليمين، وكذلك إن حلف أن يصيد أو يذبح هذه
الشاة أو ما أشبه ذلك.
وهذا كله راجع إلى أصلين:
أحدهما: أن الأحكام المشروعة للمصالح لا يشترط وجود
المصلحة في كل فرد من أفراد محالها، وإنما يعتبر أن يكون
مظنة2 لها خاصة.
والثاني: أن الأمور العادية إنما يعتبر في صحتها أن لا
تكون مناقضة لقصد الشارع، ولا يشترط ظهور الموافقة، وكلا
الأصلين سيأتي إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فهكذا تقع".
2 أي على الجملة، وإلا؛ فنكاح حل اليمين مظنة ألا يترتب
عليه شيء من مقاصد النكاح المذكورة فيما سبق وأمثالها، وإن
كان يترتب، وقلنا "على الجملة"؛ أي: باعتبار أنه مطلق نكاح
أجنبية مستوف للأركان والشروط، وقوله: "خاصة" توكيد للحصر
المستفاد من إنما. "د".
ج / 1 ص -400-
فصل:
والقسم
الثالث1
من القسم الأول:
هو أن يقصد بالسبب مسببا لا يعلم ولا يظن أنه مقصود
الشارع أو غير مقصود [له]2، وهذا موضع نظر، وهو محل إشكال
واشتباه، وذلك أنا لو تسببنا لأمكن أن يكون ذلك السبب غير
موضوع لهذا المسبب المفروض, كما أنه يمكن أن يكون موضوعا
له ولغيره؛ فعلى الأول3 يكون التسبب غير مشروع، وعلى
الثاني يكون مشروعا، وإذا دار العمل بين أن يكون مشروعا أو
غير مشروع؛ كان الإقدام على التسبب غير مشروع.
لا يقال: إن السبب قد فرض مشروعا على الجملة؛ فلِم لا
يتسبب به؟
لأنا نقول: إنما فرض مشروعا بالنسبة إلى شيء معين مفروض
معلوم، لا مطلقا، وإنما كان يصح التسبب [به] مطلقا إذا علم
شرعيته لكل ما يتسبب عنه على الإطلاق والعموم، وليس ما
فرضنا الكلام فيه من هذا، بل علمنا أن كثيرا من الأسباب
شرعت لأمور تنشأ عنها، ولم تشرع لأمور، وإن كانت تنشأ عنها
وتترتب عليها؛ كالنكاح؛ فإنه مشروع لأمور كالتناسل
وتوابعه، ولم يشرع عند الجمهور للتحليل ولا ما أشبهه، فلما
علمنا أنه مشروع لأمور مخصوصة؛ كان ما جهل كونه مشروعا له
مجهول الحكم؛ فلا4 تصح مشروعية الإقدام حتى يعرف الحكم.
ولا يقال: الأصل الجواز.
لأن ذلك ليس على الإطلاق؛ فالأصل في الأبضاع المنع، إلا
بأسباب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يظهر أن هذا الموضع يدخل تحت قاعدة الأمور المشتبهات.
"د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط"، وفيه: "مقصود
للشارع".
3 في "د": "الأولى".
4 في "ط": "فلم".
ج / 1 ص -401-
مشروعة، والحيوانات الأصل في أكلها المنع حتى تحصل الذكاة
المشروعة، إلى غير ذلك من الأمور المشروعة بعد تحصيل أشياء
لا مطلقا، فإذا ثبت هذا وتبين مسبب1 لا ندري: أهو مما قصده
الشارع بالتسبب المشروع أم مما لم يقصده؟ وجب التوقف حتى
يعرف الحكم فيه، ولهذا قاعدة يتبين بها ما هو مقصود
الشارع2 من مسببات الأسباب وما ليس بمشروع، وهي مذكورة في
كتاب "المقاصد" [والله المستعان].
المسألة الرابعة عشرة:
كما أن الأسباب المشروعة يترتب عليها أحكام ضمنا، كذلك
غير المشروعة يترتب عليها أيضا أحكام ضمنا؛ كالقتل يترتب
عليه القصاص، والدية في مال الجاني أو العاقلة، وغرم
القيمة إن كان المقتول عبدا3، والكفارة، وكذلك [الإتلاف و]
التعدي يترتب عليه الضمان والعقوبة، والسرقة يترتب عليها
الضمان والقطع، وما أشبه ذلك من الأسباب الممنوعة في خطاب
التكليف، المسببة لهذه الأسباب الممنوعة في خطاب التكليف،
المسببة لهذه الأسباب4 في خطاب الوضع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "تسبب".
2 في "ط": "للشارع".
3 لم يرد في قتل الحر بالعبد وعدم قتله نص صريح صحيح، وإذا
قطعنا النظر عن الأحاديث الصريحة المروية في نفي القصاص
وإثباته حيث لم تبلغ مبلغ الصحة الكافية في تقرير الأحكام؛
بقي بيد الجمهور مفهوم الخطاب في قوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}،
وفي يد الإمام النخعي وتابعيه بعض أدلة عامة كحديث: "المسلمون تتكافأ دماؤهم". "خ".
4 كذا في النسخ المطبوعة وفي الأصل، وفي هامشه: "لعله
تصحيف والصواب الأشياء".
ج / 1 ص -402-
وقد
يكون هذا السبب الممنوع يسبب مصلحة1 من جهة أخرى ليس ذلك
سببا فيها؛ كالقتل2 يترتب عليه ميراث الورثة، وإنفاذ
الوصايا، وعتق المدبرين، وحرية أمهات الأولاد و[كذلك]3
الأولاد4، وكذلك الإتلاف بالتعدي يترتب عليه ملك المتعدي
للمتلف، تبعا لتضمينه القيمة، والغصب يترتب عليه ملك
المغصوب إذا تغير في يديه، على التفصيل المعلوم بناء على
تضمينه، وما أشبه ذلك.
فأما الضرب الأول؛ فالعاقل لا يقصد التسبب إليه؛ لأنه عين
مفسدة عليه، لا مصلحة فيها، وإنما الذي من شأنه أن يقصد.
الضرب الثاني: وهو إذا قصد؛ فالقصد إليه على وجهين:
أحدهما:
أن يقصد به المسبب الذي منع لأجله لا غير ذلك؛ كالتشفي5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يترتب عليه أمر معتد به شرعا له أحكامه ومستتبعاته،
وإن كان السبب الممنوع لم يقصد به ذلك في نظر الشارع، كما
تقدم في النكاح، يترتب عليه الطلاق وإن لم يكن في مقاصده؛
لأنه لا طلاق إلا في ملك عصمة، إلا أن هذا يمكن أن يقال في
كل ما تضمنته الأسباب الممنوعة لأنها غير مقصودة بالتسبب،
بخلاف المشروعة؛ فبعض ما ينبني عليها مقصود بالتسبب. "د".
2 كتب ناسخ الأصل في الهامش ما نصه: "قوله: "ليس ذلك سببا
فيها، كالقتل... إلخ" يريد: إن الميراث وما معه مسبب عن
الموت المسبب عن القتل".
3 سقطت من "د"، وأثبته من الأصل و"خ" و"م"، "وكذلك
الأولاد" ليست في "ط".
4 كتب الناسخ في هامش الأصل: "إن صحت الرواية بهذا؛
فالمراد أولاد أمهات الأولاد من غيره إذا خلقوا بعد
صيرورتها أم ولد".
5 هل يعتبر شفاء النفس من غيظها بقتل من غاظها مصلحة؟ وكذا
مطلق الانتفاع بالمسروق والمغصوب بقطع النظر عما يترتب
عليهما من الملك، الظاهر أن ذلك كله لا يسمى مصلحة، أعني
أمرا معتدا به شرعا، له أحكام؛ كالملك فهو مصلحة لها توابع
كثيرة، وعليه؛ فلا يظهر وجه لإدراج هذا في الضرب الثاني
الذي يترتب عليه مصلحة، وكان يجمل به أن يجعله أمرا ثالثا
غير الضربين المذكورين، يرشدك إلى أن التشفي وما معه ليس
مصلحة بالمعنى المقصود، قوله: "فهذا القصد غير قادح في
ترتب الأحكام المصلحية" يعني كملك المغصوب، فيؤخذ منه أن
التشفي ليس حكما مصلحيا. "د".
ج / 1 ص -403-
في
القتل، والانتفاع المطلق في المغصوب والمسروق، فهذا القصد
غير قادح في ترتب الأحكام التبعية المصلحية؛ لأن أسبابها
إذا كانت حاصلة حصلت مسبباتها؛ إلا من باب سد الذرائع، كما
في حرمان القاتل وإن كان لم يقصد إلا التشفي، أو كان القتل
خطأ عند من قال بحرمانه1، ولكن2 قالوا: إذا تغير المغصوب
في يد الغاصب أو أتلفه؛ فإن من أحكام [ذلك] التغير أنه إن
كان كثيرا؛ فصاحبه غير مخير فيه، ويجوز للغاصب الانتفاع به
على ضمان القيمة، على كراهية عند بعض العلماء، وعلى غير
كراهية3 عند آخرين.
وسبب ذلك أن قصد هذا المتسبب لم يناقض قصد الشارع في ترتب
هذه الأحكام؛ لأنها ترتبت على ضمان القيمة أو التغير أو
مجموعهما، وإنما ناقضة في إيقاع السبب المنهي عنه، والقصد
إلى السبب بعينه ليحصل به غرض مطلق غير القصد إلى هذا
المسبب بعينه الذي هو ناشئ عن الضمان أو القيمة أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا مذهب جمهور الفقهاء واقفين على عموم قوله, عليه
الصلاة والسلام:
"ليس لقاتلٍ ميراثٌ"، وفهم الإمام مالك أن العلة في حرمان القاتل من الميراث هي
المعاملة بنقيض قصده حتى لا يتخذ الناس القتل ذريعة
لاستعجال الإرث قبل أوانه؛ فخص الحديث بالمتعمد للقتل،
وقضى بصحة إرث المخطئ على عادته في رعاية المصالح، وحمل
الأحاديث على ما يطابقها. "خ".
2 بالتأمل يعرف الفرق بين القتل والغصب، حيث أجروا قاعدة
سد الذرائع في الأول دون الثاني؛ فمرتبة النفس في حفظ
الضروريات غير مرتبة المال، وأيضا في الغصب لا يضيع على
المغصوب منه شيء؛ فيمكن تدارك حفظ ماله بالقيمة، ولا يتأتى
ذلك في النفس بعد القتل، ويمكن لكل قاتل ادعاء قصد التشفي
ولو كان قاصدا للتوابع كالميراث؛ لأنه أمر مستور عنا، فلو
أخذ بهذا؛ لطاحت نفوس وهدرت دماء وراء ستار قصد التشفي
فقط. "د".
3 في الأصل: "كراهة".
ج / 1 ص -404-
مجموعهما، وبينهما فرق، وذلك أن الغصب يتبعه لزوم الضمان
على فرض تغيره؛ فتجب القيمة بسبب التغير الناشئ عن الغصب،
وحين وجبت القيمة وتعينت؛ صار المغصوب لجهة الغاصب ملكا
له1، حفظا لمال الغاصب أن يذهب باطلا بإطلاق؛ فصار ملكه
تبعا لإيجاب القيمة عليه، لا بسبب الغصب؛ فانفك القصدان،
فقصد القاتل التشفي غير قصده لحصول الميراث، وقصد الغاصب
الانتفاع غير قصده لضمان القيمة وإخراج المغصوب عن ملك
المغصوب منه، وإذا كان كذلك؛ جرى الحكم التابع الذي لم
يقصده القاتل والغاصب على مجراه، وترتب نقيض مقصوده2 فيما
قصد مخالفته، وذلك عقابه، وأخذ المغصوب من يده أو قيمته،
وهذا ظاهر؛ إلا ما سدت فيه الذريعة.
والثاني:
أن يقصد توابع السبب، وهي التي تعود عليه بالمصلحة ضمنا؛
كالوارث يقتل الموروث ليحصل له الميراث، والموصى له يقتل
الموصي ليحصل له الموصى به، والغاصب يقصد ملك المغصوب
فيغيره ليضمن قيمته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فقصد الغاصب بالغصب إلى مجرد الانتفاع بقطع النظر عن
الملك غير القصد من الغاصب بالغصب إلى الملك، وحيث إن
الأخير لم يحصل منه؛ فلا يقال: كيف يملك بسبب الغصب وقد
ناقض قصد الشارع حيث لم يجعل الغصب سببا في الملك؟ فإنه
إنما ناقض في فعل السبب الممنوع، وسبب الملك هنا ليس هو
الغصب الممنوع، بل السبب التغير والضمان وإن ترتبا عليه،
فلم ينبن الملك على سبب ناقض فيه قصد الشارع، ويبقى الكلام
فيما لو قصد بالغصب التملك ولم يغيره بنفسه، بل حصل فيه
موجب فوت المغصوب بدون إرادته، هل يكون حكمه صحة تملكه
بالقيمة أم لا؟ لم يفرقوا في الفروع بين القصدين متى حصل
موجب الفوت، كما أنهم لم يفرقوا في قتل العمد بين القصدين
التشفي وغيره في حرمانه من توابع السبب التي تعود على
القاتل بالمصلحة. "د".
2 وهو مطلق الانتفاع بلا مقابل. "د".
ج / 1 ص -405-
ويتملكه، وأشباه ذلك؛ فهذا التسبب باطل؛ لأن الشارع لم
يضع1 تلك الأشياء في خطاب التكليف ليحصل بها في خطاب الوضع
مصلحة؛ فليست إذًا بمشروعة في ذلك التسبب، ولكن يبقى
النظر: هل يعتبر في ذلك التسبب المخصوص كونه مناقضا في
القصد لقصد الشارع عينا2، حتى لا يترتب عليه ما قصده
المتسبب، فتنشأ من هنا قاعدة "المعاملة بنقيض المقصود"،
ويطلق الحكم باعتبارها إذا تعين ذلك القصد المفروض، وهو
مقتضى3 الحديث في حرمان القاتل الميراث، ومقتضى الفقه في
حديث المنع من جمع المفترق وتفريق المجتمع خشية الصدقة4،
وكذلك ميراث المبتوتة في المرض, أو تأبيد التحريم على من
نكح في العدة، إلى كثير من هذا، أو يعتبر جعل الشارع ذلك
سببا للمصلحة المترتبة، ولا يؤثر في ذلك قصد هذا القاصد؛
فيستوي في الحكم مع الأول، هذا مجال للمجتهدين فيه اتساع
نظر، ولا سبيل إلى القطع بأحد الأمرين؛ فلنقبض عنان الكلام
فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "يمنع".
2 فقد قصد بالسبب بعينه إلى المسبب بعينه الذي لم يجعله
الشارع من أسبابه؛ فليس الغصب والسرقة مثلا من أسباب الملك
في نظر الشارع، ولكنه قصد إلى ذلك؛ فيكون قصده بعينه
مناقضا لقصد الشارع بعينه. "د".
3 وإن كان الحديث لم يفرق في القصد، بل قال:
"القاتل لا يرث"،
فإذا كان قاصدا الميراث بالقتل؛ فظاهر، وإن لم يظهر قصده؛
عومل بذلك أيضا سدا للذريعة، ولو قال: "مقتضى الفقه في
الحديثين"؛ كان أحسن. "د".
قلت: وسيأتي تخريج حديث:
"القاتل لا يرث" في "2/
521"، وهو صحيح بشواهده كما فصلناه هناك، والله الهادي.
4 سيأتي لفظه وتخريجه "ص424". |