الموافقات ج / 3 ص -164-
[بسم
الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم]1
كتاب الأدلة2
الشرعية:
والنظر فيه
[فيما]3 يتعلق بها على الجملة، وفيما يتعلق بكل واحد منها
على التفصيل وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس4؛
فالنظر إذا يتعلق بطرفين5:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"م" و"ط".
2 قال ماء: "الأدلة جمع دليل، وهو ما يتوصل به إلى المقصود
-أي: المنسوب- إلى الشرع".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"م"، وسقطت "فيه" من
"ط".
4 هذه أدلة شرعية من حيث ما صدقاتها "كذا" الجزئية
المتعلقة بالأحكام، والأصولي يبحث عنها من حيث الإجمال،
ولا تذكر في"فالنظر إ ها بخصوصها إلا على ضرب من التمثيل
والإيضاح. "ف".
5 في "ط": فالنظر إذًا في طرفين".
ج / 3 ص -167-
الطرف الأول: في الأدلة على الجملة
النظر الأول: في كليات الأدلة على الجملة
والكلام
فيها "أ" في كليات1 تتعلق بها، و"ب" في العوارض اللاحقة
لها.
والأول يحتوي على مسائل:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وسيذكرها في أربع عشرة مسألة، وقوله: "وفي العوارض"،
وسيذكرها في خمسة فصول: الإحكام والتشابه، الإحكام والنسخ،
الأمر والنهي، العموم والخصوص، البيان والإجمال. "د".
ج / 3 ص -171-
المسألة الأولى1:
لما انبنت الشرعية على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من
الضروريات والحاجيات والتحسينات، وكانت هذه الوجوه مبثوثة2
في أبواب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة تعتبر أُمًّا لجميع المسائل الأصولية
المتعلقة بالأدلة الشرعية، بين بها شدة ارتباط هذه المسائل
الأصولية بالأدلة الشرعية التفصيلية والقواعد الشرعية،
بحيث لا يمكن استغناء المستنبط للأحكام عن النظر للأمرين
معا؛ فلا يستغنى بالنظر في الجزئيات -أي الأدلة التفصيلية-
عن النظر في الوقت نفسه للقاعدة الأصولية التي تعتبر كلية
لها ليعرف بها هذا الجزئي من أي مرتبة هو، وما مقصد الشارع
في مثله؟ كما أنه لا يستغنى بالكلية فيجريها في الجزئيات
دون أن ينظر في الدليل الخاص بهذه الجزئية الوارد من
الكتاب والسنة وما معهما، وقد ساق المصنف تمهيدا لذلك أول
المسألة، ثم بين وجه حاجة الجزئيات إلى الكليات بقوله:
"وإذا كان كذلك... إلخ"، ثم بين عدم استغناء الكليات عن
الجزئيات بقوله: "وكما أن... إلخ"، ومد النفس في هذا
الجانب؛ لأنه موضع التوهم لمخالفته المألوف في مثله. "د".
2 "وذلك أن الله تعالى لما اقتضت حكمته الأزلية سعادة
الخلق في الأولى والآخرة، ناطها بأحكام معقولة التناسب،
ورتب عليها مصالح كفيلة بذلك". "ف".
وكتب "د" ما نصه: "أي: إن المراتب الثلاثة لا تخلو منها
جزئية من مسائل الشريعة وفروعها، وأدلتها الشرعية
التفصيلية مستغرقة لهذه الفروع والجزئيات، لا فرق بين
ضروريات الدين وحاجياته وتحسيناته، ولا بين الأمور العادية
والعبادية؛ فلا فرق في ذلك بين الصلاة والبيع والقضاء
وغيرها، ولا بين قاعدة الغرر وقاعدة الربا مثلا، والغرض
التعميم، وأن الأدلة التفصيلية عامة شاملة، إن لم تكن من
الكتاب؛ فمن السنة أو الإجماع أو غيرهما من الاستحسان
والمصالح المرسلة باعتبار الجزئيات في تلك الأدلة؛ فهذه
كلها أدلة تفصيلية تتعلق بجزئيات المراتب الثلاث المذكورة،
وكما أن الأمر هكذا في الأدلة التفصيلية؛ فهو كذلك أيضا في
كلياتها التي أخذت من استقرائها، هي أيضا عامة لكل ما
يتعلق بهذه المراتب الثلاث، لا تخص أدلة تفصيلية تتعلق
ببعض المراتب دون بعض، ولا بعض القواعد الشرعية دون بعض،
بل إنها كليات عامة تقع على جميع الأدلة التفصيلية
والقواعد الشرعية المسماة جزئيا إضافيا؛ فتضبط مقاصدها
ويتزن بها طريق إجرائها والعمل بها، فكما أن الجزئيات التي
هي الأدلة التفصيلية والقواعد الشرعية المذكورة مبثوثة في
جميع فروع =
ج / 3 ص -172-
الشريعة وأدلتها، غير مختصة بمحل دون محل، ولا بباب دون
باب، ولا بقاعدة دون قاعدة؛ كان النظر الشرعي فيها أيضا
عامًا لا يختص بجزئية دون أخرى؛ لأنها كليات تقضي على كل
جزئي1 تحتها وسواء علينا أكان جزئيا إضافيا2 أم حقيقيا3؛
إذ ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهي إليه، بل هي أصول
الشريعة، وقد تمت؛ فلا يصح أن يفقد بعضها حتى يفتقر إلى
إثباتها بقياس أو غيره؛ فهي الكافية في مصالح الخلق عموما
وخصوصا؛ لأن الله تعالى قال:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}4 [المائدة: 3].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المراتب الثلاث؛ كذلك هذه الكليات المأخوذة من استقرائها
قاضية على كل الجزئيات وعلى أفراد الأدلة التفصيلية التي
تندرح تحتها؛ فلا يتأتى أن يفقد بعض تلك الكليات حتى يفتقر
إلى إثباتها بقياس أو غيره لأن ذلك إنما يعقل في فروع
الأحكام لا في أصولها، وإلا؛ لما كانت الشرعية تامة. وهنا
يخطر السؤال الذي يريد المؤلف أن يجعل هذه المسألة
لتحقيقه، وهو أنه هل يصح إذًا للمجتهد ألا ينظر في
الجزئيات والأدلة التفصيلية عند استنباط الأحكام ويكتفي
بالكليات، كما هو الشأن في قواعد اللغة مثلا، يجري التطبيق
في كل فاعل على أنه مرفوع عند قراءة كلام العرب، بدون نظر
إلى أن هذا الفاعل بخصوصه ورد عن العربي المتكلم به
مرفوعا؟ وهكذا يكون الشأن هنا؛ فيقال مثلا: إن هذا الجزئي
إن كان ضروريا قدم على الحاجي، وإن كان حاجيا قدم على ما
بعده، والضروريات نفسها ما كان منها متعلقا بالدين قدم على
المتعلق بالنفس، وهذا يقدم على ما بعده منها، وهكذا؛
فيستغنى بالنظر في الكليات عن النظر في الدليل الشرعي
الخاص على طبق قواعد النحو مثلا، وكذلك يستغنى عن النظر في
الجزئيات الإضافية اكتفاء بالكليات؟
فكان الجواب عن السؤال أن الأمر ليس على ما يظن، بل لا بد
منهما معا كما بسطه، ولما كانت هذه المسألة كأصل عام في
كتاب الأدلة جعلها فاتحة مسائل هذا الباب؛ فلله درّه ما
أسد نظره، ولقد صدق فيما يقول بعد: "إن النظر في هذه
الأطراف فيه جملة الفقه"، وسيأتي لهذا المبحث بقية في كتاب
الاجتهاد في المسألة الثالثة عشرة".
1 في "ط": "جزء".
2 أي كما قال: "ولا بقاعدة دون قاعدة". "د".
3 كذا في "د"، وفي الأصل و"م" و"ف" و"ط": "أو حقيقيا".
4 المراد بذلك بيان ما لزم بيانه وما يستنبط منه غيره،
كالتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرع
وقوانين الاجتهاد؛ فكل ما يستنبطه المجتهدون ويخرجه
العلماء الراسخون من أحكام الوقائع مأخوذ من الكتاب
والسنة، وإليهما يرجع الإجماع. "ف".
قلت: انظر في تفسير الآية: "الاعتصام" للمصنف "2/ 816-817
- ط دار ابن عفان".
ج / 3 ص -173-
وقال:
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
وفي الحديث:
"تركتكم على
الجادة"1 الحديث.
وقوله:
"لا يهلك على
الله إلا هالك"2.
ونحو ذلك من الأدلة الدالة على تمام الأمر وإيضاح السبيل.
وإذا كان كذلك، وكانت الجزئيات3 وهي أصول الشريعة؛ فما
تحتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه رزين في "جامعه" المسمى "التجريد للصحاح الستة"،
كما في "جامع الأصول" "1/ 293" لابن الأثير -وقد نقل هذا
الكتاب مفرقا على أبوابه، كما صرح "1/ 55"- عن علي رضي
الله عنه قوله، وتتمته: "منهج عليه أم الكتاب"، وانفرادات
رزين من مظان الضعف، وورد حديث فيه: "تركتكم على البيضاء"،
سيأتي تخريجه "4/ 133، 135"، وهو صحيح.
قال "ماء": "الجادة: معظم الطريق، وقيل: وسطه، وقيل: هي
الطريق الأعظم الذي يجمع الطرق ولا بد من المرور عليه".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد
بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب، 1/ 118/ رقم 131 بعد
208" عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما
يروي عن ربه تبارك وتعالى، وأوله:
"إن الله كتب الحسنات والسيئات..."، وأصل الحديث -دون القطعة المذكورة- في "صحيح البخاري" "رقم 6491".
ومعنى: "لا يهلك على الله إلى هالك" أي: من أصر على التحري
على السيئة عزمًا وقولًا وفعلًا، وأعرض عن الحسنات همًّا
وقولًا وفعلًا، قاله ابن حجر في "الفتح"، وفي "م": "إلا
الهالك".
3 أي: الحقيقة؛ كنصوص الأدلة التفصيلية، أو الإضافية؛
كالقواعد الكلية التي تندرج تحت كليات المراتب الثلاث
الأعم منها؛ فلذا قال: "وهي أصول الشريعة فما تحتها". "د".
ج / 3 ص -174-
مستمدة1 من تلك الأصول الكلية، شأن2 الجزئيات مع كلياتها
في كل نوع من أنواع الموجوادات؛ فمن الواجب اعتبار3 تلك
الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب
والسنة والإجماع والقياس؛ إذ محال أن تكون الجزئيات
مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص مثلا في جزئي4 معرضا عن
كليه؛ فقد أخطأ5.
وكما أن من أخذ بالجزئي6 معرضا عن كليه؛ فهو مخطئ، كذلك من
أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه.
وبيان ذلك أن تلقي العلم بالكلي إنما7 هو من عرض الجزئيات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن الأدلة الشرعية وما أخذ عنها من القواعد إنما جاء
تقريرًا وتفصيلًا للمقاصد الشرعية العامة في المراتب
الثلاث، وكل ما جاء من ذلك لاحظ فيه الشارع المحافظة على
هذه المراتب، التي بحفظها ينتظم أمر المعاش والمعاد. "د".
2 أي: أن تكون متفرعه عنها، داخلًا في قوامها ما اعتبر
مقومًا لهذه الأنواع. "د".
3 أي: بالتحقق من اندراجها تحتها، بحيث لا يحصل اشتباه ما
يدخل تحت الضروري بما يدخل تحت المرتبتين الأخريين، وإلا؛
لما صح الحكم على الجزئي. "د".
4 حقيقي أو إضافي؛ أي: سواء أكان دليلًا خاصًا من الكتاب
وما معه، أم كان قاعدة مما يندرج تحت كلي أعم منه؟ "د".
5 أي: قد يدركه الخطأ، وإلا فقد يصادف الثواب؛ فكثيرًا ما
يستدل الشخص بحديث على جزئي، ولا يلتفت لكليه ويصادف
الصواب، أو يقال: أخطأ في طريق الاجتهاد، وإن لم يخطئ
النتيجة. "د".
6 في الأصل و"ف": "أخذها لجزئي"، وقال "ف": "لعل المناسب:
كما أن من أخذ به في جزئي معرضًا إلخ...".
قلت: وما في "د" هو الصواب.
7 هذا بالنسبة لنفس المستقرئ المثبت للكلي، أما بالنسبة
لغيره الذي أخذ العلم بالكلي بعد ما تم استقراؤه من غيره؛
فلا يقال فيه ذلك، إلا بواسطة من أخذ عنه الكلي، أما
بالنسبة إليه هو؛ فلا توقف. "د".
ج / 3 ص -175-
واستقرائها؛ [وإلا] فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا
قبل العلم بالجزئيات، ولأنه ليس بموجود في الخارج، وإنما
هو مضمن في الجزئيات حسبما تقرر في المعقولات؛ فإذًا
الوقوف مع الكلي مع الإعراض عن الجزئي وقوف1 مع شيء لم
يتقرر العلم به بعد دون العلم بالجزئي، والجزئي2 هو مظهر
العلم به.
وأيضا؛ فإن الجزئي لم يوضع جزئيا؛ إلا لكون3 الكلي فيه على
التمام وبه قوامه، فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي
إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة، وذلك تناقض4، ولأن
الإعراض عن الجزئي جملة يؤدي إلى الشك في الكلي من جهة أن
الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته5 للكلي أو توهم
المخالفة له، وإذا خالف الكلي الجزئي مع أنا إنما6 نأخذه
من الجزئي؛ دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به لإمكان
أن يتضمن ذلك الجزئي جزءًا من الكلي7 لم يأخذه المعتبر
جزءًا منه، وإذا أمكن هذا؛ لم يكن بد من الرجوع إلى الجزئي
في معرفة الكلي، ودل ذلك على أن الكلي لا يعتبر بإطلاقه
دون اعتبار الجزئي، وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة
على قصد الشارع؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع إلى الوجه الأول من البيان. "د".
2 راجع إلى الوجه الثاني منه، وكلاهما لا يخلو من نظر.
"د".
3 ظاهر بالنسبة للجزئي الإضافي. "د".
4 أي: الإعراض عن الجزئي مع اعتبار الكلي تناقض؛ لأن
الإعراض عن الجزئي إعراض عن الكلي بمقتضى تقريره؛ فيكون
اعتبارا للكلي وإعراضا عنه معا، وهو تناقض. "د".
5 بحيث لا يرد إليه بالطريق المؤدي إلى تعرف أنه جزئيه
ويندرج فيه. "د".
6 بما قدمناه لا يذهب عليك صحة عباراته المتبادر منها
التناقض، حيث يقول تارة: "الجزئي مستمد من الكلي شأن
الجزئيات مع أنواعها"، وتارة يقول: "الكلي مأخوذ من
الجزئي"، وكل صحيح بالمعنى المتقدم في كل منها. "د".
7 أي: من كليه الحقيقي، وقوله: "لم يأخذه المعتبر جزء
منه"؛ أي: مما ادعى أنه كليه، يعني: فلا يكون هو كليه.
"د".
ج / 3 ص -176-
لأن
الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك1، الجزئي كذلك أيضا؛ فلا
بد من اعتبارهما معا2 في كل مسألة.
فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية، ثم أتى النص على جزئي
يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة؛ فلا بد من الجمع في
النظر بينهما لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع
الحفظ على تلك القواعد، [إذ كلية]2 هذا معلومة ضرورة بعد
الإحاطة بمقاصد الشريعة؛ فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم
القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع3، وإذا ثبت هذا؛ لم يمكن
أن يعتبر الكلي ويلغى الجزئي. فإن قيل: الكلي لا يثبت كليا
إلا من استقراء الجزئيات كلها أو أكثرها، وإذا كان كذلك لم
يمكن أن يفرض جزئي إلا وهو داخل تحت الكلي لأن الاستقراء
قطعي إذا تم4 فالنظر إلى الجزئي بعد ذلك عناء5، وفرض
مخالفته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لأن اعتبار الكلي وملاحظته عند النظر في الجزئيات
إنما يقصد منه المحافظة على مقاصد الشارع، ولا يكون ذلك
دون النظر للجزئي أيضا. "د".
2 سقطت من "ط".
3 أي: مما تضمنته القواعد، وإذًا؛ فالقواعد معتبرة لم
يهدمها هذا النص في هذا الجزئي، ولكن هذا لا يقضي باعتبار
الكلي وحده مطردًا ويلغي الجزئي؛ فلا بد من اعتبار الكلي
في غير موضع المعارضة حتى لا يهدر الكلي ولا الجزئي،
وسيأتي له بيان وتمثيل. "د".
4 قال بعضهم: "وتمامه بالنظر في الأدلة الجزئية، وما انطوت
عليه من الوجوه العامة على حد التواتر المعنوي الذي لا
يثبت بدليل خاص، بل بأدلة ينضاف بعضها إلى بعض، بحيث ينتظم
من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة، وتقدم أن
الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار القطعي العام، وأن تخلف
بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا؛ لأنه
إذا خرج عن ضروري مثلا، فإنما يخرج لحاجي أو كمالي لعارض
لا لذاته، ولا يتجاوز الأصول الثلاثة" ا. هـ. "د".
قلت: قوله: "قال بعضهم..." هو "ف".
5 في "ط": "عماء".
ج / 3 ص -177-
غير
صحيح، كما أنا إذا حصلنا من حقيقة الإنسان مثلا بالاستقراء
معنى الحيوانية؛ لم يصح أن يوجد إنسان إلا وهو حيوان؛
فالحكم عليه بالكلي حكم قطعي لا يتخلف، وجد أو لم يوجد؛
فلا اعتبار به في الحكم بهذا الكلي من حيث إنه لا يوجد إلا
كذلك، فإذا فرضت المخالفة في بعض الجزئيات؛ فليس بجزئي له
كالتماثيل وأشباهها، فكذلك هنا إذا وجدنا أن الحفظ على
الدين أو النفس أو النسل1 أو المال أو العقل في الضروريات
معتبر2 شرعا، ووجدنا ذلك عند استقراء جزئيات الأدلة؛ حصل
لنا القطع بحفظ ذلك، وأنه المعتبر حيثما وجدناه؛ فنحكم به
على كل جزئي فرض عدم الاطلاع عليه، فإنه لا يكون إلا على
ذلك الوزان، لا يخالفه على حال؛ إذ لا يوجد بخلاف ما وضع،
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافًا3 كَثِيرًا}
[النساء: 82]؛ فما فائدة اعتبار الجزئي بعد حصول العلم
بالكلي؟
فالجواب: أن هذا صحيح على الجملة، وأما في التفصيل؛ فغير
صحيح، فإنه إن علم أن الحفظ على الضروريات معتبر، فلم يحصل
العلم بجهة الحفظ المعينة؛ فإن للحفظ وجوها قد يدركها
العقل وقد لا يدركها، وإذا أدركها؛ فقد يدركها بالنسبة إلى
حال دون حال، أو زمان دون زمان، أو عادة دون عادة؛ فيكون
اعتبارها على الإطلاق خرما للقاعدة4 نفسها، كما قالوا في
القتل بالمثقل: إنه لو لم يكن فيه قصاص؛ لم ينسد باب القتل
بالقصاص، إذا اقتصر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "النسب".
2 في الأصل و"ف" و"م" و"ط": "معتبرا".
3 بحيث تكون الأشياء يجمعها كلي واحد، وتكون من وادٍ واحد،
ومع ذلك تتعارض أحكامها وتتنافى، وذلك غير واقع في الشريعة
قطعًا. "د".
4 هكذا في "د" فقط، وفي غيرها: "للعادة"، وقال: "ف": "لعله
للقاعدة"، وفي "ط": "الإطلاق وهو إما للقاعدة...".
ج / 3 ص -178-
به على
حالة واحدة وهو القتل بالمحدد، وكذلك الحكم في اشتراك1
الجماعة في قتل الواحد، ومثله2 القيام في الصلاة مثلا مع
المراض وسائر الرخص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقد قاد عمر من خمسة أو سبعة في رجل واحد قتلوه غيلة؛
لأنه رضي الله عنه أدرك جهة حفظ النفس بالقصاص، وأنه لو لم
يقتل الجماعة بالواحد لم ينسد باب القتل بحكم القصاص، وهذه
قد يقف العقل دونها؛ فيفهم أن قتل سبعة بشخص واحد ليس
حفظًا للنفس؛ فهذا اجتهاد عمر حيث قال: "لو تمالأ عليه أهل
صنعاء لقتلتهم جميعا" لأنه فهم جهة الحفظ التي قد يقف فيها
غيره، على أنه رضي الله عنه كان مترددًا فيه حتى قال له
علي: أرأيت لو اشترك جماعة في سرقة، أكنت تقطعهم؟ قال:
نعم. قال: فكذا هنا"؛ فحكم بالقتل، أما القتل بالمثقل فقد
ورد فيه قصة اليهودي الذي قتل الجارية على أوضاح لها بحجر،
فرضخ رسول الله رأسه بحجرين قتل بهما؛ فانظر وجه ذكره مع
أنه منصوص، ثم لا يتوهم فيه عدم القصاص لمانع يرجع لحفظ
النفس، وكذلك قال ابن الحاجب: "إنه ثبت بالقياس على
المحدد"، وكأنه لم يكتفِ بالنص الذي أشرنا إليه في الحديث
لمانع في الحديث، ولا يعترض بأنه من باب القياس في
الأسباب، وهو ممنوع؛ لأن السبب الواحد وهو القتل العمد
العدوان؛ فلا قياس في السبب. "د".
قلت: أثر عمر أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الديات، باب
إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أم يقتص منهم كلهم؟ 12/ 227/
رقم 6896" بسنده عن نافع عن ابن عمر؛ أن غلامًا قتل غيلة،
فقال عمر: "لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم"، ثم قال:
"وقال مغيرة بن حكيم عن أبيه، إن أربعة قتلوا صبيًّا؛ فقال
عمر.... مثله".
قلت: وصل نحوه عبد الرزاق في "المصنف" "18075، 18077"،
والخطابي في "الغريب" 2/ 83-84"، ومالك "2/ 192"، والبيهقي
"8/ 40-41"، وانظر: "تغليق التعليق" "5/ 252"، و"تحفة
الطالب" "ص435"، والمعتبر" "ص218-219"، و"موافقة الخبر
الخبر" "2/ 419-421"، و"فتح الباري" "12/ 227-228"،
و"الاعتصام" للمصنف "2/ 623-624 - ط ابن عفان"، أما قصة
اليهودي؛ فسيأت تخريجها.
2 فالمحافظة على الضروري وهو الدين هنا في الصلاة مثلًا
إذا جرى الأمر فيها لنهايتها، ولو أدى إلى المشقة الفادحة
محافظة على هذا الضروري ما كان يرخص في القعود مثلا
للمريض، ومثله يقال في فطر رمضان للمريض القادر بمشقة، فلو
لم ينص الشارع على هذه الجزئيات ويلتفت إليها في
الاستنباط، وأكتفي بأصل الحفظ للضروري لما كان هذا الترخص،
ولو لم يكن لأدى إلى الضيق والحرج المرفوع قطعًا؛ فقد نظر
إلى قاعدة الحاجيات في هذه المسائل مع أنها في موضوع
الضروريات. "د". وفي "ط": "ومثله القائم...".
ج / 3 ص -179-
الهادمة لعزائم الأوامر والنواهي؛ إعمالا لقاعدة الحاجيات
في الضروريات، ومثل ذلك المستثنيات1 من القوعد المانعة؛
كالعرايا، والقراض، والمساقاة، والسلم، والقرض، وأشباه
ذلك، فلو اعتبرنا الضروريات كلها2؛ لأخل ذلك بالحاجيات أو
بالضروريات3 أيضا، فأما إذا اعتبرنا في كل رتبة جزئياتها؛
كان ذلك محافظة على تلك الرتبة وعلى غيرها من الكليات؛ فإن
تلك المراتب الثلاث يخدم بعضها بعضها ويخصص بعضها بعضا،
فإذا كان كذلك؛ فلا بد من اعتبار الكل في مواردها وبحسب
أحوالها.
وأيضا؛ فقد يعتبر الشارع من ذلك4 ما لا تدركه العقول إلا
بالنص عليه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا بناء على أن البيع والإجارة من الضروري، ولم يجر
المحافظة على الضروري فيهما للنهاية، بل أعملت قاعدة رفع
الحرج التي هي الخاصية للحاجيات؛ فاستثنيت من القواعد التي
تقتضي منعها كالغرر في القراض والمساقاة، وهكذا. "د".
2 أي: بحيث نلتزم الوفاء بها في كل جزئياتها لأجل ذلك
بالحاجيات في كثير من جزئياتها؛ فيقع الحرج المنبوذ في
الشريعة، وقد يخل ذلك بالضروري نفسه. "د".
وكتب "ف": "لعله "في كلها"؛ أي: كل الجزئيات". وفي "ط":
"فلو اعتبرت الضروريات بكلياتها"، وهو الصحيح.
3 أي قد يؤدي الأخذ بالمحافظة على ضروري إلى الإخلال به
نفسه أبو بضروري آخر مثال الأول إذا لم نبح التيمم للمريض
خشية المرض أو زيادته؛ فقد يؤدي الوضوء إلى شدة المرض حتى
لا يستطيع الصلاة رأسًا، أو لا يستطيعها بالمقدار الذي
يستطيعه لو تيمم، ومثال الثاني ظاهر. "د".
وكتب "ف": "لعله "بل بالضروريات"؛ فأو بمعنى بل".
4 أي: من المحافظة على المراتب في جزئياتها ومواردها ما
يشتبه أمره على العقل ولا يعرف جهة الحفظ فيه إلا بالنص.
"د".
ج / 3 ص -180-
وهو
أكثر ما دلت عليه الشريعة في الجزئيات؛ لأن العقلاء في
الفترات1 قد كانوا يحافظون على تلك الأشياء2 بمقتضى أنظار
عقولهم، لكن على وجه لم يتجهوا به إلى العدل في الخلق
والمناصفة بينهم، بل كان مع ذلك الهرج واقعًا، والمصلح
تفوت مصلحة أخرى، وتهدم قاعدة أخرى أو قواعد؛ فجاء الشارع
باعتبار المصلحة والنصفة المطلقة في كل حين [وفي كل حال]،
وبين من المصالح ما يطرد وما يعارضه وجه آخر من المصلحة،
كما في استثناء العرايا ونحوه، فلو أعرض عن الجزئيات
بإطلاق؛ لدخلت مفاسد ولفاتت مصالح، وهو مناقض لمقصود
الشارع، ولأنه من جملة المحافظة على الكليات؛ لأنها يخدم
بعضها بعضًا، وقلما تخلو جزئية من اعتبار القواعد الثلاث
فيها، وقد علم أن بعضها قد يعارض بعضا فيقدم الأهم حسبما
هو مبين في كتاب الترجيح، والنصوص والأقيسة المعتبرة
تتضمن3 هذا على الكمال.
فالحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار
كلياتها، وبالعكس، وهو منتهى4 نظر المجتهدين بإطلاق، وإليه
ينتهي طلقهم5 في مرامي الاجتهاد.
وما قرر في السؤال على الجملة صحيح؛ إذ الكلي لا ينخرم
بجزئي ما،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في الأزمنة بين بعثة الرسل. "ف".
2 الضروريات ومكملاتها. "د".
3 فإذن لا بد من الرجوع لجزئيات الأدلة، وهي النصوص
والأقيسة، ولا يمكنه الاستغناء عنها بالكليات كما يستغنى
بكل فاعل مرفوع عما جاء في رواية تفاصيل كلام العرب مثلا.
"د".
4 إذ يجمعون بين النظر للدليل الخاص وبين كليه المندرج تحت
المراتب الثلاثة، فيصلون بذلك لمعرفة مقصد الشارع في مثله
على العموم؛ فينضبط به قصده بهذا الدليل الخاص على وجه
الخصوص. "د".
5 بفتح الطاء واللام؛ أي: سيرهم. "ف".
ج / 3 ص -181-
والجزئي محكوم عليه بالكلي، لكن بالنسبة إلى ذات الكلي
والجزئي لا بالنسبة إلى الأمور الخارجة؛ فإن1 الإنسان مثلا
يشتمل على الحيوانية بالذات، وهي التحرك بالإرادة، وقد
يفقد ذلك لأمر خارج من مرض أو مانع غيره؛ فالكلي صحيح في
نفسه، وكون جزئي من جزئياته منعه مانع من جريان حقيقة
الكلي فيه أمر خارج، ولكن الطبيب إنما ينظر في الكلي بحسب
جريانه في الجزئي أو عدم جريانه، وينظر2 في الجزئي من حيث
يرده إلى الكلي بالطريق المؤدي لذلك فكما3 لا يستقل الطبيب
بالنظر في الكلي دون النظر في الجزئي من حيث هو طبيب،
وكذلك4 بالعكس؛ فالشارع هو الطبيب الأعظم، وقد جاء في
الشريعة في العسل أن فيه شفاء للناس، وتبين للأطباء5 أنه
شفاء من علل كثيرة وأن فيه أيضا ضررا من بعض الوجوه، حصل
هذا بالتجربة العادية التي أجراها الله في هذه الدار؛ فقيد
العلماء ذلك كما اقتضته التجربة، بناء على قاعدة كلية
ضرورية من قواعد الدين، وهي امتناع أن يأتي في الشريعة خبر
بخلاف مخبره، مع أن النص لا يقتضي الحصر في أنه شفاء فقط؛
فأعملوا القاعدة الشرعية الكلية، وحكموا6 بها على الجزئي،
واعتبروا الجزئي7 أيضا في غير الموضع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "بأن"، وفي "ط": "كما أن".
2 فالطبيب يعرف أن مرض كذا مشخصاته كذا ودواؤه كذا، ولكن
هل الشخص الذي يعالجه توجد فيه الخواص اللازمة لهذا المرض،
هذا نظره الأول، فإذا وجدها كذلك وعرف أن الكلي متحقق فيه،
لا بد له من النظر للجزئي أيضا نظرة ثانية: أليس عنده من
المقارنات لهذا المرض ما يمنع من هذا الدواء؛ فيخفف، أو
يمزج بغيره، وهكذا ينظر فيما يرد هذا الجزئي الخاص إلى ما
يناسبه من كلي الأدوية؛ فلا يجري عليه الدواء المعروف لكلي
المرض بمجرد أنه دواء لكلي مرضه، بل لا بد من النظر في
حالة الشخص أو لا؛ فكذا الأمر هنا، وقد أحسن كل الإحسان في
التمثيل. "د".
3 في "ط": "فكلما".
4 في "ف" و"م": "فكذلك".
5 في "ط": "للأطباء فيه".
6 فقالوا: إنه شفاء قطعًا. "د".
7 فبهذا الجزئي من التجرية في بعض الأشخاص وإحداثه الضرر،
قالوا: إن الكلي لا يجري اطراده على استقامة؛ فيستثني موضع
المعارضة وهو أصحاب الصفراء مثلا؛ فقد أعملوا كلا منهما.
"د".
ج / 3 ص -182-
المعارض1؛ لأن العسل ضار لمن غلبت عليه الصفراء، فمن لم
يكن كذلك؛ فهو له شفاء، أو فيه له شفاء.
ولا يقال: إن هذا تناقض لأنه يؤدي إلى اعتبار الجزئي وعدم
اعتباره معا؛ لأنا نقول: إن ذلك من جهتين2، ولأنه لا يلزم
أن يعتبر كل3 جزئي وفي كل حال4، بل المراد بذلك أنه يعتبر5
الجزئي إذا لم تتحقق استقامة الحكم بالكلي فيه كالعرايا
وسائر المستثنيات، ويعتبر الكلي6 في تخصيصه للعام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "العارض".
2 فعدم اعتباره من حيث ذاته مع ذات الكلي؛ لأنه لا يتأتى
وهو جزئي أن يخالف حكم الكلي، ولكن من حيث أمر خارج عنه قد
يخالف حكمه، كما قيل في المرض المقترن به علة أخرى؛ فإنها
تجعله ينظر فيه بنظر آخر كالصفراء في المثال. "د".
3 أي: بل بعض الجزئيات في بعض الأحوال قد يأخذ حكمًا غير
حكم الكلي. "د".
4 لعله: "أو في كل حال" بدليل ما بعده. "ف".
5 معنى اعتبار الجزئي الأخذ بالدليل الخاص وإن خرج عن حكم
الكلي الذي هو القاعدة الأصولية التي أخذت من الاستقراء
للأدلة، ومعنى اعتبار الكلي تخصيصه للدليل الشرعي التفصيلي
العام أو تقييده لمطلقه، كما في المثال السابق، حيث أعملت
القاعدة الكلية وهي امتناع أن يأتي في الشرعية خبر بخلاف
مخبره؛ فقيدوا بها المطلق الوارد في نفع العسل من مرض
الإسهال، بحيث لا يكون إخلالًا بالدليل المطلق أو العام
الوارد في هذا الجزئي، وهو جزئي نفع العسل في الإسهال، ولا
يشتبه عليك الأمر فتفهم أن كلمة العام تنافي كلمة الجزئي
المجعول صفة له؛ لأن عمومه جاء له من كون الدليل الشرعي
التفصيلي الوارد فيه من آية أو حديث ورد بلفظ عام، وجزئيته
جاءت له من كونه متعلقا بجزئي؛ كصلاة، أو زكاة، أو بيع، أو
نكاح، أو داوء مرض كمثاله، بخلاف أصل القاعدة الأصولية؛
فإنها لا تخص بابًا دون باب؛ كقاعدة "الأمر بالشيء ليس
أمرًا بالتوابع" مثلا، وبه يتبين أن العبارة كلها محررة.
"د".
6 تحريره: "يعتبر الجزئي في تخصيصه للعام الكلي"! "ف".
قلت: هامش "د" السابق فيه رد على هذا، وفي الأصل: "... في
تخصيصه للعالم -كذا- الجزئي".
ج / 3 ص -183-
الجزئي، أو تقييده لمطلقه، وما أشبه ذلك، بحيث لا يكون
إخلالًا بالجزئي على الإطلاق، وهذا معنى اعتبار أحدهما مع
الآخر، وقد مر منه أمثلة في أثناء المسائل؛ فلا يصح إهمال
النظر في هذه الأطراف، فإن فيها جملة الفقه، ومن عدم
الالتفات إليها أخطأ مَن أخطأ، وحقيقته1 نظر مطلق في مقاصد
الشارع، وأن تتبع نصوصه مطلقة ومقيدة أمر واجب؛ فبذلك يصح
تنزيل المسائل على مقتضى قواعد الشريعة، ويحصل منها صور
صحيحة الاعتبار، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلا بد من النظر المطلق في مقاصد الشرع بواسطة
الكليات، ولا بد من تتبع النصوص أيضا مع ذلك وهي الجزئيات،
وبالأمرين معًا تصدر من الناظر صور صحيحة الاعتبار عند
الشارع، وما أصعب هذا العمل! وبه يعرف المدعون للاجتهاد من
هؤلاء أشباه العوام قيمة دعواهم. "د".
ج / 3 ص -184-
المسألة الثانية:
كل دليل شرعي؛ إما أن
يكون قطعيًّا1 أو ظنيًّا، فإن كان قطعيًّا؛ فلا إشكال في
اعتباره؛ كأدلة وجوب الطهارة من الحدث، والصلاة، والزكاة،
والصيام، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،
واجتماع الكلمة، والعدل، وأشباه ذلك، وإن كان ظنيًّا؛ فإما
أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا، فإن رجع إلى قطعي؛ فهو معتبر
أيضا، وإن لم يرجع؛ وجب التثبت فيه، ولم يصح إطلاق القول
بقبوله، ولكنه قسمان: قسم يضاد أصلا [قطعيا]، وقسم لا
يضاده ولا يوافقه؛ فالجميع أربع أقسام.
فأما الأول:
فلا يفتقر إلى بيان.
وأما الثاني:
وهو الظني الراجع إلى أصل قطعي؛ فإعماله أيضا ظاهر،
وعليه عامة [إعمال]2 أخبار الآحاد؛ فإنها بيان للكتاب
لقوله تعالى:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ}
[النحل: 44].
ومثل3 ذلك ما جاء في الأحاديث من صفة الطهارة الصغرى
والكبرى، والصلاة، والحج، وغير ذلك مما هو بيان لنص
الكتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يكون قطعي الدلالة، سواء أكان قطعي السند بأن كان
لفظه متواترا أم كان متواترا تواترا معنويا بحيث تعاضدت
عليه الروايات وموارد الشريعة حتى صار مما لا شك فيه، ولا
يكفي في ذلك مجرد تواتر اللفظ إذا كان ظني الدلالة والظني
ما يقابل ذلك، وهذا في الكتاب والسنة ظاهر، والإجماع أيضا
منه ظني وقطعي، أم القياس؛ فكله ظني، ولا يتأتى فيه القطع
مع احتمال الاعتراضات الخمسة والعشرين؛ فقوله: "كل دليل"
ليس على عمومه لأنه لا يجيء هذا التقسيم في القياس كما
عرفت. "د".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل.
3 في "ط": "ومثال".
ج / 3 ص -185-
وكذلك
ما جاء من الأحاديث في النهي عن جملة1 من البيوع والربا
وغيره، من حيث هي راجعة إلى قوله [تعالى]:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275].
وقوله:
{ولا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الآية [البقرة: 188].
إلى سائر أنواع البيانات المنقولة بالآحاد أو التواتر2؛
إلا أن دلالتها ظنية.
ومنه أيضا قوله عليه الصلاة والسلام:
"لا ضرر ولا ضرار"3؛
فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى، فإن الضرر والضرار
مبثوث منعه في الشريعة كلها، في وقائع جزئيات4، وقواعد
كليات5؛ كقوله تعالى:
{وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231].
{وَلا
تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ}
[الطلاق: 6].
{لا تُضَارَّ
وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}
الآية [البقرة: 233].
ومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض، وعن
الغصب والظلم، وكل ما هو في المعنى إضرار6 أو ضرار، ويدخل
تحته الجناية على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي كثيرة؛ كالمحاقلة، والمخابرة، والملامسة، والمنابذة،
والمزابنة، وغيرها. "د".
قلت: للشيخ صالح الفوزان رسالة في البيوع المنهي عنها،
وكتبت رسائل عدة في "بيع الغرر"، أجمعها رسالة أستاذنا
ياسين درادكة: "نظرية الغرر في الشريعة الإسلامية"، وهي
مطبوعة في مجلدين.
2 في "ط": "بالتواتر".
3 مضى تخريجه "2/ 72"، وهو صحيح بشواهده.
4 كما في الآيات الثلاث. "د".
5 كما في التعدي على النفوس وما بعده؛ فإنه كما قال: معنى
في غاية العموم في الشريعة لا شك فيه؛ فهو قطعي في قواعد
كليات، وحديث:
"لا ضرر ولا ضرار" راجع له؛ فهو من الظني الراجع إلى قطعي. "د".
6 في الأصل: "ضرر".
ج / 3 ص -186-
النفس
أو العقل أو النسل أو المال؛ فهو معنى في غاية العموم في
الشريعة لا مراء فيه ولا شك، وإذا اعتبرت أخبار الآحاد
وجدتها كذلك1.
وأما الثالث:
وهو الظني المعارض لأصل قطعي ولا يشهد له أصل قطعي2؛
فمردود بلا إشكال.
ومن الدليل على ذلك أمران.
أحدهما: أنه مخالف لأصول الشرعية، ومخالف أصولها لا يصح؛
لأنه ليس منها، وما ليس من الشريعة كيف يعدّ منها؟
والثاني: أنه ليس له ما يشهد بصحته، وما هو كذلك ساقط
الاعتبار، وقد مثلوا هذا القسم في المناسب الغريب3 بمن
أفتى4 بإيجاب شهرين متتابعين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إلا النادر الذي يكون غالبا في الأخبار، كما في القصص عن
بني إسرائيل مثلا، وأحاديث الملاحم والفتن، وأشراط الساعة
ونحوها؛ كأحاديث:
"لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود"، و"لا تقوم
الساعة حتى تقاتلوا خوزًا وكرمان من الأعاجم"،
وسيأتي له حديث:
"القاتل
لا يرث"، وأنه لا يرجع لأصل قطعي. "د".
2 ظاهره ولو شهد له أصل ظني، وعليه يكون قوله: "ليس له ما
يشهد له بصحته"؛ أي: قطعي لأنه الذي يتأتى فرضه مع فرض أنه
معارض لقطعي؛ فإنه لا يعقل تعارض قطعيين، فإن وجد ما ظاهره
ذلك أُوِّل كما سيأتي له في مسألة رؤية الباري.
3 الغريب نوعان: نوع هو قسم مقابل للمؤثر والملائم
والمرسل؛ فهو أربع أربعة أقسام المناسب، ونوع آخر هو قسم
من أقسام ثلاثة المرسل: الغريب، ومعلوم الإلغاء، والملائم؛
فالغريب ومعلوم الإلغاء اللذان هما من أقسام المرسل
مردودان باتفاق، وفي الملائم منه خلاف، أما الغريب الذي هو
قسم رابع للمناسب؛ فلا يقال فيه: دل الدليل على إلغائه،
فإن ذلك إنما هو في أقسام المرسل، وسيأتي للمؤلف في الكلام
عن القسم الرابع أنه أعمله العلماء في باب القياس؛ فالمراد
بالغريب هنا أحد أقسام المرسل الثلاثة، الذي قالوا فيه وفي
معلوم الإلغاء: إنهما مردودان اتفاقا، إلا أنهم جعلوا
مثاله المذكور -وهو إيجاب الشهرين- مثالا لمعلوم الإلغاء،
لا للغريب؛ =
ج / 3 ص -187-
...................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فليراجع المقام في كتب الأصول. "د".
وكتب "ف" هنا ما نصه: "المناسب هو الوصف الذي يحصل من
ترتيب الحكم عليه ما يصلح كونه مقودا للشارع، والغريب ما
دل الدليل على إلغائه وعدم اعتباره؛ فلا يعلل به".
4 أفتى بعض العلماء ملكا جامع في رمضان بصيام شر عين؛
فأنكر عليه؛ فقال: لو أمرته بالعتق لسهل عليه بذل ماله في
شهوة فرجه؛ فو مناسب تترتب عليه مصلحة الزجر التي يقصدها
الشارع، لكنه ضد الدليل الشرعي في تأخر الصيام عن العتق
ولم يشهد له أصل آخر، وقوله: "فلا بد من رده"؛ أي: كمثاله
هذا. "د".
قلت: نقل المصنف في "الاعتصام" "2/ 610" نحوه عن الغزالي،
ولكنه جعل المسألة عن الوقاع في نهار رمضان، وليست عن
الظهار، وقال: "فهذا المعنى مناسب؛ لأن الكفارة مقصود
الشرع منها الزجر، والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره
الصيام"، ثم قال:
"وهذه الفتيا باطلة؛ لأن العلماء بين قائلين: قائل
بالتخيير، وقائل بالترتيب، فيقدم العتق عن الصيام، فتقديم
الصيام بالنسبة إلى الغني لا قائل به"، ثم ذكر نقلا عن ابن
بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان،
وعين أن الذي أفتاه يحيى بن يحيى الليثي! ثم قال: "فإن صح
هذا عن يحيى بن يحيى رحمه الله، وكان كلامه على ظاهره، كان
مخالفا للإجماع".
قال أبو عبيدة: عندي نظر في صحة هذه القصة عن الإمام يحيى
رحمه الله تعالى، وذكرها بإبهام إمام الحرمين في كتابه
"الغياثي" "ص222-223"؛ فأحسن، وعلق عليها بعبارات قوية
فيها نصرة للحق إن شاء الله تعالى؛ فأجاد؛ قال: "وأنا
أقول: إن صح هذا من معتز إلى العلماء؛ فقد كذب على دين
الله وافترى، وظلم نفسه واعتدى، وتبوأ مقعده من النار في
هذه الفتوى، ودل على انتهائه في الخزي إلى الأمد الأقصى،
ثكلته أمه لو أراد مسلكا رادعا، وقولا وازعا فاجعا؛ لذكر
ما يتعرض لصاحب الواقعة من سخط الله، وأليم عقابه، وحاق
عذابه، وأبان له أن الكفارات وإن أتت على ذخائر الدنيا،
واستوعبت خزائن من غبر ومضى؛ لما قابلت همًّا بخطيئة في
شهر الله المعظم وحماه المحرم، وذكر له أن الكفارات لم
تثبت ممحصات للسيئات وكان يغنيه الحق عن التصريف والتحريف.
ولو ذهبنا نكذب الملوك ونطبق أجوبة مسائلهم على حسب
استصلاحهم طلبا لما نظنه من فلاحهم لغيرنا دين الله تعالى
بالرأي، ثم لم نثق بتحصيل صلاح وتحقيق نجاح؛ فإنه قد يشيع
في ذوي الأمر أن علماء العصر يحرفون الشرع بسببهم؛ فلا
يعتمدونهم، وإن صدقوهم؛ فلا يستفيدون من أمرهم إلا الكذب
على الله، وعلى رسوله، والسقوط عن مراتب الصادقين،
والالتحاق بمناصب الممخرقين المنافقين".
ج / 3 ص -188-
ابتداء
على من ظاهر من امرأته ولم يأت الصيام في الظهار إلا لمن
لم يجد رقبة.
وهذا القسم على ضربين:
أحدهما:
أن تكون مخالفته للأصل قطعية؛ فلا بد من رده.
والآخر:
أن تكون ظنية؛ إما بأن يتطرق الظن1 من جهة الدليل
الظني، وإما من جهة كون الأصل لم يتحقق كونه قطعيا، وفي
هذا الموضع مجال للمجتهدين، ولكن الثابت في الجملة أن
مخالفة الظني لأصل قطعي يسقط اعتبار الظني على الإطلاق،
وهو مما لا يختلف فيه.
والظاهري وإن ظهر [من]2 أمره ببادئ الرأي عدم المساعدة
فيه3، فمذهبه راجع في الحقيقة إلى المساعدة على هذا الأصل
لاتفاق الجميع على أن الشريعة لا اختلاف فيها ولا تناقض،
{وَلَوْ
كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
وإذا ثبت هذا؛ فالظاهري لا تناقض4 عنده في ورود نص مخالف
لنص آخر أو لقاعدة أخرى، أما على اعتبار المصالح؛ فإنه
يزعم أن في المخالف مصلحة ليست في الآخر، علمناها أو
جهلناها، وأما على عدم اعتبارها؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بأنه ليس مخالفا للقطعي، وهذا التقسيم واضح من أن
الفرض عدم مخالفته لقطعي مخالفة قطعية؛ فالنفي منصب على
القيد، أو عليه والمقيد جميعًا، وسيأتي له ما يصح أن يكون
أمثلة له، وتطرق الظن إلى الظني يكون بحمل الظني على معنى
لا يخالف القطعي. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 سقط من "ط".
4 أي: فكل منهما صحيح، ولا تعارض. "د".
ج / 3 ص -189-
فأوضح،
فإن للشارع أن يأمر وينهى كيف يشاء؛ فلا تناقض بين
المتعارضين على كل تقدير.
فإذا تقرر هذا؛ فقد فرضوا في كتاب الأخبار مسألة مختلفًا
فيها، تر جع إلى الوفاق في هذا المعنى؛ فقالوا: خبر الواحد
إذا كملت شروط صحته؛ هل يجب عرضه على الكتاب، أم لا؟ فقال
الشافعي1: "لا يجب؛ لأنه لا تتكامل شروطه إلى وهو غير
مخالف للكتاب". وعند عيسى بن أبان2 يجب، محتجا بحديث في
هذا المعنى، وهو قوله: "إذا روي لكم حديث؛ فاعرضوه على
كتاب الله، فإن وافق فاقبلوه، وإلا؛ فردّوه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في كتابه العظيم: "الرسالة" "رقم 1108".
2 وكذا قال الرازي في "المحصول" "4/ 438"، وانظر في
المسألة "البحر المحيط" للزركشي "4/ 351-352".
3 أخرج الدارقطني في "السنن" "4/ 208"، وابن عدي في
"الكامل" "4/ 1387"، والخطيب في "الكفاية" "430"، والهروي
في "ذم الكلام" "ص155" عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ:
"سيأتيكم عني أحاديث مختلفة، فما جاءكم موافقًا لكتاب الله
ولسنتي؛ فهو مني، وما جاءكم مخالفًا لكتاب الله وسنتي؛
فليس مني".
قال الدراقطني: "صالح بن موسى ضعيف، ولا يحتج بحديثه"،
وقال ابن عدي عقبه -وساق أحاديث أخر-: "وهذه الأحاديث عن
عبد العزيز غير محفوظات، إنما يرويها عنه صالح بن موسى".
وأخرج الدارقطني في "السنن" "4/ 208-209"، والهروي في "ذم
الكلام" "ص170" عن علي مرفوعًا بلفظ: "إنها تكون بعدي رواة
يروون عني الحديث؛ فاعرضوا حديثهم على القرآن، فما وافق
القرآن؛ فخذوا به، وما لم يوافق القرآن؛ فلا تأخذوا به".
وقال الدراقطني: "هذا وهم، والصواب عن عاصم عن زيد عن علي
بن الحسين مرسلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم".
وأبو بكر بن عياش لما كبر ساء حفظه، وقد خولف؛ كما يفهم من
كلام الدراقطني.
وفي الباب أحاديث كثيرة كلها فيها مقال، انظر: "ذم الكلام"
"ص170-171"، و"السلسلة الضعيفة" "رقم 1083-1090"، وما عند
المصنف "4/ 329 وما بعدها".
قال "ف": "هذا العرض إنما يعتد به إذا كان من العلماء
الراسخين، وهم الأئمة المجتهدون ومن على قدمهم من الفقهاء
والمحدثين".
ج / 3 ص -190-
فهذا
الخلاف كما ترى راجع إلى الوفاق1، وسيأتي تقرير ذلك في
دليل السنة إن شاء الله تعالى.
وللمسألة2 أصل في السلف الصالح؛ فقد ردت عائشة [رضي الله
تعالى عنها] حديث:
"إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه"3 بهذا الأصل نفسه؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من حيث إنه لا يقبل إلا ما كان موافقًا، ويرد ما كان
مخالفًا، والخلاف بينهما في الطريق لمعرفة ذلك. "د".
2 وهي أن مخالفة الظني لأصل قطعي تسقط اعتبار الظني. "د".
قلت: وتوسع المتأخرون؛ فخرجوا كثيرا من الأمثلة الآتية على
"عرض أخبار الآحاد على القياس" مثل: "الدبوسيّ في "تأسيس
النظر" "65-67"، وأبو زهرة في كتابه "مالك" "298-300"، ورد
ذلك عبد العزيز البخاري؛ فقال في كتابه "كشف الأسرار" "2/
697": "وقد حكي عن مالك أن خبر الواحد إذا خالف القياس لا
يقبل، وهذا القول باطل سمج، مستقبح عظيم، وأنا أجل منزلة
مالك عن مثل هذا القول، ولا يدرى ثبوته منه"، وقال ابن
تيمية في "صحة أصول مذهب أهل المدينة" "ص24": "من ظن بأبي
حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة
الحديث الصحيح لقياس أو غيره؛ فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما
بظن وإما بهوى؛ فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضؤ بالنبيذ
في السفر مخالفة للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع
مخالفته للقياس لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم
يصحِّحوه".
وانظر: "شرح تنقيح الفصول" "387"، "وتوثيق السنة في القرن
الثاني الهجري" "ص391-413" لرفعت فوزي عبد المطلب؛ ففيها
رد على هذا القول.
3 مضى تخريجه من حديث عمر رضي الله عنه "2/ 385"، وهو في
"الصحيحين" وغيرها.
ويشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب
الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه"،
3/ 151-152/ رقم 1288"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنائز
باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، 2/ 642/ رقم 929" ضمن
حديث فيه قال: ابن عباس قال: "لما مات عمر ذكرت ذلك
لعائشة، فقالت: يرحم الله عمر، لا والله ما حدث رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد"،
ولكن قال:
"إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه"، قال: وقالت عائشة: حسبكم القرآن
{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
وانظر لزامًا: "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على
الصحابة" للزركشي "ص67-68، 91-92، 107".
ج / 3 ص -191-
لقوله
تعالى:
{أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 38، 39].
وردَّتْ حديث1 رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة
الإسراء لقوله تعالى:
{لاَ تُدْرِكُهُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب بدء
الخلق باب إذا قال أحدكم آمين، 6/ 313/ رقم 3234، 3235"،
ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب معنى قول الله عز
وجل:
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}، وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء، 1/ 159/ رقم
177" عن مسروق؛ قال: كنت متكئًا عند عائشة، فقالت: يا أبا
عائشة! ثلاث من تكلم بواحدة منهن؛ فقد أعظم على الله
الفرية. قلت: ما هن؟ قالت من زعم أن محمدا صلى الله عليه
وسلم رأى ربه؛ فقد أعظم على الله الفرية، قال وكنت متكئًا
فجلست. فقلت: يا أم المؤمنين! أنظريني ولا تعجليني، ألم
يقل الله عز وجل:
{وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 22]،
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى
الله عليه وسلم؛ فقال:
"إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير
هاتين المرتين، رأيته منهبطًا من السماء، سادًّا عظم خلقه
ما بين السماء إلى الأرض". فقالت: أولم تسمع أن الله يقول:
{لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
[الأنعام: 103]، أولم تسمع أن الله يقول:
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا
وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا
فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ
حَكِيمٌ}
[الشورى: 51]؟ قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كتم شيئا من كتاب الله؛ فقد أعظم على الله الفرية،
والله يقول:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
رِسَالَتَهُ}
[المائدة: 67]. قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد؛
فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول:
{قُلْ لا
يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ
إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]. لفظ مسلم.
وانظر "الإجابة "84-89".
ج / 3 ص -192-
الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، وإن كان عند غيرها غير مردود؛ لاستناده1 إلى أصل
آخر لا يناقض الآية، وهو ثبوت رؤية الله تعالى في الآخرة
بأدلة قرآنية وسنية تبلغ القطع، ولا فرق في صحة الرؤية بين
الدنيا والآخرة.
وردَّتْ هي وابن عباس خبر أبي هريرة في غسل اليدين قبل
إدخالهما في الإناء2؛ استنادًا إلى أصل مقطوع به، وهو رفع
الحرج وما لا طاقة به3 عن الدين؛ فلذلك قالا: "فكيف يصنع
بالمهراس"4؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهو وإن عارض أصلًا قطعيا؛ إلا أنه يشهد له أصل
قطعي، على أنه قد ينازع في قطعية الدلالة في آية:
{لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}؛
فلا يكون مما نحن فيه. "د".
2 ورد في ذلك أحاديث كثيرة عن عثمان وعلي وغيرهما، جمعها
أبو عبيد في كتابه "الطهور" "باب السنة في غسل اليدين قبل
إدخالهما في الإناء، ص325-330"، وقد خرجتها ولله الحمد في
التعليق عليه، وقال أبو عبيد عقبها: "هذا عندنا هو سنة
الوضوء، أنه لا يدخل المتوضئ يده الإناء حتى يغسلها، وإن
كانت نظيفة إنما هذا الاتباع، فإن ترك ذلك تارك، ولم يكن
على يده قذر؛ فإنه لا ينجس الماء غير أنه جفاء في الدين".
وقال: "والذي نختار الأخذ بالآثار الأولى، فنرى غسل اليد
على كل حال". وفي "ط": "إدخالهما الإناء".
3 تقدم في المشقات تقييدها بأن تكون غير معتادة في مثل
العمل المفروض، ومثل إمالة الإناء لا يظهر فيها ذلك؛ فإنها
قد تكون أقل من البحث عن الماء للوضوء مثلا، واستخراجه من
البئر العميقة بأدوات ومشقات؛ فقد يقال: إن هذا من القسم
الثاني الذي لم يتحقق كونه قطعيًّا؛ لأن ذلك إنما يثبت
بكون هذا من الخروج قطعا، وقد علمت ما فيه، وقولهما: فكيف
يصنع بالمهراس؟ إذا كان هو ما يسع ماء كثيرا فليس إناء
وضوء؛ فلا تظهر شبهة اقتضائه للحرج لأن الحديث في الإناء
المعتاد للوضوء، وهو الذي يسع ماء قليلا يمكن أن يحصل له
التغير من قليل ما يحل فيه، وقد قال الحافظ: لا وجود
لردهما عليه في شيء من كتب الحديث، وإنما الذي قاله له رجل
يقال له قين الأشجعي، راجع "شرح التحرير" في مسألة "معارضة
القياس لخبر الواحد". "د".
4 المهراس: حجر مستطيل، ينقر ويدق فيه، ويتوضأ منه، وكتب
"ف": "في النهاية" [5/ 259]: "هو صخرة منقورة تسع كثيرا من
الماء" انتهى.
قلت: لم يذكر الزركشي في "الإجابة" رد عائشة رضي الله عنها
واستدراكها على أبي هريرة =
ج / 3 ص -193-
......................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= هذا الخبر، وقال في "المعتبر" "رقم 82": "لم أقف على
مخالفتهما"، وتذكره كتب الأصول، انظر مثلا: "مختصر
المنتهى" ص88" لابن الحاجب، قال ابن كثير في "تحفة الطالب"
"رقم 126، 127": "وأما مخالفة ابن عباس وعائشة لأبي هريرة
في ذلك؛ فلا يحضرني الآن نقله"، ثم قال: "وإنما روى
البيهقي ["1/ 47، 48"] من حديث الأعمش عن إبراهيم أن أصحاب
عبد الله بن مسعود قالوا: "فكيف يصنع أبو هريرة
بالمهراس؟".
قلت: وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا في "مصنفه" "1/ 99"، وقال
ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 461": "تبع المصنف
-أي: ابن الحاجب- في ذلك كلام الآمدي، ولا وجود لذلك في
شيء من كتب الحديث"، قال الزركشي وابن حجر: "ذكر أبو
إسماعيل الهروي في كتاب "ذم الكلام" "رقم 299 - المحققة"
بعد أن ساق قصة قين مع أبي هريرة -وسيأتي بيان ذلك- ما
نصه: "وروي أن ابن عباس قال لأبي هريرة: أرأيت إن كان
حوضا؟ فقال: لا يضرب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
الأمثال". زاد ابن حجر: "ولم يقع لي هذا الأثر موصولا إلى
الآن".
قلت: ظفرت بحديث يُنمى إليها مرفوعًا بلفظ: "إذا استيقظ
أحدكم من النوم فليغرف على يده ثلاث غرفات قبل أن يدخلها
في وضوئه، فإنه لا يدري حيث باتت يده"، والصواب فيه: "عن
أبي هريرة"، أفاده أبو زرعة كما في "العلل" "1/ 62/ رقم
162" لابن أبي حاتم، ونقله ابن حجر في "التخليص الحبير"
"1/ 62" -وتبعه الشوكاني في "النيل"- عن أبي حاتم وليس عن
أبي زرعة، ووهم، كما أفاده المباركفوري في "تحفة الأحوذي"
"1/ 111"، وقد فصلت الوهم الواقع في الحديث -وهو من قِبَلِ
ابن أبي ذئب- في تعليقي على كتاب "الطهور" "ص326-327" لأبي
عبيد، ولله الحمد.
نعم، وقع نحو المذكور عند المصنف عن قين الأشجعي، أخرج أبو
عبيد في "الطهور" "رقم 279" و"الغريب" "2/ 274"، وأحمد في
"المسند" "2/ 348، 382"، وأبو يعلى في "المسند" "10/
377-378/ رقم 5973"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/
22"، والبيهقي "1/ 47"، والهروي في "ذم الكلام" "رقم 298"
عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا:
"إذا قام
أحدكم من النوم؛ فليفرغ على يديه من وضوئه؛ فإنه لا يدري
أين باتت يداه".
فقال قين الأشجعي: فإذا جاء مهراسكم هذا؛ فكيف نصنع؟ قال:
أعوذ بالله من شركم.
إسناده حسن: من أجل محمد بن عمرو.
ج / 3 ص -194-
وردت
أيضا خبر ابن عمر في الشؤم، وقالت: "إنما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يحدث عن أقوال الجاهلية"1؛ لمعارضته
الأصل القطعي، أن الأمر كله لله، وأن شيئا من الأشياء لا
يفعل شيئا، ولا طيرة ولا عدوى.
وقد اختلفوا على عمر بن الخطاب حين خرج إلى الشام، فأخبر
أن الوباء قد وقع بها، فاستشار المهاجرين والأنصار؛
فاختلفوا عليه إلا مهاجرة الفتح، فإنهم اتفقوا على رجوعه؛
فقال أبو عبيده: أَفِرارًا من قدر الله؟"؛ فهذا استناد في
رأي اجتهادي إلى أصل قطعي، قال عمر: "لو غيرك قالها يا أبا
عبيدة! نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله"2؛ فهذا استناد
إلى أصل قطعي أيضًا، وهو أن الأسباب من قدر الله، ثم مثل
ذلك برعي العدوة المجدبة والعدوة المخصبة، وأن الجميع بقدر
الله، ثم أخبر بحديث2 الوباء الحاوي لاعتبار الأصلين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ردت عائشة خبر أبي هريرة في الشؤم، وليس خبر ابن عمر،
كما قال المصنف، أخرج ذلك أحمد في "المسند" "6/ 150، 240،
246"، وإسحاق بن راهويه في "المسند" "رقم 822 - مسند
عائشة"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 341"، و"شرح معاني
الآثار" "4/ 314"، وابن جرير في "تهذيب الآثار" "رقم 37"،
وابن قتيبة في "عيون الأخبار" "1/ 146" بإسناد حسن عن أبي
حسان -وهو الأعرج الأجرد، اسمه مسلم بن عبد الله- قال: جاء
رجل إلى عائشة؛ فقال: إن أبا هريرة يقول: الطيرة في الفرس
والدار والمرأة. فغضبت غضبًا شديدًا، حتى صارت منها شقة في
السماء وشقة في الأرض، وقالت: ما قاله، إنما قال: "كان أهل
الجاهلية يتطيرون من ذلك".
وأخرج الطيالسي في "المسند" "رقم 1537"، والحاكم في
"المستدرك" "2/ 479"، وابن خزيمة -كما في "الفتح" "6/
236"- عن مكحول: قيل لعائشة: إن أبا هريرة يقول "وذكر
نحوه".
وإسناده منقطع، لم يسمع مكحول من عائشة، وانظر: "الإجابة"
"ص103-106"، و"السلسلة الصحيحة" "رقم 777، 780، 789، 799،
993، 1897".
نعم، أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب ما يتقى
من شؤم المرأة، رقم 5093"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب السلام،
رقم 2225" عن ابن عمر مرفوعًا: "الشؤم في ثلاث: في الفرس،
والمرأة، والدار"، ولكن لا يوجد لعائشة رضي الله عنها ذكر
فيه.
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب
الطب، باب ما يذكر في =
ج / 3 ص -195-
وفي
الشريعة من هذا كثير جدا، وفي اعتبار السلف له نقل كثير.
ولقد اعتمده مالك بن أنس في مواضع كثيرة لصحته في
الاعتبار، ألا ترى إلى قوله في حديث غسل الإناء من ولوغ
الكلب سبعًا1: "جاء الحديث ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الطاعون، 10/ 179/ رقم 5729"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة، ونحوها، 4/
1740-1741/ رقم 2219" عن عبد الله بن عباس؛ أن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه
أمراء الأجناد -أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه- فأخبروه أن
الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي
المهاجرين الأولين. فدعاهم؛ فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء
قد وقع في الشام؛ فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجنا لأمر ولا
نرى أن نرجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا
الوباء، فقال ارتفعوا عني. ثم قال: ادعوا لي الأنصار.
فدعوتهم، فاستشارهم؛ فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا
كاختلافهم. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان ههنا
من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح. فدعوتهم؛ فلم يختلف منهم
عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على
هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر؛
فأصبحوا عليه. فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر
الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من
قدر الله إلى قدر الله، أرأيت إن كانت لك إبل هبطت واديًا
له عدوتان: إحداهما خصيبة، والأخرى جدبة؛ أليس إن رعيت
الخصيبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر
الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف -وكان متغيبا في بعض
حاجته- فقال: إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول:
"إذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا
تخرجوا فرارا منه".
قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف". لفظ البخاري.
وقال "د" في هذا الموطن ما نصه: "لا عدوى، ولا طيرة، ولا
هامة، ولا صفر، وفر من المجذوم فرارك من الأسد؛ ففي نفيه
إشارة إلى رد معتقد الجاهلية من استقلال الأسباب بالتأثير،
وفي إثباته إشارة إلى أن الجذام من الأسباب التي أجرى الله
العادة بإفضائها إلى المسببات".
1 ورد في هذا الباب أحاديث كثيرة، أوردها الإمام أبو عبيد
القاسم بن سلام في كتابه القيم "الطهور" "رقم 201-204"،
وخرجتها بتفصيل ولله الحمد في التعليق عليه، وكذا في مسألة
رقم "38" من "الخلافيات"، منها ما أخرجه البخاري في
"صحيحه" "كتاب الوضوء، باب الماء الذي =
ج / 3 ص -196-
أدري
ما حقيقته؟"، وكان يضعفه ويقول: "يؤكل صيده؛ فكيف نكره
لعابه؟"1.
وإلى هذا المعنى أيضا يرجع قوله في حديث خيار المجلس2؛ حيث
قال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يغسل به شعر الإنسان، 1/ 274/ رقم 172"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، 1/ 234/ رقم
279" عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا ولغ الكلب في الإناء غسل
سبع مرات".
قال أبو عبيد في كتابه "الطهور" "ص270 - بتحقيقي" بعد أن
ساق الأحاديث: "وقد اختلف القول فيه على مالك في الكلاب؛
فحكى بعضهم عنه: إنه كان لا يجعل معنى هذا الحديث لكلاب
الصيد والماشية، يقول: إنما هذه مثل الهرة التي يقتنيها
الناس".
قال أبو عبيد: "وروي عنه قول آخر: إنه كان يعم به الكلاب
كلها". قال: "وكذلك القول عندنا على العموم بجميعها؛ لأنا
لا نخص إلا ما خصت السنة، ولم يأتنا عن النبي صلى الله
عليه وسلم فيه خصوصية شيء منها دون شيء؛ فهي عندنا على كل
الكلاب".
وانظر تفصيل مذهب مالك في "المدونة الكبرى" "1/ 5"،
و"الإشراف" "1/ 41-42" للقاضي عبد الوهاب، و"الاستذكار"
"1/ 262"، و"المنتقى" "1/ 73" للباجي، و"المقدمات" "1/ 91"
لابن رشد، و"بداية المجتهد" "1/ 21"، و"حاشية الدسوقي" "1/
83"، و"تفسير القرطبي" "6916"، و"أحكام القرآن" "3/
1422-1423" لابن العربي، و"الكافي" "1/ 161"، و"بذل
الإحسان" الجويني "2/ 177-178"، و"الشرح الصغير" "1/ 43"،
و"القوانين الفقهية" "45"، و"انتصار الفقير السالك"
"ص286"، و"الذخيرة" 1/ 183 - ط دار الغرب"، و"المعلم
بفوائد مسلم" "2/ 242".
1 فكان يضعف الحديث لمعارضته للقطعي، وهو طهارة فمه، ومع
ذلك؛ فما بال العدد، وما بال التراب، مع أنهما لا يراعيان
في غسل النجس؟ هذا وقد ظهر الوجه، وهو اكتشاف المادة
السمية في لعاب الكلب بسبب لعقه لدبره بلسانه كثيرا، وفي
برازه الجرثومة المرضية "الميكروب" الذي متى انتقل من
حيوان إلى آخر أضر به. "د". "استدارك 1".
2 يشير إلى حديث مضى لفظه "1/ 425"، وهو في "الصحيحين" عن
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
ج / 3 ص -197-
بعد
ذكره: "وليس لهذا عندنا حد معروف، ولا أمر معمول به فيه"1
إشارة إلى أن المجلس مجهول المدة، ولو شرط أحد الخيار مدة
مجهولة لبطل إجماعا؛ فكيف يثبت بالشرع حكم لا يجوز شرطًا
بالشرع؟2 فقد رجع إلى أصل إجماعي.
وأيضا؛ فإن قاعدة الغرر والجهالة قطعية، وهي تعارض هذا
الحديث3 الظني.
فإن قيل: فقد4 أثبت مالك خيار المجلس في التمليك5 قيل:
الطلاق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الموطأ" "2/ 671 - رواية يحيى". وانظر -لزاما-: "ترتيب
المدارك" "1/ 72"، و"تنقيح الفصول" "2/ 214" مع حاشية
الشيخ علي جعيط عليه، و"الإنصاف في أسباب الاختلاف" "ص10"
للدهلوي، و"أربع رسائل في علوم الحديث" ص"25-26" مع
التعليق عليه، وترجمة "الفضل بن زياد البغدادي" في "تاريخ
بغداد" "2/ 302"، و"طبقات الحنابلة" "1/ 251".
2 ولو كان جائزا أصله؛ لكان جائزا شرطه، كل شرط ليس في
كتاب الله؛ فهو رد. "د".
3 وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
"المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما للآخر:
اختر"، وربما قال:
"أو يكون بيع خيار" أخرجه الشيخان كما مضى "1/ 425"، والكلام مستوفى في هذا المقام في
"الاستذكار" "20/ 219-225"، و"التمهيد" "14/ 11 وما
بعدها"، و"الذخيرة" "5/ 20-23 - ط دار الغرب" للقرافي،
والتفريع" "2/ 171" لابن الجلاب، و"الإشراف" "1/ 249-250"
للقاضي عبد الوهاب، و"انتصار الفقير السالك" "ص222-225"
للراعي، و"إعلام الموقعين" "2/ 197-198 و4/ 22-23"،
و"المعلم" للمازري "2/ 167-168"، و"أحكام القرآن" "2/ 175"
للجصاص، و"القبس" "2/ 844-845"، و"فتح الباري "4/ 330"،
و"بداية المجتهد" "2/ 169"، و"حاشية الدسوقي" "3/ 81"،
و"البيوع والمعاملات المالية المعاصرة" "ص60" لمحمد يوسف
موسى، ط دار الكتاب العربي -مصر، ط الثانية، سنة 1954م.
4 في "ط": "قد".
5 تمليك الزوج لزوجته عصمتها؛ فله الرجوع ما دام في
المجلس. "د".
ج / 3 ص -198-
يعلق
على الغرر، ويثبت في المجهول1؛ فلا منافاة بينهما، بخلاف
البيع.
ومن ذلك أن مالكًا أهمل اعتبار حديث:
"من مات وعليه صوم؛ صام عنه وليه"2،
وقوله:
"أرأيت لو كان على أبيك دين؟"3 الحديث؛ لمنافاته للأصل القرآني الكلي4، نحو قوله:
{أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 38، 39]، كما اعتبرته عائشة في حديث ابن عمر5.
وأنكر مالك حديث إكفاء القدور التي طبخت من الإبل والغنم
قبل القسم6 تعويلًا على أصل رفع الحرج الذي يعبر عنه
بالمصالح المرسلة؛ فأجاز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإنه يصح أن يطلقها على ما في قبضة يدها وهو مجهول،
بخلاف البيع؛ فالجهل فيه ضار، وما قاله المصنف هو جواب ابن
العربي في "القبس" "2/ 845"، وقال عقبه: "ولو لم يكن في
هذا "القبس" إلا هذه المشكاة؛ لكفاه".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب من مات
وعليه صوم، 4/ 192/ رقم 1952"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب
الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، 2/ 803/ رقم 1147" عن
عائشة رضي الله عنها.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب جزاء الصيد، باب الحج
والنذور عن الميت، 4/ 64/ رقم 1852" عن ابن عباس رضي الله
عنهما.
4 الشامل للصيام وغيره من أنواع العبادات، وهو قطعي أيضا
مبثوث في الشريعة. "د".
5 مضى تخريجه "ص190".
6 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب
الشركة، باب قسمة الغنم، 5/ 131/ رقم 2488، وكتاب الذبائح،
باب ما ند من البهائم فهو بمنزلة الوحش، 9/ 638/ رقم
5509"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب جواز الذبح
بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر، 3/ 1758/ رقم 1968" عن
رافع بن خديج؛ قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
بذي الحليفة من تهامة، فأصبنا غنما وإبلا، فعجل القوم،
فأغلوا بها القدور، فأمر بها فكفئت، ثم عدل عشرا من الغنم
بجزور". لفظ مسلم.
ج / 3 ص -199-
أكل
الطعام1 قبل القسم2 لمن احتاج إليه، قاله ابن العربي3.
ونهى عن صيام ست من شوال مع ثبوت الحديث4 فيه؛ تعويلًا على
أصل5 سد الذرائع6.
ولم يعتبر في الرضاع خمسًا ولا عشرًا؛ للأصل7 القرآني في
قوله:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الطعام نوعان: إبل ذبحت أو غنم ذبحت من الغنيمة قبل
قسمها، وهذه هي التي ورد فيها الأمر بإكفاء القدور، وأنه
صلى الله عليه وسلم جعل يمرغ اللحم في التراب، وهذا هو محل
الخلاف بين مالك وغيره؛ فأجازه مالك تعويلا على الأصول
المرعية، ولم يعول على هذا الخبر لمخالفته تلك الأصول، أما
الطعام الآخر؛ كالشحم والزيت، والعسل؛ فإنه مباح بالنص
المؤيد بالقواعد، فقد وجد عبد الله بن المغفل جرابا من
الشحم في غزوة خيبر، واختص به بمحضره صلى الله عليه وسلم
ولم ينهه عن ذلك. "د".
قلت: وفعل ابن المغفل أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب
الخمس، باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب، 6/ 255/ رقم
3153"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الجهاد والسير، باب جواز
الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب، 3/ 1393/ رقم 1772".
2 أي: قسم الغنيمة بين الجيش. "ف".
3 في كتابه: "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" "2/
605-606".
4 وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
"من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال؛ كان كصيام الدهر"، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام باب استحباب صوم ستة أيام من
شوال إتباعًا لرمضان، 2/ 822/ رقم 1164" عن أبي أيوب
الأنصاري رضي الله عنه، وانظر ما سيأتي "4/ 106" وتعليقنا
عليه.
5 أي: وسد الذرائع أصل مقطوع به في بعض أنواعه، وتقدم أنه
ثلاثة أنواع. "د".
6 أي: الوسائل إلى المنهي عنه، وهو هنا ظن وجوبها، وقد شنع
الشوكاني في هذا تشنيعا شنيعا على مالك وأبي حنيفة؛ حتى
قال: "إن قولهما باطل، لا يصدر عن عاقل" ا. هـ. وما أجدره
بأن يقال له هذا القول، كما يعلم ذلك من مراجعة "الزرقاني
على الموطأ"، وكتاب "مجموع الأمير في فقه مالك". "د".
7 ليس هذا معارضا، إنما هو بيان للمجمل، أو تقييد للمطلق؛
فلعل له وجها غير =
ج / 3 ص -200-
{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ
الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23].
وفي مذهبه من هذا كثير.
وهو أيضا رأي أبي حنيفة؛ فإنه قدم خبر1 القهقهة في الصلاة
على القياس، إذ لا إجماع في المسألة.
ورد خبر2 القرعة؛ لأنه يخالف الأصول، لأن الأصول قطعية
وخبر الواحد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= هذا. "د".
قلت: نعم، له وجه آخر، بينه القرافي في "الذخيرة" "4/ 274-
ط دار الغرب"، قال في الرد على الشافعية المحتجين بقول
عائشة: "كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات
يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات؛ فتوفي عليه السلام وهو فيما
يقرأ من القرآن"، قال: "إن إحالته على القرآن الباقي بعده
عليه السلام يقتضي عدم اعتباره؛ لأنه لو كان قرآنا لتلي
الآن لقوله تعالى:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]"، ثم قال: "إذا ظهر ذلك بطل قول الشافعية: إن القرآن
مطلق والسنة مقيدة؛ فيحمل المطلق على المقيد".
1 وهو أن أعمى تردى في بئر والنبي عليه السلام يصلي
بأصحابه؛ فضحك بعضهم؛ فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة، قدم
أبو حنيفة هذا الخبر على القياس، قياس القهقهة في الصلاة
عليها خارج الصلاة، وهي لا تنقض الوضوء خارجها، وأيضا ليست
حدثا؛ لأنه ما يخرج من أحد السبيلين، قال الأحناف: لأن
القياس لا يصار إليه مع الدليل الخبري، وبعد؛ فهذا ليس من
موضع المسألة، وهو رد الظني لمخالفته القطعي، بل من العمل
بظني هو الخبر في مقابلة ظني هو القياس؛ لما أن رتبة
القياس متأخرة عن الخبر. "د".
قلت: وحديث القهقهة ضعيف؛ فهو من مرسل أبي العالية، وقد
خرجته ولله الحمد على وجه مستوعب في تعليقي على كتاب
"الخلافيات" للإمام البيهقي "المجلد الثاني، مسألة رقم 22،
حديث رقم 683 وما بعده".
2 الذي تضمن أنه صلى الله عليه وسلم أقرع بين ستة مماليك
أعتقهم سيدهم عند موته ولا مال له سواهم، فخرجت القرعة
لاثنين؛ فأجاز عتقهما وأبقى الأربعة أرقاء، ووردت القرعة
في غير حديث، وقد جمعها وتكلم عليها بكلام علمي محرر
الإمام ابن القيم في "الطرق الحكمية"، انظره بتحقيقنا
وهناك تخريجها، وانظر مذهب الحنفية في "تبيين الحقائق" "5/
271"، و"المبسوط" "15/ 7"، ومذهب المالكية في "الذخيرة"
"11/ 170 وما بعدها - ط دار الغرب".
ج / 3 ص -201-
ظني،
والعتق حل في هؤلاء العبيد، والإجماع منعقد على أن العتق
بعد ما نزل في المحل لا يمكن رده؛ فلذلك رده. كذا قالوا1.
وقال ابن العربي2: "إذا جاء خبر الواحد معارضًا لقاعدة من
قواعد الشرع؛ هل يجوز العمل به، أم لا؟ فقال أبو حنيفة: لا
يجوز العمل به، وقال الشافعي: يجوز، وتردد مالك في
المسألة".
قال: "ومشهور قوله والذي عليه المعول أن الحديث إن عضدته
قاعدة أخرى قال به، وإن كان وحده تركه".
ثم ذكر مسألة مالك في ولوغ الكلب؛ قال3: "لأن هذا الحديث
عارض أصلين عظيمين"
أحدهما:
قول الله تعالى:
{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}
[المائدة: 4].
الثاني:
أن علة الطهارة هي الحياة، وهي قائمة في الكلب.
وحديث العرايا4 إن صدمته قاعدة الربا عضدته قاعدة
المعروف".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "المبسوط" "7/ 75-76"، و"أحكام القرآن" للجصاص "2/
13"، وانظر للرد عليهم: "المغني" "12/ 275-277 - مع الشرح
الكبير"، و"الفروق" "4/ 112".
2 في كتابه "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" "2/ 812-813".
3 أي: تعليلا لقول مالك السابق: "جاء الحديث ولا أدري ما
حقيقته؟". "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب الرجل يكون
له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، 5/ 50/ رقم 2381"، ومسلم
في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب النهي عن المحاقلة
والمزابنة، 3/ 1174/ رقم 1536" عن جابر رضي الله عنه؛ قال:
"نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المخابرة والمحاقلة، وعن
المزابنة، وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، وأن لا تباع إلا
بالدينار =
ج / 3 ص -202-
وكذلك
لم يأخذ أبو حنيفة بحديث منع بيع الرطب بالتمر1 لتلك العلة
أيضا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والدرهم؛ إلا العرايا". لفظ البخاري.
وفي لفظ لمسلم في آخره: "ورخص في العرايا".
والعرايا: جمع "عرية"، سميت بذلك لأنها عريت عن حكم باقي
البستان، يعريها صاحبها غيره ليأكل ثمرتها، انظر "تحرير
ألفاظ التنبيه" "180" للنووي.
وذكر المصنف هذا الحديث كمثال تطبيقي على قوله: "إن عضدته
قاعدة أخر عمل به".
وانظر في المسألة: "الكافي" "2/ 654" لابن عبد البر،
و"التفريع" "2/ 150" لابن الجلاب.
1 أخرج مالك في "الموطأ" "2/ 624"، ومن طريقه الشافعي في
"مسنده" 2/ 159" وفي "الرسالة" "ص331-332"، والطيالسي في
"مسنده" "رقم 214"، وعبد الرزاق في "المصنف" "8/ 32"،
وأحمد في "مسنده" "1/ 279"، وأبو دواد السجستاني في "سننه"
"كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر/ رقم 3359"، والترمذي
في "جامعه" "أبواب البيوع، باب في النهي عن المحاقلة
والمزابنة، رقم 1225"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب
البيوع، باب اشتراء التمر بالرطب، 7/ 269"، وابن ماجه في
"السنن" "كتاب التجارات، باب بيع الرطب بالتمر، رقم 2284"،
والحميدي في "مسنده" "1/ 41"، وابن أبي شيبة في "المصنف"
"6/ 182 و14/ 204" وفي "مسنده" "ورقة 64 أ"، وأبو يعلى في
"مسنده" "2/ 68 و141"، والبزار في "مسنده" "ق208"،
والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "4/ 6"، والهيثم بن كليب
الشاشي في "مسنده" "ورقة 69ب"، والدورقي في "مسند سعد"
"رقم 111"، وابن الجارود في "المنتقى" "رقم 657"،
والدارقطني في "سننه" "3/ 49"، والخطابي في "غريب الحديث"
"2/ 225"، وابن جميع في "معجمه" "ص201"، والحاكم في
"المستدرك" "2/ 38 و43"، والخطيب البغدادي في "الفقيه
والمتفقه" "1/ 211"، والبيهقي في "السنن" "5/ 294"،
والبغوي في "شرح السنة" "8/ 78"، والضياء المقدسي في
"المختارة" "قسم 2/ 218" من طريق عبد الله بن يزيد بن زيد
أبي عياش؛ أن سعدا سئل عن البيضاء بالسلت؛ فكرهه، وقال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الرطب بالتمر،
فقال:
"أينقص التمر إذا يبس؟". قالوا: نعم. قال:
"فلا إذا". وإسناده
صحيح.
وأخرجه أحمد في "المسائل" "ص275 - رواية ابنه عبد الله" من
طريق ابن عيينة عن =
ج / 3 ص -203-
قال
ابن عبد البر1: "كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على
أبي حنيفة لردّه كثيرًا من أخبار الآحاد العدول"، قال:
"لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها ما اجتمع عليه من
الأحاديث ومعاني القرآن؛ فما شذ من ذلك ردّه وسماه شاذا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إسماعيل بن أمية عن عبد الله بن يزيد به.
قال الترمذي: "حسن صحيح"، وقال البزار: "وهذا الحديث لا
نعلم يروى عن سعد إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد"، وقال
الحاكم: "هذا حديث صحيح لإجماع أئمة النقل على إمامة مالك
بن أنس، وأنه محكم في كل ما يرويه من الحديث؛ إذ لم يوجد
في رواياته إلا الصحيح، خصوصا في حديث أهل المدينة"، ثم
قال: "والشيخان لم يخرجاه لما خشياه من جهالة زيد أبي
عياش"، وقال الخطابي في "معالم السنن" "5/ 35": "قد تكلم
بعض الناس في إسناد حديث سعد بن أبي وقاص"، وقال: "زيد أبو
عياش راويه ضعيف"، ثم قال: "وليس الأمر على ما توهمه، وأبو
عياش هذا مولى لبني زهرة معروف، وقد ذكره مالك في
"الموطأ"، وهو لا يروي عن رجل متروك الحديث بوجه، وهذا من
شأن مالك وعادته معلوم" ا. هـ.
وفي الحديث ذكره السيوطي في "الجامع الكبير" "2/ 216"، وفي
"الدر المنثور" "2/ 112"، وعزاه لمالك، وابن أبي شيبة،
وأبي داود، والترمذي، والنسائي، والشافعي، والبيهقي.
وقوله: "بالسلت" هو نوع من الشعير، رقيق القشر، صغار الحب،
وقوله: "أينقص الرطب؟"، قال الخطابي في "معالم السنن":
"هذا لفظه لفظ استفهام، ومعناه التقرير والتنبيه بكنه
الحكم وعلته لكي يكون معتبرا في نظائره، وإلا؛ لا يجوز أن
يخفى عليه صلى الله عليه وسلم أن الرطب إذا يبس نقص وزنه؛
فيكون سؤاله عنه سؤال تعرف واستفهام" ا. هـ.
وقال البغوي في "شرح السنة" "8/ 79": "وهذا الحديث أصل في
أنه لا يجوز بيع شيء من المطعوم بجنسه، وأحدهما رطب والآخر
يابس، مثل بيع الرطب بالتمر، وبيع العنب بالزبيب، واللحم
الرطب بالقديد، وهذا قول أكثر أهل العلم، وإليه ذهب مالك
والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وجوزه أبو حنيفة
وحده، وأما بيع الرطب بالرطب، وبيع العنب بالعنب؛ فلم
يجوزه الشافعي وجوزه الآخرون".
1 في كتابه "الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء"
"ص149".
ج / 3 ص -204-
وقد رد
أهل العراق مقتضى حديث1 المُصَرَّاة وهو قول مالك؛ لما
رآه2 مخالفا للأصول، فإنه قد خالف أصل3:
"الخراج بالضمان"4،
ولأن متلف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما ثبت عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تصروا الإبل والغنم، ومن ابتاعها؛ فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها؛
إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعا من تمر". أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا
يحفل الإبل والبقر، 4/ 361/ رقم 2150"، ومسلم في "صحيحه"
"كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، 3/ 1155/
رقم 1515، وباب حكم بيع المصراة، 3/ 1158-1159/ رقم 1524".
2 في الأصل و"ط": "لما رأياه"، ولا معنى لها.
3 فكان مقتضى هذا الأصل ألا يدفع شيئا ما؛ لأنه ضامن،
والغلة بالضمان، والأصل الآخر أن متلف الشيء... إلخ، وهو
يقتضي ألا يدفع في اللبن قل أو كثر صاعا، بل يدفع إما لبنا
بمقداره، أو يدفع القيمة بالغة ما بلغت، ولا يتقيد بالصاع
ولا بالتمر. "د".
4 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب البيوع والإجارات، باب
فيمن اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد به عيبا، 3/ 777-779/ رقم
3508-3510"، والترمذي في "جامعه" "أبواب البيوع، باب ما
جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ثم يجد به عيبا، 3/ 581-582/
رقم 1285"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب
الخراج بالضمان، 7/ 254-255"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب
التجارات، باب الخراج بالضمان، 2/ 754/ رقم 2242 و2243"،
وأحمد في "المسند" "6/ 49، 161، 208، 237"، والطيالسي في
"المسند" "رقم 1464"، والشافعي في "المسند" "رقم 479"،
وابن حبان في "الصحيح" "رقم 1125، 1126 - موارد"، وابن
الجارود في "المنتقى" "رقم 626، 627"، والطحاوي في "شرح
معاني الآثار" "4/ 21-22"، والدارقطني في "السنن" "3/ 53"،
الحاكم في "المستدرك" "2/ 15"، والبيهقي في "الكبرى" "5/
321"، والبغوي في "شرح السنة" "8/ 162-163"، وابن عدي في
"الكامل" "5/ 1702"، والخطيب في "التاريخ" "8/ 297-298" عن
عائشة، والحديث صحيح.
وكتب "د" هنا ما نصه:
وفسره الترمذي بأن يشتري الرجل العبد يستغله ثم يظهر به
عيب فيرده؛ فالغلة للمشتري لأن العبد لو هلك هلك في ضمانه،
ونحو هذا يكون فيه الخراج بالضمان. ا. هـ. يعني: وهو يقتضي
أن =
ج / 3 ص -205-
الشيء
إنما يغرم مثله أو قيمته، وأما غرم جنس آخر من الطعام أو
العروض؛ فلا1.
وقد قال مالك فيه: "إنه ليس بالموطأ ولا الثابت"2، وقال به
في القول الآخر شهادة بأنه له أصلًا متفقًا عليه يصح رده
إليه، بحيث لا يضاد هذه الأصول الأخر، وإذا ثبت هذا كله؛
ظهر وجه3 المسألة إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= اللبن للمشتري؛ فكيف يرد عنه الصاع من التمر؟ وقد أجيب
عنه أولا بأن حديث المصراة أقوى من حديث الخراج بالضمان،
وثانيا بأن اللبن المصرَّى كان حاصلًا قبل الشراء في
ضرعها؛ فليس من الغلة التي إنما تحدث عند المشتري، فلا
يستحقه المشتري بالضمان؛ فلا بد من قيمته، وإنما كانت
صاعًا محددًا، ومن تمر لما يعلم من مراجعة شرحه "نيل
الأوطار" "5/ 245" للشوكاني مبسوطا، ومن "إعلام الموقعين"
"1/ 367" موجزا مضبوطا؛ فلذلك قال بأن له أصلا متفقا عليه
لا يضاد هذه الأصول الأخر، والمعول عليه عند المالكية أنه
يرد صاعًا من غالب قوت البلد، وقالوا إن التمر في الحديث
لأنه كان غالب قوت المدينة، وسيأتي للمصنف كلام على شرح
الحديث، انظر: "ص437".
1 ذكر الحنفية ثمانية أوجه في مخالفة الحديث أصول الشريعة،
ذكرها العيني في "عمدة القاري" "11/ 270"، وصاحب "إعلاء
السنن" "13/ 60"، وانظر في مناقشتها: "فتح الباري" "4/
364-365"، و"شرح النووي على صحيح مسلم" "10/ 162"، و"شرح
السنة" "8/ 125" للبغوي، و"إعلام الموقعين" "1/ 367 وما
بعدها".
2 قال ابن العربي في "القبس" "2/ 852-853": "ومن غرائب
مذهبنا أن أشهب ذكر عنه في "العتبية" أنه "أي مالك" قال:
إن ردها لم يرد معها شيئا لأن الخراج بالضمان"، ثم قال:
"وهذا قول باطل"، وقال: وأشهب أجل قدرا من هذا فهما ودينا،
وإنما هي من مسائل "العتبية" التي لم تثبت فيها رواية،
وإنما هي منقولة من صحف ملفقة من البيوت، وفي مثلها قال
مالك: لا يجوز بيع كتب الفقه، يعني: القراطيس والأوراق
التي كانت تكتب عنه، فأما كتاب محصل مروي مضبوط بالفصول
والأصول؛ فإنه يجوز بيعه إجماعا". وانظر: "إعلام الموقعين"
"3/ 10 - ط دار الحديث".
3 في "ط": "ظاهر وجوه".
ج / 3 ص -206-
وأما
الرابع1، وهو الظني الذي لا يشهد له أصل قطعي ولا يعارض
أصلًا قطعيًّا؛ فهو في محل النظر، وبابه2 باب المناسب
الغريب؛ فقد يقال: لا يقبل لأنه إثبات شرع على غير ما عهد
في مثله، والاستقراء يدل على أنه غير موجود، وهذان يوهنان
التمسك به على الإطلاق؛ لأنه في محل الريبة؛ فلا يبقى مع
ذلك ظن ثبوته، ولأنه من حيث لم يشهد له أصل قطعي معارض
لأصول الشرع؛ إذ3 كان عدم الموافقة مخالفة، وكل ما خالف
أصلًا قطعيًّا مردود؛ فهذا مردود.
ولقائل أن يوجه الإعمال بأن العمل بالظن على الجملة ثابت
في تفاصيل الشريعة، وهذا فرد من أفراده، وهو وإن لم يكن
موافقًا لأصل؛ فلا مخالفة فيه أيضا، فإن عضد الرد عدم
الموافقة عضد القبول عدم المخالفة؛ فيتعارضان ويسلم أصل
العمل بالظن، وقد وجد منه في الحديث قوله عليه الصلاة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا كالمناسب المرسل الذي لم يدل الدليل على اعتباره
ولا على إلغائه؛ فقد علل به مالك ومن تبعه، ورده الأكثرون.
"ف".
2 أي أن شبيه به، وهو ما ثبت اعتبار عينه في عين الحكم
بمجرد ترتيب الحكم على وفقه، لكن لم يثبت بنص أو إجماع
اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه في
جنس الحكم، وإلا؛ لكان ملائما، وإنما ثبت بالقياس، ومثاله
أن يقال في البات في مرض الموت لئلا ترث زوجته: يعارض
بنقيض قصده؛ فترث قياسًا على القاتل ليرث؛ فحكم بعدم إرثه،
والجامع كونهما فعلا محرما لغرض فاسد؛ فهو مناسب غريب في
ترتيب الحكم عليه مصلحة، وهو زجرهما عن الفعل الحرام، لكن
لم يشهد له أصل بالاعتبار على الوجه المتقدم، بل إنما ثبت
بالقياس المشار إليه، وبهذا البيان تفهم أن معنى قوله:
"وقد وجد منه في الحديث... إلخ"؛ أي: وجد من القسم الرابع
حديث:
"القاتل لا
يرث"؛ فإنه ظني، لم يشهد له ولم يرده أصل قطعي، وليس الغرض أن الحديث من
باب المناسب الغريب، يعني: وحيث كان ما هنا شبيها به في
وجهي الإعمال والإهمال وأدلة كل، وقد اعتبر العلماء المشبه
به في باب القياس؛ فليكن شبهه هنا معتبرا في الأدلة. "د".
3 في "ط": "إذا".
ج / 3 ص -207-
والسلام:
"القاتل لا يرث"1،
وقد أعمل العلماء المناسب الغريب في أبواب القياس، وإن كان
قليلا في بابه، فذلك غير ضائر إذا دلّ الدليل على صحته.
فصل:
واعلم أن المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي ليس
بإقامة2 الدليل القطعي على صحة العمل به؛ كالدليل على أن
العمل بخبر الواحد أبو بالقياس واجب مثلا، بل المراد ما هو
أخص3 من ذلك؛ كما تقدم في حديث:
"لا ضرر ولا ضرار"4
والمسائل المذكورة معه، وهو5 معنى مخالف للمعنى الذي قصده
الأصوليون، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 521"، وهو صحيح.
2 في "ط": إقامة".
3 لأن الغرض هنا أن يتفق في معناه مع مقطوع به، وهذا أخص
مما عناه الأصوليون؛ لأنه قد يكون معنى الخبر غير متفق مع
مقطوع بخصوص معناه، ولكنه من حيث العمل به يعد مقطوعًا به
لدخوله تحت قاعدة مقطوع بها، وهي العمل بخبر الواحد؛ فخبر
القاتل لا يرث يقال: إنه راجع إلى قطعي بالمعنى الذي عناه
الأصوليون لا بالمعنى المراد هنا؛ لأنه لم يتفق في معناه
مع مقطوع به يؤيده؛ فلذا كان ما هنا أخص. "د".
4 مضى تخريجه "2/ 72"، وهو حديث صحيح بشواهده.
5 في "ف": "وهي".
ج / 3 ص -208-
المسألة الثالثة:
الأدلة
الشرعية لا تنافي قضايا العقول1، والدليل على ذلك من وجوه:
أحدها2:
أنها لو نافتها؛ لم تكن أدلة للعباد على حكم شرعي ولا
غيره، لكنها أدلة باتفاق العقلاء؛ فدل [على]3 أنها جارية
على قضايا العقول، وبيان ذلك أن الأدلة إنما نصبت في
الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين؛ حتى يعملوا بمقتضاها من
الدخول تحت أحكام التكليف، ولو نافتها؛ لم تتلقها فضلا
[عن]4 أن تعمل بمقتضاها، وهذا معنى كونها خارجة5 عن حكم
الأدلة، ويستوي في هذا الأدلة المنصوبة على الأحكام
الإلهية وعلى الأحكام التكليفية.
والثاني6:
أنها لو نافتها؛ لكان التكليف بمقتضاها تكليفا بما لا
يطاق، وذلك من جهة التكليف بتصديق ما لا يصدقه العقل ولا
يتصوره، بل يتصور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أحكام العقول السليمة الراجحة دون السقيمة المدخولة؛
فإنه لا عبرة بها. "ف".
قلت: انظر بسط ما عند المصنف وأدلة أخرى في هذا المعنى:
"درء تعارض العقل والنقل" لابن تيمية، و"الصواعق المرسلة"
"3/ 796 وما بعدها"، و"شرح الكوكب المنير" "1/ 52"،
و"العبادي على شرح الورقات" "48"، و"المحلى على جمع
الجوامع" "1/ 124"، و"الإحكام" "1/ 9"، و"العضد على ابن
الحاجب" "1/ 36"، و"المسودة" "573"، و"إرشاد الفحول". "5".
2 هكذا في الأصل و"م" و"ف"، وفي "د": "أحدهما".
3 و4 الزيادتان من "م" و"ط" فقط.
5 أي: الذي هو التالي في الشرطية، وهو قوله: "لم تكن
أدلة". "د".
6 هذا ظاهر في أدلة الأحكام الإلهية والاعتقادات، أما
الأحكام العملية؛ فليس المطلوب بها التصديق، بل مجرد
العمل، وبقية الوجوه يمكن أن تكون كالأول يستوي فيها أدلة
الاعتقادات والعمليات. "د".
ج / 3 ص -209-
خلافه
ويصدقه، فإذا كان كذلك؛ امتنع على العقل التصديق ضرورة،
وقد فرضنا ورود التكليف المنافي التصديق، وهو معنى تكليف
ما لا يطاق، وهو باطل حسبما هو مذكور في الأصول.
والثالث:
أن مورد التكليف هو العقل، وذلك ثابت قطعًا بالاستقراء
التام؛ حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسًا، وعد فاقده
كالبهيمة المهملة، وهذا واضح في اعتبار تصديق1 العقل
بالأدلة في لزوم التكليف، فلو جاءت على خلاف ما يقتضيه؛
لكان لزوم التكليف على العاقل أشد2 من لزومه على المعتوه
والصبي والنائم؛ إذ لا عقل لهؤلاء يصدق أو لا يصدق، بخلاف
العاقل الذي يأتيه ما لا يمكن تصديقه به، ولما كان التكليف
ساقطًا عن هؤلاء؛ لزم أن يكون ساقطًا عن العقلاء أيضا،
وذلك مناف لوضع الشريعة؛ فكان ما يؤدي إليه باطلًا.
والرابع:
أنه لو كان كذلك لكان الكفار أول من رد الشريعة به3
لأنهم كانوا في غاية الحرص على رد ما جاء به رسول الله صلى
الله عليه وسلم، حتى كانوا يفترون عليه وعليها؛ فتارة
يقولون: ساحر، وتارة: مجنون، وتارة يكذبونه، كما كانوا
يقولون في القرآن: سحر، وشعر، وافتراء، وإنما يعلمه بشر،
وأساطير الأولين، بل كان أولى ما يقولون: إن هذا لا يعقل،
أو هو مخالف للعقول، أو ما أشبه ذلك، فلما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: اعتبار تمكن العقل من التصديق بالأدلة؛ أي: ولا يكون
ذلك إلا إذا كانت الأدلة في ذاتها صالحة لأن يصدق العقل
بها بألا تتنافى مع قضاياه، هذا، أما التصديق بالفعل؛
فظاهر أنه لا يعتبر. "د".
2 لأن العاقل عنده نفس العقل يضاد التكليف ويمنعه؛ لأنه
يصادمه ويعقل خلافه، بخلاف المجنون مثلا؛ فليس عنده تعقل
له ولا لخلافه؛ فالذي عنده أنه غير مستعد للتكليف، أما
العاقل؛ فمستعد لخلافه، وفرق بين من فقد آلة الشيء ومن
تسلح بآلة ضده؛ فبعد الثاني عنه آكد وأقوى. "د".
3 في "ط": "الكفار أولى... بهم".
ج / 3 ص -210-
لم يكن
من ذلك شيء؛ دلَّ على أنهم عقلوا ما فيه، وعرفوا جريانه
على مقتضى العقول؛ إلا أنهم أبوا من اتباعه لأمور أخر حتى
كان من أمرهم ما كان، ولم يعترضه أحد بهذا المدعى؛ فكان
قاطعا في نفيه عنه.
والخامس:
أن الاستقراء دل على جريانها على مقتضى العقول، [بحيث
تصدقها العقول]1 الراجحة، وتنقاد لها طائعة أو كارهة2، ولا
كلام في عناد معاند، ولا في تجاهل متعام، وهو المعنى
بكونها جارية على مقتضى العقول، لا أن العقول حاكمة عليها،
ولا محسنة فيها ولا مقبحة، وبسط هذا الوجه مذكور في كتاب
المقاصد3 في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام.
فإن قيل: هذه دعوى عريضة، يصد عن القول بها غير ما وجه:
أحدها:
أن في القرآن ما لا يعقل معناه أصلا؛ كفواتح السور،
فإن الناس قالوا: إن في القرآن ما يعرفه الجمهور، [وفيه ما
لا يعرفه إلا العرب، وفيه ما لا يعرفه إلا العلماء
بالشريعة]4، وفيه ما لا يعلمه إلا الله5؛ فأين جريان هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 أي: راغبة في ذلك بدون سبق عناد، أو مع سبقه، والكره غير
الإكراه الذي لا يتأتى معه التصديق والانقياد العقلي،
وقوله: "تصدقها" ظاهر في الاعتقاديات، وقوله: "وتنقاد لها"
ظاهر في العمليات على رأي أهل السنة، أما على مذهب
المعتزلة؛ فيجريان فيها معا بوضوح، وتكون العقول مصدقة
لحسن مقتضى هذه الأدلة، بحيث تكون الأدلة ملائمة لما يدركه
العقل من الحسن، وعلى رأي أهل السنة يمكن أن يكون انقياد
العقول جاريا في أدلة العمليات أيضا على معنى أنها تدرك
بوجه عام أن الشريعة على وجه مطرد لم تجئ إلا لمصلحة
العباد الدنيوية أو الأخروية، سواء أدركت خصوص المصلحة في
الحكم الخاص أو لم تدركها؛ فهذا معنى انقيادها، وقوله: "لا
أن... إلخ"؛ أي: على خلاف للمعتزلة في ذلك. "د".
3 انظر: تعليقنا على "1/ 127-130".
4 ما بين المقعوفتين سقط من الأصل.
5 ومنه فواتح السور، وهذا القسم غير قسم المتشابهات؛ لأن
المتشابهات تدرك بوجه إلا أنها تشتبه، أما هذا فلا يدرك
معناه أصلا؛ فظهر وجه كون الثاني وجهًا مغايرًا للأول،
وقوله: "كالمتشابهات... إلخ" على ترتيب اللف، وقوله: "فلا
تفهمها أصلا" راجع للأصولية على رأي، وقوله: "أو لا
يفهمها... إلخ" راجع للفروعية على الرأي المتقدم أو
للمتشابهات مطلقا على الرأي الآخر. "د". والمثبت من "ط"،
وفي غيره: "ما لا يعرفه..."!!
ج / 3 ص -211-
القسم
على مقتضى العقول؟
والثاني:
أن في الشريعة متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس، أو
لا1 يعلمها إلى الله تعالى؛ كالمتشابهات الفروعية،
وكالمتشابهات الأصولية، ولا معنى لاشتباهها إلا أنها
تتشابه على العقول؛ فلا تفهمها أصلًا، أو لا1 يفهمها إلا
القليل، والمعظم مصدودون عن فهمها؛ فكيف يطلق القول
بجريانها على فهم العقول؟
والثالث:
أن فيها أشياء اختلفت على العقول حتى تفرق الناس بها
فرقا، وتحزبوا أحزابا، وصار كل حزب بما لديهم فرحون،
فقالوا فيها أقوالا كل على مقدار2 عقله ودينه؛ فمنهم من
غلب عليه هواه حتى أداه ذلك إلى الهلكة؛ كنصارى نجران حين
اتبعوا في القول بالتثليث؛ قول الله تعالى:
{فَعَلْنَا}، و{قَضَيْنَا}، و{خَلَقْنَا}3، ثم [من]4 بعدهم من أهل الانتماء إلى الإسلام، الطاعنين على
الشريعة بالتناقض والاختلاف، ثم يليهم سائر الفرق الذين
أخبر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك ناشئ عن
خطاب يزل به5 العقل كما هو الواقع، فلو كانت الأدلة جارية
على تعلقات6 العقول؛ لما وقع في الاعتياد هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "ولا".
2 في "ط": "قدر".
3 انظر: "الاعتصام" "2/ 739 - ط دار ابن عفان"، و"مجموع
فتاوى ابن تيمية" "13/ 276"، وسيأتي تفصيل ذلك مع تخريجه
"ص316".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
5 أي: يضعف عن فهمه. "د". وفي "ط": "يزل فيه".
6 كذا في "ط"، وفي غيره: "تعقلات".
ج / 3 ص -212-
الاختلاف، فلما وقع؛ فهم أنه من جهة ماله خروج عن المعقول
ولو بوجه ما.
فالجواب عن الأول أن فواتح السور للناس في تفسيرها مقال1
بناء على أنه مما يعلمه العلماء، وإن قلنا: إنه مما لا
يعلمه العلماء ألبتة؛ فليس مما يتعلق به تكليف على حال،
فإذا خرج عن ذلك؛ خرج عن كونه دليلًا على شيء من الأعمال،
فليس مما نحن فيه، وإن سلم؛ فالقسم الذي2 لا يعلمه إلا
الله تعالى في الشريعة نادر، والنادر لا حكم له، ولا تنخرم
به الكلية المستدل عليها أيضا؛ لأنه مما لا يهتدي العقل
إلى فهمه، وليس كلامنها فيه، إنما الكلام على ما يؤدي
مفهومًا لكن على خلاف المعقول، وفواتح السور خارجة عن ذلك؛
لأنا نقطع أنها لو بينت لنا معانيها؛ لم تكن إلا على مقتضى
العقول، وهو المطلوب.
وعن الثاني3 أن المتشابهات ليست مما تعارض مقتضيات العقول
وإن توهم بعض الناس فيها ذلك؛ لأن من توهم فيها ذلك؛ فبناء
على اتباع هواه، كما نصت عليه الآية قوله تعالى:
{فَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهي مما يعقل معناه، وقوله: "ليس مما يتعلق به تكليف
على حال"؛ أي: لا بأمر عملي ولا بأمر اعتقادي، وقوله: "على
شيء من الأعمال"؛ أي: القلبية أو البدنية، وقوله: "وإن
سلم"؛ أي: إن سلم كونها من الأدلة، فمع كونها نادرة لا
تنافي هذا الأصل لأنها ليست مؤدية لمعنى يفهم العقل أنه
على خلاف قضاياه؛ فقوله: "ولا تنخرم... إلخ" هو روح الجواب
بالتسليم. "د".
2 هكذا في "د" و"ف" و"ط"، وهي ليست في الأصل، وفي "م":
"الثاني الذي".
3 أدمج فيه الجواب عن الثالث؛ لأن مبنى الاعتراضيين
متقارب، فإن اختلاف الإخبار بالمعاني المتعددة واختلاف
العقول فيها إنما جاء من تشابهها على العقول حتى تفرقت
فيها؛ فلذلك قال: "وهذا كما يأتي في الجملة الواحدة...
إلخ"، وهو تمهيد للجواب عن الثالث، وإن لم يعنون له بعنوان
خاص؛ إلا أن الاشتباه الذي يكون بين الإخبار بالمعاني
المتعددة كما سيذكر أمثلته لا يتناوله الفرض الثاني في
كلامه؛ فلا يدخل فيما لا يعلمه إلا الله؛ فقوله: "وهذا كما
لا يأتي... إلخ" ليس المراد به كل ما تقدم، بل ما يصلح
لذلك، وهو خصوص أن التأويل فيها يرجع بها إلى معقول موافق
بخلاف قوله: "وإن فرض أنها... إلخ". "د".
ج / 3 ص -213-
مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] لا أنه بناء على أمر صحيح، فإنه إن كان كذلك؛
فالتأويل فيه راجع إلى معقول موافق لا إلى مخالف، وإن فرض
أنها مما لا يعلمها أحد إلا الله فالعقول عنها مصدودة
لأمر1 خارجي لا لمخالفته لها، وهذا كما يأتي في الجملة
الواحدة؛ فكذلك يأتي في الكلام المحتوي على جمل كثيرة
وأخبار بمعان كثيرة، ربما يتوهم القاصر النظر فيها
الاختلاف، وكذلك الأعجمي الطبع2 الذي يظن بنفسه العلم بما
ينظر فيه وهو جاهل به، ومن هنا كان احتجاج نصارى نجران في
التثليث، ودعوى الملحدين على القرآن والسنة التناقض
والمخالفة للعقول، وضموا إلى ذلك جهلهم بحكم التشريع،
فخاضوا حين لم يؤذن لهم في الخوض، وفيما لم يجز لهم الخوض
فيه؛ فتاهوا، فإن القرآن والسنة لما كان عربيين لم يكن
لينظر فيهما إلا عربي، كما أن من لم يعرف مقاصدهما لم يحل
له أن يتكلم فيهما؛ إذًا لا يصح له نظر حتى يكون عالمًا
بهما، فإنه إذا كان كذلك؛ لم يختلف عليه شيء3 من الشريعة.
ولذلك مثال يتبين به المقصود، وهو أن نافع بن الأزرق4 سأل
ابن عباس؛ فقال له:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "لمعنى".
2 قيد به لأن نصارى نجران كانوا عربا لا عجما، ولكن غلبت
عليهم تعابير الأعاجم المجاورين لهم حتى لم يفهموا أن لفظ
"نا" كما يكون للجماعة يكون للواحد المعظم نفسه. "د".
3 أي؛ فالاختلاف منشؤه أحد أمرين: ضعف في اللغة العربية
واستعمالاتها، أو جهل بمقاصد الشريعة، أو هما معا. "د".
4 "مسائل نافع بن الأزرق" لابن عباس، أوردها السيوطي في
كتابه "الإتقان" "1/ 120-133"، قال في أولها بعد أن ساق
الإسناد من طريق الطستي إلى عبد الله بن أبي بكر بن محمد
عن أبيه؛ قال: بينما عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة
قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن؛ فقال نافع بن
الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على
تفسير القرآن بما لا علم له به. فقاما إليه؛ فقالا: إنا
نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله؛ فتفسرها لنا،
وتأتينا =
ج / 3 ص -214-
"إني أجد في القرآن أشياء تختلف1 علي. قال:
{فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بمصادفة من كلام العرب؛ فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن
بلسان عربي مبين. فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما..."
وذكرها.
قال السيوطي بعد ذلك "1/ 133": "هذا آخر مسائل نافع بن
الأزرق، وقد حذفت منها يسيرا نحو بضعة عشر سؤالا، وهي
أسئلة مشهورة، أخرج الأئمة أفرادا منها بأسانيد مختلفة إلى
ابن عباس"، ثم بين أن هذه المسائل قد أودعها بعضهم قديما
في مصنفاتهم؛ فقال: "وأخرج أبو بكر بن الأنباري في كتاب
"الوقف والابتداء" ["1/ 76-98"] منها قطعة، قال: حدثنا بشر
بن أنس أنبأ محمد بن علي بن الحسن بن شقيق أنبأنا أبو صالح
هدبة بن مجاهد أبنأنا مجاهد بن شجاع أنبأنا محمد بن زيد
اليشكري عن ميمون بن مهران؛ قال: دخل نافع بن الأزرق
المسجد..."؛ فذكره.
وأخرج الطبراني في "معجمه الكبير" ["10/ 304-312/ رقم
10597"] منها قطعة، من طريق جويبر عن الضحاك عن مزاحم؛
قال: "خرج نافع بن الأزرق... فذكره".
قلت: وانظرها في "مجموع الزوائد" "6/ 303-310 و9/
278-284"، وقد أفردها محمد فؤاد عبد الباقي ورتبها على
حروف المعجم، وألحقها بآخر كتابه "معجم غريب القرآن"
"ص238-292"، وقام بدراستها اعتمادا على النص الوارد في
"الإتقان" كل من أبي تراب الظاهري في "شواهد القرآن"
وعائشة عبد الرحمن في "الإعجاز البياني للقرآن" "القسم
الثاني"، ومن هذه المسائل نسخة عتيقة مصورة في دار الكتب
الظاهرية بدمشق، تحت رقم "3849" تحتوي على روايتين لها،
وتختلف عما أورده السيوطي في "الإتقان".
والمذكور من الأسئلة أخرجه البخاري في "صحيحه" "8/ 555-556
- مع الفتح" معلقا، ثم وصله بقوله: "حدثنيه يوسف بن عدي
حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال
بهذا".
وانظر: "فتح الباري" "8/ 559"، و"الاعتصام" "2/ 825 وما
بعدها - ط دار ابن عفان".
1 هذا المثال ظاهر فيه أن الاختلاف جاء من السبب الثاني،
وهو عدم معرفة مقاصد القرآن؛ فاختلفت عليه الآيات، ويبقى
الكلام في أن نافعا؛ هل كان من الطاعنين، أم طلب أن يزيل
شبها طرأت عليه بسبب عدم فهمه المقاصد؟ فيدخل سؤاله في قسم
ما أشكل على الطالبين، وظاهر قوله: "وهكذا سائر ما ذكره
الطاعنون... إلخ" أنه من القسم الأول؛ فلينظر: هل كان نافع
من الخوارج؟ ولين ابن عباس معه لا يدل على الواقع من ذلك،
ثم رأيت المؤلف في "الاعتصام" ["2/ 727 - ط دار ابن عفان"]
يحكي عن الخوارج إلى أن قال: "ثم رجع عبادة بن قرط من
القتال يريد الصلاة، فإذا هو بالأزارقة وهم صنف من
الخوارج"، هذا وقد عبر البخاري عن السائل برجل؛ فاتفق
الشراح على أنه نافع بن الأزرق، وفي "شرح القسطلاني"
لأحاديث السجدة أنه صار بعد أسئلته لابن عباس رئيس
الأزارقة من الخوارج"؛ فاجتمع الكلام أوله وآخره. "د".
ج / 3 ص -215-
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27].
{وَلا
يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}
[النساء: 42].
{رَبِّنَا مَا
كُنَّا مُشْرِكِينَ}
[الأنعام: 23]؛ فقد كتموا في هذه الآية.
وقال:
{بَنَاهَا،
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا...}
إلى قوله
{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 28-30]؛ فذكر خلق السماء قبل [خلق] الأرض.
ثم قال:
{أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ
فِي يَوْمَيْنِ...} إلى أن قال:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} الآية [فصلت: 9-11]؛ فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء.
وقال:
{وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}
[الفرقان: 70]،
{عَزِيزًا حَكِيمًا}،
{سَمِيعًا بَصِيرًا}؛
فكأنه كان ثم مضى.
فقال ابن عباس:
{فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ}
[المؤمنون: 101] في النفخة الأولى ينفخ1 في الصور؛
{فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]؛ فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة
الآخرة:
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}
[الصافات: 27].
وأما قوله:
{مَا
كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]،
{وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]؛ فإن الله يغفر لأهل الأخلاص ذنوبهم، فقال المشركون:
تعالوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من "ط".
ج / 3 ص -216-
نقول:
"ما كنا مشركين"؛ فختم على أفواههم، فتنطق أيديهم؛ فعند
ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده
{يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ
تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} [النساء: 42].
وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء
فسواهن في يومين آخرين، ثم دحا الأرض؛ أي: أخرج الماء
والمرعى، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين؛ فخلقت
الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السماوات في
يومين، وكان الله غفورا رحيما سمى نفسه ذلك، وذلك قوله؛
أني1 لم أزل كذلك؛ فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي
أراد، فلا يختلف عليك القرآن؛ فإن كلا من عند الله".
هذا تمام ما قال في الجواب.
وهو يبين أن جميع ذلك معقول إذا نزل منزلته، وأتى من بابه،
وهكذا سائر ما ذكر الطاعنون، وما أشكل على الطالبين، وما
وقف فيه الراسخون،
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافًا كَثِيرًا}
[النساء: 82].
وفي كتاب الاجتهاد من ذلك بيان كافٍ والحمد لله، وقد ألف
الناس2 في رفع التناقض والاختلاف عن القرآن والسنة كثيرا،
فمن تشوف إلى البسط ومد الباع وشفاء الغليل؛ طلبه في
مظانه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط" وفي غيره: "أي".
2 من المؤلفات في ذلك "مشكل الآثار"، و"شرح معاني الآثار"،
كلاهما للطحاوي، وهما في الأحاديث والآثار، ودفع إيهام
الاضطراب، للشنقيطي، وهو في الآيات التي في ظاهرها اضطراب،
وهو مطبوع آخر" أضواء البيان"، ومفردًا وهو من نفائس
الكتب.
ج / 3 ص -217-
المسألة الرابعة1:
المقصود من وضع الأدلة تنزيل أفعال المكلفين على حسبها،
وهذا لا نزاع فيه؛ إلا أن أفعال المكلفين لها اعتباران:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة ترتبط بمسألة: "يستحيل كون الشيء الواحد
واجبًا حرامًا من جهة واحدة"، وبمسألة: "إذا أمر بفعل
مطلق؛ فالمطلوب... إلخ" المذكورتين في الأصول، راجع ابن
الحاجب وما كتب عليه، يريد المؤلف أن يبسط المقام ويبين
سبب اختلافهم في مثل صحة الصلاة في الدار المغصوبة؛ فمهد
أولا ببيان الاعتبارين: العقلي والخارجي، ثم ردد الكلام في
أن متعلق التكليف الجهة العقلية أو الخارجية، ولا يعني أن
المطلوب تحصيله هو نفس الأمر العقلي لأن هذا وإن قيل به،
فله معنى آخر غير ما يتبادر منه، وإلا؛ لكان تكليفًا
بالمحال، بل غرضه ما صرح به بعد بقوله: "إذا أوقعنا الفعل
في الخارج عرضناه على المعقول الذهني؛ فإن صدق عليه صح،
وإلا فلا".
وقوله أيضا في أثناء الأدلة، وهو: "دليل على أن المعتبر ما
يصدق عليه صلاة في الجملة"، ولما تم له التمهيد ببيان
الاعتبارين؛ قال: "إن هذا هو منشأ الخلاف في مسألة الصلاة
في الدار المغصوبة"، يعني فيمن قال: إن قصد الشارع بالأمر
مثلا منصرف إلى المعقول الذهني، يبني عليه أنه إذا فعل
المأمور به مستوفيًا لشرائطه وأركانه التي اعتبرت له في
الذهن؛ كان صحيحًا بقطع النظر عما يلابسه من الصفات
الخارجية، وسواء أكانت الصفات الخارجيه الزائدة عن المقعول
من الحقيقة الشرعية فيها مفسدة تقتضي النهي أم ليس فيها؛
صح المأمور به لأن قصد الشارع قد حصل بهذا المقدار، وكفى،
وذلك لأن هذا المقدار الذهني الذي قصد إليه الشارع واحد
بالشخص لا تعدد فيه، وذو جهة واحدة لا تعدد فيها؛ لأن
التعدد إنما يجيء من اعتبار الكيفيات والأحوال الخارجية،
والشارع إنما ينظر إليه من جهة حقيقته العقلية الشرعية،
وهي شيء واحد، وحينئذ يستحيل -بناء على القاعدة الأصولية-
أن يتعلق بها وجوب وحرمة معًا؛ فمثلا الصلاة في المكان
المغصوب صحيحة متى استوفت ما راعاه الشارع في حقيقتها من
أركان وشروط ولا نظر إلا ما تعلق بها في الخارج من وصف هو
مفسدة تقتضي النهي؛ لأنه إنما جاء من الكيفيات والأحوال
الخارجية الزائدة عن الحقيقة الشرعية؛ فلا يعتبر جزءًا من
المأمور به حتى يكون العمل تكوّن من جزء صحيح وجزء فاسد؛
فيقتضي فساد المجموع هذا، وأما إذا قلنا: إن منصرف الأدلة
إلى الأفراد الخارجية لهذا المعقول الذهني، ومعروف أنها لا
تتحقق إلا بهيئات وكيفيات تكون داخلة في حقيقة تلك
الأفراد، =
ج / 3 ص -218-
اعتبار
من جهة معقوليتها.
واعتبار من جهة وقوعها في الخارج.
وبيان ذلك أن الفعل المكلف به أو بتركه أو المخير فيه
يعتبر من جهة ماهيته مجردا عن الأوصاف الزائدة عليها
واللاحقة لها؛ كانت تلك الأوصاف لازمة أو غير لازمة، وهذا
هو الاعتبار العقلي، ويعتبر من جهة ماهيته بقيد الاتصاف
بالأوصاف الزائدة اللاحقة في الخارج1، لازمة أو غير لازمة،
وهو الاعتبار الخارجي؛ فالصلاة المأمور بها مثلًا يتصور
فيها هذان الاعتباران، وكذلك الطهارة، والزكاة، والحج،
وسائر العبادات والعادات من الأنكحة والبيوع والإجارات
وغيرها، ويظهر الفرق بين الاعتبارين فيما إذا نظر إلى
الصلاة في الدار المغصوبة، أو الصلاة التي تعلق بها شيء من
المكروهات والأوصاف التي تنقص من كمالها، وكذلك سائر
الأفعال.
فإذا صح الاعتباران عقلا؛ فمنصرف الأدلة إلى أي الجهتين
هو، ألجهة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أو لازمة لوجودها؛ كما يقولون في جزئي أي نوع، كما في
زيد مثلا: كل مشخصاته الزائدة عن حقيقته النوعية معتبرة
جزءًا منه أو كجزء -إذا قلنا ذلك- لزم أن كل ما اقترن به
المأمور به في الخارج من كيفيات وأحوال، معتبرة فيه جزءًا
له أو كجزء؛ ففي مثل الصلاة في مكان مغصوب يعتبر الشرع
الانتفاع بالمغصوب كجزء من الصلاة، فتكون قد تكونت من جزء
صحيح وجزء فاسد؛ فتكون فاسدة، وهكذا كل مأمور به اقترن به
في الخارج ما فيه مفسدة يكون فاسدًا، على ما سيفصله المؤلف
في الفصل التالي من الكلام في الأوصاف السلبية والوجودية.
وبهذا البيان تتضح المسألة، ويظهر انسجام أدلتها على كل من
هذين النظرين، وتظهر غزارة مادة المؤلف وعلو كعبه في هذا
الفن رحمه الله، وسيأتي للمؤلف في المسألة الثالثة في
الأوامر والنواهي ما يساعدك على فهم ما قررنا به كلامه
هنا، وقد ذكر الآمدي في هذه المسألة في الأوامر، وصحح أن
الأمر بالمطلق أمر بالمقيد؛ فراجعه إن شئت. "د".
قلت: انظر أيضا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 295-306".
1 في الأصل: "الخارجة".
ج / 3 ص -219-
المعقولية أم لجهة الحصول [في]1 الخارج؟ هذا مجال نظر
محتمل للخلاف2، بل هو مقتضى الخلاف المنصوص في مسألة
الصلاة في الدار المغصوبة، وأدلة المذاهب3 منصوص عليها
مبينة في علم الأصول، ولكن نذكر من ذلك طرفًا يتحرى منه
مقصد4 الشارع في أحد الاعتبارين.
فمما يدل على الأول أمور5:
أحدها:
أن المأمور به أو المنهي عنه أو المخير فيه إنما هو
حقائق الأفعال التي تنطلق عليها تلك الأسماء، وهذا أمر
ذهني في الاعتبار؛ لأنا إذا أوقعنا الفعل عرضناه على ذلك
في المعقول الذهني، فإن صدق عليه صح، وإلا؛ فلا.
ولصاحب الثاني أن يقول: إن المقصود من الأمر والنهي
والتخيير إنما هو أن يقوم المكلف بمقتضاها؛ حتى تكون له
أفعالًا خارجية لا أمورًا ذهنية، بل الأمور الذهنية هي
مفهومات6 الخطاب، ومقصود7 الخطاب ليس نفس التعقل، بل
الانقياد، وذلك الأفعال الخارجية؛ سواء علينا أكانت عملية
أم اعتقادية، وعند ذلك؛ فلا بد أن تقع موصوفة، فيكون الحكم
عليها كذلك8.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 لا نزاع في أن الأوامر والنواهي متعلقة بالمطلق ظاهرا
وهو الماهية بلا قيد، وأما المطلوب تحصيله؛ فهو الماهية من
حيث اتحادها بالفرد الخارجي أو وجودها فيه على خلاف في
ذلك، ولا قائل بأن المطلوب هو الماهية المجردة فيما أظن،
وإنما ذلك مقول في معنى المطلق الذي تتعلق به الأوامر
والنواهي ظاهرا، وبذلك تعلم ما في الأدلة المسوقة عليه.
"ق".
3 في "ط": "المذهب".
4 في "ط": "مقاصد".
5 ذكر له ثلاثة أدلة، عبر عنها بالأول والثاني والثالث،
وذكر في مقابل كل منها معارضته من طرف المذهب الآخر بقوله:
"ولصاحب الثاني". "د".
6 في "ط": "مفهومة".
7 في "ط": "ومفهوم".
8 أي: ملاحظا فيها وقوعها في الخارج، لا مجرد المقدار الذي
يطابق ما في الذهن، وإذا كان الحكم عليها إنما يكون
باعتبار الوقوع في الخارج؛ فلا بد فيه من مراعاة الأوصاف
من الكيفيات الأحوال التي تكون عليها في الخارج، فإن اقترن
بها موجب للفساد أفسدها، والدليل لكل منهما -كما ترى- كأنه
مجرد دعوى كلام في مقابلة كلام. "د".
ج / 3 ص -220-
والثاني:
أنا لو لم
نعتبر المعقول الذهني في الأفعال؛ لزمت1 شناعة مذهب الكعبي
المقررة في كتاب الأحكام؛ لأن كل فعل أو قول فمن لوازمه في
الخارج أن يكون ترك الحرام، ويلقى فيه جميع ما تقدم، وقد
مر بطلانه.
ولصاحب الثاني أن يقول: لو اعتبرنا المعقول الذهني مجردًا
عن الأوصاف الخارجية؛ لزم أن لا تعتبر الأوصاف الخارجية
بإطلاق، وذلك باطل باتفاق؛ فإن سد الذرائع معلوم في
الشريعة، وهو من هذا النمط2 وكذلك3 كل فعل سائغ في نفسه
وفيه تعاون4 على البر والتقوى أو على الإثم والعدوان، إلى
ما أشبه ذلك، ولم يصح5 النهي عن صيام يوم العيد، ولا عن
الصلاة عند
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لو اعتبرنا الخارج في المباح، ومعلوم أنه يلزمه أن
يكون فيه ترك حرام؛ لزم أن يكون كل مباح واجبًا كما يقول
الكعبي، يعني: وأنتم متفقون معنا على وجود المباح المستوي
الطرفين ضمن الأحكام الشرعية. "د".
2 أي: لوحظت فيه الأوصاف الخارجية قطعا، وإلا؛ لما صح
منعه. "د".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "كذلك"، وكتب "ف": "لعله "وكذلك"؛
أي أنه منظور فيه للأوصاف الخارجية.
4 كالأكل يقصد به التقوي على الطاعة أو التقوي على الإثم؛
فالأصل مباح، وبالقصد المذكور تحصل الطاعة أو المعصية،
وهذا نوع آخر غير سد الذرائع التي هي أمر سائغ يتحيل به
إلى ممنوع؛ كبيوع الآجال كما سبق، وقد ذكر ثلاثة أنواع مما
اعتبر الشارع فيه الأوصاف الخارجية وبنى حكمه عليها هذان
النوعان، وصحة النهي عن صوم يوم العيد والصلاة عند طلوع
الشمس وعند غروبها، والأنواع الثلاثة يستدل بها على بطلان
اعتبار المعقول الذهني مجردًا؛ فقوله: "ولم يصح النهي"
داخل تحت مضمون قوله: "لزم ألا تعتبر الأوصاف" وليس مقابلا
له، وإنما هو نوع مغاير لسد الذرائع والتعاون الذي اعتبر
فيهما كما اعتبر فيه الأوصاف الخارجية. "د".
5 عطف على قوله: "لزم أن لا تعتبر". "ف".
ج / 3 ص -221-
طلوع
الشمس أو عند غروبها، وهذا الباب واسع جدا.
والثالث:
أنا لو اعتبرنا الأفعال من حيث هي خارجية فقط؛ لم يصح
للمكلف1 عمل إلا في النادر؛ إذ كانت الأفعال والتروك
مرتبطا2 بعضها ببعض، وقد فرضوا مسألة من صلى وعليه دين حان
وقته، وألزموا المخالفين أن يقولوا ببطلان تلك الصلاة؛
لأنه ترك بها واجبا، وهكذا كل من خلط عملا صالحا وآخر
سيئا؛ فإنه يلزم أن يبطل عليه العمل الصالح إذا تلازما3 في
الخارج، وهو على خلاف قول الله تعالى:
{خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102]، لأنهما إذا تلازما في الخارج فكان أحدهما كالوصف
للثاني4؛ لم يكن العمل الصالح صالحا5، فلم يكن ثم خلط
عملين، بل صارا6 عملا واحدا؛ إما صالحًا، وإما سيئًا7، ونص
الآية يبطل هذا، وكذلك جريان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ف": "المكلف".
2 كما تقدم في المسألة السابعة من النوع الثالث من مقاصد
الشارع، حيث يقول: "إن الحقوق متزاحمة، وإن بعضها يضاد
بعضا؛ كالحج والجهاد مثلا في وقت واحد، وبعضها يؤدي إلى
نقض في غيره... "إلخ ما ذكر هناك. "د".
3 أي: بحيث يكون وجدوه الخارجي مما يلزمه العمل السيء؛
فيكون من الموضوع المتكلم فيه؛ أي: فإذا اعتبر العمل السيء
وصفا للعمل الصالح لأنه مقترن بوجوده الخارجي؛ فلا يكون
هناك عملان، بل عمل واحد، والآية تسميهما عملين، وتبقي وصف
كل منهما بالصلاح ومقابله. "د".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "للوصف الثاني"، وكتب "د": "لعل
الأصل: "كالوصف الثاني"، يعني كما هو مقتضى القول الثاني،
ويؤيد هذا التصحيح قوله الآتي في جواب الإشكال عن الآية:
"كالوصف للآخر".
5 لو زاد هنا جملة "أو السيء سيئا"؛ لناسب قوله بعد: "إما
صالحا، وإما سيئا". "د".
6 في "د": "صار"، المثبت من الأصل و"م" و"ف".
7 نوسع في البيان، وإلا؛ فسابقه يقتضي أنه سيء فقط. "ف".
ج / 3 ص -222-
العوائد1 في المكلفين؛ فدل ذلك على أن المقصود هو ما يصدق
عليه عمل في الذهن لا في الخارج.
ولصاحب الثاني أن يقول: إن الأمور الذهنية مجردة من2
الأمور الخارجية تعقل3، وما لا تعقل3 لا يكلف به، أما أن
ما لا يعقل3 لا يكلف به؛ فواضح، وأما أن الأمور الذهنية لا
تعقل3 مجردة؛ فهو ظاهر أيضا، في4 المحسوسات؛ فكالإنسان
مثلا، فإن ماهيته المعقولة المركبة من الحيوانية والنطقية
لا تثبت في الخارج؛ لأنها كلية حتى تتخصص، ولا تتخصص5 حتى
تتشخص، ولا تتشخص حتى تمتاز عن سواها من المتشخصات بأمور
أخر؛ فنوع الإنسان يلزمه خواص كلية هي له أوصاف؛ كالضحك،
وانتصاب القامة، وعرض الأظفار، ونحوها وخواص شخصية وهي
التي امتاز بها كل واحد من أشخاص الإنسان عن الآخر، ولولا
ذلك؛ لم يظهر الإنسان في الخارج ألبتة.
فقد صارت إذًا الأمور الخارجية العارضة لازمة لوجود حقيقة
الإنسان في الخارج، وأما في الشرعيات؛ فكالصلاة مثلا؛ فإن
حقيقتها المركبة من القيام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كما يجري في الأمور العبادية يجري في العاديات كما
سيقول بعد في الذبح بالسكين والبيوع الفاسدة. "د".
وكتب "ف": "المراد بـ"العوائد" هنا العادات، جمع "عادة"،
وهي الديون يعاد إليها".
2 في الأصل "عن"، والمثبت من "ف" و"د" و"م" و"ط".
3 في "د" و"م" في جميع المواطن: "تفعل" أو "يفعل"، وفي
"ف": "لا يفعل"، وفي هامشها: "في الأصل: لا يعقل، وهكذا ما
بعده".
قلت: وهكذا في الأصل و"ط" و"ماء"، ثم قال "ف": "وهو غير
ظاهر؛ فتنبه"، وكتب "ف" ما نصه: "وهذا يشبه أن يكون
مغالطة؛ لأنه أخذ ظاهر الدعوى من أن الحقيقة الذهنية هي
المكلف بها، واعترض بما قال، ولكنه لو نظر غلى غرضه الذي
قاله وسيقوله؛ لم يتوجه هذا، وسيتضح ذلك بعد". قلت: الكلام
مستقيم على النحو الذي ضبطناه، ولله الحمد.
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "أما في".
5 في "ط": "حتى تختص، ولا تختص".
ج / 3 ص -223-
والركوع والسجود والقراءة وغير ذلك لا تثبت في الخارج إلى
على كيفيات وأحوال وهيئات شتى، وتلك الهيئات محكمة في
حقيقة الماهية حتى يحكم عليها بالكمال أو النقصان والصحة
أو1 البطلان، وهي متشخصات، وإلا لم يصح الحكم على صاحبها
بشيء من ذلك، إذ هي في الذهن كالمعدوم، وإذا كان كذلك؛
فالاعتبار فيها بما وقع في الخارج2، وليس إلا أفعالا
موصوفة بأمور خاصة لازمة، وأمور على خلاف ذلك، وكل مكلف
مخاطب في خاصة نفسه بها؛ فهو إذا مخاطب بما يصح له ان
يحصله في الخارج، فلا يمكن ذلك إلا باللوازم الخارجية؛ فهو
إذا مخاطب بها لا بغيرها، وهو المطلوب، فإن حصلت بزيادة
وصف أو نقصانه؛ فلم تحصل إذا على حقيقتها، بل على حقيقة
أخرى، والتي خوطب بها لم تحصل بعد.
فإن قيل: فيشكل معنى الآية إذا، وهو قوله:
{خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102]، وأيضا فإن الصلاة قد تحصل بزيادة أو نقصان3 وتصح مع
ذلك، وهو دليل على أن المعتبر ما يصدق عليه صلاة في
الجملة، وهو الاعتبار الذهني.
قيل: أما الآية؛ فإن الأعمال المتعارضة الأحكام ليست
بمتلازمة لحصولها في زمانين وفي حالين، وفي مثله نزلت
الآية، وإذا تلازمت حتى صار أحدها كالوصف للآخر، فإن كان
كالوصف السلبي؛ فلا إشكال في عدم التلازم لأن الوصف السلبي
اعتباري للموصوف به ليس صفة وجودية، وأما إن كانت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "والبطلان".
2 الخصم يقول له: إننا متفقون في هذا، ولكن نحن نقول بما
وقع في الخارج منطبقا عليه الحقيقة الكلية فقط؛ لأنها هي
المرعية في التكليف، أما الزيادات الخارجية التي يقترن
بها؛ فلا شأن لها في قصد الشارع، وأنت تقول: لها شأن،
وتتحكم في صحة المأمور به وعدمها. "د".
3 في "ط": "بنقصان".
ج / 3 ص -224-
صفة
وجودية أو كالصفة الوجودية1، فحينئذ يرجع ذلك إلى الحاصل
في الخارج، ولا يدخل مثله تحت الآية2، وأما الزيادة غير
المبطلة أو النقصان؛ فالاعتبار فيه بما حصل في الخارج
جاريا مجرى المخاطب به؛ فالصلاة الناقصة أشبهت في الخارج
الصلاة الكاملة فعوملت معاملتها، لا أنه3 اعتبر فيها
الاعتبار الذهني في الجملة، والبحث في هذه المسألة يتشعب
وينبني عليه مسائل فقهية.
فصل:
ويتصدى النظر4 هنا فيما يصير من الأفعال المختلفة وصفا
لصاحبه حتى يجري فيه النظران، وما لا يصير كذلك؛ فلا
يجريان فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما سيأتي في ترك الطهارة للصلاة؛ فإنها وإن كانت سلبية،
لكن لما ثبت اعتبارها شرعا؛ كانت كأنها وجودية. "د".
2 لأن الآية في جمعهم بين أعمال صالحة وتركهم الجهاد في
هذه الغزوة، والترك هنا وصف سلبي صرف ليس كالطهارة للصلاة
مثلا. "د".
وكتب "ف" ما نصه: "نزلت على ما رواه البيهقي [في "الدلائل"
"5/ 272"] في عشرة من المسلمين تخلفوا عن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، والواو في الآية بمعنى
الباء؛ كما في قولك: "خلطت الماء واللبن"، ومعنى خلط العمل
الصالح بالسيء وعكسه: استعقاب آخرهما الآخر، بحيث يقعان في
زمانين".
قلت: أخرج سبب النزول المذكور ابن جرير في "التفسير" "11/
16"، وابن مردويه من طريقين عن ابن عباس، في أحدهما عبد
الله بن صالح، كاتب الليث وهو ضعيف، وفي الآخر محمد بن سعد
العوفي وآباؤه، وهم ضعفاء.
وانظر "الدر المنثور" "4/ 275"، و"لباب النقول"
"ص123-124"، و"الفتح السماوي" "2/ 697-698"، و"صحيفة علي
بن أبي طلحة" "ص271"، و"الكافي الشافي" "ص80" لابن حجر.
3 في "ط": "أنها".
4 إنما يحتاج إلى ضبط هذا الموضع ومعرفة الأفعال التي
تعتبر وصف لما اقترن بها والتي لا تعتبر كذلك، بناء على
النظر الثاني، أما إذا نظر إلى الأمر الذهني المعقول، وأنه
إذا صدق على ما في الخارج صح بقطع النظر عن الأوصاف التي
تقترن به في الخارج؛ فلا حاجة له بهذا الضابط وتفصيله لأن
الضابط عنده مجرد صدق الحقيقة الذهنية عليه باستيفائه
أركانها وشروطها. "د".
ج / 3 ص -225-
وبيان
ذلك أن الأفعال المتلازمة؛ إما أن يصير أحدها وصفًا للآخر
أو لا، فإن كان الثاني؛ فلا تلازم؛ كترك الصلاة مع ترك
الزنى أو السرقة، فإن أحد التركين لا يصير كالوصف للآخر؛
لعدم التزاحم في العمل، إذ كان يمكن المكلف الترك لكل فعل
مشروع أو غير مشروع، وما ذاك إلا لأنهما ليسا متزاحمين1
على المكلف وسبب ذلك أنهما راجعان إلى أمر سلبي والسلبيات
اعتباريات لا حقيقية، وإن كان الأول؛ فإما أن يكون وصفا
سلبيا أو وجوديا، فإن كان سلبيا؛ فإما أن يثبت اعتباره فيه
شرعًا على الخصوص، أو لا، فإن كان الأول؛ فلا إشكال في
اعتبار الصورة الخارجية2؛ كترك الطهارة في الصلاة، وترك
الاستقبال، وإن كان الثاني؛ فلا اعتداد بالوصف السلبي؛
كترك قضاء الدين مع فعل الصلاة فيمن فر من قضائه إلى
الصلاة، [فإن الصلاة]3 وإن وصفت بأنها فرار من واجب؛ فليس
ذلك بوصف لها إلا اعتباريا تقديريا، لا حقيقة له في
الخارج، وإن كان الوصف وجوديا؛ فهذا هو محل النظر؛ كالصلاة
في الدار المغصوبة، والذبح بالسكين المغصوبة، والبيوع
الفاسدة لأوصاف فيها خارجة عن حقائقها، وما أشبه ذلك.
فالحاصل أن التروك من حيث هي تروك لا تتلازم في الخارج،
وكذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "بمتزاحمين".
2 نقول: ولا إشكال في اعتبار المعقول الذهني أيضا متى لوحظ
تقييد المعقول المذكور بالشروط مع الأركان، على ما سقناه
في تقرير الكلام من أوله؛ فإنه إذا لم تعتبر الشروط أشكل
عليه الأمر، واضطر إلى اعتبار بعض الأمور الخارجية دون
بعض؛ فلا يكون اعتباره لمجرد الأمر المعقول مقبولا بإطلاق.
"د".
3 سقط من "ط".
ج / 3 ص -226-
الأفعال مع التروك؛ إلا أن يثبت تلازمها شرعا، ويرجع ذلك
في الحقيقة إلى أن الترك إنما اعتبر من جهة فقد وصف وجودي
للفعل الوجودي؛ كالطهارة للصلاة، وأما الأفعال مع الأفعال؛
فهي التي تتلازم إذا قرنت في الخارج، فيحدث منها فعل واحد
موصوف؛ فينظر فيه وفي وصفه كما تقدم، والله أعلم.
ولهذه المسألة تعلق بباب الأوامر والنواهي.
ج / 3 ص -227-
المسألة الخامسة:
الأدلة
الشرعية ضربان:
أحدهما:
ما يرجع إلى النقل المحض.
والثاني:
ما يرجع إلى الرأي المحض.
وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، وإلا؛ فكل واحد
من الضربين مفتقر إلى الآخر لأن الاستدلال بالمنقولات لا
بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا
استند إلى النقل، فأما الضرب الأول؛ فالكتاب والسنة، وأما
الثاني؛ فالقياس والاستدلال1، ويلحق بكل واحد منهما وجوه؛
إما باتفاق، وإما باختلاف؛ فيلحق بالضرب الأول الإجماع على
أي وجه2 قيل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو دليل ليس بنص، ولا إجماع، ولا قياس شرعي، وإن كان
راجعًا إلى النص؛ إذ الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بدليل
شرعي. "ف".
قلت: انظر "الإحكام" "7/ 53"، و"النبذ" "37-51، 120-135"
كلاهما لابن حزم، و"الوجيز في أصول الفقه" "148-149".
2 أي: سواء جرينا على أنه يختص بالصحابة كما روي عن أحمد
أو لا، وسواء قلنا: إجماع أهل المدينة حجة كما يقول مالك
أو لا، وسواء قلنا: يشترط عدد التواتر في حجية الإجماع أو
لا، وسواء قلنا: يصح أن يكون مستند الإجماع قياسًا كما هو
الحق أو لا كما يقول الظاهرية، وهكذا مما يدور حول الإجماع
من الخلاف المقتضي لتوسيع مجال الإجماع أو تضييقه؛ إلا أنه
يقال إذا كان مستنده قياسا: لا يكون ملحقًا بالضرب الأول
بل بالثاني. "د".
وكتب "ف": ما نصه: "أما الإجماع؛ فلأنه لا بد له من سند من
كتاب أو سنة، فيعتد به من هذه الجهة، ولا يلزمنا البحث عن
سنده لحديث: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، ومذهب الصحابي
محمول على الرواية والنقل ما لم يثبت أنه رأي له واجتهاد؛
فيجري الخلاف في حجيته، وأما شرع من قبلنا؛ فلإقراره في
شرعنا".
ج / 3 ص -228-
به
ومذهب1 الصحابي وشرع من قبلنا؛ لأن ذلك كله وما في معناه
راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد.
ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إن قلنا:
إنها راجعة إلى أمر نظري، وقد ترجع إلى الضرب الأول إن
شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية، حسبما يتبين في
موضعه2 من هذا الكتاب بحول الله.
فصل:
ثم نقول: إن الأدلة الشرعية في أصلها محصورة في الضرب
الأول؛ لأنا لم نثبت الضرب الثاني بالعقل، وإنما أثبتناه
بالأول؛ إذ منه قامت أدلة صحة الاعتماد عليه، وإذا كان
كذلك؛ فالأول هو العمدة، وقد صار إذ ذاك الضرب الأول مستند
الأحكام التكليفية من جهتين:
إحداهما:
جهة دلالته على الأحكام الجزئية الفرعية.
والأخرى:
جهة دلالته على القواعد التي تستند إليها الأحكام
الجزئية الفرعية.
فالأولى كدلالته على أحكام الطهارة، والصلاة، والزكاة،
والحج، والجهاد، والصيد، والذبائح، والبيوع، والحدود،
وأشباه ذلك، والثانية3 كدلالته على أن الإجماع حجة، وعلى
أن القياس حجة، وأن قول الصحابي حجة، وشرع من قبلنا حجة،
وما كان نحو ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ظاهر إذا لم يكن اجتهادًا منه، وإلا؛ رجع لما يناسبه من
الضربين. "د".
2 في المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد أن مآلات الأفعال
معتبرة. "د".
3 في الأصل: "الثاني".
ج / 3 ص -229-
فصل:
ثم نقول: إن
الضرب الأول راجع في المعنى إلى الكتاب، وذلك من وجهين:
أحدهما:
أن العمل بالسنة والاعتماد عليها إنما يدل عليه
الكتاب؛ لأن الدليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم
المعجزة، وقد حصر عليه الصلاة والسلام معجزته في القرآن
بقوله:
"وإنما كان
الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي"1، هذا
وإن كان له من المعجزات كثير جدا، بعضه يؤمن على مثله
البشر2، ولكن معجزة القرآن أعظم من ذلك كله.
وأيضا؛ فإن الله قد قال في كتابه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
وقال:
{وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَرَسُولَه} في مواضع كثيرة.
وتكراره يدل على عموم الطاعة بما أتى به مما في الكتاب
ومما ليس فيه مما هو من سنته، وقال:
{وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
وقال:
{فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
[النور: 63]. إلى ما أشبه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل القرآن، باب كيف
نزل الوحي وأول ما نزل، 9/ 3/ رقم 4981، وكتاب الاعتصام
بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"بعثت
بجوامع الكلم"، 13/ 247/
رقم 7274"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب وجوب
الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع
الناس ونسخ الملل بملة، 1/ 134/ رقم 152" عن أبي هريرة رضي
الله عنه.
2 جاء معنى هذا الكلام في حديث صحيح، يأتي نصه وتخريجه "4/
180".
ج / 3 ص -230-
والوجه الثاني:
أن السنة
إنما جاءت مبينة للكتاب وشارحة لمعانيه، ولذلك قال تعالى:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ}
[النحل: 44].
وقال:
{يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، وذلك التبليغ من وجهين:
تبليغ الرسالة، وهو الكتاب.
وبيان معانيه.
وكذلك فعل صلى الله عليه وسلم [وجزاه عنا أفضل الجزاء بمنه
وفضله]؛ فأنت إذا تأملت موارد السنة وجدتها بيانا للكتاب،
هذا هو الأمر العام فيها.
وتمام بيان هذا الوجه مذكور بعد1 إن شاء الله، فكتاب الله
تعالى هو أصل الأصول، والغاية التي تنتهي إليها أنظار
النظار ومدارك أهل الاجتهاد، وليس وراءه مرمى؛ فإنه كلام
الله القديم:
{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}
[النجم: 42].
وقد قال تعالى:
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ
شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}
[النحل: 89].
وقل:
{مَا
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}
[الأنعام: 38].
وبيان هذا مذكور بعد2 إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الثانية من الدليل الثاني وهو السنة. "د".
2 في المسألة الرابعة من السنة؛ فسيشرح فيها كيف أن الكتاب
تضمن ما في السنة. "د".
وفي "ط": "أنه مذكور".
ج / 3 ص -231-
المسألة السادسة1:
كل دليل شرعي؛ فمبني على
مقدمتين:
إحداهما:
راجعة إلى تحقيق مناط2 الحكم.
والأخرى:
ترجع إلى نفس الحكم الشرعي.
فالأولى نظرية وأعني بالنظرية هنا3 ما سوى النقلية سواء
علينا أثبتت بالضرورة أم بالفكر والتدبر، ولا أعني
بالنظرية مقابل الضرورية، والثانية نقلية، وبيان ذلك ظاهر
في كل مطلب شرعي، بل هذا4 جار في كل مطلب عقلي أو نقلي؛
فيصح أن نقول: الأولى راجعة إلى تحقيق المناط، والثانية
راجعة إلى الحكم، ولكن المقصود هنا بيان المطالب الشرعية،
فإذا قلت: إن كل مسكر حرام؛ فلا يتم القضاء عليه5 حتى يكون
بحيث يشار إلى المقصود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في تفصيل ذلك "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 111،
254-255 و22/ 329-330".
2 "المناط هو الوصف الذي نيط به الحكم، وتحقيقه إثبات
العلة في إحدى صورها التي خفيت فيها العلة؛ كتحقيق أن
النباش سارق، بأنه وجد فيه أخذ المال خفية وهو السرقة،
فتقطع، ولكن المؤلف هنا أراد بتحقيق المناط إثبات الوصف
الذي نيط به الحكم مطلقًا؛ ففي حرمة السكر كونه خمرًا، وفي
جواز الوضوء بالماء كونه مطلقا، وفي رفع زيد ونصب عمرو
كونه فاعلًا، وفي حدوث العالم كونه متغيرًا". "ف".
3 في "م": "ههنا".
4 أي: حاجة الدليل إلى مقدمتين بحيث ترجع إحداهما إلى
تحقيق المناط... إلخ لا بقيد أن تكون الثانية نقلية؛ إذ قد
تكون المقدمتان عقليتين، وسيأتي له توجيه اطراد ذلك في
العقليات أيضا بأنه يجب أن تكون إحدى المقدمتين العقليتين
جارية مجرى النقليات في خاصيتها وهي أن تكون مسلمة. "د".
5 أي: على الجزئي بهذا الدليل الشرعي حتى يكون الجزئي بهذه
الحيثية ليستعمل هذا المشروب المشار إليه إذا لم يتحقق فيه
المناط، ولم يندرج في موضوع الكبرى أو يجتنب، ولا يستعمل
إذا لم يتحقق فيه ذلك، كما يقولون: إن الأصغر في مقدمة
الدليل المنطقي يجب أن يكون مندرجًا في الأوسط حتى ينتقل
حكمه إليه؛ فتحقيق المناط يرجع إلى تحقيق اندراج الأصغر في
الأوسط. "د".
ج / 3 ص -232-
منه
ليستعمل أو لا يستعمل، لأن الشرائع إنما جاءن لتحكم على
الفاعلين من جهة ما هم فاعلون، فإذا شرع المكلف في تناول
خمر مثلا؛ قيل له: أهذا خمر أم لا؟ فلا بد من النظر في
كونه خمرا أو غير خمر، وهو معنى تحقيق المناط، فإذا وجد
فيه أمارة الخمر أو حقيقتها بنظر معتبر؛ قال: نعم، هذا
خمر، فيقال له: كل خمر حرام الاستعمال. فيجتنبه، وكذلك إذا
أراد أن يتوضأ بماء؛ فلا بد من النظر إليه: هل هو مطلق أم
لا؟ وذلك برؤية اللون، وبذوق الطعم وشم الرائحة، فإذا تبين
أنه على أصل خلقته؛ فقد تحقق مناطه عنده، وأنه مطلق، وهي
المقدمة النظرية، ثم يضيف إلى هذه المقدمة ثانية نقلية،
وهي أن كل ماء مطلق؛ فالوضوء به جائز، وكذلك إذا نظر: هل
هو مخاطب بالوضوء أم لا؟ فينظر: هل هو محدث أم لا؟ فإن
تحقق الحدث؛ فقد حقق مناط الحكم، فيرد عليه أنه مطلوب
بالوضوء، [وإن تحقق فقده؛ فكذلك؛ فيرد عليه أنه غير مطلوب
الوضوء]1، وهي المقدمة النقلية.
فالحاصل أن الشارع حكم على أفعال المكلفين مطلقة2 ومقيدة3،
وذلك مقتضى إحدى المقدمتين وهي النقلية، ولا ينزل الحكم
بها إلى على ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفي "ط": "... مطلوب
بالرضى"؟!
2 في البعض؛ كالقاعدة القائلة: "المرتد يقتل". "د".
3 وهو الأكثر، كما في قاعدة "القاتل يقتل"؛ أي: إذا لم يكن
أبا أو إذا لم يعف أولياء الدم مثلا: وعلى هذا يكون معنى
الإطلاق والتقييد وغيرهما في المسألة السابعة، ويظهر أنه
لا مانع من جعلهما بالمعنى الآتي في المسألة المذكورة.
"د".
ج / 3 ص -233-
تحقق
أنه مناط ذلك الحكم على الإطلاق أو على التقييد، وهو مقتضى
المقدمة النظرية، والمسألة ظاهرة في الشرعيات.
نعم، وفي اللغويات والعقليات؛ فإنا إذا قلنا: ضرب زيد
عمرا، وأردنا أن نعرف [ما] الذي يرفع من الاسمين وما الذي
ينصب؛ فلا بد من معرفة الفاعل من المفعول، فإذا حققنا
الفاعل وميزناه؛ حكمنا عليه بمقتضى [المقدمة]1 النقلية،
وهي أن كل فاعل مرفوع، ونصبنا المفعول كذلك؛ لأن كل مفعول
منصوب، وإذا أردنا أن نصغر عقربًا حققنا أنه رباعي؛ فيستحق
من أبنية التصغير بنية "فعيعل"2 لأن كل رباعي على هذه
الشاكلة تصغيره على هذه البنية، وهكذا في سائر علوم اللغة،
وأما العقليات؛ فكما إذا نظرنا في العالم؛ هل هو حادث أم
لا؟ فلا بد من تحقيق مناط الحكم3 وهو العالم، فنجده
متغيرًا، وهي المقدمة الأولى، ثم نأتي بمقدمة مسلمة وهو
قولنا: كل متغير حادث.
لكنا قلنا في الشرعيات وسائر النقليات: إنه لا بد أن تكون
إحدى المقدمتين نظرية، وهي المفيدة لتحقيق المناط -وذلك
مطرد في العقليات أيضا-، والأخرى نقلية؛ فما الذي يجري في
العقليات مجرى النقليات؟ هذا لا بد من تأمله.
والذي يقال فيه4 أن خاصية المقدمة النقلية أن تكون مسلمة
إذا تحقق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 في الأصل: "فعيل".
3 مناط الحكم هو الوصف الذي به يندرج في موضوع الكبرى، وهو
هنا التغير. "د". وكتب "ف": "المناسب وهو تغير العالم كما
يدل عليه سابق الكلام ولاحقه".
4 هذا يشير غلى أن المقدمة المعتبرة لتحقيق المناط في كل
من الشرعيات والعقليات هي المقدمة النظرية، وأما المقدمة
الثانية الراجعة إلى الحكم؛ فهي إلى الشرعيات نقلية، وفي
العقليات عقلية، وكلتاهما تؤخذ مسلمة. "ف".
ج / 3 ص -234-
أنها
نقلية؛ فلا تفتقر إلى نظر وتأمل إلا من جهة تصحيحها نقلًا،
ونظير هذا1 في العقليات المقدمات المسلمة، وهي الضروريات
وما تنزل منزلتها مما يقع مسلمًا عند الخصم؛ فهذه خاصية
إحدى المقدمتين، وهي أن تكون مسلمة، وخاصية الأخرى أن تكون
تحقيق مناط الأمر المحكوم عليه، ولا حاجة إلى البسط هنا؛
فإن التأمل يبين حقيقة الأمر فيه، وأيضا في فصل السؤال
والجواب له بيان آخر، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في "د" و"م"، وفي الأصل: "وينظر في هذا"، وفي "ف"
و"ط": "وينظر إلى هذا"، وقال "ف": "لعله "ونظير هذا".
ج / 3 ص -235-
المسألة السابعة:
كل دليل
شرعي ثبت في الكتاب1 مطلقا غير مقيد، ولم يجعل له قانون
ولا ضابط مخصوص؛ فهو راجع إلى معنى معقول وُكِّلَ إلى نظر
المكلف، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي
هي معقولة المعنى؛ كالعدل، والإحسان، والعفو، والصبر،
والشكر في المأمورات، والظلم، والفحشاء، والمنكر، والبغي،
ونقض العهد في المنهيات.
وكل دليل ثبت فيها2 مقيدا غير مطلق، وجعل له قانون وضابط؛
فهو راجع إلى معنى تعبدي لا يهتدي إليه نظر المكلف لو
وُكِّلَ إلى نظره؛ إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها
فضلا عن كيفياتها3، وكذلك في العوارض الطارئة عليها؛ لأنها
من جنسها، وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية وهذا القسم
الثاني كثير في الأصول المدنية4؛ لأنها في الغالب تقييدات
لبعض ما تقدم إطلاقه، أو إنشاء أحكام واردات على أسباب
جزئية، ويتبين ذلك بإيراد مسألة مستأنفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ومثله السنة؛ لأن الكلام في هذه المباحث يتعلق
بالأدلة على وجه العموم، بل الأدلة الواردة مقيدة. "د".
2 هكذا في الأصول و"ط"، قال "ف": "المناسب ثبت فيه أي
الكتاب"، زاد "د": "أي الكتاب بمعنى الشريعة على هذا الوجه
أكثر ما توجد في السنة كتابا وسنة"، كما أشرنا إليه آنفا.
"د".
3 في "ط": "كيفيتها".
4 أي: التي شرعت بالمدينة النبوية ويقابلها الأصول المكية،
وستأتي أمثلة ذلك في كلام المصنف. "ف" ونحوه عند "م".
ج / 3 ص -236-
المسألة الثامنة1:
فنقول: إذا رأيت2 في المدنيات أصلًا كليًّا فتأمله تجده
جزئيا3 بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلا4 لأصل كلي،
وبيان ذلك أن الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها
خمسة، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل5، والمال.
أما الدين؛ فهو أصل ما دعا إليه القرآن والسنة وما نشأ
عنهما، وهو أول ما نزل بمكة.
وأما النفس؛ فظاهر إنزال حفظها بمكة؛ كقوله:
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا
بِالْحَقِّ}
[الأنعام: 151].
{وَإِذَا
الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8],.
{وَقَدْ
فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}6 [الأنعام: 119].
وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في هذا أيضا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 160
و17/ 126".
2 في "ط": "أردت".
3 كالجهاد؛ فهو جزئي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
كما سيقرره قريبا، لم يفرض إلا في المدينة بعد الإذن به
أولا بآية:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ...} إلخ [الحج: 39]، ثم لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم، ثم قال المشركين
كافة، خلافا لمن قال: إنه فرض بمكة؛ فإنه غلط لوجوه ستة
ذكرها ابن القيم في "زاد المعاد" [3/ 70-71]. "د". وانظره:
"5/ 235-236".
4 كالنهي عن شرب الخمر تكميلا لاجتناب الإثم والعدوان كما
سيقول. "د".
5 في الأصل: "والنسب" وتكرر ذلك.
6 ومحل الدليل قوله:
{إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}؛
أي: من محرمات الأكل لحفظ النفس؛ فواجب تناوله. "د".
ج / 3 ص -237-
وأما
العقل، فهو وإن لم يرد تحريم ما يفسده وهو الخمر إلا
بالمدينة1؛ فقد ورد في المكيات مجملا، إذ هو داخل في حرمة
حفظ النفس كسائر الأعضاء، ومنافعها2 من السمع والبصر
وغيرهما، وكذلك منافعها3؛ فالعقل محفوظ شرعا في الأصول
المكية عما يزيله رأسا كسائر الأعضاء [وإنما استدرك
بالمدينة حفظه عما يزيله] ساعة أو لحظة4، ثم يعود كأنه غطي
ثم كشف عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فآية التحريم البات: في المائدة، وآيات التمهيد: في
النساء والبقرة، وكلها مدنية. "د".
2 لعله زائد يستغنى عنه بقوله: "وكذلك منافعها". "د".
3 في "ف": "منافعهما"، وقال: "المناسب "منافعها" ليشمل
منافع السمع والبصر وغيرهما من بقية الأعضاء".
4 قال بعضهم: لعل الأصل: "لا ساعة أو لحظة" كما يدل عليه
السياق.
[قلت: هذا نص عبارة "ف"]. والظاهر أن الأصل: "أو ساعة أو
لحظة"*، ويكون حاصل كلامه أنه وإن لم يرد في المكي نص في
مفسد العقل وهو الخمر تفصيلا؛ إلا أنه ورد إجمالا لأن حفظ
العقل ومنفعته داخل ضمنا في حفظ النفس كسائر الأعضاء
ومنافعها؛ فما يزيل العقل رأسًا يعد مزيلًا لجزء من
الإنسان، وما يزيل منفعته دوامًا أو زمنًا ما يعد مزيلًا
لمنفعته؛ فحرمة حفظ النفس كلي يندرج فيه إجمالا حفظ العقل
نفسه، وكذا حفظ منفعته؛ فما يزيل منفعته ولو لحظة منهي
عنه، كمزيل منفعة أي عضو دائما أو لحظة، هذا وجه، ويرجع
إلى الأول في صدر المسألة، ثم قال: "وأيضا؛ فإن حفظه على
هذا الوجه"؛ أي: بحيث لا يزول ولو لحظة يعد مكملا، "أي
لحفظ النفس والدين والنسل والمال والعرض، وإن كان في ذاته
من ضروري حفظ العقل؛ فالنهي عن الخمر المذهب للعقل رأسا أو
لمنفعته وقتا ما من ضروري حفظ العقل الداخل ضمنا في ضروري
حفظ النفس والأعضاء ومنافعها، وهو أيضا مكمل لحفظ
الضروريات الأخرى؛ كالدين وغيرها، فلذلك قال: إن حفظه على
هذا الوجه من المكملات".
وعليه؛ فيرجع النهي عن الخمر على هذا الوجه إلى القسم
الثاني في صدر المسألة، هذا إذا قدرنا الساقط من العبارة
لفظ "أو" وأما إذا قدرناه لفظ: "لا" كما يقول بعضهم؛ فيكون
المعنى أن ما يزيل العقل رأسا من الضروري الداخل في حفظ
النفس إجمالا، وأما حفظه على وجه أنه يزول ساعة ثم يعود؛
فيكون من المكملات إنما هو شرب القليل الذي لا يسكر عادة،
كما عد النظر =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بل الصواب ما جاء في "ط" فقط، وهو بين معقوفتين.
ج / 3 ص -238-
وأيضا؛
فإن حفظه على هذا الوجه من المكملات؛ لأن شرب الخمر1 قد
بين الله مثالبها في القرآن، حيث قال:
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ}
[المائدة: 91] إلى آخر الآية، فظهر أنها من العون على
الإثم والعدوان.
وأم النسل2؛ فقد ورد المكي من القرآن بتحريم الزنى، والأمر
بحفظ الفروج إلا على الأزواج أو ملك اليمين.
وأما المال؛ فورد فيه3 تحريم الظلم، وأكل مال اليتيم،
والإسراف، والبغي ونقص المكيال والميزان4، والفساد في
الأرض، وما دار بهذا المعنى.
وأما العرض الملحق بها؛ فداخل تحت النهي عن إذايات5
النفوس.
ولم ترد هذه الأمور في الحفظ من جانب العدم6 إلا وحفظها من
جانب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= للأجنبية مكملا لحرمة الزنا، وأما ثانيا، فلو كان الغرض
أن ما يزيله رأسا هو الذي يعد فقط من الضروري وما عداه
مكمل؛ لكان ذكر المؤلف منافع الأعضاء حشوا مفسدا لأنه
يقتضي أن إذهاب منافع العقل بحيث يغطي وينكشف معدود من نفس
الضروري الداخل إجمالا في حفظ النفس، وأما ثالثا؛ فإنه كان
المناسب إذا في التعبير بدل قوله: "وأيضا؛ فإن حفظه...
إلخ" أن يقول المؤلف: "أما حفظه على هذا الوجه؛ فإنه من
المكمل لحفظ العقل"؛ لأن قوله "وأيضا" يفيد أنه وجه آخر
غير السابق لا أنه تكميل للكلام المتقدم، وإنما أطلنا
الكلام ليتم فهم المقام. "د".
1 قال "ف": "الأنسب: لأن الخمر".
2 في الأصل: "النسب".
3 في الأصل و"ف" و"ط": "فيها"، وقال "ف": "المناسب: "ورد
فيه"".
4 في "د": "أو الميزان".
5 قال "ف": "لعله: أذيات النفوس، جمع أذية، وهي ما يتأذى
به".
6 أي: من جهة ما يقضي بهدمها وإفسادها، من الظلم ونقص
الكيل وما معها، وقوله: "من جانب الوجود"؛ أي: الأسباب
التي تحفظها وتستبقي وجودها؛ كالأكل والشرب في حفظ النفس
مثلا. "د".
ج / 3 ص -239-
الوجود
حاصل؛ ففي الأربع الأواخر ظاهر، وأم الدين؛ فراجع إلى
التصديق بالقلب والانقياد بالجوارح1، والتصديق بالقلب آتٍ
بالمقصود في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر؛ ليتفرع2
عن ذلك كل ما جاء3 مفصلا في المدني؛ فالأصل وارد في المكي،
والانقياد بالجوارح حاصل بوجه واحد4، ويكون ما زاد على ذلك
تكميلا.
وقد جاء في المكي من ذلك النطق بالشهادتين، والصلاة،
والزكاة، وذلك يحصل به معنى الانقياد، وأما الصوم والحج؛
فمدنيان من باب التكميل5، على أن6 الحج كان من فعل العرب
أولا وراثة عن أبيهم إبراهيم؛ فجاء الإسلام فأصلح منه ما
أفسدوا7، وردهم فيه إلى مشاعرهم8.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هنا كلمة غير واضحة في الأصل لعلها: فقط.
2 هكذا في الأصل و"ط"، وفي غيره: "ليفرع".
3 أي: من شعب الإيمان ومحبة الله ورسوله، وما إلى ذلك،
وقوله: "فالأصل"؛ أي: الإيماني. "د".
4 أي: متى وجد تكليف واحد بدني؛ فإنه يتحقق به معنى كلي
الانقياد بالجوارح الذي هو أحد ركني الدين. "د".
5 ولم نقل: إنهما داخلان في كلي الانقياد بالجوارح؛
فيرجعان للوجه الأول في صدر المسألة، حيث اكتفى فيه
بالدخول إجمالا في مسألة الخمر؛ لأن هذا يستدعي التوسع في
معنى الإجمال، والكلية هنا أكثر مما يحتاج حفظ العقل عند
دخوله إجمالا في حفظ النفس والأعضاء؛ فتصير القاعدة بعد
ذلك أشبه بالأمور الاعتبارية، وإنما كانا تكميليين للدين؛
لأن الحج اجتماع يظهر فيه اتحاد وجهة المسلمين وتآلفهم
وأبهة الإسلام، وهكذا من كل ما فيه تعزيز لشأنه، وفي الصوم
تكميل لتهذيب النفس وانقيادها لامتثال الأوامر واجتناب
النواهي؛ فهما من مكملات ضروري الدين.
6 هذا الترقي لا يفيد شيئا في أصل الدعوى، وهي أن كل مدني
لا نجد فيه كليا إلا وهو جزئي أو تكميلي لما شرع في مكة؛
لأن إصلاح ما أفسدوه لم يجئ إلا في المدينة. "د".
7 في "م": "أفسدوه".
8 كذا في "ط"، وفي غيره: "مشارعهم".
ج / 3 ص -240-
وكذلك
الصيام أيضا؛ فقد كانت الجاهلية تصوم يوم عاشوراء، وكان
النبي صلى الله عليه وسلم يصومه أيضا، حين قدم المدينة
صامه وأمر بصيامه حتى نسخه رمضان، وانظر في حديث عائشة في
صيام يوم عاشوراء1؛ فأحكمهما التشريع المدني، وأقرهما عل
ما أراد2 الله تعالى من التمام الذي بينه في اليوم الذي هو
أعظم أيامه3؛ حين قال تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3]؛ فلهما أصل في المكي على الجملة4.
والجهاد الذي شرع بالمدينة فرع5 من فروع الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وهو مقرر بمكة؛ كقوله:
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ
وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17]، وما أشبه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لفظه عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: "كان يوم عاشوراء
يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر
بصيامه، فلما فُرِض رمضان ترك يوم عاشوراء؛ فمن شاء صامه،
ومن شاء تركه". أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب
صيام يوم عاشوراء، 4/ 244" -وهذا لفظه- ومسلم في "صحيحه"
"كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، 2/ 792/ رقم 1125".
قال "د": "المؤلف يريد أن أصل مشروعية الصيام كانت بمكة،
ويكفي في إثبات هذا صيامه صلى الله عليه وسلم ليوم عاشوراء
فيها؛ لأنه بعد الرسالة إنما كان يتعبد بالشرع قطعًا،
وكونه كان خاصًا به لا يمنع أن أصل المشروعية للصيام كان
بمكة".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "أقر".
3 يشير إلى أن سنة الله في التشريع كسنته في التكوين، يرى
المتأمل فيها من الحكم البالغة ما يبهر النظر؛ فإنه سبحانه
بدأ في إنزال أوضاع الشريعة بالضروري الذي لا تصلح الأمة
بدونه، ولا تخرج من ظلمة الجاهلية بغيره؛ فشرع لها بمكة ما
يكفل ذلك، ثم لما صلب عودها، وبلغت أشدها، واستعدت العقول
لما يكمل ذلك من الأوضاع الشرعية؛ شرع لها بالمدينة ما
أكمل به الدين وأتم به النعمة، ولولا ذلك التدرج؛ لنأت
الأمة بالتكاليف، وشرد عن قبولها كثير؛ فلله الحمد والمنة.
"ف".
4 علمت أنه وإن أفاد في الصوم لكنه لا يفيد في الحج. "د".
5 بل هو أعلى فروعه كما سبق لنا بيانه. "د".
ج / 3 ص -241-
المسألة التاسعة1:
كل دليل شرعي يمكن أخذه كليا، وسواء علينا أكان كليا أم
جزئيا2 إلا ما خصه الدليل؛ كقوله تعالى:
{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}3
[الأحزاب: 50]، وأشباه ذلك، والدليل على ذلك أن المستند؛
إما أن يكون كليا، أو جزئيا، فإن كان [كليا؛ فهو المطلوب،
وإن كان جزئيا، فبحسب النازلة لا بحسب التشريع في الأصل
بأدلة4:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة التاسعة تقدمت له نظيرتها في النوع الرابع
من المقاصد المسألة التاسعة أيضا، ولا فرق بينهما إلا من
جهة أن تلك في أن الشريعة بحسب المكلفين عامة، وهذه تقول:
إن الدليل الشرعي يؤخذ عاما على أحكام الشريعة، وظاهر أن
هذه مرتبة على تلك ولازمة لها؛ لأنه متى كانت الشريعة عامة
لا تخص مكلفًا دون مكلف؛ فكل دليل ولو كان لفظه غير عام
كأن ورد على جزئي؛ فإنه يعتبر عاما، ولذا تجد الأدلة هنا
بعضا من الأدلة هناك، وقد توسع هناك بأدلة عقلية، ثم فرع
على المسألة فوائد جليلة، وكان يمكنه هنا أن يذكر المسألة
ويجعلها مفرعة على تلك، ويحيل في الاستدلال عليها، لكنه
زاد هنا قوله: "وقد بين ذلك بقوله وفعله... إلخ"؛ فهذا من
إيجازه فيه هو محل الفائدة الجديدة. "د".
2 أي: في صيغته ولفظه، وكذلك يقال في أوله: "المستند"؛ أي:
اللفظ الوارد عن الشارع في الموضوع. "د".
قلت: "انظر أيضا "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 339 و15/
82، 364، 444-445، 451 و16/ 148-149".
3 علم من الآية أنه حيث سكت عن الاختصاص كان الاشتراك
ثابتا، وإلا؛ فما معنى تخصيص هذا الموضع الاختصاص؟ ويتأكد
ذلك أن ما أجله الله له من الأزواج والمملوكات أطلق، وفي
الواهبة قيدها بالخلوص له؛ فعلم أنه حيث سكت عن التقييد؛
فذلك دليل الاشتراك، أفاده ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى"
"4/ 444".
4 أي: وذلك بأدلة، أي: كون جزئيته لا بحسب التشريع بأدلة،
وأما كونها بحسب النازلة؛ فظاهر. "ف".
ج / 3 ص -242-
- منها]1 عموم التشريع في الأصل؛ كقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].
{وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا
وَنَذِيرًا} [سبأ: 28].
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ
مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وهذا معنى مقطوع به، لا يخرم2 القطع به ما جاء3 من شهادة
خزيمة4 وعناق أبي بردة5، وقد جاء في الحديث:
"بعثت
للأحمر والأسود"6.
- ومنها أصل شرعية7 القياس؛ إذ لا معنى له إلا جعل الخاص
الصيغة كالعام الصيغة في المعنى8، وهو معنى متفق عليه، ولو
لم يكن أخذ الدليل كليا بإطلاق؛ لما ساغ ذلك.
- ومنها أن الله تعالى قال:
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الآية [الأحزاب: 37]؛ فإن نفس التزويج لا صيغة له تقتضي عموما أو
غيره، ولكن الله تعالى بين أنه أمر به نبيه لأجل التأسي؛
فقال:
{لِكَيْ لا}،
ولذلك قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 بالخاء والراء: أي لا يخل ولا يبطل القطع به ما جاء...
إلخ. "ف".
3 في الاجتزاء في الشهادة على المال بشاهد واحد، وعناق أبي
بردة كانت صغيرة غير مستوفية للشرط؛ فقال له: لا تجزئ عن
أحد غيرك. "د".
4 مضى لفظه وتخريجه "2/ 469".
5 مضى لفظه وتخريجه "2/ 410".
6 قطعة من حديث أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد
ومواضع الصلاة، باب منه، 1/ 370-371/ رقم 521" عن جابر بن
عبد الله رضي الله عنه.
7 في "ط": "أصل شرعي في".
8 فآية تحريم الخمر صيغتها باعتبار الدلالة الوضعية خاصة
بتحريم ما يسمى خمرا، وباعتبار الدلالة المعنوية؛ أي:
دلالة العلة عامة لكل ما يشارك الخمر فيما نيط به حكمه؛
فالقياس تعميم في دلالة النصوص مختص بنظر المجتهد. "ف".
والمثبت من "ط"، وفي غيره: "الصيغة عام".
ج / 3 ص -243-
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
[الأحزاب: 21] هذا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد خصه
الله بأشياء؛ كهبة المرأة نفسها له1، وتحريم نكاح أزواجه
من بعده2، والزيادة على أربع، فذلك3 لم يخرجه عن شمول
الأدلة فيما سوى ذلك المستنثى؛ فغيره أحق أن تكون الأدلة
بالنسبة إليه مقصودة العموم، وإن لم يكن لها صيغ عموم،
وهكذا الصيغ المطلقة تجري في الحكم مجرى العامة.
- ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بقوله وفعله؛
فالقول كقوله: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة"4، وقوله
في قضايا خاصة سئل فيها؛ أهي لنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما في [الأحزاب: 50]:
{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا
لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا
خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}. وفي "ط": "بنفسها له".
2 كما في [الأحزاب: 53]:
{وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا}، وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي "3/ 1579".
3 في "د": "فلذلك".
4 قال ابن كثير في "تحفة الطالب" "رقم 180": "لم أر لهذا
قط سندا، وسألت عنه شيخنا الحافظ جمال الدين أبا الحجاج
"أي: المزي" وشيخنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي مرارا؛ فلم
يعرفاه بالكلية"، وقال الزركشي في "المعتبر" "رقم 123":
"لا يعرف بهذا اللفظ"، وقال ابن الملقن في "غاية الراغب"
"ق19/ 2": "مشهور متكرر في كتب الأصول، ولا يعرف مخرجه بعد
البحث عنه"، وقال العراقي في "تخريج أحاديث المنهاج" "رقم
25": "ليس له أصل، وسئل عنه المزي والذهبي؛ فأنكراه".
ونقل كلام العراقي وأقره جماعة منهم: السخاوي في "المقاصد"
"416"، والقاري في "المصنوع" "125" و"الأسرار" المرفوعة"
"430"، والشوكاني في "الفوائد المجموعة" "ص200" - وزاد:
"وقد ذكره أهل الأصول؛ فاستدلوا به فأخطئوا"- والعجلوني في
"كشف الخفاء" "11161"، والحوت في "أسنى المطالب" "566".
وقال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 527": "هذا قد
اشتهر في كلام الفقهاء والأصوليين، ولم نره في كتب
الحديث"، ونقل كلام ابن كثير السابق، وزاد: "وكذا قال
السبكي: إنه سأل الذهبي عنه؛ فلم يعرفه"، قال الزركشي:
"لكن معناه ثابت"، وقال ابن حجر: "وقد جاء ما يؤدي معناه"
وساقا حديث أميمة بنت رقيقة، وفيه:
"وإنما قولي لمائة امرأة كقولي -أو مثل قولي- =
ج / 3 ص -244-
خاصة،
أم للناس عامة:
"بل للناس عامة"1،
كما في قضية الذي نزلت فيه:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
لامرأة واحدة".
أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 982-983"، ومن طريقه أحمد في
"المسند" "6/ 357"، والنسائي في "عشرة النساء"، والدارقطني
في "السنن" "4/ 147"، والطبراني في "الكبير" "24/ رقم
471"، وابن حبان في "الصحيح" "10/ 417/ رقم 4553 -
الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 146" -عن محمد بن
المنكدر- عن أميمة به، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وأخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب البيعة، باب بيعة
النساء، 7/ 149"، الترمذي في "الجامع" "أبواب السير، باب
ما جاء في بيعة النساء، 4/ 152/ رقم 1597"، وابن ماجه في
"السنن" "كتاب الجهاد، باب بيعة النساء، 2/ 959/ رقم
2874"، وأحمد في "المسند" "6/ 357"، والطيالسي في "المسند"
"رقم 1621"، والحميدي في "المسند" "رقم 341"، والطبراني في
"الكبير" "24/ رقم 470، 472، 473، 475، 476"، والحاكم في
"المستدرك" "4/ 71"، والدارقطني في "السنن" "4/ 146" من
طرق عن ابن المنكدر به.
والحديث صحيح، وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني
الشيخين بإخراجها لثبوتها على شرطهما. انظر: "الإلزامات
والتتبع" "ص154".
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب
الصلاة كفارة، 2/ 8/ رقم 526"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
التوبة، باب قوله تعالى:
{إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}،
4/ 2115-2116/ رقم 2763" عن ابن مسعود: أن رجلا أصاب من
امرأة قبلة؛ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل
الله:
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}؛ فقال الرجل: يا رسول الله؟ ألي هذا؟ قال:
"لجميع أمتي كلهم". لفظ البخاري، وفي لفظ لمسلم:
"بل للناس كافة".
واللفظ الذي أورده المصنف وقع نحوه في حديث معاذ، وفيه
انقطاع؛ كما قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "1/ 325"،
وقد خرجته وتكلمت عليه بإسهاب ولله الحمد في تحقيقي
لـ"الخلافيات" للبيهقي "رقم 434"، وفيه زيادة لذكر الوضوء
والصلاة.
وما أورده المصنف هو لفظ الترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير
القرآن، باب ومن سورة هود، 5/ 292/ رقم 3115" عن أبي
اليسر، وإسناده فيه قيس بن الربيع، ضعفه وكيع وغيره.
ج / 3 ص -245-
{أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] وأشباهها.
وقد جعل نفسه عليه الصلاة والسلام قدوة للناس؛ كما ظهر في
حديث الإصباح جنبا وهو يريد أن يصوم1، والغسل من التقاء
الختانين2.
وقوله:
"إني لأنسى أو
أُنَسَّى لأَسُنَّ"3.
وقوله:
"صلوا كما
رأيتموني أصلي"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي لفظه وتخريجه "4/ 93".
2 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من
الماء" ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 272/ رقم 350" عن
عائشة رضي الله عنها؛ قالت: إن رجلا سأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل، هل عليهما
الغسل؟ وعائشة جالسة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل".
3 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 100 و339 - رواية محمد بن
الحسن"- ولفظه ابن الحسن:
"إني أنس
لأسن"- بلاغا.
قال ابن عبد البر في "التمهيد" "24/ 375": "أما هذا الحديث
بهذا اللفظ؛ فلا أعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم
بوجه من الوجوه مسندا ولا مقطوعا من غير هذا الوجه، والله
أعلم، وهو أحد الأحاديث الأربعة في "الموطأ" التي لا توجد
في غيره مسندة ولا مرسلة، والله أعلم".
وقال: "ومعناه صحيح في الأصول، وقد مضت آثار في باب نومه
عن الصلاة، تدل على هذا المعنى، نحو قوله صلى الله عليه
وسلم: "إن الله قبض أرواحنا لتكون سنة لمن بعدكم، وقال صلى
الله عليه وسلم:
"إنما أنا بشر أنسى كما تنسون"،
وبعث صلى الله عليه وسلم معلما؛ فما سن لنا اتبعناه، وقد
بلغ ما أمر به، ولم يتوفاه الله حتى أكمل دينه سننا
وفرائض، والحمد لله".
قال ابن الصلاح في "الرسالة التي وصل فيها البلاغات الأربع
في الموطأ" "ص14-15": "وأما حديث النسيان؛ فرويناه من وجوه
كثيرة صحيحة"، ذكر منها حديث عثمان بن أبي شيب عن جرير عن
ابن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله؛ قال صلى الله
عليه وسلم. وذكر حديث السهو، وأنه عليه السلام قال:
"إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت؛ فذكروني"، قال: "وأخرجه الشيخان في "صحيحهما"، وإنما به من حديث مالك طرف
منه". وانظر: "الاستذكار" "4/ 402-403".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب الأذان
للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، 2/ 111/ رقم 631" عن
مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
ج / 3 ص -246-
و"خذوا عني مناسككم"1.
وهو كثير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة
العقبة يوم النحر راكبا، 2/ 943/ رقم 1297"، وأحمد في
"المسند" "3/ 318" عن جابر رضي الله عنه؛ قال: رأيت النبي
صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول:
"لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه".
وأخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب المناسك، باب الركوب
إلى الجمال واستظلال المحرم، 5 270"، وفيه:
"يا أيها الناس! خذوا مناسككم".
وفي "مسند أحمد" "3/ 366":
"... ألا فخذوا مناسككم".
ج / 3 ص -247-
المسألة العاشرة:
الأدلة الشرعية ضربان1:
أحدهما:
أن يكون على طريقة البرهان العقلي؛ فيستدل به على المطلوب
الذي جعل دليلا عليه، وكأنه تعليم للأمة كيف يستدلون على
المخالفين، وهو في أول2 الأمر موضوع لذلك، ويدخل هنا جميع
البراهين العقلية وما جرى مجراها؛ كقوله تعالى:
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
وقوله:
{لِسَانُ
الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ
عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].
وقوله:
{وَلَوْ
جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 44].
وقوله:
{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81].
وقوله:
{قَالَ
إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ
الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258].
وقوله:
{اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ...}
إلى قوله:
{هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم: 40].
وهذا الضرب يستدل به على الموالف3 والمخالف؛ لأنه أمر
معلوم عند
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر "المسودة" "ص496"، و"مجموع الفتاوى" "2/ 7-14 و17/
437 و19/ 228-234".
2 في "ط": "الأول".
3 في "م": "الموافق".
ج / 3 ص -248-
من له
عقل؛ فلا يقتصر به على الموافق [في النحلة]1.
والثاني:
مبني على الموافقة في النحلة، وذلك الأدلة الدالة على
الأحكام التكليفية؛ كدلالاة الأوامر والنواهي على الطلب من
المكلف، ودلالة2
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]،
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام} [البقرة: 183]،
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة: 187]؛ فإن هذه النصوص وأمثالها لم توضع وضع البراهين، ولا
أتي بها في محل استدلال، بل جيء بها قضايا يعمل بمقتضاها
مسلمة متلقاة بالقبول، وإنما برهانها في الحقيقة المعجزة
الدالة على صدق الرسول الآتي بها، فإذا3 ثبت برهان
المعجزة؛ ثبت الصدق وإذا ثبت الصدق؛ ثبت التكليف على
المكلف.
فالعالم إذا استدل بالضرب الأول أخذ الدليل إنشائيا كأنه
هو واضعه، وإذا استدل بالضرب الثاني أخذه معنى مسلما لفهم
مقتضاه إلزاما والتزاما، فإذا أطلق لفظ الدليل على
الضربين؛ فهو إطلاق بنوع من اشتراك اللفظ لأن الدليل
بالمعنى الأول خلافه بالمعنى الثاني؛ فهو بالمعنى الأول
جارٍ على الاصطلاح المشهور عند العلماء، وبالمعنى الثاني
نتيجة أنتجتها المعجزة فصارت قولا مقبولا فقط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 زاده لأن هذه ليس أوامر ونواه لفظا، بل هي أخبار في معنى
الطلب. "د".
3 في "م": "إذا".
ج / 3 ص -249-
المسألة الحادية عشرة:
إذا كان الدليل على حقيقته في اللفظ؛ لم يستدل به على
المعنى المجازي إلا على القول بتعميم1 اللفظ المشترك،
بشرط2 أن يكون ذلك المعنى مستعملا عند العرب في مثل ذلك
اللفظ، وإلا، فلا.
فمثال ذلك مع وجود الشرط قوله تعالى:
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ
الْحَيِّ}
[يونس: 31]؛ فذهب جماعة إلى أن المراد بالحياة والموت ما
هو حقيقي كإخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة وبالعكس،
وأشباه ذلك مما يرجع إلى معناه، وذهب قوم إلى تفسير الآية
بالموت والحياة المجازيين المستعملين في مثل قوله تعالى:
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} الآية [الأنعام: 122]، وربما ادعى قوم أن الجميع3 مراد بناء على
القول بتعميم اللفظ المشترك، واستعمال اللفظ في حقيقته
ومجازه، ولهذا الأصل أمثلة كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الحنفية وبعض الشافعية وبعض المعتزلة: "لا يستعمل
اللفظ في الحقيقة والمجاز مقصودين معا بالحكم، وأجازه
الشافعية والقاضي وبعض المتعزلة مطلقا، إلا إذا لم يمكن
الجمع؛ كافعل أمرا وتهديدا؛ لأن الأمر يقتضي الإيجاب،
والتهديد يقتضي الترك؛ فلا يصح اجتماعهما، وقال الغزالي
وأبو الحسين: إنما يجوز عقلا لا لغة؛ إلا في غير المفرد من
المثنى والمجموع؛ فيجوز لغة أيضا، فيكون حينئذ كل لفظ
مستعملا في معنى. "د".
قلت: انظر في هذا: "جلاء الأفهام" "ص85"، و"البحر المحيط"
"2/ 127، 139 وما بعدها" للزركشي، و"المحصول" "1/ 278".
2 أي: بشرط أن يكون هذا المعنى مما يستعمل فيه مثل هذا
اللفظ عند العرب، وهذا هو محل الزيادة في كلامه على كلام
المجيزين، يقيد به هذا الجواز، ولا يخفى أن استعمال ألفاظ
الكتاب في المجاز فقط محتاج أيضا إلى هذا القيد. "د".
3 هذا هو محل التمثيل، وقوله: "أو سكر النوم... إلخ"؛ أي:
فيصح أن يكون من موضوع المسألة مما تحقق فيه الشرط. "د".
ج / 3 ص -250-
ومثال
ما تخلف فيه الشرط قوله تعالى:
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ
وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى
تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43].
فالمفسرون هنا على أن المراد بالسكر ما هو الحقيقة أو سكر
النوم، وهو مجاز فيه مستعمل، وأن الجنابة والغسل منها على
حقيقته، فلو فسر على أن السكر هو سكر الغفلة والشهوة وحب
الدنيا المانع من قبول العبادة في اعتبار التقوى كما منع1
سكر الشراب من الجواز في صلب الفقه، وأن الجنابة المراد
بها التضمخ2 بدنس الذنوب، والاغتسال هو التوبة؛ لكان هذا
التفسير غير معتبر لأن العرب لم تستعمل مثله في مثل هذا
الموضع ولا عهد لها به؛ لأنها لا تفهم3 من الجنابة
والاغتسال إلا الحقيقة، ومثله قول من زعم أن النعلين في
قوله تعالى:
{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] إشارة إلى خلق الكونين4؛ فهذا على ظاهره لا تعرفه العرب
لا في حقائقها المستعملة ولا في مجازاتها، وربما نقل في
[معنى] قوله صلى الله عليه وسلم:
"تداوَوا؛ فإن
الذي أنزل الداء أنزل الدواء"5
أن فيه إشارة6 إلى التداوي بالتوبة من أمراض الذنوب، وكل
ذلك غير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيكون مما استعمل فيهما بدون تحقق الشرط. "د".
2 أي: مجازا مرادا مع الحقيقة؛ لأن أرباب الإشارة من
الصوفية لا يقصرون المعنى المراد على المجاز في مثل هذا.
"د".
3 أي: ولا تفهم من السكر سكر الغفلة والشهوة لا مجازا ولا
حقيقة. "د".
4 كما في "لطائف الإشارات" "2/ 448" للقشيري، وانظر: "4/
250".
5 مضى تخريجه "1/ 217"، وهو حديث صحيح.
6 ليست الإشارة في كلامهم مما يراد منه استعمال اللفظ في
المعنى المذكور، وحاشاهم أن يقولوا ذلك، بل معناه أن
الألفاظ مستعملة في معناها الوضعي العربي، وإنما يخطر
المعنى الإشاري على قلوب العارفين عند ذكر الآية أو
الحديث، بعد فهمه على الطريق العربي الصحيح، كما أفاده ابن
عطاء الله في كتابه "لطائف المنن". "د".
ج / 3 ص -251-
معتبر1؛ فلا يصح استعمال الأدلة الشرعية في مثله، وأول
قاطع فيه أن القرآن أنزل عربيا وبلسان العرب، وكذلك السنة
إنما جاءت على ما هو معهود لهم، وهذا الاستعمال خارج عنه،
ولهذا المعنى تقرير في موضعه2 من هذا الكتاب، وهذا
الاستعمال خارج عنه، ولهذا المعنى تقرير في موضعه2 من هذا
الكتاب، والحمد لله، فإن نقل في التفسير نحوه عن رجل يعتد
به في أهل العلم؛ فالقول فيه مبسوط بعد هذا3 بحول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر لزاما: "الاعتصام" "1/ 322 - ط ابن عفان" للمصنف،
و"فضائح الباطنية" أو "المستظهري" "الباب الخامس، ص35 وما
بعدها"، و"الإحياء" "1/ 37"، كلاهما للغزالي.
2 سبق في المسألة الرابعة من النوع الثاني من المقاصد،
وسيأتي أيضا في المسألة التاسعة من مباحث الكتاب العزيز.
"د".
3 أي: في الفصل الثاني من المسألة التاسعة المذكورة، فيما
روى عن سهل بن عبد الله من تفسير آيات على هذا النحو. "د".
ج / 3 ص -252-
المسألة الثانية عشرة1:
كل دليل شرعي لا يخلو أن يكون معمولا به في السلف
المتقدمين دائما أو أكثريا، أو لا يكون معمولا به إلا
قليلا أو في وقت ما، أو لا يثبت به عمل؛ فهذه ثلاثة أقسام:
أحدها:
أن يكون معمولا به دائما أو أكثريا؛ فلا إشكال في
الاستدلال به ولا في العمل على وفقه، وهي السنة المتبعة
والطريق المستقيم، كان الدليل مما يقتضي إيجابا أو ندبا أو
غير ذلك من الأحكام؛ كفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع
قوله في الطهارات والصلوات على تنوعها من فرض أو نفل،
والزكاة بشروطها، والضحايا والعقيقة، والنكاح والطلاق،
والبيوع وسواها من الأحكام التي جاءت في الشريعة، وبيَّنها
عليه الصلاة والسلام بقوله أو فعله أو إقراره، ووقع فعله
أو فعل صحابته معه أو بعده على وفق ذلك دائما أو أكثريا،
وبالجملة ساوى القول الفعل ولم يخالفه بوجه؛ فلا إشكال في
صحة الاستدلال وصحة العمل من سائر الأمة بذلك على الإطلاق،
فمن خالف ذلك فلم يعمل به على حسب ما عمل به الأولون؛ جرى
فيه ما تقدم2 في كتاب الأحكام من اعتبار3 الكلية والجزئية،
فلا معنى للإعادة.
والثاني:
أن لا يقع العمل به إلا قليلا أو في وقت4 من الأوقات
أو حال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في المسألة: "تيسير التحرير" "1/ 255"، و"أفعال
الرسول صلى الله عليه وسلم" "1/ 461-464، 2/ 180-181"
للأشقر.
2 في "ف" و"ط": "جرى ما تقدم في"، وأثبت الصواب في الهامش.
3 لم يظهر معنى اعتبار الكلية والجزئية في هذا، إنما يظهر
ما تقدم في فصل ما يدخل تحت العفو وهو في موضوع الخروج عن
الدليل، حيث قسمه إلى أقسام ثلاثة، فليراجع. "د".
4 هو وما بعده بيان وتفصيل لقوله: "قليلا"؛ فقوله: "في
وقت" أي: كما يأتي في صلاته عليه السلام آخر الوقت المختار
لمن طلب منه معرفة الأوقات، وقوله: "أو حال"؛ أي: كتأخيره
عليه السلام الظهر للإبراد والجمع بين الصلاتين في السفر
كما سيأتي له. "د".
ج / 3 ص -253-
من
الأحوال، ووقع إيثار غيره والعمل به دائما1 أو أكثريا؛
فذلك الغير هو السنة المتبعة والطريق السابلة2، وأما3 ما
لم يقع العمل عليه إلا قليلا؛ فيجب التثبت فيه وفي العمل
على وفقه، والمثابرة على ما هو الأعم والأكثر؛ فإن إدامة
الأولين للعمل على مخالفة هذا الأقل؛ إما أن يكون لمعنى
شرعي، أو لغير معنى شرعي، وباطل أن يكون لغير معنى شرعي؛
فلا بد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به، وإذا كان كذلك؛
فقد صار العمل على وفق القليل كالمعارض للمعنى الذي تحروا
العمل على وفقه، وإن لم يكن معارضا في الحقيقة4؛ فلا بد من
تحري ما تحروا وموافقة ما داوموا عليه.
وأيضا؛ فإن فرض أن هذا المنقول الذي قل العمل به مع ما كثر
العمل به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الفرض أنه وقع العمل بدليل قليلا؛ فكيف يتأتى معه أن
يكون العمل بالدليل المقابل له دائما؟ "د". قلت: "وفي "ط":
"والعمل عليه دائما".
2 أي: المسلوكة والطريق: السبيل؛ تذكر وتؤنث، نقول: الطريق
المستقيمة، والطريق العظمى. "ف".
3 هذا نوع من الترجيح غير ما ذكره الأصوليون في مباحث
الترجيح بالأمر الخارج كعمل أهل المدينة أو الخلفاء
الأربعة، أو بعمل أكثر السلف، فما هنا ترجيح وإن كان بخارج
أيضا؛ إلا أنه يكون عمله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه
وبعده كان عليه ولم يخالفوه إلا لأسباب اقتضت المخالفة
يأتي ذكرها، ولا ينافي أنه من الترجيح بخارج جعله المعارضة
بين العمل والمعنى الذي تحروه؛ لأن الواقع أن المعارضة
إنما هي بين الخبرين، ومعارضة العمل تابعة، يرشدك إلى هذا
قوله: "فإن فرض أن هذا... إلخ"؛ فقد عقد المعارضة بين نفس
الخبرين حتى اقتضى ذلك التخيير في العمل بأيهما. "د".
4 أي: لضعفه بإزاء ما كثر العمل على وفقه. "د".
ج / 3 ص -254-
يقتضيان1 التخيير؛ فعملهم إذا حقق النظر فيه لا يقتضي مطلق
التخيير، بل اقتضى أن ما داوموا عليه هو الأولى في الجملة،
وإن كان العمل الواقع على وفق الآخر لا حرج فيه، كما نقول
في المباح مع المندوب: إن وضعهما بحسب فعل المكلف يشبه
المخير فيه؛ إذ لا حرج في ترك المندوب على الجملة2؛ فصار
المكلف كالمخير فيهما، لكنه في الحقيقة ليس كذلك، بل
المندوب أولى أن يعمل به من المباح في الجملة؛ فكذلك ما
نحن فيه.
وإلى هذا3؛ فقد ذكر أهل الأصول أن قضايا الأعيان لا تكون
بمجردها حجة ما لم يعضدها دليل آخر؛ لاحتمالها في أنفسها،
وإمكان4 أن لا تكون مخالفة لما عليه العمل المستمر، ومن
ذلك في كتاب5 الأحكام وما بعده، فإذا كان كذلك؛ ترجح العمل
على خلاف ذلك القليل، ولهذا القسم أمثلة كثيرة، ولكنها على
ضربين:
أحدهما: أن يتبين فيه للعمل القليل وجه يصلح أن يكون سببًا
للقلة، حتى إذا عدم السبب عدم المسبب، وله مواضع؛ كوقوعه
بيانًا لحدود حدت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لأنهما دليلان متعارضان ولا مرجح؛ فالحكم إما الوقف،
وإما التخيير على الخلاف بينهم في ذلك. "د".
2 وإن كان في ترك المندوب كليا حرج، كما سبق أن المندوب
بالجزء يكون واجبا بالكل. "د".
3 يعني: ويضاف إلى ما ذكرناه من أدلة الأخذ بما عليه العمل
في الأعم الأكثر أن قضايا الأعيان... إلخ، ولا يخفى أن
العمل إذا كان قليلا عد من قضايا الأعيان التي لا يحتج
بها، وهذا يوهن الأخذ بما كان العمل عليه قليلا. "د".
4 عطف تفسير لقوله: "احتمالها في أنفسها". "د".
5 كما تقدم في ترك بعض الصحابة ومن بعدهم لبعض المباحات؛
حتى كان يظن بهم أنهم لا يرونها مباحة. "د".
قال "ف": "ولعله: ومن ذلك ما في كتاب..." إلخ.
ج / 3 ص -255-
أو
أوقات عينت، أو نحو1 ذلك.
كما جاء في حديث إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم
يومين2، وبيان رسول الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وأوقات عينت ونحو".
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب
الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة، 1/ 281-283/ رقم
150"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الصلاة، باب آخر وقت
العصر، 1/ 255"، وأحمد في "المسند" "3/ 330"، والدارقطني
في "السنن" "1/ 257"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 195"،
والبيهقي في "الكبرى" "1/ 368" عن جابر بن عبد الله؛ أن
النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل عليه السلام؛ فقال
له: "قم فصله. فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر؛
فقال: قم فصله، فصلى العصر حين صار كل شيء مثله، ثم جاءه
المغرب؛ فقال: قم فصله. فصلى المغرب حين وجبت الشمس، ثم
جاء العشاء؛ فقال: قم فصله. فصلى العشاء حين غاب الشفق، ثم
جاء الفجر؛ فقال: قم فصله. فصلى الفجر حين برق الفجر "أو
قال: سطع الفجر"، ثم جاءه من الغد للظهر؛ فقال: فصله. فصلى
الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم جاءه العصر؛ فقال: قم
فصله. فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم جاءه المغرب
وقتا واحدا لم يزل عنه، ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل
"أو قال: ثلث الليل"؛ فصلى العشاء، ثم جاءه الفجر حين أسفر
جدا، فقال: قم فصله. فصلى الفجر، ثم قال: ما بين هذين
الوقتين وقت". لفظ أحمد.
قال الترمذي: "حديث جابر في المواقيت قد رواه عطاء بن أبي
رباح وعمرو بن دينار وأبو الزبير عن جابر بن عبد الله عن
النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث وهب بن كيسان عن جابر"،
وقال: "وقال محمد -يعني: البخاري-: أصح شيء في المواقيت
حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم"، وقال الحاكم:
"هذا حديث صحيح مشهور"، وقال ابن القطان -كما في "نصب
الراية" "1/ 222" -: "هذا الحديث يجب أن يكون مرسلا؛ لأن
جابرا لم يذكر من حدثه بذلك، وجابر لم يشاهد ذلك صبيحة
الإسراء لما علم أنه أنصاري، إنما صحب بالمدينة، ولا يلزم
ذلك في حديث أبي هريرة وابن عباس؛ فإنهما رويا إمامة جبريل
من قول النبي صلى الله عليه وسلم".
وتعقبه ابن دقيق العيد في "الإمام" -كما في "نصب الراية"
"1/ 223"- فقال: "وهذا المرسل غير ضار، فمن أبعد البعد أن
يكون جابر سمعه من تابعي عن صحابي، وقد اشتهر أن مراسيل
الصحابة مقبولة، وجهالة عينهم غير ضارة". =
ج / 3 ص -256-
صلى
الله عليه وسلم لمن سأله عن وقت الصلاة؛ فقال:
"صل معنا هذين اليومين"1؛
فصلاته في اليوم2 في أواخر الأوقات وقع موقع البيان لآخر
وقت الاختياري الذي لا يتعدى، ثم لم يزل مثابرا على أوائل
الأوقات إلا عند عارض؛ كالإبراد في شدة الحر3 والجمع بين
الصلاتين في السفر4، وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت: والأقوى من جواب ابن دقيق العيد ما وقع في لفظ
الترمذي في حديث جابر هذا: "عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال:
"أمني جبريل...".
فإذن؛ رواه جابر من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولم
يشاهد أبو هريرة وابن عباس وغيرهما ممن روى هذا الحديث
إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فاستووا مع جابر في
ذلك؛ وهذه علة غير قادحة، والحديث صحيح، وله شواهد عديدة
وكثيرة وشهيرة؛ حتى عده السيوطي في "الأزهار المتناثرة"
"ص22" وغيره من الأحاديث المتواترة. وانظر "نصب الراية"
"4/ 221-226".
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب
أوقات الصلوات الخمس، 1/ 428/ رقم 613" عن بريدة رضي الله
عنه.
2 لعل فيه سقط كلمة "الثاني" كما يدل عليه الحديث في باب
مواقيت الصلاة. "د".
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب
الإبراد بالظهر في شدة الحر، 2/ 15/ رقم 533، 534"، ومسلم
في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب استحباب الإبراد بالظهر، 1/
410/ رقم 615" عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا اشتد الحر؛
فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم".
وقد عده السيوطي في "الأزهار المتناثرة" "ص14" متواترا.
4 ورد ذلك في أحاديث عديدة، منها ما أخرجه البخاري في
"صحيحه" "كتاب تقصير الصلاة، باب إذا ارتحل بعدما زاغت
الشمس، 2/ 582/ رقم 112"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة
المسافرين، باب جواز الجمع بين الصلاتين، 1/ 489/ رقم 704"
عن أنس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل
أن تزيغ الشمس؛ أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع
بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل؛ صلى الظهر ثم ركب".
وفي رواية لمسلم: "كان إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في
السفر يؤخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر، ثم يجمع
بينهما".
ج / 3 ص -257-
وكذلك
قوله:
"من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس؛ فقد أدرك الصبح"1، إلخ بيان لأوقات الأعذار لا مطلقا؛ فلذلك لم يقع العمل عليه في
حال الاختيار، ومن أجل ذلك يفهم أن قوله عليه الصلاة
والسلام:
"أسفروا بالفجر"2
مرجوح بالنسبة إلى العمل3 على وفقه، وإن لم يصح؛ فالأمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب من
أدرك من الفجر ركعة، 2/ 56/ رقم 579"، ومسلم في "صحيحه"
"كتاب المساجد، باب من أدرك من الصلاة، 1/ 424/ رقم 608"
عن أبي هريرة مرفوعًا.
2 أخرجه النسائي في "المجتبى" "كتاب المواقيت، باب
الإسفار، 1/ 372"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة،
باب ما جاء في الإسفار بالفجر، 1/ 289/ رقم 154"، وأبو
داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب في وقت الصبح، 1/ 249/
رقم 424" -بلفظ:
"أصبحوا بالصبح"-،
وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصلاة، باب وقت صلاة الفجر،
1/ 221/ رقم 672"، وأحمد في "المسند" "3/ 465 و4/ 140"،
والشافعي في "المسند" "1/ 50، 51"، والحميدي في "المسند"
"رقم 408"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 2159"، والطيالسي
في "المسند" "رقم 959"، والدرامي في "السنن" "1/ 277"
والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 178"، والطبراني في
"الكبير" "رقم 4283-4290"، وابن حبان في "الصحيح" "4/ 357،
358/ رقم 1490، 1491- الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" 1/
457"، والبغوي في "شرح السنة" "رقم 354"، وأبو نعيم في
"الحلية" "7/ 94"، و"ذكر أخبار أصبهان" "2/ 329"، والحازمي
في "الاعتبار" "ص75"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 458"،
والخطيب في "التاريخ" "13/ 45" عن رافع بن خديج مرفوعا،
وهو صحيح.
والعجب من السيوطي في "الأزهار المتناثرة" "ص14"؛ فإنه عده
متواترا؛ فقال: "أخرجه الأربعة عن رافع بن خديج، وأحمد عن
محمود بن لبيد، والطبراني عن بلال وابن مسعود وأبي هريرة
وحواء، والبزار عن أنس وقتادة، والعدني في "مسنده" عن رجل
من الصحابة".
ولم يتفطن رحمه الله أن زيد بن أسلم اضطرب في طرقه؛ فجعله
تارة من مسند رافع، وتارة من مسند أنس، وتارة عن محمود بن
لبيد، وتارة عن رجل من الأنصار، وتارة عن حواء؛ فهؤلاء
خمسة يرجع حديثهم إلى اضطراب زيد بن أسلم، وحكم ابن حبان
في "المجروحين" "1/ 324-325" على حديث أبي هريرة بالوهم،
وحديث بلال وابن مسعود ضعيفان، ورواه عاصم بن عمر بن
قتادة، واختلف عليه فيه؛ فجعله مرة عن رافع، ومرة عن قتادة
بن النعمان؛ فلم يسلم من هذه الأحاديث إلا حديث رافع، وهو
صحيح.
وانظر: "الخلافيات" للبيهقي "4/ مسألة رقم 67" وتعليقنا
عليه.
3 أي: لقلة العمل على الإسفار، والمرجوحية أخذ بها مالك،
وقوله: "وإن لم يصح؛ فالأمر واضح"، الأوضحية بالنسبة
لمساعدة مالك فقط، وإلا؛ فهو خروج عن الموضوع لأن الكلام
في دليلين صحيحين ترجح أحدهما بأن العمل به أكثري. "د".
ج / 3 ص -258-
واضح.
وبه أيضا يفهم1 وجه إنكار أبي مسعود الأنصاري على المغيرة
بن شعبة تأخير الصلاة إلى آخر وقتها، وإنكار عروة بن
الزبير على عمر بن عبد العزيز كذلك2، واحتجاج عروة بحديث
عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس
في حجرتها قبل أن تظهر"3، ولفظ: "كان يفعل" يقتضي الكثرة4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإن لم يذكر أبو مسعود هذا الوجه في احتجاجه، بل ذكر
قوله:
"بهذا أمرت"
كما يجيء بعد. "د".
2 وسيأتي تخريج ذلك قريبا.
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مواقيت الصلاة، باب
مواقيت الصلاة وفضلها، 2/ 6/ رقم 522 - وهذا لفظه-، وباب
وقت العصر، 2/ 25/ رقم 544، 545، 546" عن عائشة رضي الله
عنها.
وأخرج نحوه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة،
باب استحباب التبكير بالعصر، 1/ 433-434/ رقم 621" عن أنس
رضي الله عنه.
ولفظ البخاري في "545": "والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء
من حجرتها".
قال "ف": "لم يظهر: لم يزل، وقيل: لم يصعد، ولم يعل على
الحيطان والأول أظهر، تأمل. اهـ"، وفي لفظ البخاري: "الشمس
لم تخرج من حجرتها"، قال "د": "والمعنى قبل أن تزول الشمس
عن وسط الدار".
4 ولذلك أفرد بعض المصنفين في الحديث بابا لـ"كان"، وسموه
"باب الشمائل"، وقال =
ج / 3 ص -259-
بحسب
العرف؛ فكأنه احتج عليه في مخالفة ما دوام عليه النبي صلى
الله عليه وسلم، كما احتج أيضا أبو مسعود على المغيرة بأن
جبريل نزل فصلى إلى أن قال:
"بهذا أمرت"1
وكذلك قول عمر بن الخطاب للداخل للمسجد يوم الجمعة وهو على
المنبر:
"أية ساعة هذه؟"2،
وأشباهه.
وكما جاء في قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان
في المسجد، ثم ترك ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أهل الأصول: إن لفظ "كان يفعل" يفيد عرفا ذلك. "د".
قلت: في جميع النسخ المطبوعة: "كان فعل يقتضي الكثرة"، وما
أثبتناه من الأصل و"ط"، وهو الصواب.
وقال المصنف في "الاعتصام" "1/ 456 - ط ابن عفان": "يأتي
في بعض الأحاديث: "كان يفعل" فيما لم يفعله إلا مرة واحدة،
نص عليه أهل الحديث".
وانظر: إحكام الأحكام" "1/ 90"، و"جمع الجوامع" "1/ 425"
مع "شروحه"، و"المسودة في أصول الفقه" "ص115"، و"شرح
الورقات" "ص155" لابن القاسم.
1 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب مواقيت الصلاة، باب
مواقيت الصلاة وفضلها، 2/ 3/ رقم 521" عن ابن شهاب؛ أن عمر
بن عبد العزيز أخر الصلاة يوما؛ فدخل عليه عروة بن الزبير،
فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما وهو بالعراق،
فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري؛ فقال: "ما هذا يا مغيرة؟
أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم
صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ثم قال:
"بهذا أمرت". فقال عمر لعروة: اعلم ما تحدث، أو: إن جبريل هو أقام لرسول الله
صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة؟ قال عروة: كذلك كان بشير
بن أبي مسعود يحدث عن أبيه".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجمعة، باب فضل الغسل
يوم الجمعة، 2/ 356/ رقم 878".
وهذا الداخل هو عثمان، كما وقع التصريح به في رواية عند
مسلم في "صحيحه" "كتاب الجمعة، 2/ 580/ رقم 845"، وابن
خزيمة في "الصحيح" "3/ 125/ رقم 1748"، وابن المنذر في
"الأوسط" "4/ 42/ رقم 1777".
ج / 3 ص -260-
مخافة
أن يعمل به الناس فيفرض عليهم1، ولم يعد إلى ذلك هو ولا
أبو بكر؛ حتى جاءت خلافة عمر بن الخطاب؛ فعمل بذلك لزوال
علة الإيجاب، ثم نبه على أن القيام في آخر الليل أفضل من
ذلك2؛ فلأجل ذلك كان كبار السلف من الصحابة والتابعين
ينصرفون بعد صلاة العشاء إلى بيوتهم ولا يقومون مع الإمام،
واستحبه مالك لمن قدر عليه3.
وإلى هذا الأصل4 ردت عائشة ترك رسول الله صلى الله عليه
وسلم الإدامة على صلاة الضحى؛ فعملت بها لزوال العلة
بموته، فقالت: "ما رأيت5 رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي [سبحة] الضحى قط، وإني لأسبحها"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب صلاة التراويح، باب فضل
من قام رمضان، 4/ 251/ رقم 2012"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو
التروايح، 1/ 524/ رقم 761" عن عائشة رضي الله عنها
مرفوعا، ومضى لفظه عند المصنف "2/ 137".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب صلاة التراويح، باب فضل
من قام رمضان، 4/ 250/ رقم 2010"، ومالك في "الموطأ" "1/
114-115".
3 انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" "2/ 393"، و"الاستذكار" "5/
158-159"، و"التمهيد" "8/ 119"، وقد اختار التفرد على أن
لا يقطع معه القيام في المساجد، وإلا؛ فلا.
4 الأصل الخاص، وهو ترك العمل خشية أن يفرض لا الأصل الذي
فيه الكلام، وهو ترجيح الدليل باستدامة أو أكثرية العمل
به. "د".
5 لا ينافي ما جاء عنها في أحاديث أخرى أنه صلى الله عليه
وسلم كان يصليها أربعا؛ لأن وقت صلاة الضحى ليس من الأوقات
التي يكون فيها عادة بين نسائه، وقد ثبت لها فعله صلى الله
عليه وسلم للضحى وإن لم تره؛ فلذلك كانت تصليها، ولو كان
داوم عليها لاتفق له رؤيته يصليها؛ فلذلك حكمت بأنه ما كان
يداوم عليها. "د".
6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب من لم يصل
الضحى ورآه واسعا، 3/ 55/ رقم 1177" بلفظ: "ما رأيت رسول
صلى الله عليه وسلم سبح سبحة الضحى، وإني لأسبحها". أي: ما
رأيته داوم عليها، وإني أداوم عليها، أفاده ابن حجر، وما
بين المعقوفتين سقط من "ط". وأخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب
صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى... 1/ 497/
رقم 718" باللفظ المذكور، وما بين المعقوفتين منه، وفي
الأصول كلها بدلا: من "لأسبحها": "لأستحبها"، وما أثبتناه
من "الصحيح" وما بين المعقوفتين استدركناه من "الصحيح"
أيضا.
ج / 3 ص -261-
وفي
رواية: "وإني لأسبحها وإن كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يعمل به الناس
فيفرض عليهم"1.
وكانت تصلي الضحى ثماني ركعات، ثم تقول: "لو نشر لي أبواي2
ما تركتها"3.
فإذا بنينا على ما فهمت من ترك رسول الله صلى الله عليه
وسلم للمداومة على الضحى؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التهجد، باب تحريض النبي
صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب،
3/ 10/ رقم 1128"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب صلاة المسافرين
وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى... 1/ 497/ رقم 718"
-والمذكور لفظه- وأحمد في "المسند" "6/ 169"، ومالك في
"الموطأ" "1/ 152-153"، وعبد الرزاق في "المصنف" "3/ 78"،
والطيالسي في "المسند" "1/ 121"، وابن أبي شيبة في
"المصنف" "2/ 406"، والنسائي في "الكبرى" "رقم 402"،
والبيهقي في "الكبرى" "3/ 49-50".
2 أي: ما كان فرحها بهما عند خروجهما من القبر بِمُلْهٍ
لها عن صلاة الضحى، وذلك دليل على تأكدها من رأيها. "د".
3 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 153- رواية يحيى، ورقم 405 -
رواية أبي مصعب" من طريق زيد بن أسلم عن عائشة، وفي سماع
زيد بن أسلم من عائشة نظر. انظر: "جامع التحصيل" "رقم
211".
وأخرجه أحمد في "المسند" "6/ 138" من حديث أبان بن صالح عن
أم حكيم عن عائشة به.
وأخرجه أبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" "رقم 763"، ومن
طريقه المزي في "تهذيب الكمال" "ق1683" من طريق محمد بن
المنكدر، وال
نسائي في "الكبرى"؛ كما في "تحفة الأشراف" "12/ 390" من
طريق عاصم بن عمر بن قتادة؛ كلاهما عن رميثة عن عائشة
عنها.
ج / 3 ص -262-
فلا
حرج على من فعلها1.
ونظير ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يواصل الصيام ثم
نهى عن الوصال2، وفهم الصحابة من ذلك -عائشة وغيرها- أن
النهي للرفق؛ فواصلوا3، ولم يواصلوا كلهم، وإنما واصل منهم
جماعة كان لهم قوة على الوصال، ولم يتخوفوا عاقبته من
الضعف عن القيام بالواجبات.
وأمثلة هذا الضرب كثيرة، وحكمه الذي ينبغي فيه الموافقة
للعمل الغالب كائنًا ما كان، وترك القليل أو تقليله حسبما
فعلوه، أما فيما كان4 تعريفا بحد وما أشبهه؛ فقد استمر
العمل الأول5 على ما هو الأولى؛ فكذلك يكون بالنسبة إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المداومة. "د".
2 مضى تخريج ذلك. "2/ 239".
3 ينظر في تفصيل ذلك: "الاستذكار" "10/ 151 وما بعدها"،
و"التمهيد" 14/ 363"، و"القبس" "2/ 478"؛ ففيها كلام جيد
على هذه المسألة.
ومن اللطائف ما قاله ابن العربي في "القبس" "2/ 478":
"ووقعت ببغداد نازلة تتعلق بهذا الحديث -أي قوله صلى الله
عليه وسلم:
"إذا أقبل الليل من ههنا... فقد أفطر الصائم"- وذلك أن رجلا قال -وهو صائم-: امرأته طالق إن أفطرت على حار وعلى
بارد، فرفعت المسألة إلى أبي نصر بن الصباغ -إمام الشافعية
بالجانب الغربي- فقال: هو حانث؛ إذ لا بد من الفطر على أحد
هذين. ورفعت المسألة إلى أبي إسحاق الشيرازي بالمدرسة؛
فقال: لا حنث عليه؛ فأنه قد أفطر بدخولها على غير هذين،
وهو دخول الليل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم... وساق
الحديث إلى قوله:
"فقد أفطر الصائم"، وفتوى ابن الصباغ أشبه بمذهب مالك رضي الله عنه".
4 وهو النوع الأول من هذا الضرب المذكور في كلامه آنفا.
"د".
5 أي: في عهده صلى الله عليه وسلم، وقوله: "فكذلك يكون...
إلخ"؛ أي يكون الشأن فيما جاء من الصحابة والسلف موافقتهم
فيه له صلى الله عليه وسلم، أي الحكم فيه للعمل الغالب
قطعا بدون توهم؛ فقوله: "بعد" بالضم، وقوله: "موافقته"
فاعل، ولعل فيه تحريف كلمة موافقتهم له بموافقته لهم كما
هو الأنسب، أي: وأما إذا حصل اختلاف بعد لترخيص منهم بسبب
اقتضاه؛ فسيأتي أنه وإن كان طريقًا يصح سلوكه؛ إلا أن
الأصل هو الأولى، وهذا معنى قوله: "وأما غيره... إلخ"؛ أي:
فغير ما وافقوا عليه فربما يفهم فيه أن الحكم ليس للعمل
الغالب الذي كان في عهده صلى الله عليه وسلم، ولكن الواقع
أن الأمر فيه مثل ما وافقوا عليه؛ كما يتبين ذلك من إرجاع
الأمثلة التي حصلت فيها المخالفة إلى أن الأولى فيها أيضا
ما كان العمل جاريًا فيه على عهده صلى الله عليه وسلم،
وغيره يعتبر مرجوحًا، مع كونه صح في ذاته لسبب اقتضاه.
"د".
ج / 3 ص -263-
ما جاء
بعد موافقته لهم على ذلك، وأما غيره؛ فكذلك أيضا، ويظهر
ذلك بالنظر في الأمثرة المذكورة.
فقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في المسجد ثم
تركه بإطلاق مخافة التشريع يوجد مثله بعد موته، وذلك
بالنسبة إلى الأئمة والعلماء والفضلاء المقتدى بهم؛ فإن
هؤلاء منتصبون1، لأن يقتد بهم فيما يفعلون، وفي باب البيان
من هذا الكتاب لهذا2 بيان؛ فيوشك أن يعتقد الجاهل بالفعل
إذا رأى العالم مداومًا عليه أنه واجب، وسد الذرائع مطلوب
مشروع، وهو أصل من الأصول القطعية في الشرع، وفي هذا
الكتاب له ذكر، اللهم إلا أن يعمل به الصحابة كما في قيام
رمضان؛ فلا بأس، وسنتهم [سنة] ماضية، وقد حفظ الله فيها
هذا المحظور الذي هو ظن الوجوب، مع أنهم لم يجتمعوا3 على
إعماله والمداومة عليه إلا وهم يرون أن القيام في البيوت
أفضل، ويتحرونه أيضا؛ فكان على قولهم وعملهم القيام في
البيوت أولى4، ولذلك جعل بعض الفقهاء القيام في المساجد
أولى لمن لم يستظهر القرآن، أو لمن لا يقوى إلا بالتأسي،
فكانت أولويته لعذر كالرخصة، ومنهم من يطلق القول بأن
البيوت أولى5؛ فعلى كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "منصوبون".
2 سقطت من "ط".
3 في "ط": "يجمعوا".
4 أي: فهم وإن أقاموها في المسجد بإمام واحد على خلاف ما
كان على عهده صلى الله عليه وسلم لهذا العذر ولارتفاع
المانع الذي هو خوف الافتراض؛ إلا أن عملهم وقولهم جار على
أن الأفضل الموافقة للعمل الغالب في عهده. "د".
5 انظر أيهما الأفضل صلاة قيام رمضان في المساجد أم في
البيوت: "الاستذكار" "5/ 158 وما بعدها"، و"التمهيد" "8/
119"، و"تفسير القرطبي" "8/ 372".
ج / 3 ص -264-
تقدير
ما دوام عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو المقدم، وما رآه
السلف الصالح فسنة أيضا، ولذلك يقول بعضهم: لا ينبغي تعطيل
المساجد عنها جملة؛ لأنها مخالفة لما استمر عليه العمل في
الصحابة.
وأما1 صلاة الضحى؛ فشاهدة عائشة بأنها لم تر رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصليها قط دليل على قلة عمله بها، ثم
الصحابة لم ينقل عنهم عموم العمل بها، وإنما دوام من داوم
عليها منهم بمكان لا يتأسى بهم فيه كالبيوت؛ عملا2 بقاعدة
الدوام على الأعمال، ولأن عائشة فهمت أنه لولا خوف الإيجاب
لداوم عليها، وهذا أيضا موجود في عمل المقتدى بهم؛ إلا أن
ضميمة إخفائها يصد عن الاقتداء.
ومن هنا لم تشرع الجماعة في النوافل بإطلاق، بل في بعض
مؤكداتها؛ كالعيدين، والخسوف، ونحوها وما سوى ذلك؛ فقد بين
عليه الصلاة والسلام أن النوافل في البيوت أفضل، حتى جعلها
في ظاهر لفظ الحديث3 أفضل من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مقابل لقوله: "فقيام رمضان"؛ فالمثالان وكذا مثال الوصال
بيان لقوله: "وأما غيره؛ فكذلك أيضا" على ما سبق شرحه.
"د".
2 أي: فهم لم يبتدعوا، بل عملوا بقاعدة شرعية لا يعارضها
ما خشيه صلى الله عليه وسلم من الإيجاب، ولا ظن الوجوب
بفعلهم لأنهم كانوا يخفونها كما قال المؤلف: "إلا أن ضميمة
إخفائها... إلخ". "د".
3 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الشمائل" "رقم
280"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصلاة، باب ما جاء في
التطوع في البيت، 1/ 439/ رقم 1378"، وأحمد في "المسند"
"4/ 342"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "2/ 145/
رقم 865"، وابن خزيمة في "صحيحه" "2/ 210/ رقم 1202"،
والمزي في "تهذيب الكمال" "15/ 22" عن عبد الله بن سعد رضي
الله عنه؛ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الصلاة في بيتي والصلاة في المسجد؛ فقال:
"قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، ولإن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي
في المسجد؛ إلا أن تكون صلاة مكتوبة". إسناده صحيح. =
ج / 3 ص -265-
صلاتها
في مسجده الذي هو أفضل البقاع التي يُصلى فيها؛ فلذلك صلى
عليه الصلاة والسلام في بيت مليكة ركعتين في جماعة1، وصلى
بابن عباس في بيت خالته ميمونة بالليل جماعة2، ولم يظهر
ذلك في الناس، ولا أمرهم به ولا شهره فيهم، ولا أكثر من
ذلك، بل كان [عامة] عمله في النوافل على حال الانفراد؛
فدلت هذه القرائن كلها -مع ما انضاف إليها من أن ذلك3 أيضا
لم يشتهر4 في السلف الصالح ولا واظبوا على العمل به دائما
ولا كثيرا- أنه مرجوح، وأن ما كانوا عليه في الأعم الأغلب
هو الأولى والأحرى، وإذا نظرنا إلى أصل الذريعة اشتد الأمر
في هذه القضايا؛ فكان العمل على ما داوم عليه الأولون
أولى، وهو الذي أخذ به مالك فيما روي عنه أنه يجيز الجماعة
في النافلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي هذا الحديث بيان أفضلية صلاة النافلة على الصلاة في
مسجده صلى الله عليه وسلم، وقد وقع التصريح به أيضا في
حديث زيد بن ثابت الصحيح، أخرج أبو داود في "سننه" "1/
274/ رقم 1024"بإسناد صحيح عنه مرفوعا:
"صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا؛ إلا المكتوبة".
وأما عموم أفضلية صلاة المرء النافلة في بيته؛ فقد وردت في
أحاديث كثيرة، أصحها ما في "الصحيحين":
"أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته؛ إلا المكتوبة". وانظر: "صحيح الترغيب والترهيب" "1/ 177-178".
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب الصلاة على
الحصير، 1/ 488/ رقم 380"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة،
باب جواز الجماعة في النافلة والصلاة على حصير، 1/ 457/
رقم 266"، ومالك في "الموطأ" "رقم 406 - رواية أبي مصعب
و1/ 153- رواية يحيى"، وأحمد في "المسند" "3/ 131، 149،
164".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب اللباس، باب الذوائب،
10/ 363/ رقم 5919"، وخرجته في تعليقي على كتاب "الطهور"
لأبي عبيد "رقم 83" بتفصيل وإسهاب، ولله الحمد والمنة.
3 في "ط": "ذاك".
4 فيكون ما يتعلق بصلاة النافلة جماعة مما حصلت فيه
الموافقة لفعله تماما، بحيث لم يوجد ما يقتضي رخصة لمخالفة
البعض مثلا، ولا يكون هذا من أمثلة قوله: "وأما غيره".
"د".
ج / 3 ص -266-
في
الرجلين والثلاثة ونحو ذلك، وحيث لا يكون مظنة اشتهار، وما
سوى ذلك؛ فهو يكرهه1.
وأما مسألة الوصال2؛ فإن الأحق والأولى ما كان عليه
عامتهم، ولم يواصل خاصتهم حتى كانوا في صيامهم كالعامة في
تركهم له؛ لما رزقهم الله من القوة التي هي أنموذج من قوله
عليه الصلاة والسلام:
"إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني"3،
مع أن بعض4 من كاد يسرد الصيام قال بعد ما ضعف: يا ليتني
قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم5.
وأيضا؛ فإن طلب المداومة على الأعمال الصالحة يطلب المكلف
بالرفق والقصد خوف الانقطاع -وقد مر لهذا المعنى تقرير في
كتاب6 الأحكام- فكان الأحرى الحمل على التوسط، وليس إلا ما
كان عليه العامة وما واظبوا عليه، وعلى هذا؛ فاحمل نظائر
هذا الضرب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكذا كره ابن تيمية للإمام الراتب أن يقيم في المسجد
جماعة يصلي بالناس بين العشاءين أو في جوف الليل. انظر:
"مجموع الفتاوى" له "23/ 113-114".
2 الوصال صوم يومين أو أكثر دون فصل بينهما بفطر في الليل،
والسرد أن يتابع صوم الأيام مع الفطر بالليل، ومنه يفهم أن
قوله: "مع أن بعض من كان يسرد... إلخ" كلام فيما يشبه
الوصال من جهة أن كلا غير ما هو الأولى في نظر الشارع.
"د".
قلت: الوصال من المندوب فيما اختص به صلى الله عليه وسلم
على ما ذكر الجويني؛ كما في "الخصائص الكبرى" للسيوطي "3/
284"، وانظر: "المحقق من علم الأصول" "ص53" لأبي شامة،
و"أفعال الرسول" "1/ 273" للأشقر.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب الوصال، 4/
202/ رقم 1964" عن عائشة رضي الله عنها، ومضى "2/ 239".
4 هو عبد الله بن عمرو.
5 مضى تخريجه "2/ 240".
6 في باب الرخصة، وأن مقصد الشارع بها الرفق بالمكلف.
ج / 3 ص -267-
والضرب
الثاني: ما كان على خلاف ذلك1، ولكنه يأتي على وجوه:
- منها: أن يكون محتملا في2 نفسه؛ فيختلفوا3 فيه بحسب ما
يقوى عند المجتهد فيه أو يختلف في أصله4، والذي هو أبرأ
للعهدة وأبلغ في الاحتياط تركه والعمل على وفق الأعم
الأغلب.
كقيام الرجل للرجل إكرامًا له وتعظيمًا، فإن العمل المتصل
تركه؛ فقد كانوا لا يقومون لرسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا أقبل عليهم5، وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس6، ولم
ينقل عن الصحابة عمل مستمر ولو كان لنقل؛ حتى روي عن عمر
بن عبد العزيز أنه لما استخلف قاموا له في المجلس؛ فقال:
"إن تقوموا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يتبين فيه للعمل القليل وجه يصلح أن يكون سببا
للقلة. "ف".
2 أي: يكون وقوعه متفقا عليه، ولكنه يكون محتملا للمعنى
المستدل عليه ولغيره كما في القيام للقادم. "د".
3 في "ط": "فيختلف".
4 أي: يكون ثبوته محل خلاف؛ كما في تقييد اليد، وسجود
الشكر. "د".
5 بل كان ينهاهم عن ذلك، أخرج البخاري في "الأدب المفرد"
"رقم 946، والترمذي في "الجامع" "أبواب الأدب، باب ما جاء
في كراهية قيام الرجل للرجل/ رقم 2755"، و"الشمائل" "رقم
328"، وأحمد في "المسند" "3/ 132، 250-251"، والطحاوي في
"المشكل" 2/ 39"، وأبو يعلى في "المسند" "6/ 418/ رقم
3784"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم"
"رقم 127"، والبغوي في "شرح السنة" "12/ 294/ رقم 3329"،
و"الشمائل" "رقم 392" بإسناد صحيح عن أنس؛ قال: "ما كان في
الدنيا شخص أحب إليهم رؤية من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وكانوا إذا رأوه؛ لم يقوموا له لما كانوا يعلمون من
كراهيته لذلك".
6 أخرج أبو داود في "السنن" "رقم 4698"، وأبو الشيخ في
"أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "رقم 140"، والسمعاني في
"أدب الإملاء والاستملاء" "50"، والبغوي في "الشمائل" "رقم
393" بإسناد صحيح عن أبي هريرة وأبي ذر؛ قالا: "كان النبي
صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب
ولا يدري أيهم هو حتى يسأل؛ فطلبنا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا
له دكانا من طين؛ فكان يجلس عليه، ونجلس بجانبيه".
ج / 3 ص -268-
نقم،
وإن تقعدوا نقعد، وإنما يقوم الناس لرب العالمين"1؛ فقيامه
صلى الله عليه وسلم لجعفر ابن عمه2 وقوله:
"قوموا لسيدكم"3 إن حملناه على ظاهره؛ فالأولى خلافه لما تقدم، وإن نظرنا فيه
وجدناه محتملا أن يكون4 القيام على وجه الاحترام
والتعظيم5، أو على وجه آخر من المبادرة إلى اللقاء لشوق
يجده القائم للمقوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره ابن عبد الحكم في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "ص39"،
وأشار إليه ابن حجر في "الفتح" "11/ 51".
وأسند ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "19/ 170/ ب" إلى
الأوزاعي؛ قال: "حدثني بعض حرس عمر بن عبد العزيز؛ قال:
خرج علينا عمر بن عبد العزيز ونحن ننتظره يوم الجمعة، فلما
رأيناه قمنا، فقال: إذا رأيتموني فلا تقوموا، ولكن
توسعوا".
2 الوارد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام لأخيه من
الرضاعة، وأجسله بين يديه، أخرجه أبو داود في "سننه" "رقم
5145" بسند معضل، وفي بعض رواته كلام. انظر: "السلسلة
الضعيفة" "رقم 1120".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاستئذان، باب قول
النبي صلى الله عليه وسلم
"قوموا
إلى سيدكم"، 11/ 49/ رقم 6262"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب
جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم
حاكم عدل أهل للحكم، 3/ 1388-1389/ رقم 1768" عن أبي سعيد
الخدري بلفظ:
"قوموا إلى سيدكم". وفيه قصة.
والاستدلال بهذا الحديث على القيام فيه نظر، أفاده ابن حجر
في "الفتح" "11/ 51"، وزاد: "وقد وقع في "مسند عائشة" عند
أحمد من طريق علقمة بن وقاص عنها في قصة غزوة بني قريظة
وقصة سعد بن معاذ ومجيئه مطولا، وفيه: "قال أبو سعيد: فلما
طلع قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"قوموا إلى سيدكم؛ فأنزلوه"، وسنده حسن". قال: وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد على
مشروعية القيام المتنازع فيه". ثم نقل أجوبة حسنة لابن
الحاج على المستدلين بهذا الحديث على مشروعية القيام
للقادم، ومما ينبغي أن ينتبه له أن الحديث في "الصحيحين"
بلفظ:
"قوموا إلى"، وليس
"قوموا لسيدكم"
كما أورده المصنف.
4 في الأصل: "يقوم".
5 وهذا هو الذي كانوا يتحاشونه ويرونه موجبا لكراهيته، كما
أشار إليه بقوله: "وإنما يقوم الناس لرب العالمين". "د".
ج / 3 ص -269-
له، أو
ليفسح له في المجلس حتى يجد موضعا للقعود، أو للإعانة على
معنى من المعاني، أو لغير ذلك مما يحتمل.
وإذا احتمل الموضع؛ طلبنا بالوقوف مع العمل المستمر لإمكان
أن يكون هذا العمل القليل غير1 معارض له، فنحن في اتباع
العمل المستمر على بينة وبراءة ذمة باتفاق، وإن رجعنا إلى
هذا المحتمل؛ لم نجد فيه مع المعارض الأقوى وجهًا للتمسك
إلا من باب التمسك بمجرد الظاهر، وذلك لا يقوى قوة
معارضه2.
ومثل ذلك قصة مالك مع سفيان في المعانقة؛ فإن مالكا قال
له: "كان ذلك خاصًّا بجعفر". فقال سفيان: ما يخصه يخصنا،
وما يعمه يعمنا إذا كنا صالحين3، فيمكن أن يكون مالك عمل
في المعانقة بناء على هذا الأصل؛ فجعل معانقة النبي عليه
الصلاة والسلام أمرًا خاصًا، أي: ليس عليه العمل؛ فالذي
ينبغي وقفه على ما جرى فيه.
وكذلك تقبيل اليد إن فرضنا أو سلمنا صحة ما روي فيه4 فإنه
لم يقع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما سبق أن قضايا الأعيان لا تقوم حجة إلا إذا عضدها
دليل آخر؛ لاحتمال ألا تكون مخالفة... إلخ. "د".
2 أي: لأنه مع كونه قليلا محتمل لغير المعنى المستدل عليه
في مقابلة الكثير الذي لا احتمال فيه. "د".
وفي الأصل: "تعارضه".
3 ذكره ابن العربي في "أحكام القرآن" "3/ 1663"، وعنه
القرطبي في "تفسيره" "15/ 361".
وانظر: جزء "القبل والمعانقة" لابن الأعرابي.
4 ورد فيه أحاديث كثيرة صحيحة، تراها في جزء ابن المقرئ
"الرخصة في تقبيل اليد"، وكذا في جزء الغماري "إعلام
النبيل"، وكلاهما مطبوع وقال ابن تيمية في "الفتاوى
المصرية" "ص563"، ونقله ابن مفلح في "الآداب الشرعية" "2/
271": "تقبيل اليد لم يكن يعتادونه إلا قليلا"؛ فالكراهة
أن يتخذ التقبيل شعارا، أو أن يكون ذلك لدينا أو لظالم أو
مبتدع، أو على وجه الملق. انظر: "شرح السنة" "12/ 293"
للبغوي.
ج / 3 ص -270-
تقبيل
يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نادرا، ثم لم يستمر
فيه عمل إلا الترك من الصحابة والتابعين؛ فدل على
مرجوحيته.
ومن ذلك سجود الشكر إن فرضنا ثبوته عن النبي صلى الله عليه
وسلم1؛ فإنه لم يداوم عليه مع كثرة البشائر التي توالت
عليه، والنعم التي أفرغت عليه إفراغا؛ فلم ينقل عنه مواظبة
على ذلك، ولا جاء عن عامة الصحابة منه شيء إلا في الندرة
مثل كعب بن مالك؛ إذ نزلت توبته2؛ فكان العمل على وفقه
تركا للعمل على وفق العامة منهم.
ومن هذا المكان يتطلع إلى قصد مالك رحمه الله في جعله
العمل3 مقدما على الأحاديث؛ إذ كان إنما يراعي كل المراعاة
العمل المستمر والأكثر4 ويترك ما سوى ذلك وإن جاء فيه
أحاديث، وكان ممن أدرك التابعين وراقب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد ثبت في غير حديث، مضى تخريج واحد منها "ص163"، وانظر
لزاما كلام ابن القيم في "إعلام الموقعين" "2/ 297-298،
320 - ط دار الحديث".
2 كما في "صحيح البخاري" "كتاب المغازي، باب حديث كعب بن
مالك, 8/ 113-116/ رقم 4418"، و"صحيح مسلم" "كتاب التوبة،
باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، 4/ 2120/ رقم 2769".
3 المستند إلى الديل الشرعي لا مجرد العمل؛ فالعمل المستمر
عنده يرجح الدليل على سائر الأدلة التي لم يصاحبها العمل
المستمر، هكذا ينبغي أن يفهم؛ كما ذكره الأصوليون، قالوا:
يرجح الخبر على معارضه بعمل أكثر السلف وعمل أهل المدينة،
وسيأتي عن مالك أنه قال: "أحب الأحاديث إليّ ما اجتمع
الناس عليه". "د".
قلت: ينظر عن حجية عمل أهل المدينة: رسالة ابن تيمية "صحة
أصول أهل المدينة"، ورسالة أحمد محمد نور سيف "عمل أهل
المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين".
4 في الأصل و"ط": "الأكثري".
ج / 3 ص -271-
أعمالهم، وكان العمل المستمر فيهم مأخوذًا عن العمل
المستمر في الصحابة، ولم يكن مستمرا فيهم إلا وهو مستمر في
عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في قوة المستمر.
وقد قيل لمالك: إن قوما يقولون: إن التشهد فرض. فقال: "أما
كان أحد يعرف التشهد؟". فأشار إلى الإنكار عليه1 بأن
مذهبهم كالمبتدع الذي جاء بخلاف ما عليه ما تقدم.
وسأله أبو يوسف عن الأذان؛ فقال مالك: "وما حاجتك إلى ذلك؟
فعجبًا من فقيه يسأل عن الأذان"، ثم قال له مالك: "وكيف
الأذان عندكم؟". فذكر مذهبهم فيه؛ فقال: "من أين لكم
هذا؟". فذكر له أن بلالا لما قدم الشام سألوه أن يؤذن لهم،
فأذن لهم كما ذكر عنهم. فقال له مالك: "ما أدري ما أذان
يوم؟ وما صلاة يوم؟ هذا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وولده من بعد يؤذنون في حياته وعند قبره، وبحضرة الخلفاء
الراشدين بعده"2.
فأشار مالك إلى أن ما جرى عليه العمل وثبت مستمرا أثبت في
الاتباع وأولى أن يرجع إليه3.
وقد بين في "العتبية"4 أصلا لهذا المعنى عظيمًا يجل موقعه
عند من نظر إلى مغزاه، وذلك أنه سئل عن الرجل يأتيه5 الأمر
يحبه فيسجد لله شكرا؛ فقال: "لا يفعل، ليس مما مضى من أمر
الناس". فقيل له: إن أبا بكر الصديق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "عليهم".
2 المذكور عند عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 50 - ط
المغرب"، وعنه الراعي في "انتصار الفقير السالك" "ص218".
3 تجد قائمة طويلة في كتاب أحمد نور سيف "عمل أهل المدينة"
"ص323-359" فيها احتجاج مالك بعمل أهل المدينة، جمعها من
"الموطأ" و"المدونة" وكتب العلماء الأقدمين.
4 "1/ 392 - مع "البيان والتحصيل"".
5 كذا في "العتبية" و"ط"، وفي غيره: "يأتي إليه".
ج / 3 ص -272-
-فيما يذكرون- سجد يوم اليمامة شكرا1؛ أفسمعت ذلك؟ قال:
"ما سمعت ذلك، و[أنا] أرى أن [قد] كذبوا على أبي بكر، وهذا
من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول: هذا شيء لم نسمع له
خلافا". ثم قال: "قد فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعلى المسلمين بعده؛ أفسمعت أن أحدا منهم سجد؟ إذا جاءك
مثل هذا مما كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم
فيه شيء؛ فعليك بذلك، فإنه لو كان لذكر لأنه من أمر الناس
الذي قد كان فيهم؛ فهل سمعت أن أحدا منهم سجد؟ فهذا إجماع،
إذا جاءك الأمر لا تعرفه؛ فدعه"2.
هذا ما قال.
وهو واضح في أن العمل العام هو المعتمد على أي وجه كان،
وفي أي محل وقع، ولا يلتفت إلى قلائل ما نقل، ولا نوادر
الأفعال إذا عارضها الأمر العام والكثير.
- ومنها: أن يكون هذا القليل خاصا بزمانه أو بصاحبه الذي
عمل به، أو خاص بحال من الأحوال؛ فلا يكون فيه حجة على
العمل به في غير ما تقيد به؛ كما قالوا في مسحه عليه
الصلاة والسلام على ناصيته وعلى العمامة في الوضوء: إنه
كان به مرض3، وكذلك نهيه عليه الصلاة والسلام عن ادخار
لحوم الأضاحي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص158".
2 انظر: "الاعتصام" "1/ 468-471 - ط ابن عفان"، وما علقناه
على "ص158-159".
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب المسح على
الخفين، 1/ 308/ رقم 204، 205" عن عمرو بن أمية الضمري؛
قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسمح على عمامته
وخفيه.
وأخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب المسح على
الناصية والعمامة، 1/ 230/ رقم 274 بعد 81" عن المغيرة ضمن
حديث فيه: "ومسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى خفية"، وفي
لفظ برقم "274 بعد 82": "يمسح على الخفين، ومقدم رأسه،
وعلى عمامته". وقد وردت أحاديث كثيرة وآثار عن أبي بكر
وعمر في المسح على العمامة؛ حتى قال الإمام أحمد: "المسح
على العمامة من خمس وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم".
وانظر بسط المسألة في: "المغني" "1/ 300"، و"المجموع" "1/
406"، و"الأوسط" "1/ 466-472"، و"مسائل أحمد" "ص8" لأبي
داود، والحجة على أهل المدينة" "1/ 16"، و"الموطأ" "1/
43"، و"الأم" "1/ 26".
ج / 3 ص -273-
بعد
ثلاثٍ بناء على أن إذنه بعد ذلك لم يكن نسخًا، وهو قوله:
"إنما نهيتكم لأجل الدافة"1.
- ومنها: أن يكون مما فعل فلتة2؛ فسكت عنه النبي صلى الله
عليه وسلم مع علمه به، ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي
ولا غيره، ولا يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يأذن
فيه ابتداء لأحد؛ فلا يجب أن يكون تقريره عليه إذنا له
ولغيره؛ كما في قصة الرجل3 الذي بعثه النبي عليه الصلاة
والسلام في أمر فعمل فيه، ثم رأى أن قد خان الله ورسوله؛
فربط نفسه بسارية من سواري المسجد، وحلف أن لا يحله إلا
رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال عليه الصلاة والسلام:
"أما إنه لو جاءني لاستغفرت له"4، وتركه كذلك حتى حكم الله فيه5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان
من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام
وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء، 3/ 1651/ رقم 1971" عن
عبد الله بن واقد رضي الله عنه مرفوعا.
قلت: وقد جاء في الأصل و"ف": "الرأفة"، وهو خطأ.
2 بدون سبق تشريع فيه. "د".
3 هو أبو لبابة الأنصاري في قصة بني قريظة؛ لما استشاروه
أن ينزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم؛ فقال لهم: نعم،
وأشار بيده إلى حلقه؛ يعني: الذبح، وسيأتي تخريج القصة.
4 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "21/ 151-152" هكذا مطولا.
وأخرج القصة مختصرة ضمن قصة مطولة أخرى أحمد في "المسند"،
وفيه محمد بن عمرو ابن علقمة، وهو حسن الحديث، وبقية رجاله
ثقات، قاله الهيثمي في "المجمع" "6/ 138".
وقال الساعاتي في "الفتح الرباني" "21/ 81-83": "أورده
الحافظ ابن كثير في تاريخه""، ثم قال: "هذا الحديث إسناده
جيد، وله شواهد من وجوه كثيرة". وانظر "سيرة ابن كثير" "3/
238"، و"تفسير القرطبي" "14/ 139-140".
5 بقبول توبته، وقد أبره صلى الله عليه وسلم في يمينه؛
فأطلقه بيده الكريمة. "د".
ج / 3 ص -274-
فهذا
وأمثاله لا يقتضي أصل المشروعية ابتداء ولا دوامًا، أما
الابتداء؛ فلم يكن فعله ذلك بإذن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وأما دوامًا؛ فإنه إنما تركه حتى يحكم الله فيه،
وهذا خاص بزمانه؛ إذ لا وصول إلى ذلك إلا بالوحي، وقد
انقطع بعده؛ فلا يصح الإبقاء على ذلك لغيره حتى ينتظر1
الحكم فيه.
وأيضا؛ فإنه لم يؤثر عن ذلك الرجل ولا عن غيره أنه فعل مثل
فعله، لا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيما
بعده؛ فإذا العمل بمثله أشد غررًا؛ إذ لم يكن قبله تشريع
يشهد له، ولو كان [قبله]2 تشريع؛ لكان استمرار العمل
بخلافه كافيا في مرجوحيته.
- ومنها: أن يكون العمل القليل رأيًا لبعض الصحابة لم
يتابع عليه؛ إذ كان في زمانه عليه الصلاة والسلام ولم يعلم
به فيجيزه أو يمنعه؛ لأنه من الأمور التعبدية البعيدة عن
الاجتهاد، كما روي عن أبي طلحة الأنصاري أنه أكل بردًا وهو
صائم في رمضان؛ فقيل له: أتأكل البرد وأنت صائم؟ فقال:
"إنما هو برد نزل من السماء نطهر به بطوننا، وإنه ليس
بطعام ولا شراب"3.
قال الطحاوي: "ولعل ذلك من فعله لم يقف النبي عليه الصلاة
والسلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "ينظر".
2 سقط من "ط".
3 أخرحه أحمد في "المسند" "3/ 279"، والطحاوي في "المشكل"
"2/ 348"، وسنده صحيح على شرط الشيخين، وصححه ابن حزم في
"الإحكام" "6/ 83"، وأخرجه البزار في "مسنده" "رقم 1022 -
زوائده" أيضا، وزاد: "فذكرت ذلك لسيعد بن المسيب؛ فكرهه،
وقال: إنه يقطع الظمأ"، وقال: "لا نعلم هذا الفعل إلا عن
أبي طلحة". انظر "مجمع الزوائد" "3/ 171-172".
ج / 3 ص -275-
عليه1؛
فيعلّمه الواجب عليه فيه". قال2: "وقد كان مثل هذا على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يرَ ذلك عمر شيئا، إذ
لم يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم
ينكره"3.
فكذلك ما روي عن أبي طلحة؛ قال: "والذي كان من ذلك ما روي
عن رفاعة بن رافع؛ قال: كنت عن يمين عمر بن الخطاب؛ إذ
جاءه رجل، فقال: زيد بن ثابت يفتي الناس في الغسل4 من
الجنابة برأيه. فقال: اعجل5 به علي! فجاء زيد، فقال عمر:
قد بلغ من أمرك أن تفتي الناس بالغسل من الجنابة في مسجد
النبي عليه الصلاة والسام برأيك؟ فقال زيد: والله يا أمير
المؤمنين ما أفتيت برأيي، ولكني6 سمعت من أعمامي شيئا فقلت
به. فقال: من أي أعمامك؟ فقال: من أبي بن كعب، وأبي أيوب،
ورفاعة بن رافع. فالتفت إليّ عمر، فقال: ما يقول هذا
الفتى؟ فقلت: إنا كنا نفعله7 على عهد رسول الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد جاء في رواية فيها عقب نحو الأثر السابق وفيها زيادة
عن أنس: "فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته
بذلك، فقال:
"خذها عن عمك".
أي: أبو طلحة في أكله البرد، وقوله عنه ما قال.
أخرجه الطحاوي في "المشكل" "2/ 347"، والبزار في "المسند"
"رقم 1021 - زوائده"، وأبو يعلى في "المسند" "3/ 15/ رقم
1424 و7/ 73-74/ رقم 3999" بإسناد ضعيف فيه علي بن زيد،
وهو ضعيف، قال عنه شعبة: "حدثنا علي بن زيد، وكان رفاعا"،
ورفعه منكر؛ فقد رووه الثقات عن أنس ووقفوه على أبي طلحة.
2 في "مشكل الآثار" "2/ 348-349"، ونقل المصنف عنه بتصرف.
وفي نسخة الأصل: "قال: فقد...".
3 إذ لو أخبر بذلك؛ لكان مما يصلح العمل على وفقه. "ف".
4 في "المشكل": "يفتي الناس بعدم الغسل".
5 في "ط": "اعجلوا".
6 في "المشكل": "ولكن".
7 أي: الجماع بغير إنزال. "د".
وقال "ف": يشير إلى أنهم كانوا لا يغتسلون عند عدم
الإنزال، والعمل الكثير الذي استمر الاغتسال مطلقا أنزل أو
لا من التقاء الختانين".
ج / 3 ص -276-
صلى
الله عليه وسلم ثم لا نغتسل. قال: أفسألتم النبي صلى الله
عليه وسلم عن ذلك؟ فقلت: لا". ثم قال في آخر الحديث: "لئن
أُخبرت بأحد يفعله ثم لا يغتسل لأنهكته عقوبة"1.
فهذا أيضا من ذلك القبيل2، والشاهد له أنه لم يعمل به ولا
استمر من عمل الناس على حال؛ فكفى بمثله حجة على الترك.
- ومنها: [إمكان] أن يكون عمل به قليلا ثم نسخ، فترك العمل
به جملة؛ فلا يكون حجة بإطلاق، فكان من الواجب في مثله
الوقوف مع الأمر العام.
ومثاله حديث الصيام عن الميت3؛ فإنه لم ينقل استمرار عمل
به ولا كثرة، فإن غالب الرواية فيه دائرة على عائشة وابن
عباس4،]وهما أول من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "2/ 348-349" و"شرح معاني
الآثار" "1/ 58-59"، وأحمد في "المسند" "5/ 115"،
والطبراني في "الكبير" "5/ 34-35/ رقم 4536" بسند رجاله
رجال الصحيح؛ غير ابن إسحاق، وهو مدلس؛ وقد عنعن.
2 المعروف فيه أنه مما عمل به قليلا ثم نسخ، أو تخصص حديثه
الذي هو قوله عليه السلام:
"إنما الماء من
الماء" بالحلم، وقد ورد في الحديث:
"لعلنا أعجلناك؟".
فقال: نعم يا رسول الله. قال:
"فإذ أعجلت أو أقحطت؛ فلا غسل عليك".
وهذا لفظ البخاري ومسلم، والإقحاط عدم الإنزال، وعن أبي بن
كعب:
"إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنها"، أخرجه أبو داود والترمذي والدارمي. "د".
3 مضى لفظه وتخريجه "ص198".
4 لفظ حديث عائشة مضى "ص198" ووقع في رواية إسحاق بن
راهويه في "مسنده" "رقم 900" عنها: "من مات وعليه صوم نذر؛
فليصم عنه وليه". قال إسحاق عقبه: "السنة هذا".
وتقدم ايضا عن ابن عباس في قضاء صوم النذر، وهو في
"الصحيحين"؛ فالقول بقضاء صيام الولي مقيد بصيام النذر
لأسباب:
الأول: الرواي المطلقة تحمل على المقيدة إن اتحد السبب،
وهذا باتفاق.
الثاني: ورد التقييد بالنذر في رواية إسحاق، وهو الذي أجاب
عنه ابن عباس. وانظر: "شرح السنة" "6/ 324". =
ج / 3 ص -277-
خالفاه1 فروي عن عائشة أنها سئلت عن امرأة ماتت وعليها
صوم، فقالت: "أطعموا عنها"2، وعن ابن عباس]3؛ أنه قال: "لا
يصوم أحد عن أحد"4.
قال مالك: "ولم أسمع أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولا من التابعين بالمدينة أمروا أحدا أن يصوم عن
أحد، ولا يصلي أحد عن أحد، وإنما يفعل ذلك كل أحد عن
نفسه"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الثالث: من روى حديث عائشة: "من مات وعليه صيام"، قال:
"هذا في النذر"، كما قال أبو داود، انظر: "مسائل أحمد"
لأبي داود "ص69"، و"الاستذكار" "10/ 170".
الرابع: "ثبت عن ابن عباس أنه أفتى في قضاء رمضان؛ فقال:
يطعم، وفي النذر: يصام عنه؛ كما في "مصنف عبد الرزاق" "4/
236، 237، 240"، و"سنن البيهقي" "4/ 253"، و"المحلى" "6/
263"، و"أحكام القرآن" "1/ 211" للجصاص، و"الاستذكار" "1/
171-172"، و"المجموع" "6/ 431".
ويحمل قول ابن عباس: "لا يصومن أحد عن أحد" على من شهد
رمضان، أما صيام النذر؛ فإن المرء أوجبه على نفسه، فإذا
مات ولم يصمه؛ انتقل إلى أوليائه، فيصومون عنه كما ينتقل
الدين إلى تركته التي أصبحت بعد موته من حق أوليائه، فيخرج
منها.
الخامس: إعمال الأدلة كلها خير من إهمالها أو إهمال بعضها،
وفي التوجيه السابق إعمال بالمرفوع والموقوف، وما أحسن قول
ابن عبد البر في "الاستذكار" "10/ 173": "لولا الأثر
المذكور؛ لكان الأصل القياس على الأصل المجتمع عليه في
الصلاة، وهو عمل بدن لا يصوم أحد عن أحد، كما لا يصلي أحد
عن أحد". وانظر: "تهذيب سنن أبي داود" "3/ 279-282".
1 في "ط": "خالفهما".
2 أخرجه الطحاوي في "المشكل" "3/ 142"، وابن حزم في
"المحلى" "7/ 4" بإسناد صحيح.
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
4 أخرجه البيهقي في "الكبرى" "4/ 257"، وأخرج مالك في
"الموطأ" "1/ 202 - رواية يحيى، ورقم 835 - رواية أبي مصعب
عن ابن عمر مثله.
5 "الموطأ" "1/ 323/ رقم 837 - رواية أبي مصعب".
ج / 3 ص -278-
فهذا
إخبار بترك العمل دائما في معظم الصحابة ومن يليهم، وهو
الذي عول عليه في المسألة1، كما أنه عول عليه في جملة
عمله.
وقد سئل عن سجود القرآن الذي في المفصل، وقيل له: أتسجد
أنت فيه؟ فقال: "لا". وقيل2 له: إنما ذكرنا هذا لك لحديث
عمر بن عبد العزيز. فقال: "أحب الأحاديث إليّ ما اجتمع
الناس عليه، وهذا مما لم يجتمع الناس عليه، وإنما هو حديث
من حديث الناس، وأعظم من ذلك القرآن، يقول الله:
{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7]؛ فالقرآن أعظم خطرا وفيه الناسخ والمنسوخ3؛ فكيف
بالأحاديث؟ وهذا مما لم يجتمع عليه"4.
وهذا ظاهر في أن العمل بأحد المتعارضين دليل على أنه
الناسخ للآخر؛ إذ كانوا إنما يأخذون بالأحدث فالأحدث من
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وانتصر لهذا ودافع عنه دفاعا قويا ابن العربي في "القبس"
"2/ 517-519"، قال في آخر مسألة الصيام عن الميت: "فأنت إن
اتبعت حديثا واحدا دون أن تضربه بسائر الآيات والأحاديث
وتستخلص الحق من بينها؛ فأنت ممن في قلبه زيغ، أو عليه
رين، والذي تفطن له مالك رضي الله عنه تلقفه من عبد الله
بن عمر تعليمًا لا تقليدًا".
قلت: وقد سبق استخلاص الحق في مسألة الصيام عن الميت
بالتفرقة بين صيام النذر وغيره، وهو الراجح إن شاء الله
تعالى.
2 في "ط": "فقيل".
3 هذا بناء على تفسير المحكم بالناسخ والمتشابه بالمنسوخ،
أما على ما هو مشهور من أن المحكمات الواضحات؛ فلا يأتي
استشهاد الإمام بالآية. "د".
4 انظر مذهب مالك والخلاف عليه في هذه المسألة أو مناقشته
فيها في: "الموطأ" "1/ 207- رواية يحيى"، و"المنتقى" "1/
349" للباجي، و"شرح الزرقاني على الموطأ" "1/ 371"، "حاشية
الدسوقي على الشرح الكبير" "1/ 308"، و"الأم" "7/ 187،
188".
وانظر أدلة المسألة في: "نصب الراية" "2/ 182"، و"فتح
الباري" "2/ 377"، و"الدراية" "1/ 211"، و"شرح معاني
الآثار" "1/ 353"، و"عمدة القاري" "7/ 96"، و"التلخيص
الحبير" "2/ 8".
5 أصله من كلام لابن عباس تذكره كتب الأصول غالبا. وهو
قوله: "كنا نأخذ بالأحدث =
ج / 3 ص -279-
وروي
عن ابن شهاب؛ أنه قال: أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخه ومنسوخه"1، وهذا
صحيح، ولما أخذ مالك بما عليه الناس وطرح ما سواه؛ انضبط
له الناسخ من المنسوخ على يسر، والحمد لله.
وثم أقسام أخر يستل على الحكم فيها بما تقدم ذكره.
وبسبب ذلك ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين؛
فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل؛ إلا قليلا وعند الحاجة
ومس الضرورة إن اقتضى2 معنى التخيير، ولم يخف3 نسخ العمل،
أو عدم 4 صحة في الدليل،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فالأحدث". انظر مثلا: "مختصر المنتهى" "ص133" لابن
الحاجب، و"اللمع" للشيرازي "ص239".
أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر
في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، 2/ 784-785" عن ابن
عباس: "خرج صلى الله عليه وسلم عام الفتح في رمضان حتى بلغ
الكديد، ثم أفطر، وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره".
وقصر ابن كثير في تخريجه في "تحفة الطالب" "رقم 204"؛ إذ
اقتصر على إيراد ما عند البخاري في "الصحيح" "كتاب
المغازي، باب غزوة الفتح في رمضان على حديث في آخره:
"وإنما يؤخد من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآخر
فالآخر".
والأشد منه قصورا ما فعله الغماري في "تخريج أحاديث اللمع"
"رقم 70"؛ إذ أورد تحته: "كان آخر الأمرين..."، و"أكل آخر
أمريه..."، ولم يخرج الأثر المذكور، والله الموفق.
1 أخرجه الحازمي في "الاعتبار" "ص3-4"، وابن شاهين في
"الناسخ والمنسوخ" "رقم 3".
2 الضمير للقليل في قوله: "العمل بالقليل"؛ أي: بأن كان
الدليل الذي أخذ به يصلح معارضًا لما عمل به الأكثر، ولا
يكون ذلك إلا حيث يحتج به وإن ترجح الآخر بكثرة العمل به.
"د".
3 الضمير للعامل؛ فهو مبني للفاعل، وقوله: "أو احتمالا"
معطوف على مفعول. "د".
قلت: لأنه ضبطها بفتحتين، أما "ف"؛ فقد قال: "بضم الياء،
وفتح الخاء".
وفي "م": "يُخْفَف".
4 في الأصل: "وعدم".
ج / 3 ص -280-
أو
احتمالًا1 لا ينهض به الدليل أن يكون حجة، أو ما أشبه ذلك.
أما لو عمل بالقليل دائما؛ للزمه أمور:
أحدها: المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها، وفي
مخالفة السلف الأولين ما فيها.
والثاني2: استلزام ترك ما داوموا عليه؛ إذ الفرض أنهم
داوموا على خلاف هذه الآثار، فإدامة العمل على موافقة ما
لم يداوموا عليه مخالفة لما داوموا عليه.
والثالث3: أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ما داوموا عليه
واشتهار ما خالفه؛ إذ الاقتداء بالأفعال أبلغ من الاقتداء
بالأقوال، فإذا وقع ذلك ممن يقتدى به؛ كان أشد.
الحذرَ الحذرَ4 من مخالفة الأولين! فلو كان ثم فضل [ما]5؛
لكان الأولون أحق به، والله المستعان.
والقسم الثالث: أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على
حال؛ فهو أشد مما قبله، والأدلة المتقدمة جارية هنا
بالأولى، وما توهمه المتأخرون من أنه دليل على ما زعموا
ليس بدليل عليه ألبتة؛ إذ لو كان دليلا عليه؛ لم يعزب عن
فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء، فعمل الأولين كيف
كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارض له، ولو كان ترك
العمل6؛ فما عمل به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله: "أو احتمال" بالعطف على ما قبله، أي: أمن ذلك كله،
تأمل "ف".
2 لازم لما قبله؛ أي: خالفهم فعلا وتركا، وهما متلازمان في
مثله. "د".
3 الأول والثاني عامان، وهذا الثالث خاص بما إذا كان من
مقتدى به. "د".
4 منصوب على التحذير. "ف".
5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
6 أي: ولو كان عملهم ترك العمل بمعنى الكف عنه، تأمل "ف".
ج / 3 ص -281-
المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين، وكل من خالف
الإجماع؛ فهو مخطئ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع
على ضلالة1، فما كانوا عليه من فعل أو ترك؛ فهو السنة
والأمر المعتبر، وهو الهدى، وليس ثم إلا صواب أو خطأ؛ فكل
من خالف السلف الأولين فهو على خطأ، وهذا كافٍ2، والحديث
الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جارٍ هذا المجرى3.
ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي صلى
الله عليه وسلم نص على علي أنه الخليفة بعده؛ لأن عمل كافة
الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدم اعتباره، لأن
الصحابة لا تجتمع على خطأ، وكثيرا ما تجد أهل البدع
والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة، يحملونهما4 مذاهبهم،
ويغبرون بمشتبهاتهما5 في وجوه العامة، ويظنون أنهم على
شيء.
ولذلك أمثلة كثيرة كالاستلالات الباطنية على سوء مذهبهم
بما هو شهير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما جاء في الحديث الصحيح بشواهده، ومضى تخريجه "2/
434".
2 هذه قاعدة بديعة، ركز عليها المصنف كثيرا فيما سبق وفيما
سيأتي، وعليها مدار نجاة المرء، وتكلم عليها الفقهاء
المحققون كثيرا، مثل: الشافعي في "رسالته" البغدادية، ونقل
عنها ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 80 و1/ 69- ط دار
الحديث"، وأولاها عناية تامة ابن تيمية؛ كما تراه في
"مجموع الفتاوى" "3/ 157 و4/ 91-94 و132 وما بعدها،
و157-158 و5/ 7، 8 و13/ 24"، و"شرح العقيدة الأصفهانية"
"ص128"، و"نقض المنطق" "7، 8"، و"الإيمان" "ص417"، وكذلك
تلميذه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 79 وما بعدها
و4/ 118 وما بعدها و147-155"، و"مختصر الصواعق المرسلة"
"2/ 345-349".
3 فهو مصادم بعمل السلف الأولين. "ف".
4 في الأصل و"ف" و"ط": "يحملونها"، قال "ف": "الأنسب
يحملونها، وكذا قوله بمشتبهاتها، الأنسب فيه التثنية".
5 هكذا في "د" فقط، وفي غيرها: "بمشتبهاتها".
ج / 3 ص -282-
في
النقل عنهم، وسيأتي منه أشياء في دليل الكتاب إن شاء الله،
واستدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى:
{فِي
أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}
[الانفطار: 8].
وكثير من فرق الاعتقادات1 تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في
تصحيح ما ذهبوا إليه؛ مما لم يجر له ذكر ولا وقع ببال أحد
من السلف الأولين، وحاش لله من ذلك.
ومنه أيضا استدلال من أجاز قراءة القرآن بالإدارة2، وذكر
الله برفع الأصوات وبهيئة الاجتماع3 بقوله عليه الصلاة
والسلام:
"ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ويتدارسُونه فيما بينهم"4 الحديث، والحديث الآخر:
"ما اجتمع قوم يذكرون الله..."5 إلخ، وبسائر ما جاء في فضل مجالس الذكر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال "ف": "تعلق -أي: تمسك به- كعمل ملحدي زماننا
ومتفلسفة عصرنا، وفقنا الله للهدى".
2 في سماع ابن القاسم عن مالك في القوم يجتمعون فيقرءون في
السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الأسكندرية؛ فكره ذلك،
وأنكر أن يكون من عمل الناس، قال في "الاعتصام" "2/ 31 و1/
509 - ط ابن عفان" بعد ذكر ما تقدم: "وذلك يدل على أن
قراءة الإدارة مكروهة عنده"، وقال قبل ذلك: "ومن أمثلة ذلك
قراءة القرآن بالإدارة على صوت واحد؛ فإن هذه الهيئة زائدة
على مشروعية القراءة". وانظر في بدعية ذلك أيضا: "الحوادث
والبدع" "ص161"، وما سيأتي "ص497".
3 انظر ما سيأتي "ص497".
4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب فضل
الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، 4/ 2074/ رقم 2699"
عن أبي هريرة مرفوعا ضمن حديث طويل، مما فيه:
"وما
اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه
بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم
الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده".
5 أخرجه بهذا اللفظ عبد الرزاق في "المصنف" "رقم 20577"-
ومن طريقه أحمد في "المسند" "3/ 94"، والبغوي في "شرح
السنة" 4/ 64-65/ رقم 947"- وإسناده صحيح عن أبي هريرة
وأبي سعيد رضي الله عنهما مرفوعا، وتتمته:
"إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وتنزلت عليهم
السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده"، وله تتمة في "الصحيحين".
ج / 3 ص -283-
وكذلك
استدلال من استدل على جواز دعاء المؤذنين بالليل بقوله
تعالى:
{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ}
الآية [الأنعام: 52].
وقوله:
{ادْعُوا
رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}
[الأعراف: 55].
وبجهر قوام الليل بالقرآن، واستدلالهم على الرقص في
المساجد وغيرها بحديث لعب الحبشة في المسجد بالدرق
والحراب، وقوله عليه الصلاة والسلام لهم:
"دونكم يا بني أرفدة"1.
واستدلال كل من اخترع بدعة أو استحسن محدثة لم تكن في
السلف الصالح، بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان
رسول الله صلى الله عليه وسلم ككتب المصحف، وتصنيف الكتب،
وتدوين الدواوين، وتضمين الصناع، وسائر ما ذكر الأصوليون
في أصل المصالح المرسلة2؛ فخلطوا وغلطوا، واتبعوا ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العيدين، باب الحراب
والدرق يوم العيد، 2/ 440/ رقم 950، وكتاب الجهاد، باب
الدرق، 6/ 94-95/ رقم 2907"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة
العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام
العيد، 2/ 609/ رقم 892 بعد 19" عن عائشة رضي الله عنها
مرفوعا.
وقال "ف" على "بني أرفدة": "هو لقب لجنس من الحبشة:
يرفضون، أو هو اسم أبيهم الأقدم".
2 وكتاب "الاعتصام" للمؤلف قد أوضح الطريق لتمييز المصالح
المرسلة عن البدع على وجه محكم متين، وعالج المسائل
المذكورة وبين أنها ليست من البدع في أي وجه من الوجوه؛
فانظره غير مأمور، وكتب "ف" ما نصه: "وقد أسهب المؤلف في
ذلك وفي معنى البدعة وأقسامها وما يرتبط بها في كتابه
"الاعتصام"، وأنه لكتاب قيم جليل ينبغي الاطلاع عليه ليميز
الإنسان بين البدع والمصالح المرسلة؛ فإنه مما اشتبه على
كثير من الناس فخلطوا".
ج / 3 ص -284-
تشابه
من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها، وهو كله خطأ
على الدين، واتباع لسبيل الملحدين؛ فإن هؤلاء الذين أدركوا
هذه المدارك، وعبروا على1 هذه المسالك؛ إما أن يكونوا قد
أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون، وحادوا2 عن
فهمها وهذا الأخير هو الصواب إذ المتقدمون من السلف الصالح
هم كانوا على الصراط المستقيم، ولم يفهموا من الأدلة
المذكورة وما أشبهها إلا ما كانوا عليه، وهذه المحدثات لم
تكن فيهم، ولا عملوا بها؛ فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن
هذه المعاني المخترعة بحال، وصار عملهم بخلاف ذلك دليلا
إجماعيا على أن هؤلاء في استدلالاتهم3 وعملهم مخطئون
ومخالفون4 للسنة.
فيقال لمن استدل بأمثال ذلك: هل وجد هذا المعنى الذي
استنبطت في عمل الأولين أو لم يوجد؟ فإن زعم أنه لم يوجد
-ولا بد من ذلك- فيقال له: أفكانوا غافلين عما تنبهت له أو
جاهلين به، أم لا؟ ولا يسعه أن يقول بهذا؛ لأنه فتح لباب
الفضيحة على نفسه، وخرق للإجماع، وإن قال: إنهم كانوا
عارفين بمآخذ هذه الأدلة، كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها؛
قيل له: فما الذي حال بينهم وبين العمل بمقتضاها على5 زعمك
حتى خالفوها إلى غيرها؟ ما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على
الخطأ دونك أيها المُتَقَوِّل، والبرهان الشرعي والعادي
دال على عكس القضية، فكل ما جاء مخالفا لما عليه السلف
الصلاح؛ فهو الضلال بعينه.
فإن زعم أن ما انتحله من ذلك إنما هو من قبيل المسكوت عنه
في الأولين، وإذا كان مسكوتا عنه ووجد له في الأدلة مساغ؛
فلا مخالفة، إنما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "من".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "أو حادوا".
3 كذا في "ط" وفي غيره: "استدلالهم".
4 في "ط": "مخطئون مخالفون".
5 في "م": "عن".
ج / 3 ص -285-
المخالفة أن يعاند ما نقل عنهم بضده، وهو البدعة المنكرة،
قيل له: بل هو مخالف؛ لأن ما سكت عنه في الشريعة على
وجهين:
أحدهما:
أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه؛ فلا سبيل
إلى مخالفته لأن تركهم لما عمل به هؤلاء مضاد له، فمن
استلحقه صار مخالفا للسنة، حسبما تبين في كتاب المقاصد.
والثاني:
أن لا توجد مظنة العمل به ثم توجد؛ فيشرع له أمر زائد
يلائم تصرفات الشرع في مثله، وهي المصالح1 المرسلة، وهي من
أصول الشريعة المبني عليها؛ إذ هي راجعة إلى أدلة الشرع،
حسبما تبين في علم الأصول؛ فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس
البدع.
وأيضا؛ فالمصالح2 المرسلة -عند القائل بها- لا تدخل في
التعبدات ألبتة، وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة، وحياطة
أهلها في تصرفاتهم العادية، ولذلك تجد مالكا وهو المسترسل
في القول بالمصالح المرسلة مشددًا في العبادات أن لا تقع
إلا على ما كانت عليه في الأولين؛ فلذلك نهى عن أشياء وكره
أشياء، وإن كان إطلاق الأدلة لا ينفيها بناء منه على أنها
تقيدت مطلقاتها بالعمل؛ فلا مزيد عليه، وقد تمهد أيضا في
الأصول أن المطلق إذا وقع العمل به على وجه؛ لم يكن حجة في
غيره3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "المصلحة".
2 في "ط": "فالمسائل".
3 قال الآمدي في "الإحكام" [المسألة الثامنة في تخصيص
العموم بفعل الرسول، 2/ 480]: "أثبته الأكثرون"، ثم قال في
[باب المطلق، 3/ 3]: "كل ما ذكرناه في مخصصات العموم من
المتفق عليه، والمختلف فيه، والمزيف، والمختار، فهو بعينه
جارٍ في تقييد المطلق". نقول: ولا شك أن المطلق ليس حدة في
غير ما قيد به، والمسألة في ابن الحاجب أيضا في باب
التخصيص. "د".
ج / 3 ص -286-
فالحاصل أن الأمر أو الإذن إذا وقع على أمر له دليل مطلق؛
فرأيت الأولين قد عنوا1 به على وجه واستمر عليه عملهم؛ فلا
حجة فيه على العمل على وجه آخر، بل هو مفتقر إلى دليل
يتبعه في إعمال ذلك الوجه، وذلك كله مبين في باب الأوامر
والنواهي من هذا الكتاب، لكن على وجه آخر؛ فإذًا ليس ما
انتحل هذا المخالف العمل به من قبيل المسكوت عنه، ولا من
قبيل ما أصله المصالح المرسلة؛ فلم يبق إذًا أن يكون إلا
من2 قبيل المعارض لما مضى عليه عمل الأقدمين، وكفى بذلك
مزلة قدم، وبالله التوفيق.
فصل
واعلم أن المخالفة لعمل الأولين فيما تقدم ليست على رتبة
واحدة بل فيها ما هو3 خفيف، ومنها ما هو شديد، وتفصيل
القول في ذلك يستدعي طولا؛ فلنَكِلْهُ إلى نظر المجتهدين،
ولكن المخالف على ضربين:
أحدهما:
أن يكون من أهل الاجتهاد؛ فلا يخلو أن يبلغ في اجتهاده
غاية الوسع4 أو لا، فإن كان كذلك؛ فلا حرج عليه وهو مأجور
على كل حال، وإن لم يعط الاجتهاد حقه وقصر فيه؛ فهو آثم
حسبما بينه أهل الأصول.
والثاني:
أن لا يكون من أهل الاجتهاد، وإنما أدخل نفسه فيه غلطا أو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م" و"ط": "عملوا".
2 في "ط": "فلم يبق إلا أن يكون من...".
3 قال "ف": "لعله منها ما هو... إلخ" بدليل ما بعده، وهو
ظاهر.
4 كما سبق في مسألة الوصال في الصيام من بعض الصحابة بعد
ورود النهي عنه. "د".
ج / 3 ص -287-
مغالطة
إذ لم يشهد له بالاستحقاق أهل الرتبة، ولا رأوه أهلا
للدخول معهم؛ فهذا مذموم.
وقلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا من أهل هذا القسم1؛
لأن المجتهدين وإن اختلفوا فالأمر العام في المسائل أن
يختلفوا إلا فيما اختلف فيه الأولون2، أو في مسألة [من]
موارد الظنون لا ذكر لهم فيها؛ فالأول يلزم منه اختلاف
الأولين في العمل، والثاني يلزم منه الجريان على ما ورد
فيه العمل.
أما القسم الثاني3؛ فإن أهله لا يعرفون ما في موافقة العمل
من أوجه الرجحان؛ فإن موافقته شاهد للدليل الذي استدل به،
ومصدق له على نحو ما يصدقه الإجماع؛ فإنه نوع من الإجماع
فعلي، بخلاف4 ما إذا خالفه؛ فإن المخالفة موهنة له أو
مكذبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لوجود التزكية والهدي الحسن في حقهم، وبعدهم عن ركوب ما
لا يرتضى.
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "لأن المجتهدين وإن اختلفوا في
الأمر العام في المسائل التي اختلفوا فيها لا يختلفون إلا
فيما اختلف فيه الأولون"!! وعلق "د" على "اختلف" بقوله:
"أي: مذهبا ورأيا، وكان عمل كل منهم جاريا على مقتضى
مذهبه، هذه صورة، أو في مسألة لم تظهر للمتقدمين؛ أي:
الصحابة مثلا اختلاف في المذهب، ولم يحصل استدلال كل على
مذهبه، ولكن روي عنهم الاختلاف في العمل، فإذا اختلف
المجتهدون بعد ذلك يكون رأي كل منهم موافقا لرأي البعض
وعمله في الصورة الأولى، وموافقا للعمل في الصورة الثانية،
لكن بقيت صورة ثالثة، وهي أنه قد يختلف المجتهدون في أمر
لم يحصل من الصحابة رأسا عمل فيه، فضلا عن الرأي؛ فلا يأتي
فيه قوله: "والثاني يلزم منه الجريان... إلخ"؛ لأن ذلك
إنما يكون فيما حصل فيه منهم عمل؛ إلا أن يقال: إنه قيد
كلامه أولا بقوله: "في الأمر العام"؛ أي: إن هذا في الجملة
والأغلب".
3 وهم ممن ليسوا أهلا للاجتهاد وأدخلوا أنفسهم فيه غلطا.
"د".
4 هكذا في النسخ المطبوعة و"ط"، وفي الأصل: "الفعلي"، ثم
ذكر في الحاشية أنه في نسخته: "فعلي".
ج / 3 ص -288-
وأيضا؛
فإن العمل مخلص للأدلة من شوائب المحامل1 المقدرة
الموهنة2؛ لأن المجتهد متى نظر في دليل على مسألة احتاج
إلى البحث عن أمور كثيرة، لا يستقيم إعمال الدليل دونها،
والنظر في أعمال المتقدمين قاطع لاحتمالاتها [حتما]3،
ومعين لناسخها من منسوخها، ومبين لمجملها، إلى غير ذلك؛
فهو عون في سلوك سبيل الاجتهاد عظيم، ولذلك اعتمده مالك بن
أنس ومن قال بقوله، وقد تقدم منه أمثلة.
وأيضا؛ فإن ظواهر الأدلة إذا اعتبرت من غير اعتماد على
الأولين فيها مؤدية إلى التعارض والاختلاف وهو مشاهد معنى،
ولأن تعارض الظواهر كثير مع القطع بأن الشريعة لا اختلاف
فيها.
ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحدا من المختلفين
في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية يعجز عن الاستدلال
على مذهبه بظواهر من الأدلة، وقد مر من ذلك أمثلة، بل قد
شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة
ينسبها إلى الشريعة المنزهة، وفي كتب التواريخ والأخبار من
ذلك أطراف ما أشنعها4 في الافتئات على الشريعة، وانظر في
مسألة التداوي من الخمار في "درة الغواص"5 للحريري
وأشباهها، بل قد استدل بعض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي الاحتمالات العشرة؛ من المجاز، والنسخ، والتعارض
العقلي... إلخ. "د".
2 في الأصل: "المكدرة".
3 سقط من "د".
4 في "ف": "ما أشنعهما".
5 جاء فيه "ص122-123 - ط ليدن" ما نصه: "حكي أن حامد بن
العباس سأل علي بن عيسى في ديوان الوزارة عن دواء الخمار
وقد علق به؛ فأعرض عن كلامه وقال: ما أنا وهذه المسألة؟
فخجل حامد منه، ثم التفت إلى قاضي القضاة أبي عمر، فسأله
عن ذلك؛ فتنحنح القاضي لإصلاح صوته، ثم قال: قال الله
تعالى:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا}، وقال النبي عليه السلام:
"استعينوا في الصناعات بأهلها"، والأعشى هو المشهور بهذه =
ج / 3 ص -289-
النصارى1 على صحة ما هم عليه الآن بالقرآن، ثم تحيل؛
فاستدل على أنهم مع ذلك كالمسلمين في التوحيد،
{وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 43].
فلهذا2 كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما
فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى
بالصواب، وأقوم في العلم والعمل، ولهذا الأمر سبب نذكره
بحول الله على الاختصار، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الصناعة في الجاهلية، وقد قال:
وكأس شربت على لذة
وأخرى تداويت منها بها
ثم تلاه أبو نواس في
الإسلام؛ فقال:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
فأسفر حينئذ وجه حامد
بالجواب، وقال لعلي بن عيسى: ما ضرك يا بارد أن تجيب ببعض
ما أجاب به قاضي القضاة؟".
وقد استظهر في جواب المسألة بقول الله عز وجل أولا، ثم
بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ثانيا، وبين الفتيا، وأدى
المعنى وتقصى من العهدة؛ فكان خجل علي بن عيسى من حامد
بهذا الكلام أكثر من خجل حامد منه لما ابتدأه بالمسألة.
قال "د": "ولا شك أن هذا مجون مرذول من قاضي القضاة لا
يصدر إلى عن الفساق المستهترين".
قلت: وحديث:
"استعينوا في
الصناعات بأهلها" ذكره
الثعالبي في كتاب "اللطائف واللطف"، وابن النجار في
"تاريخه" ضمن القصة المذكورة، وهو مما لا سند له. انظر:
"الدرر المنتثرة" "رقم 81"، و"التمييز" "127"، و"كشف
الخفاء" "رقم 340"، و"أسنى المطالب" "178".
1 وما زالوا يفعلون، وكتب ردا عليهم الشيخ عبد الله
القلقيلي رحمه الله تعالى بعنوان: "ليس في كتاب الله ما
يدل على أن المسيح ابن إله أو أنه إله"، وهو مطبوع في
رسالة لطيفة.
2 هكذا في الأصول و"ط"، وفي "ف": "فهذا كله"، قال:
"الأنسب: فلهذا كله".
ج / 3 ص -290-
المسألة الثالثة عشرة1:
فاعلم أن أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين:
أحدهما:
أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار واقتباس ما تضمنه من الحكم
ليعرض عليه النازلة المفروضة لتقع في الوجود على وفاق ما
أعطى الدليل من الحكم، أما قبل وقوعها؛ فبأن2 توقع على
وفقه، وأما بعد وقوعها؛ فليتلافى الأمر، ويستدرك الخطأ
الواقع فيها، بحيث يغلب على الظن أو يقطع بأن ذلك قصد
الشارع، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من
الأدلة.
والثاني:
أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة،
أن يظهر [في]3 بادئ الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل من غير
تحر لقصد الشارع، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق
غرضه، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكام من
الأدلة.
ويظهر هذا المعنى من4 الآية الكريمة:
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ
تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]؛ فليس مقصودهم الاقتباس منها، وغنما مرادجهم الفتنة
بها بهواهم؛ إذ هو السابق المعتبر، وأخذ الادلة فيه بالتبع
لتكون لهم حجة في زيغهم،
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة؛ فلذلك
{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر حولها: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 203-220".
2 في الأصل: "فإن هذا".
3 هكذا هي في الأصل، و"ط"، وفي "د" و"ف" و"م": "أن يظهر
بادئ"، قال "د": "لعل الأصل بأن يظهر"، وكتب "ف": "لعله إن
ظهر في بادئ الرأي الموافقة؛ أي: وبعد النظر والتمحيص يظهر
نبو الدليل عن الغرض".
4 في "م": "في".
ج / 3 ص -291-
مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}،
ويقولون:
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]، فيتبرؤون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون؛
فلذلك صار أهل الوجه الأول محكمين للدليل على أهوائهم، وهو
أصل الشريعة؛ لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتى
يكون عبدا لله، وأهل الوجه الثاني يحكمون أهواءهم على
الأدلة حتى تكون الأدلة في أخذهم لها تبعا، وتفصيل هذه
الجملة قد مر منه في كتاب المقاصد، وسيأتي تمامه في كتاب
الاجتهاد بحول الله تعالى.
ج / 3 ص -292-
المسألة الرابعة عشرة:
اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين1:
أحدهما:
الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض، وهو الواقع على المحل
مجردا عن التوابع والإضافات؛ كالحكم بإباحة الصيد والبيع
والإجارة، وسن النكاح، وندب الصدقات غير الزكاة، وما أشبه
ذلك.
والثاني:
الاقتضاء التبعي، وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع
والإضافات؛ كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء،
ووجوبه على من خشي العنت، وكراهية الصيد لمن قصد فيه
اللهو، وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام أو لمن يدافع2
الأخبثان، وبالجمة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر
خارجي.
فإذا تبين المعنى المراد؛ فهل يصح الاقتصار في الاستدلال
على3 الدليل المقتضي للحكم الأصلي، أم لا بد من اعتبار
التوابع والإضافات حتى يقيد4 دليل الإطلاق بالأدلة
المقتضية لاعتبارها؟ هذا مما فيه نظر وتفصيل.
فلا يخلو أن يأخذ المستدل الدليل على الحكم مفردا مجردا عن
اعتبار الواقع أو لا؛ فإن أخذه مجردا صح الاستدلال، وإن
أخذه5 بقيد الوقوع فلا يصح6، وبيان ذلك أن الدليل المأخوذ
بقيد الوقوع معناه التنزيل على المناط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيقول في آخر المسألة: "وإذا اعتبرت الأقضية والفتاوى في
القرآن والحديث؛ وجدتها على هذا الأصل"، يعني: فالمسالة
تساعدك على تنزيل ما ورد فيها من ذلك على ما تعلمه من هذا
الأصل. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "ويدافعه".
3 في "د": "عن".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "يتقيد".
5 في الأصل: "يأخذه".
6 ليس كل ما اعتبر فيه الوقوع ينضم إليه توابع تخرجه عن
الحكم الأصلي، وعليك بالنظر =
ج / 3 ص -293-
المعين، وتعيين المناط موجب -في كثير من النوازل- إلى
ضمائم وتقييدات لا يشعر المكلف بها عند عدم التعيين، وإذا
لم يشعر بها لم يلزم بيانها؛ إذ ليس موضع الحاجة، بخلاف
[ما]1 إذا اقترن المناط بأمر محتاج إلى اعتباره في
الاستدلال؛ فلا بد من اعتباره.
فقول الله تعالى:
{يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [النساء: 95]، لما نزلت أولا كانت مقررة لحكم أصلي منزل على
مناط [أصلي]1 من القدرة وإمكان الامتثال وهو السابع؛ فلم
يتنزل2 حكم أولي الضرر، ولما اشتبه3 ذو الضرر ظن أن عموم
نفي الاستواء، يستوي4 فيه ذو الضرر وغيره، فخاف من ذلك
وسأل الرخصة؛ فنزل:
{غَيْرُ أُولِي الضَّرَر}.
ولما قال عليه الصلاة والسلام:
"من نُوقش الحساب؛ عُذب"5 بناء
على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في أمثلته السابقة لتعلم منها صحة هذا، وأيضا سيقول بعد:
"موجب في كثير من النوازل إلى ضمائم"؛ أي: إن هناك نوازل
أيضا لا ضمائم لها، وعليه، فلو أخذ الدليل معتبرا فيه
الواقع الذي لا ضمائم فيه، وجعل الدليل مفردًا؛ فهو صحيح
لأنه لم يختلف حكمه عن الحكم الأصلي، ولم يقترن المناط
بأمر محتاج إلى اعتباره كما قال؛ فإطلاقه عدم الصحة غير
ظاهر، ألا ترى أن قوله تعالى:
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} نازل على المناط ملاحظ فيه الواقع المعتاد، وانظر قوله بعد: "فأما
إن لم يكن ثم تعيين... إلخ"، وقوله أيضا: "فإن سأل عن مناط
غير معين... إلخ". "د".
1 سقطت من "ط".
2 في "ط": "ولم ينزل".
3 في "ف": "ولما شبه"، قال: "ولعله: ولما اشتبه"، وفي "ط":
"ولما تنبه".
4 هذا مبني على أن الآية بعد نزول الاستثناء أفادت أن ذوي
الضرر يستوون مع المجاهدين، وليس كذلك؛ لأن الآية إنما
تفيد أنهم خارجون عن هذه المقارنة، وأنهم أفضل فقط من
القاعدين بغير عذر، وهذا ما فهمه ابن أم مكتوم السائل؛
فلذلك كان يذهب إلى الجهاد بعد ذلك ويقف في الصفوف. "د".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب
{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}، 8/ 697/ رقم 4939"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها
وأهلها، 4/ 2204/ رقم 2876" عن عائشة رضي الله عنها، وهو
قطعة من حديث.
ج / 3 ص -294-
تأصيل
قاعدة أخروي، سألت عائشة عن معنى قول الله عز وجل:
{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8]؛ لأنه يشكل دخوله تحت عموم الحديث؛ فبين عليه الصلاة
والسلام أن ذلك العرض لا الحساب المناقش فيه.
وقال عليه الصلاة والسلام:
"مَن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه"1
إلخ؛ فسألته عائشة عن هذه الكراهية: هل هي الطبيعية2 أم
لا؟ فأخبرها أن
"لا"
وتبين مناط الكراهية المرادة.
وقال الله تعالى:
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
[البقرة: 238] تنزيلا على المناط المعتاد، فلما عرض مناط
آخر خارج عن المعتاد وهو المرض؛ بيَّنه عليه الصلاة
والسلام بقوله وفعله3 حين جُحِش شِقُّه.
وقال عليه الصلاة والسلام:
"أنا وكافل اليتيم كهاتين"4، ثم
لما تعين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الرقائق، باب من أحب
لقاء الله أحب الله لقاءه، 11/ 357/ رقم 6507"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب من
أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، 4/ 2065/ رقم 2683" عن
عبادة بن الصامت مرفوعا.
2 فهمت أنه من أحب الموت أحبه الله، ومن كره الموت كرهه
الله، ومعلوم أن النفس بمقتضى الفطرة تكره الموت؛ فخافت
وقالت: إنا لنكره الموت، قال:
"ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته؛ فليس
شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه،
وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته؛ فليس شيء أكره
إليه مما أمامه؛ فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه".
3 فقد قال:
"إنما جعل
الإمام ليؤتم به..." إلى أن
قال:
"وإذا قعد فاقعدوا، وصلى بهم قاعدا" الحديث متفق عليه، ومضى تخريجه "1/ 467، 523".
قال "ف": "جحش: بالنباء للمجهول؛ أي: انخدش جلده، وفي
الحديث أنه سقط من فرس فجحش شقه"، وقال "ماء": "جرح شقه".
قلت: مضى تخريج سقوطه صلى الله عليه وسلم عن فرسه في "1/
523".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" كتاب الطلاق، باب اللعان، 9/
439/ رقم 5304، وكتاب الأدب، باب فضل من يعول يتيما، 10/
436/ رقم 6005" عن سهل بن سعد مرفوعا:
"أنا
وكافل اليتيم في الجنة هكذا".
وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئا.
ج / 3 ص -295-
مناط
فيه نظر؛ قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر:
"لا تولين مال يتيم"1.
والأمثلة في هذا المعنى لا تحصى، واستقراؤها من الشريعة
يفيد العلم بصحة هذا التفصيل، فلو فرض نزول حكم عام، ثم
أتى كل من سمعه يتثبت في مقتضى ذلك العام بالنسبة إليه؛
لكان الجواب على وفق هذه القاعدة، نظير وصيته عليه الصلاة
والسلام لبعض أصحابه بشيء ووصيته لبعض بأمر آخر؛ كما قال:
"قل ربي الله ثم استقم"2، وقال لآخر:
"لا تغضب"3، وكما
قَبِلَ من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة
بغير ضرورة، 3/ 1457-1458/ رقم 1826"، وأبو داود في
"السنن" "كتاب الوصايا، باب ما جاء في الدخول في الوصايا،
رقم 2868"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الوصايا، باب
النهي عن الولاية على مال اليتيم، 6/ 255"، والبيهقي في
"الكبرى" "3/ 129 و6/ 283" عن أبي ذر.
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في
حفظ اللسان، 4/ 607/ رقم 2410" -وقال: "هذا حديث حسن
صحيح"- والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" "4/
20"- وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، 2/ 1314/ رقم
3972"، وأحمد في "المسند" "3م 413 و4/ 384-385"، والدارمي
في "السنن" "2/ 296"، والطبراني في "الكبير" "7/ 78/ رقم
6396"، وابن حبان في "الصحيح" "13/ 5/ رقم 5698، 5699"،
وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 323/ رقم 1585"،
وابن أبي الدنيا في "الصمت" "رقم 1، 6"، الخطيب في
"التاريخ" "2/ 370 و9/ 234 و454" عن سفيان بن عبد الله
الثقفي به، وهو صحيح.
وأخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف
الإسلام، 1/ 65/ رقم 38"، وأحمد في "المسند"3/ 413"، وابن
أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "3/ 222/ رقم 1584"،
والبغوي في "شرح السنة" "رقم 16"عن سفيان بن عبد الله
الثقفي؛ قال: قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولا لا
أسأل عنه أحدا بعدك. قال:
"قل آمنت بالله، ثم استقم".
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب الحذر من
الغضب، 10/ 519 / رقم 6116" عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن
رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال:
"لا تغضب"، فردد
مرارا؛ قال:
"لا تغضب".
وفي "مسند أحمد" "2/ 175" ما يدل على أن السائل هو عبد
الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وإسناده حسن.
ج / 3 ص -296-
بعضهم
جميع ماله1، ومن بعضهم شطره2، ورد على بعضهم ما أتى به3
بعد تحريضه على الإنفاق في سبيل الله، إلى سائر الأمثال.
فصل
ولتعين المناط مواضع:
- منها: الأسباب الموجبة لتقرير الأحكام، كما إذا نزلت آية
أو جاء حديث على سبب؛ فإن الدليل يأتي بحسبه، وعلى وفاق
البيان التمام فيه؛ فقد قال تعالى4:
{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ [فَتَابَ
عَلَيْكُمْ]}
الآية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو أبو بكر رضي الله عنه كما ثبت عنه، ومضى تخريجه
"ص70".
2 وهو عمر رضي الله عنه كما ثبت عنه، ومضى تخريجه "ص70".
3 كما حصل مع أبي لباباة وكعب بن مالك رضي الله عنهما،
ومضى تخريج ذلك "ص70".
4 ليست الآيتان والحديثان من المناط الخاص المفروض فيه أنه
يختلف حكمه عن العام بسبب طروء عوارض؛ حتى يكون من
الاقتضاء التبعي الذي يخالف حكم الأصل، ويكون الحكم فيه
مقصورا عليه بحسب هذه العوارض؛ فإن إباحة مباشرة النساء
ليلة الصيام ليست قاصرة علىحالة من كان يختان نفسه، بل ذلك
عام، وكذا إباحة تعدد الزوجات إلى أربع ليست خاصة بمن
يخافون عدم العدل في اليتامى، وكذا كون الأعمال بالنيات
ليس قاصرا على مسألة الهجرة، وكذا الوعيد في عدم استيعاب
الغسل للأعضاء ليس قاصرا على الأعقاب، كما قال المؤلف؛
فالأحكام فيها ليست قاصرة على المناط وهو السبب، بل حكمه
حكم غيره، وسيأتي له أنهما إذا لم يختلفا؛ فالجواب إنما
يقع بحسب المناط الخاص؛ فهذه الأمثلة منه، أما المناطات
الخاصة المخالفة لحكم العام فقد ذكر أمثلتها قبل هذا
الفصل؛ فلا يشتبه عليك المقام. "د".
ج / 3 ص -297-
[البقرة: 187]؛ إذ كان ناس يختانون أنفسهم؛ فجاءت الآية
تبيح لهم ما كان ممنوعًا قبل حتى لا يكون فعلهم ذلك الوقت
خيانة منهم لأنفسهم.
وقوله:
{وَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا
مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ1} الآية [النساء: 3]؛ إذ نزلت عند وجود مظنة خوف أن لا يقسطوا، وما
أشبه ذلك.
وفي الحديث:
"فمن كانت
هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله..."2 الحديث، أتى فيه بتمثيل الهجرة لما كان هو السبب، وقال:
"ويل للأعقاب من النار"3 مع أن غير الأعقاب يساويها حكما، لكنه كان السبب في الحديث
التقصير في الاستيعاب في غسل الرجلين، ومع ذلك كثير.
- ومنها: أن يتوهم بعض المناطات داخلا في حكم [عام]، أو
خارجًا عنه، ولا يكون كذلك في الحكم4؛ فمثال الأول ما تقدم
في قوله عليه الصلاة والسلام:
"من نوقش الحساب؛ عذب"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواطن كثيرة منها "كتاب بدء
الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، 1/ 91/ رقم 1"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم
"إنما الأعمال بالنيات"، 3/ 1515/ رقم 1907" عن عمر رضي الله عنه.
3 وردت في هذا الباب أحاديث عديدة، سردها أبو عبيد القاسم
بن سلام في كتابه "الطهور" "ص374-384" تحت "باب غسل
القدمين ووجوب ذلك مع العقبين، رقم 371-381"، وقد خرجتها
بتفصيل وإسهاب في التعليق عليه، ولله الحمد والمنة.
ومما ورد في ذلك حديث عبد الله بن عمرو، أخرجه البخاري في
"الصحيح" "رقم 60، 69، 163"، ومسلم في "الصحيح" "1/ 214/
رقم 241" وغيرهما.
4 أي: فبين الشارع المناط، ويزيل اللبس. "د".
5 مضى تخريجه "ص293"، وهو في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله
عنها.
ج / 3 ص -298-
وقوله:
"من كره لقاء الله كره الله لقاءه"1.
ومثال الثاني قوله عليه الصلاة والسلام للمصلي:
"ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك وقد جاء فيما نزل عليّ:
{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
[إِذَا دَعَاكُمْ]}
الآية [الأنفال: 24]؟"2.
أو كما قال عليه الصلاة والسلام؛ إذ كان إنما ثبت على
صلاته لاعتقاده أن نازلته المعينة لا يتناولها معنى الآية.
- ومنها: أن يقع اللفظ المخاطب به مجملا، بحيث لا يفهم
المقصود به ابتداء؛ فيفتقر المكلف عند العمل إلى بيانه،
وهذا الإجمال قد يقع لعامة المكلفين، وقد يقع لبعضهم دون
بعض؛ فمثال العام قوله تعالى:
{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون: 10]؛ فإنه لا يفهم المقصود به من أول وهلة؛ فجاءت
أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله مبينة لذلك.
ومثال الخاص3 قصة عدي بن حاتم4 في فهم الخيط الأبيض من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص294" وهو في "الصحيحين" عن عبادة بن الصامت
رضي الله عنه، هو تتمة قوله صلى الله عليه وسلم:
"من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ...}، 8/ 307/ رقم 4647" عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه؛ قال: كنت
أصلي، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني؛ فلم
آتيه حتى صليت، ثم أتيته؛ فقال:
"ما منعك
أن تأتي؟ ألم يقل الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
إِذَا دَعَاكُمْ...}...".
وأخرجه أحمد في "المسند" "3/ 450 و4/ 211"، والنسائي في
"المجتبى" "كتاب الافتتاح، باب تأويل قول الله عز وجل:
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ
الْعَظِيمَ}، 2م
139"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب فاتحة
الكتاب، 2/ 150/ رقم 1458"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب
الأدب، باب ثواب القرآن، 2/ 1244/ رقم 3785".
3 فإن الإجمال كان عنده خاصة، ولم يكن مجملا عند الصحابة
في الآيتين. "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ =
ج / 3 ص -299-
الخيط
الأسود؛ حتى نزل بسببه:
{مِنَ
الْفَجْر} [البقرة: 187].
وقصته1 في معنى قوله تعالى:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا
مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
لَكُمُ}، 8/ 182/ رقم 4509"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب بيان أن
الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، 2/ 766-767/ رقم 1090"
عن عدي بن حاتم؛ قال: لما نزلت
{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ
الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}
[البقرة: 187]؛ قال له عدي ين حاتم: يا رسول الله! إني
أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالا أبيض وعقالا أسود، أعرف
الليل من النهار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن وسادتك
لعريض، إنما هو سواد الليل وبياض النهار".
لفظ مسلم.
وأخرج البخاري في "صحيحه" "رقم 4511"، ومسلم في "صحيحه"
"رقم 1091" عن سهل بن سعد؛ قال: أنزلت:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، ولم ينزل:
{مِنَ الْفَجْرِ}، وكان
رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض
والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما؛ فأنزل
الله بعده:
{مِنَ الْفَجْرِ}؛
فعلموا أنما يعني الليل من النهار.
1 أخرج الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب سورة
التوبة، 5/ 278/ رقم 3059"، وابن جرير في "التفسير" "10/
81"، والطبراني في "الكبير" "17/ 92/ رقم 218"، والواحدي
في "الوسيط" "2/ 490-491"، والبيهقي في "السنن الكبرى"
"10/ 116" و"المدخل" "رقم 261"، وابن سعد، وعبد بن حميد،
وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه -كما
في "الدر المنثور" "2/ 230"- المزي في "تهذيب الكمال"
"ق1090" من طرق عن عدي بن حاتم؛ قال: أتيت النبي صلى الله
عليه وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "يا عدي! اطرح عنك
هذ الوثن"، وسمعته يقرأ في سورة براءة:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا
مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم
شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه".
قال الترمذي عقبه: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث
عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث".
وقال المناوي في "الفتح السماوي" "1/ 365" في تخريجه:
"أخرجه الترمذي وحسنه"، ولم يحسنه الترمذي. وانظر: "تحفة
الأشراف" "7/ 284"، =
ج / 3 ص -300-
وقصة
ابن عمر1 في طلاق زوجته، إلى أمثال من ذلك كثيرة.
فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط لا بد فيها
من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة.
فأما إن لم يكن ثم تعيين2؛ فيصح أخذه على وفق الواقع مفروض
الوقوع، ويصح إفراده بمقتضى الدليل الدال عليه في الأصل ما
لم يتعين؛ فلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= و"العارضة" "11/ 246".
قلت: غضيف ضعيف، ضعفه الدارقطني. انظر: "الضعفاء
والمتروكين" "رقم 430"، و"اللسان" "4/ 240".
وللحديث شاهد أخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "2/ 272"،
والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في
"السنن" "10/ 116"عن حذيفة موقوفا، وله حكم الرفع؛ كما هو
مقرر في علم المصطلح، وله شاهد آخر جيد من حديث أبي
العالية أخرجه ابن جرير في "التفسير" "10/ 81".
فالحديث حسن بطرقه المتعددة، كما قال شيخ الإسلام ابن
تيمية في كتابه" الإيمان" "64"، وعزاه ابن كثير في
"التفسير" "2/ 348" للإمام أحمد من حديث عدي، ولم أظفر به
في "مسنده" "4/ 256، 377" "مسند عدي".
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب إذا طلقت
الحائض تعتد بذلك الطلاق، 9/ 351/ رقم 5252"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها،
وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها، 2/ 1093" عن ابن
عمر؛ أنه طلق أمرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن ذلك؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مره فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر،
ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس؛ فتلك العدة
التي أمر الله عز وجل أن يُطلق لها النساء". لفظ مسلم.
2 وفي هذه الحالة لا يظهر فرق بين الأخذين؛ لأن فرض الوقوع
المعتاد لا يغير شيئا. "د".
ج / 3 ص -301-
بد من
اعتبار توابعه، وعند ذلك نقول: لا يصح للعالم إذا سئل عن
أمر كيف1 يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع، فإن
أجاب على غير ذلك؛ أخطأ في عدم اعتبار المناط المسئول عن
حكمه، لأنه سئل عن مناط معين؛ فأجاب عن مناط غير معين.
لا يقال: إن المعين يتناوله المناط غير المعين لأنه فرد من
أفراد عام، أو مقيد من مطلق؛ لأنا نقول: ليس الفرض هكذا2،
وإنما الكلام على مناط خاص يختلف مع العام لطروء عوارض كما
تقدم تمثيله، فإن فرض عدم اختلافهما؛ فالجواب إنما يقع
بحسب المناط الخاص.
وما مثل هذا إلا مثل من سأل: هل يجوز بيع الدرهم3 من سكة
كذا بدرهم3 في وزنه من سكة أخرى، أو المسكوك بغير المسكوك
وهو في وزنه؟ فأجابه المسئول بأن الدرهم3 بالدرهم3 سواء
بسواء، فمن زاد أو ازداد؛ فقد أربى، فإنه لا يحصل4 له جواب
مسألته من ذلك الأصل؛ إذ له أن يقول: فهل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: عن أمر له كيفية وتوابع خاصة في وقوعه، بحيث يكون
مما له مناط معين. "د".
2 أي: ليس الفرض الذي نحكم فيه بالخطأ إذا لم يلاحظه في
الجواب هكذا؛ اي: أي مناط خاص كائنا ما كان. "د".
3 في "ط": "الدراهم"بالجمع في الموطنين.
4 أما بالنسبة إلى الجزء الأول من السؤال؛ فإنه جواب
بالعام في موضع يتعين فيه الخاص لأن قوله: "فمن زاد...
إلخ" يحتمل زاد في عدد الدراهم مع تساويها في الوزن ولو
كانا من سكتين، ويحتمل أن يفهم أن اختلاف السكتين لا يقال
فيه الدرهم بالدرهم؛ لأنه نوع آخر، وعلى هذين الاحتمالين
لا يكون الجواب صحيحا لأنه قد يفهم منه أن اختلاف السكة أو
العدد مع اتحاد الوزن يكون ربا، ويحتمل أن يكون المراد
الزيادة في الوزن؛ فيكون الجواب صحيحا، ومع بقاء هذه
الاحتمالات يكون الجواب غير مطابق للسؤال ولا يفيد لأنه
يبقى أن يقول: ومسألتنا ما حكمها؟ وأما بالنسبة إلى الجزء
الثاني؛ فهو جواب بالمباين لأن المسئول عنه غير داخل في
الجواب؛ إذ غير المسكوك لا يعد درهما، فلو حذفه كان أولى،
وقوله: "لكان مصيبا" يقال عليه: إن الجواب حينئذ يكون أخص
من السؤال؛ لأن الدرهم أخص من مطلق الفضة، هذا إذا كان
الدرهم ما هو المعروف أنه المسكوك من الفضة للتعامل به،
فإذا كان المراد بالدرهم نوعا من الصنج؛ فلا يناسب كلامه.
"د".
ج / 3 ص -302-
ما
سألتك عنه من قبيل الربا، أم لا؟ أما لو سأله: هل يجوز
الدرهم بالدرهم وهو في وزنه وسكته وطيبه؟ فأجابه كذلك؛
لحصل المقصود، لكن بالعرض لعلم السائل بأن الدرهمين مثلان
من كل وجه.
فإذا سئل عن بيع الفضة بالفضة فأجاب بذلك الكلام؛ لكان
مصيبًا، لأن السؤال لم يقع إلا على مناط مطلق، فأجابه
بمقتضى الأصل، ولو فصّل له الأمر بحسب الواقع لجاز، ويحتمل
فرض صور كثيرة، وهو شأن المصنفين أهل التفريع والبسط
للمسائل، وبسبب ذلك عظمت أجرام الدواوين، وكثرت أعداد
المسائل؛ غير أن الحكمة اقتضت أن يجاب السائل على حد
سؤاله، فإن سأل عن مناط غير معين؛ أجيب على وفق الاقتضاء
الأصلي، وإن سأل عن معين؛ فلا بد من اعتباره في الواقع إلى
أن يستوفي له ما يحتاج إليه، ومن اعتبر الأقضية والفتاوى
الموجودة في القرآن والسنة، وجدها على وفق هذا الأصل،
وبالله التوفيق. |