الموافقات ج / 4 ص -7-
تابع الطرف الأول: في أحكام الأدلة عامة
الفصل الرابع: في العموم والخصوص
ولا بد من
مقدمة تبيّن المقصود من العموم والخصوص ههنا، والمرادُ
العموم المعنوي، كان له صيغة مخصوصة أو لا، فإذا قلنا في
وجوب الصلاة أو غيرها من الواجبات وفي تحريم الظلم أو
غيره: إنه عام فإنما معنى1 ذلك أن ذلك ثابت على الإطلاق
والعموم، بدليل فيه صيغة عموم أو لا، بناء على أن الأدلة
المستعملة هنا إنما هي الاستقرائية، المحصِّلة بمجموعها
القطع بالحكم حسبما تبين في المقدمات والخصوص بخلاف
العموم، فإذا ثبت مناط النظر وتحقق؛ فيتعلق به مسائل:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي ذكره في المسألة السادسة، ويستدل عليه هناك بجملة
وجوه. "د".
ج / 4 ص -8-
المسألة الأولى:
إذا ثبتت
قاعدة عامة أو مطلقة1. فلا تؤثر فيها معارضة قضايا
الأعيان، ولا حكايات2 الأحوال، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: أن القاعدة مقطوع بها بالفرض؛ لأنا إنما نتكلم في
الأصول الكلية القطعية، وقضايا الأعيان مظنونة أو متوهمة،
والمظنون لا يقف للقطعي ولا يعارضه.
والثاني: أن القاعدة غير محتملة لاستنادها3 إلى الأدلة
القطعية، وقضايا الأعيان محتملة؛ لإمكان أن تكون4 على غير
ظاهرها، أو على ظاهرها وهي مقتطعة ومستثناة5 من ذلك الأصل؛
فلا يمكن والحالة هذه إبطال كلية القاعدة بما هذا شأنه.
والثالث: أن قضايا الأعيان جزئية، والقواعد المطردة كليات،
ولا تنهض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم ترد مقيدة، وقوله: "قضايا الأعيان" كما ورد مسحه -صلى
الله عليه وسلم- على عمامته*، فلا يؤثر ذلك في قاعدة وجوب
مسح نفس الرأس في الوضوء، ويكون مسح العمامة متى كانت
روايته قوية مستثنى للعذر بجرح أو مرض بالرأس يمنع من
مباشرة المسح عليها، وكما سيأتي في الفصل التالي في قضية
قتل موسى للقبطي. "د".
قلت: انظر عن تخصيص العام بقضايا الأعيان: "البحر المحيط"
"3/ 405" للزركشي.
2 كالحكايات التي [ستأتي "ص59"]** عن عثمان وعمر من تركهم
في بعض الأحيان ما هو مشروع باتفاق كالأضحية خوفًا من
اعتقاد الناس فيه غير حكمه كالوجوب مثلًا. "د".
3 أي: فالأدلة القطعية التي أنتجت هذه القاعدة حددت معناها
بحيث صارت لا تحتمل إرادة غير ظاهرها. "د".
4 في "ط": "لأن تكون...".
5 أي: مع بقاء العموم في الباقي بعد الاستثناء. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* انظر تخريجه والتعليق عليه في "3/ 272".
** بدلها في المطبوع: "تقدمت".
ج / 4 ص -9-
الجزئيات أن تنقض الكليات، ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية
في الجزئيات وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص،
كما في المسألة السفرية1 بالنسبة إلى الملك المترف، وكما
في الغنى بالنسبة إلى مالك النصاب والنصاب لا يغنيه على
الخصوص، وبالضد في مالك غير النصاب وهو به غني.
والرابع: أنها لو عارضتها؛ فإما أن يُعملا معًا، أو يهملا،
أو يعمل بأحدهما دون الآخر، أعني في محل المعارضة؛
فإعمالهما معًا باطل2، وكذلك إهمالهما؛ لأنه إعمال3
للمعارضة فيما بين الظني والقطعي، وإعمال الجزئي دون الكلي
ترجيح له على الكلي، وهو خلاف القاعدة؛ فلم يبقَ إلا الوجه
الرابع، وهو إعمال الكلي دون الجزئي، وهو المطلوب.
فإن قيل: هذا مشكل على بابي التخصيص والتقييد؛ فإن تخصيص
العموم وتقييد المطلق صحيح عند الأصوليين بأخبار الآحاد
وغيرها من الأمور المظنونة وما ذكرت جارٍ فيها؛ فيلزم إما
بُطلان ما قالوه، وإما بطلان هذه القاعدة، لكن ما قالوه
صحيح؛ فلزم إبطال هذه القاعدة.
[فالجواب]4 من وجهين:
أحدهما5: أن ما فرض في السؤال ليس من مسألتنا بحال؛ فإن ما
نحن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإن العلة للرخصة بالإفطار أو القصر المشقة، وليست
متحققة في الملك الذي يستعمل وسائل الترف في سفره، وهكذا
ما بعده في الغنى بالنسبة إلى تحديد النصاب فيمن لا يجعله
النصاب غنيًّا، وعكسه. "د". وفي "ط": "المشقة السفرية".
2 لأنه يستلزم التكليف بالضدين معًا، وهو لا يجوز. "د".
3 لأن إهمال الدليلين أو التوقف فيهما فرع عن تعارضهما مع
عدم الترجيح لأحدهما، والواقع خلافه؛ لأنه لا معارضة إلا
عند التساوي. "د". وفي "ط": "إهمال".
4 سقط من "ط".
5 أين ثانيهما؟ "د".
ج / 4 ص -10-
فيه من قبيل ما يتوهم فيه الجزئي معارضًا وفي الحقيقة ليس بمعارض؛
فإن القاعدة إذا كانت كلية، ثم ورد في شيء مخصوص وقضية
عينية ما يقتضي بظاهره المعارضة في تلك القضية المخصوصة
وحدها، مع إمكان أن يكون معناها موافقًا لا مخالفًا فلا
إشكال في أن لا معارضة1 هنا، وهو هنا محل التأويل لمن
تأول، أو محل عدم2 الاعتبار إن لاق بالموضع الاطراح
والإهمال كما3 إذا ثبت لنا أصل التنزيه كليًّا عامًّا ثم
ورد موضع ظاهره التشبيه في أمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: والعموم معتبر ويؤول الجزئي بما يليق به من المحامل
التي تقبلها اللغة والأصول الدينية، وذلك حيث يكون الجزئي
لا يليق به أن يطرح، بأن كان كتابًا أو سنة متواترة ولو
معنى، وقوله: "أو محل عموم الاعتبار" لعل الأصل: "اعتبار
العموم" هكذا بالتقديم والتأخير، أي: مع طرح الدليل الجزئي
وعدم الاعتداد به إذا لم يكن كسابقه، بأن كان سنة دخلتها
علة من العلل، كأن كانت مرسلة أو موقوفة أو مقطوعة أو كذب
الأصل فيها الفرع، وكل من المحلين العموم فيه معتبر قطعًا
لا رائحة للتخصيص فيه، إلا أن الأول لقوة الجزئي سندًا
وعدم إمكان طرحه كان محل التأويل، والثاني لضعف سنده لا
حاجة فيه إلى التأويل بدون ضرورة. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "عموم".
3 تقدم لك تمثيل قضايا الأعيان بالمسح على العمامة* وليس
في مسألة التنزيه قضايا أعيان ولا حكاية حال، إنما فيها
أدلة شرعية جزئية ربما يدل ظاهرها على المعارضة، كحديث: "ينزل ربنا
إلى سماء الدنيا... إلخ"، وكما
في آية:
{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} [الفتح: 10]، وهكذا، وأصل الكلام في قضايا أصول الفقه أو قضايا
الفقه نفسه؛ كمثالي الملك المترف والنصاب لا في أصول
العقائد.
وبالجملة؛ فالمقام مشكل لأنا إذا جرينا على التقرير الماضي
جميعه من أول المسألة إلى أول الجواب من أن الكلام في
مسألة من أصول الفقه ورد عليه أن الأدلة لا سيما الرابع لا
تظهر في كليات فروع الفقه، وأيضًا؛ فالجواب ضعيف لأنه ما
الذي يعرف به أن في الجزئي ليس معارضًا في الحقيقة وإن فهم
فيه المعارضة، فإما أن تئوله، وإما نسقطه، وأنه في هذه
الحالة غير ما أريد بالمخصص ظاهره من غير تأويل ولا
احتمال، وأيضًا؛ فلا معنى للتمثيل بمسألة التنزيه وعصمة
الأنبياء، ولا يقال: إن هذا مجرد تشبيه وليس تمثيلًا لما
نحن فيه؛ فهو تشبيه يقرب الغرض من الفرق بين ما يتوهم فيه
التخصيص وليس بتخصيص وبين ما يكون المراد ظاهر المخصص لأنا
نقول: البعد =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ليس الأمر كذلك؛ فقد ثبت فيه أحاديث، كما قدمناه.
ج / 4 ص -11-
خاص
يمكن أن يراد به خلاف ظاهره، على ما أعطته قاعدة التنزيه،
فمثل هذا لا يؤثر في صحة الكلية الثابتة، وكما إذا ثبت لنا
أصل عصمة الأنبياء من الذنوب، ثم جاء قوله:
"لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات"1 ونحو ذلك؛ فهذا لا يؤثر لاحتمال حمله على وجه لا يخرم2 ذلك الأصل،
وأما تخصيص العموم؛ فشيء آخر لأنه إنما يعمل بناء على أن
المراد بالمخصص ظاهره من غير تأويل ولا احتمال؛ فحينئذ
يعمل ويعتبر كما قاله الأصوليون، وليس ذلك مما نحن فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= شاسع بين المقامين؛ لأن التنزيه وعصمة الأنبياء من
المقطوع في عمومه بالأدلة القطعية والنقلية، فكل ما ورد
مخالفًا لذلك من جزئيات الأدلة يعلم أنه ليس بمخصص، فيجري
فيه أحد الأمرين المذكورين: إما التأويل، أو الإهمال، ولا
كذلك القضايا العامة في الفروع لأنها جميعها قابلة للتخصيص
حتى بخبر الآحاد، فلا طريق لمعرفة ما يراد منه ظاهره ليكون
مخصصًا وما لم يرد حتى تئوله أو نطرحه، وإن جرينا على أن
هذه المسألة في قضايا العقائد -وهو الذي يناسب ما يذكره في
الفعل بعده تفريعًا على هذه المسألة- خرجت عما نحن فيه،
ولم يناسبها التقرير السابق في قوله: "مقتطعة مستثناة من
ذلك الأصل"، وقوله: "ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية...
إلخ"، وبالجملة؛ فلا بد أن أن يكون لسقوط الوجه الثاني أثر
في التباس الجواب، وربما كان قوله: "كما إذا ثبت... إلخ"
مرتبطًا بما سقط من الوجه الثاني، والله أعلم، وقد يقال:
إن المسألة الأولى يراد بها ما هو أعم من الأصوليين، فعليك
بتتبع التقرير من أول المسألة والتمثيل والإشكال والجواب
بناء على التعميم في الأصول المذكورة، فلعلك تصل إلى إزالة
بعض ما أشرنا إليه من إشكالات المسألة. "د".
قلت: وانظر ما قدمناه "2/ 195، 257 و3/ 319، 323" من قواعد
وكليات تخص تأويل الصفات؛ ففيه ما يثلج الصدر، ويريح
الفؤاد.
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأنبياء، باب قول الله
تعالى:
{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، 6/ 388/ رقم 3357، 3358 وكتاب النكاح، باب اتخاذ السراري، 9/ 126/
رقم 5084"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب من فضائل
إبراهيم الخليل -عليه السلام- 4/ 1840/ رقم 2371" عن أبي
هريرة مرفوعًا.
2 في الأصل: "لا يخرج".
ج / 4 ص -12-
فصل:
وهذا الموضع كثير الفائدة1، عظيم النفع بالنسبة إلى
المتمسك بالكليات إذا عارضتها الجزئيات [وقضايا الأعيان2]،
فإنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي في حمله على
وجوه كثيرة فإن تمسك بالجزئي لم يمكنه مع التمسك الخيرة3
في الكلي؛ فثبت في حقه المعارضة، ورمت به أيدي الإشكالات
في مهاوٍ بعيدة، وهذا هو أصل الزيغ والضلال في الدين؛ لأنه
اتباع للمتشابهات، وتشكك في القواطع المحكمات، ولا توفيق
إلا بالله.
ومن فوائده سهولة المتناول في انقطاع الخصام والتشغيب
الواقع من المخالفين.
ومثال هذا ما وقع في بعض المجالس، وقد ورد على "غرناطة"
بعض "طلبة"4 العدوة الأفريقية؛ فأورد على مسألة العصمة
الإشكال المورد في قتل موسى للقبطي، وأن ظاهر القرآن يقضي
بوقوع المعصية منه -عليه السلام- بقوله:
{هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص: 15].
وقوله:
{رَبِّ
إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}
[القصص: 16].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الفوائد التي ذكرت في هذا الفصل إنما تبنى على الكليات
المقطوع بها التي لا تقبل تخصيصًا ولا استثناء، ومعلوم أن
ذلك في أصول العقائد لا في أصول الفقه. "د".
2 مثلوا لها بإذنه -صلى الله عليه وسلم- بلبس الحرير
للحكة، وللحنابلة قولان في صحة التخصيص بتلك القضايا، ولكن
التحقيق أن التخصيص إنما هو بالعلة المصرح بها التي لأجلها
ورد الإذن، فإذا لم تكن مصرحة؛ فلا تخصيص. "د" وما بين
المعقوفتين سقط من "ط".
3 لأن الكلي على ما تقدم غير محتمل، بل متحدد المعنى لا
يقبل تأويلًا، فإذا اعتبر ظاهر الجزئي؛ فلا مناص من
المعارضة. "د". وفي "ط": "به الخيرة".
4 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".
ج / 4 ص -13-
فأخذ
معه في تفصيل ألفاظ الآية1 بمجردها، وما ذكر فيها من
التأويلات بإخراج2 الآيات عن ظواهرها، وهذا المأخذ لا
يتخلص، وربما وقع الانفصال على غير وفاق؛ فكان مما ذاكرت
به بعض الأصحاب في ذلك: [أن] المسألة سهلة في النظر إذا
روجع بها الأصل، وهي مسألة عصمة الأنبياء -عليهم السلام-
فيقال له: الأنبياء معصومون من الكبائر باتفاق أهل السنة،
وعن الصغائر باختلاف، وقد قام البرهان على ذلك في علم
الكلام؛ فمحال أن يكون هذا الفعل من موسى كبيرة، وإن قيل:
أنهم معصومون أيضًا من الصغائر، [وهو صحيح]3؛ فمحال أن
يكون ذلك الفعل منه ذنبًا، فلم يبق4 إلا أن يقال: إنه ليس
بذنب5، ولك في التأويل السعة6 بكل ما يليق بأهل النبوة ولا
ينبو عنه ظاهر الآيات فاستحسن ذلك، ورأى ذلك7 مأخذًا
علميًّا في المناظرات، وكثيرًا ما يبني عليه النظار، وهو
حسن، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "تفاصيل ألفاظ الأئمة...".
2 هكذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة: "إخراج".
3 في الأصل: "الصحيح"، وسقط ما بين المعقوفتين من "ط".
4 في الأصل: "يتبين".
5 لجواز أن يكون عليه السلام قد رأى أن في الوكز دفع ظالم
عن مظلوم؛ ففعله غير قاصد به القتل، وإنما وقع القتل
مترتبًا عليه من غير قصد. "ف".
6 منه أنه -عليه السلام- بعد أن وقع منه ما وقع تأمل؛ فظهر
له إمكان الدفع بغير الوكز، وأنه لم يتثبت في رأيه لما
اعتراه من الغضب؛ فعلم أنه فعل خلاف الأولى بالنسبة إلى
أمثاله، فقال ما قال على عادة المقربين في استفظاعهم، خلاف
الأولى. "ف".
7 في الأصل و"ف" و"ط": "ورأى مثله".
ج / 4 ص -14-
المسألة الثانية:
ولما كان قصد الشارع ضبط الخلق إلى القواعد العامة1 وكانت
العوائد قد جرت بها سنة الله أكثرية لا عامة، وكانت
الشريعة موضوعة على مقتضى ذلك الوضع؛ كان من الأمر الملتفت
إليه إجراء القواعد على العموم العادي، لا العموم الكلي
التام الذي لا يختلف عنه جزئي ما.
أما كون الشريعة على ذلك الوضع؛ فظاهر، ألا ترى أن وضع
التكاليف عام؟ وجعل على ذلك علامة البلوغ، وهو مظنة لوجود
العقل الذي هو مناط التكليف لأن العقل يكون عنده في الغالب
لا على العموم؛ إذ لا يطرد ولا ينعكس كليًّا على التمام؛
لوجود من يتم عقله قبل البلوغ، ومن ينقص وإن كان بالغًا،
إلا أن الغالب الاقتران.
وكذلك ناط الشارع الفطر والقصر بالسفر لعلة المشقة2، وإن
كانت المشقة قد توجد بدونها وقد تفقد معها3، ومع ذلك؛ فلم
يعتبر الشارع تلك النوادر، بل أجرى القاعدة مجراها، ومثله
حد الغنى بالنصاب، وتوجيه الأحكام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه لا يتأتى ذلك من الجزئيات لاستحالة حصرها؛ فلا بد
في التشريع العام من قواعد عامة. "د".
أما "ف"؛ فقال: "أي: برجوعهم إليها أو إلى بمعنى الباء".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 133 و34/ 206-207"،
و"البحر المحيط" "6/ 92" للزركشي.
2 جعل المشقة علة نظرًا إلى أنها المترتب عليها الترخيص في
الأصل، ولكن لما كانت غير منضبطة لاختلافها بحسب الأشخاص
والأحوال؛ نيط الترخيص بمظنتها، وهو السفر؛ فهو العلة، أي:
الوصف الظاهر المنضبط، وهذا هو المشهور عند الأصوليين.
"ف".
3 الأنسب تذكير الضمير لرجوعه إلى السفر. "ف".
ج / 4 ص -15-
بالبينات1، وإعمال2 أخبار الآحاد والقياسات الظنية إلى غير
ذلك من الأمور التي قد تتخلف مقتضياتها في نفس الأمر،
ولكنه قليل بالنسبة إلى عدم التخلف؛ فاعتبرت هذه القواعد
كلية عادية لا حقيقية.
وعلى هذا الترتيب تجد سائر القواعد التكليفية.
وإذا ثبت3 ذلك ظهر أن لا بد من إجراء العمومات الشرعية على
مقتضى الأحكام العادية، من حيث هي منضبطة بالمظنات، إلا
إذا ظهر معارض4؛ فيعمل على ما يقتضيه الحكم فيه، كما إذا
عللنا القصر بالمشقة؛ فلا ينتقض بالملك المترف ولا
بالصناعة الشاقة، وكما لو علل الربا في الطعام بالكيل5؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مع أن البينة قد تخطئ، وقد تكذب، ومع ذلك يجب ترتيب
الحكم على الشهادة؛ فقد يكون الحكم في الواقع خطأ، لكنه
نادر لا يعتد به؛ لأنه لا طريق غيره لإجراء العدالة بين
الناس، حسبما جرت به العادة الإلهية فيهم. "د".
2 في الاستدلال بها على الأحكام الشرعية، مع أنها محتملة
لما يجعلها غير صالحة للأخذ بها، وبناء الأحكام الشرعية
العملية عليها، ومثله أو أشد منه يقال في القياسات، وكلها
ظنية بين ضعيفة وقوية، كما هو معروف من أنه يتوجه على
القياس نحو أربعة وعشرين اعتراضًا تجعل الأخذ به غير مقطوع
بصحته في الواقع، ولكن الشرع مع ذلك اعتبره بناء على أنه
يوصل إلى الصواب عادة. "د".
3 في "ط": "وإذ ثبت".
4 وذلك كما إذا ظهر كذب الشهود فيرد وينقض، وكما إذا ظهر
نص في مقابلة القياس فيرجع للنص لفساد اعتبار القياس
حينئذ؛ فقوله: "كما إذا... إلخ" راجع لما قبل إلا. "د".
5 لا يخفى أن الكيل وصف طردي ليس فيه المناسبة التي يترتب
عليها الحكم عند ذوي العقول السليمة، وقيل: العلة الوزن
كما هو رأي أبي حنيفة، ورواية عند أحمد وعند مالك والشافعي
أن العلة القوت، ورجحه ابن القيم، وأما الدراهم والدنانير؛
فمذهب أبي حنيفة أن العلة كونهما موزونين، وعند مالك
والشافعي أن العلة الثمنية، وقال ابن القيم: إنه الصواب؛
لأن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار
الذي جعل ضابطًا لقيم الأموال، فيجب أن يكون مضبوطًا
محدودًا لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كانت ترتفع وتنخفض
لكانت كالسلع؛ ففسد أن تكون أصلًا =
ج / 4 ص -16-
فلا
ينتقض بما لا يتأتى كيله1 لقلة أو غيرها؛ كالتافه من البر،
وكذلك إذا عللناه في النقدين بالثمنية لا ينتقض بما لا
يكون ثمنًا لقلته، أو عللناه في الطعام بالاقتيات؛ فلا
ينتقض بما ليس فيه اقتيات؛ كالحبة الواحدة، وكذلك إذا
اعترضت علة القوت بما يقتات في النادر؛ كاللوز، والجوز،
والقثاء، والبقول، وشبهها، بل الاقتيات إنما اعتبر الشارع
منه ما كان معتادًا مقيمًا للصلب على الدوام وعلى العموم2،
ولا يلزم اعتباره في جميع الأقطار3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يرجع إليه في تقويم الأموال وحاجة الناس إلى أصل ترد
إليه القيم حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يكون إلا بما يستمر
على حالة واحدة حتى ترتفع المنازعات وتنقطع الخصومات
بالرجوع إليه، ولو أبيح دراهم بدراهم متخالفة في وصف ككون
إحداهما صحيحة والأخرى مكسرة أو صغيرة وكبيرة وهكذا؛ لصارت
الدراهم متجرًا وجر إلى ربا النسيئة فيها ولا بد, والأثمان
لا تقصد لأعيانها، بل ليتوصل بها إلى السلع، فإذا صارت هي
سلعًا تقصد لأعيانها فسدت مصالح الناس، وهذا أمر معقول
يختص بالنقدين، لا يتعداه إلى كل موزون كما يقول أبو
حنيفة، وبالجملة؛ فقد منع ربا الفضل في النقدين لأنه مفوت
لمصلحة انضباط القيم ونقض لأساس التعامل؛ ولأنه ذريعة إلى
ربا النسيئة، ومنع في الطعام سدًّا لهذه الذريعة في
الأقوات التي تشتد حاجة الناس إليها ولتفاضل في النقدين
والطعام حرام ووسيلة للحرام. "د".
قلت: انظر في علة الربا: "المغني" "4/ 125, مع الشرح
الكبير"، و"إعلام الموقعين" "2/ 137"، و" الفروع" "5/
148", و"المبسوط" "12/ 113"، و"عمدة القاري" "11/ 253"،
و"المجموع" "9/ 445"، و"حاشية الخرشي" "3/ 412"، و"مجموع
فتاوى ابن تيمية" "29/ 473"، و"الربا والمعاملات المصرفية"
"ص94 وما بعدها".
1 الكيل والثمنية والقوت ليست علة بمعنى الحكمة كالمشقة في
السفر، وإنما هي الأوصاف المنضبطة التي نيط بها الحكم
وجعلت علامة على وجود الحكمة، فإذن الذي يقال: إنه متى وجد
الكيل أو الثمنية أو القوت حرم التفاضل، سواء أوجدت الحكمة
وهي سد الذريعة وحفظ ما تشتد إليه حاجة الناس في الأقوات
والأثمان، أم لم توجد، ولا يقال: وجد الكيل أم لم يوجد،
كما لا يقال: وجد السفر أم لم يوجد؛ لأن الوصف الذي نيط به
الحكم لا بد منه؛ فتأمل. "د".
2 بحيث لا تفسد البنية بالاقتصار عليه. "د".
3 كأنه يقول أيضًا: إنه لا يلزم أن تكون العادة عادة في
جميع الأقطار، وهذا يرجع إلى تقييد أصل المسألة، وأن
العموم العادي الذي يقول: إنه مبنى الأحكام الشرعية لا
يلزم اتحاده في جميع الأقطار؛ إلا أن ذلك إن صح؛ ففي مثل
الاقتيات والثمنية اللذين يختلفان في بعض الأقطار، بحيث
يكون الثمن فيها غير الذهب والفضة، وبحيث يكون القوت فيها
غير هذه الأصناف أو غير بعضها، أما العادة في جعل البلوغ
مظنة للعقل الذي هو مناط التكليف والشهادات، وفي مسألة
الخمر قليله وكثيره، وفي مسألة مجرد الإيلاج؛ فالعادة فيه
مطردة لا فرق بين قطر وآخر. "د".
ج / 4 ص -17-
وكذلك
نقول: إن الحد علق في الخمر على نفس التناول حفظًا على
العقل، ثم إنه أجرى الحد في القليل الذي لا يذهب العقل
مجرى الكثير اعتبارًا بالعادة في تناول1 الكثير، وعلق حد
الزنى على الإيلاج وإن كان المقصود حفظ الأنساب؛ فيحد من
لم ينزل لأن العادة الغالبة مع الإيلاج الإنزال، وكثير من
هذا.
فليكن على بال من النظر في المسائل الشرعية أن القواعد
العامة إنما تنزل على العموم العادي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني أن العادة أن من يتناول القليل يتناول الكثير؛
فتحريم القليل والحد فيه من مكملات ضروري حفظ العقل. "د".
ج / 4 ص -18-
المسألة الثالثة:
لا كلام في أن للعموم صيغًا وضعية، والنظر في هذا مخصوص
بأهل العربية وإنما ينظر هنا في أمر آخر وإن كان من مطالب
أهل العربية أيضًا، ولكنه أكيد التقرير ههنا، وذلك أن
للعموم الذي تدل عليه الصيغ بحسب الوضع نظرين:
أحدهما:
باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أهل وضعها على الإطلاق1،
وإلى هذا النظر قصد2 الأصوليين فلذلك يقع التخصيص عندهم
بالعقل3 والحس4 وسائر5 المخصصات المنفصلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 442/ 442-445".
2 ويتضح بما أثبته الآمدي في كتاب "الأحكام" "2/ 460" في
قسم التخصيص بالمنفصل ومناقشته بالأوجه الثلاثة التي تقتضي
أنه لا يصح التخصيص به، ثم تخلص بالجواب بأنه إذا نظر إلى
أصل وضع الألفاظ من العموم صح التخصيص، وإذا نظر إلى عدم
إرادة العموم من اللفظ، فإنه لا تخصيص، وأنه لا منافاة بين
كون اللفظ دالا على المعنى لغة وبين كونه غير مراد من
اللفظ. "د".
3 كما مثلوا له بقوله تعالى:
{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل} [الزمر: 162]، فالعقل دليل على تخصيص الخلق بغير ذلك وصفاته، وكذلك
القدرة. "د".
قلت: انظر "المحصول" "3/ 73"، و"المستصفى" "2/ 100"،
و"العدة" "2/ 547"، و"البرهان" "1/ 408"، و"التمهيد" "2/
101"، و"المسودة" "ص118".
4 كما في قوله تعالى:
{يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]، وقوله:
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25]،
{مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ
كَالرَّمِيمِ}
[الذاريات: 42]؛ فالحس دليل على أنها لم تدمر الجبال
والأنهار وغيرها مما أتت عليه؛ فإنه خلاف المشاهد. "د".
قلت: انظر: "المحصول" "3/ 75"، و"المستصفى" "2/ 99"،
و"نهاية السول" "2/ 141"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص215". 5
كتخصيص الكتاب والسنة بغير الاستثناء والشرط والوصف
والغاية. "د".
قلت: انظر "المحصول" "3/ 71 وما بعدها"، و"روضة الناظر"
"2/ 722 وما بعدها".
ج / 4 ص -19-
والثاني:
بحسب1 المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد
إليها، وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك.
وهذا الاعتبار استعمالي، والأول قياسي.
والقاعدة في الأصول العربية أن الأصل الاستعمالي إذا عارض
الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي.
وبيان ذلك هنا أن العرب [قد] تطلق ألفاظ العموم بحسب ما
قصدت تعميمه مما يدل عليه معنى الكلام خاصة، دون ما تدل
عليه تلك الألفاظ بحسب الوضع الإفرادي؛ كما أنها [أيضًا]2
تطلقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع، وكل ذلك
مما يدل عليه مقتضى الحال؛ فإن المتكلم قد يأتي بلفظ عموم3
مما يشمل بحسب الوضع نفسه وغيره، وهو لا يريد نفسه ولا
يريد4 أنه داخل في مقتضى العموم، وكذلك قد يقصد بالعموم
صنفًا مما يصلح اللفظ له في أصل الوضع، دون غيره من
الأصناف، كما5 أنه قد يقصد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "باعتبار".
2 سقط من "ط".
3 لما حصروا التخصيص بالمنفصل في العقل والحس والدليل
السمعي؛ قال القرافي: "الحصر غير ثابت؛ فقد يقع التخصيص
بالعوائد كقولك: رأيت الناس فما رأيت أكرم من زيد، فإن
العادة تقضي أنك لم تر كل الناس"، ولا يخفى أن ما قاله
القرافي إجمال ما بسطه المؤلف، ونقل بعض أمثلته ابن خروف،
ولا يخفى أن التخصيص إن كان لدليل شرعي؛ لزم أن تكون
العادة مشتهرة في عهد النبوة، أما العادات الطارئة؛ فإنها
تخصص ما يجري بين أهل تلك العادة من المحاورات في التعبير.
"د".
4 في "ط": "ولا يقصد".
5 هذا من باب التشبيه لا التمثيل لما نحن فيه؛ لأنه عكس
الموضوع، لكنه يقرره ويوضحه. "د".
ج / 4 ص -20-
ذكر
البعض في لفظ1 العموم، ومراده من ذكر البعض الجميع؛ كما
تقول: فلان يملك المشرق والمغرب2، والمراد جميع الأرض،
وضرب زيد الظهر والبطن، ومنه
{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْن} [الرحمن: 17].
{وَهُوَ
الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ}3 [الزخرف:
84].
فكذلك إذا قال: من دخل داري أكرمته؛ فليس المتكلم بمراد،
وإذا قال: أكرمت الناس، أو قاتلت الكفار، فإنما المقصود من
لقي منهم؛ فاللفظ عام فيهم خاصة، وهم المقصودون باللفظ
العام دون من لم يخطر بالبال.
قال ابن خروف4: "ولو حلف رجل بالطلاق والعتق ليضربن جميع
من في الدار وهو معهم فيها، فضربهم ولم يضرب نفسه؛ لبر ولم
يلزمه شيء، ولو قال: اتهم الأمير كل من في المدينة فضربهم؛
فلا يدخل الأمير في التهمة والضرب".
قال: "فكذلك5 لا يدخل شيء من صفات الباري تعالى تحت
الإخبار في نحو قوله تعالى:
{خَلَقَ
كُلَّ شَيْء} [الزمر: 62] لأن العرب لا تقصد ذلك ولا تنويه، ومثله:
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]، وإن كان عالمًا بنفسه وصفاته، ولكن الإخبار إنما
وقع عن6 جميع المحدثات، وعلمه بنفسه وصفاته شيء آخر".
قال: "فكل ما وقع الإخبار به من نحو هذا، فلا تعرض فيه
لدخوله تحت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في مكان لفظ العموم؛ فيكون اللفظ دالًّا على البعض،
وهو يريد الجميع. "د".
2 وهذا من باب الكناية التي تفيد المطلوب بدليل؛ فهي أوقع
في باب الإفادة لأن من ملك حدي الشيء فقد ملك جميعه إلى
نهايته. "د".
3 فهو إله معبود فيهما وفيما يتبعهما أيضًا لا في خصوصهما.
"د".
4 له شرح على كتاب سيبويه لم يطبع، ولعل النقل منه.
5 في "ط": "وكذلك".
6 في "ط": "على".
ج / 4 ص -21-
المخبر
عنه؛ فلا تدخل صفاته تعالى تحت الخطاب، وهذا معلوم من وضع
اللسان".
فالحاصل أن العموم إنما يعتبر بالاستعمال، ووجوه الاستعمال
كثيرة، ولكن ضابطها مقتضيات1 الأحوال التي هي ملاك البيان؛
فإن قوله:
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] لم يقصد به أنها تدمر السموات والأرض والجبال، ولا
المياه ولا غيرها مما هو في معناها، وإنما المقصود تدمر كل
شيء مرت عليه مما شأنها أن تؤثر فيه على الجملة، ولذلك
قال:
{فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي
الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}
[الأحقاف: 25].
وقال في الآية الأخرى:
{مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا
جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42].
ومن الدليل على هذ [أيضًا] أنه لا يصح استثناء هذه الأشياء
بحسب اللسان؛ فلا يقال: من دخل داري أكرمته إلا نفسي، أو
أكرمت الناس إلا نفسي، ولا قاتلت الكفار إلا من لم ألق
منهم، ولا ما كان نحو ذلك، وإنما يصح الاستثناء من غير
المتكلم ممن دخل الدار، أو ممن لقيت2 من الكفار، وهو الذي
يتوهم3 دخوله لو لم يستثن، هذا كلام العرب في التعميم؛ فهو
إذًا الجاري في عمومات الشرع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهل مقتضيات الأحوال سوى القرائن التي يدركها العقل
والحس؟ كما في الأمثلة المذكورة ومثالي الكتاب الكريم
اللذين ذكرهما بعد؛ إلا أن الكلام ابن خروف صريح في تأييد
المؤلف في أنه لا يعد مثل هذا من باب التخصيص، لأن الخارج
بالعقل والحس لم يدخل حتى يبحث عن إخراجه فيكون مخصصًا،
وقد نسب ذلك إلى وضع اللسان واللغة. "د".
2 في "ط": "لقيت".
3 أي: ما يقع في الوهم دخوله، وذلك إنما يكون فيما يصح
شمول اللفظ المخرج منه له حسب الاستعمال، أما طريقة
الأصوليين؛ فمبنية على أن كل ما يدخل وضعًا يصح إخراج بعضه
بالعقل وغيره؛ فيكون تخصيصًا. "د".
ج / 4 ص -22-
وأيضًا، فطائفة من أهل الأصول نبهوا على هذا المعنى، وأن
ما لا يخطر ببال المتكلم عند قصده التعميم إلا بالإخطار لا
يحمل لفظه عليه، إلا مع الجمود على مجرد1 اللفظ، وأما
المعنى؛ فيبعد أن يكون مقصودًا للمتكلم؛ كقوله, صلى الله
عليه وسلم:
"أيما إهاب دبغ؛ فقد طهر"2.
قال الغزالي3: "خروج الكلب عن ذهن المتكلم والمستمع عند
التعرض للدباغ ليس ببعيد، بل هو الغالب الواقع، ونقيضه هو
الغريب المستبعد".
وكذا قال غيره أيضًا، وهو موافق4 لقاعدة العرب، وعليه يحمل
كلام الشارع بلا بد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: باعتبار أصل الوضع، أما مع مراعاة المعنى والقرائن
ومقتضى الحال، فما لا يخطر بالبال لا يصح أن يعد داخلًا،
فلا يحتاج إلى إخراج؛ فلا تخصيص. "د".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب طهارة جلود
الميتة بالدباغ، 1/ 277/ رقم 366" عن ابن عباس مرفوعًا
بلفظ: "إذا دبغ...".
وقد وهم بعضهم؛ فنسبه لمسلم بلفظ: "أيما إهاب..."؛ كما
تراه مبسوطًا في "نصب الراية" "1/ 116"، و"تحفة الأشراف"
"5/ 53"، وقد خرجته بإسهاب في تعليقي على "الخلافيات"
للإمام البيهقي "1/ 194-198"، فراجعه إن أردت الاستزادة.
3 يريد الغزالي أن استثناء الشافعي لجلد الكلب من الطهارة
بالدباغ لا يحتاج إلى مخصص منفصل ولا متصل، وهو يؤيد الأصل
الذي يعمل المؤلف لإثباته هنا. "د".
قلت: انظر "المستصفى" "2/ 60".
4 وقد يعد من ذلك مثل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ
الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ...} إلى أن قال:
{فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]، مع أن من شروط المعاهدة أن من جاء إلى المسلمين
يرد إلى الكفار، وهو لفظ عام يشمل النساء بحسب أصل الوضع
الإفرادي، ولا يقال: إن التخصيص ورد على النبي -صلى الله
عليه وسلم- لأن التخصيص في معاهدة مثل هذا لا يكون إلا
برضا الطرفين واطلاعهما، حتى إنهم لما لم يرضوا عن تخصيص
أبي جندل؛ لم يقبله -صلى الله عليه وسلم- ولما قبل النساء
المؤمنات لم يبد منهم اعتراض، وذلك دليل على أن خروج
النساء عن ذهن المتعاقدين كافٍ، مع =
ج / 4 ص -23-
فإن
قيل: إذا ثبت أن اللفظ العام ينطلق1 على جميع ما وضع له في
الأصل حالة الإفراد، فإذا حصل التركيب والاستعمال؛ فإما أن
تبقى دلالته على ما كانت عليه حالة الانفراد2، أو لا، فإن
كان الأول3؛ فهو مقتضى وضع اللفظ، فلا إشكال، وإن كان
الثاني؛ فهو تخصيص للفظ العام، وكل تخصيص لا بد له من مخصص
عقلي أو نقلي أو غيرهما، وهو مراد الأصوليين.
ووجه آخر، وهو أن العرب4 حملت اللفظ على عمومه في كثير من
أدلة الشريعة، مع أن معنى5 الكلام يقتضي على ما تقرر خلاف
ما فهموا، وإذا كان فهمهم في سياق الاستعمال معتبرًا [في
التعميم]6 حتى يأتي دليل التخصيص دل على أن الاستعمال لم
يؤثر في دلالة اللفظ حالة الإفراد عندهم، بحيث صار كوضع
ثانٍ، بل هو باقٍ على أصل وضعه، ثم التخصيص آتٍ من وراء
ذلك بدليل متصل أو منفصل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أن الوضع الإفرادي يشملهن، وما هذا إلا من تعويلهم على
مقتضى الحال وما يفهم بالقرائن، ولا ينافي ذلك أنه لما
جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن معيط إليه -صلى الله عليه وسلم-
مهاجرة بعد عقد الهدنة خرج أخواها عمار والوليد إلى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- ليردها؛ فلم يردها، ونزلت الآية
في ذلك، لا ينافي هذا ما قلنا؛ لأنهم لم يعترضوا بدخولهما
في عقد الهدنة بلفظ: "من جاء" الشاملة وضعًا للنساء، كما
اعترضوا في أبي جندل والموضع يحتاج إلى شيء من الدقة،
وبهذا يتخلص من بعض ما قيل في كتب التفسير في هذه الآية.
"د".
1 كذا في جميع الأصول، ولعلها "ينطبق".
2 في "ط": "الإفراد".
3 كما في قوله:
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم}؛
فليس محل إشكال ولا نزاع. "د".
4 أخذ عنوان "العرب" ولم يقل الصحابة مثلًا؛ لما سيجيء في
آية:
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُون...} إلخ، وليتأتى انفصاله وتميزه عن الاعتراض الآتي في الفصل في قوله:
"فلقائل أن يقول: إن السلف الصالح... إلخ". "د".
5 يأتي إيضاح هذه الجملة في قوله بعد: "إلى أشياء كثيرة
سياقها يقتضي بحسب المقصد الشرعي... إلخ". "د".
6 سقطت من "ط".
ج / 4 ص -24-
ومثال
ذلك أنه لما نزل قوله تعالى:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ
بِظُلْمٍ} الآية [الأنعام: 82]؛ شق ذلك عليهم، وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه
بظلم1؟ فقال, عليه الصلاة والسلام:
"إنه ليس بذاك، ألا تسمع إلى قول لقمان:
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}"
[لقمان: 13]2، وفي رواية3: "فنزلت:
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}" [لقمان: 13].
ومثل4 ذلك أنه لما نزلت:
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ
جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] قال بعض الكفار: فقد عبدت الملائكة، وعبد المسيح،
فنزل:
{إِنَّ
الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}5
الآية [الأنبياء: 101].
إلى أشياء كثيرة سياقها يقتضي بحسب المقصد الشرعي عمومًا
أخص من عموم اللفظ، وقد فهموا فيها مقتضى اللفظ وبادرت
أفهامهم فيه6، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، ولولا
أن الاعتبار عندهم ما وضع7 له اللفظ في الأصل؛ لم يقع منهم
فهمه.
فالجواب عن الأول أنا إذا اعتبرنا الاستعمال العربي؛ فقد
تبقى دلالته الأولى وقد لا تبقى، فإن بقيت فلا تخصيص، وإن
لم تبق دلالته؛ فقد صار للاستعمال اعتبار آخر ليس للأصل،
وكأنه وضع ثان حقيقي لا مجازي، وربما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فقد أبقوا اللفظ على عمومه الذي كان له في الإفراد،
ولم يتغير معناه عند استعماله، حتى احتاجوا إلى المخصص وهو
قوله: "ليس بذاك... إلخ"، مع أن سياق الآية وما قبلها من
الآيات في أهل الشرك. "د".
2 مضى تخريجه "3/ 402"، وهو في "الصحيحين" عن ابن مسعود,
رضي الله عنه.
3 الرواية الأولى أقعد في الفهم، وأوضح في الغرض. "د".
4 في الأصل: "ومثال".
5 مضى تخريجه "3/ 362".
6 في "ط": "إليه".
7 لعله: "لما وضع". "ف".
ج / 4 ص -25-
أطلق
بعض الناس على مثل هذا لفظ "الحقيقة اللغوية" إذا أرادوا
أصل الوضع، ولفظ "الحقيقة العرفية"1 إذا أراد الوضع
الاستعمالي؟
والدليل على صحته ما ثبت في أصول العربية من أن للفظ2
العربي أصالتين: أصالة قياسية، وأصالة استعمالية؛
فللاستعمال هنا أصالة أخرى غير ما للفظ في أصل الوضع، وهي
التي وقع الكلام فيها، وقام الدليل عليها في مسألتنا؛
فالعام إذًا في الاستعمال لم يدخله3 تخصيص بحال.
وعن الثاني أن الفهم في عموم الاستعمال متوقف على فهم
المقاصد فيه، وللشريعة بهذا النظر مقصدان:
أحدهما: المقصد في الاستعمال العربي الذي أنزل القرآن
بحسبه، وقد تقدم القول فيه.
والثاني4: المقصد في الاستعمال الشرعي الذي تقرر في سور
القرآن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحقيقة العرفية عندهم كالحقيقة اللغوية في أنهما ينظر
فيهما إلى اللفظ باعتبار الإفراد، كما قالوه في لفظ دابة،
وأن استعماله في خصوص ذوات الأربع منظور فيه للفظ
الإفرادي، يقع النظر عن معنى الكلام الذي تقضي العوائد
بالقصد إليه ويفهم بمعونة سياق الكلام؛ فهناك فرق بين
الحقيقة العرفية وبين الأصالة الاستعمالية التي يقررها في
هذا المقام. "د".
2 في "ط": "من اللفظ".
3 أي: فهو وإن لم تبق دلالته الوضعية؛ إلا أنه دل على عموم
آخر اقتضاه الاستعمال، ودلالته حقيقية أيضًا لا مجاز، وليس
هذا تخصيصًا حتى يقال: "وكل تخصيص لا بد له من مخصص متصل
أو منفصل" كما هو الاعتراض. "د".
4 أي: فهناك ثلاثة أوضاع: الوضع الإفرادي المعبر عنه
بالأصالة القياسية، والوضع الاستعمالي المعبر عنه بالحقيقة
العرفية، وهذا ما أثبته في الجواب الأول، والوضع الثالث
الوضع الشرعي المسمى بالحقيقة الشرعية، والجواب عن الإشكال
الأول يكفي فيه ملاحظة الوضع الثاني، أما الجواب عن
الثاني؛ فلا بد فيه من ملاحظة وضع الحقيقة الشرعية
والاستعمالات الواردة في الشريعة، حتى يتأتى تفاوت العرب
في فهمها: بين من اتسع فهمه في إدراك الشريعة، وبين مبتدئ
قد لا يعرف هذه الاستعمالات الشرعية؛ فيحصل له التوقف
نظرًا لوقوفه عند الوضعين الأولين. "د".
قلت: انظر في هذه الأوضاع: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "12/
113-115 و19/ 235-236"، و"الإيمان" "10-112" لابن تيمية،
و"نزهة الخاطر العاطر" "2/ 10-11" لابن بدران، ط دار الكتب
العلمية، و"أصول التشريع الإسلامي" "ص246" لعلي حسب الله،
و"الحقيقة الشرعية" "ص13 وما بعدها" لعمر بازمول.
ج / 4 ص -26-
بحسب
تقرير قواعد الشريعة، وذلك أن نسبة الوضع الشرعي إلى مطلق
الوضع الاستعمالى العربي كنسبة الوضع في الصناعات الخاصة
إلى الوضع الجمهوري؛ كما نقول في الصلاة: إن أصلها الدعاء
لغة، ثم خصت في الشرع بدعاء مخصوص على وجه مخصوص، وهي فيه
حقيقة لا مجاز؛ فكذلك نقول في ألفاظ العموم بحسب الاستعمال
الشرعي: إنها إنما تعم [الذكر] بحسب مقصد الشارع فيها،
والدليل على ذلك مثل الدليل على الوضع الاستعمالي المتقدم
الذكر، واستقراء مقاصد الشارع يبين ذلك، مع ما ينضاف إليه
في مسألة إثبات الحقيقة الشرعية.
فأما الأول؛ فالعرب فيه شرع سواء؛ لأن القرآن نزل بلسانهم.
وأما الثاني؛ فالتفاوت في إدراكه حاصل؛ إذ ليس الطارئ
الإسلام من العرب في فهمه كالقديم العهد، ولا المشتغل
بتفهمه وتحصيله كمن ليس في تلك الدرجة، ولا المبتدئ فيه
كالمنتهي
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]؛ فلا مانع من توقف بعض الصحابة في بعض ما يشكل
أمره، ويغمض وجه القصد الشرعي فيه؛ حتى إذا تبحر في إدراك
معاني الشريعة نظره، واتسع في ميدانها باعه؛ زال عنه ما
وقف من الإشكال1 واتضح له القصد الشرعي على الكمال، فإذا
تقرر وجه الاستعمال؛ فما ذكر مما توقف فيه بعضهم راجع إلى
هذا القبيل، ويعضده ما فرضه الأصوليون من وضع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الاتصال".
ج / 4 ص -27-
الحقيقة الشرعية؛ فإن الموضع يستمد منها1، وهذا الموضع2
وإن كان قد جيء به مضمنًا في الكلام العربي؛ فله مقاصد
تختص به يدل عليها المساق الحكمي أيضًا، وهذا المساق يختص
بمعرفته العارفون بمقاصد الشارع، كما أن الأول يختص
بمعرفته العارفون بمقاصد العرب؛ فكل ما سألوا عنه فمن
[هذا]3 القبيل إذا تدبرته.
فصل:
ويتبين لك صحة ما تقرر في النظر في الأمثلة المعترض بها في
السؤال الأول4.
فأما قوله تعالى:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ
بِظُلْمٍ} الآية [الأنعام: 82]؛ فإن سياق الكلام يدل على أن المراد بالظلم
أنواع الشرك على الخصوص، فإن السورة من أولها إلى آخرها
مقررة لقواعد التوحيد، وهادمة لقواعد الشرك وما يليه،
والذي تقدم قبل الآية قصة إبراهيم -عليه السلام- في محاجته
لقومه بالأدلة التي أظهرها لهم في الكوكب والقمر والشمس،
وكان قد تقدم قبل ذلك قوله:
{وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ
كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: 21]، فبيَّن أنه لا أحد أظلم ممن ارتكب هاتين الخلتين5
وظهر أنهما المعني6 بهما في سورة الأنعام إبطالًا بالحجة،
وتقريرًا لمنزلتهما في المخالفة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل الصواب: "الثاني". "د".
2 في "ط": "الخصلتين".
3 أي: عنى بهما في هذه الصورة إبطالًا لهما بالأدلة،
وتقريرًا لبعدهما عن الحق، وتوضيحًا لما هو الحق في الواقع
الذي هو ضدهما، وقوله: "فكأنه السؤال... إلخ" يقتضي أن
الآية نزلت قبل ظهور العناية في الكتاب -أو على الأقل في
سورة الأنعام- بإبطال هاتين الخلتين، ولكن هذا يتوقف على
أن الآية المذكورة كان نزولها سابقًا على تلك الآيات، حتى
توقفوا فيها ولم يدركوا مقصد الشرع منها؛ فسألوا، ولو كانت
الآيات المقررة لهذه المعاني سابقة عليها لفهموا مقصد
الشرع بالظلم ولم يتوقفوا، هذا كلامه، وهو توجيه إذا تم
سبق الآية لغيرها كما أشرنا إليه. "د".
4 استمداد غير مباشر على ما سيتضح بعد، وإلا، فليس هذا من
الحقيقة الشرعية كالصلاة مثلًا. "د".
5 هكذا في الأصل، وفي النسخ المطبوعة و"ط": "الوضع".
6 ما بين المعقوفتين من الأصل و"م" و"ط"، وسقط من "ف"
و"د".
ج / 4 ص -28-
وإيضاحًا للحق الذي هو مضاد لهما؛ فكأن السؤال إنما ورد
قبل تقرير هذا المعنى.
وأيضًا، فإن ذلك لما كان تقريرًا لحكم شرعي بلفظ عام؛ كان
مظنة لأن يفهم منه العموم في كل ظلم، دق أو جل؛ فلأجل هذا
سألوا وكان1 ذلك عند نزول السورة، وهي مكية نزلت في أول
الإسلام قبل تقرير جميع كليات2 الأحكام.
وسبب احتمال3 النظر ابتداء أن قوله:
{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] نفي على نكرة، لا قرينة فيها تدل على استغراق أنواع
الظلم، بل هو كقوله: لم يأتني رجل؛ فيحتمل المعاني التي
ذكرها سيبويه، وهي كلها نفى لموجب مذكور أو مقدر، ولا نص
في مثل هذا على الاستغراق في جميع الأنواع المحتملة؛ إلا
مع الإتيان بمن وما يعطي معناها، وذلك مفقود هنا، بل في
السورة4 ما يدل على أن ذلك النفي وارد على ظلم معروف، وهو
ظلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وكل".
2 أي: التي منها:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ
مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. "د".
3 أي: فالآية باعتبار ذاتها وقطع النظر عن الآيات الآخرى
السابقة واللاحقة نراها باعتبار الاستعمال مجملة، لا نص
فيها على الاستغراق الوضعي ولا على غيره؛ فجاء الاحتمال
المقتضي للسؤال. "د".
4 لا حاجة إليه في هذا المقام؛ لأنا في مقام سبب الإجمال
كما قال بعد: "فصارت الآية من جهة إفرادها بالنظر... إلخ".
ج / 4 ص -29-
الافتراء على الله والتكذيب بآياته؛ فصارت الآية من جهة
إفرادها1 بالنظر في هذا المساق مع كونها أيضًا في مساق
تقرير الأحكام مجملة2 في عمومها فوقع الإشكال فيها، ثم بين
لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن عمومها إنما القصد به
نوع أو نوعان من أنواع الظلم، وذلك ما دلت عليه السورة،
وليس فيه تخصيص3 على هذا بوجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإفرادها بالنظر وعدم الالتفات إلى سياقها وسباقها -أي:
حتى على فرض أنها نزلت بعد الآيات التي تقرر فيها المعنى
المشار إليه سابقًا- وكونها في مساق تقرير الأحكام الذي هو
مظنة عموم الظلم لما جل وما دق، هذا وذاك جعل العموم
محتملًا وجعل الآية مجملة، فاحتاجت إلى السؤال والجواب
للبيان لا للتخصيص. "د".
قلت: وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 434": "إن
سياق اللفظ عند إعطائه حقه من التأمل يبين ذلك -أي: إن
معنى الظلم في الآية هو الشرك- فإنه الله سبحانه لم يقل:
ولم يظلموا أنفسهم، بل قال:
{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم}، ولبس الشيء بالشيء تغطيته به، وإحاطته به من جميع جهاته، ولا يغطي
الإيمان ويحيط به ويلبسه إلا الكفر".
وانظر حول تفسير الآية: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "7/
79-82".
2 في "ط": "محتملة".
3 كأنه يقول: إن هذا النوع أو النوعين من الظلم هما اللذان
اختصا بالعناية في هذه السورة إبطالًا لهما بالحجة... إلخ
ما سبق، فلما جاء ذكر الظلم في آية:
{الَّذِينَ آمَنُوا....} إلخ [الأنعام: 82] جاء نازلًا من أول الأمر على معناه المذكور؛ فلا
حاجة به إلى تخصيص، وهو في ذاته ظاهر إلا أنه لا يظهر فيه
كونه وضعًا شرعيًّا، وعده من نوع الحقيقة الشرعية التي قال
فيها: "إن نسبتها إلى مطلق الوضع الاستعمالي العربي كنسبة
الوضع في الصناعات الخاصة إلى الوضع الجمهوري"، فإنما يظهر
ذلك بالنسبة لمثل لفظ صلاة وصوم وحج وزكاة، أما الظلم، فلم
يوضع في الشرع وضعًا خاصًّا، بل لا يزال بالمعنى الذي
يقتضيه الوضع الأصلي والوضع الاستعمالي العربي بحسب المقام
والقرائن، نعم، الاستعمال الشرعي في هذه الآية فهم من
الآيات السابقة، ومن عناية الكتاب في هذه السورة بهذا
النوع من الظلم، فكان قرينة على المراد منه؛ فلا حاجة به
إلى تخصيص آخر منفصل أو متصل، وما وجد من السؤال والجواب
إزاحة لإجمال فقط، والحاصل أن قوله سابقًا: "والثاني
المقصد في الاستعمال الشرعي الوارد في القرآن بحسب تقرير
الشريعة" =
ج / 4 ص -30-
وأما
قول:
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} الآية [الأنبياء: 98]؛ فقد أجاب الناس عن اعتراض ابن الزبعرى فيها
بجهله بموقعها، وما روي في الموضع أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال له: "ما أجهلك بلغة قومك يا غلام"1؛ لأنه جاء في
الآية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= واضح في ذاته، وعليه يتمشى هذا الكلام، ولكن قوله: "وذلك
أن نسبة الوضع الشرعي إلى مطلق الوضع...إلخ"، وكذا قوله:
"مع ما ينضاف إلى ذلك في مسألة إثبات الحقيقة الشرعية"،
وقوله بعد ذلك: "والموضع يستمد منها"، أي: من وضع الحقيقة
الشرعية كل هذا لا يرتبط بالجواب عن آية
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} [الأنعام: 82]، ولا الآية الثانية، فإن الكلام فيهما إنما يرتبط
بالمقصد الشرعي في الاستعمال، وهذا يستعان على فهمه
بالآيات وبما يتقرر من الأحكام العامة في الشريعة، ولا دخل
لهذا في مسألة الوضع الشرعي الذي ينقل معنى الكلمة إلى
معنى أخص، بحيث لا تطلق في استعمال الشرع حقيقة إلا بهذا
المعنى الخاص، اللهم إلا أن يكون مراده بذكر الوضع الشرعي
وما أطال به فيه, مجرد التقريب والتشبيه فقط، وليس مراده
أن الظلم انتقل في الوضع الشرعي إلى هذا النوع منه, وإن
كان على كل حال ليس لذكره كبير فائدة. "د".
1 قال ابن حجر في "الكافي الشافي" "ص111-112": "اشتهر في
ألسنة كثير من علماء العجم وفي كتبهم, أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال في هذه القصة لابن الزبعرى: "ما أجهلك بلغة
قومك، فإني قلت: وما تعبدون، وهي لما لا يعقل، ولم أقل:
ومن تعبدون"، وهو شيء لا أصل له، ولا يوجد لا مسندًا ولا
غير مسند".
وقال في "موافقة الخبر الخبر" "2/ 175": "وهذا لا أصل له
من طريق ثابتة ولا واهية"، ثم ذكر منشأ وهم من ذكر هذا
الحديث.
وفي "تفسير الآلوسي" "17/ 86" نقلًا عنه زيادة على
المذكور: "والوضع عليه ظاهر، والعجب ممن نقله من
المحدثين".
وحكم قبله ابن العربي في "الناسخ والمنسوخ" "2/ 303" مثل
هذا الحكم؛ فقال: "هذا خبر موضوع لا أصل له في السقيم؛
فكيف في الصحيح؟ ولا في الضعيف فضلًا عن القوي، ويدفعه
القرآن؛ فإنه لو كان كما وضع هذا الملحد لما افتقرنا إلى
الجواب بالآيات الثلاث، ولكان فيما وبخهم به كفاية، وأيضًا
فإنه كان يجب أن يقال: "إن من سبقت لهم منا الحسنى"، فتكون
الآية مطابقة للحديث، ولكنه جاء بكلمة "الذين" التي هي
معنى كلمة "ما"؛ فيكون معنى الآية الأولى: إنكم والذين
تعبدون من دون الله، وتكون الآية الثانية تخصيصًا صحيحًا
باللفظ للفظ، وبالمعنى للمعنى، ونحن لا نحتاج إلى هذا كله،
ونعوذ بالله من التكلف للحق؛ فكيف بالتكلف للباطل؟!".
وانظر: "المعتبر" "ص187" للزركشي، و" تفسير ابن كثير" "3/
199".
ج / 4 ص -31-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل، وسقط من النسخ
المطبوعة و"ط".
2 خلاصة الجواب على طريقة غير المؤلف أن لفظ "ما" لا يشمل
عيسى ولا الملائكة بقطع النظر عن مساق الآية، وعلى طريقة
المؤلف -من اعتبار المساق وكونها في كفار قريش- يكون
الجواب بالنظر إلى الواقع وهو أن قريشًا لم تعبد عيسى ولا
الملائكة؛ فلا يتصور دخولهما ولو كان لفظ "ما" صالحًا
للشمول، وقد وجه المؤلف الأثر على كلتا الطريقتين، والواقع
أنه صالح للتنزيل عليهما. "د".
3 انظر الحاشية في الصفحة السابقة.
4 أي: التي لا بد من الاسترشاد فيها بما يساق الكلام له.
"د".
5 هكذا في الأصل، وفي غيره: "يتهدى".
6 مضى تخريجه "3/ 362".
7 أي: لزيادة بيان جهل المعترض؛ كما في "شرح المنهاج".
"د".
ج / 4 ص -32-
لجهله.
ومثله ما في "الصحيح"1 أن مروان قال لبوابه2: "اذهب يا
رافع إلى ابن عباس، فقل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي،
وأحب أن يحمد بما لم يفعل3 معذبًا؛ لنعذبن أجمعون. فقال
ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما دعا النبي4 -صلى الله
عليه وسلم- يهود فسألهم عن شيء، فكتموه إياه وأخبروه
بغيره؛ فأروه أن قد استحمدوا إليه5 بما أخبروه عنه فيما
سألهم وفرحوا بما أوتوا6 من كتمانهم. ثم قرأ ابن عباس:
{وَإِذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 187] كذلك حتى قوله:
{يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ
يَفْعَلُوا} [آل
عمران: 188]"؛ فهذا7 من ذلك المعنى أيضًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب
{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا}، 8/ 233/ رقم 4568".
2 فاهمًا أن الموصول في قوله تعالى:
{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} الآية على عمومه شامل لكل من يؤتى شيئًا أو يأتي شيئًا، كما قيل:
فيفرح به فرح إعجاب، ويود أن يحمده الناس بما هو عار عنه
من الفضائل. "ف".
3 في "الصحيح": "يعمل".
4أي: إن الآية نزلت في شأن خاص بأهل الكتاب بدليل قوله
تعالى:
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ
فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ
ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}؛ فليس الموصول على عمومه شاملًا لما ذكر."ف".
5 في "ط": "عليه".
6 في "الصحيح": "أتوا".
7 فمروان أفرد الآية عما قبلها، فظن العموم؛ فبين له الحبر
في جوابه ما يتنزل عليه هذا العموم، بمساعدة سياق الآية
والقصة التي نزلت فيها، ومن أدب المؤلف مع مروان قوله:
"فهذا من ذلك المعنى"، ولم يقل لعدم تمكن مروان من فهم
مقاصد الشريعة، وقوله: "فجوابهم"؛ أي: الأجوبة التي سبقت
عن توقفهم في الآيات الثلاث. "د".
قلت: وانظر "البرهان في علوم القرآن" "1/ 27-28". قال "ف":
""أوتوا" قرئ بضم الهمزة؛ أي: أو أعطوا، وبفتحها مقصورة
وممدودة".
ج / 4 ص -33-
وبالجملة، فجوابهم بيان لعمومات تلك النصوص كيف وقعت في الشريعة،
وإن ثم قصدًا آخر سوى القصد العربي1 لا بد من تحصيله، وبه
يحصل فهمها، وعلى طريقه يجرى سائر العمومات، وإذ ذاك لا
يكون ثم تخصيص بمنفصل2 ألبتة، واطردت العمومات قواعد صادقة
العموم، ولنورد هنا فصلًا هو مظنة لورود الإشكال3 على ما
تقرر، وبالجواب عنه يتضح المطلوب اتضاحًا أكمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: العربي البحت الذي لم يستند إلى تعرف مقاصد الشرع،
والوقوف على مقتضى الحال من مثل سبب النزول، والرجوع إلى
كليات الشريعة لفقه جزئياتها من الأدلة بمقارنتها للكليات،
وهكذا سائر القرائن التي تعين على فهم المقصود من الألفاظ،
وتكشف عن المراد منها وما استعملت فيه في الآية؛ فتكون تلك
القرائن كبيان للمجمل، لا تخصيص وإخراج لبعض ما أريد من
اللفظ. "د".
2 وسيأتي أنه لا تخصيص بالمتصل أيضًا. "د".
3 الإشكال في هذا الفصل وارد على الجواب عن الإشكال السابق
القائل: إن العرب حملت الألفاظ على عمومها الإفرادي، مع أن
سياق الاستعمال يقتضي خلاف ما فهموا؛ فقد أجاب عنه بأن فهم
عموم الاستعمال متوقف على فهم المقاصد فيه، وأن فهم المقصد
الشرعي مما يتفاوت الأمر فيه بين الطارئ الإسلام والقديم
العهد، والمشتغل بتفهمه وتحصيله ومن ليس كذلك، فمن تبحر
أدرك الاستعمال الشرعي ومقصد الشارع على الكمال فتوقف
الصحابة في مثل آية:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ
بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] إنما هو هو راجع إلى ذلك، لأن الآية في الأنعام وهي
من أول ما أنزل، ولم تكن كليات الشريعة قد تم تقريرها؛
فهذا هو عذرهم في التوقف، ويريد بهذا الفصل أن يورد على
هذا الجواب أنه غير حاسم للإشكال؛ لأن السلف الصالح
المتبحرين في فهم مقاصد الشريعة كعمر بن الخطاب، ومعاوية،
وعكرمة، وابن عباس، وغيرهم من الأئمة المجتهدين، أخذوا
بعموم الألفاظ، وإن كان سياق الاستعمال ومقتضيات الأحوال
تعارض هذا العموم، وما ذاك إلا لأن المعتبر عندهم هو
العموم الإفرادي؛ فتكون هذه الأمثلة المذكورة في هذا الفصل
وغيره مما خص بالمنفصل، لا أنها مما وضع في الاستعمال
الشرعي على العموم، وأن عمومها باق لم يمسه تخصيص كما
تقول، وبهذا يتبين الفرق بين الإشكال والجواب هنا وبين ما
تقدم، وأن قوله: "والجواب عنه" معطوف على لفظ: "ما"؛
فالإشكال الآتي وارد على ما قرره في رأس المسألة ووارد على
الجواب عنه بما تقدم كما عرفت، قوله: "يتضح" واقع في جواب
الأمر، ولا مانع أن يكون سقط الباء من قوله: "والجواب" كما
قاله بعضهم، وإن جعله هو الصواب. "د".
قلت: يريد بقوله: "بعضهم": "ف"؛ فإن العبارة هذه: "والجواب
عنه" وقال: "صوابه: "وبالجواب عنه"".
ج / 4 ص -34-
فلقائل
أن يقول: إن السلف الصالح مع معرفتهم بمقاصد الشريعة
وكونهم عربًا قد أخذوا بعموم اللفظ وإن كان سياق الاستعمال
يدل على خلاف ذلك، وهو دليل على أن المعتبر عندهم في
اللفظ1 عمومه بحسب اللفظ الإفرادي وإن عارضه السياق، وإذا
كان كذلك عندهم صار ما يبين لهم خصوصه كالأمثلة المتقدمة
مما2 خص بالمنفصل، لا مما وضع في الاستعمال على العموم
المدعى.
ولهذا الموضع من كلامهم أمثلة، منها أن عمر بن الخطاب كان
يتخذ الخشن من الطعام، كما كان يلبس المرقع في خلافته؛
فقيل له: لو اتخذت طعامًا ألين من هذا. فقال: أخشى أن تعجل
طيباتي، يقول الله تعالى:
{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}3 [الأحقاف: 20] الحديث.
وجاء أنه قال لأصحابه وقد رأى بعضهم قد توسع في الإنفاق
شيئًا: "أين تذهب بكم هذه الآية:
{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}4 الآية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الوضع".
2 في "ط": "كما".
3 أخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "2/ 695-696"، وابن
سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 279"، وابن المبارك في
"الزهد" "204"، والبلاذري في "أنساب الأشراف" "ص187, أخبار
أبي بكر وعمر"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص253-254,
ترجمة عمر" من وجوه عن عمر، وفي بعضها انقطاع.
وانظر: "مسند الفاروق" "2/ 505-506" لابن كثير، و"كنز
العمال" "12/ رقم 35955".
4 أخرجه ابن شبة في "تاريخ المدينة" "2/ 696-697"، وابن
عساكر في تاريخ دمشق" "ص255, ترجمة عمر".
ج / 4 ص -35-
[الأحقاف: 20]"، وسياق الآية يقتضي أنها إنما نزلت في الكفار الذين
رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، ولذلك قال:
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ}، ثم قال:
{فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}
[الأحقاف: 20]؛ فالآية غير لائقة بحالة المؤمنين، ومع ذلك؛
فقد أخذها عمر مستندًا في ترك الإسراف مطلقًا، وله أصل في
"الصحيح" في حديث المرأتين المتظاهرتين على النبي -صلى
الله عليه وسلم- حيث قال عمر للنبي, صلى الله عليه وسلم:
ادع الله أن يوسع على أمتك؛ فقد وسع على فارس والروم وهم
لا يعبدونه. فاستوى جالسًا؛ فقال:
"أوفي شك
[أنت] يابن الخطاب؟!
أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا"1.
فهذا يشير إلى مأخذ عمر في الآية وإن دل السياق على خلافه.
وفي حديث الثلاثة2 الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم
القيامة أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المظالم، باب الغرفة
والعلية المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها، 5/
114-116/ رقم 2468، وكتاب النكاح، باب موعظة الرجل ابنته
لحال زوجها، 9/ 278-279/ رقم 5191", ومسلم في "صحيحه"
"كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، 2/
1111-1113/ رقم 1479 بعد 34" عن ابن عباس, رضي الله عنهما.
وما بين المعقوفتين زيادة من "ف" و"ط".
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب
الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، 3/
1513-1514/ رقم 1905"، والترمذي في "جامعه" "أبواب الزهد،
باب ما جاء في الرياء والسمعة، 4/ 591-593/ رقم 2382"،
والنسائي في "المجتبى" "كتاب الجهاد، باب من قاتل ليقال:
فلان جريء، 6/ 23 و24" عن أبي هريرة مرفوعًا:
"إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه
فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت.
قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء؛ فقد قيل. ثم أمر به
فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه
وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت
فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال:
كذبت، ولكنك تعلمت العلم
ليقال علام، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ؛ فقد قيل. ثم أمر
به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه
وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها،
قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق
فيها إلا أنفقت فيه لك. قال: كذبت, ولكنك فعلت ليقال: هو
جواد؛ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في
النار". لفظ مسلم.
وتفرد الترمذي بذكر مقولة معاوية عقبه.
ج / 4 ص -36-
معاوية
قال: صدق الله ورسوله
{مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ
إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود: 15] إلى آخر الآيتين.
فجعل مقتضى الحديث وهو في أهل الإسلام داخلًا تحت عموم
الآية، وهي في الكفار؛ لقوله:
{أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود: 16] إلخ، فدل على الأخذ بعموم "من" في غير الكفار أيضًا.
وفي البخاري عن محمد بن عبد الرحمن؛ قال: "قطع على أهل
المدينة بعث؛ فاكتتبت، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس،
فأخبرته؛ فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن
عباس أن أناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون
سواد المشركين على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله؛ أو يضرب فيقتل
فأنزل الله, عز وجل:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي
أَنْفُسِهِمْ} الآية [النساء: 97]"1.
فهذا أيضًا من ذلك؛ لأن الآية عامة فيمن كثر سواد
المشركين، ثم إن عكرمة أخذها على وجه أعم2 من ذلك.
وفي الترمذي والنسائي عن ابن عباس لما نزلت:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَة...}، 8/ 262/ رقم 4596".
2 فجعلها شاملة لمن يعين على حرب ظالمة بين المسلمين. "د".
ج / 4 ص -37-
{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ} الآية [البقرة: 284]، دخل قلوبهم منه شيء [لم يدخل من1 شيء]،
فقالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال:
"قولوا سمعنا وأطعنا". فألقى الله الإيمان في قلوبهم؛ فأنزل الله تعالى:
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ}
الآية،
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا
إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}
[البقرة: 286]. قال:
"قد فعلت".
{رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]. قال:
"قد فعلت" الحديث2
إلخ، فهموا من الآية العموم، وأقره النبي -صلى الله عليه
وسلم- ونزل بعدها:
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] على وجه النسخ أو غيره مع قوله3 تعالى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وهي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الرواية لمسلم، وأصلها: "دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل
قلوبهم من شيء"، وفي "تفسير ابن جرير": "لم يدخلها"، وهذه
الجملة صفة لشيء، أي: دخل قلوبهم من الآية الكريمة شيء من
الفزع والخوف لم يدخلها من أجل شيء آخر من الآيات. "د".
قلت: وفي "م": "مثله شيء"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان أنه
سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، 1/ 116/ رقم 126"،
والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة
البقرة، 5/ 221-222/ رقم 2992"، والنسائي في "الكبرى"
"كتاب التفسير، 1/ 293-294/ رقم 79"، وأحمد في "المسند"
"1/ 233"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 286"، وابن حبان في
"الصحيح" "11/ 458/ رقم 5069"، وابن جرير في "التفسير" "3/
95"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "210-211"، والواحدي
في "أسباب النزول" "ص67-68"، وابن الجوزي في "نواسخ
القرآن" "ص228".
واقتصار المصنف في العزو على النسائي والترمذي وإهماله
لمسلم قصور، والله الهادي، وأول الآية سقط من "م".
3 أي: وهو قرينة على أن الله لم يكلف بما يجري في النفس من
الخواطر لأنه حرج، ومع أنه يقتضي خلاف ما فهموا؛ فقد كان
معولهم على العموم الإفرادي لا الاستعمال الشرعي الذي يمنع
من هذا الفهم، وقد أقرهم -صلى الله عليه وسلم- على ما
فهموا حتى نزل ما يخصص، وهو
{لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، إلا أن قوله: "على وجه النسخ" من باب تكميل المقام
في ذاته؛ لأنه عليه لا بد أن يكون مقصودًا ابتداء ثم نسخ،
ويكون فهمهم في محله؛ فيخرج عما نحن فيه، وقوله "أو غيره"
بناء على أنه تخصيص كما تقدم للمؤلف الكلام فيه في باب
النسخ على اصطلاح المتقدمين، ولو ذكره واقتصر عليه لكان
أنسب بالمقام، وهذا كله على بعض التفاسير في آية:
{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُم} [البقرة: 284]؛ أي: على أنها راجعة للشهادة وكتمانها؛ فيكون فيه
شاهد لما نحن فيه. "د".
ج / 4 ص -38-
قاعدة
مكية كلية؛ ففي هذا ما يدل على صحة الأخذ بالعموم اللفظي
وإن دل الاستعمال اللغوي أو الشرعي على خلافه.
وكذلك قوله تعالى:
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115] الآية، فإنها نزلت فيمن ارتد عن الإسلام بدليل قوله
بعد:
{إِنَّ
اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}
الآية [النساء: 48] ثم إن عامة العلماء استدلوا بها على
كون الإجماع حجة1 وأن مخالفه عاصٍ، وعلى أن الابتداع في
الدين مذموم.
وقوله تعالى:
{أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا
مِنْهُ} [هود: 5] ظاهر مساق الآية أنها في الكفار والمنافقين أو غيرهم
بدليل قوله:
{لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} [هود: 5]، أي: من الله تعالى أو من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وقال ابن عباس: "إنها في أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا2
فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء؛
فنزل ذلك فيهم"3؛ فقد عم4 هؤلاء في حكم الآية مع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" "2/ 243" في
ترجمة "محمد بن عقيل الفريابي" حكاية عن الإمام الشافعي
فيها استدلال بهذه الآية على حجية الإجماع، وقال: "سند هذه
الحكاية صحيح لا غبار عليه".
2 يتخلوا: يدخلوا الخلاء المعروف. "ف".
3 أخرجه البخاري في "التفسير" "كتاب التفسير، باب
{أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ}، 8/ 349/ رقم 4681، 4682، 4683".
4 ابن عباس يقول صراحة: "إنها نزلت في الذين يستحيون"، ولا
يلزم من الاستخفاء بمعنى الاستحياء النفاق أو الكفر؛ فهو
يخالف غيره في سبب النزول؛ فلا يجعلها في الكفار ثم يسحب
حكمها على بعض المؤمنين حتى تجعل الآية مما نحن فيه، فما
لم يقل ابن عباس صراحة أنها نزلت في الكفار وأنها تشمل من
استحيا... إلخ، ثم يكن لذكرها ههنا وجه. "د".
ج / 4 ص -39-
أن
المساق لا يقتضيه.
ومثل هذا كثير، وهو كله مبني على القول باعتبار عموم اللفظ
لا خصوص السبب.
ومثله قوله تعالى:
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْكَافِرُون} [المائدة: 44] مع أنها نزلت1 في اليهود والسياق يدل على ذلك، ثم إن
العلماء عموا بها غير الكفار، وقالوا: كفر دون كفر2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الآيات الثلاث نزلت في اليهود خاصة؛ كما قال ابن
عباس فيما أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 246"، وأبو داود في
"السنن" "كتاب الديات، باب النفس بالنفس، 4/ 168/ رقم
4494، وكتاب الأقضية، باب الحكم بين أهل الذمة، 3/ 303/
رقم 3590، 3591"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب القسامة،
باب تأويل قوله:
{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}، 8/ 18"، والدارقطني في "السنن" "3/ 198"، وابن حبان في "الصحيح"
"رقم 1738, موارد"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 366"،
والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 24"، وهو صحيح بتعدد طرقه.
2 كما هو ثابت عن ابن عباس، أخرجه من طرق عنه: ابن جرير في
"التفسير" "6/ 256، 257"، ومحمد بن نصر المروزي في "تعظيم
قدر الصلاة" "رقم 569، 570، 571، 572، 573، 574"، وابن عبد
البر في "التمهيد" "4/ 237"، والحاكم في "المستدرك" "2/
313"، والبيهقي في "الكبرى" 8/ 20"، وابن أبي حاتم في
"تفسيره", كما في "تفسير ابن كثير" "2/ 97"، وسعيد بن
منصور والفريابي وابن المنذر؛ كما في "الدر المنثور" "3/
87".
ولأخينا الفاضل علي بن حسن الحلبي جزء مفرد في تصحيحه، وهو
مطبوع بعنوان: "القول المأمون"؛ فانظره غير مأمور.
وانظر: "مدارج السالكين" "1/ 336 ط الفقي".
ج / 4 ص -40-
فإذا
رجع هذا البحث إلى القول بأن لا اعتبار بعموم اللفظ، وإنما
الاعتبار بخصوص السبب1، وفيه من الخلاف ما علم2؛ فقد رجعنا
إلى [أن]3 أحد القولين هو الأصح، ولا فائدة زائدة4.
والجواب: أن السلف الصالح إنما جاءوا بذلك الفقه الحسن
بناء على أمر آخر غير راجع إلى الصيغ العمومية؛ لأنهم
فهموا من كلام الله تعالى مقصودًا يفهمه الراسخون في
العلم، وهو أن الله تعالى ذكر الكفار بسيئ أعمالهم،
والمؤمنين بأحسن أعمالهم؛ ليقوم العبد بين هذين المقامين
على قدمي الخوف والرجاء، فيرى أوصاف أهل الإيمان وما أعد
لهم؛ فيجتهد رجاء أن يدركهم، ويخاف أن لا يلحقهم فيفر من
ذنوبه، ويرى أوصاف أهل الكفر وما أعد لهم؛ فيخاف من الوقوع
فيما وقعوا فيه، وفيما يشبهه، ويرجو بإيمانه أن لا يلحق
بهم؛ فهو بين الخوف والرجاء من حيث يشترك مع الفريقين في
وصف ما وإن كان مسكوتًا عنه؛ لأنه إذا ذكر الطرفان كان
الحائل بينهما مأخوذ5 الجانبين كمحال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإن من المخصص المنفصل سبب النزول، يعني وما شاكله، فإن
ما ذكره المؤلف في هذا المقام لا يقتصر مقتضى الحال فيه
على خصوصية السبب، كما هو ظاهر، فإن كلامه فيما هو أوسع من
ذلك، كما في كلام عمر وكلام معاوية. "د".
2 وهو أن الجمهور على القول باعتبار عموم اللفظ، ولا
اعتبار بخصوص السبب، والنزاع فيما إذا بنى عام مستقل عل
سبب خاص،مثاله أنه سئل -صلى الله عليه وسلم- عن بئر بضاعة
التي تلقى فيها الجيف، فقال:
"خلق الله الماء طهورًا لا ينجسه شيء...
إلخ"، وكما
في قصة مروره بشاة ميمونة ميتة، فقال:
"أيما
إهاب دبغ؛ فقد طهر"، وقد نقل
عن الشافعي أن العبرة بخصوص السبب مخالف للجمهور الذين
حجوه بالأدلة المتضافرة على أن العبرة بعموم اللفظ. "د".
3 سقطت من "ط".
4 قد يقال: وكيف لا تكون الفائدة زائدة، وقد صحح بناء على
فهمك غير ما صححه الجمهور، من أن العبرة بالعموم لا
بالخصوص؛ إلا أن يقال: إنه يريد الفائدة التي يعنيها
المؤلف ويكد للحصول عليها، وهي أنه لا تخصيص بالمنفصل
أصلًا. "د".
5 أي: يتجاذبه الطرفان، ويأخذه كل منهما إلى جهته؛ فهو
مأخوذ لكل منهما؛ فالعبارة مستقيمة. "د".
قلت: في هذا رد على "ف" حيث قال: "لعله مأخذ الجانبين، أي:
جانبي تدبر الخوف والرجاء" ا. هـ.
ج / 4 ص -41-
الاجتهاد لا فرق، لا من جهة أنهم حملوا ذلك محمل الداخل تحت العموم
اللفظي، وهو ظاهر1 في آية الأحقاف وهود والنساء في آية:
{إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ}
[الآية]2 [النساء: 97]، ويظهر أيضًا في قوله:
{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]، وما سوى3 ذلك؛ فإما من تلك القاعدة، وإما أنها بيان
فقه الجزئيات من الكليات العامة، لا أن المقصود التخصيص،
بل بيان جهة4 العموم، وإليك النظر في التفاصيل، والله
المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن الآيات المذكورة لا يتأتى فيها اندراج المؤمنين في
عمومها اللفظي، لا سيما الآيات الثلاث الأول، وعلى ما هو
الظاهر في الآية الرابعة من قوله:
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ
الْهُدَى}
[النساء: 115]، ولذا أفردها بقوله: "ويظهر أيضًا". "د".
وفي "ط": "وهذا ظاهر".
2 ما بين المعقوفتين زيادة من "ف" و"م" و"ط".
3 أي: من الآيات السابقة المستشكل بها، وقوله: "من تلك
القاعدة"، أي: المتقدمة في هذا الجواب، ويمكن اطرادها في
الجميع، وأما أنه من المجيبين, كابن عباس في آية
{وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا} [آل
عمران: 188], بيان وتقرير لطريقة أخذ الجزئيات الفقهية من
الكليات، وأنه يلزم أن يوقف بها عند الحد الاستعمالي في
المقاصد الشرعية، ولا يرجع بها إلى الوضع على الإطلاق،
وليس مقصودهم أن الآيات كانت في قصد الشارع عامة ثم خصصت،
بل غرضهم بيان أن عمومها ليس بحسب ما فهم السائل عمومًا
ينظر فيه للوضع العربي الإفرادي، بل الاستعمالي بحسب مقاصد
الشارع في مثله، وما يعين عليه المقام وما يقتضيه الحال،
وعليه يكون قوله: "وما سوى ذلك" راجعًا إلى ما سبق من أول
الفصل، وظاهر أن صحة العبارة: "لا أن المقصود" وليست "لأن"
كما في أصل النسخة. "د".
4 أي: وإنه عموم بقدر مقاصد الشرع فيه، يعد فهم قواعد
الشريعة؛ أي: فلم يفهموا العموم من الوقوف عند حد اللفظ
العام نفسه، ولم يفهموا الخصوص باعتبار أنه تخصيص وإخراج
لما كان داخلًا حتى يكون المخصص منفصلًا بطريق من طرقه.
"د". =
ج / 4 ص -42-
.................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= محور الكلام في هذه المسألة هو أن خصوص السبب هل يصلح أن
يكون قرينة مخصصة أم لا؟ اختلفوا في هذه، وبناء على هذا
الاختلاف اختلفت مناهج المؤلفين في تصنيف هذه المسألة،
فمنهم من وصفها ضمن مباحث العام وجعل لها عنوانًا
مستقلًّا، ومنهم من وصفها ضمن مباحث التخصيص بالمنفصل.
فالآمدي في "الإحكام "2/ 459 و477" جعل الخطاب الوارد على
سبب بنوعيه, أعني: ورود الخطاب جوابًا لسؤال، ووروده في
قضية عين ذكرت فيه علة الحكم, في مباحث العلم، فجعل النوع
الأول في المسألة السادسة، وجعل النوع الثاني في المسألة
الثالثة عشرة.
وليس في سلوك هذا المنهج ما يدل على أن الآمدي يرى في
الحكم العام الوارد على سبب أن العبرة بعموم اللفظ، لأنه
في الأصل متردد في صحة التخصيص بالمنفصل، وذكر أوجهًا
ثلاثًا تقتضي منع التخصيص المنفصل، ثم حاول تطويع هذه
الأوجه لتوافق القول بجواز التخصيص بالمنفصل.
وأما الرازي في "المحصول" "2/ 183"؛ فعقد له هذا العنوان:
القول فيما ظن أنه من مخصصات العموم، مع أنه ليس كذلك
وضمنه الخطاب الوارد على سبب، وقصر السبب على سؤال السائل.
وانفرد في ذلك الشاطبي؛ فإنه لا يرى أصلًا التخصيص
بالمنفصل ولا بالمتصل؛ لأن اللفظ العام بوضعه الاستعمال
يدل دون ما يدل عليه ذلك اللفظ بوضعه اللغوي، والعموم إنما
يفيد بالاستعمال، ووجوه الاستعمالات كثيرة، ولكن ضابطها
مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان، وهذه المقتضيات
كالقرائن تعين على فهم المقصود من الألفاظ وتبين المجمل،
وبهذا الفهم لا يكون إذ ذاك تخصيص بمنفصل, فالنصوص العامة
التي وردت فيها مقتضيات أحوال ظاهرها أنها مخصصة للعموم
ليست في الحقيقة مخصصة، بناء على هذه القاعدة: "المقصد
الاستعمالي للفظ العام"، أو أن هذه المقتضيات وردت لبيان
"فقه الجزئيات من الكليات العامة، لا أن المقصود التخصيص
بل بيان جهة العموم".
ويجعل الأحكام العامة الواردة على سبب باقية على عمومها،
وإنما الأسباب اقتضت أحكامًا خاصة، يقول رحمه الله فيما
مضى "1/ 465": "ولا يخرج عن هذا -أي: إن الأحكام الكلية
مشروعة على الإطلاق والعموم- ما كان من الكليات واردًا على
سبب، فإن الأسباب قد تكون مفقودة =
ج / 4 ص -43-
فصل:
إذا تقرر ما تقدم؛ فالتخصيص إما بالمنفصل أو بالمتصل.
فإن كان بالمتصل؛ كالاستثناء، والصفة، والغاية، وبدل
البعض، وأشباه ذلك؛ فليس في الحقيقة بإخراج لشيء، بل هو
بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ أن لا يتوهم السامع منه
غير ما قصد، وهو ينظر إلى قول سيبويه: "زيد الأحمر" عند من
لا يعرفه "كزيد" وحده عند من يعرفه، وبيان ذلك أن زيدًا
الأحمر هو الاسم المعرف به مدلول زيد بالنسبة إلى قصد
المتكلم، كما كان الموصول مع صلته هو الاسم لا أحدهما،
وهكذا إذا قلت: "الرجل الخياط" فعرفه السامع؛ فهو مرادف
"لزيد"؛ فإذًا المجموع هو1 الدال، ويظهر ذلك في الاستثناء
إذا قلت: "عشرة إلا ثلاثة"؛ فإنه مرادف لقولك: "سبعة"؛
فكأنه وضع آخر عرض حالة التركيب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قبل ذلك، فإذا وجدت اقتضت أحكامًا".
والفرق بين الشاطبي وبين الأصوليين في حقيقة التخصيص أن
التخصيص عنده بيان المقصود في عموم الصيغ؛ فهو يرجع إلى
بيان وضع الصيغ العمومية في أصل الاستعمال العربي أو
الشرعي، وما ذكره الأصوليون يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن
وضعها من العموم إلى الخصوص؛ فالشاطبي جعل التخصيص بيانًا
لوضع اللفظ، والأصوليون قالوا: إنه بيان لخروج اللفظ عن
وضعه. انظر "مسألة تخصيص العام بالسبب" "ص22-23" لمحمد
العروسي عبد القادر.
1 ولا تخصيص فيه، وهو حقيقة فيه، وهذا رأي أبي الحسين أن
ما خص بغير مستقل كالشرط والاستثناء والصفة؛ فالباقي يكون
اللفظ فيه حقيقة، وذلك لأن هذه المذكورات صارت كالجزء من
الدال على المعنى المقصود، وصار الدال معها لمعنى غير ما
وضع له أولًا، وقوله: "ويظهر ذلك في الاستثناء"؛ لأن العام
الذي أخرج منه البعض كقولك: أكرم بني تميم إلا البخلاء
منهم باق على عمومه دلالة وإرادة، وليس من العام المخصص في
شيء، ومثل هنا بعشرة، وليست أسماء العدد من العموم في شيء؛
إلا أن غرضه إفادة أن الاستثناء كجزء من الكلام الدال على
السبعة، وهو أظهر من الصفة. "د".
ج / 4 ص -44-
وإذا
كان كذلك؛ فلا تخصيص في محصول الحكم لا لفظًا ولا قصدًا1،
ولا يصح أن يقال: إنه مجاز أيضًا2 لحصول الفرق عند أهل
العربية بين قولك: "ما رأيت أسدًا يفترس الأبطال"، وقولك:
"ما رأيت رجلًا شجاعًا"، وأن الأول مجاز، والثاني حقيقة،
والرجوع في هذا إليهم، لا إلى ما يصوره العقل3 في مناحي
الكلام.
وأما التخصيص بالمنفصل؛ فإنه كذلك أيضًا راجع إلى بيان
المقصود في عموم الصيغ، حسبما تقدم في رأس المسألة، لا أنه
على حقيقة التخصيص الذي يذكره الأصوليون.
فإن قيل: وهكذا يقول الأصوليون: إن التخصيص بيان المقصود
بالصيغ المذكورة؛ فإنه رفع لتوهم دخول المخصوص تحت عموم
الصيغة في فهم السامع، وليس بمراد الدخول تحتها، وإلا كان
التخصيص نسخًا فإذًا لا فرق بين التخصيص بالمنفصل والتخصيص
بالمتصل على ما فسرت؛ فكيف تفرق بين ما ذكرت وبين ما يذكره
الأصوليون؟
فالجواب: أن الفرق بينهما ظاهر، وذلك أن ما ذكر هنا راجع
إلى بيان وضع الصيغ العمومية في أصل الاستعمال العربي أو
الشرعي، وما ذكره الأصوليون يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن
وضعها من العموم إلى الخصوص؛ فنحن بينا أنه بيان لوضع
اللفظ، وهم قالوا: إنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يترتب الثاني على الأول لأنه إذا كان اللفظ بقيده آتيًا
على قدر المراد؛ فلا محل للتخصيص قصدًا. "د".
قلت: انظر "المسودة" "154"، و"مجموع الفتاوى" "31/ 116".
2 انظر تفصيل ذلك في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 488-490
و31/ 116".
3 كأن يصور أن الرجل في سياق النفي عام عمومًا قصره الوصف
على نوع منه، وهو أقل مما كان يتناوله قبل الوصف؛ فهو غير
ما وضع له "رجل"؛ فيكون مجازًا. "د".
ج / 4 ص -45-
وبينهما فرق؛ فالتفسير الواقع هنا نظير بيان الذي1 سيق عقب
اللفظ المشترك ليبين المراد منه، والذي للأصوليين نظير2
البيان الذي سيق عقيب الحقيقة ليبين أن المراد المجاز؛
كقولك: رأيت أسدًا يفترس الأبطال.
فإن قيل: أفيكون تأصيل أهل الأصول كله باطلًا، أم لا؟ فإن
كان باطلًا؛ لزم أن يكون ما أجمعوا عليه من ذلك خطأ،
والأمة3 لا تجتمع على الخطأ، وإن كان صوابًا وهو الذي
يقتضيه إجماعهم؛ فكل ما يعارضه خطأ، فإذًا كل ما تقدم
بيانه خطأ.
فالجواب: أن إجماعهم أولًا غير ثابت على شرطه، ولو سلم أنه
ثابت؛ لم يلزم منه إبطال ما تقدم لأنهم إنما اعتبروا صيغ
العموم بحسب ما تدل عليه في الوضع الإفرادي، ولم يعتبروا
حالة الوضع الاستعمالي، حتى إذا أخذوا في الاستدلال على
الأحكام؛ رجعوا إلى اعتباره: كل على اعتبار رآه، أو تأويل
ارتضاه؛ فالذي تقدم بيانه مستنبط من اعتبارهم الصيغ في
الاستعمال، بلا4 خلاف بيننا وبينهم؛ إلا ما يفهم عنهم من
لا يحيط علمًا بمقاصدهم، ولا يجود محصول كلامهم، وبالله
التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو لا يخرج الصيغ عن وضعها، وإنما يكشف عن الوضع المراد
من بين الأوضاع. "د".
قلت: في "ط" و"ف": "نظير بيان الذي"، وقال "ف": "لعله:
"نظير البيان" بأداة التعريف" انتهى، وكذا في الأصل و"م"
و"د".
2 وإنما قال: "نظيره" أي: شبيهه للفرق الظاهر بين المعنى
المجازي المنقول إليه وبين المعنى الباقي بعد التخصيص؛ فإن
الأول ليس بعضًا مما وضع له اللفظ حقيقة، بل معنى آخر
مناسب له فقط، أما الثاني؛ فإنه بعض ما وضع له اللفظ؛ ولذا
قال بعضهم: إنه لا يزال اللفظ فيه حقيقة. "د". وفي "ط":
"الواقع هنا نظير...".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "31/ 109".
3 أي: والأصوليون أمة في فنهم. "د".
4 في الأصل و"ط": "فلا".
ج / 4 ص -46-
فصل:
فإن قيل: حاصل1 ما مر أنه بحث في عبارة، والمعنى متفق
عليه، ومثله لا ينبني عليه حكم.
فالجواب أن لا، بل هو بحث فيما ينبني عليه أحكام:
- منها: أنهم اختلفوا في العام إذا خص؛ هل يبقى2 حجة أم
لا؟ وهي من المسائل الخطيرة في الدين؛ فإن الخلاف فيها في
ظاهر الأمر شنيع لأن غالب الأدلة الشرعية وعمدتها هي
العمومات، فإذا عدت من المسائل المختلف فيها بناء على ما
قالوه أيضًا من أن جميع العمومات أو غالبها مخصص؛ صار معظم
الشريعة مختلفًا فيها: هل هو حجة أم لا؟ ومثل ذلك يلقى في
المطلقات3 فانظر فيه، فإذا عرضت المسألة على هذا الأصل
المذكور؛ لم يبق4 الإشكال المحظور، وصارت العمومات حجة على
كل قول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني: يؤخذ من جوابه السابق أن المآل واحد، وأنهم وإن
سموه تخصيصًا وإخراجًا لبعض ما دخل في العام؛ إلا أنهم عند
الاستنباط وأخذ الأحكام اعتبروا الصيغ بالوضع الاستعمالي
لا الوضع الإفرادي؛ فالمآل واحد، والخلاف في العبارة، وهذا
ما رتب عليه هذا السؤال ليدفعه. "د". وفي "ط": "حاصل هذا
أنه".
2 أي: العام الذي خصص بمبين كاقتلوا المشركين، المخصص
بالذمي مثلًا، أما المخصص بمجمل نحو هذا العام مخصوص، أو
لم يرد به ما يتناوله؛ فليس بحجة اتفاقًا، والجمهور على أن
المخصص بمبين حجة في الباقي مطلقًا، وقال البلخي: "حجة إن
خص بمتصل لا منفصل". "د".
3 أي: يوجد فيها. "ف".
4 أي: لأن من قال بعدم الحجية يقول في دليله: إن الصيغة
إذا خصت صارت في بقية =
ج / 4 ص -47-
ولقد
أدى إشكال هذا الموضع إلى شناعة1 أخرى، وهي أن عمومات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المسميات مجازًا، بل كان ما تحتها من المسميات مراتب في
المجاز متعددة، فكان اللفظ فيها مجملًا، فلا بد من دليل
على ما يراد منها؛ فأنت ترى أن الإشكال في كون الباقي حجة
ما نشأ إلا من دعوى أن التخصيص يجعل الباقي مجازًا، وعلي
رأي المؤلف لا يكون مجازًا؛ فلا إشكال في أن العام حقيقة
في جميع ما قصد؛ فهو حجة فيه، وسقط سبب الخلاف في الحجية،
وقوله: "صارت العمومات حجة على كل قول" يعني أنه يلزم ذلك،
وأن من خالف لو اطلع على ما قلنا وعرف سقوط سبب مخالفته
ليقال بالحجية مع الجمهور. "د".
قلت: وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "6/ 442" في منكري
حجية العموم من المواقفة والمخصصة: "وهو مذهب سخيف"،
و"كلام ضائع غايته أن يقال: دلالة العموم أضعف من غيره من
الظواهر، وهذا لا يقر؛ فإنه ما لم يقم الدليل المخصص وجب
العمل بالعام"، وانظر منه "29/ 166-167"، و"إجابة السائل"
للصنعاني "ص309 وما بعدها".
1 تعلم أن المسألة آلت إلى أنه يقول: إن الذي يسمونه
تخصيصًا بالمتصل أو المنفصل ليس تخصيصًا، وإن هذه العمومات
وإن لم تبق بمعناها الوضعي الإفرادي الشامل لأكثر من
المراد للشارع؛ فهي بحسب الاستعمال ومقاصد الشرع إنما
تنطبق على ما يراد فقط، بحسب مقتضى المقام وقرائن الأحوال،
وهي حقيقة فيما يراد لا مجاز، وأن هذه القرائن تعتبر كمبين
المجمل لا كقرائن المجاز الذي يقتضيه القول بالتخصيص،
وعليه فالمقدار الذي يتناوله العام المقصود للشارع لا
يختلف على رأيه ورأي الأصوليين، والاعتداد بالعمومات
القرآنية فيما أراده منها القرآن واحد، متى درجنا على
القول بالحجية في الباقي الذي بالغ عليه، والقرائن العقلية
والحسية وغيرها مما يسميه هو كبيان للمجمل ويسمونه مخصصًا
لا بد منها عند الطرفين؛ فإنا إذا قلنا: لا يعمل بالعام
إلا بعد الاستقصاء عن المخصص؛ فكذلك نقول: لا يعمل بالمجمل
إلا بعد التحقق من المبين؛ فأين هو إبطال الكليات القرآنية
وإسقاط الاستدلال بها إلا على جهة التساهل وتحسين الظن على
رأيهم، وعدم ذلك على رأيه؟ ثم أين الإخلال بجوامع الكلم
على رأيهم، وعدم الإخلال بها على رأيه؟ مع أن المقدار الذي
يتناوله العام واحد بعد التخصص أو بعد البيان، وكيف نقول
على رأيهم بافتقار الجوامع إلى قرائن ومخصصات، ولا نقول
بذلك فيها على رأيه؟ وقد قال بعد: "فالحق أنها على عمومها
الذي يفهمه العربي الفهم المطلق على مقاصد الشرع"، فإذًا
ليست باقية على وضعها الإفرادي، ولا هي غير مفتقرة إلى فهم
العربي المطلع على مقاصد الشرع لتكون قرينة له يفهم بها =
ج / 4 ص -48-
القرآن
ليس فيها ما هو معتد به في حقيقته من العموم، وإن قيل بأنه
حجة بعد التخصيص، وفيه ما يقتضي إبطال الكليات القرآنية،
وإسقاط الاستدلال به جملة؛ إلا بجهة من التساهل وتحسين
الظن، لا على تحقيق النظر والقطع بالحكم، وفي هذا إذا تؤمل
توهين الأدلة الشرعية، وتضعيف الاستناد إليها، وربما نقلوا
في الحجة لهذا الموضع عن ابن عباس؛ أنه قال: ليس في القرآن
عام إلا مخصص، إلا قوله تعالى:
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}1 [البقرة: 282]، وجميع ذلك مخالف لكلام العرب، ومخالف لما كان عليه
السلف الصالح من القطع بعموماته التي فهموها تحقيقًا، بحسب
قصد العرب في اللسان، وبحسب قصد الشارع في موارد الأحكام.
وأيضًا, فمن المعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بُعث
بجوامع الكلم2، واختُصر له الكلام اختصارًا على وجه هو
أبلغ ما يكون، وأقرب ما يمكن في التحصيل، ورأسُ هذه
الجوامع في التعبير العمومات3، فإذا فرض أنها ليست بموجودة
في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مقدار ما تناوله العام؛ فليست مستغنية عن القرائن
والمقيدات على ما قاله أيضًا، غايته أنه لا يسميه تخصيصًا
بل بيانًا لا بد منه، وهلا قال في الفائدة الثانية وبذلك
أيضًا انحسمت مادة الشناعة الناشئة من وجود خلاف في حجية
العام المخصص؛ لأنه مهما كان الخلاف ضعيفًا فإن هذا النزاع
يوهن الاستدلال بهذه العمومات وهي معتمد الشريعة، ويجعل
الأخذ بها من طريق تحسين الظن، لا من باب تحقيق النظر
والقطع بالحكم، وتبنى الفائدة الثالثة عليه أيضًا؛ لأن
العمومات إنما تكون جوامع إذا كان معناها محددًا محررًا،
وهو إنما يكون كذلك إذا كان اللفظ فيه حقيقة، لا مجازًا
محتملًا كما تقدم بيانه عند من يذهب إلى أنه ليس بحجة
لإجماله في المراتب التي يحتملها المجاز. "د".
1 مضى "3/ 309" بنحوه، وهو مما لا يصح عنه ألبتة.
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب قول النبي,
صلى الله عليه وسلم:
"نُصرت بالرعب
مسيرة شهر"، 6/ 128/
رقم 2977" وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا:
"بُعِثتُ بجوامع الكلم، ونُصرت بالرعب؛ فبينما أنا نائم
أوتيتُ خزائن الأرض...".
3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 133 و34/ 206-207".
ج / 4 ص -49-
القرآن
جوامع، بل على وجه تفتقر فيه إلى مخصصات ومقيدات وأمور
أخر؛ فقد خرجت تلك العمومات عن أن تكون جوامع مختصرة، وما
نقل عن ابن عباس إن ثبت من طريق صحيح؛ فيحتمل التأويل.
فالحق في صيغ العموم إذا وردت أنها على عمومها في الأصل
الاستعمالي، بحيث يفهم محل عمومها العربي الفهم المطلع على
مقاصد الشرع؛ فثبت أن هذا البحث ينبني عليه فقه كثير وعلم
جميل، وبالله التوفيق.
ج / 4 ص -50-
المسألة الرابعة:
عمومات العزائم وإن ظهر ببادئ الرأي أن الرخص تخصصها1؛
فليست بمخصصة لها في الحقيقة، بل العزائم باقية على
عمومها، وإن أطلق عليها أن الرخص خصصتها؛ فإطلاق مجازي لا
حقيقي.
والدليل على ذلك أن حقيقة الرخصة؛ إما أن تقع بالنسبة إلى
ما لا يطاق، أو لا.
فإن كان الأول فليست برخصة في الحقيقة؛ إذ لم يخاطب
بالعزيمة من لا يطيقها، وإنما يقال هنا: إن الخطاب
بالعزيمة مرفوع من الأصل بالدليل الدال على رفع تكليف ما
لا يطاق؛ فانتقلت العزيمة إلى هيئة أخرى، وكيفية مخالفة
للأولى كالمصلي لا يطيق القيام؛ فليس بمخاطب بالقيام، بل
صار فرضه الجلوس أو على جَنْبٍ أو ظَهْرٍ، وهو العزيمة
عليه، وإن كان الثاني؛ فمعنى الرخصة في حقه أنه إن انتقل
إلى الأخف؛ فلا جناح عليه، لا أنه سقط2 عنه فرض القيام.
والدليل على ذلك [أنه]3 إن تكلف فصلى قائمًا؛ [فإما]3 أن
يقال: إنه أدى الفرض على كمال العزيمة، أو لا؛ فلا يصح4 أن
يقال: إنه لم يؤده على كماله؛ إذ قد ساوى فيه الصحيح
القادر من غير فرق؛ فالتفرقة بينهما تحكم من غير دليل؛ فلا
بد أنه أداه على كماله، وهو معنى كونه داخلًا تحت عموم
الخطاب بالقيام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حتى يقال مثلًا: الظهر أربع إلا على المسافر، وصوم رمضان
واجب إلا على المسافر، وهكذا؛ فتكون الرخص مخصصة لأدلة
العزائم. "د".
2 ويدل على عدم سقوطه قولهم في الرخصة: "مع قيام السبب
للحكم الأصلي". "د".
3 سقط من "ط".
4 الأنسب ولا يصح، وهو إبطال للاحتمال الثاني لإثبات
الأول. "ف".
ج / 4 ص -51-
فإن
قيل: [إذا قلت]: إن العزيمة مع الرخصة من [باب]1 خصال
الكفارة بالنسبة إليه؛ فأي الخصلتين فعل فعلى حكم الوجوب،
وإذا كان [ذلك] كذلك؛ فعمله بالعزيمة عمل على كمال، وقد
ارتفع عنه حكم الانحتام، وذلك معنى تخصيص عموم العزيمة
بالرخصة؛ فقد تخصصت عمومات العزائم بالرخص على هذا2
التقرير؛ فلا يستقيم القول ببقاء العمومات إذ ذاك.
وأيضًا3، فإن الجمع بين بقاء حكم العزيمة ومشروعية الرخصة
جمع بين متنافيين؛ لأن معنى بقاء العزيمة أن القيام في
الصلاة واجب عليه حتمًا، ومعنى جواز الترخص أن القيام ليس
بواجب حتمًا، وهما قضيتان متناقضتان، لا تجتمعان على موضوع
واحد؛ فلا يصح القول ببقاء العموم بالنسبة إلى من يشق عليه
القيام في الصلاة.
وأمر ثالث، وهو أن الرخصة قد ثبت التخيير بينها وبين
العزيمة، فلو كانت العزيمة هنا باقية على أصلها من الوجوب
المنحتم؛ لزم من ذلك التخيير بين الواجب وغير الواجب،
والقاعدة أن ذلك محال لا يمكن؛ فما أدى إليه مثله.
فالجواب: أن العزيمة مع الرخصة ليستا4 من باب خصال الكفارة
إذ لم يأت دليل ثابت يدل على حقيقة التخيير، بل الذي أتى
في حقيقة الرخصة أن من ارتكبها؛ فلا جناح عليه خاصة، لا أن
المكلف مخير بين العزيمة والرخصة، وقد تقدم الفرق بينهما
في كتاب الأحكام في فصل العزائم والرخص، وإذا ثبت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 وكأنه يقول: الظهر تجب أربعًا وجوبًا منحتمًا إلا على
المسافر؛ فإن أدى اثنتين أو أربعًا صح وارتفع انحتام
الأربع الذي كان على غير المسافر، وهذا تخصيص لعموم دليل
العزيمة. "د".
3 هذا الوجه وما بعده مبنيان على الوجه الأول ومتوقفان
عليه فمتى بطل بطلا، ولذا كان الجواب بإبطال الأول كافيًا
في إبطال الاعتراضين، ويبقى الكلام على ما جعله المؤلف
جوابًا عن الثاني ليدفع التناقض به وسيأتي ما فيه. "د".
وفي "ط": "وأيضًا؛ فإن الجميع...".
4 في "ط": "العزيمة بالرخصة ليست...".
ج / 4 ص -52-
ذلك؛
فالعزيمة على كمالها وأصالتها في الخطاب بها، وللمخالفة
حكم1 آخر.
وأيضًا؛ فإن الخطاب بالعزيمة من جهة حق الله تعالى،
والخطاب بالرخصة من جهة حق العبد فليسا بواردين على
المخاطب من جهة واحدة، بل من جهتين مختلفتين، وإذا اختلفت
الجهات أمكن الجمع وزال2 التناقض المتوهم في الاجتماع،
ونظير تخلف العزيمة للمشقة3 تخلفها للخطأ، والنسيان،
والإكراه، وغيرها من الأعذار التي يتوجه4 الخطاب مع وجودها
مع أن التخلف غير مؤثم ولا موقع في محظور، وعلى هذا ينبني
معنى آخر يعم هذه المسألة وغيرها5, وهو أن العمومات التي
هي عزائم إذا رفع الإثم عن6 المخالف فيها لعذر من الأعذار،
فأحكام تلك العزائم متوجهة على عمومها من غير تخصيص؛ وإن
أطلق عليها أن الأعذار خصصتها؛ فعلى المجاز لا على
الحقيقة، ولنعدها مسألة على حدتها، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو رفع الإثم. "د".
2 كيف والمخاطب واحد؟ على كل حال هو الله تعالى؛ فسواء
أكان الخطابان من جهة حق الله، أم من جهة حق الآدمي، أم
موزعين كما يقول؛ فالإشكال باقٍ لا يرتفع بهذا الجواب لأن
الله كلفه بالعزيمة تكليفًا متحتمًا، وإن كان لحقه تعالى،
وكلفه بها تكليفًا غير منحتم لحق العبد، والتكليف في قضية
واحدة بالوحدات الثمانية المعتبرة في التناقض؛ فمهما اختلف
سبب التكليف فإن التناقض حاصل، لا يدفعه إلا التخصص أو
الجواب بأن العزيمة مع الرخصة ليست من باب خصال الكفارة
كما قال: "هل هي" هي. "د".
3 أي: لا يعدم الطاقة الذي جعله لا تكليف معه؛ فيبقى
الكلام في أن النسيان وما معه مما لا يطاق أم مما فيه
المشقة فقط؟ فإن كان من الأول؛ لزم أن يسقط التكليف بلا
فارق بينهما، وسيأتي تتميم الكلام. "د".
4 ويكون معنى رفعها في الحديث رفع الإثم لا رفع التكليف،
بدليل مطالبته بالأداء بعد زوال النسيان وما معه. "د".
5 وإن لم يكن مما يسمى رخصة. "د".
6 في "ط": "على".
ج / 4 ص -53-
المسألة الخامسة:
والأدلة على صحتها ما تقدم1، والمسألة وإن كانت مختلفًا
فيها على وجه آخر؛ فالصواب جريانها على ما جرت عليه
العزائم مع الرخص، ولنفرض المسألة في موضعين:
أحدهما2:
فيما إذا وقع الخطأ من المكلف فتناول ما هو محرم؛ ظهرت علة
تحريمه بنص أو إجماع أو غيرهما؛ كشارب المسكر يظنه حلالًا،
وآكل مال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في الدليل الأول هناك: لا يخاطب بالعزيمة من لا
يطيقها؛ فالخطاب مرفوع من الأصل لرفع التكليف بما لا يطاق،
فإجراء هذا الدليل لا يناسب ما نحن فيه؛ لأنه ينتج عكس
مطلوبه ويقتضي أنه لا تكليف مع النسيان والخطأ، وأيضًا
قالوا: إن الفهم والقدرة على الامتثال شرطان في التكليف،
وأجابوا عن مثل اعتبار طلاق السكران الفاقد للشرط بأنه من
قبيل ربط الأحكام بأسبابها، فهو من خطاب الوضع لا من
التكليف، وهذا يشكل على المسألة هنا، وعلى قوله سابقًا:
"ونظير تخلف العزيمة للمشقة تخلفها للخطأ والنسيان
والإكراه وغيرها من الأعذار التي يتوجه الخطاب... إلخ"؛
إلا أن يقال: إنه جارٍ على القول بتوجه التكليف إلى هؤلاء
جميعًا، وأشار إلى ذلك بقوله: "وإن كان مختلفًا فيها"،
ويكون معنى الشرط على هذا القول أنه شرط في المؤاخذة لا في
أصل توجه التكليف، هذا وقد سبق له في باب الأحكام الإفاضة
في مرتبة العفو وأنها زائدة عن الأحكام الخمسة، وأقام
الأدلة عليها إثباتًا ونفيًا، وذكر مواضعها على القول
بثبوتها، وختم المبحث هناك بما ختمه به هنا من أن هذا مبحث
لا ينبني عليه فقه، وأن الأولى تركه؛ فراجعه إن شئت. "د".
2 فرض المسألة في هذين الموضعين من باب التمثيل لا
الاستقصاء؛ لأنها أوسع من ذلك، وقد سبق له في النوع الأول
من الأنواع الثلاثة لمرتبة العفو المذكور هناك -وهو الوقوف
مع الدليل المعارض قصد نحوه- أن أدرج فيه العمل بالعزيمة
مع وجود مقتضى الرخصة، كما أدرج فيه المتأول كشارب المسكر
يظنه حلالًا، وأدرج فيه خطأ القاضي في مسائل الاجتهاد ما
لم يكن أخطأ نصًّا أو إجماعًا أو بعض القواطع، وإنما قيده
بقوله: "ظهرت... إلخ" حتى يتأتى له قوله بعد: "فهل يسوغ أن
يقال... إلخ" يعني، ومع مراعاة المصالح وبناء الأحكام
عليها لا يمكن أن يقال ذلك، وكذا يقال في الموضع الثاني.
"د".
ج / 4 ص -54-
اليتيم
أو غيره يظنه متاع نفسه، أو قاتل1 المسلم يظنه كافرًا، أو
واطئ الأجنبية يظنها زوجته أو أمته، وما أشبه ذلك؛ فإن
المفاسد التي حرمت هذه الأشياء لأجلها واقعة أو متوقعة،
فإن شارب المسكر قد زال عقله وصده عن ذكر الله وعن الصلاة،
وآكل مال اليتيم قد أخذ ماله2 الذي حصل له به الضرر والفقر
وقاتل المسلم قد أزهق دم نفس ومن قتلها
{فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، وواطئ الأجنبية قد تسبب في اختلاط نسب المخلوق من
مائه؛ فهل يسوغ في هذه الأشياء أن يقال: إن الله أذن فيها
وأمر3 بها؟ كلا، بل4 عذر الخاطئ5 ورفع الحرج والتأثيم بها،
وشرع مع ذلك فيها التلافي حتى تزول المفسدة فيما يمكن فيه
الإزالة؛ كالغرامة، والضمان في المال، وأداء الدية مع
تحرير الرقبة في النفس، وبذل المهر مع إلحاق الولد
بالواطئ، وما أشبه ذلك [ف]
{إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]،
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي
الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَالْبَغْيِ} [النحل: 90]، غير أن عذر الخطأ رفع حكم التأثيم المرتب على
التحريم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ف": "قتل"، وقال "ف": "الأنسب: "أو قاتل
المسلم" كما يقتضيه السياق".
2 في "ط": "أخذ له".
3 المناسب "أو" لينفي الإباحة والأمر؛ فيبقى النهي متوجهًا
كما سيقول: "رفع حكم التأثيم المرتب على التحريم"، وقوله
بعد: "مأمورًا بما أخطأ فيه أو مأذونًا له فيه" يؤيد أن
المقام لأوجه. "د".
4 يعني: بل نهى عنها، غايته أنه عذر الخاطئ؛ فلم يؤاخذه،
يريد أن المكلف في كل عمل يتوجه عليه من الله؛ إما الإباحة
لفعله، وإما الأمر، وإما النهي؛ فهنا في هذه الأمور لا
يتأتى الإباحة ولا الأمر؛ فيبقى أن يتوجه النهي، غايته أنه
لا يؤاخذه لفقد شرط المؤاخذة، وقد يذكر هذا دليلًا على أنه
قد تخلو وقائع من حكم الله فيها, ودليلًا على ثبوت مرتبة
العفو، وكلا هذين مبني على أنه لا تكليف رأسًا عند فقد
الشرطين المذكورين آنفًا، خلافًا لما جرى عليه هو في هذه
المسألة وما قبلها في قوله: "ونظير تخلف العزيمة للمشقة...
إلخ" "د".
5 بمعنى المخطئ لا الآثم.
ج / 4 ص -55-
والموضع الثاني:
إذا أخطأ الحاكم في الحكم1، فسلم المال إلى غير أهله، أو
الزوجة إلى غير زوجها، أو أدب من لم يستحق تأديبًا وترك من
كان مستحقًّا له، أو قتل نفسًا بريئة إما لخطأ في دليل أو
في الشهود، أو نحو ذلك؛ فقد قال2 تعالى:
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية [المائدة: 49].
وقال:
{وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}
[الطلاق: 2].
فإذا أخطأ فحكم بغير ما أنزل الله فكيف يقال: إنه مأمور
بذلك؟ أو أشهد ذوي زور؛ فهل يصح أن يقال: إنه مأمور3
بقبولهم وبإشهادهم؟ هذا لا يسوغ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن العربي في "القبس" "3/ 878": فإن أخطأ القاضي
-وهي مسألة عظيمة- فإن ذلك لا يلزمه ضمانًا، ولا يوجب عليه
ملامًا، والأصل في ذلك أن خالد بن الوليد لما أخطأ في بني
جذيمة لم يعلق به النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، اللهم
إلا أنه قال:
"اللهم
إني أبرأ إليك مما صنع خالد".
أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأحكام، باب إذا قضى
الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد، 9/ 91"، ثم قال:
"والمعنى يعضده، فإن القاضي لو نظر بشرط سلامة العاقبة وهو
لا يعول على النص، إنما بنى حكمه على الاجتهاد، لكان ذلك
باطلًا من وجهين، أحدهما أنه يكون تكليف ما لا يطاق،
الثاني أنه يكون تنفيرًا للخلق عن الولاة؛ فتتعطل
الأحكام".
وانظر: "قواعد الأحكام" "1/ 90 و2/ 165"، و"الأصول
والضوابط من التحرير" "ص356-357 و419-420"، و"المبسوط" "9/
64 و25/ 132"، و"بدائع الصنائع" "7/ 16"، و"شرح السير
الكبير" "3/ 869"، و"تبيين الحقائق" "4/ 204-205".
2 أي: فهو مما ظهرت علة تحريمه بنص. "د".
3 يريد: بل هو منهي عن ذلك، ولم لا يقال: إنه مأمور به في
نظر المكلف وفي اجتهاده هو، وهو لا يكلف إلا بهذا القدر لا
أنه مأمور به على التحقيق، ولهذا توجه الأمر الجديد بتلافي
ما أفسده كما سيشير إليه بعد: "وقوله: لا فرق بين أمر
وأمر... إلخ" الفرق ظاهر يقتضيه نفس بناء الأحكام على
المصالح؛ فإن التكليف للفاعل وللحاكم، إنما هو يطيقه ويظنه
صوابًا، فإذا ظهر الخطأ في ظنه؛ فترتب عليه فساد أو ظلم
للغير ورد تكليف جديد بإزالة الظلم، وهذا من لوازم مراعاة
المصالح وبناء الأحكام عليها، فإذا جرينا على أن هذا من
مرتبة العفو أو أنه لا يلزم لله في كل واقعة حكم؛ كان
الأمر أشد وضوحًا. "د".
ج / 4 ص -56-
بناء
على مراعاة المصالح في الأحكام، تفضلًا كما اخترناه، أو
لزومًا كما يقوله المعتزلة، غير أنه معذور في عدم إصابته
كما مر، والأمثلة في ذلك كثيرة.
ولو كان هذا الفاعل1 وهذا الحاكم مأمورًا بما أخطأ فيه، أو
مأذونًا له فيه، لكان الأمر بتلافيه إذا اطلع عليه على
خلاف مقتضى الأدلة؛ إذ لا فرق بين أمر وأمر، وإذن وإذن؛ إذ
الجميع ابتدائي؛ فالتلافي بعد أحدهما دون الآخر شيء لا
يعقل له معنى، وذلك خلاف ما دل عليه اعتبار المصالح.
فإن التزم أحد هذا الرأي، وجرى2 على التعبد المحض، ورشحه
بأن الحرج موضوع في التكاليف وإصابة ما في نفس الأمر حرج3
أو تكليف بما لا4 يستطاع، وإنما يكلف بما يظنه صوابًا، وقد
ظنه كذلك؛ فليكن مأمورًا به أو مأذونًا فيه، والتلافي بعد
ذلك أمر ثان بخطاب جديد؛ فهذا الرأي جار على الظاهر لا على
التفقه في الشريعة، وقد مر له تقرير في فصل الأوامر
والنواهي، ولولا أنها مسألة عرضت5؛ لكان الأولى ترك الكلام
فيها لأنها لا تكاد ينبني عليها فقه معتبر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لو كان كل من الفاعل في الموضع الأول والحاكم في
الموضع الثاني مأمورًا... إلخ. "ف". وفي "ط": "فاعل أو
هذا...".
2 وليس بلازم على ما عرفت، وقد يشكل على كلامه من أن خطأ
الحاكم منهي عنه ما هو متفق عليه من إثابة المجتهد إذا
أخطأ، وأن له أجرًا واحدًا وللمصيب أجرين، وهذا في كل
مجتهد في حكم سواء أكان قاضيًا به أم مفتيًا أم غيرهما؛
فهل يثاب على المنهي عنه؟ وسيأتي له في أول مسألة في كتاب
الاجتهاد أن هذا النوع من الاجتهاد يسمى تحقيق المناط،
وأنه يحتاج إلى بذل الوسع في تقدير قيمة شهادة الشاهد
وعدالته وغير ذلك؛ فكيف يثاب على قضائه الخطأ وهو على رأيه
منهي عنه؟ فشناعة هذا اللازم على ما اختاره لا انفصال له
عنها. "د".
3 وهل هذا إلا اعتبار المصالح؟ فكيف نقول معه جرينا على
التعبد المحض؛ إلا أن يقال: إنه لذلك سماه ترشيحًا لا
دليلًا؟ "د".
4 في "ط": "ما لا".
5 المسائل التي تعرض في طريق المباحث الأصلية كثيرة؛ فلو
تم له هذا لاتسع المجال لذكر ما لا ينبني عليه فقه، وقد
أنكر ذلك في مقدمات الكتاب، وقد علمت أنه ذكر هذه المسألة
بتفصيل أوسع في كتاب الأحكام في مسألة مرتبة العفو؛ فذكرها
هنا لمجرد مناسبتها للتخصيص، وأنها تعد منه أو لا تعد.
"د".
ج / 4 ص -57-
المسألة السادسة:
العموم إذا ثبت؛ فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط،
بل له طريقان:
أحدهما: الصيغ إذا وردت، وهو المشهور في كلام أهل الأصول.
والثاني: استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر
كلي عام؛ فيجرى في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ،
والدليل على صحة هذا الثاني وجوه:
أحدها: أن الاستقراء هكذا شأنه؛ فإنه تصفُّح جزئيات ذلك
المعنى ليثبت من جهتها حكم عام؛ إما قطعي1، وإما ظني2، وهو
أمر مسلم عند أهل العلوم العقلية والنقلية؛ فإذا تم
الاستقراء حكم به مطلقًا في كل فرد يقدر3، وهو معنى العموم
المراد في هذا الموضع.
والثاني: أن التواتر المعنوي هذا معناه؛ فإن وجود حاتم
مثلًا إنما ثبت على الإطلاق من غير تقييد، وعلى العموم من
غير تخصيص، بنقل وقائع خاصة متعددة تفوت الحصر، مختلفة في
الوقوع، متفقة في معنى الجود؛ حتى حصلت للسامع معنى كليًّا
حكم به على حاتم وهو الجود، ولم يكن خصوص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إذا كان تامًّا. "د".
2 إذا كان في غالب الجزئيات فقط. "د".
3 أي: يفرض وإن لم يجئ فيه نص، ولا يخفى عليك أن هذا يكون
من نوع الظني حينئذ. "د".
ج / 4 ص -58-
الوقائع قادحًا في هذه الإفادة، فكذلك إذا فرضنا أن رفع
الحرج في الدين مثلًا مفقود فيه صيغة عموم؛ فإنا نستفيده
من نوازل متعددة خاصة، مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع
الحرج، كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء،
والصلاة قاعدًا عند مشقة القيام1، والقصر والفطر في السفر،
والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر، والنطق بكلمة
الكفر عند مشقة القتل والتأليم، وإباحة الميتة وغيرها عند
خوف2 التلف الذي هو أعظم المشقات، والصلاة إلى أي جهة
كانت3 لعسر استخراج القبلة، والمسح على الجبائر والخفين
لمشقة النزع ولرفع الضرر، والعفو في الصيام عما يعسر
الاحتراز منه من المفطرات كغبار الطريق ونحوه، إلى جزئيات
كثيرة جدًّا يحصل من مجموعها قصد الشارع لرفع الحرج؛ فإنا
نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها، عملًا4 بالاستقراء،
فكأنه عموم لفظي، فإذا ثبت اعتبار التواتر المعنوي؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زاد في "د" هنا: "طلب" القيام، وليست في النسخ الأخرى.
2 المراد بالإباحة: الإذن, وبخوف التلف ما هو أعم من موجب
ألم المسغبة ألمًا شاقًّا، وإلا؛ فالإباحة بمعنى استواء
الطرفين أو ما لا حرج فيه على ما تقدم له، إنما تكون لما
يدفع المشقة الفادحة، لا ما يوجب التلف وإلا كان واجبًا.
"د".
3 في "د": "كان" وفي "ط": "وجهة كانت".
4 جمع بين نتيجة الدليل الأول والثاني كما ترى لاشتباكهما
هنا على ما قرره؛ فإنه جعل الاستقراء طريقًا لإثبات
التواتر المعنوي، وذلك لأن هذه الجزئيات تتضمن الكلي
المراد إثباته، ولتعددها وكثرة تنوعها يفهم منها ثبوت
القدر المشترك، وإنما قال: "ثبت في ضمنه"، ولم يقل: ثبت ما
نحن فيه؛ لأن ما هنا ليس تواترًا معنويًّا بالمعنى
المعروف؛ كجود حاتم؛ لأن ذلك وصف لجزئي هو حاتم، فكل جزئية
من أخبار كرمه تعود على هذا الوصف مباشرة بالإثبات، بخلاف
إثبات العموم أو الكلي باستقراء الجزئيات؛ فليس كل جزئي
مثبتًا لعموم العام مباشرة حتى يتكون من المجموع تواتر
معنوي بالمعنى المعروف، بل ذلك إنما جاء من تضمن تلك
الجزئيات للمعنى العام الكلي؛ فيفهم بسبب تعددها وتنوعها
أن الحكم ليس لخصوصية في الجزئي، هذا توضيح كلامه، نقول:
ومتى تم له هذا أمكن أن يقال في كل استقراء ولم جزئيًّا
أنه تواتر معنوي بهذا المعنى، وقد يقال: إنه ينافي قولهم:
إن الحاصل من التواتر علم جزئي من شأنه أن يحصل بالإحساس
كوجود مكة مثلًا، فلذا لا يقع في العموم بالذات، لأن
مسائلها كليات، ونحن نثبت به هنا كليًّا وعامًّا؛ فتأمل.
"د".
ج / 4 ص -59-
ثبت في
ضمنه ما نحن فيه.
والثالث: أن قاعدة سد الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على
هذا المعنى كعملهم في ترك الأضحية1 مع القدرة عليها،
وكإتمام2 عثمان الصلاة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/
381/ رقم8139"، وابن أبي خيثمة في "تاريخه"، وابن أبي
الدنيا في "الضحايا" -كما في "التلخيص الحبير" "4/ 145"،
والطبراني في "الكبير", كما في "مجمع الزوائد" "4/ 18"،
والبيهقي في "الكبرى" "9/ 295" و"الخلافيات" "3/ ق 279",
وابن حزم في "المحلى" "7/ 19، 358" بسند صحيح عن أبي سريحة
الغفاري؛ قال: "ما أدركت أبا بكر، أو رأيت أبا بكر وعمر
-رضي الله عنهما- كنا لا يضحيان -في بعض حديثهم- كراهية أن
يقتدى بهما".
قال البيهقي: "أبو سريحة الغفاري هو حذيفة بن أسيد صاحب
رسول الله, صلى الله عليه وسلم" وروى عن أبي مسعود
الأنصاري -رضي الله عنه- قال: "إني لأدع الأضحى، وإني
لموسر مخافة أن يرى جيراني أنه حتم عليّ"، وإسناده صحيح
أيضًا، وانظر: "إرواء الغليل" "4/ 354-355/ رقم 1139".
2 إتمام عثمان -رضي الله عنه- ثابت في "صحيح البخاري"
"كتاب تقصير الصلاة، باب الصلاة بمنى، 2/ 563/ رقم 1082،
1084، وباب يقصر إذا خرج من موضعه، 2/ 569/ رقم 1090،
وكتاب الحج، باب الصلاة بمنى، 3/ 509/ رقم 1657"، و"صحيح
مسلم" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب قصر الصلاة بمنى،
1/ 482/ رقم 694-695", و"سنن أبي داود", "كتاب المناسك,
باب الصلاة بمنى 2/ 199/ رقم 1960"، و"المجتبى" للنسائي
"كتاب تقصير الصلاة، باب الصلاة بمنى، 3/ 120"، و"مسند
أحمد" "1/ 416، 425، 464"، و"مسند الطيالسي" "رقم 1091"،
و"مسند أبي عوانة" "2/ 340", و"مسند أبي يعلى", "9/ 123,
255-256/ رقم 5194, 5377", و"سنن الدارمي", "2/ 55"، و"شرح
معاني الآثار" للطحاوي "1/ 416"، و"المعجم الكبير" "1/
268"، للطبراني، وسيأتي تصريح المصنف "ص102" بسبب إتمام
عثمان, رضي الله عنه.
ج / 4 ص -60-
في حجه
بالناس، وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد
الذريعة، إلى غير ذلك من أفرادها التي عملوا بها، مع أن
المنصوص فيها إنما هي أمور خاصة؛ كقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104].
وقوله:
{وَلا
تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
وفي الحديث:
"مِن أكبر
الكبائر أن يسب الرجل والديه"1
وأشباه ذلك.
وهي أمور خاصة لا تتلاقى مع ما حكموا به إلا في معنى سد
الذريعة، وهو دليل على ما ذكر من غير إشكال.
فإن قيل: اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية غير
بيِّن، من أوجه:
أحدها: أن ذلك إنما يمكن في العقليات لا في الشرعيات؛ لأن
المعاني العقلية بسائط لا تقبل2 التركيب، ومتفقة لا تقبل
الاختلاف؛ فيحكم العقل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل
والديه، 10/ 403/ رقم 5973"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، 1/ 92/ رقم 90"
وغيرهما، وتتمته: "وهل يسب الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب
أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه".
2 أي: بحيث لا تزيد الماهيات ولا تنقص؛ فيجب أن تكون
الجزئيات فيها متفقة الأحكام؛ فالمثلان هما المشتركان في
جميع الصفات النفسية التي لا تحتاج في وصف الشيء بها إلى
أمر زائد عليها كالإنسانية والحقيقة والشيئية للإنسان،
وتقابلها الصفات المعنوية، وهي التي تحتاج في الوصف بها
إلى تعقل أمر زائد على ذات الموصوف؛ كالتحيز والحدوث
للجسم، ويلزم في كل مثلين اشتراكهما فيما يجب ويمكن
ويمتنع؛ فكل ما يحكم به على أحدهما يحكم به على الآخر في
كل ما يرجع إلى مقتضى التماثل، أما ما يخرج عن ذلك من كل
ما كان تابعًا للوجود الخارجي الزائد عن الحقيقة؛ فاختلاف
المتماثلين فيه جائز؛ فيحكم على زيد بأنه طويل وجاهل، وعلى
عمرو بأنه قصير وعالم مثلًا، وهكذا، وهو ما يشير إليه
بقوله في الثاني: "إن الخصوصيات تستلزم من حيث الخصوص
معنى زائدًا، وإذ ذاك... إلخ"؛ فهذا جار في العقليات
باعتبار الوجود الخارجي الذي فيه المعاني الخاصة. "د".
ج / 4 ص -61-
فيها
على الشيء بحكم مثله شاهدًا وغائبًا؛ لأن فرض خلافه محال
عنده، بخلاف الوضعيات؛ فإنها لم توضع وضع النقليات، وإلا
كانت هي [هي]1 بعينها؛ فلا تكون وضعية، هذا خلف، وإذا لم
توضع وضعها، وإنما وضعت على وفق الاختيار الذي يصح معه
التفرقة بين الشيء ومثله، والجمع بين الشيء وضده ونقيضه؛
لم يصح مع ذلك أن يقتنص فيها معنى كلي عام من معنى جزئي
خاص.
والثاني: أن الخصوصيات تستلزم من حيث الخصوص معنى زائدًا
على ذلك المعنى العام، أو معاني كثيرة، وهذا واضح2 في
المعقول؛ لأن ما به الاشتراك غير ما به الامتياز، وإذ ذاك
لا يتعين تعلق الحكم الشرعي في ذلك الخاص بمجرد الأمر
العام3 دون التعلق بالخاص على الانفراد، أو بهما معًا؛ فلا
يتعين متعلق الحكم، وإذا لم يتعين؛ لم يصح نظم المعنى
الكلي من تلك الجزئيات إلا عند فرض العلم بأن الحكم لم
يتعلق إلا بالمعنى المشترك العام دون غيره، وذلك لا يكون
إلا بدليل، وعند وجود ذلك الدليل لا يتبقى4 تعلق بتلك
الجزئيات في استفادة معنى عام؛ للاستغناء بعموم صيغة ذلك
الدليل عن هذا العناء الطويل.
والثالث5: أن التخصيصات6 في الشريعة كثيرة؛ فيخص محل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 في "ط": "أوضح".
3 أي: المعنى المشترك. "د".
4 في الأصل و"ط": "يبقى".
5 هذا الثالث ليس وجهًا مستقلًّا عن الوجهين قبله، بل هو
تفصيل وإيضاح لقوله في الأول: "وإنما وضعت على وفق
الاختيار الذي يصح معه.. إلخ"، فإن قيل: إن ما تقدم في
تجويز ذلك وهذا في وقوع ذلك بالفعل في هذه الأمثلة، قلنا:
نعم، ولكنه لم يأت بمعنى جديد، ويمكنه أن يصله بالأول على
طريق ضرب الأمثلة له، وقد يقال: إنه فصله وجعله مستقلًّا
لأن جوابه غير جواب الأول؛ كما أشار إليه المؤلف، وإن كان
بينهما هذا الاتصال الذي أشرنا إليه. "د".
6 في "إعلام الموقعين" "المجلد الثاني إلى ص 130" أجوبة
سديدة عن أكثر ما ذكره هنا، وأثبت فيه بما لا مزيد عليه
أنه لم يثبت شيء في الشريعة على خلاف القياس.
ج / 4 ص -62-
بحكم،
ويخص مثله بحكم آخر، وكذلك يجمع بين المختلفات في حكم
واحد.
ولذلك أمثلة كثيرة؛ كجعل التراب طهورًا كالماء، وليس
بمطهر1 كالماء، بل هو بخلافه، وإيجاب الغسل من خروج المني
دون المذي والبول وغيرهما، وسقوط الصلاة والصوم عن الحائض
ثم قضاء الصوم دون الصلاة، وتحصين الحرة لزوجها ولم تحصن
الأمة سيدها، والمعنى واحد، ومنع النظر إلى محاسن الحرة
دون محاسن الأمة، وقطع السارق دون الغاصب والجاحد
والمختلس، والجلد بقذف الزنى دون غيره، وقبول شاهدين في كل
حد ما سوى الزنى، والجلد بقذف الحر دون قذف العبد،
والتفرقة بين عدتي الوفاة والطلاق، وحالُ الرحم لا يختلف
فيهما، واستبراء الحرة بثلاث حيض، والأمة بواحدة،
وكالتسوية في الحد بين القذف وشرب الخمر وبين الزنى2
والمعفو عنه في دم العمد، وبين المرتد والقاتل، وفي
الكفارة بين الظهار والقتل وإفساد الصوم3، وبين قتل المحرم
الصيد عمدًا أو خطأ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بمزيل للنجاسات وآثارها كالماء، ومع ذلك جعل مثله في
رفع الحديث. "د".
2 فلم يقبل العفو في الزنى، لا من الزوج ولا من أهل
المرأة، بخلاف قتل العمد إذا عفا عنه الأولياء؛ فيقبل،
ولعل هذا مؤخر من تقديم، ومحله قبل قوله: "وكالتسوية" لأن
سائر ما قبله فرق فيها بين المتماثلات، وسائر ما بعده جمع
فيه بين المختلفات، وهذا على ما قررنا من الأول. "د".
3 بجماع فيه إيلاجٌ.
ج / 4 ص -63-
وأيضًا؛ فإن الرجل والمرأة مستويان في أصل التكليف على
الجملة، ومفترقان بالتكليف1 اللائق بكل واحد منهما؛
كالحيض، والنفاس، والعدة، وأشباهها بالنسبة إلى المرأة،
والاختصاصُ في مثل هذا لا إشكال فيه.
وأما الأول2؛ فقد وقع الاختصاص فيه في كثير من المواضع؛
كالجمعة3، والجهاد، والإمامة ولو في النساء4، وفي الخارج
النجس من الكبير والصغير؛ ففرق بين بول الصبي والصبية، إلى
غير ذلك من المسائل، مع فقد الفارق في القسم المشترك، ومثل
ذلك العبد؛ فإن له اختصاصات في القسم المشترك5 أيضًا، وإذا
ثبت هذا؛ لم يصح القطع بأخذ عموم من وقائع مختصة.
فالجواب عن الأول أنه يمكن في الشرعيات إمكانه في
العقليات، والدليل على ذلك قطع السلف الصالح به في مسائل
كثيرة، كما تقدم التنبيه عليه، فإذا وقع مثله؛ فهو واضح في
أن الوضع الاختياري الشرعي مماثل6 للعقلي الاضطراري؛ لأنهم
لم يعملوا به حتى فهموه من قصد الشارع.
وعن الثاني أنهم لم ينظموا المعنى العام من القضايا الخاصة
حتى علموا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "في التكليف".
2 وهو القسم المشترك. "د".
3 يعني: وهذه الأمور لائقة بكل منهما، ووقع فيها الاختصاص
والتفرقة وكان يجدر بها التسوية؛ فهي مما فرق فيه الحكم
كالقسم الأول، ولكنه نوع آخر جعل فيه محل الفرق أصناف
الإنسان، وقد كان النظر سابقًا إلى جعل محل الفرق نفس
الأفعال، بقطع النظر عن الذكورة والأنوثة مثلًا، فلذا فصله
عن نوعي الأمثلة السابقين؛ فقال: "وأيضًا... إلخ". "د".
4 في "ط": "ولو للنساء".
5 كفرضية الجمعة مثلًا. "د".
6 ويبقى قوله: "لم توضع وضع العقليات، وإلا كانت هي هي
بعينها"، ولما كانت هذه مجرد دعوى لا يقوم عليها دليل؛ لم
يلتفت إليها في الجواب، فإن مجرد شبه شيء بآخر في أمر من
الأمور لا يجعلهما من باب واحد؛ إن عقليًّا فعقلي، وإن
شرعيًّا فشرعي. "د".
ج / 4 ص -64-
أن
الخصوصيات وما به الامتياز غير1 معتبرة، وكذلك الحكم فيمن
بعدهم ولو كانت الخصوصيات معتبرة بإطلاق لما صح اعتبار
القياس ولارتفع من الأدلة رأسًا، وذلك باطل؛ فما أدى إليه
مثله.
وعن الثالث أنه الإشكال المورد2 على القول بالقياس؛ فالذي
أجاب به الأصوليون هو الجواب هنا.
فصل:
ولهذه المسألة فوائد تنبني عليها، أصلية وفرعية، وذلك أنها
إذا تقررت عند المجتهد، ثم استقرى معنى عامًّا من أدلة
خاصة، واطرد له ذلك المعنى؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويبقى قوله: "وعند وجود ذلك الدليل لا يبقى تعلق بتلك
الجزئيات في استفادة معنى عام للاستغناء عنها بعموم صيغة
الدليل"، ولم يلتفت إليه في الجواب؛ لأنه لا يلزم للعلم
بأن هذه الخصوصيات غير معتبرة أن يكون ذلك مأخوذًا من دليل
لفظي بصيغة فيها العموم، بل قد يكون بالاستقراء المشار
إليه سابقًا، وهو مكون من جزئيات ليس فيها لفظ عام. "د".
2 وحاصله أن المنكرين للقياس قالوا: كيف يتصرف بالقياس في
شرع مبناه على التحكم والتعبد والفرق بين المتماثلات
والجمع بين المفترقات، وذكروا لذلك أمثلة كما هنا، ثم
قالوا: وكيف يتجاسر في شرع هذا منهاجه على إلحاق المسكوت
بالمنطوق؟ وما من نص على محل إلا ويمكن أن يكو ذلك تحكمًا
وتعبدًا.
والجواب: بالمنع وأن الأحكام الشرعية ثلاثة أقسام: قسم لا
يعلل أصلًا، وقسم يعلم كونه معللًا، كالحجر على الصبي؛
فإنه لضعف عقله، وقسم يتردد فيه.
ونحن لا نقيس ما لم يقم دليل على كون الحكم معللًا، ودليل
على عين العلة المستنبطة، ودليل على وجود العلة في الفرع،
وما عدا ذلك لا يقاس فيه، والجواب هنا كذلك.
فإن اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية والقطع بأخذ
عموماتها من وقائع مختصة إنما هو فيما عدا ما وجد من فارق
من الجزئيات، وعلم بالقرائن بناء على حكمه عليه؛ وهذا
بظاهره مستثنى من العام وفي الحقيقة ليس من جزئياته؛
فتدبر. ا. هـ. "ف".
ج / 4 ص -65-
لم
يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تعن1، بل يحكم
عليها وإن كانت خاصة بالدخول تحت عموم المعنى المستقرى من
غير اعتبار بقياس أو غيره؛ إذ صار ما استقرئ من عموم
المعنى كالمنصوص بصيغة عامة؛ فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة
خاصة بمطلوبه.
ومن فهم هذا هان عليه الجواب عن إشكال القرافي2 الذي أورده
على أهل مذهب مالك، حيث استدلوا في سد الذرائع على
الشافعية بقوله تعالى:
{وَلا تَسُبُّوا}
[الأنعام: 108].
وقوله:
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي
السَّبْتِ} [البقرة: 65].
وبحديث:
"لعن الله
اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها"3 إلخ.
وقوله:
"لا تجوز شهادة
خصم ولا ظنين"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: تعرض. "ف".
2 في كتابه "الفروق" "3/ 266، الفرق الرابع والتسعون
والمائة".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب البيوع، باب بيع الميتة
والأصنام، 4/ 424/ رقم 2236"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام،
3/ 1027/ رقم 1581"، عن جابر بن عبد الله, رضي الله عنه.
4 أخرجه أبو داود في "المراسيل" "رقم 396", وأبو عبيد في
"الغريب" "2/ 155" بسند رجاله ثقات إلى طلحة بن عبد الله
بن عوف عن النبي, صلى الله عليه وسلم: "لا شهادة لخصم ولا
ظنين"، ولفظ أبي عبيد ما أورده المصنف وهو مرسل؛ فهو ضعيف.
ويشهد له ما أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 181، 204، 208،
225". وأبو داود في "السنن" "4/ 24/ رقم 2600"، وابن ماجه
في "السنن" "2/ 792/ رقم 2366"، وعبد الرزاق في "المصنف"
"رقم 15364"، والدارقطني في "السنن" "4/ 243"، وابن جميع
في "معجم الشيوخ" "ص108"، وابن مردويه في "ثلاثة مجالس من
أماليه" "رقم 28"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 155" من طرق
عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا:
"لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر =
ج / 4 ص -66-
قال:
"فهذه وجوه كثيرة يستدلون بها وهي لا تفيد؛ فإنها تدل على
اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة، وهذا مجمع عليه، وإنما
النزاع في ذرائع خاصة، وهي بيوع الآجال ونحوها؛ فينبغي أن
تذكر أدلة خاصة بمحل النزاع، وإلا؛ فهذه لا تفيد".
قال: وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها؛
فينبغي أن تكون حجتهم القياس خاصة، ويتعين عليهم حينئذ
إبداء الجامع حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق، ويكون دليلهم
شيئًا واحدًا وهو القياس، وهم لا يعتقدون ذلك، بل يعتقدون
أن مدركهم النصوص، وليس كذلك، بل ينبغي أن يذكروا نصوصًا
خاصة بذرائع بيوع الآجال خاصة ويقتصرون عليها؛ كحديث1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
على أخيه، ولا موقوف على
حد"، وبعضها طرفه حسنة، وقواه ابن حجر في "التلخيص الحبير"، وفي الباب
عن أبي هريرة عند البيهقي في "الكبرى" "10/ 201"، وبعضهم
أرسله كما في "الغيلانيات" "رقم 599"، وعن عائشة كما عند
أبي عبيد، ومن طريقه البغوي في "التفسير" "1/ 410, ط دار
الفكر"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "18/ ق 282-283"، و"ذو
الغمرة" الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة؛ فرد
شهادته للتهمة، فهو بمعنى "خصم" في الحديث الذي أورده
المصنف، و"القانع" الخادم والتابع، والمنقطع إلى القوم
لخدمتهم، ويكون في حوائجهم، كالأجير والوكيل ونحوه، ومعنى
رد هذه الشهادة التهمة في جر النفع إلى نفسه لأن التابع
لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع، وكل من جر إلى
نفسه بشهادته نفعًا؛ فهي مردودة، وهذا يشهد لكلمة "ظنين"
في الحديث السابق.
1 أخرج عبد الرزاق في "المصنف" "8/ 184-185/ رقم 4812،
4813"، وأحمد في "المسند"، وسعيد بن منصور, كما في "نصب
الراية" "4/ 16"، والدارقطني في "السنن" "2/ 52"، والبيهقي
في "الكبرى" "5/ 330-331" عن معمر والثوري عن أبي إسحاق عن
امرأته أنها دخلت على عائشة في نسوة؛ فسألتها؛ فقالت: "يا
أم المؤمنين, كانت لي جارية، فبعتها من زيد بن أرقم
بثمانمائة إلى أجل، ثم اشتريتها منه بستمائة؛ فنقدته
الستمائة؛ وكتبت عليه ثمانمائة. فقالت عائشة: بئس والله ما
اشتريت، وبئس والله ما بعت، أخبري زيد بن أرقم أنه قد =
ج / 4 ص -67-
أم ولد زيد بن أرقم".
هذا ما قال في إيراد هذا الإشكال.
وهو غير وارد على ما تقدم بيانه؛ لأن الذرائع قد ثبت سدها
في خصوصات كثيرة بحيث أعطت في الشريعة معنى السد مطلقًا
عامًّا، وخلاف الشافعي هنا غير قادح في أصل المسألة، ولا
خلاف أبي حنيفة.
أما الشافعي؛ فالظن به أنه تم له الاستقراء في سد الذرائع
على العموم، ويدل عليه قوله بترك الأضحية إعلامًا بعدم
وجوبها، وليس في ذلك دليل صريح من كتاب أو سنة، وإنما فيه
عمل جملة من الصحابة، وذلك عند الشافعي ليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أبطل جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن
يتوب".
وفي رواية البيهقي: "إن التي باعت الجارية من زيد بن أرقم
هي أم محبة، وهي امرأة أبي السفر، وزوجة أبي إسحاق هي
العالية بنت أبضع؛ كما عند الدارقطني".
وضعفه الدارقطني بقوله: "أم محبة والعالية مجهولتان لا
يحتج بهما"، وكذا ابن حزم في "المحلى" "9/ 60"، وأما محبة
لا وجود لها في الإسناد، وإنما هي التي باعت الجارية، وهذا
ظاهر في رواية الدارقطني خاصة، أما إعلاله بالعالية فمتعقب
بما قاله ابن الجوزي في "التحقيق", كما في "نصب الراية"
"4/ 16": "قالوا: العالية مجهولة لا يقبل خبرها. قلنا: بل
هي امرأة معروفة جليلة القدر، ذكرها ابن سعد في "الطبقات"
"8/ 487"؛ فقال: العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي
إسحاق السبيعي، سمعت عائشة"، وقال ابن التركماني في
"الجوهر النقي" "5/ 330": "العالية معروفة، روى عنها زوجها
وابنها، وهما إمامان، وذكرها ابن حبان في "الثقات" من
التابعين، وذهب إلى حديثها هذا الثوري والأوزاعي وأبو
حنيفة وأصحابه ومالك وابن حنبل والحسن بن صالح"؛ فإسناد
هذا الأثر حسن إن شاء الله تعالى، وجوده محمد بن عبد
الهادي.
وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 259-260"، و"إعلام
الموقعين" "3/ 216"، وصححاه.
ج / 4 ص -68-
بحجة1،
لكن عارضه في مسألة بيوع الآجال [دليل آخر راجح2 على غيره
فأعمله؛ فترك سد الذريعة لأجله، وإذا تركه لمعارض راجح]3؛
لم يعد مخالفًا [في أصله]4.
وأما أبو حنيفة، فإن ثبت عنه جواز إعمال الحيل؛ لم يكن من
أصله في بيوع الآجال إلا الجواز، ولا يلزم من ذلك تركه
لأصل سد الذرائع، وهذا واضح؛ إلا أنه نقل عنه موافقة مالك
في سد الذرائع فيها، وإن خالفه في بعض التفاصيل، وإذا كان
كذلك؛ فلا إشكال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فهذا دليل على أنه أخذ فيه بسد الذرائع. "د".
قلت: انظر -لزامًا- ما سيأتي في التعليق على "458" من
تحرير لمذهب الشافعي في حجية قول الصحابي، ومنه تعلم ما في
قول المصنف هنا، والله الموفق.
2 هكذا في الأصل فقط، وفي النسخ المطبوعة: "رجح".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "ط".
4 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط"، وسقط من النسخ
المطبوعة.
ج / 4 ص -69-
المسألة السابعة:
العمومات إذا اتحد معناها، وانتشرت في أبواب1 الشريعة، أو
تكررت في مواطن بحسب الحاجة من غير تخصيص؛ فهي مجراة2 على
عمومها على كل حال وإن قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل.
والدليل على ذلك الاستقراء؛ فإن الشريعة قررت أن لا حرج
علينا في الدين في مواضع كثيرة، ولم تستثن منه موضعًا ولا
حالًا؛ فعده علماء الملة أصلًا مطردًا وعمومًا مرجوعًا
إليه من غير استثناء3، ولا طلب مخصص4، ولا احتشام من إلزام
الحكم به، ولا توقف في مقتضاه، وليس ذلك إلا لما فهموا
بالتكرار والتأكيد من القصد إلى التعميم التام.
وأيضًا قررت أن
{لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
[الأنعام: 164]؛ فأعملت العلماء المعنى في مجاري عمومه،
وردوا ما خالفه5 من أفراد الأدلة بالتأويل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من مثل العبادات والمعاملات والأنكحة؛ فهو غير التكرر
الذي بعده الصادق بالتكرر ولو في باب من هذه الأبواب. "د".
2 أي: بدون توقف ولا بحث عن وجود معارض، هذا هو الغرض الذي
ترمي إليه المسألة كما سيشير إليه قبيل الفصل وفيه أيضًا.
"د". وفي "ط": "فهو مجراة...".
3 وعليه؛ فقولهم: "ما من عام إلا وخصص" يخرج منه هذا
أيضًا، كما أخرجوا منه:
{وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} على
رأي الأصوليين، ولا يقال: إن المشاق والحرج الذي يعتري
أرباب الحرف والصناعات لم يرفعه الشارع ويبن عليه الفطر في
الصوم والقطر في السفر مثلًا؛ لأنا نقول: تقدم له أن ذلك
من المشاق المعتادة التي لا تبنى عليها الأحكام المذكورة.
"د".
4 في الأصل: "مخصوص".
5 من مثل ضرب الدية على العاقلة، وما قيل في هذه الآية
يقال مثله في آية:
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} مع ما خالفها من أفراد الأدلة كالصوم والحج عن الميت الواردين في
الأحاديث، وتقدم الكلام فيها في مبحث النيابة في الأعمال
والعبادات. "د".
ج / 4 ص -70-
وغيره،
وبينت بالتكرار أن
"لا ضرر ولا ضرار"1؛ فأبى أهل العلم من تخصيصه، وحملوه2 على عمومه، وأن "من سن سنة
حسنة [أو سيئة]؛ كان [له] ممن اقتدى به حظ إن حسنًا وإن
سيئًا"3 وأن "من مات مسلمًا دخل الجنة، ومن مات كافرًا دخل
النار"4.
وعلى الجملة؛ فكل أصل تكرر تقريره وتأكد أمره وفهم ذلك من
مجاري الكلام فهو مأخوذ على حسب عمومه وأكثر الأصول5
تكرارًا الأصول المكية؛ كالأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي
القربى، والنهي عن الفحشاء والمنكر، والبغي، وأشباه ذلك.
فأما إن لم يكن العموم مكررًا ولا مؤكدًا ولا منتشرًا في
أبواب الفقه؛ فالتمسك بمجرده فيه نظر؛ فلا بد من البحث عما
يعارضه أو يخصصه؛ وإنما حصلت التفرقة بين الصنفين؛ لأن ما
حصل فيه التكرار والتأكيد والانتشار صار ظاهره باحتفاف
القرائن به إلى منزلة النص القاطع الذي لا احتمال فيه،
بخلاف ما لم يكن كذلك فإنه معرض لاحتمالات؛ فيجب التوقف في
القطع بمقتضاه حتى يعرض على غيره ويبحث عن وجود معارض فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 72"، وهو صحيح بشواهده.
2 في "ط": "وعملوا".
3 أخرجه بنحوه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الحث
على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من
النار، 2/ 704-705/ رقم 1017" من حديث جرير -رضي الله عنه-
وتقدم نصه وتخريجه "1/ 222"، وما بين المعقوفتين سقط من
"ط".
4 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الجنائز، باب في الجنائز
ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، 3/ 109/ رقم 1238"،
ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله
شيئًا دخل الجنة ومن مات مشركًا دخل النار، 1/ 94/ رقم
150" عن ابن مسعود مرفوعًا:
"من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار"، قال: "وقلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة".
وأخرج مسلم في "صحيحه" "رقم 151"، عن جابر مرفوعًا:
"من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل
النار".
5 في "ط": "وأكثر الأول".
ج / 4 ص -71-
فصل:
وعلى هذا ينبني القول في العمل بالعموم، وهل يصح من غير
[بحث عن]1 المخصص، أم لا؟ فإنه إذا عرض على هذا التقسيم؛
أفاد أن القسم الأول غير محتاج فيه إلى بحث؛ إذ لا يصح
تخصيصه إلا حيث تخصص القواعد2 بعضها بعضًا.
فإن قيل: قد حكى الإجماع في أنه يمنع3 العمل بالعموم حتى
يبحث هل له مخصص، أم لا؟ وكذلك دليل مع معارضه؛ فكيف يصح
القول بالتفصيل؟
فالجواب: أن الإجماع إن صح4؛ فمحمول على غير القسم المتقدم
جمعًا بين الأدلة.
وأيضًا5؛ فالبحث يبرز أن ما كان من العمومات على تلك
الصفة؛ فغير مخصص، بل هو على عمومه، فيحصل من ذلك بعد بحث
المتقدم ما يحصل للمتأخر دون بحث6 بناء على ما ثبت من
الاستقراء، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط"، ولكن في "ط":
"بحث على"، وسقط من النسخ المطبوعة.
2 كما هو الحال بين الإجماع المحكي بعد وبين هذه القاعدة
الخاصة بالقسم الأول "د".
3 في "ط": "يمتنع".
4 إشارة إلى مخالفة الصيرفي فيه، قال إمام الحرمين: "وهذا
ليس معدودًا من العقلاء، وإنما هو قول صدر عن غباوة
وعناد". "د".
5 ليست في "م".
6 أي: فيكون البحث عبثًا. "د". وسقطت "دون بحث" من "ط". |