الموافقات ج / 4 ص -73-
الفصل الخامس: في البيان والإجمال1
ويتعلق به مسائل
المسألة الأولى:
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان مبينًا بقوله وفعله
وإقراره؛ لما كان مكلفًا بذلك في قوله تعالى:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ
مَا نُزِّلَ2
إِلَيْهِم} [النحل: 44].
فكان يبين بقوله عليه الصلاة والسلام؛ كما قال في حديث
الطلاق:
"فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الآمدي [في "الإحكام" "3/ 11"]: "والحق أن المجمل هو
ما له دلالة على أحد أمرين، لا مزية لأحدهما على الآخر
بالنسبة إليه"، وذكر من أسبابه سبعة أمور؛ منها: أن يكون
في لفظ مشترك كالعين للذهب والشمس، والقرء للطهر والحيض،
وقد يكون بسبب الابتداء والوقف؛ كما في آية
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، وقد يكون في الأفعال أيضًا. "د".
قلت: وانظر لزامًا ما قدمناه في التعليق على "3/ 324" حول
الوقف والابتداء في الآية.
2 أي: من القرآن والسنة. "د".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 294-296 و19/
155-174".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب قول الله
تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِي
إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء....}،
9/ 345-346/ رقم 2151"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطلاق،
باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها...2/ 1093/ رقم 1471" عن
ابن عمر, رضي الله عنهما.
ج / 4 ص -74-
وقال
لعائشة حين سألته عن قول الله تعالى:
{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}
[الانشقاق: 8]:
"إنما ذلك
العرض"1.
وقال لمن سأله عن قوله
"آية المنافق ثلاث"2: "إنما عنيت بذلك كذا وكذا"3.
وهو لا يحصى كثرة.
وكان أيضًا يبين بفعله4:
"ألا أخبرته5 أني أفعل
ذلك"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير،
باب
{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}، 8/ 697/ رقم 4939"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الجنة وصفة نعيمها
وأهلها، 4/ 2204/ رقم 2876"، عن عائشة, رضي الله عنها.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان, باب علامة
المنافق, 1/ 89/ رقم 23" ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان،
باب بيان خصال المنافق، 1/ 78/ رقم 59" عن أبي هريرة
مرفوعًا.
3 مضى تخريجه "2/ 282، 3/ 402".
4 ومنه أيضًا شربه قدح لبن وهو على بعيره بعرفة يوم عرفة،
بيانًا لعدم مشروعية الصوم في عرفة يومها، ومضى تخريجه.
5 في "ط": "أخبرتيه".
6 قطعة من حديث أخرجه مالك في "المؤطأ" "1/ 291-292" عن
عطاء بن يسار مرسلًا مطولًا، فيه ذكر جواز التقبيل للصائم،
قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "10/ 54-55": "هذا الحديث
مرسل عند جميع رواة "الموطأ" عن مالك"، قال: "والمعنى أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقبل وهو صائم صحيح من
حديث عائشة وحديث أم سلمة وحفصة".
قلت: وبعضها في "الصحيحين"، ورواه الشافعي في "الرسالة"
"رقم 1109" من طريق مالك، وقال: "وقد سمعت من يصل هذا
الحديث، ولا يحضرني ذكر من وصله". =
ج / 4 ص -75-
وقال
الله تعالى:
{زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا1
يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ}
الآية [الأحزاب: 50].
وبين لهم كيفية الصلاة والحج بفعله، وقال عند ذلك: "صَلوا كما رأيتموني أصلي"2،
"وخذوا
عني مناسككم"3.
إلى غير ذلك.
وكان إقراره بيانًا أيضًا، إذا علم بالفعل ولم ينكره مع
القدرة على إنكاره لو كان باطلًا أو حرامًا، حسبما قرره
الأصوليون في مسألة مجزز المدلجي وغيره4، وهذا كله مبين في
الأصول، ولكن نصير منه إلى معنى آخر، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال الزرقاني في "شرح الموطأ" "2/ 92": "وصله عبد
الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء عن رجل من الأنصار".
قلت: أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 184/ رقم 184", ومن
طريقه أحمد في "المسند" "5/ 434"، وابن حزم في "المحلى"
"6/ 207", وليس فيه اللفظ المذكور.
ويغني عنه ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب
بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته،
2/ 779/ رقم 1108" بسنده إلى عمر بن أبي سلمة، أنه سأل
رسول الله, صلى الله عليه وسلم: أيقبل الصائم؟ فقال له
رسول الله, صلى الله عليه وسلم:
"سل هذه, لأم سلمة".
فأخبرته أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع ذلك.
وانظر: "ص94، 117" مع التعليق عليه.
وقال "ف" وتبعه "م": "ألا: أداة تنبيه، أي: كما في قوله:
ألا أخبرته".
1 وفيه البيان بالقول أيضًا. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب الأذان
للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، 2/ 111/ رقم 631" عن
مالك بن الحويرث, رضي الله عنه.
3 مضى تخريجه "3/ 246"، وهو في "صحيح مسلم" "رقم 1297"
وغيره.
4 يشير إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الفرائض،
باب القائف، 12/ 56/ رقم 6770، 6771"، ومسلم في "صحيحه"
"كتاب الرضاع، باب العمل بإلحاق القافة بالولد، =
ج / 4 ص -76-
المسألة الثانية:
وذلك أن العالم وارث النبي؛ فالبيان في حقه لا بد منه من
حيث هو عالم، والدليل على ذلك أمران:
أحدهما:
ما ثبت من كون العلماء ورثة1 الأنبياء2، وهو معنى صحيح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 2/ 1081/ رقم 1459" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل عليّ مسرورًا، تبرق
أسراير وجهه؛ فقال:
"ألم تر أن مجزرًا نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد؟" فقال: إن
بعض هذه الأقدام لمن بعض.
وقال "ف": "مجزز: رجل من بني مدلج مشهور بالقيافة، ومسألته
أن المنافقين لما أنكروا نسب زيد لأسامة قال وقد رأى
أقدامهما: هذه الأقدام بعضها من بعض. فاستبشر النبي -صلى
الله عليه وسلم- بذلك، ومنه أخذ الشافعية إثبات النسب
بالقيافة؛ لأن الاستبشار تقرير ولم يعتبره الحنفية دليلًا
في الحادثة" اهـ، ونحوه عند "م".
وأضاف "د": "والحنفية قالوا: إن بشره -صلى الله عليه وسلم-
إنما كان بقيام الحجة على المنافقين بناء على اعتقادهم في
صحة القيافة، وترقبه -صلى الله عليه وسلم- أن يكفوا بسبب
ذلك عن الطعن في نسب أسامة، لا أن هذا منه تقرير لصحة
الأخذ بالقيافة في الأنساب".
قلت: انظر "الطرق الحكمية" "ص8/ 246-271"، و"بدائع
الفوائد" "3/ 130"، و"زاد المعاد" "5/ 418"، و"الذخيرة"
"10/ 241, ط دار الغرب" للقرافي.
1 أي: في وظيفة النبوة معنى، وقوله: "في الإتيان بها"؛ أي:
في تبليغها، وهذه الجملة بمعنى قوله في نهاية الدليل
الثاني: "والبيان يشمل البيان الابتدائي... إلخ". "د".
2 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب العلم، باب الحث على طلب
العلم، 3/ 317/ رقم 3641"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة,
باب فضل العلماء والحث على طلب العلم, 1/ 81/ رقم 223"
وأحمد في "المسند" "5/ 196"، والدارمي في "السنن" "1/ 98"،
والطحاوي في "المشكل" "1/ 429"، وابن حبان في "صحيحه" "رقم
88, الإحسان"، والبزار في "المسند" "رقم 136, زوائده"،
والبغوي في "شرح السنة" "1/ 275-276/ رقم 129"، والبيهقي
في "الآداب" "رقم 1188"، والخطيب في "الرحلة" "77-78"،
وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 169، 170، 171، 172"، عن
أبي الدرداء مرفوعًا:
"من سلك طريقًا يطلب فيه =
ج / 4 ص -77-
ثابت،
ويلزم من كونه وارثًا قيامه مقام موروثه في البيان، وإذا
كان البيان فرضًا على الموروث لزم أن يكون فرضًا على
الوارث أيضًا، ولا فرق في البيان بين1 ما هو مشكل أو مجمل
من الأدلة، وبين أصول الأدلة في الإتيان بها؛ فأصل التبليغ
بيان لحكم الشريعة، وبيان المبلغ مثله بعد التبليغ.
والثاني:
ما جاء من الأدلة على ذلك بالنسبة إلى العلماء، فقد قال2:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ
وَالْهُدَى} الآية
[البقرة: 159].
{وَلا
تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42].
{وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140].
والآيات كثيرة.
وفي الحديث:
"ألا ليبلغ
الشاهد منكم الغائب"3.
وقال:
"لا حسد إلا في
اثنتين: رجل آتاه الله مالًا؛ فسلطه على هلكته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
علمًا..". وفيه:
"إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا
ولا درهمًا، وأورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".
وفي بعض أسانيده ضعف وبعضها حسن في الشواهد، وللحديث شواهد
يتقوى بها كما قال ابن حجر في "الفتح" "1/ 160"، قال ابن
حبان عقب الحديث: "في هذا الحديث بيان واضح أن العلماء
الذين لهم الفضل الذي ذكرنا، هم الذين يعلمون علم النبي
-صلى الله عليه وسلم- دون غيره من سائر العلوم؛ ألا تراه
يقول:
"العلماء ورثة الأنبياء"؟ والأنبياء لم يورثوا إلا العلم، وعلم نبينا -صلى الله عليه وسلم-
سنته، فمن تعرى عن معرفتها, لم يكن من ورثة الأنبياء".
1 في "ط": "وبين".
2 فالآية الأولى ظاهرة في البيان بأصل التبيلغ، والثانية
ظاهرة في بيان المبلغ، والثالثة ظاهرة في العموم. "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب قول النبي,
صلى الله عليه وسلم:
"رب مبلغ أوعى
من سامع"، 1/ 157-158/ رقم 67"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب تغليظ
تحريم الدماء والأعراض والأموال، 3/ 1305-1306" عن أبي
بكرة -رضي الله عنه- مرفوعًا.
ج / 4 ص -78-
في الحق،
ورجل آتاه الله الحكمة؛ فهو يقضى بها ويعلمها"1.
وقال:
"من أشراط
الساعة أن يرفع2 العلم
ويظهر الجهل"3.
والأحاديث في هذا كثيرة، ولا خلاف في وجوب البيان على
العلماء، والبيان يشمل البيان الابتدائي [والبيان]4 للنصوص
الواردة والتكاليف المتوجهة؛ فثبت أن العالم يلزمه البيان
من حيث هو عالم، وإذا كان كذلك انبنى عليه معنى آخر، وهي5:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب إنفاق المال
في حقه، 3/ 276/ رقم 1409، وكتاب الأحكام، باب أجر من قضى
بالحكمة، 13/ 120/ رقم 7141، وكتاب الاعتصام بالكتاب
والسنة، باب ما جاء في اجتهاد القضاء بما أنزل الله تعالى
لقوله:
{وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ}، 13/ 298/ رقم 7316"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين
وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، 1/ 559/ رقم 816"
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا بلفظ المصنف.
2 يعني: ولو كان العلم موجودًا بوجود العلماء؛ لأظهروه في
الناس بمقتضى واجبهم، فلا يظهر الجهل؛ فيدل على أن واجب
العلماء إظهار العلم. "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب إثم الزناة،
12/ 113-114/ رقم 6808", ومسلم في "صحيحه" "كتاب العلم,
باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، 4/
2056/ رقم 2671" عن أنس بن مالك بلفظ المصنف.
4 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
5 في "ط": "وهو".
ج / 4 ص -79-
المسألة الثالثة:
فنقول: إذا كان البيان يتأتى بالقول والفعل؛ فلا بد أن
يحصل ذلك بالنسبة إلى العالم، كما حصل بالنسبة إلى النبي
-صلى الله عليه وسلم- وهكذا كان السلف الصالح ممن صار قدوة
في الناس، دل على ذلك المنقول عنهم، حسبما يتبين في أثناء
المسائل على أثر هذا بحول الله؛ فلا نطول به ههنا لأنه
تكرار.
المسألة الرابعة:
إذا حصل البيان بالقول والفعل المطابق للقول؛ فهو الغاية
في البيان، كما إذا بين الطهارة أو الصوم أو الصلاة أو
الحج أو غير ذلك من العبادات أو العادات، فإن حصل بأحدهما
فهو بيان أيضًا؛ إلا أن كل واحد منهما على انفراده قاصر عن
غاية البيان من وجه، بالغ أقصى الغاية من وجه آخر.
فالفعل بالغ من جهة بيان الكيفيات المعينة المخصوصة التي
لا يبلغها البيان القولي1؛ ولذلك بين عليه الصلاة والسلام
الصلاة بفعله لأمته، كما فعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحال المصنف على هذا المبحث في كتابه "الاعتصام" "2/
595, ط ابن عفان"، فقال: "... والفعل أغلب من القول من جهة
التأسي، كما تبين في كتاب "الموافقات"، وانظر لطائف وفوائد
في هذا عند ابن القيم في "مدارج السالكين "1/ 446 وما
بعدها, ط الفقي".
ومن الجدير بالملاحظة هنا أن اجتماع أنواع أخرى من البيان
مع القول والفعل يكون به أقوى، وأهم ذلك التقرير؛ فإنه يدل
على رضا المبين عن الصورة الذهنية التي حصلت لدى المبين
له؛ فإن البيان قد يكون وافيًا، ولكن أفهام بعض السامعين
تقصر أو تغفل، فإن عمل المبين له بما بين؛ فوافقه المبين،
وأقره فذلك أقوى ما يكون البيان. انظر: "أفعال الرسول, صلى
الله عليه وسلم" "1/ 105".
ج / 4 ص -80-
به
جبريل حين صلى به1، وكما بين2 الحج كذلك، والطهارة3 كذلك،
وإن جاء فيها بيان بالقول؛ فإنه إذا عرض نص الطهارة في
القرآن على عين ما تلقى بالفعل من الرسول -عليه الصلاة
والسلام- كان المدرك بالحس من الفعل4 فوق5 المدرك بالعقل
من النص لا محالة، مع أنه إنما بعث ليبين للناس ما نزل
إليهم.
وهبه -عليه الصلاة والسلام- زاد بالوحي الخاص أمورًا لا
تدرك من النص على الخصوص؛ فتلك الزيادات6 بعد البيان إذا
عرضت على النص لم ينافها بل يقبلها؛ فآية الوضوء إذا عرض
عليها فعله -عليه الصلاة والسلام- في الوضوء شمله بلا شك،
وكذلك آية الحج مع فعله -عليه الصلاة والسلام- فيه، ولو
تركنا والنص؛ لما حصل لنا منه كل ذلك، بل أمر أقل منه،
وهكذا نجد الفعل7 مع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى لفظه وتخريجه في التعليق على "3/ 255".
2 في حديث جابر الطويل وغيره، وفيه:
"خذوا عني مناسككم"، وقد
مضى تخريجه "3/ 246"، وقد جمع طرقه وألفاظه شيخنا الألباني
-فسح الله مدته- في جزء مفرد مطبوع.
3 كما ثبت في غير حديث أنه -صلى الله عليه وسلم- توضأ، ثم
قال:
"من توضأ نحو وضوئي هذا ثم ركع ركعتين لم يحدث فيهما نفسه؛ غفر له ما
تقدم من ذنبه".
أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثًا
ثلاثًا، 1/ 259/ رقم 159، وكتاب الصيام، باب سواك الرطب
واليابس للصائم، 4/ 158/ رقم 1934"، ومسلم في "صحيحه"
"كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله، 1/ 205/ رقم 226"
عن عثمان مرفوعًا، وقد خرجته بإسهاب في تعليقي على كتاب
"الطهور" لأبي عبيد "رقم 1، 2، 3".
4 في الأصل: "العقل".
5 أي: أوسع بسطًا وأوضح معنى منه، فإذا فرض أنه -صلى الله
عليه وسلم- زاد بفعله الذي أدركه بالوحي غير القرآني
تفاصيل في الفعل لم تدرك من أصل النص القرآني؛ فهذه
الأجزاء والتفاصيل الزائدة بهذا البيان الفعلي المفهوم له
من الوحي الخاص إذا قيست وطبقت على النص القرآني لم
ينابذها ولم ينافها، بل كان يحتملها وغيرها. "د".
6 في "ط": "الزيادة".
7 فإن القول مهما كان مستطيلًا في البيان لا يفي ببيان
الهيئات الجزئية والكيفيات =
ج / 4 ص -81-
القول
أبدًا، بل يبعد في العادة أن يوجد قول لم يوجد لمعناه
المركب نظير في الأفعال المعتادة المحسوسة، بحيث إذا فعل
الفعل على مقتضى ما فهم من القول؛ كان هو المقصود من غير
زيادة ولا نقصان ولا إخلال، وإن كانت بسائطه معتادة
كالصلاة والحج والطهارة ونحوها وإنما يقرب مثل هذا القول1
الذي معناه الفعلي بسيط، ووجد له نظير في المعتاد، وهو إذ
ذاك إحالة على فعل معتاد؛ فبه حصل البيان لا بمجرد القول2،
وإذا كان كذلك؛ لم يقم القول هنا في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المخصوصة التي تظهر من الفعل، ومن ذلك تجد لزوم التمرين
في مثل الصناعات عمليًّا، ولا يكتفي بالقول والشرح فيها،
وقوله: "بل يبعد" ترقّ لإيضاح ما قبله بتحديد المحل الذي
لا يفي فيه القول، وفاء الفعل في ضبط كيفياته ضبطًا لا يدع
نقصًا ولا زيادة، وذلك في الأعمال المركبة من أركان وشروط
ومستحسنات، وتلحقها مبطلات وعوارض غير مستحسنة، ولم تجر
بها عادة بين الناس تحددها تحديدًا وافيًا، وذلك كالصلاة
والحج؛ فمجرد القول فيهما لا يفي بهما وفاء تامًّا، بحيث
إذا اقتصر عليه لا يحصل زيادة عن المطلوب ولا نقص عنه، وإن
كانت بسائطهما معتادة في شريعتنا ثم ورد تعديل ونسخ في
كيفياتهما، أو معتادة باعتبار شرائع متقدمة؛ فكلي الصلاة
والحج معتاد، ومجرد هذا لا يكفي القول فيه لضبط تفاصيل
كيفياته للتفاوت بين الصلوات الخمس عددًا وكيفية، وسرًّا
وجهرًا، وبسورة وغير سورة، كذلك نفس النوافل وصلاة العيدين
والكسوف والخسوف والجنازة والوتر والضحى وهكذا؛ فتفاصيل
هذه الصلوات لا يكفي فيه القول لضبطه، وإن كان أصل الصلاة
معتادًا في شريعتنا، وإنما يقرب في العادة أن يؤدي القول
مؤدى الفعل فيما كان معناه بسيطًا، أو وجد له نظير في
المعتاد ولو كان مركبًا؛ فإنك إذا وصفت للخياط الحالة التي
تريد أن يكون عليها الثوب وكان ما وصفت معتادًا؛ فلا مانع
أن يجيء الثوب حسبما وصفت، بدون زيادة ولا نقص، ويكون
البيان إذ ذاك حاصلًا بالفعل المعتاد لا بالقول، وعليه
يكون قوله: "ووجد له نظير" الواو فيه بمعنى أو كما هو
ظاهر، وكما يؤخذ من كلام المؤلف حيث جعل التركيب قيدًا،
وكونه لا نظير له في الأفعال معتادة قيدًا آخر، وسيأتي في
الفصل بعده ما يقتضي أن الواو على معناها الأصلي، وأن الذي
يقرب أن يؤدي القول فيه مؤدى الفعل صورة واحدة، وهي ما كان
بسيطًا بقيد أن يكون مثله معتادًا، ولك أن تقول كما قررنا:
إن المعتاد ولو كان مركبًا يفي القول فيه وفاء الفعل،
والشواهد عليه كثيرة. "د".
1 في "ط": "في القول".
2 انظر: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 106"
للشيخ محمد الأشقر.
ج / 4 ص -82-
البيان
مقام الفعل من كل وجه؛ فالفعل أبلغ من هذا الوجه.
وهو يقصر عن القول من جهة أخرى: وذلك أن القول بيان للعموم
والخصوص، في الأحوال والأزمان والأشخاص؛ فإن القول ذو صيغ
تقتضي هذه الأمور وما كان نحوها، بخلاف الفعل، فإنه مقصور
على فاعله، وعلى زمانه، وعلى حالته، وليس له تعدّ عن محله
ألبتة، فلو تركنا والفعل الذي فعله النبي -صلى الله عليه
وسلم- مثلًا؛ لم يحصل لنا منه غير العلم بأنه فعله في هذا
الوقت المعين، وعلى هذه الحالة المعينة.
فيبقى علينا النظر: هل ينسحب طلب هذا الفعل منه في كل
حالة، أو في هذه الحالة، أو يختص بهذا الزمان، أو هو عام
في جميع الأزمنة، أو يختص به وحده، أو يكون حكم أمته حكمه؟
ثم بعد النظر في هذا يتصدى نظر آخر في حكم هذا الفعل الذي
فعله: من أي نوع هو من الأحكام الشرعية؟
وجميع ذلك وما كان مثله لا يتبين من نفس الفعل؛ فهو من هذا
الوجه قاصر عن غاية البيان؛ فلم يصح إقامة الفعل مقام
القول من كل وجه، وهذا بين بأدنى تأمل، ولأجل ذلك جاء1
قوله تعالى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وقال حين بين بفعله العبادات:
"صلوا كما رأيتموني أصلي"2، و"خذوا عني
مناسككم"3، ونحو ذلك؛ ليستمر البيان إلى أقصاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ففعله لم يكف في طلب الاقتداء به فيه؛ لأن الفعل لا
يدل على انسحابه على أمته كما قال؛ فاحتاج الأمر لبيان ذلك
بالقول بهذه الآية، وبالأحاديث التي تذكر في مواضعها
ليتبين الأمر من الجهتين أنه عام لهم، وأن كيفيته كما
رأوا. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب الأذان
للمسافر إذا كانوا جماعة والإمامة، 2/ 111/ رقم 631" عن
مالك بن الحويرث, رضي الله عنه.
3 مضى تخريجه "3/ 246"، وهو في "صحيح مسلم" "رقم 1297"
وغيره.
ج / 4 ص -83-
فصل:
وإذا ثبت هذا، لم يصح إطلاق1 القول بالترجيح بين البيانين؛
فلا يقال: أيهما أبلغ في البيان؛ القول، أم الفعل؟ إذ لا
يصدقان على محل واحد إلا في الفعل البسيط المعتاد مثله إن
اتفق؛ فيقوم أحدهما2 مقام الآخر، وهنالك يقال: أيهما أبلغ،
أو أيهما أولى؟ كمسألة الغسل من التقاء الختانين مثلًا؛
فإنه بين من جهة الفعل3 ومن جهة القول4 عند من جعل هذه
المسألة من ذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كما ذكره الأصوليون؛ فقائل يرجع الفعل لأنه أقوى في
الدلالة على المقصود وليس الخبر كالمعاينة والمشاهدة،
وقائل بل يقدم القول لأنه يدل بنفسه على المقصود، أما
الفعل؛ فلا يدل إلا بأحد أمور ثلاثة تفيد أن الفعل بيان
للمجمل هي العقل، أو النص على أن هذا الفعل بيان للمجمل،
أو أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده، هذا إذا اجتمع القول
والفعل واختلفا، أما إذا اجتمعا وتوافقا؛ فالسابق منهما هو
البيان، والثاني مؤكد له، هذا محصول كلامهم، ولم ينح نحو
مبحثه الذي تجلى به أن كلًّا منهما له جهة يكون فيها أقوى
بيانًا من الآخر. "د".
قلت: رجح أبو الحسين البصري الفعل بقوله في "المعتمد"
"340": "إن الفعل أكشف" لأنه ينبئ عن صفة المبين مشاهدة،
وانظر تفصيلًا حسنًا مع الأدلة حول القوة والوضوح بين
البيان القولي والبيان الفعلي في "أفعال الرسول, صلى الله
عليه وسلم" "1/ 99-103"، وانظر: "تيسير التحرير" "3/
148-149"، و"حاشية البناني على جمع الجوامع" 2/ 100"، و"
إحكام الأحكام" "3/ 34" للآمدي، و"شرح تنقيح الفصول"
"ص123، 124"، و"أصول السرخسي" "2/ 27".
2 على أن القول في هذه الصورة إنما قام مقام الفعل لأن
مثله معتاد؛ فحصول البيان فيه بالفعل مع القول أو بالفعل
نفسه كما قال سابقًا. "د".
3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من
الماء"، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 272/ رقم 350"
عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: إن رجلًا
سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يجامع أهله
ثم يكسل؛ هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة. فقال رسول الله,
صلى الله عليه وسلم:
"إني لأفعل ذلك
أنا وهذه ثم نغتسل".
4 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من
الماء" ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 271-272/ رقم
349" عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا:
"إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان؛ فقد وجب
الغسل".
ج / 4 ص -84-
والذي
وضع إنما1 هو فعله ثم غسله؛ فهو الذي يقوم كل واحد من
القول والفعل مقام صاحبه، أما حكم الغسل من وجوب أو ندب
وتأسي الأمة [به]2 فيه؛ فيختص3 بالقول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إن هذا المقدار فقط هو الذي يقوم فيه كل من القول
والفعل فيه مقام صاحبه، أما كون الغسل إذا ذاك واجبًا أو
مندوبًا؛ فلا يستفاد إلا من القول، وقوله: "والذي وضع" لعل
الأصل: "والذي وضح". [قلت: وفي الأصل: "وقع"، وقد احتملها
"ف"]؛ أي: الذي استبان بهذا القول والفعل إنما هو مجرد
حصول الفعل ثم الغسل، وكلمة "وضح" ذكرها شارح "المنهاج" في
مبحث البيان والإجمال. "د".
قلت: وفي "ط": "والذي في الموضع".
2 سقط من "ط".
3 في "ط": "فمختص".
ج / 4 ص -85-
المسألة الخامسة:
إذا وقع القول بيانًا؛ فالفعل شاهد له ومصدق، أو مخصص أو
مقيد، وبالجملة عاضد للقول حسبما1 قصد بذلك القول، ورافع
لاحتمالات فيه تعترض في وجه الفهم، إذا كان موافقًا غير
مناقض، ومكذب له2 أو موقع فيه ريبة أو شبهة أو توقفًا إن
كان على خلاف ذلك.
وبيان ذلك بأشياء منها أن العالم إذا أخبر عن إيجاب
العبادة الفلانية أو الفعل الفلاني، ثم فعله هو ولم يخل به
في مقتضى ما قال فيه؛ قوي اعتقاد إيجابه، وانتهض العمل به
عند كل من سمعه يخبر عنه ورآه يفعله، وإذا أخبر عن تحريمه
مثلًا، ثم تركه فلم ير فاعلًا له ولا دائرًا3 حواليه؛ قوي
عند متبعه ما أخبر به عنه، بخلاف ما إذا أخبر عن إيجابه ثم
قعد عن فعله، أو أخبر عن تحريمه ثم فعله؛ فإن نفوس الأتباع
لا تطمئن إلى ذلك القول منه طمأنينتها إذا ائتمر وانتهى،
بل يعود من الفعل إلى القول ما يقدح فيه على الجملة؛ إما
من تطريق4 احتمال إلى القول، وإما من تطريق4 تكذيب إلى
القائل، أو استرابة في بعض مآخذ القول، مع أن التأسي في
الأفعال والتروك بالنسبة إلى من يعظم في دين أو دنيا
كالمغروز في الجبلة، كما هو معلوم بالعيان؛ فيصير القول
بالنسبة إلى القائل كالتبع للفعل؛ فعلى حسب ما يكون القائل
في موافقة فعله لقوله يكون اتباعه والتأسي به، أو عدم ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زاده ليشمل المخصص والمقيد، ولذلك قال: "وبالجملة". "د".
2 الأحوال الأربعة تختلف باختلاف القرائن والأشخاص الذين
يقع في أنفسهم أحدها، وستأتي بعد في كلامه من تكذيب
القائل، أو وجود ريبة وشك في صدقه، أو احتمال أن قوله لا
يؤخذ على ظاهره، أو أن دليله ليس كما ينبغي، وإلا لما ساغ
لنفسه تركه. "د".
3 لأن فعل ما يشبه مقدمات الحرام يوجه الظنون إلى أن هذا
العالم بصدد أن يفعله؛ فلذلك زاده المؤلف هنا، وليس في
الواجب مثله؛ فقوله بعد: "ثم فعله" أي: أو دار حوله. "د".
4 في "ط": "تطرق".
ج / 4 ص -86-
ولذلك
كان الأنبياء -عليهم السلام- في الرتبة القصوى من هذا
المعنى، وكان المتبعون لهم أشد اتباعًا، وأجرى على طريق
التصديق بما يقولون، مع1 ما أيدهم الله به من المعجزات
والبراهين القاطعة، ومن جملتها ما نحن فيه، فإن شواهد
العادات تصدق الأمر أو تكذبه؛ فالطبيب2 إذا أخبرك بأن هذا
المتناول سم فلا تقربه، ثم أخذ في تناوله دونك، أو أمرك
بأكل طعام أو دواء لعلة بك ومثلها به، ثم لم يستعمله مع
احتياجه إليه؛ دل هذا كله على خلل في الإخبار، أو في فهم
الخبر؛ فلم تطمئن النفس إلى قبول قوله، وقد قال تعالى:
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} الآية [البقرة: 44].
وقال تعالى:
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا
تَفْعَلُونَ} الآية [الصف: 2].
ويخدم هذا المعنى الوفاء بالعهد وصدق الوعد؛ فقد قال
تعالى:
{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23].
وقال في ضده:
{لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ...} إلى قوله:
{وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُون}
[التوبة: 75-77].
فاعتبر في الصدق كما ترى مطابقة الفعل القول، وهذا هو
حقيقة الصدق عند العلماء العاملين؛ فهكذا إذا أخبر العالم
بأن هذا واجب أو محرم؛ فإنما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فتطريق التكذيب لا يتأتى بالنسبة لهم، وكذا
الاسترابة في مأخذ القول؛ فلم يبق إلا احتمال ألا يؤخذ
القول على ظاهره، كما سيأتي في مثالي التحلل من العمرة
والإفطار في السفر. "د".
2 المثال بعينه في "مدارج السالكين" "1/ 446, ط الفقي".
3 فقوله:
{أَفَلا
تَعْقِلُون} [البقرة: 44]؛ إما محذوف المفعول، أي: ألا تدركون قبح الجمع بين
المتنافيين؟ فطلب البر والإحسان من الغير هو تحقيق لكونه
برًّا وإحسانًا، ونسيانهم أنفسهم منه ينافي كونه كذلك في
اعتقادهم، أو أنه منزل منزلة اللازم، أي: أفقدتم العقل
رأسًا حتى يصدر منكم هذا، وعلى كل؛ فهو غاية التشنيع على
ارتكابه. "د".
ج / 4 ص -87-
يريد
على كل مكلف وأنا منهم فإن وافق صدق وإن خالف كذب1.
ومن الأدلة على ذلك أن المنتصب للناس في بيان الدين منتصب
لهم بقوله وفعله؛ فإنه وارث النبي، والنبي كان مبينًا
بقوله وفعله؛ فكذلك الوارث لا بد أن يقوم مقام الموروث،
وإلا لم يكن وارثًا على الحقيقة، ومعلوم أن الصحابة -رضوان
الله عليهم- كانوا يتلقون الأحكام من أقواله وأفعاله
وإقراراته وسكوته وجميع أحواله؛ فكذلك الوارث، فإن كان في
التحفظ في الفعل كما في التحفظ في القول؛ فهو ذلك، وصار من
اتبعه على هدى، وإن كان على خلاف ذلك صار من اتبعه على
خلاف الهدى، لكن بسببه.
وكان الصحابة -رضي الله عنهم- ربما توقفوا عن الفعل الذي
أباحه لهم السيد المتبوع -عليه الصلاة والسلام- ولم يفعله
هو، حرصًا منهم على أن يكونوا متبعين لفعله وإن تقدم لهم
بقوله؛ لاحتمال أن يكون تركه أرجح، ويستدلون على ذلك بتركه
-عليه الصلاة والسلام- له؛ حتى إذا فعله اتبعوه في فعله،
كما في التحلل من العمرة2، والإفطار في السفر3، هذا وكل
صحيح؛ فما ظنك بمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي تفصيل ذلك عند المصنف "5/ 269".
2 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب
الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب
وكتابة الشروط، 5/ 322" عن عروة بن الزبير عن المسور بن
مخرمة ومروان -يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه-، وذكر صلح
الحديبية، وفيه: "فلما فرغ من قضية الكتاب؛ قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- لأصحابه:
"قوموا
فانحروا ثم احلقوا"، قال:
"فوالله ما قام منهم رجل"؛ حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة،
فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله,
أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر
بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى
فعل ذلك؛ نحر بدنه، ودعا حالقه، فلما رأوا ذلك قاموا
فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا
غمًّا...". وأخرجه أيضًا أحمد في "المسند" "4/ 328-331"،
وانظر "5/ 264".
3 ورد في ذلك أحاديث عديدة؛ منها ما أخرجه البخاري في
"صحيحه" "كتاب المغازي، =
ج / 4 ص -88-
ليس
بمعصوم من العلماء؟ فهو أولى بأن يبين قوله بفعله، ويحافظ
فيه على نفسه وعلى كل من اقتدى به.
ولا يقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- معصوم؛ فلا يتطرق
إلى فعله أو تركه المبين خلل، بخلاف من ليس بمعصوم.
لأنا نقول: إن اعتبر هذا الاحتمال في ترك الاقتداء بالفعل؛
فليعتبر في ترك اتباع القول، وإذ ذاك يقع في الرتبة فساد
لا يصلح، وخرق لا يرقع؛ فلا بد أن يجرى الفعل مجرى القول،
ولهذا تستعظم شرعًا زلة العالم، وتصير صغيرته كبيرة، من
حيث كانت أقواله وأفعاله جارية في العادة على مجرى
الاقتداء، فإذا زل؛ حملت زلته عنه قولًا كانت أو فعلًا
لأنه موضوع منارًا يهتدى به، فإن علم كون زلته زلة؛ صغرت
في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيًا به، وتوهموا1 فيها
رخصة علم بها ولم يعلموها هم تحسينًا للظن به، وإن جهل
كونها زلة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= باب غزوة الفتح في رمضان/ رقم 4279"، ومسلم في "صحيحه"
"كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان
للمسافر، 2/ 784/ رقم 113" عن ابن عباس -رضي الله عنهما-
أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج عام الفتح في
رمضان، فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، وكان صحابة رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره.
وما أخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 1114" عن جابر؛ أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- خرج عام الفتح إلى مكة في
رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح
من ماء فرفعه؛ حتى نظر الناس إليه، ثم شرب. فقيل له بعد
ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال:
"أولئك العصاة، أولئك العصاة".
وما أخرجه أحمد في "المسند" "3/ 21"، وابن حبان في
"الصحيح" "رقم 3550، 3556, الإحسان" عن أبي سعيد الخدري؛
قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نهر من
ماء السماء وهو على بغلة له والناس صيام، فقال: اشربوا
فجعلوا ينظرون إليه، فقال:
"اشربوا؛ فإني راكب وإني أيسركم، وأنتم مشاة"، فجعلوا ينظرون إليه؛ فحول وركه فشرب، وشرب الناس، وإسناده صحيح
على شرط مسلم.
1 في "ط": "أو توهموا".
ج / 4 ص -89-
فأحرى
أن تحمل عنه محمل المشروع، وذلك كله راجع عليه.
وقد جاء في الحديث: "إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال
ثلاثة". قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: "أخاف عليهم من
زلة العالم, ومن حكم جائر، ومن هوى متبع"1.
وقال عمر بن الخطاب: "ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال
منافق بالقرآن، وأئمة مضلون"2.
ونحوه عن أبي الدرداء3 ولم يذكر فيه الأئمة المضلين.
وعن معاذ بن جبل: "يا معشر العرب, كيف تصنعون بثلاث: دنيا
تقطع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطبراني في "الكبير" "17/ 17/ رقم 14"، والبزار
في "مسنده" "رقم 182, زوائده"، والبيهقي في "المدخل" "رقم
830"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1865" من طريق كثير
بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده
مرفوعًا، وإسناده ضعيف، فيه كثير بن عبد الله وهو ضعيف.
2 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 71"، والآجري في "تحريم
النرد والشطرنج" "رقم 48"، والفريابي في "صفة النفاق"
"ص71"، وابن المبارك في "الزهد" "ص520"، والخطيب في
"الفقيه والمتفقه" "1/ 234"، والبيهقي في "المدخل" "رقم
833"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم
641، 643"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1867، 1869،
1870"، وآدم بن أبي إياس في "العلم"، والعسكري في
"المواعظة"، والبغوي والإسماعيلي ونصر المقدسي في "الحجة"؛
كما في "كنز العمال" "10/ رقم 29405، 29412"، و"مسند
الفاروق" "2/ 660-661" من طرق عن عمر, بعضها إسناده صحيح,
قال ابن كثير في "مسند الفاروق" "2/ 662"، بعد أن ساق
طرقه: "فهذه طرق يشد القوي منها الضعيف؛ فهي صحيحة من قول
عمر -رضي الله عنه- وفي رفع الحديث نظر، والله أعلم".
3 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1868" بسند رجاله
ثقات؛ إلا أن فيه انقطاعًا، الحسن البصري لم يسمع من أبي
الدرداء، وسيسوق المصنف لفظه "ص327".
ج / 4 ص -90-
أعناقكم، وزلة عالم، وجدال منافق بالقرآن؟"1.
ومثله عن سلمان أيضًا2.
وشبه العلماء زلة العالم بكسر السفينة؛ لأنها إذا غرقت غرق
معها خلق كثير3.
وعن ابن عباس: "ويل للأتباع من عثرات العالم. قيل: كيف
ذلك؟ قال: يقول العالم شيئًا برأيه، ثم يجد4 من هو أعلم
برسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه؛ فيترك قوله ذلك، ثم
يمضي الأتباع"5.
وهذه الأمور حقيق أن تهدم الدين، أما زلة العالم؛ فكما
تقدم، ومثال كسر السفينة واقع فيها، وأما الحكم الجائر؛
فظاهر أيضًا، وأما الهوى المتبع؛ فهو أصل ذلك كله وأما
الجدال بالقرآن؛ فإنه من -اللسن الألد- من أعظم الفتن لأن
القرآن مهيب6 جدًّا، فإن جادل به منافق على باطل أحاله
حقًّا7،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1872" بسند حسن،
وقد روي مرفوعًا، ولا يصح، والموقوف هو الصحيح؛ كما قال
الدارقطني في "العلل" "6/ 81/ رقم 992".
2 يشير إلى ما أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1873"
بسنده إلى سلمان, رضي الله عنه: "كيف أنتم عند ثلاث: زلة
عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم؟".
3 قول المصنف: "وشبه العلماء زلة العلم..." من كلام ابن
عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" "2/ 982".
4 ومن ذلك كان مالك يكره كتابة العلم عنه؛ أي: الفروع خشية
أن ينشر عنه في الآفاق، وقد يرجع عنه. "د".
5 أخرجه البيهقي في "المدخل" "رقم 835، 836"، والخطيب في
"الفقيه والمتفقه" "2/ 14" وابن عبد البر في "الجامع" "رقم
1877".
قال "ف" شارحًا معناه: "أي على ما قال العالم برأيه مع أنه
قد تركه لظهور مخالفته" ا. هـ.
6 فتتقي مخالفته ولو على الوجه الذي يزينه المنافق بسلاطة
لسانه. "د".
7 في الأصل و"ف": "أسأل كونه حقًّا" وفي "ط": "أحال كونه
حقًّا"، وتفردت نسخة الأصل بحذف الواو بعدها.
ج / 4 ص -91-
وصار
مظنة للاتباع على تأويل ذلك المجادل، ولذلك كان الخوارج
فتنة على الأمة؛ إلا من ثبت الله لأنهم جادلوا به على
مقتضى آرائهم الفاسدة، ووثقوا تأويلاتهم بموافقة العقل1
لها؛ فصاروا فتنة على الناس، وكذلك الأئمة المضلون؛ لأنهم
-بما ملكوا2 من السلطنة على الخلق- قدروا3 على رد الحق
باطلًا والباطل حقًّا، وأماتوا سنة الله وأحيوا سنن
الشيطان، وأما الدنيا؛ فمعلوم فتنتها للخلق.
فالحاصل أن الأفعال أقوى في التأسي والبيان إذا جامعت
الأقوال من انفراد الأقوال، فاعتبارها في نفسها لمن قام في
مقام الاقتداء أكيد لازم4، بل يقال: إذا اعتبر هذا المعنى
في كل من هو في مظنة الاقتداء ومنزلة التبيين؛ ففرض عليه
تفقد جميع أقواله وأعماله، ولا فرق في هذا بين ما هو واجب
وما هو مندوب أو مباح أو مكروه أو ممنوع؛ فإن له في أفعاله
وأقواله اعتبارين5:
أحدهما: من حيث إنه واحد من المكلفين فمن هذه الجهة يتفصل
الأمر في حقه إلى الأحكام الخمسة.
والثاني: من حيث صار فعله وقوله وأحواله بيانًا وتقريرًا
لما شرع الله -عز وجل- إذا انتصب في هذا المقام؛ فالأقوال
كلها والأفعال في حقه إما واجب وإما محرم، ولا ثالث لهما؛
لأنه من هذه الجهة مبين، والبيان واجب لا غير، فإذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال "ف": "أي: بزعمهم موافقة العقل لها، وإلا؛ فالعقول
السليمة تنبو عنها".
قلت: هي في "ط": "الفعل"، ولكنها في الأصل: "العقل"، وهو
أظهر.
2 في "ط": "يملكون".
3 في "د": "وقدروا" بزيادة واو في أوله. وفي "ط": "قروا".
4 ترق على ما فرض فيه الكلام أولًَا من الواجب والحرام إلى
التعميم في الأحكام الخمسة، ومن خصوص البيان بالأفعال إلى
البيان مطلقًا بالأقوال والأفعال. "د".
5 انظر: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 137-138".
ج / 4 ص -92-
كان مما يفعل1 أو يقال؛ كان واجب الفعل على الجملة، وإن كان مما لا
يفعل؛ فواجب الترك، حسبما يتقرر بعد بحول الله، وذلك هو
تحريم الفعل.
لكن هذا بالنسبة إلى المقتدى به إنما يتعين حيث توجد مظنة
البيان؛ إما عند الجهل بحكم الفعل أو[الترك، وإما عند
اعتقاد خلاف الحكم]2، أو مظنة اعتقاد خلافه3.
فالمطلوب فعله بيانه بالفعل، أو القول الذي يوافق الفعل إن
كان واجبًا، وكذلك إن كان مندوبًا مجهول الحكم، فإن كان
مندوبًا [و] مظنة لاعتقاد الوجوب؛ فبيانه بالترك أو بالقول
الذي يجتمع إليه الترك، كما فعل في ترك الأضحية وترك4 صيام
الست من شوال، وأشباه ذلك، وإن كان مظنة لاعتقاد عدم الطلب
أو مظنة للترك5؛ فبيانه بالفعل والدوام فيه على وزان
المظنة؛ كما في السنن والمندوبات التي تنوسيت في هذه
الأزمنة.
والمطلوب تركه بيانه بالترك، أو القول الذي يساعده الترك
إن كان حرامًا، وإن كان مكروهًا؛ فكذلك إن كان مجهول
الحكم، فإن كان مظنة لاعتقاد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مأذونًا فيه بأقسامه الثلاثة؛ حتى المباح يصير في
حقه واجبًا، ومثله يقال فيما لا يفعل بقسميه. "د".
2 سقط من "ط".
3 مثاله: أن يجهل قوم الحديث الوارد في الندب إلى التطوع
قبل صلاة المغرب بعد الأذان، ويستنكروا ذلك؛ فعلى المبين
أن يفعل ذلك ليحصل البيان لأن البيان في حقه واجب، ولعل من
هذا ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا طلب أن يطعم
من غير صيد غير المحرم، وطلب أن يطعم من الجعل الذي أخذوه
على الرقية؛ قيامًا بواجب البيان، والله أعلم.
4 خشية اعتقاد وجوبها ملحقة برمضان, أو اعتقاد أنها نافلة
مكملة له كالنوافل البعدية في الصلاة؛ كما روي عن مالك
فيها. "د".
5 أي: لإهماله وعدم العناية به مع معرفتهم له؛ فبيانه
بالفعل أي بقدر ما تزول الفكرة المخالفة أو ينشط الناس
لفعله وإحيائه. "د".
ج / 4 ص -93-
التحريم وترجح1 بيانه بالفعل تعين الفعل على أقل ما يمكن
وأقر به2، وقد قال3 الله تعالى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
وقال4:
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الآية [الأحزاب: 50].
وفي حديث المصبح جنبًا قوله:
"وأنا أصبح جنبًا وأنا أريد الصيام"5.
وفي حديث أبي بكر بن عبد الرحمن من قول عائشة: "يا عبد
الرحمن, أترغب عما كان رسول الله يصنع؟ قال عبد الرحمن: لا
والله, قالت عائشة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط" والأصل، وفي غيرها: "وترجيح".
2 قد يظن أن في هذا تقريرًا من المصنف أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- يفعل فعلًا حكمه الكراهة بشرط "على أقل ما
يمكن"؛ أي: يقتصر على القدر الذي يحصل به البيان أن الفعل
المبين ليس بحرام، وإنما هو مكروه، وسيأتي في المسألة
الثانية ما يفيد شرطًا آخر وهو أن لا يكثر ولا يواظب عليه،
ولا سيما أن لا يكون في مواطن الاجتماعات العامة، والحق أن
فعله الذي أطلق عليه المصنف مكروهًا، إنما هو في حقه من
باب تعارض المصلحة والمفسدة؛ فإن في فعله مصلحة البيان،
ومفسدة مخالفة النهي، ومصلحة البيان أرجح، وعليه يدل
السياق، وانظر في المسألة: "المسودة في أصول الفقه" "ص74"،
و"حاشية البناني على جمع الجوامع" "2/ 96"، و"البحر
المحيط" "4/ 176" للزركشي.
3 و4 الآيتان باجتماعهما، الأولى بعمومها في طلب الاقتداء،
والثانية في هذا الفعل الخاص تفيدان جواز تزوج الرجل بزوجة
متبناة، وهذا كان مظنة اعتقاد التحريم أو وجود الاعتقاد
فعلًا، وتقدم لنا أنه بيان بالفعل والقول معًا. "د".
5 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب صحة صوم من
طلع عليه الفجر وهو جنب، 2/ 781/ رقم 1110"، ومالك في
"الموطأ" "1/ 289", والمذكور لفظه، ومن طريقه أحمد في
"المسند" "6/ 67، 156، 245"، والشافعي في "الأم" "1/ 258"،
وأبو داود في "السنن" "كتاب الصيام، باب فيمن أصبح جنبًا
في شهر رمضان/ رقم 2389"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"
"2/ 106"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 213" عن عائشة -رضي
الله عنها- وإسناده صحيح.
ج / 4 ص -94-
فأشهد
على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصبح جنبًا من
جماع غير احتلام، ثم يصوم ذلك اليوم"1.
وفي حديث أم سلمة:
"ألا
أخبرتيها أني أفعل ذلك..."2 إلى آخر
الحديث.
وروى إسماعيل القاضي عن زياد بن حصين عن أبيه؛ قال: "رأيت
ابن عباس وهو يسوق راحلته وهو يرتجز وهو محرم وهو يقول:
وهن يمشين بنا هميسا
إن تصدق الطير نفعل لميسا
قال: فذكر الجماع باسمه؛
فلم يكن عنه. قال: فقلت: يابن عباس! أتتكلم بالرفث وأنت
محرم؟ فقال: إنما الرفث ما روجع به النساء"3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب الصائم يصبح
جنبًا، 4/ 143/ رقم 1925، 1926"، وباب اغتسال الصائم، 4/
153/ رقم 1930، 1931، 1932"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، 2/
779-780/ رقم 1109"، ومالك في "الموطأ" "1/ 290-291"
والمذكور لفظه.
2 مضى تخريجه "ص74"، وسيأتي "ص117"، وانظر تعليقنا عليه.
3 أخرجه سعيد بن منصور في "السنن" "3/ 806/ رقم 345"، وابن
أبي شيبة في "المصنف", كما قال الزيلعي في "تخريج الكشاف"
"1/ 115"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 276"، وابن جرير في
"التفسير" "2/ 263-264"،والبخاري في "تاريخه" "3/ 3",
مشيرًا إلى متنه دون ذكره، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 67"،
وابن عبد البر في "التمهيد" "19/ 54"، و"الاستذكار" "13/
رقم 7910" من طرق عن ابن عباس لا تسلم واحدة منها من ضعف،
ولكن مجموعها يدل على أن للأثر أصلًا، وبه يصل إلى درجة
الحسن لغيره، والله أعلم.
وذكروه بألفاظ، والذي عند المصنف لفظ البيهقي، وذكره
جمهرتهم بلفظ: "ننك لميسًا", وكذا سيورده المصنف "ص118"،
وانظر: "علل ابن أبي حاتم" "1/ 277".
قال في "النهاية في غريب الحديث" "2/ 241": "كأنه -أي: ابن
عباس- يرى الرفث =
ج / 4 ص -95-
كأنه
رأى مظنة هذا الاعتقاد؛ فنفاه بذلك القول بيانًا لقوله
تعالى:
{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوق} الآية [البقرة: 197]، وأن الرفث ليس إلا ما كان بين الرجل والمرأة،
وإن كان مظنة لاعتقاد الطلب أو مظنة لأن يثابر على فعله؛
فبيانه بالترك جملة إن لم يكن له أصل، أو كان له أصل لكن
في الإباحة أو في نفي الحرج في الفعل؛ كما في سجود1 الشكر
عند مالك وكما في غسل اليدين قبل الطعام، حسبما بينه مالك
في مسألة عبد الملك بن صالح، وستأتي2 إن شاء الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الذي نهى الله عنه: ما خوطبت به المرأة، فأما ما يقوله
ولم تسمعه امرأة فغير داخل فيه، وقال الأزهري: الرفث كلمة
جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة".
قلت: وقوله: "إن تصدق الطير" فيريد به أنه زجر الطير،
فتيامن بمرها، ودلته على قرب اجتماعه بأصحابه وأهله، أفاده
الشيخ أحمد أو محمود شاكر في التعليق على "تفسير ابن جرير"
"4/ 126"، و"اللميس": اسم امرأة، ويقال للمرأة اللينة
الملمس: اللميس، انظر: "اللسان" "6/ 209-210، مادة لمس"،
والهميس: قال السرقسطي في "غريبه": "الهميس: ضرب من السير
لا يسمع له وقع".
قلت: وهو صوت نقل أخفاف الإبل كما أفاده ابن منظور في
"اللسان" "6/ 250"، ونحوه عند "ف".
وقد ورد عن ابن عباس أكثر من تفسير للرفث في آية "197" من
سورة البقرة، وانظر عدا "سنن سعيد"، والتعليق عليه: "تفسير
ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة" "1/ 85-88"
للشيخ عبد العزيز الحميدي.
1 تقدم إنكار مالك لأصله وإنكاره ما روي عن أبي بكر فيه.
"د".
قلت: ورد ذلك بثبوت أحاديث وآثار صحت فيه، جمعها السخاوي
في كتابه "تجديد الذكر في سجود الشكر"؛ كما في "الضوء
اللامع" "8/ 19"، و"فهرس ابن غازي" "ص169" وغيره؛ كما في
كتابنا: "مؤلفات السخاوي" "رقم 69" ولله الحمد والمنة.
2 في المسألة السابعة "ص114".
ج / 4 ص -96-
وعلى
الجملة؛ فالمراعى ههنا1 مواضع طلب2 البيان الشافي المخرج
عن الأطراف والانحرافات، والراد إلى الصراط المستقيم، ومن
تأمل سير السلف الصالح في هذا المعنى؛ تبين ما تقرر بحول
الله، ولا بد من بيان هذه الجملة بالنسبة إلى الأحكام
الخمسة أو بعضها حتى يظهر فيها الغرض المطلوب، والله
المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في التفاصيل السابقة من ترك الفعل جملة أو الفعل على
الدوام وهكذا، إنما هو في المواطن التي يطلب فيها البيان
الشافي، أما المواطن الأخرى؛ فيكفي فيها القول مثلًا. "د".
2 في "ط": "الطلب".
ج / 4 ص -97-
المسألة السادسة:
المندوب من حقيقة استقراره مندوبًا أن لا يسوى بينه وبين
الواجب، لا في القول ولا في الفعل، كما لا يسوى بينهما في
الاعتقاد، فإن سوى بينهما في القول أو الفعل؛ فعلى وجه1 لا
يخل بالاعتقاد، وبيان ذلك بأمور:
أحدها:
أن التسوية في الاعتقاد باطلة باتفاق، بمعنى أن يعتقد فيما
ليس بواجب أنه واجب، والقول أو الفعل إذا كان ذريعة إلى
مطلق2 التسوية وجب أن يفرق بينهما، ولا يمكن ذلك إلا
بالبيان القولي والفعل المقصود به التفرقة، وهو ترك
الالتزام في المندوب الذي هو من خاصة كونه مندوبًا.
والثاني:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بُعث هاديًا ومبينًا للناس
ما نزل إليهم، وقد كان من شأنه ذلك3 في مسائل كثيرة؛ كنهيه
عن إفراد يوم الجمعة بصيام أو ليلته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "فلا وجه"، وفي حاشيته: "لعل الصواب: "فلا بد
من وجه لا يخل بالاعتقاد"، وترجمة المسألة على هذا هو أن
التفريق بين الواجب والمندوب إذا استويا في القول والفعل
مطلوب من كل فرقة، هذا حاصل المسألة، ويعني بذلك أن الأمر
إذا كان للندب وجب بيانه لئلا يلتبس بالواجب، لأنه مساوٍ
له في الدلالة القولية الأمرية، وكذا إذا واظب القدرة على
فعلين وكان أحدهما واجبًا والآخر مندوبًا؛ وجب عليه بيان
المندوب منهما خيفة اعتقاد وجوبه" ا. هـ.
2 أي: التسوية المطلقة؛ أي: التامة التي يدخل فيها
المساواة في الاعتقاد، أما التسوية في القول والفعل فقط؛
فجعلها صحيحة، إذا كانت على وجه لا يخل بالاعتقاد في
المندوب بجعله واجبًا، لكنه قال في صدر المسألة: "إن
التسوية بين المندوب والواجب ليست من حق المندوب، لا في
القول، ولا في الفعل أيضًا" فيؤخذ من آخر الكلام بيان معنى
صدره، وأن كونها ليست من حقه لا يقتضي بطلانها مطلقًا.
"د".
قلت: انظر "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 91"
للأستاذ محمد الأشقر.
3 أي: البيان بالقول كما في المسلك الأول، وبالفعل كما في
المسلك الثاني. "د".
ج / 4 ص -98-
بقيام1، وقوله:
"لا يجعل أحدكم للشيطان حظًّا في صلاته"2، بينه حديث ابن عمر، قال واسع بن حبان: "انصرفت من قبل شقي
الأيسر، فقال لي عبد الله بن عمر: ما منعك أن تنصرف عن
يمينك؟ قلت: رأيتك فانصرفت إليك. قال: أصبت، إن قائلًا
يقول: انصرف عن يمينك، وأنا أقول: انصرف كيف شئت، عن يمينك
وعن يسارك"3.
وفي بعض الأحاديث بعدما قرر حكمًا غير واجب: "من فعل فقد
أحسن، ومن لا فلا حرج"4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صوم يوم
الجمعة، 4/ 232/ رقم 1985"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
الصيام، باب كراهة صوم يوم الجمعة منفردًا، 2/ 801/ رقم
1144"، والترمذي في "الجامع" "أبواب القيام، باب ما جاء في
كراهية صوم يوم الجمعة وحده، 2/ 123/ رقم 740"، والنسائي
في "الكبرى" "كتاب الصيام" كما في "تحفة الأشراف" "10/
351"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الصيام، باب في صيام
الجمعة، 1/ 549/ رقم 1723"، وأحمد في "المسند" "2/ 495" عن
أبي هريرة مرفوعًا:
"لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة
بصيام من بين الأيام؛ إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم"، لفظ مسلم.
2 مضى تخريجه "3/ 500"، وهو في "الصحيحين" عن ابن مسعود
-رضي الله عنه- مرفوعًا. وفي "ط": "من صلاته"!!
3 مضى تخريجه "3/ 501".
4 أخرج أبو داود في "السنن" "1/ 9/ رقم 35", ومن طريقه
البيهقي في "الخلافيات" "2/ 84-85/ رقم 367, بتحقيقي"،
والبغوي في "شرح السنة" "12/ 118/ رقم 3204"، وأحمد في
"المسند" "2/ 371"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/
121/ 122"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "1/ 94، 104"، من
طريق عيسى بن يونس عن ثور عن الحصين الحبراني عن أبي سعيد
عن أبي هريرة مرفوعًا: "من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن،
ومن لا فلا حرج، ومن استجمر فليوتر، ومن فعل فقد أحسن، ومن
لا فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، وما لاك بلسانه
فليبتلع، ومن فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج، ومن أتى الغائط
فليستتر، فإن لم يجد =
ج / 4 ص -99-
................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إلا أن يجمع كثيبًا من رمل فليستدبره، فإن الشيطان يلعب
بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن ومن لا حرج".
وأخرجه من طرق أخرى عن ثور به: ابن ماجه في "السنن" "1/
121-122 و2/ 1157/ رقم 337، 338, 3498", والدارمي في
"السنن" "1/ 169-170"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار "1/
122"، و"مشكل الآثار" "1/ 127/ رقم 138"، والحاكم في
"المستدرك" "4/ 137", وابن حبان في "الصحيح" "4/ 257-258".
وإسناده ضعيف، فيه حصين الحبراني، ويقال: الحميري، وحبران
بطن من حمير، قال ذلك أبو بكر بن أبي داود، وهو مجهول؛ كما
في "التقريب"، وفي "الكاشف" "1/ 239": "لا يعرف"، وانظر:
"الجرح والتعديل" "9/ رقم 1758".
قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 103": "مداره على أبي
سعد الحبراني الحمصي، وفيه اختلاف، وقيل: إنه صحابي ولا
يصح، والراوي عنه حصين الحبراني وهو مجهول، وقال أبو زرعة:
شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات، وذكر الدارقطني الاختلاف
فيه في "العلل"". ا. هـ.
قلت: انظر كلام الدارقطني في "العلل" "8/ 283-285/ رقم
1570"، وقال البيهقي في "المعرفة" "1/ 201"، "ليس بالقوي"،
وكلام ابن حجر السابق هو ما تقتضيه قواعد المصالح، بخلاف
ما قرره بعد في "الفتح" "1/ 257" عندما حسن إسناد أبي
داود، وتبعه العيني في "عمدة القاري" "1/ 722"، وأقره
البنوري في "معارف السنن" "1/ 115"، وسبقه النووي في
"المجموع" "2/ 55"؛ فقال عنه: "هذا حديث حسن" وانظر:
"خلاصة البدر المنير" "1/ رقم 117"، و"تحفة المحتاج" "1/
رقم 39"، و"السلسلة الضعيفة" "3/ رقم 1028".
والعجب من "د"؛ فإنه اقتصر في الهامش على قوله: "جزء من
حديث أخرجه في "التيسير" عن الستة؛ إلا الترمذي".
قلت: يغني عنه ما أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب
التخيير في الصوم والفطر في السفر، 2/ 790/ رقم 1121 بعد
107" عن حمزة بن عمرو الأسلمي -رضي الله عنه- أنه قال: يا
رسول الله! أجد بي قوة على الصيام في السفر؛ فهل عليَّ
جناج؟ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله؛ فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه".
ج / 4 ص -100-
وقال
الأعرابي: هل علي غيرهن؟ قال:
"لا، إلا أن
تطوع"1.
وقال لما سئل عن تقديم بعض أفعال الحج على بعض مما ليس
تأخيره بواجب:
"لا حرج".
قال الراوي: فما سُئِل يومئذ عن شيء قدم أو أخر؛ إلا قال: "افعل ولا حرج"2
مع أن تقديم بعض الأفعال على بعض مطلوب، لكن لا على الوجوب
3.
ونهى عليه الصلاة والسلام عن أن يتقدم رمضان بيوم أو
يومين4.
وحرم5 صيام يوم العيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب الزكاة في
الإسلام، 1/ 106/ رقم 46"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، 1/
40-41/ رقم 11" عن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-
مرفوعًا.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب الفتيا وهو
واقف على الدابة وغيرها، 1/ 180/ رقم 83، وكتاب الحج، باب
الفتيا على الدابة عند الجمرة, 3/ 569/ رقم 1736", ومسلم
في "صحيحه" "كتاب الحج, باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل
الحلق، 2/ 948/ رقم 1306"، عن عبد الله بن عمرو, رضي الله
عنهما.
3 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "3/ 469".
4 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "3/ 469".
5 قال في "الاعتصام" "1/ 509-510, ط ابن عفان": "إن ذلك
النهي علله العلماء بخوف أن يعد ذلك من رمضان"، يعني:
فيحسب واجبًا، وأصله تطوع مندوب، ومثله يقال في نهيه عن
إفراد يوم الجمعة بصيام أو ليلته بقيام، وقد جعله هناك من
باب ما يصير الوصف عرضة لأن ينضم إلى العبادة حتى يعتقد
فيه أنه من أوصافها أو جزء منها، قال: "فهذا القسم ينظر
فيه من جهة النهي عن الذرائع"، وقوله: "وحرم صيام يوم
العيد" لا يظهر وجه اندراجه هنا؛ لأنه منهي عنه نهي
استقلال. "د".
قلت: ومضى تخريج النهي عن صيام يوم العيد "3/ 469".
ج / 4 ص -101-
ونهى1 عن التبتل2 مع قوله تعالى:
{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8].
ونهى عن الوصال3، وقال:
"خذوا من العمل ما تطيقون"4
مع أن الاستكثار من الحسنات خير، إلى غير ذلك من الأمور
التي بينها بقوله وفعله وإقراره مما خلافه مطلوب، ولكن
تركه وبينه خوفًا أن يصير من قبيل آخر في الاعتقاد.
ومسلك آخر، وهو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يترك
العمل وهو يحب أن يعمل به؛ خشية أن يعمل به الناس فيفرض
عليهم5، قالت عائشة: "وما سبح النبي -صلى الله عليه وسلم-
سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها"6.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما ورد في حديث سعد بن أبي وقاص، وفيه أنه رده على
عثمان بن مظعون وهو في "الصحيحين" وغيرهما، ومضى تخريجه
"2/ 228".
2 وهو الانقطاع الصرف عن شئون هذه الحياة كرهبانية
النصارى، أما التبتل في الآية، فبمعنى الإخلاص في العبادة
أو نحوه، والمقام مستوفى في كتاب "الاعتصام" "1/ 436, ط
ابن عفان"، وهذا وما بعده لم يتبين فيه معنى الذريعة إلى
اعتقاد الوجوب، ولذلك قال: "مع أن الاستكثار من الحسنات
خير"، وقال -صلى الله عليه وسلم- في رد التبتل لعثمان بن
مظعون ومن معه:
"فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني"، ويؤخذ منه أنه ليس بمشروع، فضلًا عن كونه مندوبًا يخشى من
الاستدامة عليه اعتقاد الوجوب، كما هو أصل الموضوع، فقوله:
"مما خلافه مطلوب" لا يظهر في التبتل ولا يظهر في الوصال
أيضًا. "د".
3 كما في "صحيح البخاري" "كتاب الصوم، باب الوصال، 4/ 202/
رقم 1964"، وانظر ما مضى "2/ 239".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم شعبان،
4/ 213/ رقم 1969"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب
صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في غير رمضان، 2/ 811/
رقم 782" عن عائشة, رضي الله عنها.
5 مضى تخريجه "3/ 260".
6 مضى تخريجه "3/ 260"، وهو في "الصحيحين".
وقد ثبت في "الصحيح" أن معاذة سألت عائشة: "كم كان يصلي
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الضحى؟ قالت: أربع
ركعات، ويزيد ما شاء الله". وجمع الحديث مع سابقه أن ذلك
العلم من طريق غير الرؤية. "د".
ج / 4 ص -102-
وقد
قام ليالي من رمضان في المسجد؛ فاجتمع إليه ناس يصلون
بصلاته، ثم كثروا فترك ذلك، وعلل بخشية الفرض1.
ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يفرض بالوحي، وعلى هذا جمهور الناس.
والثاني: في معناه، وهو الخوف أن يظن فيها أحد من أمته
بعده إذا داوم عليها الوجوب، وهو تأويل متمكن2.
والثالث: أن الصحابة عملوا على3 هذا الاحتياط في الدين لما
فهموا هذا الأصل من الشريعة، وكانوا أئمة يقتدى بهم؛
فتركوا أشياء وأظهروا ذلك ليبينوا أن تركها غير قادح وإن
كانت مطلوبة؛ فمن ذلك ترك عثمان القصر في السفر في خلافته،
وقال: "إني إمام الناس، فينظر إلي الأعراب وأهل البادية
أصلي ركعتين؛ فيقولون: هكذا فرضت"4، وأكثر المسلمين على أن
القصر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "3/ 260".
2 يريد أنه قوي وحال محله متمكن فيه، وبه يستغني عن الوجه
الأول الذي أوردوا عليه ثم أجابوا عنه بما فيه ضعف، قال
القاضي أبو الطيب: "يحتمل أن يكون أوحى إليه أنه إن داوم
معهم على هذه الصلاة فرضت عليهم؛ فالمؤلف يرى قوة هذا
الوجه، ويبني عليه استدلاله، ولا يريد أنه ممكن كما قال
بعضهم؛ لأن مجرد الإمكان الضعيف لا يصحح له جعله من مسالك
استدلاله". "د".
وكتب "ف" هنا: "لعله ممكن".
3 سقط من "ط".
4 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 518-519/ رقم 4277"،
وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" "1/ 425" نحوه عن
الزهري، والبيهقي في "الكبرى" "3/ 144" من =
ج / 4 ص -103-
مطلوب1.
وقال حذيفة بن أسيد: "شهدت أبا بكر وعمر وكانا لا يضحيان
مخافة أن يرى الناس أنها واجبة"2، وقال بلال: "لا أبالي أن
أضحي بكبش أو بديك"3.
وعن ابن عباس أنه كان يشتري لحمًا بدرهمين يوم الأضحى،
ويقول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= طريق عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه
عن عثمان أنه أتم بمنى، ثم خطب، فقال: "إن القصر سنة رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه، ولكنه حدث طغام -يعني:
فتح الطاء والمعجمة- فخفت أن يستنوا"، وعن ابن جريج أن
أعرابيًّا ناداه في منى: "يا أمير المؤمنين! ما زلت أصليها
منذ رأيتك عام أول ركعتين"، وهذه طرق يقوي بعضها بعضًا،
قاله ابن حجر في "الفتح" "2/ 571"، وزاد: "ولا مانع أن
يكون هذا أصل سبب الإتمام".
وما ذكره المصنف عند أبي شامة المقدسي في "الباعث على
إنكار البدع والحوادث" "ص182-183"، والطرطوشي في "الحوادث
والبدع" "ص38-39, ط التونسية"، ومنه نقل المصنف كما صرح في
"الاعتصام" "2/ 106"، وانظره: "2/ 31-32"، وانظر "الناسخ
والمنسوخ" لأبي عبيد "ص24"، وما قدمناه في التعليق على
"ص59".
قلت: في غير الأصل: "فنظر".
1 أي: سنة وليس واجبًا كما هو مذهب الحنفية، ولا هو رخصة
بمعنى لا حرج في فعله، وبهذا يتم استدلاله على الموضوع.
"د".
2 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 381/ رقم 8139"،
والبيهقي في "الكبرى" "9/ 265"، و"الخلافيات" "3/ ق 279"،
وابن حزم في "المحلى" "7/ 19، 358"، والطبراني في
"الكبير", كما في "المجمع" "4/ 18"، وابن أبي خيثمة في
"تاريخه"، وابن أبي الدنيا في "الضحايا", كما في "التلخيص
الحبير" "4/ 145", عن أبي سريحة الغفاري, واسمه حذيفة بن
أسيد, به، وإسناده صحيح.
3 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 385/ رقم 8156"، وابن
حزم في "المحلى" "7/ 358" من طريقين عن عمران بن مسلم
الجعفي عن سويد بن غفلة عن بلال به، وإسناده صحيح.
ج / 4 ص -104-
لعكرمة: "من سألك؛ فقل هذه أضحية ابن عباس، وكان غنيًّا"1.
وقال بعضهم2: "إني لأترك أضحيتى وإني لمن أيسركم؛ مخافة أن
يظن الجيران أنها واجبة"3.
وقال أبو أيوب الأنصاري: "كنا نضحي عن النساء وأهلينا؛
فلما تباهى الناس بذلك تركناها"4، ولا خلاف [في]5 أن
الأضحية مطلوبة.
وقال ابن عمر في صلاة الضحى: "إنها بدعة"6، وحمل على أحد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 382-383/ رقم 8146"،
والبيهقي في "الكبرى" "9/ 265" و"الخلافيات" "3/ ق 279،
280"، وابن حزم في "المحلى" "7/ 358".
2 هو ابن مسعود, رضي الله عنه. "د".
قلت: بل القائل هو أبو مسعود الأنصاري.
3 أخرجه السرقسطي في كتابه من طريق سعيد بن منصور ثنا
سفيان عن منصور عن أبي وائل عن أبي مسعود الأنصاري، قاله
الزيلعي في "نصب الراية" "4/ 206-207".
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "4/ 383/ رقم 8148، 8149"،
وابن حزم في "المحلى" "7/ 358"، والبيهقي في "الكبرى" "9/
295"، وإسناده صحيح، وصححه ابن حجر في "التلخيص الحبير"
"4/ 145"، وعزاه لـ"سنن سعيد بن منصور".
4 ذكره أبو شامة في "الباعث" "ص182".
وقد نقل المصنف هذه الأثار عن الطرطوشي في "الحوادث
والبدع" "ص39"؛ كما صرح هو بذلك في "الاعتصام" "2/ 107 و2/
602, ط ابن عفان". وانظر: "الاستذكار" "15/ 162-163".
5 سقطت من "ط".
6 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب العمرة، باب كم اعتمر
النبي, صلى الله عليه وسلم 3/ 599/ رقم 1775" بسنده إلى
مجاهد؛ قال: "دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد
الله بن عمر -رضي الله عنهما- جالس إلى حجرة عائشة، وإذا
ناس يصلون في المسجد صلاة الضحى، قال: فسألناه عن صلاتهم؛
فقال: بدعة".
وانظر: "فتح الباري" "3/ 52"؛ ففيه عنه -رضي الله عنه-
آثار عديدة.
ج / 4 ص -105-
وجهين:
إما أنهم كانوا يصلونها جماعة، وإما أفذاذًا على هيئة
النوافل في أعقاب الفرائض1، وقد منع النساء المساجد مع ما
في الحديث من قوله:
"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"2؛
لما3 أحدثن في خروجهن ولما يخاف فيهن.
والرابع: أن أئمة المسلمين استمروا على هذا الأصل على
الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل؛ فقد كره مالك وأبو حنيفة
صيام ست من شوال4، وذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر "الاعتصام" "1/ 447, ط ابن عفان" للمصنف.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب خروج النساء
إلى المساجد بالليل والغلس، 2/ 347/ رقم 865، وباب استئذان
المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد، 2/ 351/ رقم 873، وكتاب
الجمعة، باب منه، 2/ 282/ رقم 899، 900، وكتاب النكاح، باب
استئذان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره، 9/ 337/
رقم 5238"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب خروج
النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، 1/ 326-327/
رقم 442" عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا.
3 فليس لما يخشى من اعتقاد الوجوب فيما ليس بواجب، ولا
لبيان أن تركها ليس بقادح وإن كانت مطلوبة، بل لهذين
المعنيين اللذين ذكرهما، وحينئذ؛ فما وجه إدراج هذا في
المقام؟ "د".
قلت: وجه قول المصنف في "الاعتصام" "1/ 511, ط ابن عفان":
"وبالجملة؛ فكل عمل أصله ثابت شرعًا؛ إلا أن في إظهار
العمل به والمداومة عليه ما يخاف أن يعتقد أنه سنة، فتركه
مطلوب في الجملة أيضًا من باب سد الذرائع".
4 قال مالك في "الموطأ" "1/ 311" في صيام ستة أيام بعد
الفطر من رمضان: "إنه لم ير أحدًا من أهل العلم والفقه
يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم
يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل
الجهالة والجفاء، لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم،
وأراهم يعملون ذلك".
قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 107 و2/ 604, ط ابن عفان"
عقبه: "فكلام مالك هنا ليس فيه دليل على أنه لم يحفظ
الحديث كما توهم بعضهم، بل لعل كلامه مشعر بأنه يعلمه،
لكنه لم ير العمل عليه، وإن كان مستحبًّا في الأصل لئلا
يكون ذريعة لما قال، كما فعل الصحابة =
ج / 4 ص -106-
للعلة
المتقدمة، مع أن الترغيب في صيامها ثابت صحيح1؛ لئلا يعتقد
ضمها إلى رمضان.
قال القرافي2: "وقد وقع3 ذلك للعجم". [وقال]4 الشافعي في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= -رضي الله عنهم- في الأضحية، وعثمان في الإتمام في
السفر".
وانظر لزامًا: "الاستذكار" "10/ 258-259" لابن عبد البر،
و"الذخيرة" "2/ 530" للقرافي، و"رفع الإشكال" للعلائي "ص77
وما بعدها"، و"المفهم شرح صحيح مسلم" "4/ 1950-1951" لأبي
العباس القرطبي.
أما مذهب الإمام أبي حنيفة؛ فنقل المصنف عنه الكراهة، وهو
المنقول عنه في كتب أصحابه.
قال ابن الهمام في "فتح القدير" "2/ 349": "صوم ستة من
شوال، عن أبي حنيفة وأبي يوسف كراهته، وعامة المشايخ لم
يروا به بأسًا".
1 وذلك في قوله, صلى الله عليه وسلم:
"من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر".
أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة
أيام من شوال اتباعًا لرمضان، 2/ 822/ رقم 1164" عن أبي
أيوب الأنصاري مرفوعًا.
وقد ضعف ابن دحية الكلبي في كتابه "العلم المشهور في فضائل
الأيام والشهور"، هذا الحديث، ورد عليه الحافظ العلائي في
كتاب مفرد طبع حديثًا، وعنوانه: "رفع الإشكال عن صيام ستة
أيام من شوال"، وانظر: "لطائف المعارف" "ص389, ط المحققة
عن دار ابن كثير" لابن رجب.
2 قلت: وعبارة القرافي في "الفروق" "2/ 191، الفرق الخامس
والمائة": "قال لي الشيخ زكي الدين عبد العظيم المحدث,
رحمه الله تعالى: إن الذي خشي منه مالك -رحمه الله تعالى-
قد وقع بالعجم؛ فصاروا يتركون المسحرين على عادتهم،
والقوانين وشعائر رمضان إلى آخر الستة الأيام، فحينئذ
يظهرون شعائر العيد"!! وانظر: "إيضاح السالك إلى قواعد
الإمام مالك" "ص221-222" للونشريسي، و"ما لا يجوز الاختلاف
فيه بين المسلمين" "ص97-98"، وانظر: "الاعتصام" "2/ 604, ط
ابن عفان".
3 فلينظر هذا الشوكاني الذي شنع على الإمامين لقولهم
بالكراهة خشية هذا المحظور. "د".
4 سقط من "ط".
ج / 4 ص -107-
الأضحية بنحو من ذلك، حيث استدل1 على عدم الوجوب بفعل
الصحابة المذكور وتعليلهم.
والمنقول عن مالك من هذا كثير، وسد الذريعة أصل عنده متبع،
مطرد في العادات والعبادات؛ فبمجموع هذه الأدلة نقطع بأن
التفريق بين الواجب والمندوب إذا استوى القولان أو الفعلان
مقصود شرعًا، ومطلوب من كل من يقتدى به قطعًا2 كما يقطع
بالقصد إلى الفرق بينهما اعتقادًا.
فصل:
والتفرقة بينهما تحصل بأمور: منها بيان القول إن اكتفى به،
وإلا؛ فالفعل [وهو أحرى] بل هو في هذا النمط مقصود، وقد
يكون في سوابق الشيء المندوب وفي قرائنه وفي لواحقه3،
وأمثلة ذلك ظاهرة مما تقدم وأشباهه.
وأكثر ما يحصل الفرق في الكيفيات العديمة النص، وأما
المنصوصة؛ فلا كلام فيها، فالفعل أقوى إذًا في هذا المعنى؛
لما تقدم من أن الفعل يصدق القول أو يكذبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقد اعتمد على فعل الصحابة فيه وتعليلهم؛ فهو قد سلم أن
الترك للعلة التي هي خوف مظنة الوجوب؛ فهو من الباب نفسه
وإن لم يصرح بكراهتها إذا وجدت العلة؛ فلذا قال المؤلف:
"بنحو من ذلك". "د".
2 ينزل معناه على مقتضى قوله في صدر المسألة: "فإن سوى
بينهما في القول أو الفعل؛ فعلى وجه لا يخل بالاعتقاد"،
وذلك بإخفائه عن العامة من المقتدى به مثلًا. "د".
3 ففي ترك القيام في رمضان بعد حصوله ليالي بيان باللواحق،
وفي استخفائه بصلاة الضحى حتى لم تره السيدة عائشة بيان
بالمقارن. "د".
ج / 4 ص -108-
فصل:
وكما أن من حقيقة استقرار المندوب أن لا يسوى بينه وبين
الواجب في الفعل كذلك من حقيقة استقراره أن لا يسوى بينه
وبين بعض المباحات في الترك المطلق من غير بيان؛ فإنه لو
وقعت التسوية بينهما لفهم من ذلك مشروعية الترك كما تقدم،
ولم يفهم كون المندوب مندوبًا، هذا وجه1.
ووجه آخر وهو أن في ترك المندوب إخلالًا بأمر كلي فيه ومن
المندوبات ما هو واجب بالكل؛ فيؤدي تركه مطلقًا إلى
الإخلال بالواجب، بل لا بد [فيه] من العمل به ليظهر للناس
فيعملوا به، وهذا مطلوب ممن يقتدى به، كما كان شأن السلف
الصالح.
وفي الحديث الحسن عن أنس؛ قال قال لي رسول الله, صلى الله
عليه وسلم: "يا بني! إن قدرت أن تصبح و[تمسي] ليس في قلبك
غش لأحد فافعل، ثم قال لي: يا بني! وذلك من سنتي، ومن أحيا
سنتي؛ فقد أحبني، ومن أحبني؛ كان معى في الجنة"2؛ فجعل
العمل بالسنة إحياء لها؛ فليس بيانها مختصًّا بالقول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 436 و22/ 407".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء في
الأخذ بالسنة واجتناب البدع، 5/ 46/ رقم 2678"، وإسناده
ضعيف، فيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
قال الترمذي عقبه: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"،
وقال: "وعلي بن زيد صدوق؛ إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي
يوقفه غيره"، قال: "وسمعت محمد بن بشار يقول: قال أبو
الوليد: قال شعبة: حدثنا علي بن زيد وكان رفاعًا، ولا نعرف
لسعيد بن المسيب عن أنس رواية إلا هذا الحديث بطوله، وقد
روى عباد بن ميسرة المنقري هذا الحديث عن علي بن زيد عن
أنس، ولم يذكر فيه عن سعيد بن المسيب". قال: "وذاكرت به
محمد بن إسماعيل فلم يعرفه, ولم يعرف لسعيد بن المسيب عن
أنس هذا الحديث ولا غيره".
وما بين المعقوفتين سقط من الأصل وجميع الطبعات،
واستدركناه من "جامع الترمذي".
ج / 4 ص -109-
وقد
قال مالك في نزول الحاج بالمحصب من مكة، وهو الأبطح:
"أستحب للأئمة ولمن يقتدى به أن لا يجاوزوه حتى ينزلوا به؛
فإن ذلك من1 حقهم لأن ذلك2 أمر قد فعله النبي -صلى الله
عليه وسلم- والخلفاء، فيتعين على الأئمة ومن يقتدى به من
أهل العلم إحياء سننه والقيام به3 لئلا يترك هذا الفعل
جملة، ويكون4 للنزول بهذا الموضع حكم النزول بسائر
المواضع، لا فضيلة للنزول به، بل لا يجوز النزول به على
وجه القربة". هكذا نقل الباجي5.
و[هو] ظاهر من مذهب مالك في أن المندوب6 لا بد من التفرقة
بينه وبين ما ليس بمندوب، وذلك بفعله وإظهاره.
وقال بعضهم7 في حديث عمر
"بل أغسل ما رأيت، وأنضح ما لم أر"8:
في هذا الحديث أن عمر رأى أن أعماله وأقواله نهج للسنة،
وأنه موضع للقدوة، يعني: فعمل هنا على مقتضى الأخذ عنه في
ذلك الفعل، وصار ذلك أصلًا في التوسعة على الناس في ترك
تكلف ثوب آخر الصلاة، وفي تأخير الصلاة لأجل غسل الثوب.
وفي9 الحديث:
"واعجبًا لك
يابن العاص! لئن كنت تجد ثيابًا؛ أفكل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في النسخ كلها، وفي مطبوع "المنتقى" للباجي: "في".
2 عند الباجي: "لأن هذا أمر".
3 في مطبوع "المنتقى": ".... سنته والقيام بها".
4 أي: ينسى حتى يصير هكذا في اعتقاد الناس. "د". وفي "ط":
"ويكون النزول".
5 في "المنتقى" "3/ 44".
6 سقطت "في" من "د" وسقط "هو" من جميع النسخ إلا من "ط"،
وسقطت من "ط" كلمة "مذهب" وقال "ف": "صحته أن في
المندوب"!!
7 هو الباجي، وكلامه الآتي في "المنتقى شرح الموطأ" "1/
103".
8 مضى تخريجه "3/ 502".
9 لو قال: "ولذلك في الحديث: واعجبًا... إلخ"؛ لكان أجود
سبكًا وأظهر في ضم أجزاء الحديث بعضها بعضًا. "د".
ج / 4 ص -110-
الناس يجد
ثيابًا! والله لو فعلتها لكانت سنة"1
الحديث.
ولمكان هذا ونحوه اقتدى به عمر بن عبد العزيز حفيده2؛ ففي
"العتبية" قيل لعمر بن عبد العزيز: أخرت الصلاة شيئًا.
فقال: "إن ثيابي غسلت"3.
قال ابن رشد: "يحتمل أنه لم يكن له غير تلك الثياب لزهده
في الدنيا، أو لعله ترك أخذ سواها مع سعة الوقت تواضعًا
لله ليقتدى به في ذلك، ائتساء بعمر بن الخطاب؛ فقد كان
أتبع الناس لسيرته وهديه في جميع الأحوال"4.
ومما نحن فيه ما قال الماوردي فيمن [صار]5 ترك الصلاة في
الجماعة له إلفًا وعادة، وخيف أن يتعدى إلى غيره في
الاقتداء به، إن للحاكم أن يزجره، واستشهد على ذلك بقول
النبي, صلى الله عليه وسلم:
"لقد هممت أن آمر أصحابي أن يجمعوا حطبًا"6
الحديث.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من الأثر السابق، ومضى تخريجه "3/ 502"، وهو صحيح.
2 لأن عمر بن الخطاب جد عمر بن عبد العزيز لأمه. "د".
3 "العتبية" "1/ 456, مع "شرحه" ونحوه عند ابن عبد الحكم
في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "ص43".
4 "البيان والتحصيل" "1/ 456-457"، وانظر فيه: "18/ 555"
عن اتباع عمر بن عبد العزيز لجده, رضي الله عنهما.
5 سقط من "ط".
6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب وجوب صلاة
الجماعة، 2/ 125/ رقم 644، وباب فضل العشاء في الجماعة، 2/
141/ رقم 657"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع
الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف
عنها، 1/ 451/ رقم 651" عن أبي هريرة -رضي الله عنه-
مرفوعًا.
وقال "د": "وسيأتي له أن ذلك كان خاصًّا بالمنافقين لبيان
ابن مسعود الآتي في المسألة الثانية من الكتاب العزيز".
قلت: قوله ضعيف لثلاثة أوجه، ذكرها ابن القيم في "الصلاة
وحكم تاركها" "ص115-117"، وابن تيمية في "مجموع الفتاوى"
"23/ 228"، وانظر كتابنا: "القول المبين" "ص291-293".
ج / 4 ص -111-
وقال:
"أيضًا فيما إذا تواطأ أهل بلد على تأخير الصلاة إلى آخر
وقتها أن له أن ينهاهم". قال: "لأن اعتياد جميع الناس
لتأخيرها مفض بالصغير الناشئ إلى اعتقاد أن هذا هو الوقت
دون ما تقدمه".
وأشار إلى نحو هذا في مسائل أخر، وحكى قولين في مسألة
اعتراض المحتسب على أهل القرية في إقامة الجمعة بجماعة
اختلفت في انعقاد الجمعة بهم في بعض وجوهها، وذلك إذا كان
هو يرى إقامتها وهم لا يرونها1، ووجه القول بإقامتها على
رأيه باعتبار المصلحة؛ لئلا ينشأ الصغير على تركها، فيظن
أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه.
وهذا الباب يتسع، ومما يجري مجراه في تقوية اعتبار البيان
في هذه المسائل وأشباهها مما ذكر أو لم يذكر قصة عمر بن
عبد العزيز مع عروة بن عياض حين نكت بالخيزرانة بين عينيه،
ثم قال: "هذه غرتني منك -لسجدته التي بين عينيه-، ولولا
أني أخاف أن تكون سنة من بعدي؛ لأمرت بموضع السجود فقور"2.
وقد عول العلماء على هذا المعنى وجعلوه أصلًا يطرد، وهو
راجع إلى سد الذرائع الذي اتفق العلماء على إعماله في
الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل؛ كقوله تعالى:
{أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا3
وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا}
[البقرة: 104].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الحاوي الكبير" "2/ 383".
2 ذكره ابن عبد الحكم في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "ص114"،
وابن رشد في "البيان والتحصيل" "1/ 486".
3 كان اليهود يذكرون الكلمة سبًّا لرسول الله -صلى الله
عليه وسلم- حيث يريدون بها, لعنهم الله: اسمع لا سمعت؛
فنهوا عنها.
كما روي أن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- سمعها منهم فقال:
يا أعداء الله! عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده؛ لئن
سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله -صلى الله عليه
وسلم- لأضربن عنقه. قالوا: أَوَلستم تقولونها؟ فنزلت الآية
نهيًا للمؤمنين عن قولها؛ سدًّا للباب، وقطعًا للألسنة،
وبعدًا عن المشابهة. ا. هـ. "ف".
ج / 4 ص -112-
وقوله:
{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا
اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
وقد منع1 مالك لمن رأى هلال شوال وحده أن يفطر لئلا يكون
ذريعة إلى إفطار الفساق محتجين بما احتج به2، وقال بمثله
فيمن شهد عليه شاهدا زور بأنه طلق امرأته ثلاثًا ولم يفعل؛
فمنعه من وطئها إلا أن يخفى ذلك عن الناس3.
وراعى زياد مثل هذا في صلاة الناس في جامع البصرة والكوفة
فإنهم4 إذا صلوا في صحنه ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من
التراب؛ فأمر بإلقاء الحصى في صحن المسجد، وقال: "لست آمن
أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر
السجود سنة في الصلاة"5.
ومسألة مالك مع أبي جعفر المنصور حين أراد أن يحمل الناس
على "الموطأ" فنهاه مالك عن ذلك من هذا6 القبيل أيضًا7.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المثبت من "ط"، وفي غيرها: "رأى مالك... أن لا يفطر".
2 قال مالك في "الموطأ" "1/ 287": "ومن رأى هلال شوال
وحده؛ فإنه لا يفطر لأن الناس يتهمون على أن يفطر منهم من
ليس مأمونًا، ويقول أولئك إذا ظهر عليهم: قد رأينا
الهلال".
3 انظر: "الذخيرة" "10/ 262-263, ط دار الغرب" للقرافي.
4 في "ط" زيادة: "كانوا".
5 ذكره في "الاعتصام" "2/ 108"، وقال عقبه: "وهذا في مباح؛
فكيف به في المكروه أو الممنوع؟"، وصرح أنه نقل هذه
الحكاية عن الماوردي، وكذا سيفعل هنا في "ص120".
6 لأنه إذا تطاول الزمان على الاقتصار عليه في العمل يظن
الناس أنه لا يصح العمل بغيره من الأحاديث والسنن. "د".
7 نحوه في "جامع بيان العلم" "رقم 870" لابن عبد البر،
و"ذيل المذيل" "107" لابن جرير، و"السير" "8/ 70"، و"تذكرة
الحفاظ" "1/ 209" للذهبي، و"التزيين" "41" للسيوطي، و"كشف
المغطى في فضل الموطا" "53-55" لابن عساكر، و"ترتيب
المدارك" "1/ 192، 193، 2/ 72" للقاضي عياض، و"إعلام
الموقعين" "2/ 296-297"، و"انتصار الفقير السالك"
"ص191-192، 207-208"، و"مفتاح السعادة" "2/ 87"، و"الديباج
المذهب" "1/ 119"، و"إتحاف السالك" "رقم 224" لابن ناصر
الدين، وفي ثبوت هذه القصة نظر؛ كما في كتابنا: "قصص لا
تثبت"، يسر الله إتمامه بخير.
ج / 4 ص -113-
ولقد
دخل ابن عمر على عثمان وهو محصور؛ فقال له: "انظر ما يقول
هؤلاء، يقولون: اخلع نفسك أو نقتلك. قال له: أمخلد أنت في
الدنيا؟ قال: لا. قال: هل يملكون لك جنة أو نارًا؟ قال:
لا. قال: فلا تخلع قميص الله عليك فتكون سنة، كلما كره قوم
خليفتهم خلعوه أو قتلوه"1.
ولما هم أبو جعفر المنصور أن يبني البيت على ما بناه ابن
الزبير على قواعد إبراهيم شاور مالكًا في ذلك؛ فقال له
مالك: "أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت
ملعبة للملوك بعدك لا يشاء أحد منهم أن يغيره؛ إلا غيره
فتذهب هيبته من قلوب الناس"2. فصرفه عن رأيه فيه؛ لما ذكر
من أنها تصير سنة متبعة باجتهاد أو غيره؛ فلا يثبت على
حال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه خليفة في "تاريخه" "1/ 183"، وابن شبة في "تاريخ
المدينة" "4/ 1223-1224"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"
"3/ 1/ 45"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ص359, ترجمة
عثمان"، والخبر في "التمهيد والبيان" "ق 114".
2 نحوه في "ترتيب المدارك" "1/ 213, ط بيروت"، وفيه المهدي
وليس المنصور.
ج / 4 ص -114-
المسألة السابعة:
المباحات من حقيقة استقرارها1 مباحات أن لا يسوى2 بينها
وبين المندوبات ولا المكروهات3؛ فإنها إن سوى بينها وبين
المندوبات بالدوام على الفعل على كيفية فيها معينة أو غير4
ذلك؛ توهمت مندوبات كما تقدم في مسح الجباه بأثر الرفع من
السجود5، ومسألة عمر بن الخطاب في غسل ثوبه من الاحتلام
وترك الاستبدال به6.
وقد حكى عياض7 عن مالك أنه دخل على عبد الملك بن صالح أمير
المدينة؛ فجلس ساعة ثم دعا بالوضوء والطعام، فقال: "ابدءوا
بأبي عبد الله. فقال مالك: إن أبا عبد الله -يعني نفسه- لا
يغسل يده. فقال: لم؟ قال: ليس هو الذي أدركت عليه أهل
العلم ببلدنا، إنما هو من رأى الأعاجم، وكان عمر إذا أكل
مسح يده بباطن قدمه. فقال له عبد الملك: أأترك يا أبا عبد
الله؟ قال: إي والله, فما عاد إلى ذلك ابن صالح. قال مالك:
ولا نأمر الرجل أن لا يغسل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ف": "من حيث استقرارها"، وقال: "لعله هنا وفي
المسألة الثامنة الآتية من حقيقة استقرارها كما يدل عليه
سابق الكلام ولاحقه".
2 أي: في الفعل والقول، بل يفرق بهما أو بأحدهما؛ كما
سيأتي أنه وإن داوم على ترك أكل الضب والفوم؛ إلا أنه بين
حكمهما ببيان سبب امتناعه عن تعاطيهما. "د".
3 واقتصر عليهما؛ لأن لا يرتقي الوهم في المباحات إلى
توهمهما واجبات أو محرمات، بخلاف المكروهات كما يأتي بعد.
"د".
4 عطف على قوله "بالدوام"؛ فترك عمر المباح من استبدال ثوب
آخر بثوبه في هذا المقام، وهو يظن الاستنان ترك لما فيه
تسوية للمباح بالمسنون. "د".
5 انظر: "ص112".
6 انظر: "3/ 502، 4/ 109".
7 في "ترتيب المدارك" "1/ 210, ط مكتبة دار الحياة,
بيروت".
ج / 4 ص -115-
يده،
ولكن إذا جعل ذلك كأنه واجب عليه؛ فلا، أميتوا سنة العجم،
وأحيوا سنة العرب، أما سمعت قول عمر: تمعددوا، واخشوشنوا،
وامشوا حفاة، وإياكم وزي العجم"1.
وهكذا إن سوى في الترك بينها وبين المكروهات؛ ربما توهمت
مكروهات فقد كان عليه الصلاة والسلام يكره الضب ويقول:
"لم يكن بأرض قومي؛ فأجدني أعافه"2،
وأكل على مائدته؛ فظهر حكمه.
وقدم إليه طعام فيه ثوم لم3 يأكل منه، قال له أبو أيوب,
وهو الذي بعث به إليه: يا رسول الله! أحرام هو؟ قال:
"لا ولكنى أكرهه من أجل ريحه"4 وفي
رواية [أخرى]5, أنه قال لأصحابه:
"كلوا؛ فإني
لست كأحدكم، إني أخاف أن أؤذي صاحبي"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه علي بن الجعد في "مسنده" "رقم 1030، 1031"، وأبو
عوانة في "مسنده" "5/ 456، 459، 460" بإسناد صحيح.
قال "ف": "التمعدد: الصبر على عيش معد بن عدنان، وكانوا
أهل قشف وغلظ في المعاش، يقول: فكونوا مثلهم، ودعوا التنعم
وزي العجم".
وانظر في شرحه والتعليق عليه: كلام ابن القيم في
"الفروسية" "ص120، 121, بتحقيقي"، وترى تخريجه أوعب مما
هنا.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الذبائح والصيد، باب
الضب، 9/ 663/ رقم 5537"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيد
والذبائح، باب إباحة الضب، 3/ 1543/ رقم 1946" عن خالد بن
الوليد, رضي الله عنه.
3 في "ط": "ولم.... فقال له...".
4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب إباحة أكل
الثوم وأنه ينبغي لمن أراد خطاب الكبار تركه وكذا ما في
معناه، 3/ 1623/ رقم 2053" عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله
عنه- مرفوعًا.
5 زيادة من "م".
6 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الأطعمة، باب ما جاء
في الرخصة في الثوم مطبوخًا، 4/ 262/ رقم 1810"، وابن ماجه
في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب أكل الثوم والبصل والكراث،
2/ 1116/ رقم 3364"، والحميدي في "المسند" "1/ 162/ رقم
339"، والدارمي في "السنن" "2/ 102" عن أم أيوب -رضي الله
عنها- مرفوعًا بألفاظ، واللفظ المذكور لفظ الترمذي؛ إلى أن
أوله: "كلوه"، وهو حسن، وفي الباب عن جماعة من الصحابة،
خرجتها في "التعليقات الحسان على تحقيق البرهان في شأن
الدخان"، وهو مطبوع ولله الحمد.
ج / 4 ص -116-
وروي
في الحديث أن سودة بنت زمعة خشيت أن يطلقها رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فقالت: لا تطلقني، وأمسكني، واجعل يومي
لعائشة. ففعل؛ فنزلت1:
{فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا2
بَيْنَهُمَا صُلْحًا} الآية
[النساء: 128]؛ فكان هذا تأديبًا وبيانًا بالقول والفعل
لأمر3 ربما استقبح بمجرى العادة؛ حتى يصير كالمكروه، وليس
بمكروه.
والأدلة على هذا الفصل نحو من الأدلة على استقرار
المندوبات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن
سورة النساء، 5/ 249/ رقم 3040" عن سماك عن عكرمة عن ابن
عباس به بهذا اللفظ، وقال: "هذا حديث حسن غريب".
قلت: إسناده ضعيف؛ لأن رواية سماك عن عكرمة خاصة مضطربة؛
كما في "التهذيب" "4/ 204-205".
وله شاهد في "صحيح البخاري" "كتاب التفسير، باب
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا...}، 8/ 265/ رقم 4601، وكتاب النكاح، باب
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا...}، 9/ 304/ رقم 5206، وباب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها، 9/
312/ 5212", ومسلم في "صحيحه" "كتاب الرضاع, باب جواز
هبتها نوبتها لضرتها, 2/ 1085/ رقم 1463" عن عائشة -رضي
الله عنها- بدون ذكر نزول الآية.
2 قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو: "يصَّالحا"
بفتح الياء والتشديد، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي:
{يُصْلِحَا}
بضم الياء والتخفيف، قاله ابن مجاهد في "السبعة" "238".
3 هو النزول عن حق المرأة في القسم لزوجة أخرى؛ فبين بهذا
جوازه ولو لم يحصل هذا البيان لفهم من ترك هذا المباح
جريًا على العادة كراهته شرعًا. "د".
ج / 4 ص -117-
المسألة الثامنة:
المكروهات من حقيقة استقرارها مكروهات أن لا يسوى بينها
وبين المحرمات ولا بينها وبين المباحات.
أما الأول:
فلأنها إذا أجريت ذلك المجرى توهمت محرمات، وربما طال
العهد فيصير الترك واجبًا1 عند من لا يعلم.
ولا يقال: إن في بيان ذلك ارتكابًا للمكروه وهو منهي عنه؛
لأنا نقول: البيان آكد، وقد يرتكب النهي الحتم إذا كانت له
مصلحة راجحة؛ ألا ترى إلى كيفية تقرير الحكم2 على الزاني،
وما جاء في الحديث من قوله -عليه الصلاة والسلام- له:
"أنكتها"3 هكذا من غير كناية، مع أن ذكر [هذا] اللفظ في
غير معرض البيان مكروه أو ممنوع؟ غير أن التصريح هنا آكد،
فاغتفر لما يترتب عليه؛ فكذلك هنا، ألا ترى إلى إخبار
عائشة عما فعلته مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
التقاء الختانين4، وقوله, عليه الصلاة والسلام:
"ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك"5، مع أن ذكر مثل هذا في غير محل البيان منهي عنه؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتقدم أنه إذا أدى الفعل أو الترك إلى اعتقاد الوجوب
فيما ليس بواجب وجب البيان بالقول أو الفعل. "د".
2 لو قال: "تقرير الزاني"؛ لكان أخصر وأوضح. "د".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب هل يقول
الإمام للمقر لعلك لمست أو غمزت، 12/ 35/ رقم 6824" عن ابن
عباس, رضي الله عنهما.
4 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "ص83".
5 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "ص74"، وأوهم صنيع
المصنف في "ص94" أن الحديث في الإصباح جنبًا في الصوم،
وأوهم كلامه هنا أن الحديث لعائشة وأنه في التقاء
الختانين، مع أنه صرح هناك أنه لأم سلمة، وهو كما في مصادر
تخريجه في ذكر جواز التقبيل للصائم.
ج / 4 ص -118-
وقد
تقدم ما جاء عن ابن عباس في ارتجازه وهو محرم بقوله:
.........
..........................
إن تصدق الطير ننك لميسا1
مثل هذا لا حرج2 فيه.
وأما الثاني:
فلأنها إذا عمل بها دائمًا وترك اتقاؤها توهمت مباحات؛
فينقلب حكمها عند من لا يعلم، وبيان ذلك يكون بالتغيير
والزجر على ما يليق3 به في الإنكار، ولا سيما المكروهات
التي هي عرضة لأن تتخذ سننًا، وذلك المكروهات4 المفعولة في
المساجد، وفي مواطن الاجتماعات الإسلامية، والمحاضر
الجمهورية، ولأجل ذلك كان مالك شديد الأخذ على من فعل في
مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من هذه
المكروهات، بل ومن المباحات5؛ كما أمر بتأديب من وضع رداءه
أمامه من الحر6، وما أشبه ذلك.
فصل:
ما تقدم من هذه المسائل يتفرع عنها قواعد فقهية وأصولية،
منها أنه لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدنية
الندبية أن يواظب عليها مواظبة يفهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه مع شرحه في التعليق على "ص94".
2 بل هو مطلوب متى كان للبيان والفرق بين المكروهات
والمحرمات كما هو أصل المسألة. "د".
قلت: معنى ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ما
فيه الإثم في قوله السابق، بل المصلحة الراجحة ألغت
التحريم؛ فعاد الفعل مباحًا، بل واجبًا في تلك الحالة
الخاصة.
3 فالزجر عن المكروه لا يبلغ به مبلغ الزجر عن الحرام.
"د".
4 في الجزء الثاني من "الاعتصام" شيء كثير من أمثلتها.
"د".
5 أي: التي يتوهم أنها قربة. "د".
6 ستأتي القصة بتمامها.
ج / 4 ص -119-
الجاهل
منها الوجوب، إذا كان منظورًا إليه مرموقًا، أو مظنة لذلك،
بل الذي ينبغي له أن يدعها في بعض الأوقات حتى يعلم أنها
غير واجبة؛ لأن خاصية الواجب المكرر الالتزام والدوام عليه
في أوقاته، بحيث لا يتخلف عنه، كما أن خاصية المندوب عدم
الالتزام، فإذا التزمه فهم الناظر منه نفس الخاصية التي
للواجب؛ فحمله على الوجوب، ثم استمر على ذلك؛ فضل.
وكذلك إذا كانت العبادة تتأتى على كيفيات يفهم من بعضها في
تلك العبادة ما لا يفهم منها على الكيفية الأخرى، أو ضمت
عبادة أو غير عبادة إلى العبادة قد يفهم بسبب الاقتران ما
لا يفهم دونه، أو كان المباح يتأتى فعله على وجوه؛ فيثابر
فيه على وجه واحد تحريًا له ويترك ما سواه، أو يترك بعض
المباحات جملة من غير سبب ظاهر، بحيث يفهم منه في الترك
أنه مشروع.
ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب السجدة على المنبر ثم سجد
وسجد معه الناس، قرأها في كرة أخرى، فلما قرب من موضعها
تهيأ الناس للسجود؛ فلم يسجدها، وقال:
"إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء"1.
وسئل مالك عن التسمية عند الوضوء؛ فقال: "أيحب أن يذبح؟"2
إنكارًا لما يوهمه سؤاله من تأكيد الطلب فيها عند الوضوء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب سجود القرآن، باب من رأى
أن الله -عز وجل- لم يوجب السجود، 2/ 557/ رقم 1077".
2 المشهور عن مالك أنه كان يقول هذه المقولة في الجهر
بالتسمية في الصلاة، وليس في الوضوء؛ إذ هي مستحبة عنده
فيه، ثم رأيت القرافي في "الذخيرة" "1/ 284" يقول عن
التسمية في الوضوء: "استحسنها مالك -رحمه الله- مرة،
وأنكرها مرة، وقال: أهو يذبح؟ ما علمت أحدًا يفعل"، وانظر:
"عقد الجواهر الثمينة" "1/ 44".
ج / 4 ص -120-
ونقل
عن عمر؛ أنه قال: "لا نبالي أبدأنا بأيماننا أم بأيسارنا"1
يعني: في الوضوء، مع أن المستحب التيامن في الشأن كله2.
ومثال العبادات المؤداة على كيفيات يلتزم فيها كيفية واحدة
إنكار مالك لعدم3 تحريك الرجلين في القيام للصلاة4.
"استدراك*".
ومثال ضم ما ليس بعبادة إلى العبادة حكاية الماوردي في مسح
الوجه عند القيام من السجود5، وحديث عمر مع عمرو: "لو
فعلتها لكانت سنة، بل أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر"6.
ومثال فعل الجائز على وجه واحد ما نقل عن مالك أنه سئل عن
المرة الواحدة في الوضوء قال: "لا، الوضوء مرتان مرتان، أو
ثلاث ثلاث"، مع أنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المشهور في هذه العبارة أنها لعلي لا لعمر -رضي الله
عنهما- كما قال المصنف، وأخرجها عنه أحمد في العلل ومعرفة
الرجال "1/ 205, رواية عبد الله"، وابن أبي شيبة في
"المصنف" "1/ 39"، وأبو عبيد في "الطهور" "رقم 324,
بتحقيقي"، والدارقطني في "السنن" "1/ 88-89"، وابن المنذر
في "الأوسط" "1/ 42" بإسناد منقطع، لم يسمع عبد الله بن
عمرو بن هند من علي، مع ضعف في عبد الله بن عمرو بن هند،
قال الدارقطني: "ليس بالقوي". "استدراك*".
2 ودليله ما أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب
التيمن في دخول المسجد وغيره، 2/ 523/ رقم 426"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره، 1/
226/ رقم 268" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي
-صلى الله عليه وسلم- يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله:
في طهوره، وترجله، وتنعله".
3 انظر: "المدونة الكبرى" "1/ 196"، و"الاعتصام" "2/ 542,
ط ابن عفان".
4 قال ابن رشد: "كره مالك أن يقرنهما حتى لا يعتمد على
إحداهما دون الأخرى؛ لأن ذلك ليس من حدود الصلاة، وهو من
محدثات الأمور". "د".
5 وقد تقدمت "ص112".
6 مضى تخريجه "3/ 502"، وهو صحيح.
ج / 4 ص -121-
لم يحد
في الوضوء ولا في الغسل إلا ما أسبغ.
قال اللخمي: "وهذا احتياط وحماية؛ لأن العامي إذا رأى من
يقتدى به يتوضأ مرة مرة فعل مثل ذلك، وقد لا يحسن الإسباغ
بواحدة فيوقعه فيما لا تجزئ الصلاة به"1.
والأمثلة كثيرة، وهذا كله إنما هو فيما فعل بحضرة الناس،
وحيث يمكن الاقتداء بالفاعل، وأما من فعله في نفسه وحيث لا
يطلع عليه مع اعتقاده على ما هو به؛ فلا بأس، كما قاله
المتأخرون في صيام ست من شوال: إن من فعل ذلك في نفسه
معتقدًا وجه الصحة؛ فلا بأس، وكذا قال مالك في المرة
الواحدة: "لا أحب ذلك إلا للعالم بالوضوء"، وما ذكره
اللخمي يشعر بأنه إذا فعل الواحدة حيث لا يقتدى به؛ فلا
بأس، وهو جار على المذهب؛ لأن أصل مالك فيه عدم التوقيت2.
فأما إن أحب الالتزام، [وأن]3 لا يزول عنه ولا يفارقه؛ فلا
ينبغي أن يكون ذلك بمرأى من الناس، لأنه إن كان كذلك؛
فربما عده العامي واجبًا أو مطلوبًا أو متأكد الطلب بحيث
لا يترك، ولا يكون كذلك شرعًا؛ فلا بد في إظهاره من عدم
التزامه في بعض الأوقات، ولا بد في التزامه من عدم إظهاره
كذلك في بعض الأوقات، وذلك على الشرط4 المذكور في أول كتاب
الأدلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "الذخيرة" "1/ 286-287, ط دار الغرب" للقرافي.
2 على التحديد بالعدد، وأن المقصود الإسباغ. "د".
3 سقط من "ط".
4 وهو المحافظة على قصد الشارع، وأنه لا بد من اعتبار
الكلي والجزئي معًا في كل مسألة؛ فلا تهمل القواعد الكلية،
كما لا تهمل الأدلة الجزئية إذا حصل تعارض، لا يحري
الأعمال بالطريق المرسومة لذلك، وعلى هذا؛ ففي مسألتنا
وجدت أدلة جزئية تدل على أن بعض المطلوبات غير الواجبة
أظهرها -صلى الله عليه وسلم- وواظب عليها، وذلك كالإقامة
لصلاة الفرض ورفع اليدين عند تكبيرة الإحرام والبدء
بالسلام على اليمين وهكذا؛ فهذه وأمثالها لا بد من
استثنائها من هذه القاعدة حتى لا تهمل هذه الأدلة الجزئية
المتفق عليها، ولا يضر هذا في تأصيل المسألة كما تقدم له
في كتاب الأدلة. "د".
ج / 4 ص -122-
ولا
يقال: إن هذا مضاد لما تقدم من قصد الشارع للدوام على
الأعمال، وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملًا
أثبته1؛ لأنا نقول: كما يطلق الدوام على ما لا يفارق ألبتة
كذلك يطلق على ما يكون في أكثر الأحوال، فإذا ترك في بعض
الأوقات؛ لم يخرج صاحبه عن أصل الدوام، كما لا نقول في
الصحابة حين تركوا التضحية في بعض الأوقات: إنهم غير
مداومين عليها؛ فالدوام على الجملة لا يشترط في صحة إطلاقه
عدم الترك رأسًا، وإنما يشترط فيه الغلبة في الأوقات أو
الأكثرية، بحيث يطلق على صاحبه اسم الفاعل إطلاقًا
حقيقيًّا في اللغة.
ولما كانت الصوفية2 قد التزمت في السلوك ما لا يلزمها حتى
سوت بين الواجب والمندوب في التزام الفعل، وبين المكروهات
والمحرمات في التزام الترك، بل سوت بين كثير من المباحات
والمكروهات في الترك، وكان هذا النمط ديدنها لا سيما مع
ترك أخذها بالرخص؛ إذ من مذاهبها عدم التسليم للسالك فيها
من حيث هو سالك، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تلزم
الجمهور، بنوا طريقهم بينهم وبين تلاميذهم على كتم3
أسرارهم وعدم إظهارها، والخلوة بما التزموا من وظائف
السلوك وأحوال المجاهدة خوفًا من تعريض من يراهم ولا يفهم
مقاصدهم إلى ظن ما ليس بواجب واجبًا، أو ما هو4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 526 و2/ 405"، وهو صحيح.
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "وإنما كانت"، وفي "م": "التزمت
السلوك".
3 وبذلك كانوا جارين على مقتضى القواعد المتقدمة؛ فلم
يخالفوا الشريعة بعملهم. "د".
4 في "ط": "وما هو".
ج / 4 ص -123-
جائز
غير جائز أو مطلوبًا، أو تعريضهم لسوء القال1 فيهم؛ فلا
عتب عليهم في ذلك، كما لا عتب عليهم في كتم أسرار مواجدهم؛
لأنهم إلى هذا الأصل2 يستندون، ولأجل إخلال بعضهم بهذا
الأصل؛ إما لحال غالبة، أو لبناء بعضهم على غير أصل صحيح3،
انفتح عليهم باب سوء الظن من كثير من العلماء، وباب فهم
الجهال عنهم ما لم يقصدوه، وهذا كله محظور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي النسخ المطبوعة: "السؤال القال"!! وكتب
"د" ما نصه: "صوابه: "لسوء القال فيهم"، وهو مصدر قال،
يغلب ذكره في الشر".
2 وهو أن الالتزام للأعمال الندبية إنما يمنع حيث أمكن
الاقتداء فيما يفعل بحضرة الناس. "د".
3 وهذا حالهم وديدنهم، ولذا شكا منهم كبار علماء الملة،
وللطرطوشي فتوى مهمة فيهم، انظرها في "تفسير القرطبي" "11/
237-238".
ج / 4 ص -124-
المسألة التاسعة1:
الواجبات لا تستقر واجبات إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها
من الأحكام؛ فلا تترك ولا يسامح في تركها ألبتة، كما أن
المحرمات لا تستقر كذلك إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها
من الأحكام؛ فلا تفعل ولا يسامح في فعلها، وهذا ظاهر،
ولكنا نسير منه إلى معنى آخر، وذلك أن من الواجبات ما إذا
تركت لم يترتب عليها حكم دنيوي2، وكذلك من المحرمات ما إذا
فعلت لم يترتب عليها أيضًا حكم في الدنيا، ولا كلام في
مترتبات الآخرة؛ لأن ذلك خارج عن تحكمات العباد.
كما أن من الواجبات ما إذا تركت ومن المحرمات ما إذا فعلت
ترتب عليهما3 حكم دنيوي من عقوبة أو غيرها.
فما ترتب عليه حكم يخالف ما لم يترتب عليه حكم؛ فمن حقيقة
استقرار كل واحد من القسمين أن لا يسوى بينه وبين الآخر؛
لأن في تغيير أحكامها تغييرها في أنفسها؛ فكل ما يحذر في
عدم البيان في الأحكام المتقدمة يحذر هنا، لا فرق بين ذلك،
والأدلة التي تقدمت هنالك يجري مثلها هنا.
ويتبين هذا الموضع أيضًا بأن يقال: إذا وضع الشارع حدًّا
في فعل مخالف فأقيم ذلك الحد على المخالف؛ كان الحكم
الشرعي [فيه] مقررًا مبينًا، فإذا لم يقم؛ فقد أقر على غير
ما أقره الشارع، وغير إلى الحكم المخالف الذي لا يترتب
عليه مثل ذلك الحكم، ووقع بيانه مخالفًا؛ فيصير المنتصب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "11/ 686-687".
2 في "ط": "ديني".
3 في "ط": "عليه".
ج / 4 ص -125-
لتقرير
الأحكام قد خالف قوله فعله؛ فيجري1 فيه ما تقدم، فإذا رأى
الجاهل ما جرى؛ توهم الحكم الشرعي على خلاف ما هو عليه،
فإذا قرر المنتصب الحكم على وجه ثم أوقع على وجه آخر؛ حصلت
الريبة، وكذب الفعل القول كما تقدم بيانه، وكل ذلك فساد،
وبهذا المثال2 يتبين أن وارث النبي يلزمه إجراء الأحكام
على موضوعاتها؛ في أنفسها، وفي لواحقها، وسوابقها،
وقرائنها، وسائر ما يتعلق بها شرعًا؛ حتى يكون دين الله
بينًا عند الخاص والعام، وإلا؛ كان من الذين قال الله
تعالى فيهم:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ
وَالْهُدَى} الآية
[البقرة: 159].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "فجرى".
2 في الأصل: "المثل".
ج / 4 ص -126-
المسألة العاشرة:
لا يختص هذا البيان المذكور بالأحكام التكليفية، بل هو
لازم أيضًا في الأحكام الراجعة إلى خطاب الوضع؛ فإن
الأسباب والشروط والموانع والعزائم والرخص وسائر الأحكام
المعلومة أحكام شرعية، لازم بيانها قولًا وعملًا، فإذا1
قررت الأسباب قولًا، وعمل على وفقها إذا انتهضت؛ حصل
بيانها للناس، فإن2 قررت، ثم لم تعمل مع انتهاضها كذب
القول الفعل، وكذلك الشروط إذا انتهض السبب مع وجودها
فأعمل، أو مع فقدانها فلم يعمل؛ وافق القول الفعل، فإن
عكست القضية وقع الخلاف؛ فلم ينتهض القول بيانًا، وهكذا
الموانع وغيرها.
وقد أعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- مقتضى الرخصة في
الإحلال من العمرة3 والإفطار في السفر4، وأعمل الأسباب،
ورتب الأحكام حتى في نفسه، حين أقص من نفسه -صلى الله عليه
وسلم-5, وكذلك في غيره، والشواهد [على هذا] لا تحصى،
والشريعة كلها داخلة تحت هذه الجملة، والتنبيه كافٍ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "فإن"، وكتب "ق": "لعله: "وإن"".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "وإن".
3 في عمرة الحديبية أحل هو والصحابة، وأما في عمرة حجته؛
فالصحيح أنه كان قارنًا وساق الهدي، فلم يحل هو لذلك،
ولكنه أمر من لم يسق الهدي بالإحلال من العمرة، سواء أكان
مهلًّا بالعمرة فقط أم كان مهلًّا في أول أمره بالحج ثم
فسخه في عمرة؛ كما فعله أكثر الصحابة. "د".
قلت: وإحلاله في عمرة الحديبية مضى لفظه، وتخريجه في
التعليق على "ص87".
4 مضى تخريجه "ص87-88".
5 يشير المصنف إلى ما أخرجه أبو داود في "سننه" "كتاب
الديات، باب القود من الضربة وقص الأمير من نفسه، 4/ 183/
رقم 4537"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب القسامة، باب
القصاص من السلاطين، 8/ 34"، وأحمد في "المسند" "1/ 41"،
وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 480"، وأبو يعلى في
"المسند" "1/ 174-175/ رقم 196"، والبيهقي في =
ج / 4 ص -127-
المسألة الحادية عشرة:
بيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيان صحيح لا إشكال
في صحته؛ لأنه لذلك بعث، قال:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ
مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44], ولا خلاف فيه1.
وأما بيان الصحابة فإن أجمعوا على ما بينوه؛ فلا إشكال في
صحته أيضًا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "السنن الكبرى" "9/ 29، 42" و"الشعب" "5/ 555/ رقم
2379"، والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 170، 172-173"،
والآجري في "أخلاق أهل القرآن" "رقم 26"، ومسدد كما في
"المطالب العالية" "ق 75/ ب"، والحاكم في "المستدرك" "4/
439" عن أبي فراس, وهو مقبول, أن عمر -رضي الله عنه- قال:
"رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقص من نفسه".
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 468/ رقم 18040"،
والبزار في "مسنده" "رقم 285"، والدارقطني في "الأفراد"
"ق20/ 1, الأطراف" من وجه آخر عنه، وفيه ضعف.
وقد وردت قصص كثيرة تشهد لهذا الحديث، منها:
عند الطبراني: عن عبد الله بن جبير الخزاعي، واختلف في
صحبته، والراجح أنه ليس له صحبة، ولذا قال عنه في
"التقريب": "مجهول".
وعند عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 465-466/ رقم 18037": عن
أبي سعيد الخدري، وإسناده واهٍ جدًّا، فيه أبو هارون
العبدي، واسمه عمارة بن جوين، وهو متهم.
وعند عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 469/ رقم 18042" من مرسل
سعيد بن المسيب.
وعند عبد الرزاق في "المصنف" "9/ 466، 467/ رقم 18038،
18039"، من مرسل الحسن البصري.
وكذا عند ابن إسحاق, كما في "سيرة ابن هشام" "2/ 278"،
وعبد الرزاق كما في "الإصابة" "3/ 218" عن سواد بن غزية،
وإسنادهما ضعيف.
ومجموع هذه الطرق صالح لصحة معنى ما قال المصنف، والله
أعلم.
1 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 236".
ج / 4 ص -128-
كما
أجمعوا على الغسل من التقاء الختانين المبين لقوله:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، وإن لم يجمعوا1 عليه؛ فهل يكون بيانهم حجة، أم لا؟
هذا فيه نظر وتفصيل، ولكنهم يترجح الاعتماد عليهم في
البيان من وجهين:
أحدهما: معرفتهم باللسان العربي؛ فإنهم عرب فصحاء، لم
تتغير ألسنتهم ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم؛ فهم
أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم، فإذا جاء عنهم قول أو
عمل واقع موقع البيان؛ صح اعتماده من هذه الجهة.
والثاني: مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب
والسنة؛ فهم أقعد في فهم القرائن الحالية2 وأعرف بأسباب
التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهد يرى
ما لا يرى الغائب.
فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات، أو تخصيص بعض العمومات؛
فالعمل عليه صواب، وهذا3 إن لم ينقل عن أحد منهم خلاف في
المسألة، فإن خالف بعضهم؛ فالمسألة اجتهادية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بأن اختلفوا، أو بين بعضهم ولم ينقل بيان عن غيره
يخالفه، وقد فصل فجعل الأول محل اجتهاد، بمعنى أنه لا
يترجح الوقوف عند بيانهم لهذا الاختلاف، وجعل الثاني محل
الاعتماد والترجح على بيان غيرهم. "د".
قلت: انظر في ذلك "المسودة" "ص315-317، 321"، و"البرهان"
"2/ 1359"، و"شرح اللمع" "2/ 749"، و"أصول السرخسي" "2/
105"، و"التمهيد" "3/ 217"، و"الإحكام" "4/ 149" للآمدي،
و"تيسير التحرير" "3/ 132"، و"شرح تنقيح الفصول" "445"،
و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 14، 573-576".
2 أي: التي تجيء من جهة الحوادث والنوازل المقتضية لنزول
الآية والحديث، أما القرائن المقالية؛ فيشترك فيهما معهم
غيرهم من أهل الفهم في ذلك، وإن كان مقتضى الوجه الأول أن
بيانهم أرجح من جهة اللغة أيضًا. "د".
3 في "ط": "هذا" بغير واو.
ج / 4 ص -129-
مثاله
قوله, عليه الصلاة والسلام:
"لا يزال الناس
بخير ما عجلوا الفطر"1؛ فهذا
التعجيل يحتمل أن يقصد به إيقاعه قبل الصلاة، ويحتمل أن
لا؛ فكان عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان يصليان المغرب قبل
أن يفطرا، ثم يفطران بعد الصلاة2 بيانًا أن هذا التعجيل لا
يلزم أن يكون قبل الصلاة، بل إذا كان بعد الصلاة؛ فهو
تعجيل أيضًا، وأن التأخير الذي يفعله أهل المشرق3 شيء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب تعجيل
الإفطار، 4/ 198/ رقم 1957"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره
وتعجيل الفطر، 2/ 771/ رقم 1098" عن سهل بن سعد مرفوعًا.
2 أخرجه مالك في "الموطأ" "193, رواية يحيى و128, رواية
محمد بن الحسن ورقم 774, رواية أبي مصعب"، وعبد الرزاق في
"المصنف" "4/ 225"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 238"، وقد
صحح نحوه ابن عبد البر في "التمهيد" "22/ 23-24".
3 يشير المصنف "وهو من أهل القرن الثامن الهجري" إلى تأخير
أهل المشرق الفطر في زمانه وأوانه إلى بعد الغروب, وقد شكا
الحافظ ابن حجر العسقلاني "ت 852هـ" من هذا الصنيع؛ فقال
في "فتح الباري" "4/ 199" في آخر شرحه "باب تعجيل الإفطار"
من "صحيح البخاري"، قال ما نصه: "من البدع المنكرة ما أحدث
في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث
ساعة في رمضان... وقد جرهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلا
بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت، زعموا! فأخروا الفطر،
وعجلوا السحور، وخالفوا السنة؛ فلذلك قل عنهم الخير، وكثر
فيهم الشر، والله المستعان".
وكتب "د" هنا ما نصه: "من هم أهل المشرق الذين كان عمر
وعثمان يقصدان مخالفتهم، وبيان أنهم متعمقون؟"، وهذا ينبئ
عن عدم فهم عبارة المصنف، وقد أخرج مالك في "الموطأ" "193,
رواية يحيى ورقم 773, رواية أبي مصعب", ومن طريقه الفريابي
في "الصيام" "رقم 57"، والبيهقي في "الشعب" "7/ 491/ رقم
3631"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 12" عن سعيد بن
المسيب رفعه:
"لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر، ولم يؤخروه تأخير أهل المشرق".
وأخرج الفريابي في "الصيام" "رقم 46-48"، وعبد الرزاق في
"المصنف" "4/ 225/ رقم 7589" عن سعيد بن المسيب عن أبيه عن
عمر قوله: "لن يزالوا -أي: أهل الشام- ما عجلوا الفطر، ولم
يتنطعوا تنطع أهل العراق، وفيه قصة، وإسناده قوي، ويظهر لي
أن مرسل سعيد السابق عند مالك في آخره إدراج، وهو "ولم
يؤخروه..."، وأهل العراق هم المرادون به، وذكر ابن عبد
البر مرسل سعيد وحذف آخره، وتكلم عمن وصل أوله فحسب على
غير عادته، ولم يفطن للإدراج الذي فيه، راجع "التمهيد"
"20/ 22"، و"الاستذكار" "10/ 40".
ج / 4 ص -130-
آخر
داخل في التعمق المنهي عنه1، وكذلك2 ذكر عن اليهود أنهم
يؤخرون الإفطار3؛ فندب المسلمون إلى التعجيل.
وكذلك لما قال عليه الصلاة والسلام:
"لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه"4 احتمل أن تكون الرؤية مقيدة5 بالأكثر، وهو أن يرى بعد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضت بعض النصوص "1/ 522 و2/ 228". وفي "ط": "وداخل...".
2 يعني: وبيانًا لأن ندب التعجيل لمخالفة اليهود المتعمقين
في التأخير لا يستدعي أن يكون الإفطار قبل الصلاة؛ فينتظم
هذا في سلك ما قبله. "د".
3 أخرج أبو داود في "السنن" "كتاب الصوم، باب ما يستحب من
تعجيل الفطر، 2/ 305/ رقم 2353"، والنسائي في "الكبرى",
كما في "التحفة" "11/ 5/ رقم 15024"، وأحمد في "المسند"
"2/ 450"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 11"، والفريابي
في "الصيام" "رقم 36، 37"، وابن خزيمة في "الصحيح" "رقم
2060"، وابن حبان في "الصحيح" "8/ 273-274/ رقم 3503،
3509, الإحسان"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 431"، والبيهقي
في "الكبرى" "4/ 237" و"الشعب" "7/ 492/ رقم 3633"، وابن
عبد البر في "التمهيد" "22/ 23" بإسناد حسن عن أبي هريرة
مرفوعًا: "لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر, إن
اليهود والنصارى يؤخرون".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي,
صلى الله عليه وسلم:
"إذا رأيتم
الهلال فصوموا" 4/ 119/
رقم 1906"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم
رمضان لرؤية الهلال، 2/ 759/ رقم 1080" عن ابن عمر -رضي
الله عنهما- مرفوعًا.
5 أي: فيكون فطر اليوم التالي للرؤية إذا وقعت بعد الغروب،
أما إذا رئي على غير الأكثر وهو الرؤية قبل الغروب؛ فإن
الفطر لليوم نفسه لا للتالي؛ فبين عثمان أن هذا التقييد
غير لازم، وأن الفطر لليوم التالي للرؤية مطلقًا قبل
الغروب وبعده، فلم يفطر حتى أمسى، والمسألة خلافية؛ فأبو
يوسف يقول: إن الرؤية نهارًا قبل الزوال للماضي، وبعده
للمستقبل، وأبو حنيفة ومالك والشافعي كعثمان يرون أنها لا
يعتد بها للماضي مطلقًا قبل الزوال وبعده. "د".
ج / 4 ص -131-
غروب
الشمس؛ فبين عثمان [بن عفان] أن ذلك غير لازم، فرأى الهلال
في خلافته قبل الغروب، فلم يفطر حتى أمسى وغابت الشمس1.
وتأمل؛ فعادة مالك بن أنس في "موطئه" وغيره الإتيان
بالآثار عن الصحابة مبينًا بها السنن، وما يعمل به منها
وما لا يعمل به، وما يقيد به مطلقاتها، وهو دأبه ومذهبه
لما تقدم ذكره.
ومما بين كلامهم اللغة أيضًا، كما نقل مالك في دلوك الشمس
وغسق الليل كلام ابن عمر وابن عباس2، وفي معنى السعي عن
عمر بن الخطاب3، أعني قوله تعالى:
{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، وفي معنى الإخوة أن السنة مضت4 أن الإخوة اثنان
فصاعدًا5، كما تبين بكلامهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" "2/ 480, ط دار الفكر"؛
قال: "حدثنا حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة أن
الناس رأوا هلال الفطر حين زاغت الشمس؛ فأفطر بعضهم، فذكرت
ذلك لسعيد بن المسيب فقال: أما أنا؛ فمتم صيامي إلى
الليل". وقال مالك في "الموطأ" "1/ 287, رواية يحيى":
"بلغني أن الهلال رئي في زمان عثمان بن عفان بعشي، فلم
يفطر عثمان حتى أمسى، وغابت الشمس". وانظر: "الاستذكار"
"10/ 19".
2 انظر: "الموطأ" 33, رواية يحيى و1/ 10، 11, رواية أبي
مصعب".
3 انظر: "الموطأ" "87, رواية يحيى و1/ 174-175, رواية أبي
مصعب"، و"معجم ابن الأعرابي" "رقم 1134"، و"البرهان في
علوم القرآن" "1/ 222".
قال "ماء": "أي: امشوا إليه بدون إفراط في السرعة، والمراد
بذكر الله هنا الخطبة، والصلاة وذروا البيع؛ أي: اتركوا
المعاملة، على أن البيع مجاز عن ذلك؛ فيعم البيع والشراء
والإجارة وغيرها من المعاملات".
4 في "الموطأ" والأصل و"ط": "مضت"، وفي جميع النسخ
المطبوعة: "قضت".
5 انظر: "الموطأ" "313, رواية يحيى و2/ 524, رواية أبي
مصعب".
ج / 4 ص -132-
معاني
الكتاب والسنة.
لا يقال: [إن هذا المذهب راجع إلى تقليد الصحابي، وقد عرفت
ما فيه من النزاع والخلاف1؛ لأنا نقول:]2 نعم، هو تقليد،
ولكنه راجع إلى ما لا يمكن الاجتهاد فيه على وجهه؛ إلا لهم
لما3 تقدم من أنهم عرب، وفرق بين من هو عربي الأصل
والنحلة، [وبين]2 من تعرب.
.................................
غلب التطبع شيمة المطبوع4
وأنهم شاهدوا من أسباب
التكاليف وقرائن أحوالها ما لم يشاهد من بعدهم، ونقل قرائن
الأحوال على ما هي عليه كالمعتذر؛ فلا بد من القول بأن
فهمهم في الشريعة أتم وأحرى بالتقديم، فإذا جاء في القرآن
أو في السنة من بيانهم ما هو موضوع موضع التفسير، بحيث لو
فرضنا عدمه لم يمكن تنزيل النص عليه على وجهه؛ انحتم الحكم
بإعمال ذلك البيان لما ذكر، ولما جاء في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في تقليده، وكذا في حجية مذهبه؛ فقد أجمعوا على أنه
ليس حجة على غيره من الصحابة المجتهدين، واختلفوا في كونه
حجة على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين مقدمًا على
القياس، والمختار أنه ليس بحجة، راجع: "الأحكام" "4/ 201"
للآمدي، والمؤلف اختار طريقًا وسطًا يؤيد فيه القول
بالحجية في نوع منه، وهو ما احتاج إلى القرائن الحالية
التي هم أعرف بها من غيرهم، وكذا ما يحتاج إلى القوة في
معرفة لغة العرب، وإذا قرأت مسألتي مذهب الصحابي في
"الأحكام" حكمت بأنهما مأخذ المؤلف وأصله الذي استنبط منه
مسألته لهذه، وكما أن الخلاف حاصل في حجية مذهب الصحابي
على من بعده، كذلك الخلاف في تقليده حاصل، والمختار المنع
أيضًا إلا للعامي إذا عرف حقيقة مذهب الصحابي؛ فيجوز له
تقليده. "د".
2 في "د": "كما".
3 سقط من "ط".
4 عزاه الشريشي في "شرح المقامات" "2/ 507" للشريف الرضي،
وهو في "شعره" "ص78" جمع ضحى عبد العزيز، وهو ضمن قصيدة
طويلة في الغزل، وأوله:
هيهات لا تتكلفن في الهوى
...............................
ج / 4 ص -133-
السنة
من اتباعهم والجريان على سننهم، كما جاء في قوله, عليه
الصلاة والسلام:
"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها
وعضوا عليها بالنواجذ"1،
وغير ذلك من الأحاديث؛ فإنها عاضدة لهذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أحمد في "المسند" "4/ 126، 127"، وأبو داود في
"السنن" "كتاب السنة، باب في لزوم السنة، 4/ 200-201/ رقم
6407"، والترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء في
الأخذ بالسنة واجتناب البدع، 5/ 44/ رقم 2676"، وابن ماجه
في "السنن" "المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين
المهديين، 1/ 15-16 و16، 17/ رقم 42-44"، وابن جرير في
"جامع البيان" "10/ 212"، والدارمي في "السنن" "1/ 44"،
والبغوي في "شرح السنة" "1/ 205/ رقم 102"، وابن أبي عاصم
في "السنة" "1/ 17، 18، 19، 20، 29، 30"، ومحمد بن نصر في
"السنة" "ص21، 22"، والحارث بن أبي أسامة في "المسند" "ق
19, مع بغية الباحث"، والآجري في "الشريعة" "ص46، 47"،
وابن حبان في "الصحيح" "1/ 104/ رقم 45, مع الإحسان"،
والطبراني في "المعجم الكبير "18/ 245، 246، 247، 248،
249، 257"، والمعجم الأوسط" "رقم 66"، وابن عبد البر في
"جامع بيان العلم" "2/ 222، 224"، والحاكم في "المستدرك"
"1/ 95، 96، 97"، و"المدخل إلى الصحيح" "1/ 1"، والخطيب في
"موضح أوهام الجمع والتفريق" "2/ 423"، و"الفقيه والمتفقه"
"1/ 176-177"، والبيهقي في "مناقب الشافعي" "1/ 10-11"،
و"الاعتقاد" "ص113"، و"دلائل النبوة" "6/ 541-542"،
و"المدخل إلى السنن الكبرى" "ص115-116/ رقم 50 و51"،
و"السنن الكبرى" "10/ 114"، وابن وضاح في "البدع" "ص23،
24"، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" "5/ 220، 221 و10/ 114،
115"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "2/ 69"، واللالكائي في
"شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 74، 75"، والهروي في "ذم
الكلام" "69/ 1-2"، وابن عساكر في "تاريخ دمش" "11/ 265/
1-266/ 1"، وأحمد بن منيع في "المسند"؛ كما في "المطالب
العالية" "3/ 89" من طرق كثيرة عن العرباض بن سارية, رضي
الله عنه.
وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وقال الهروي: "وهذا من
أجود حديث في أهل الشام"، وقال البزار: "حديث ثابت صحيح"،
وقال البغوي: "حديث حسن"، وقال ابن عبد البر: "حديث ثابت"،
وقال الحاكم: "صحيح ليس له علة"، ووافقه الذهبي، وقال أبو
نعيم: "هو حديث جيد من صحيح الشاميين"، وصححه الضياء
المقدسي في "جزء في اتباع السنن واجتناب البدع" "رقم 2"،
وقال ابن كثير في "تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن
الحاجب" "رقم 36": صححه الحاكم وقال: ولا أعلم له علة،
وصححه أيضًا الحافظ أبو نعيم الأصبهاني والدغولي، وقال شيخ
الإسلام الأنصاري: هو أجود حديث في أهل الشام وأحسنه".
وانظر: "إرواء الغليل" "8/ 107/ رقم 2455"، و"جامع العلوم
والحكم" "ص187"، و"المعتبر" للزركشي "187/ 1" مخطوط.
ج / 4 ص -134-
المعنى
في الجملة1.
أما إذا علم أن الموضع موضع اجتهاد لا يفتقر إلى ذينك
الأمرين؛ فهم ومن سواهم فيه شرع سواء؛ كمسألة العول،
والوضوء من النوم، وكثير من مسائل الربا التي قال فيها عمر
بن الخطاب: "مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يبين
لنا آية الربا؛ فدعوا الربا والريبة"2، أو كما قال؛ فمثل
هذه المسائل موضع اجتهاد للجميع لا يختص به الصحابة دون
غيرهم من المجتهدين، وفيه خلاف3 بين العلماء أيضًا؛ فإن
منهم من يجعل قول الصحابي ورأيه حجة يرجع إليها ويعمل
عليها من غير نظر؛ كالأحاديث والاجتهادات النبوية، وهو
مذكور في كتب الأصول؛ فلا يحتاج إلى ذكره ههنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإنما قال: "في الجملة"؛ لأنه لا دلالة فيه على عموم
الاقتداء في كل ما يقتدي فيه، فيمكن حمله على الاقتداء بهم
فيما يرونه عنه -صلى الله عليه وسلم- وليس الحمل على غيره
أولى من الحمل عليه كما قال الآمدي. "د".
2 أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 36"، وابن ماجه في "السنن"
"كتاب التجارات، باب التغليظ في الربا، 2/ 764/ رقم 2276"،
وابن حزم في "المحلى" "8/ 477"، وعزاه السيوطي في "الدر
المنثور" "1/ 365" لابن جرير وابن المنذر، وهو من طريق
سعيد بن المسيب عن عمر، وهو لم يسمع منه، وله طرق أخرى به
يصح، انظر: "مسند الفاروق" "2/ 571"، لابن كثير، و"صحيح
سنن ابن ماجه" "2/ 28".
3 قد علمته، وقوله: "كالأحاديث"؛ أي: فيقدم مذهبه على
القياس، وممن ذهب إليه مالك والشافعي وابن حنبل في قول
لهما وهو رأي الرازي وبعض أصحاب أبي حنيفة. "د".
ج / 4 ص -135-
المسألة الثانية عشرة:
الإجمال إما متعلق بما لا ينبني عليه تكليف، وإما غير1
واقع في الشريعة.
وبيان ذلك من أوجه:
أحدها: النصوص الدالة على ذلك؛ كقوله تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي}
الآية2 [المائدة: 3].
وقوله:
{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ
لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138].
وقوله:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ3
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
وقوله تعالى:
{هُدًى لِلْمُتَّقِين}
[البقرة: 2]،
{هُدًى
وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِين}
[لقمان: 3]، وإنما كان هدى لأنه مبين، والمجمل لا يقع به
بيان، وكل ما في هذا المعنى من الآيات.
وفي الحديث:
"تركتكم على
البيضاء, ليلها كنهارها"4.
وفيه: "تركت فيكم
اثنين لن تضلوا ما تمسكتم بهما؛ كتاب الله،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا قلنا: إن الراسخين يعلمون المتشابه، أما إن قلنا:
إنهم لا يعلمونه؛ فليس التكليف واقعًا إلا بالإيمان به على
أنه من عند الله، وأنه على ما أراده منه حق. "د".
2 لا حاجة إلى بقية الآية فيما هو بصدده. "د".
3 أي: فإذا بقي شيء مجمل بدون بيان لم يكن أدى وظيفته،
وحاشاه, صلى الله عليه وسلم. "د".
4 هو الجزء الأول من حديث العرباض المتقدم قريبًا "ص133"،
وفيه:
"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء..."، وهو صحيح.
ج / 4 ص -136-
وسنتي"1.
ويصحح هذا المعنى قوله تعالى:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، ويدل على أنهما بيان لكل مشكل، وملجأ من كل معضل.
وفي الحديث: "ما تركت2 شيئًا مما
أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئًا مما
نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه"3.
وهذا المعنى كثير، فإن كان في القرآن شيء مجمل؛ فقد بينته
السنة؛ كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وركوعها وسجودها
وسائر أحكامها، وللزكاة ومقاديرها وأوقاتها وما تخرج منه
من الأموال، وللحج إذ قال:
"خذوا عني مناسككم"4، وما أشبه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد من حديث مجموعة من الصحابة، وهي بمفرداتها لا تخلو
من ضعف، ولكنها تجبر بتعدد طرقها، انظر تفصيل ذلك في
"السلسلة الصحيحة" "رقم 1761".
2 وهل هذا يقتضي أن كل ما أمر به أو نهى عنه لا إجمال فيه؟
ومثله يقال في الآية الأولى؛ إلا أن إتمام النعمة فيها
يرشح استقامة الاستدلال بها؛ لأنه إذا بقي إجمال وعدم فهم
لبعض الشريعة لا تكون النعمة فيها تامة، وأيضًا؛ فإن كمال
الدين لا يقال إذا بقي منه شيء غير مفهوم المراد، أما
الحديث؛ فالسؤال فيه لا يزال متوجهًا. "د".
3 أخرجه الشافعي في "المسند" "7, بدائع المنن"، وابن خزيمة
في "حديث علي بن حجر" "3/ رقم 100" ,كما في "الصحيحة" "رقم
1803"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه""1/ 92-93" عن المطلب
بن حنطب به مرفوعًا، وهو مرسل حسن، وله شاهد عن أبي ذر،
أخرجه أحمد في "المسند" "5/ 153، 162"، والطبراني في
"الكبير" "1647"، والبزار في "المسند" "رقم 147, زوائده"،
وإسناد أحمد صحيح.
4 مضى تخريجه "3/ 246".
ج / 4 ص -137-
ثم بين
عليه الصلاة والسلام ما وراء ذلك مما1 لم ينص عليه في
القرآن، والجميع بيان منه عليه, الصلاة والسلام.
فإذا ثبت هذا، فإن وجد في الشريعة مجمل2، أو مبهم المعنى،
أو ما لا يفهم؛ فلا يصح أن يكلف بمقتضاه لأنه تكليف
بالمحال، وطلب ما لا ينال، وإنما يظهر هذا الإجمال في
المتشابه الذي قال الله تعالى فيه:
{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات} [آل عمران: 7].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كزكاة الفطر، وأكثر المناهي في البيع كالنجش والغرر
وتحريم لحوم الحمر الأهلية كما قال, صلى الله عليه وسلم:
"ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه".
"د".
قلت: وسيأتي تخريجه في "ص190-191، 322-323"، وهو صحيح.
2 "مجمل" كالمشترك "أو مبهم" خفي المعنى، كالأب نوع من
النبات خفي معناه على عمر كما سبق، "أو ما لا يفهم"؛ أي:
لا يعقل معناه المتبادر منه وضعًا؛ كالوجه، واليد، والمجيء
المنسوبة لله سبحانه، هذا هو مقتضى التعبير بأو، ويصح أن
يكون تنويعًا في العبارة، والكل مجمل بالمعنى العام أي
الذي لم يتضح المراد منه بسبب من الأسباب المشار إليها
آنفًا؛ فلا تكون متقابلة، وقوله بعد: "فلا يتصور أن يكون
ثم مجمل لا يفهم معناه ثم يكلف به" يقتضي احتمالًا ثالثًا،
وأن المراد منها واحد وهو المتشابه؛ فلا يدخل فيه مثل الأب
الذي وإن توقف فيه عمر؛ فقد عرفه غيره. "د".
قلت: انظر لزامًا ما تقدم "2/ 195، 257 و3/ 319، 323"، حول
مذهب السلف في الصفات؛ فقد أخطأ المعلق هنا، ولم يصب الحق
في هذا الباب، والله الموفق للصواب، وقرر ابن تيمية في
"مجموع الفتاوى" "7/ 391-392" أن لفظ المجمل في اصطلاح
الأئمة كالشافعي وأحمد وأبي عبيد وإسحاق وغيرهم، سواء لا
يريدون بالمجمل ما لا يفهم منه، كما فسره به بعض
المتأخرين, وأخطأ في ذلك, بل المجمل ما لا يكفي وحده في
العمل به, وإن كان ظاهرًا حقًّا.
وانظر: "مباحث في المجمل والمبين من الكتاب والسنة" لعبد
القادر شحاتة "ص10 وما بعدها"، دار البيان للنشر والتوزيع،
و"بيان النصوص التشريعية؛ طرقه وأنواعه" لبدران أبو
العينين بدران "ص729".
ج / 4 ص -138-
ولما
بين الله تعالى أن في القرآن متشابهًا؛ بين أيضًا أنه ليس
فيه تكليف إلا الإيمان به على المعنى المراد منه، لا على
ما يفهم المكلف منه، فقد قال الله تعالى:
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ....}
إلى قوله:
{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].
والناس في المتشابه1 المراد ههنا على مذهبين2: فمن قال:
إن الراسخين يعلمونه؛ فليس بمتشابه عليهم وإن تشابه على
غيرهم، كسائر المبينات المشتبهة على غير العرب، أو على غير
العلماء من الناس، ومن قال إنهم لا يعلمونه وإن الوقف على
قوله:
{إِلَّا
اللَّهُ} [آل عمران: 7]؛ فالتكليف بما يراد به مرفوع باتفاق؛ فلا يتصور أن
يكون ثم مجمل لا يفهم معناه ثم يكلف به، وهكذا إذا قلنا:
إن الراسخين هم المختصون بعلمه دون غيرهم؛ فذلك الغير
ليسوا بمكلفين بمقتضاه، ما دام مشتبهًا عليهم؛ حتى يتبين
باجتهاد أو تقليد، وعند ذلك يرتفع تشابهه؛ فيصير كسائر
المبينات.
فإن قيل: قد أثبت القرآن متشابهًا في القرآن، وبينت السنة
أن في الشريعة مشتبهات بقوله:
"الحلال بين،
والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات"3،
وهذه المشتبهات متقاة4 بأفعال العباد لقوله:
"فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو المتشابه الحقيقي، وهو ما لم يجعل لنا سبيل إلى فهم
حقيقة المراد منه ولا نصب دليل على ذلك. "د".
2 انظر لزامًا ما قدمناه "3/ 319".
3 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان،
باب فضل من استبرأ لدينه، 1/ 126/ رقم 52، وكتاب البيوع،
باب الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، 4/ 290/
رقم 2051"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة، باب أخذ
الحلال وترك الشبهات، 3/ 1219-1220/ رقم 1599" عن النعمان
بن بشير, رضي الله عنه.
4 في الأصل: "متلقاة" وفي "ط": "متعلقات".
ج / 4 ص -139-
وعرضه"1؛ فهي إذًا مجملات وقد انبنى عليها التكليف2، كما أن قوله تعالى:
{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] قد انبنى عليها التكليف، وذلك قوله:
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ رَبِّنَا}
[آل عمران: 7]، فكيف يقال: إن الإجمال والتشابه لا
يتعلقان3 بما ينبني عليه تكليف؟
فالجواب: أن الحديث في المتشابهات ليس مما نحن بصدده،
وإنما كلامنا في التشابه الواقع في خطاب الشارع، وتشابه
الحديث في مناط الحكم، وهو راجع إلى نظر المجتهد حسبما مر
في فصل4 التشابه، وإن سلم؛ فالمراد أن لا يتعلق تكليف
بمعناه المراد عند الله تعالى، وقد يتعلق به التكليف من
حيث هو مجمل، وذلك بأن يؤمن أنه من عند الله، وبأن يجتنب
فعله إن كان من أفعال العباد، ولذلك قال:
"فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه"5.
ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد؛ كقوله:
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].
وفي الحديث:
"ينزل ربنا إلى
سماء الدنيا"6، وأشباه
ذلك.
هذا معنى أنه لا يتعلق به تكليف، وإلا؛ فالتكليف متعلق بكل
موجود، من حيث يعتقد على ما هو عليه، أو يتصرف فيه إن صح
تصرف العباد فيه، إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الحاشية رقم "3" في الصفحة السابقة.
2 أي: باتقائها واجتنابها. "د".
3 في "ط": "يعلقان".
4 في النوع الثالث من المتشابه من المسألة الثالثة هناك؛
فراجعه. "د".
5 مضى تخريجه قريبًا.
6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب الدعاء
والصلاة من آخر الليل، 3/ 29/ رقم 1145"، ومسلم في "صحيحه"
"كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء
والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، 1/ 521/ رقم 758" عن
أبي هريرة مرفوعًا.
وفي الباب أحاديث كثيرة جدًّا.
ج / 4 ص -140-
غير
ذلك من وجوه النظر.
الوجه الثاني: أن المقصود الشرعي من الخطاب الوارد على
المكلفين تفهيم ما لهم وما عليهم، مما هو مصلحة لهم في
دنياهم وأخراهم، وهذا يستلزم كونه بينًا واضحًا لا إجمال
فيه ولا اشتباه، ولو كان فيه بحسب هذا القصد اشتباه
وإجمال؛ لناقض أصل مقصود الخطاب، فلم تقع فائدة، وذلك
ممتنع من جهة رعي المصالح؛ تفضلًا، أو انحتامًا، أو عدم1
رعيها؛ إذ لا يعقل خطاب مقصود من غير تفهيم مقصود.
والثالث: أنهم اتفقوا على امتناع تأخير البيان عن وقت
الحاجة2؛ إلا عند من يجوز تكليف المحال، وقد مر بيان
امتناع تكليف المحال سمعًا فبقي3 الاعتراف بامتناع تأخير
البيان عن وقته، وإذا ثبت ذلك؛ فمسألتنا من قبيل4 هذا
المعنى؛ لأن خطاب التكليف في وروده مجملًا غير مفسر، إما
أن يقصد التكليف به مع عدم بيانه، أو لا، فإن لم يقصد؛
فذلك ما أردنا، وإن قصد؛ رجع إلى تكليف ما لا يطاق، وجرت
دلائل الأصوليين هنا في المسألة.
وعلى هذين الوجهين -أعني5: الثاني والثالث- إن جاء في
القرآن مجمل؛ فلا بد من خروج معناه عن تعلق التكليف به،
وكذلك ما جاء منه في الحديث النبوي، وهو المطلوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: حتى مع قطع النظر عن رعاية المصالح هو ممنوع؛ لأنه
غير معقول في ذاته. "د".
2 انظر في هذا: "البحر المحيط" "3/ 46، 93"، و"العدة" "3/
724"، و"البرهان" "1/ 166"، و"المستصفى" "1/ 368"،
و"الإحكام" "1/ 75" لابن حزم، و"الإحكام" "3/ 32" للآمدي.
3 في "ط": "فيبقى".
4 نقول: بل هي أشد؛ لأن ذاك كان مجرد تأخير للبيان، يعني
مع حصول البيان بعد الوقت، أما هذا فلا بيان رأسًا، لا في
عهده -صلى الله عليه وسلم- ولا بعده. "د".
5 وإنما قيده بهما لأنه ذكر مثله في الأول؛ فلم يحتج لربط
هذا التفريع به أيضًا. "د". |