الموافقات ج / 4 ص -143-
الطرف الثاني: في الأدلة على التفصيل
وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والرأي1.
ولما كان الكتاب والسنة هما الأصل لما سواهما؛ اقتصرنا على
النظر فيهما.
وأيضًا؛ فإن في أثناء الكتاب2 كثيرًا مما يفتقر إليه
الناظر في غيرهما، مع أن الأصوليين تكلفوا3 بما عداهما
كما4 تكلفوا بهما؛ فرأينا السكوت عن الكلام في الإجماع
والرأي، والاقتصار على الكتاب والسنة، والله المستعان.
فالأول أصلها، وهو الكتاب، وفيه مسائل:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشمل الباقي من قياس وغيره. "د".
2 لعل فيه سقط كلمة "والسنة" كما يفيده السابق واللاحق،
أي: إنه تعرض لكثير من المباحث المتعلقة بغير الكتاب
والسنة أثناء تعرضه لمباحثهما. "د".
3 في "ط": "تكلفوا".
4 كان يقتضي الذكر لا السكوت عن الكتاب والسنة أيضًا. "د".
ج / 4 ص -144-
الدليل الأول: الكتاب
المسألة
الأولى:
إن الكتاب قد تقرر أنه1 كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع
الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا
طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء
يخالفه، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه؛ لأنه
معلوم من دين الأمة2، وإذا كان كذلك؛ لزم ضرورة لمن رام
الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق
بأهلها، أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر
الأيام والليالي؛ نظرًا وعملًا، لا اقتصارًا على أحدهما؛
فيوشك أن يفوز بالبغية، وأن يظفر بالطلبة، ويجد نفسه من
السابقين في الرعيل الأول3، فإن كان قادرًا على ذلك، ولا
يقدر عليه إلا من زاول ما يعينه على ذلك من السنة المبينة
للكتاب، وإلا؛ فكلام الأئمة السابقين، والسلف المتقدمين
آخذ بيده في هذا المقصد الشريف، والمرتبة المنيفة.
وأيضًا4؛ فمن حيث كان القرآن معجزًا أفحم الفصحاء، وأعجز
البلغاء أن يأتوا بمثله؛ فذلك لا يخرجه عن كونه عربيًّا
جاريًا على أساليب كلام العرب، ميسرًا للفهم فيه عن الله
ما أمر به ونهى، لكن بشرط الدربة في اللسان العربي، كما
تبين في كتاب الاجتهاد؛ إذ لو خرج بالإعجاز عن إدراك
العقول معانيه؛ لكان خطابهم به من تكليف ما لا يطاق، وذلك
مرفوع عن الأمة، وهذا من جملة الوجوه الإعجازية فيه؛ إذ من
العجب إيراد كلام من جنس كلام البشر في اللسان والمعاني
والأساليب، مفهوم معقول، ثم لا يقدر البشر على الإتيان
بسورة مثله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "أن".
2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 332 و19/ 76-92 و20/
499".
3 أي: الطائفة المتقدمة. "ف".
4 تتميم لبيان ما يعينه على فهمه، كأنه قال: "من السنة
والدربة في اللسان العربي، ولا يمنع من ذلك كونه معجزًا...
إلخ". "د".
ج / 4 ص -145-
ولو
اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرًا؛ فهم أقدر ما كانوا على
معارضة الأمثال، أعجز ما كانوا عن معارضته، وقد قال الله
تعالى:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ} [القمر: 17، 22].
وقال1:
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ
الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97].
وقال:
{قُرْآنًا
عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُون}
[فصلت: 3].
وقال:
{بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ مُبِين} [الشعراء: 195].
وعلى أي وجه2 فرض إعجازه؛ فذلك غير مانع من الوصول إلى
فهمه وتعقل معانيه،
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]؛ فهذا يستلزم إمكان الوصول إلى التدبر والتفهم، وكذلك ما
كان مثله، وهو ظاهر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أورد في "ط" بدل هذه الآية
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58].
2 ذكروا في إعجازه وجوهًا كثيرة؛ كما يعلم من الكتب
المؤلفة خصيصة بذلك؛ فعلى جميع الوجوه لا يمنع إعجازه من
فهمه على وجهه. "د".
ج / 4 ص -146-
المسألة الثانية:
معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل
على ذلك أمران:
أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم
القرآن فضلًا عن معرفة مقاصد كلام العرب؛ إنما مداره على
معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو
المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف
فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك؛
كالاستفهام، لفظه واحد، ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ
وغير ذلك1 وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز
وأشباهها ولا يدل على معناها2 المراد إلا الأمور الخارجة،
وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة
تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن
الدالة؛ فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة
الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط؛ فهي من المهمات في
فهم الكتاب بلا بد، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى
الحال، وينشأ عن هذا الوجه:
الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه
والإشكالات، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع
الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وغيرهما".
2 لعله "على معناه المراد". "ف".
3 الخطاب الذي جاء بسبب لا يمكن في بعض الحالات فهمه، ولا
إدراك معناه إلا من معرفة الواقعة، أو السؤال الذي تسبب في
وروده؛ ففائدة معرفة السبب الذي ورد عليه الخطاب تعين على
فهم المراد، فمن قرأ قوله تعالى:
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ
فِيمَا طَعِمُوا....}
[المائدة: 93]، ولم يطلع على نزولها؛ فقد يقول بجواز شرب
الخمر كما تأولها من تأولها في زمن عمر, رضي الله عنه
[وسيأتي تخريج ذلك قريبًا]، وكذلك في قوله تعالى:
{وَلِلَّهِ
=
ج / 4 ص -147-
.................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللَّهِ} [البقرة: 115]؛ فإنه لو أخذنا بمدلول اللفظ لاقتضى أن المصلي لا
يجب عليه استقبال القبلة سفرًا ولا حضرًا، وهو خلاف
الإجماع، فلا يفهم مراد الآية حتى يعلم سببها، وذلك أنها
نزلت وكان الصحابة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
سرية؛ فأدركتهم الصلاة في ليلة مظلمة، فلم يعرفوا القبلة؛
فتوجه كل منهم إلى ناحية، فلما أصبحوا أخبروا رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- أنهم صلوا إلى غير القبلة؛ فنزلت
الآية، على ما ذكره ابن كثير في "تفسيره" "1/ 159"، وعزاه
لابن جرير والترمذي "رقم 2958"، وقال: "هذه الأسانيد فيها
ضعف، ولعله يشد بعضها بعضًا".
وقد تكون معرفة أسباب نزول الآية أو أسباب ورود الحديث
ضرورية؛ لأن الحكم الوارد على سبب قد يكون لفظًا عامًّا،
ويقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على
ما عدا صورة ذلك السبب؛ فإن دخول صورة السبب قطعي، وإخراج
السبب بحكم التخصيص بالاجتهاد ممنوع بالاتفاق؛ كما قاله
الباقلاني في "التقريب", ونقله عنه السيوطي في "الإتقان"
"1/ 28"، والغزالي في "المستصفى" "2/ 61"، وقد ذكر علاء
الدين الكناني في "سواد الناظر وشقائق الروض الناضر" "2/
427, مضروبة على الآلة الكاتبة، رسالة دكتوراه" من فوائد
نقل السبب أمورًا أخرى غير التي ذكرها المصنف، منها بيان
أخصية السبب بالحكم؛ فيمتنع تخصيص الحكم بالسبب؛ لأن دخول
السبب في العام قطعي، ولا يصح إخراج محل السبب بالتخصيص
لأمرين:
أحدهما: أنه يلزم من تأخير البيان عن وقت الحاجة، ذكر هذا
الزركشي في "البرهان" "1/ 23".
الثاني: فيه عدول عن محل النازلة أو محل السؤال، وهذا يؤدي
إلى التباس الحكم على السائل أو من ورد في حقه الحكم.
- ومنها: معرفة تأريخ الحكم بمعرفة تأريخ السبب ليعرف
الناسخ والمنسوخ.
- ومنها: توسعة علم الشريعة بمعرفة الأحكام بأسبابها،
فيفتح ثواب المصنفين في تأريخ النزول، وثواب المجتهدين
بالنظر في ذلك، والرجوع إلى حكم الناسخ وترك المنسوخ.
- ومنها: التأسي بوقائع السلف؛ فيخف أمر اللعان مثلًا على
من أراده تأسيًا بهم.
- ومنها: أن معرفة السبب تساعد على معرفة المراد من النص،
قال في "المسودة" "ص231": "فجهات معرفة مراد المتكلم ثلاثة
في كلام الشارع وكلام العباد: =
ج / 4 ص -148-
ويوضح
هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التيمي؛ قال: "خلا
عمر ذات يوم؛ فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها
واحد، [وقبلتها واحدة]؟ [فأرسل إلى ابن عباس؛ فقال: كيف
تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة؟]. فقال: ابن
عباس: يا أمير المؤمنين! إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه،
وعلمنا فيما نزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن
ولا يدرون فيما نزل، فيكون لهم فيه رأي، فإذا كان لهم فيه
رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا. قال: فزجره عمر
وانتهره؛ فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيما قال؛، فعرفه
فأرسل إليه؛ فقال: أعد علي ما قلت. فأعاده عليه؛ فعرف عمر
قوله وأعجبه"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أحدها: العلم بقصده من دليل منفصل؛ كتفسير السنة للكتاب،
وتخصيص العموم.
الثاني: سبب الكلام وحال المتكلم.
الثالث: وضع اللفظ والقرائن اللفظية.
- ومنها: أن معرفة السبب ينتفع بها في معرفة جنس الحكم
تارة، أو في صفته أخرى، وفي محله آخر.
وانظر غير مأمور: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 339"،
و"مسألة تخصيص العام بالسبب" "ص26-29"، و"أسباب نزول
القرآن، دراسة منهجية" "60-72".
1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص45-46"، وسعيد بن
منصور في "سننه" "1/ 176/ رقم 42, ط الجديدة", ومن طريقه
البيهقي في "الشعب" "5/ 230-231/ رقم 2086"، والخطيب
البغدادي في "الجامع" "2/ 194/ رقم 1587", عن هشيم عن
العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي به، والتيمي لم يدرك زمن
عمر؛ فإسناده منقطع.
وأخرجه ابن ديزيل في "جزئه" "رقم 26" من طريق هشيم عن
إبراهيم التيمي به؛ دلس في هذا الإسناد وأرسل.
وأخرجه عبد الرزاق في "جامع معمر" "11/ 217-218/ رقم
20368", ومن طريقه الهروي في "ذم الكلام" رقم "198"،
والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 516-517" عن علي بن
بذيمة الجزري عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس به نحوه،
وإسناده صحيح.
وما بين المعقوفتين الأولى ليست في الأصل ولا في "ط"،
والثانية ليست "إلا" فيهما.
وأخرج الحاكم في "المستدرك" في كتاب الأهوال عن ابن عمر
-لا عن عمر- نحوه، وقال: "صحيح على شرط الشيخين، ولم
يخرجاه"، وانظر: "تخريج الزيلعي على الكشاف" "3/ 204".
ج / 4 ص -149-
وما
قاله صحيح في الاعتبار، ويتبين بما هو أقرب.
فقد روى ابن وهب عن بكير؛ أنه سأل نافعًا: كيف كان رأي ابن
عمر في الحرورية؟ قال: "يراهم شرار خلق الله، إنهم انطلقوا
إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين"1.
فهذا معنى الرأي الذي نبه ابن عباس عليه، وهو الناشئ عن
الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن.
وروي أن مروان أرسل بوابه إلى ابن عباس، وقال: "قل له: لئن
كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل
معذبًا؛ لنعذبن أجمعون.
فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما دعا النبي -صلى
الله عليه وسلم- يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه
بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما
سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم"2، ثم قرأ:
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب استتابة المرتدين، باب
قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، 12/ 282"
تعليقًا، قال: "وكان ابن عمر يراهم شرار الخلق، وقال: إنهم
انطلقوا..."، وذكر الأثر.
ووصله ابن جرير في "تهذيب الآثار" -كما في "تغليق التعليق"
"5/ 259"، و"الفتح" "12/ 286"- من طريق بكير بن عبد الله
بن الأشج؛ أنه سأل نافعًا: كيف كان رأي ابن عمر في
الحرورية؟ فذكره، قال ابن حجر: "وسنده صحيح".
انظر: "مجموعة الرسائل الكبرى" "1/ 36-37" لابن تيمية،
و"الاعتصام" "2/ 692" للمصنف؛ وعزاه لابن وهب أيضًا، وكذا
ابن عبد البر في "الاستذكار" "8/ 90/ رقم 10576".
2 مضى تخريجه "ص32".
ج / 4 ص -150-
أُوتُوا الْكِتَابَ...}
إلى قوله:
{وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 187-188]؛ فهذا السبب بين أن المقصود من الآية غير ما
ظهر لمروان.
والقنوت يحتمل وجوهًا1 من المعنى يحمل عليه قوله:
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} [البقرة: 238]، فإذا عرف السبب؛ تعين المعنى المراد.
وروي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين؛ فقدم
الجارود على عمر، فقال: "إن قدامة شرب فسكر. فقال عمر: من
يشهد على ما تقول؟ قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما
أقول". وذكر الحديث؛ فقال عمر: "يا قدامة! إني جالدك. قال:
والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني. قال عمر:
ولم؟ قال: لأن الله يقول:
{لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المائدة: 93]... إلخ. فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا
اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله".
وفي رواية: فقال: "لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله. فقال
عمر: وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ قال: إن الله يقول في
كتابه:
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 93] إلى آخر الآية؛ فأنا من الذين آمنوا وعملوا
الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدرًا، وأحدًا، والخندق،
والمشاهد.
فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كالخشوع، وعدم الالتفات، والذكر وغيرها، وقوله: "تعين
المعنى المراد"؛ أي: وهو عدم تكليم بعضهم بعضًا كما كان
يحصل قبل نزول الآية. "د".
أما "ف"؛ فتوسع وقال: "كالانقياد وكمال الطاعة والذكر
والخشوع وطول الركوع وأن لا يلتفت، ولا يقلب الحصى، ولا
يعبث بشيء، ولا يحدث نفسه بأمر من أمور الدنيا، وفسره
البخاري في "صحيحه" بالسكوت عن الكلام...، ثم احتج له بما
يناسبه".
قلت: انظر معاني القنوت عند ابن القيم في "الزاد" "1/
283".
ج / 4 ص -151-
هؤلاء
الآيات أنزلن عذرًا للماضين، وحجة على الباقين؛ فعذر
الماضين1 بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر، وحجة
على الباقين لأن الله يقول:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90]، ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين
آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا
وأحسنوا؛ فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر. قال عمر: صدقت"2
الحديث.
وحكى إسماعيل القاضي؛ قال: "شرب نفر من أهل الشام الخمر،
وعليهم يزيد بن أبي سفيان، فقالوا: هي لنا حلال، وتأولوا
هذه الآية:
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} الآية [المائدة: 93]، قال: فكتب فيهم إلى عمر، قال: فكتب عمر إليه:
أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك. فلما أن قدموا على
عمر استشار فيهم الناس؛ فقالوا: يا أمير المؤمنين! نرى
أنهم قد كذبوا على الله، وشرعوا في دينه ما لم يأذن
به...." إلى آخر الحديث3.
ففي الحديثين بيان أن الغفلة عن أسباب التنزيل تؤدي إلى
الخروج عن المقصود بالآيات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "الماضون".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب منه، 7/
319/ رقم 4011" مختصرًا، وأخرجه مطولًا عبد الرزاق في
"المصنف" "9/ 240-242/ رقم 17076"، وابن شبة في "تاريخ
المدينة" "3/ 842-849"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "5/
56"، والبيهقي في "الكبرى" "8/ 315-316" بأسانيد وألفاظ،
وكذا ساقه الجصاص في "أحكام القرآن" "4/ 128-129"، وابن
الأثير في "أسد الغابة" "4/ 199"، وابن عبد البر في
"الاستيعاب" "3/ 248"، وابن حجر في "الإصابة" "3/ 220"،
والنويري في "نهاية الأرب" "19/ 364"، والمحب الطبري في
"الرياض النضرة" "2/ 45" بنحوه.
3 نحوه في "أحكام القرآن" "4/ 128" للجصاص، وعزاه المصنف
في "الاعتصام" "2/ 527, ط ابن عفان" للقاضي إسماعيل.
ج / 4 ص -152-
وجاء
رجل إلى ابن مسعود؛ فقال: تركت في المسجد رجلًا يفسر
القرآن برأيه، يفسر هذه الآية
{يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]؛ قال: يأتي الناس يوم القيامة دخان، فيأخذ بأنفاسهم،
حتى يأخذهم [منه] كهيئة الزكام. فقال ابن مسعود: "من علم
علمًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم؛ فإن من فقه
الرجل أن يقول لما لا علم له به: الله أعلم، إنما كان هذا
لأن قريشًا استعصوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا
عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام،
فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان
من الجهد؛ فأنزل الله:
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} الآية [الدخان: 10]..." إلى آخر القصة1.
وهذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزل، بحيث لو
فقد ذكر السبب؛ لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص، دون
تطرق الاحتمالات وتوجه الإشكالات، وقد قال, عليه الصلاة
والسلام:
"خذوا
القرآن من أربعة"2، منهم عبد
الله بن مسعود، وقد قال في خطبة خطبها: "والله؛ لقد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب سورة
الروم، 8/ 511/ رقم 4774، وباب
{يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيم}، 8/ 571/ رقم 4821، وباب
{رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُون}, 8/ 573/ رقم 4822, وباب
{أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ}، 8/ 573/ رقم 4823"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفات المنافقين
وأحكامهم، باب الدخان، 4/ 2155-2157/ رقم 2798" عن ابن
مسعود به.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل الصحابة، باب
مناقب عبد الله بن مسعود، 7/ 102/ رقم 3760، وكتاب مناقب
الأنصار، باب مناقب أبي بن كعب، 7/ 126/ رقم 3808، وكتاب
فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي, صلى الله عليه
وسلم 9/ 46/ رقم 4999"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل
الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه -رضي الله
تعالى عنهما- 4/ 1913/ رقم 2464" عن عبد الله بن عمرو
مرفوعًا.
ج / 4 ص -153-
علم
أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أني من أعلمهم بكتاب
الله"1، وقال في حديث آخر: "والذي لا إله غيره؛ ما أنزلت
سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية
من كتاب الله إلا [و] أنا أعلم فيما أنزلت, ولو أعلم أحدًا
أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه"2، وهذا يشير
إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالمًا
بالقرآن.
وعن الحسن؛ أنه قال: "ما أنزل الله آية؛ إلا وهو يحب أن
يعلم فيما أنزلت وما أراد بها"3، وهو نص في الموضع مشير
إلى التحريض على تعلم علم الأسباب.
وعن ابن سيرين؛ قال: "سألت عبيدة عن شيء من القرآن؛ فقال:
اتق الله، وعليك بالسداد؛ فقد ذهب الذين يعلمون فيما أنزل
القرآن"4.
وعلى الجملة؛ فهو ظاهر بالمزاولة لعلم التفسير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل القرآن، باب
القراء من أصحاب النبي, صلى الله عليه وسلم 9/ 46-47/ رقم
5000"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من
فضائل عبد الله بن مسعود وأمه, رضي الله تعالى عنهما 4/
1912/ رقم 4262"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "2/
343-344"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/ 1007"،
والنسائي في "فضائل القرآن" "رقم 22"، وابن أبي داود في
"المصاحف" "ص22-23".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل القرآن، باب
القراء من أصحاب النبي, صلى الله عليه وسلم 9/ 47/ رقم
5002"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من
فضائل عبد الله بن مسعود وأمه, رضي الله تعالى عنهما 4/
1913/ رقم 2463"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "2/ 342"،
وابن أبي داود في "المصاحف" "23-24"، وابن جرير في
"التفسير" "1/ 80/ رقم 83"، والخطيب في "الرحلة" "94-95".
وما بين المعقوفتين سقط من الأصل وفي النسخ المطبوعة: "فيم
أنزلت".
3 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص42".
4 أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" "1/ 185/ رقم 44, ط
الجديدة"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 511"، وأبو عبيد
في "فضائل القرآن" "رقم 830"، وابن جرير في "التفسير" "1/
86/ رقم 97"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 230/ رقم 2085"،
والواحدي في "أسباب النزول" "4-5"- وذكره السيوطي عنه في
"الإتقان" "1/ 41"، و"لباب النقول" "13"-، وبعض أسانيده
صحيحة على شرط الشيخين.
ج / 4 ص -154-
فصل:
ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري
أحوالها حالة التنزيل، وإن لم يكن ثم سبب خاص لا بد لمن
أراد الخوض في علم القرآن منه، وإلا وقع في الشبه
والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة،
ويكفيك [من ذلك]1 ما تقدم2 بيانه في النوع الثاني من كتاب
المقاصد؛ فإن فيه ما يثلج الصدر ويورث اليقين في هذا
المقام، ولا بد من ذكر أمثلة تعين على فهم المراد وإن كان
مفهومًا:
أحدها: قول الله تعالى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]؛ فإنما أمر بالإتمام دون الأمر بأصل الحج لأنهم
كانوا قبل الإسلام آخذين به، لكن على تغيير بعض الشعائر،
ونقص جملة منها؛ كالوقوف بعرفة وأشباه ذلك مما غيروا، فجاء
الأمر بالإتمام لذلك، وإنما جاء إيجاب الحج نصًّا في قوله
تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، وإذا عرف هذا؛ [تبين]3 هل في الآية دليل على إيجاب
الحج أو إيجاب العمرة4، أم لا؟
والثاني: قوله تعالى:
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، نقل عن أبي يوسف أن ذلك في الشرك؛ لأنهم كانوا
حديثي عهد بكفر؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط"، وسقط من النسخ
المطبوعة.
2 وهو أنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود العرب.
"د".
3 بدلها في "ط": "علم بيسر".
4 انظر: "الذخيرة" "3/ 181، 373-374, ط دار الغرب"،
و"أحكام القرآن" "1/ 118-119" لابن العربي.
ج / 4 ص -155-
فيريد
أحدهم التوحيد، فيُهمّ فيخطئ بالكفر؛ فعفا لهم عن ذلك كما
عفا لهم عن النطق بالكفر عند الإكراه، قال: "فهذا على
الشرك، ليس على الإيمان في الطلاق والعتاق والبيع والشراء،
لم تكن الأيمان بالطلاق والعتاق في زمانهم".
والثالث: قوله تعالى:
{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}
[النحل: 50]،
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}
[الملك: 16] وأشباه ذلك، إنما جرى على معتادهم في اتخاذ
الآلهة في الأرض، وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق؛
فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيهًا على نفي ما
ادعوه في الأرض؛ فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة ألبتة1؛
ولذلك قال تعالى:
{فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ}2 [النحل: 26]؛ فتأمله، واجر على هذا المجرى في سائر الآيات
والأحاديث.
والرابع: قوله تعالى:
{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى}
[النجم: 49]3؛ فعين هذا الكوكب لكون العرب عبدته، وهم
خزاعة، ابتدع ذلك لهم أبو كبشة، ولم تعبد العرب من الكواكب
غيرها؛ فلذلك عينت.
فصل:
وقد يشارك القرآن في هذا المعنى السنة، إذ كثير من
الأحاديث وقعت على أسباب، ولا يحصل فهمها إلا بمعرفة ذلك،
ومنه أنه نهى عليه الصلاة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قارنه لزامًا بما عند ابن تيمية في "نقض تأسيس الجهمية"
"1/ 520"، و"التدمرية" "ص45"، وانظر أيضًا: "مختصر العلو"
"286-287"، و"البيهقي وموقفه من الإلهيات" "353"، وكتابنا:
"الردود والتعقبات" "ص168-170".
2 أي: فليست الفوقية لتخصيص الجهة؛ لأن السقف لا يكون إلا
فوق، إنما ذلك ذكر للمعهود فيه. "د". قلت: انظر الهامش
السابق.
3 قال العلماء: إن هذا النجم قطره عشرة أمثال قطر كوكب
الشمس؛ فهو أكبر ما عرفه العرب من الكواكب فعبدوه. "د".
ج / 4 ص -156-
والسلام عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فلما كان بعد
ذلك؛ قيل [له]: لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم، ويحملون
منها الودك1، ويتخذون منها الأسقية. فقال: "وما ذاك؟".
قالوا: نهيت عن لحوم الضحايا بعد ثلاث. فقال عليه الصلاة
والسلام:
"إنما نهيتكم من أجل الدافّة التي دفت عليكم؛ فكلوا، وتصدقوا، وادخروا"2.
ومنه حديث3 التهديد بإحراق البيوت لمن تخلف عن صلاة
الجماعة؛ فإن حديث ابن مسعود يبين أنه [مختص] بأهل4
النفاق، بقوله: "ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق
معلوم النفاق"5.
وحديث:
"الأعمال
بالنيات"6 واقع عن7 سبب، وهو أنهم لما أمروا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بفتحتين: دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه. "ف".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان
من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام
وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء، 3/ 1651/ رقم 1971" عن
عبد الله بن واقد -رضي الله عنه- مرفوعًا.
قال "ف" في معنى "الدافة": "بتشديد الفاء: قوم يسيرون
جماعة سيرًا ليس بالشديد، يريد أنهم قدموا المدينة عيد
الأضحى؛ فنهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي ليفرقوها ويتصدقوا
بها وينتفع أولئك القادمون بها؛ فالنهي لسبب خاص إذا لم
يوجد جاز الأكل والتصدق والادخار؛ كما جاء في الحديث" ا.
هـ.
3 مضى تخريجه "ص110".
4 كذا في "ط"، وفي "د": "أنه بأهل"، وفي غيرهما: "أنه من
أهل".
5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب
صلاة الجماعة من سنن الهدي، 1/ 453/ رقم 654" عن ابن
مسعود؛ قال: "لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد
علم نفاقه، أو مريض". وفي لفظ: "ولقد رأيتنا وما يتخلف
عنها إلا منافق معلوم النفاق".
6 مضى تخريجه "1/ 459"، وهو في "الصحيحين"؛ إلا أن سبب
الورود الذي ذكره =
7 في "ط": "على".
ج / 4 ص -157-
بالهجرة هاجر ناس للأمر، وكان فيهم رجل هاجر بسبب امرأة
أراد نكاحها تسمى أم قيس، ولم يقصد مجرد الهجرة للأمر؛
فكان بعد ذلك يسمى: مهاجر أم قيس, وهو كثير1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المصنف لا صلة له بهذا الحديث، خلافًا لما هو مشهور، وقد
وقع فيه ابن دقيق العيد في "الإحكام" "1/ 79-81"، ونبه على
هذا الخطأ ابن رجب؛ فقال في "جامع العلوم والحكم" "1/
74-75": "وقد اشتهر أن قصة مهاجر أم قيس هي كانت سبب قول
النبي, صلى الله عليه وسلم:
"من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها"، وذكر ذلك كثير من المتأخرين في كتبهم، ولم نر لذلك أصلًا بإسناد
صحيح، والله أعلم"، وقال ابن حجر في "الفتح" "1/ 10": "لكن
ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من
الطرق ما يقتضي التصريح بذلك".
وقد أخرج سعيد بن منصور في "سننه"، ومن طريقه الطبراني في
"الكبير" "رقم 8540" عن الأعمش عن شقيق؛ قال: خطب أعرابي
من الحي امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تزوجه حتى يهاجر،
فهاجر فتزوجته، فكنا نسميه مهاجر أم قيس. قال: فقال عبد
الله, يعني ابن مسعود: "من هاجر يبتغي شيئًا؛ فهو له".
وإسناده صحيح على شرط الشيخين؛ كما قال ابن حجر.
وهذا السياق يقتضي أن هذا لم يكن في عهد النبي -صلى الله
عليه وسلم- وإنما كان في عهد ابن مسعود، ولكن روي من طريق
سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود؛ قال:
كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تزوجه
حتى يهاجر، فهاجر فتزوجها؛ فكنا نسميه مهاجر أم قيس. قال
ابن مسعود: "من هاجر لشيء؛ فهو له"، ورجاله ثفات؛ كما في
"طرح التثريب" "2/ 25"، وعلى فرض ثبوت ذلك؛ فليس فيه أنه
سبب ورود حديث عمر:
"إنما الأعمال بالنيات"، ومنه تعلم القصور في صنيع المصنف، والله الموفق.
وانظر: "شرح شاكر لألفية السيوطي" "ص214".
1 اعتنى بمفردات "أسباب الورود": ابن حمزة الحسيني في
كتابه "البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف"،
وقبله السيوطي في "اللمع في أسباب ورود الحديث"، وكلاهما
مطبوع، وللبلقيني في "محاسن الاصطلاح" "633 وما بعدها"
كلام جيد نحو ما عند المصنف، وانظر "أسباب ورود الحديث,
تحليل وتأسيس" لمحمد رأفت سعيد "كتاب الأمة، رقم 37، ص102
وما بعدها"، ولصديقنا الشيخ طارق الأسعد دراسة مسهبة قيد
الإعداد بعنوان: "علم أسباب ورود الحديث، ومنزلته في تفسير
النصوص الشرعية، ومجال تطبيقه عند المحدثين والأصوليين"،
وانظر في فائدة عيان النص: "الناسخ والمنسوخ" "2/ 163"
لابن العربي، وفي ضرورة معرفة أسباب الورود أيضًا: "مسألة
تخصيص العام بالسبب" "ص28-30".
ج / 4 ص -158-
المسألة الثالثة:
كل حكاية وقعت في القرآن؛ فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها1
وهو الأكثر رد لها، أو لا فإن وقع رد؛ فلا إشكال في بطلان
ذلك المحكي وكذبه، وإن لم يقع معها رد؛ فذلك دليل صحة
المحكي وصدقه.
أما الأول فظاهر، ولا يحتاج إلى برهان، ومن أمثلة ذلك قوله
تعالى:
{إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91].
فأعقب بقوله:
{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ
مُوسَى} الآية [الأنعام: 91].
وقال:
{وَجَعَلُوا
لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ
نَصِيبًا} الآية [الأنعام: 136].
فوقع التنكيت على افتراء ما زعموا بقوله:
{بِزَعْمِهِمْ}،
وبقوله:
{سَاءَ
مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136].
ثم قال:
{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ}
[الأنعام: 138] إلى تمامه.
ورد بقوله:
{سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُون}
[الأنعام: 138].
ثم قال:
{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ
خَالِصَةٌ} الآية [الأنعام: 139].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أو قبلها وبعدها معًا، كما في آية:
{أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
شُرَكَاءَ} [يونس: 66] مع قوله:
{سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ}
[يونس: 68]، ولا يكون الشريك ولا الولد مملوكًا. "د".
ج / 4 ص -159-
فنبه
على فساده بقوله:
{سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139] زيادة على ذلك.
وقال تعالى:
{وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ
وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4].
فرد عليهم بقوله:
{فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا}
[الفرقان: 4].
ثم قال:
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} الآية [الفرقان: 5].
فرد بقوله: {قُلْ
أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ}
الآية [الفرقان: 6].
ثم قال:
{وَقَالَ
الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا
مَسْحُورًا} [الفرفان: 8].
ثم قال تعالى:
{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا} [الفرقان: 9].
وقال تعالى:
{وَقَالَ
الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ
الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا...} إلى قوله:
{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 4-8].
ثم رد عليهم بقوله:
{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي}
[ص: 8].
إلى آخر ما هنالك.
وقال:
{وَقَالُوا
اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}
[البقرة: 116، وغيرها].
ثم رد عليهم بأوجه كثيرة ثبتت في أثناء القرآن؛ كقوله:
{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُون} [الأنبياء: 26].
وقوله:
{بَلْ
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
[البقرة: 116].
وقوله:
{سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} الآية
[يونس: 68].
ج / 4 ص -160-
وقوله:
{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ}1 [مريم: 90] إلى آخره، وأشباه ذلك.
ومن قرأ القرآن وأحضره في ذهنه عرف هذا بيسر.
وأما الثاني؛ فظاهر أيضًا، ولكن الدليل على صحته من نفس
الحكاية وإقرارها، فإن القرآن سمي فرقانًا، وهدى،
وبرهانًا، وبيانًا، وتبيانًا لكل شيء، وهو حجة الله على
الخلق على الجملة والتفصيل والإطلاق والعموم، وهذا المعنى
يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق ثم لا ينبه عليه.
وأيضًا2؛ فإن جميع ما يحكى فيه من شرائع الأولين وأحكامهم،
ولم ينبه على إفسادهم وافترائهم فيه؛ فهو حق يجعل عمدة عند
طائفة في شريعتنا، ويمنعه قوم، لا من جهة قدح فيه، ولكن من
جهة أمر خارج عن ذلك؛ فقد اتفقوا على أنه حق وصدق
كشريعتنا، ولا يفترق ما بينهما إلا بحكم النسخ فقط، ولو
نبه على أمر فيه لكان في حكم التنبيه على الأول؛ كقوله
تعالى:
{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ
اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ}
الآية[البقرة: 75].
وقوله:
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "وتنشق الأرض" سقط من الأصل.
2 هذا نوع آخر غير ما ذكر في صدر المسألة؛ فإن الأول ليس
من الشرائع، وهذا من الشرائع، وما في حكمها وما دخل عليها
من تحريف وغير ذلك؛ فهو معطوف على قوله: "كل حكاية...
إلخ"، ويحتمل أن يكون دليلًا على الثاني، ويؤيده قوله بعد:
"ولو نبه على أمر فيه... إلخ"، وقوله: "فصار هذا من النمط
الأول"، ويكون قوله أولًا: "كل حكاية" أعم مما يتعلق
بالشرائع والقصص. "د".
قلت: انظر في هذا "كشف الأسرار" "3/ 933-936"، و"أصول
التشريع الإسلامي" "ص27، 28" لعلي حسب الله، و"أفعال
الرسول, صلى الله عليه وسلم" "2/ 155-156" للأشقر.
ج / 4 ص -161-
فَخُذُوهُ}1 الآية [المائدة: 41].
وكذلك قوله تعالى:
{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ
مَوَاضِعِهِ
وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ
مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا
فِي الدِّينِ}2 [النساء: 46]؛ فصار هذا من النمط الأول.
ومن أمثلة هذا القسم جميع ما حكي عن المتقدمين من الأمم
السالفة مما كان حقًّا؛ كحكايته عن الأنبياء والأولياء،
ومنه قصة ذي القرنين، وقصة الخضر مع موسى, عليه السلام،
وقصة أصحاب الكهف، وأشباه ذلك.
فصل:
ولاطراد هذا الأصل اعتمده النظار3؛ فقد استدل جماعة من
الأصوليين على أن الكفار مخاطبون بالفروع، بقوله تعالى:
{قَالُوا لَمْ نَكُ
مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}4 الآية [المدثر: 43-44]؛ إذ لو كان قولهم باطلًا لرد عند حكايته.
واستدل على أن أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم بأن الله
تعالى لما حكى من قولهم أنهم:
{ثَلاثَةٌ
رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ}
[الكهف: 22]، وأنهم:
{خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، أعقب ذلك بقوله:
{رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف: 22]؛ أي: ليس لهم دليل ولا علم غير اتباع الظن، ورجم
الظنون لا يغني من الحق شيئًا، ولما حكى قولهم:
{سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]؛ لم يتبعه بإبطال بل قال:
{قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا
قَلِيلٌ}
[الكهف: 22]؛ دل المساق على صحته دون القولين الأولين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة: "عن مواضعه"، وهو خطأ.
2 في النسخ المطبوعة: "من بعد مواضعه"، وهو خطأ.
3 في "ط": "... الفصل اعتمده الناظر...".
4 أي: فقد سلم تعليلهم ودخولهم بهذا. "د".
ج / 4 ص -162-
وروي
عن ابن عباس أنه كان يقول: "أنا من ذلك القليل الذي
يعلمهم"1.
ورأيت منقولًا عن سهل بن عبد الله2 أنه سئل عن قول
إبراهيم, عليه السلام:
{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260]؛ فقيل له: أكان شاكًّا حين سأل ربه أن يريه آية؟
فقال: لا، إنما كان طلب زيادة إيمان إلى إيمان3، ألا تراه
قال:
{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [البقرة: 260]، فلو عمل شكًّا منه لأظهر4 ذلك؛ فصح أن الطمأنينة
كانت على معنى الزيادة في الإيمان.
بخلاف ما حكى الله عن قوم من الأعراب في قوله:
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات: 14]؛ فإن الله تعالى رد عليهم بقوله5:
{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطبراني في "الأوسط" -كما في "مجمع الزوائد" "7/
53"-، والواحدي في "الوسيط" "3/ 142" بإسناد ضعيف فيه يحيى
بن أبي روق، وقد صححه المناوي في "الفتح السماوي" "2/
793"؛ فأخطأ، وأخرجه من طرق أخرى عنه عبد الرزاق في
"التفسير" "2/ 400"، والواحدي في "الوسيط" "3/ 143"، وابن
جرير في "التفسير" "15/ 226-227"، والفريابي -كما في "الدر
المنثور" "5/ 375"-، وصححه ابن كثير في "تفسيره" "3/ 83".
2 المذكور في "تفسيره" "ص27" المطبوع سنة "1326هـ-1908م"
بمطبعة السعادة بمصر.
3 في "تفسير سهل": "طالبًا زيادة يقين إلى إيمان كان معه،
فسأل كشف غطاء العين بعيني رأسه ليزداد بنور اليقين يقينًا
في قدرة الله، وتمكينًا في خلقه، ألا تراه...".
4 أي: لنبه الله إليه كما هو الشأن في الكتاب. "د".
قلت: عبارة سهل في "تفسيره" "ص27" تدل على هذا المعنى،
وتصرف بها المصنف، وهذا نصها: "فلو كان شاكًّا لم يجب
ببلى، ولو علم الله منه الشك وهو أخبر ببلى وستر شكه لكشف
الله تعالى ذلك؛ إذ كان مثله مما لا يخفى عليه؛ فصح أن طلب
طمأنينته كان على معنى طلب الزيادة في يقينه".
5 في "ف" و"م": "بقولهم"، وهو خطأ.
ج / 4 ص -163-
وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
ومن تتبع مجاري الحكايات في القرآن عرف مداخلها، وما هو
منها حق مما هو باطل.
فقد قال تعالى:
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ
لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] إلى آخرها فإن هذه الحكاية ممزوجة الحق بالباطل
فظاهرها حق وباطنها كذب، من حيث كان إخبارًا عن المعتقد
وهو غير مطابق؛ فقال تعالى:
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}
[المنافقون: 1] تصحيحًا لظاهر القول، وقال:
{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] إبطالًا لما قصدوا به.
وقال تعالى:
{وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية [الزمر: 67]، وسبب نزولها ما خرجه الترمذي وصححه عن ابن
عباس؛ قال: مر يهودي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له
النبي:
"حدثنا يا يهودي".
فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على
ذه، والأرضين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه،
وسائر الخلق على ذه؟ وأشار الراوي بخنصره أولًا، ثم تابع
حتى بلغ الإبهام, فأنزل الله:
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]1.
وفي رواية أخرى: جاء يهودي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-
فقال: يا محمد! إن الله يمسك السموات على أصبع، والأرضين
على أصبع، والجبال على أصبع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن
سورة الزمر، 5/ 371/ رقم 3240", وفيه: "يا يهودي!
حدثنا..."، و"الأرض"، وابن خزيمة في "التوحيد" "78"، وأحمد
في "المسند" "1/ 151"، وابن جرير في "التفسير" "14/ 26"،
وإسناده ضعيف، فيه عطاء بن السائب، وهو مختلط.
وفي الباب عن ابن مسعود في "الصحيحين" وغيرهما، وسيأتي.
ج / 4 ص -164-
والخلائق على أصبع، ثم يقول: "أنا الملك". فضحك النبي -صلى
الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه قال:
{وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}1
[الزمر: 67].
وفي رواية: فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- تعجبًا
وتصديقًا2.
والحديث الأول كأنه مفسر لهذا، وبمعناه يتبين معنى قوله:
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]؛ فإن الآية بينت أن كلام اليهودي حق في الجملة، وذلك
قوله:
{وَالْأَرْضُ
جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، وأشارت إلى أنه لم يتأدب مع الربوبية، وذلك والله
أعلم لأنه أشار إلى معنى الأصابع بأصابع نفسه، وذلك مخالف
للتنزيه للباري سبحانه؛ فقال:
{وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
[الزمر: 67]. وقال تعالى:
{وَمِنْهُمُ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61]؛ أي: يسمع الحق والباطل، فرد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، 8/ 550-551/ رقم 4811، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:
{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي}, 13/ 393/ رقم 7414، 7415، وباب قول الله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا}، 13/ 438/ رقم 7451، وباب كلام الرب -عز وجل- يوم القيامة مع
الأنبياء وغيرهم، 13/ 474/ رقم 7513"، ومسلم في "صحيحه"
"كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب منه، 4/ 2147/ رقم
2786"، والترمذي في "جامعه" "أبواب تفسير القرآن، باب ومن
سورة الزمر، 5/ 371/ رقم 3238" والمذكور لفظه، والنسائي في
"الكبرى" "كتاب التفسير، 2/ 236-237/ رقم 270-471، وكتاب
النعوت" -كما في "التحفة" "رقم 9404"- عن ابن مسعود, رضي
الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التوحيد، باب قول الله
تعالى:
{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي}، 13/ 393/ رقم 7414"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صفة القيامة والجنة
والنار، 4/ 2147/ رقم 2786"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب
التفسير، رقم 470"، والترمذي في "الجامع" "أبواب تفسير
القرآن، باب ومن سورة الزمر، 5/ 371/ رقم 3239" عن ابن
مسعود, رضي الله عنه.
ج / 4 ص -165-
الله
عليهم فيما هو باطل، وأحق؛ فقال:
{قُلْ
أُذُنُ خَيْرٍ لَكُم}، [{وَرَحْمَةٌ
لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}]
الآية [التوبة: 61] ولما قصدوا الإذاية بذلك الكلام قال
تعالى:
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61].
وقال تعالى:
{وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ
لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]؛ فهذا منع امتناع عن الإنفاق بحجة قصدهم فيها الاستهزاء؛
فرد عليهم بقوله:
{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
[يس: 47]؛ لأن ذلك حيد عن امتثال الأمر، وجواب
{أَنْفِقُوا}
أن يقال: نعم أو لا، وهو الامتثال أو العصيان، فلما رجعوا
إلى الاحتجاج على الامتناع بالمشيئة المطلقة التي لا
تعارض؛ انقلب1 عليهم من حيث لم يعرفوا؛ إذ حاصله أنهم
اعترضوا على المشيئة المطلقة؛ بالمشيئة2 المطلقة؛ لأن الله
شاء أن يكلفهم الإنفاق، فكأنهم قالوا: كيف3 يشاء الطلب منا
ولو شاء أن يطعمهم لأطعمهم؟ وهذا عين الضلال في نفس الحجة.
وقال تعالى:
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي
الْحَرْثِ...} إلى قوله:
{وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}
[الأنبياء: 78]؛ فقوله:
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}
[الأنبياء: 79] تقرير لإصابته -عليه السلام- في ذلك الحكم،
وإيماء إلى خلاف ذلك في داود -عليه السلام- لكن لما كان
المجتهد معذورًا مأجورًا بعد بذله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: حيث إن المشيئة الإلهية لا تعارض، فكان يجب الامتثال
وعدم المعارضة فيها؛ فانقلبت الحجة عليهم لأنهم عارضوها
فلم يمتثلوا مشيئة الطلب الموجه إليهم، وهذا على أن قوله:
"إن أنتم" موجه إليهم من قبل الله أو المؤمنين، أما إذا
كان موجهًا منهم إلى المؤمنين يخطئونهم في طلب النفقة على
فقراء المسلمين أقاربهم على طريق الاستهزاء؛ أي: ما لكم
تقولون: إن الله يرزق من يشاء ثم تطلبون النفقة منا؟ فهذا
تناقض، وهو غاية الضلال؛ فلا يكون من هذا الباب. "د".
2 على حد قولهم:
{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148]. "د".
3 وتوجيه هذا يتمكن منه بمراجعة الفخر الرازي [26/ 74] في
الآية: "د".
ج / 4 ص -166-
الوسع؛
قال:
{وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]، وهذا من البيان الخفي1 فيما نحن فيه.
قال الحسن: "والله لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين؛
لرأيت أن القضاة قد هلكوا، فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر
هذا باجتهاده"2.
والنمط هنا يتسع، ويكفي منه ما ذكر، وبالله التوفيق.
فصل:
وللسنة مدخل في هذا الأصل؛ فإن القاعدة المحصلة أن النبي
-عليه الصلاة والسلام- لا يسكت عما يسمعه أو يراه من
الباطل؛ حتى يغيره أو يبينه إلا إذا تقرر عندهم بطلانه،
فعند ذلك يمكن السكوت إحالة على ما تقدم من البيان فيه،
والمسألة مذكورة في الأصول3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه لم يصرح بخطأ داود، إنما يفهم من قصر التفهيم على
سليمان. "د".
2 أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره"؛ كما في "تفسير ابن كثير"
"3/ 195-196" نحوه، وذكره عنه القرطبي في "تفسيره" "11/
309" بنصه وحرفه.
3 في مسألة "إذا علم بفعل ولم ينكره قادرًا على إنكاره؛
فإن كان معتقد كافر؛ فلا أثر لسكوته عنه لما علم أنه منكر
له؛ فلا دلالة له على صحته... إلخ"، راجع "تحرير الأصول".
"د".
قلت: وانظر "البحر المحيط" "3/ 488 و4/ 204" للزركشي.
ج / 4 ص -167-
المسألة الرابعة:
إذا ورد في القرآن الترغيب قارنه الترهيب في لواحقه أو
سوابقه أو قرائنه1 وبالعكس، وكذلك الترجية مع التخويف، وما
يرجع إلى هذا المعنى مثله، ومنه ذكر أهل الجنة يقارنه ذكر
أهل النار، وبالعكس؛ لأن في ذكر أهل الجنة بأعمالهم ترجية،
وفي ذكر أهل النار بأعمالهم تخويفًا؛ فهو راجع إلى الترجية
والتخويف.
ويدل على هذه الجملة عَرْض الآيات على النظر؛ فأنت ترى أن
الله جعل الحمد فاتحة كتابه، وقد وقع فيه:
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6-7] إلى آخرها.
فجيء بذكر الفريقين، ثم بُدئت سورة البقرة بذكرهما أيضًا؛
فقيل:
{هُدًى لِلْمُتَّقِين} [البقرة: 2].
ثم قال:
{إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6].
ثم ذُكر بإثرهم المنافقون، وهو صنف من الكفار، فلما تم ذلك
أعقب بالأمر بالتقوى، ثم بالتخويف بالنار، وبعده بالترجية؛
فقال:
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ...} إلى قوله:
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا}
الآية [البقرة: 24-25].
ثم قال:
{إِنَّ
اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا
بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما في الآيات المشتملة عليهما معًا، ومن أظهرها في ذلك
قوله تعالى في سورة الدهر:
{إِنَّ
الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ...}
إلى قوله:
{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً
وَسُرُورًا}
[الإنساء: 5-11]. "د".
ج / 4 ص -168-
آمَنُوا} الآية [البقرة: 26].
ثم ذكر في قصة آدم مثل هذا، ولما ذكر بنو إسرائيل بنعم
الله عليهم ثم اعتدائهم وكفرهم؛ قيل:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا...} إلى قوله:
{هُمْ فِيهَا خَالِدُون}
[البقرة: 62-81].
ثم ذكر تفاصيل ذلك الاعتداء إلى أن ختم بقوله:
{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
[البقرة: 102]، وهذا تخويف.
ثم قال:
{وَلَوْ
أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ}
الآية [البقرة: 103]، وهو ترجية.
ثم شرع في ذكر ما كان من شأن1 المخالفين في تحويل القبلة،
ثم قال:
{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} الآية [البقرة: 112].
ثم ذكر من شأنهم:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ
بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 121].
ثم ذكر قصة إبراهيم -عليه السلام- وبنيه، وذكر في أثنائها
التخويف والترجية، وختمها بمثل ذلك، ولا يطول عليك زمان
إنجاز الوعد في هذا الاقتران؛ فقد يكون بينهما أشياء
معترضة في أثناء المقصود، والرجوع بعد إلى ما تقرر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يريد بذلك قوله تعالى:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}
[البقرة: 106]، أو قوله:
{وَدَّ كَثِير....} إلخ [البقرة: 109] بدليل قوله، ثم قال: بلى من أسلم، والواقع أن
آية:
{مَا
نَنْسَخْ} [البقرة: 106] وما بعدها من ذكر إبراهيم والثناء عليه بأنه إمام
للناس، وبنائه للبيت، وتعظيم البيت وبانيه، كل هذا كتوطئة
وتمهيد لذكر ما كان من شأن المخالفين في تحويل القبلة
بقوله تعالى:
{سَيَقُولُ السُّفَهَاء...} إلخ [البقرة: 142]. "د".
ج / 4 ص -169-
وقال
تعالى في سورة الأنعام، وهي في المكيات نظير سورة البقرة
في المدنيات:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ....} إلى قوله:
{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].
وذكر البراهين التامة، ثم أعقبها بكفرهم وتخويفهم بسببه،
إلى أن قال:
{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ}
[الأنعام: 12].
فأقسم بكتب الرحمة على إنفاذ الوعيد على من خالف، وذلك
يعطي التخويف تصريحًا، والترجية ضمنًا.
ثم قال:
{إِنِّي
أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15]؛ فهذا تخويف.
وقال:
{مَنْ
يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ}
الآية [الأنعام: 16]، وهذا ترجية.
وكذا قوله:
{وَإِنْ
يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} الآية
[الأنعام: 17].
ثم مضى في ذكر التخويف، حتى قال:
{وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 32].
ثم قال:
{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ}
[الأنعام: 36].
ونظيره قوله:
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي
الظُّلُمَاتِ} الآية [الأنعام: 39].
ثم [جرى]1 ذكر ما يليق بالموطن إلى لأن قال:
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ}
الآية [الأنعام: 48].
واجر في النظر على هذا الترتيب، يلح1 لك وجه الأصل المنبه
عليه، ولولا الإطالة لبسط من ذلك كثير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ط".
ج / 4 ص -170-
فصل:
وقد يغلب أحد الطرفين بحسب المواطن ومقتضيات الأحوال:
فيرد التخويف ويتسع مجاله1، لكنه لا يخلو من الترجية، كما
في سورة الأنعام؛ فإنها جاءت مقررة للحق2، ومنكرة على من
كفر بالله، واخترع من تلقاء نفسه ما لا سلطان له عليه، وصد
عن سبيله، وأنكر ما لا ينكر، ولد3 فيه وخاصم، وهذا المعنى
يقتضي تأكيد التخويف، وإطالة التأنيب والتعنيف؛ فكثرت
مقدماته ولواحقه، ولم يخلُ مع ذلك من طرف الترجية لأنهم
بذلك مدعوون إلى الحق، وقد تقدم الدعاء، وإنما هو مزيد
تكرار إعذارًا وإنذارًا، ومواطن الاغترار يطلب فيها
التخويف أكثر من طلب الترجية؛ لأن درء المفاسد آكد.
وترد الترجية أيضًا ويتسع مجالها، وذلك في مواطن القنوط
ومظنته4؛ كما في قوله تعالى:
{قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعًا} الآية [الزمر: 53]؛ فإن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا
وأكثروا، وزنوا وأكثروا؛ فأتوا محمدًا -صلى الله عليه
وسلم- فقالوا: إن الذي تقول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فمثلًا سورة الرحمن ثلثها الأول تقريبًا آيات دالة على
الصانع المبدع سبحانه توطئة لما يجيء بعد من التخويف
والترغيب، وأنه بعلمه وقدرته وإبداعه لا يعجزه ما خوف منه
وما رغب فيه، والثلث الثاني غاية التخويف والوعيد، والثالث
غاية الترغيب والترجية. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "للخلق"!!
3 اللدة: شدة الخصومة. "ف".
4 في "ط": "أو مظنته".
ج / 4 ص -171-
وتدعو
إليه لحسن لو تخبرنا ألنا لما عملنا كفارة؟ فنزلت1.
فهذا موطن خوف يخاف منه القنوط؛ فجيء فيه بالترجية غالبة2،
ومثل ذلك الآية الأخرى:
{وَأَقِمِ
الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}
[هود: 114]، وانظر في سببها في الترمذي والنسائي وغيرهما3.
ولما كان جانب الإخلال4 من العباد أغلب؛ كان جانب التخويف
أغلب، وذلك في مظانه الخاصة لا على الإطلاق؛ فإنه إذا لم
يكن هنالك مظنة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب مناقب الأنصار، باب ما
لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من المشركين بمكة،
7/ 165/ رقم 3855، وكتاب التفسير، باب
{يُضَاعَفْ
لَهُ الْعَذَاب}، 8/ 494/ رقم 4764"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب منه، 4/
2318/ رقم 3023" بعد "19" عن ابن عباس نحوه.
وأخرجه من حديثه أيضًا بلفظ المصنف: البخاري في "صحيحه"
"كتاب التفسير، باب سورة الزمر، 8/ 549/ رقم 4810"، ومسلم
في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله
وكذا الهجرة والحج، 1/ 113/ رقم 122"، وأبو عبيد في
"الناسخ والمنسوخ" "رقم 484"، والحاكم في "المستدرك" "2/
403"، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 98".
2 لأنه أطلق الذنوب، فلم يقيد بصغيرة ولا كبيرة، ولم يشترط
شرطًا ما؛ فلم يقل: "لمن يشاء"، ثم أكد الأمر بقوله:
{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} [الزمر: 53]، ومثله يقال في إذهاب الحسنات للسيئات في الآية الآتية
بعدها. وفي "ط": "بالترجية فيه غالبة".
3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب قوله تعالى:
{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات}، 4/ 2115-2116" عن ابن مسعود أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة، فأتى
النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له؛ فنزلت...
وأخرجه أيضًا البخاري في "صحيحه" "رقم 526، 4687"،
والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، رقم 267"، والترمذي
في "جامعه" "رقم 3114"، وابن ماجه في "سننه" "رقم 1398،
4254".
4 في "ط": "الانحلال".
ج / 4 ص -172-
هذا
ولا هذا أتى الأمر معتدلًا، وقد مر لهذا المعنى بسط في
كتاب المقاصد، والحمد لله.
فإن قيل: هذا لا يطرد؛ فقد ينفرد أحد الأمرين فلا يؤتى معه
بالآخر، فيأتي التخويف من غير ترجية، وبالعكس.
ألا ترى قوله تعالى:
{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ...}
[الهمزة: 1-9] إلى آخرها؛ فإنها كلها تخويف.
وقوله:
{كَلَّا
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى...} [العلق: 6-19] إلى آخر السورة.
وقوله:
{أَلَمْ
تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ...} [الفيل: 1-5] إلى آخر السورة.
ومن الآيات قوله:
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...} إلى قوله:
{فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 57-58].
وفي الطرف الآخر قوله تعالى:
{وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى...}
[الضحى: 1-11] إلى آخرها.
وقوله تعالى:
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ...}
[الشرح: 1-8] إلى آخرها.
ومن الآيات قوله تعالى:
{وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ
أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} الآية [النور: 22].
وروى أبو عبيد عن ابن عباس أنه التقى هو وعبد الله بن
عمرو؛ فقال ابن عباس: "أي آية أرجى في كتاب الله؟ فقال عبد
الله: قوله:
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ}
الآية [الزمر: 53]. فقال ابن
ج / 4 ص -173-
عباس:
لكن قول الله:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى
قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. قال ابن عباس: فرضي منه بقوله:
{بَلَى}".
قال1: "فهذا لما يعترض في الصدور مما يوسوس به الشيطان"2.
وعن ابن مسعود؛ قال: "في القرآن آيتان ما قرأهما عبد مسلم
عند ذنب إلا غفر الله له". وفسر ذلك أبي بن كعب بقوله
تعالى:
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
ذَكَرُوا اللَّهَ}
[آل عمران: 135] إلى آخر الآية، وقوله:
{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ
يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}
[النساء: 110].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إن عبد الله قال لابن عباس: إن هذا في موضوع آخر؛
كحديث القائل له, صلى الله عليه وسلم: إني أحدث نفسي
بالشيء لأن أكون حممة أحب إليَّ من أن أتكلم به. فقال له,
صلى الله عليه وسلم:
"الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة"1؛
فليس راجعًا إلى أصل الإيمان أو قبول فيه حتى تكون الآية
أرجى الآيات كما فهمت. "د".
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص149" بسند ضعيف، فيه
عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم أبو صالح المصري، كاتب
الليث، صدوق، كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة.
3 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "149-150"، والطبراني
في "مسند الشاميين" "2/ 334-335/ رقم 1444" بإسناد ضعيف،
فيه أبو الفرات مولى صفية وهو مجهول، انظر عنه:
"الاستغناء" لابن عبد البر "3/ 1511-1512"، ونحوه عن ابن
مسعود في "تفسير القرطبي" "5/ 380"، وفيه: "وروى سفيان عن
أبي إسحاق عن الأسود وعلقمة؛ قالا: قال ابن مسعود...
وذكره".
وقلت: ظفرت به من طريق أبي الأحوص سلَّام بن سُلَيم عن أبي
إسحاق السبيعي به، أخرجه سعيد بن منصور في "السنن" "3/
1091/ رقم 526" ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "9/ 241/
رقم 9035"، وابن المنذر في "تفسيره" كما في هامش "تفسير
ابن أبي حاتم" "2/ ق 68 =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي نحوه في "5/ 34".
ج / 4 ص -174-
وعن
ابن مسعود: "إن في النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها
الدنيا وما فيها، ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما
يعرفونها1 قوله:
{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية [النساء: 31].
وقوله:
{إِنَّ
اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}
الآية [النساء: 40].
وقوله:
{إِنَّ
اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}
الآية [النساء: 48].
وقوله:
{وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} الآية [النساء: 64].
وقوله:
{وَمَنْ
يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ
يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}2
[النساء: 110].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= /أ" وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 328/ رقم 9572"،
كلاهما عن أبي الأحوص به.
وإسناده رجاله ثقات، وأبو إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث،
وقد اختلط، ولكن روى عنه سفيان قبل اختلاطه، وظفرتُ برواية
سفيان -التي أشار إليها القرطبي- في "تفسير عبد بن حميد"
كما في هامش "تفسير ابن أبي حاتم" "2/ ق 180/ أ".
وأخرجه سعيد بن منصور بنحوه في "سننه" "4/ 1371/ رقم 687"
-ومن طريقه الطبراني في "الكبير" "9/ 250-251/ رقم 9070"-
بإسناد ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم، ومجموع هذه الطرق تنبئ
على أن للأثر أصلًا، وبها إن شاء الله يصل إلى درجة الحسن.
1 في الأصل و"ط": "ما يعرفونها"، وكذا في جميع الطبعات،
والصواب حذف "ما" كما في مصادر التخريج.
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص150"، وسعيد بن
منصور في "السنن" "4/ 1297/ رقم 659", ومن طريقه الطبراني
في "الكبير" "9/ 250/ رقم 9069"، والبيهقي في "الشعب" "5/
361/ رقم 2203"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 305" ومن طريقه
البيهقي في "الشعب" "5/ 360-361/ رقم 2202"، جميعهم من
طريق مسعر بن كِدَام عن معن بن عبد الرحمن عن أبيه؛ قال:
قال عبد الله بن مسعود به.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "7/ 11-12": "رجاله رجال
الصحيح".
قلت: نعم، ولكنه منقطع، لم يسمع عبد الرحمن من أبيه إلا
حديثين؛ ولذا قال الحاكم عقبه, ووافقه الذهبي: "هذا إسناد
صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه؛ فقد اختلف في ذلك".
ولهذا الأثر طرق تدل على أن له أصلًا؛ فأخرج عبد الرزاق في
"التفسير" "1/ 155-156" ومن طريقه ابن جرير في "التفسير"
"8/ 256-257/ رقم 9233" عن معمر عن رجل عن ابن مسعود به
نحوه.
وأخشى أن يكون هذا الرجل المبهم هو عبد الرحمن، والحكم على
هذا الإسناد متوقف على معرفته.
وأخرج هناد في "الزهد" "2/ 454-455/ رقم 903" نحوه عن ابن
مسعود، وفي إسناده بشير الأوديّ، وهو مجهول.
ج / 4 ص -175-
وأشياء
من هذا القبيل كثيرة، إذا تتبعت وجدت؛ فالقاعدة لا تطرد،
وإنما الذي يقال: إن كل موطن له ما يناسبه، ولكل مقام
مقال، وهو الذي يطرد في علم البيان، أما هذا التخصيص؛ فلا.
فالجواب: أن ما اعترض به غير صادٍّ عن سبيل ما تقدم، وعنه
جوابان: إجمالي، وتفصيلي:
فالإجمالي أن يقال: إن الأمر العام والقانون الشائع هو ما
تقدم؛ فلا تنقضه الأفراد الجزئية الأقلية؛ لأن الكلية إذا
كانت أكثرية في الوضعيات انعقدت كلية، واعتمدت في الحكم
بها وعليها، شأن الأمور العادية1 الجارية في الوجود، ولا
شك أن ما اعترض به من ذلك قليل، يدل عليه الاستقراء؛ فليس
بقادح فيما تأصل.
وأما التفصيلي؛ فإن قوله:
{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}
[الهمزة: 1] قضية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فمع كونها أغلبية اعتبرها الشارع في إجراء الأحكام
عليها، كما في أحكام السفر، وبناء التكليف على البلوغ الذي
هو مظنة العقل، وهكذا، كما تقدم في "المقاصد" في المسألة
العاشرة من النوع الأول والخامسة عشرة من النوع الرابع.
"د".
ج / 4 ص -176-
عين في
رجل معين1 من الكفار، بسبب أمر معين، من همزة النبي -عليه
الصلاة والسلام- وعيبه إياه؛ فهو إخبار عن جزائه على ذلك
العمل القبيح، لا أنه أجرى مجرى التخويف؛ فليس مما نحن
فيه، وهذا الوجه جار في قوله:
{إِنَّ الْإِنْسَانَ
لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}2 [العلق: 6-7]، وقوله:
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآيتين [الأحزاب: 57-58] جار3 على ما ذكر.
وكذلك سورة والضحى، وقوله:
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}
[الشرح: 1] غير ما نحن فيه، بل هو أمر من الله للنبي -عليه الصلاة
والسلام- بالشكر لأجل ما أعطاه من المنح.
وقوله:
{أَلا
تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}
[النور: 22] قضية عين لأبي بكر الصديق، نفس بها من كربه
فيما أصابه بسبب الإفك المتقول على بنته عائشة؛ فجاء هذا
الكلام كالتأنيس له والحض على إتمام مكارم الأخلاق
وإدامتها، بالإنفاق على قريبه المتصف بالمسكنة والهجرة،
ولم يكن ذلك واجبًا على أبي بكر، ولكن أحب الله له معالي
الأخلاق.
وقوله:
{لا تَقْنَطُوا} [الزمر: 53] وما ذكر معها في المذاكرة المتقدمة ليس مقصودهم بذكر
ذلك النقض على ما نحن فيه، بل النظر في معاني آيات على
استقلالها، ألا ترى أن قوله:
{لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}
[الزمر: 53] أعقب بقوله:
{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} الآية [الزمر: 54]، وفي هذا تخويف عظيم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبي بن خلف أو أمية بن خلف أو الوليد بن المغيرة أو
العاصي بن وائل، أو هم جميعًا لأنهم كانوا أغنياء عيابين
في النبي -صلى الله عليه وسلم- تنطبق عليهم الأوصاف التي
في السورة. "د".
2 نزل في أبي جهل وإن كان المراد الجنس، وقد نزلت الآيات
بعد ما قبلها من السورة بزمن طويل. "د".
3 لأنهما نزلتا في أبي بن سلول ومن معه في قضية الإفك، أو
فيمن طعنوا عليه -صلى الله عليه وسلم- في زواج صفية بنت
حيي بن أخطب. "د".
ج / 4 ص -177-
مهيج
للفرار من وقوعه، وما تقدم1 من السبب من نزول الآية يبين
المراد، وأن قوله:
{لا تَقْنَطُوا}
[الزمر: 53] رافع لما تخوفوه من عدم الغفران لما سلف.
وقوله:
{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}
[البقرة: 260] نظر في معنى آية في الجملة وما يستنبط منها،
وإلا؛ فقوله:
{أَوَلَمْ تُؤْمِن} [البقرة: 260] تقرير فيه إشارة إلى التخويف أن لا يكون مؤمنًا،
فلما قال: "بلى" حصل المقصود.
وقوله:
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}
[آل عمران: 135] كقوله:
{لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}
[الزمر: 53].
وقوله:
{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء: 110] داخل تحت أصلنا لأنه جاء بعد قوله:
{وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]،
{وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ...} إلى قوله:
{فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}
[النساء: 107-109].
وقوله:
{إِنْ
تَجْتَنِبُوا} آت بعد الوعيد على الكبائر من أول السورة إلى هنالك؛ كأكل مال
اليتيم، والحيف في الوصية، وغيرهما، فذلك مما يرجى به
[بعد] تقدم2 التخويف.
وأما قوله:
{إِنَّ
اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}
[النساء: 40]؛ فقد أعقب بقوله:
{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا} الآية [النساء: 42]، وتقدم قبلها قوله:
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ...} إلى قوله:
{عَذَابًا مُهِينًا}
[النساء: 37]، بل قوله:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] جمع التخويف مع الترجية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "ص170".
2 لعل الأصل: "تقدمه"؛ أي: فقوله:
{إِنْ تَجْتَنِبُوا} الآية مما يرجي به، لكن سبقه التخويف. "د". قلت: قاله بسبب سقوط
"بعد".
ج / 4 ص -178-
وكذلك
قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
جَاءُوكَ}1 الآية [النساء: 64] تقدم قبلها وأتى بعدها تخويف عظيم؛ فهو مما
نحن فيه.
وقوله:
{إِنَّ
اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}
الآية [النساء: 48] جامع للتخويف والترجية من حيث قيد
غفران ما سوى الشرك بالمشيئة، ولم يرد ابن مسعود بقوله:
"ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها" أنها آيات ترجية
خاصة، بل مراده والله أعلم أنها كليات في الشريعة محكمات،
قد احتوت على علم كثير، وأحاطت بقواعد عظيمة في الدين،
ولذلك قال: "ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما
يعرفونها"2، وإذا ثبت هذا فجميع ما تقدم جار على أن لكل
موطن ما يناسبه [وإن الذي يناسبه] إنزال القرآن إجراؤه3
على البشارة والنذارة، وهو المقصود الأصلي لا أنه أنزل
لأحد الطرفين دون الآخر، وهو المطلوب، وبالله التوفيق.
فصل:
ومن هنا يتصور للعباد أن يكونوا دائرين بين الخوف والرجاء،
لأن حقيقة الإيمان دائرة بينهما، وقد دل على ذلك الكتاب
العزيز على الخصوص؛ فقال:
{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ....} إلى قوله:
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ
أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}
[المؤمنون: 57-60].
وقال:
{إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ}
[البقرة: 218].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "جاءوك" سقطت من الأصل.
2 كذا في الأصول كلها، وسبق التنبيه قريبًا "ص174" أن
الأثر في كتب التخريج دون "ما".
3 ما بين المعقوفتين من "ط" فقط، ولذا كتب "د": "إجراؤه
بدل من إنزال"، وقال "ف": "لعل العبارة: ما يناسب إنزال
القرآن وإجراؤه". قلت: وكذا أثبتها "م".
ج / 4 ص -179-
وقال:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ
الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ
وَيَخَافُونَ عَذَابَه} [الإسراء: 57].
وهذا على الجملة، فإن غلب عليه طرف الانحلال والمخالفة؛
فجانب الخوف عليه أقرب، وإن غلب [الخوف]1 عليه طرف التشديد
والاحتياط؛ فجانب الرجاء إليه أقرب، وبهذا كان عليه الصلاة
والسلام يؤدب أصحابه2، ولما غلب على قوم جانب الخوف قيل
لهم:
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية [الزمر: 53].
وغلب على قوم جانب الإهمال في بعض3 الأمور، فخوفوا وعوتبوا
كقوله:
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}
الآية [الأحزاب: 57].
فإذا ثبت هذا من ترتيب القرآن ومعاني آياته؛ فعلى المكلف
العمل على وفق ذلك التأديب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة من "م" فقط.
2 تجد طائفة من الأحاديث الواردة في ذلك في "التذكرة"
للقرطبي، يسر الله إتمامه ونشره.
3 تقدم أن الآية نزلت في أبي بن سلول أو فيمن طعنوا فيه
وعابوه -صلى الله عليه وسلم- في زواج صفية، وسواء أكان هذا
أم ذاك؛ فقد نزلت في شأن قوم من الكفار، والموضع الآن لذكر
المؤمنين الذين غلب عليهم أحد الطرفين وطريقة تأديبهم، فلو
ذكر في تأديب من غلب عليه جانب الإهمال في بعض الأمور مثل
آية:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} الآية [الحديد: 16]؛ لكان ظاهرًا وصح تسميته عتابًا، أما الذين
يلعنون في الدنيا والآخرة؛ فلا يعد هلاكهم الأبدي عتابًا.
"د".
ج / 4 ص -180-
المسألة الخامسة:
تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي1 لا جزئي، وحيث
جاء جزئيًّا؛ فمأخذه على الكلية إما بالاعتبار2، أو بمعنى3
الأصل؛ إلا ما خصه الدليل مثل خصائص النبي, صلى الله عليه
وسلم.
ويدل على هذا المعنى بعد الاستقراء المعتبر أنه محتاج4 إلى
كثير من البيان؛ فإن السنة على كثرتها وكثرة مسائلها إنما
هي بيان للكتاب، كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى، وقد
قال الله تعالى:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ
مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وفي الحديث:
"ما من نبي من
الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر،
وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ؛ فأرجو أن
أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معنى الكلية هنا أنه لا يختص بشخص دون آخر، ولا بحال دون
حال، ولا زمان دون آخر، وأيضًا ليس مفصلًا مستوعبًا لشروط
وأركان وموانع ما يطلب أو ما ينهى عنه، وهو المسمى
بالمجمل، وإنما حملنا الكلية على هذين المعنيين معًا
لتنزيل كلامه الآتي عليه، ألا ترى إلى قوله: "إلا ما خصه
الدليل"، وإلى قوله: "ويدل على هذا المعنى أنه محتاج إلى
كثير من البيان"، وقوله: "وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة...
إلخ"؟ "د".
قلت: بين هذه الكليات ابن القيم في "مدارج السالكين" "1/
452-453, ط الفقي".
2 أي: باعتبار المآلات، وهو المسمى بالاستحسان. "د".
3 وهو القياس. "د".
4 لمعرفة التفاصيل والشروط والموانع وأركان الماهيات
الشرعية وغير ذلك، وهذه الحاجة هي علامة الكلية. "د".
5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل القرآن، باب كيف
نزل الوحي وأول ما نزل، 9/ 3/ رقم 4981، وكتاب الاعتصام
بالكتاب والسنة، باب قول النبي, صلى الله عليه وسلم
"بعثت
بجوامع =
ج / 4 ص -181-
وإنما1
الذي أعطي القرآن، وأما السنة؛ فبيان له، وإذا كان كذلك؛
فالقرآن على اختصاره جامع، ولا يكون جامعًا إلا والمجموع
فيه أمور كليات؛ لأن الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3].
وأنت2 تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم يتبين
جميع أحكامها في القرآن، إنما بينتها3 السنة، وكذلك
العاديات من الأنكحة والعقود والقصاص والحدود وغيرها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
الكلم"، 13/ 247/ رقم 7274"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب وجوب
الإيمان برسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى جميع
الناس ونسخ الملل بملة، 1/ 134/ رقم 152" عن أبي هريرة,
رضي الله عنه. وفي "ط":
"ما من
الأنبياء من نبي...".
قال "ف" شارحًا "ما مثله آمن عليه البشر": "أي: لأجله،
بحيث إذا شاهده اضطر إلى التصديق به؛ فموسى -عليه السلام-
أعطي آية العصا وقلبها حية لأن الغلبة إذ ذاك للسحرة؛
فجاءهم بما يوافق السحر، فاضطرهم إلى الإيمان بذلك، وكذلك
عيسى أعطي آية إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى؛ لأن
الغلبة في زمانه للطب، فجاءهم بما هو أعلى منه، وهو إحياء
الموتى.
وفي زمان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كانت الغلبة
للبلاغة والبيان؛ فجاءهم بالقرآن من جنس ما تناهوا فيه مما
عجز عنه البلغاء الكاملون في عصره؛ فاضطرهم إلى التصديق
بمعجزاته، وهكذا كل نبي أعطي من المعجزات ما يناسب أهل
زمانه مما إذا شوهد اضطر الشاهد إلى التصديق به بحيث لا
يستطيع دفعه عن نفسه، ولا يقدر على الإتيان بمثله" ا. هـ.
1 لأنه المشتمل على ما آمن لأجله الناس من المعجزة، وليس
هذا في السنة، وإذا كان الذي أعطيه هو القرآن؛ فلا يتأتى
أن يكون جامعًا لحاجة البشر في دينهم ودنياهم؛ إلا إذا كان
مشتملًا على التفاصيل في معاملة الخلق والخالق، ولكنه يبقى
أن يقال: إنه ورد في الحديث الآخر:
"أعطيت القرآن ومثله معه"؛
فهذا الحصر غير مسلم إلا باعتبار الإعجاز الذي في الحديث؛
فلا يظهر وجه الاستدلال بالحديث على الكلية لتعريفه
للأحكام الشرعية. "د".
2 من تتمة الدليل قبله. "د".
3 وسيأتي في المسألة الرابعة من السنة بيان ذلك بتفصيل.
"د".
ج / 4 ص -182-
وأيضًا1، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها
المعنوية، وجدناها قد تضمنها2 القرآن على الكمال، وهي3
الضروريات والحاجيات والتحسينيات ومكمل كل واحد منها، وهذا
كله ظاهر أيضًا4؛ فالخارج من الأدلة عن الكتاب هو السنة
والإجماع والقياس، وجميع ذلك إنما نشأ عن القرآن، وقد عد
الناس قوله تعالى:
{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] متضمنًا للقياس، وقوله:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] متضمنًا للسنة، وقوله:
{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] متضمنًا للإجماع، وهذا أهم ما يكون.
وفي "الصحيح" عن ابن مسعود؛ قال:
"لعن الله الواشمات والمستوشمات...."5 إلخ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، يقال لها أم يعقوب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 استدلال آخر على كلية تعريف الكتاب للأحكام الشرعية.
"د".
2 في "ط": "تضمنت".
3 انظر بيانه الوافي في المسألة الرابعة من دليل السنة من
قوله: "ومنها النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة...".
"د".
4 لعل الأصل: "وأيضًا؛ فالخارج... إلخ" ليكون دليلًا
ثالثًا على الكلية بالمعنيين وتكون هذه الآيات الثلاث من
أوسع كلياته شمولًا، وهو ما يشير إليه قوله: "وهذا أهم ما
يكون". "د". قلت: هو في "ط" كذلك: "وأيضًا؛ فالخارج...".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، 8/ 630/ رقم 4886، 4887، وكتاب اللباس، باب الموصولة، 10/ 378/
رقم 5943، وباب المستوشمة، 10/ 380/ رقم 5948"، ومسلم في
"الصحيح" "كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة
والمستوصلة، 3/ 1678/ رقم 2125", والترمذي "أبواب الأدب,
باب ما جاء في الواصلة والمستوصلة, 5/ 104/ رقم 2782"،
والنسائي في "المجتبى" "كتاب الزينة، باب لعن المتنمصات
والمتفلجات، 8/ 188"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب النكاح،
باب الواصلة والمستوشمة، 1/ 640/ رقم 1989"، وأحمد في
"المسند" "1/ 433-434، 443، 448، 454، 462، 465" عن ابن
مسعود -رضي الله عنه- به.=
ج / 4 ص -183-
وكانت
تقرأ القرآن؛ فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت كذا
وكذا؟ فذكرته. فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن1 رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في كتاب الله؟ فقالت
المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته! فقال: لئن
كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله, عز وجل:
{وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] الحديث.
وعبد الله من العالمين بالقرآن.
فصل
فعلى هذا لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه
دون النظر في شرحه وبيانه وهو السنة؛ لأنه إذا كان كليًّا
وفيه أمور جملية2 كما في شأن الصلاة والزكاة والحج والصوم
ونحوها؛ فلا محيص عن النظر في بيانه، وبعد ذلك ينظر في
تفسير السلف الصالح له إن أعوزته السنة؛ فإنهم أعرف به من
غيرهم، وإلا؛ فمطلق3 الفهم العربي لمن حصله يكفي فيما أعوز
من ذلك، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في الحديث السابق، وهو لم يرفعه هنا اكتفاء بقوله:
"لعن رسول الله"، وقوله:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ...}
إلخ [الحشر: 7]؛ فالحديث دليل تفصيلي لمسألتها والآية دليل
إجمالي. "د".
2 يتأمل في الفرق بين كونه كليًّا وبين أن فيه أمورًا
كلية. "د"، و"جملية" من "ط" فقط، وبدلها في غيره "كلية".
3 المراد الفهم الناشئ عن الدربة فيه كما تقدم آنفًا لا
مجرد أي فهم عربي فرض. "د".
ج / 4 ص -184-
المسألة السادسة:
القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيب المتقدم؛ فالعالم
به على التحقيق عالم بجملة1 الشريعة، ولا يعوزه2 منها شيء،
والدليل على ذلك أمور:
- منها: النصوص القرآنيه، من قوله3:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلامَ دِينًا}4 الآية [المائدة: 3].
وقوله:
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ
شَيْءٍ} [النحل: 89].
وقوله:
{مَا
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ
مِنْ شَيْءٍ}5
[الأنعام: 38].
وقوله:
{إِنَّ
هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، يعني: الطريقة المستقيمة6، ولو لم يكمل فيه جميع
معانيها؛ لما صح إطلاق هذا المعنى عليه حقيقة.
وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما في
الصدور، ولا يكون شفاء لجميع7 ما في الصدور إلا وفيه تبيان
كل شيء.
- ومنها: ما جاء من الأحاديث والآثار المؤذنة بذلك؛ كقوله,
عليه الصلاة والسلام:
"إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: عالم بالشريعة إجمالًا، لا ينقصه من إجمالها
وكلياتها شيء. "د".
قلت: انظر "مجموع الفتاوى" "17/ 443-444 و19/ 175-176، 308
و34/ 206-207"، و"جواهر القرآن ودرره" "ص26-27" للغزالي،
و"النبأ العظيم" "ص117 وما بعدها".
2 في "ط": "لا يعوزه".
3 ربما يقال: إكماله بالكتاب والسنة؛ لأنه لم يقل: أكملته
في خصوص الكتاب. "د".
4
{وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ
دِينًا} سقطت من
الأصل.
5 بناء على أن المراد به القرآن، وفيه أقوال أخرى معتبرة.
"د".
6 وهي النظام الكامل في معاملة الخلق والخالق. "د".
7 جاء به من لفظ: "ما" العام. "د".
ج / 4 ص -185-
لمن تمسك
به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب1، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد..."2 إلخ؛ فكونه حبل الله بإطلاق، والشفاء النافع إلى تمامه دليل على
كمال الأمر فيه.
ونحو هذا في3 حديث علي عن النبي, عليه الصلاة والسلام4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يرجع عن الزيغ، ويطلب الرضا. "ف".
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص21"، وعبد الرزاق في
"المصنف" "رقم 6017"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 165,
ط دار الفكر، و10/ 482-483/ ط الهندية"، والحاكم في
"المستدرك" "1/ 555"، والمروزي في "قيام الليل" "ص121"،
وابن حبان في "المجروحين" "1/ 100"، والطبراني في "الكبير"
"9/ 139/ رقم 8646"، وابن منده في "الرد على من يقول
{الم} حرف/ رقم 11"، وأبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن" "رقم 30، 31،
32"، وابن الضريس في "فضائل القرآن" "58"، والآجري في
"أخلاق حملة القرآن" "11"، والبيهقي في "الشعب" "4/ 550"،
والخطيب البغدادي في "الجامع" "1/ 107"، وابن الجوزي في
"الواهيات" "1/ 109/ رقم 145" عن ابن مسعود مرفوعًا بهذا
اللفظ، وإسناده ضعيف، فيه إبراهيم بن مسلم الهجري، وهو
متروك.
وانظر: "الميزان" "1/ 166"، و"تخريج الزيلعي لأحاديث
الكشاف" "1/ 212"، وأخرجه عن ابن مسعود مختصرًا أيضًا
الدارمي في "السنن" "1/ 429"، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان"
"2/ 278" من طريق أبي الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان"
"4/ 252"، والشجري في "أماليه" "1/ 84" بإسناد فيه الهجري
السابق، وقد أوقفه بعضهم على ابن مسعود، وهو أشبه؛ كما عند
ابن المبارك في "الزهد" "279"، وابن أبي شيبة في "المصنف"
"10/ 462"، والفريابي في "الفضائل" "63"، وإسناده صحيح
موقوفًا.
3 في الأصل و"د": "من".
4 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب فضائل القرآن، باب ما
جاء في فضل القرآن، 5/ 172/ رقم 2906"، وابن أبي شيبة في
"المصنف" "7/ 164"، والدارمي في "السنن" "2/ 435"، والبزار
في "البحر الزخار" "3/ 70-72"، وأحمد في "المسند" "1/ 91"،
وأبو يعلى في "المسند" "1/ 302-303/ رقم 367"، ومحمد بن
نصر في "قيام الليل" "ص123"، والفريابي في "فضائل القرآن"
"رقم 80، 81، 82"، وإسحاق بن راهوية -كما قال الزيلعي في
"تخريج الكشاف" "1/ 212"- وفيه: "كتاب الله فيه نبأ من
قبلكم، وخبر ما بعدكم..."، وإسناده ضعيف، قال الترمذي:
"هذا حديث لا نعرفه إلى من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي
الحارث مقال"، وقال البزار: "لا نعلم رواه عن علي إلا
الحارث"، وانظر: "علل الدارقطني" "رقم 322"=
ج / 4 ص -186-
وعن
ابن مسعود:
"إنّ كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه، وإن أدب الله القرآن"1.
وسئلت عائشة عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت:
"كان خلقه القرآن"2، وصدق ذلك قوله:
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
[القلم: 4].
وعن قتادة: "ما جالس القرآن أحد إلا فارقه بزيادة أو
نقصان"، ثم قرأ:
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا
خَسَارًا}
[الإسراء: 82]3.
وعن محمد بن كعب القرظي في قول الله تعالى:
{إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ}
[آل عمران: 193]؛ قال: "هو القرآن، ليس كلهم رأى النبي, صلى الله
عليه وسلم"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 80، 81، 82"، وإسحاق
بن راهوية -كما قال الزيلعي في "تخريج الكشاف" "1/ 212"-
وفيه:
"كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم..."، وإسناده ضعيف، قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلى من هذا الوجه،
وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال"، وقال البزار: "لا نعلم
رواه عن علي إلا الحارث"، وانظر: "علل الدارقطني" "رقم
322".
1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص21، 52"، والدارمي
في "السنن" "2/ 433"، والمحاسبي في "فهم القرآن" "ص289" عن
ابن مسعود قوله. ورفعه بعضهم فوهم. انظر: "ضعيف الجامع"
"رقم 4247".
2 مضى تخريجه "2/ 332"، وهو صحيح.
3 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص23"، والبغوي في
"شرح السنة" "4/ 437" عن قتادة به، وذكره عنه القرطبي في
"التفسير" "10/ 320"، والغزالي في "الإحياء" في "آداب
تلاوة القرآن".
4 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "7/ 480"، وأبو عبيد في
"الفضائل" "ص24".
ج / 4 ص -187-
وفي
الحديث:
"يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله"1، وما ذاك إلا أنه أعلم بأحكام الله؛ فالعالم بالقرآن عالم بجملة
الشريعة.
وعن عائشة: أن من قرأ القرآن؛ فليس فوقه أحد2.
وعن عبد الله؛ قال: "إذا أردتم العلم؛ فأثيروا3 القرآن،
فإن فيه علم الأولين والآخرين"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب من أحق
بالإمامة، 1/ 465/ رقم 673" عن أبي مسعود الأنصاري
مرفوعًا.
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص37"، وابن أبي شيبة
في "المصنف" "7/ 155" من طريق محمد بن عبد الرحمن السدوسي
عن معفس بن عمران بن حطان عن أم الدرداء عن عائشة به،
وإسناده ضعيف، معفس مترجم في "الجرح والتعديل" "8/ 433"،
ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا.
3 بالتفهم فيه. "د".
4 أخرجه مسدد في "المسند" -كما في "المطالب العالية" "ق
108 -ب- المسندة و3/ 133/ رقم 3079- المطبوعة"، وعبد الله
بن أحمد في "زوائد الزهد" "ص229"، والحارث المحاسبي في
"فهم القرآن" "291-292"، والطبراني في "الكبير" "9/ 146/
رقم 8666" من طريق شعبة، وأبو عبيد في "فضائل القرآن"
"41-42"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 814", ومن طريقه
الفريابي في "فضائل القرآن" "رقم 78" -وابن أبي شيبة في
"المصنف" "10/ 485"- ومن طريقه النحاس في "القطع
والائتناف" "ص84"، وأبو الليث السمرقندي في "بحر العلوم"
"1/ 202-204" من طريق سفيان الثوري، وسعيد بن منصور في
"سننه" "1/ 7/ رقم 1", ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "4/
513/ رقم 1808" عن حديج بن معاوية، وابن أبي شيبة في
"المصنف" "14/ 94" من طريق زهير, والطبراني في "الكبير"
"9/ 145-146/ رقم 8664 و8665" من طريق إسرائيل وزهير،
خمستهم عن أبي إسحاق السبيعي عن مرة بن شراحيل البكيلي عن
ابن مسعود به، وأبو إسحاق مدلس، وقد اختلط، ورواية شعبة
عنه مأمونة؛ فإنه قال: "كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي
إسحاق، وقتادة"، و"هذه قاعدة جيدة في أحاديث هؤلاء
الثلاثة, إنها إذا جاءت من طريق شعبة دلت على السماع، ولو
كانت معنعنة"، قاله ابن حجر، وهو -أي شعبة- ممن روى عن أبي
إسحاق قبل الاختلاط؛ فطريقه صحيحة على شرط الشيخين.
ج / 4 ص -188-
وعن
عبد الله بن عمرو1؛ قال: "من جمع القرآن؛ فقد حمل أمرًا
عظيمًا، وقد أدرجت2 النبوة بين جنبيه؛ إلا أنه لا يوحى
إليه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل والطبعات كلها: "عمر" بضم العين، والصواب
فتحها، كما في مصادر التخريج و"ط".
2 في مطبوع "فضائل القرآن" لأبي عبيد: "استدرج"، وفي "ط":
"استدرجت".
3 أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 155, ط دار الفكر"
عن وكيع عن إسماعيل بن رافع عن رجل عن عبد الله بن عمرو
به، وإسناده ضعيف للمبهم الذي فيه، ولضعف ابن رافع.
وأخرجه من طريق ابن رافع عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي
المهاجر عن عبد الله بن عمرو به المروزي في "زياداته على
زهد ابن المبارك" "رقم 799"، ومحمد بن نصر في "قيام الليل"
"72".
وأخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "53" عن يحيى بن أيوب
عن خالد بن يزيد عن ثعلبة بن أبي الكنود عن عبد الله بن
عمرو به قوله.
وكذا أخرجه المروزي في "زياداته على فضائل أبي عبيد" "ص53"
عن مرو بن الربيع بن طارق عن يحيى به.
وخالفه يحيى بن عثمان بن صالح السهمي؛ فرواه عن عمرو بن
الربيع ورفعه؛ كما عند الحاكم في "المستدرك" "1/ 552"،
والموقوف أشبه، والله أعلم.
نعم، ورد في المرفوع من مرسل الحسن عند سعيد بن منصور في
"السنن" "2/ 263/ رقم 68" بإسناد ضعيف جدًّا، وعن أبي
أمامة عند ابن حبان في "المجروحين" "1/ 187-188"، وابن عدي
في "الكامل" "2/ 440-441"، وابن الأنباري في "المصاحف"
-كما في "تفسير القرطبي" "1/ 8- والبيهقي في "الشعب" "4/
557 و5/ 530"، وابن الجوزي في "الموضوعات" "1/ 252-253"،
وفيه بشر بن نمير متهم، وله نسخة عن القاسم بن يزيد عن أبي
أمامة -وهذا الحديث منها- ساقطة؛ كما في "الميزان" "1/
326"، وعن ابن عمر أخرجه الخطيب في "تاريخه" "12/ 446"،
وفيه إبراهيم الملطي، كان كذابًا أفاكًا يضع الحديث كما
قال الخطيب.
ج / 4 ص -189-
وفي
رواية عنه: "من قرأ القرآن؛ فقد اضطربت النبوة بين
جنبيه"1.
وما ذاك إلا لأنه2 جامع لمعاني النبوة، وأشباه هذا مما يدل
على هذا المعنى.
- ومنها: التجربة وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى
القرآن في مسألة إلا وجد لها فيه أصلًا، وأقرب الطوائف من
أعواز المسائل النازلة أهل الظواهر الذين ينكرون القياس،
ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن3 الدليل في مسألة من المسائل،
وقال ابن حزم الظاهري4: "كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا
وله أصل في الكتاب والسنة، نعلمه والحمد لله، حاش القراض؛
فما وجدنا له أصلًا فيهما ألبتة"5 إلى آخر ما قال، وأنت
تعلم أن القراض نوع من أنواع الإجارة, وأصل الإجارة، في
القرآن ثابت6، وبيّن ذلك إقراره عليه الصلاة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص53" موقوفًا، وفيه
عبد الله بن صالح كاتب الليث، صدوق، كثير الغلط.
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "أنه".
3 لكن يقال: إن لم يجدوا في القرآن وجدوا في السنة؛ فبعض
الأدلة على ما ترى، ويرشح النظر الذي أشرنا إليه ما نقله
عن ابن حزم، وما عقب به على استثنائه باب القراض. "د".
4 الظاهرية هم الواقفون عند ظواهر نصوص الشريعة من غير
اعتبار القياس بدعوى أنها تفي بأحكام الوقائع حيثما تجددت،
ومن مقتضى مذهبهم أن الحديث متى ثبت سنده يعتبر كقاعدة
مستقلة بنفسها، ويجب العمل به من غير أن تتحكم فيه القواعد
بتعطيل أو تخصيص أو تقييد أو تعميم أو إطلاق... إلخ. ا.
هـ. "ف".
5 انظر: "النبذ في أصول الفقه" "ص118".
6 وذلك في آيات عديدة، منها قوله تعالى:
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، قَالَ إِنِّي
أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ
عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 26-27]، وقوله:
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في "الأم" "3/ 250":
"فأجاز الإجارة على الرضاع، والرضاع يختلف لكثرة رضاع
المولود وقلته، وكثرة اللبن وقلته، ولكن لما لم يوجد فيه
إلا هذا جازت الإجارة عليه، =
ج / 4 ص -190-
والسلام وعمل الصحابة به1.
ولقائل أن يقول: إن هذا غير صحيح؛ لما ثبت في الشريعة من
المسائل والقواعد غير الموجودة في القرآن، وإنما وجدت في
السنة، ويصدق ذلك ما في "الصحيح" من قوله, عليه الصلاة
والسلام:
"لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكتة يأتيه الأمر من أمري
مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في
كتاب الله اتبعناه"2، وهذا ذم، ومعناه اعتماد السنة أيضًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وإذا جازت عليه جازت على مثله، وما هو في مثل معناه،
وأحرى أن يكون أبين منه، وقوله تعالى:
{لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}
[الكهف: 77]، معنى هذه الآية أن موسى قال للخضر, عليهما
السلام: لو شئت لاتخذت أجرًا على إقامة الجدار المنهدم،
قال الماوردي في "الحاوي الكبير" "9/ 203": "فدل ذلك من
قول موسى وإمساك الخضر على جواز الإجارة واستباحة الأجرة"
وترجم البخاري في "صحيحه" "باب إذا استأجر أجيرًا على أن
يقيم حائطًا يريد أن ينقض جاز"، وأورد هذه الآية، وانظر:
"الإجارة الواردة على عمل الإنسان" "ص35-37".
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الإجارة، باب استئجار
المشركين عند الضرورة، 4/ 442/ رقم 2263، وباب إذا استأجر
أجيرًا ليعمل له بعد ثلاثة أيام، 4/ 443/ رقم 2264" عن
عائشة, رضي الله عنها: "...واستأجر النبي -صلى الله عليه
وسلم- وأبو بكر رجلًا من بني الديل ثم من بني عبيد بن عدي
هاديًا خريتًا... فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور
بعد ثلاث ليال...".
2 أخرجه بهذا اللفظ الحميدي في "المسند" "551" -ومن طريقه
الحاكم في "المستدرك" "1/ 108-109"، والهروي في "ذم
الكلام" "ص71"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2341"- عن
ابن المنكدر مرسلًا، وليس الحديث في "الصحيح" كما قال
المصنف.
نعم، الحديث صحيح ثابت بتعدد طرقه وشواهده، منها:
ما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في لزوم
السنة، 4/ 200/ رقم 4604"، وأحمد في "المسند" "4/
130-131"، والآجري في "الشريعة" "ص51"، وابن نصر المروزي
في "السنة" "ص116"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 549"،
والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" "1/ 89"، والحازمي
في "الاعتبار" "ص7"، وابن عبد البر في "التمهيد" "1/
149-150"، والهروي في "ذم الكلام" "73" من طريق حريز بن
عثمان عن عبد الله بن أبي عوف الجرشي عن المقدام بن معدي
كرب مرفوعًا، وإسناده صحيح. =
ج / 4 ص -191-
ويصححه
قول الله تعالى:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ}
الآية [النساء: 59].
قال ميمون بن مهران: "الرد إلى الله الرد إلى كتابه، والرد
إلى الرسول إذا كان حيًّا، فلما قبضه الله؛ فالرد إلى
سنته"1.
ومثله:
{وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ}2
الآية [الأحزاب: 36].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وتابع حريزًا مروان بن رؤبة التغلبي؛ كما عند أبي داود
في "السنن" "كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل السباع، 3/
355/ رقم 3804, مختصرًا"، والدارقطني في "السنن" "4/ 287"،
وابن حبان في "الصحيح" "رقم 97, موارد"، وابن نصر في
"السنة" "ص116"، والخطيب في الفقيه والمتفقه" "1/ 89"،
وابن رؤبة مقبول، وقد توبع.
وأخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما نهي عنه
أن يقال عند حديث النبي, صلى الله عليه وسلم 5/ 38/ رقم
2669"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب تعظيم حديث
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتغليظ على من عارضه، 1/
6/ رقم 12"، وأحمد في "المسند" "4/ 130-131"، والدارمي في
"السنن" "1/ 144"، والدارقطني في "السنن" "4/ 286"،
والبيهقي في "الكبرى" "7/ 76"، والخطيب في "الفقيه
والمتفقه" "1/ 88"، و"الكفاية" "8-9"، وابن عبد البر في
"الجامع" "رقم 2343"، والحازمي في "الاعتبار" "ص245"،
والسمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" "ص3"، والهروي في
"ذم الكلام" "ص72" من طريق معاوية بن صالح عن الحسن بن
جابر عن المقدام بن معدي كرب، وذكر لفظًا نحوه، وسيأتي عند
المصنف "ص323"، والحسن بن جابر وثقه ابن حبان، وقال ابن
حجر في "التقريب": "مقبول"، وفي الباب عن جماعة كما سيأتي
"ص323".
1 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "5/ 96"، وابن بطة في
"الإبانة" "رقم 58، 59، 85"، واللالكائي في "شرح أصول
اعتقاد أهل السنة" "1/ 72-73/ رقم 76"، والهروي في "ذم
الكلام" "ص76"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2328،
2344"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 474"، وابن شاهين في
"السنة" "45"، والخطيب في "الفقيه" "1/ 144" بإسناد حسن،
وذكره البيهقي في "الاعتقاد" "ص129"، وأسنده في "المدخل"
كما في "مفتاح الجنة" "ص20".
2
{أَنْ يَكُونَ
لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}
ساقطة من الأصل.
ج / 4 ص -192-
[ولا] يقال1: إن السنة يؤخذ بها على أنها بيان لكتاب الله
لقوله:
{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} [النحل: 44], وهو جمع بين الأدلة لأنا نقول: إن كانت السنة بيانًا
للكتاب؛ ففي أحد قسميها، فالقسم الآخر2 زيادة على حكم
الكتاب؛ كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو [على] خالتها3،
وتحريم الحُمر الأهلية4، وكل ذي ناب من السباع5.
وقيل لعلي بن أبي طالب: "هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب
الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال:
قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن
لا يقتل مسلم بكافر"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المناسب أن يكون قد سقط منه كلمة "لا"؛ فهو ينفي من أول
الأمر صحة أن يكون هذا جوابًا ويدفع توهم الإجابة به، أما
ما قيل من أصله "ويمكن أن يقال"؛ فإنه لا يناسب قوله بعد:
"لأنا نقول"؛ إذ هو تعليل لنفي صحة الإجابة به لا
لإمكانها. "د".
قلت: وهذا رد على "ف"؛ حيث قال: "ويمكن أن يقال: أي:
جوابًا عن قوله، ولقائل... إلخ، وقوله: "لأنا نقول" رد
لهذا الجواب". قلت: والمثبت من "ط" فقط.
2 لعله: "والقسم" بالواو، وسيأتي هذا التقسيم. "ف".
3 مضى نصه وتخريجه في التعليق على "3/ 82"، وما بين
المعقوفتين ليس في "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة خيبر،
7/ 467-468/ رقم 4198، 4199"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحم الحُمر الإنسية، 3/
1540/ رقم 1940" عن أنس؛ قال: ".... فأمر رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- أبا طلحة فنادى: إن الله ورسوله ينهيانكم
عن لحوم الحمر؛ فإنها رجس أو نجس".
وفي الباب عن جماعة من الصحابة.
5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الذبائح والصيد، باب أكل
كل ذي ناب من السباع، 9/ 657/ رقم 5530"، ومسلم في "صحيحه"
"كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع
وكل ذي مخلب من الطير، 3/ 1533/ رقم 1932" عن أبي ثعلبة أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن أكل كل ذي ناب من
السباع.
6 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب العلم، باب كتابة
العلم، 1/ 204/ رقم 111" عن أبي جحيفة؛ قال: قلت لعلي...
وذكره.
وانظر دراسة توثيقية فقهية جيدة عن "صحيفة علي بن أبي
طالب" رضي الله عنه في دراسة مستقلة للدكتور رفعت فوزي عبد
المطلب، طبع دار السلام - القاهرة، سنة 1406هـ.
ج / 4 ص -193-
وهذا
وإن كان فيه دليل على أنه لا شيء عندهم إلا كتاب الله؛
ففيه دليل أن عندهم ما ليس في كتاب الله، وهو خلاف ما
أصلت.
والجواب عن ذلك مذكور في الدليل الثاني، وهو السنة1 بحول
الله.
ومن نوادر الاستدلال القرآني ما نقل عن عليّ أن أقل:
الحمل2 ستة أشهر انتزاعًا من قوله تعالى:
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا}
[الأحقاف: 15] مع قوله:
{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}3
[لقمان: 14].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الرابعة هناك التفصيل الوافي في السؤال
والجواب. "د".
2 جعلوه في الأصول من باب دلالة المنطوق غير الصريح، من
نوع دلالة الإشارة، وهو ما كان لازمًا لم تقصد إفادته،
ومثله دلالة الحديث: "تمكث شطر دهرها لا تصلي" على أن أكثر
الحيض خمسة عشر يومًا. "د". قلت: إلا أن حديث "تمكث..." لم
يصح؛ كما فصلناه في التعليق على "2/ 152"، والمثبت من "ط"
وفي غيره: "علي أنه قال: الحمل..."!!
3 يشير المصنف إلى ما أخرجه مالك في "الموطأ" "2/ 825,
رواية يحيى"، ومن طريقه إسماعيل بن إسحاق القاضي في "أحكام
القرآن"، كما في "المعتبر" "رقم 208"، والبيهقي في
"الكبرى" "7/ 442-443" أنه بلغه أن عثمان بن عفان أتي
بامرأة قد ولدت في ستة أشهر، فأمر بها أن ترجم، فقال له
علي بن أبي طالب: ليس ذلك عليها، وقد قال الله تعالى في
كتابه:
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا}،
وقال:
{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}، وقال:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ}؛ قال: فالرضاعة أربعة وعشرون شهرًا، والحمل ستة أشهر.
ووصله ابن أبي ذئب في "موطئه" كما في "الاستذكار" "24/
73"، ومن طريقه ابن جرير في "التفسير" "35/ 102"، وابن شبة
في "تاريخ المدينة" "3/ 979"، وابن أبي حاتم في "تفسيره",
ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "2/ 214", من
طريق يزيد بن عبد الله بن قسيط عن بعجة بن عبد الله الجهني
به مطولًا، قال ابن حجر: "هذا موقوف صحيح"، وقال: =
ج / 4 ص -194-
واستنباط مالك بن أنس أن من سب الصحابة فلا حظ له في
الفيء1 من قوله2:
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنَا} الآية [الحشر: 10].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "وأظن مالكًا سمعه من ابن قسيط؛ فإنه من شيوخه".
ثم قال: "وقد أخرج إسماعيل القاضي في كتاب "أحكام القرآن"
بسند له فيه رجل مبهم عن ابن عباس أنه جرى له مع عثمان في
نحو هذه القصة الذي جرى لعلي؛ فاحتمل أنه كان محفوظًا أن
يكون توافق معه، وأما احتمال التعدد؛ فبعيد جدًّا".
قلت: وأخرج ما جرى وابن عباس مع عثمان: ابن شبة في "تاريخ
المدينة" "3/ 977، 978"، وابن جرير في "التفسير" "5/ 34, ط
شاكر"، وسعيد بن منصور في "سننه" "3/ 2/ 69"، وعبد الرزاق
في "المصنف" "7/ 351، 352"، وهذه رواية ثقات أهل مكة،
والرواية الأولى رواية أهل المدينة، وأهل البصرة يرونها
لعمر بن علي؛ كما عند ابن شبة في "تاريخ المدينة" "3/
979"، والبيهقي في "الكبرى" "7/ 442".
وانظر: "الاستذكار" "24/ 74-75"، و"المعتبر" "ص194"
للزركشي، و"تفسير ابن كثير" "4/ 136، 157".
1 ذكره عن مالك أيضًا البغوي في "شرح السنة" "1/ 229"،
والقاضي عياض في "الشفا" "2/ 268"، والقرطبي في "تفسيره"
"16/ 296-297و18/ 32"، والمصنف في "الاعتصام" "2/ 97"،
والسيوطي في "الأمر بالاتباع" "ص76, بتحقيقي"، وابن حجر
الهيتمي في "الصواعق المحرقة" "252".
وأخرجه عنه مسندًا ابن أبي زمنين في "أصول السنة" "رقم
190"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "7/ رقم
2400"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 327"، وابن عبد البر في
"الانتقاء" "35"، والضياء المقدسي في "النهي عن سب
الأصحاب" "رقم 32، 33, بتحقيقي"، والخطيب كما قال القرطبي
في "التفسير" "16/ 296-297"، وهو صحيح عنه.
2 رأى ابن عمر كما في "صحيح أبي داود" أن آية:
{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه....} إلخ [الحشر: 7] استوعبت ما ذكر فيها وما بعده من الفقراء
والمهاجرين والذين تبوءوا الدار والذين جاءوا من بعدهم؛
فجعل مالك قولهم:
{وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10] شرطًا لاستحقاقهم في الفيء؛ لأن قوله: "يقولون" حال؛
فهو قيد في الاستحقاق من الفيء، وأي غل أعظم من غل من يسب
الصحابة؟ أما على رأي من يجعل قوله: "للفقراء... إلخ"
كلامًا مستأنفًا؛ فلا يظهر وجه الاستدلال به. "د".
ج / 4 ص -195-
وقول
من قال: "الولد لا يملك"1:
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ
عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26].
وقول ابن العربي2: "إن الإنسان قبل أن يكون علقة لا يسمى
إنسانًا" من قوله:
{خَلَقَ
الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق} [العلق: 2].
واستدلال منذر بن سعيد على أن العربي غير مطبوع على
العربية3 بقوله:
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ
شَيْئًا}
[النحل: 78].
وأغرب [من]4 ذلك استدلال ابن الفخار القرطبي على أن
الإيماء بالرءوس إلى جانب عند الإباية والإيماء بها سفلًا
عند الإجابة5 أولى مما يفعله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه رد عليهم بأنهم عباد الله، جمع عبد، فمعناه أنه كيف
يجمع بين كونهم عبادًا وهو مسلم وبين كونهم أولاد الله؟
يعني: ولا يتأتى ذلك لما هو مسلم من أن الولد لا يملك
لوالده للتنافي في اللوازم؛ فالقرآن يقرر هذا الحكم بهذه
الدلالة الإشارية. "د".
قلت: انظر: "الإكليل" للسيوطي "ص179".
2 في "أحكام القرآن" "4/ 1955".
3 واستنبط السيوطي في "الإكليل" "163" منها على أن الأصل
في الناس الجهل حتى يبحثوا عن العلم.
4 سقطت من الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة، وأثبتناها من "م"،
وكتب "ف": "الأنسب "وأغرب من ذلك"".
5 على فرض أنها تفيد أن الإيماء إلى جانب فيه الإباية؛
فليس في الآية ما يفيد أن الإيماء سفلاً فيه الإجابة،
وأيضًا؛ فأصل الكلام إنكار لفعلهم هذا، وأن عادتهم كانت
كذلك، وليس فيه إقرار لفعلهم حتى تؤخذ الأولوية للإشارة
عند الإباية بليّ الرءوس؛ فلذا عده غريبًا، ولو أطلق عليه
أكثر من ذلك لحق له. "د".
ج / 4 ص -196-
المشارقة من خلاف ذلك بقوله تعالى:
{لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} الآية [المنافقون: 5].
وكان أبو بكر الشبلي الصوفي إذا لبس شيئًا خرق فيه موضعًا؛
فقال له ابن مجاهد: أين في العلم إفساد ما ينتفع به؟ فقال:
{فَطَفِقَ مَسْحًا
بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ}1
[ص: 33]. ثم قال الشبلي: أين في القرآن أن الحبيب لا يعذب
حبيبه؟ فسكت ابن مجاهد وقال له: قل: قال قوله:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ
اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} الآية [المائدة: 18].
واستدل بعضهم2 على منع سماع المرأة بقوله تعالى:
{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} الآية [الأعراف: 143].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إفساد المال في شريعتنا غير جائز، وخوف الاشتغال به لا
يجيز إفساده، وطرق التحفظ من الاشتغال به كثيرة منها الهبة
والصدقة وغيرهما، وشرع من قبلنا يعمل به ما لم ينسخ، على
أنه إذا كان المسح برقاب الخيل وسوقها معناه ضربهما بالسيف
كما قاله الجمهور, لا المسح باليد عند استعراضها لتفقد
أحوالها وإصلاح شأنها كما قال الفخر الرازي والطبري، وكما
روى عن ابن عباس والزهري، فأما أن يكون ذلك في شريعته
للتقرب بذبحها كما يتقرب النعم، وأما أن يكون مجرد خدش
ليكون علامة على تحبيسها في سبيل الله على حد وسم إبل
الصدقة، قال الآلوسي: "أما إنه أتلفها غضبًا لأنها شغلته؛
فقول باطل لا ينظر إليه" ا. هـ. وهذا كله داخل تحت قوله:
"وفي بعض هذه الاستدلالات نظر". "د".
قلت: قال القرطبي في "تفسيره" "15/ 197": "وقد استدل
الشبلي وغيره من الصوفية في تقطيع ثيابهم وتخريقها بفعل
سليمان هذا، وهو استدلال فاسد".
2 رتب موسى -عليه السلام- طلب النظر على تكليم الله تعالى
له؛ ففهم هذا البعض أن موسى بنى هذا على أن من يجوز سماع
كلامه يجوز النظر إليه وبالعكس, وحيث إن المرأة لا تجوز
رؤيتها باتفاق؛ فلا يجوز سماع كلامها، وما أبعد هذا لا
سيما مع ملاحظة الفرق في مادة الجواز؛ ففي مسألة موسى
الجواز عقلي، ومسألة رؤية المرأة وسماع كلامها الكلام فيه
من أحكام التكليف الخمسة، فلما لم تجز رؤية المرأة والنظر
إليها باتفاق؛ لم يجز سماع كلامها. "د". قلت: والصواب أن
النساء يرين الله تعالى، والأدلة على ذلك كثيرة، وانتصر
لهذا الرأي شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة مفردة موجودة
في "مجموع الفتاوى" "6/ 401-460"، وكذا السيوطي في "تحفة
الجلساء في رؤية الله للنساء"، وهي مطبوعة في "الحاوي
للفتاوى" له "2/ 198-201".
ج / 4 ص -197-
وفي
بعض هذه الاستدلالات نظر.
فصل:
وعلى هذا لا بد في كل مسألة يراد تحصيل علمها على أكمل
الوجوه أن يلتفت إلى أصلها في القرآن، فإن وجدت منصوصًا
على عينها أو ذكر نوعها أو جنسها؛ فذاك، وإلا؛ فمراتب
النظر فيها متعددة، لعلها تذكر بعد في موضعها, إن شاء الله
تعالى.
وقد تقدم في القسم الأول من كتاب الأدلة قبل هذا أن كل
دليل شرعي؛ فإما مقطوع به، أو راجع إلى مقطوع1 به، وأعلى
مراجع المقطوع به القرآن الكريم؛ فهو أول مرجوع إليه، أما
إذا لم يرد من المسألة إلا العمل خاصة، فيكفي الرجوع فيها
إلى السنة المنقولة بالآحاد، كما يكفي الرجوع فيها إلى قول
المجتهد، وهو أضعف، وإنما يرجع فيها إلى أصلها في الكتاب
لافتقاره إلى ذلك في جعلها أصلًا يرجع إليه، أو دينًا يدان
الله به؛ فلا يكتفي بمجرد تلقيها من أخبار الآحاد2 كما
تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "المقطوع".
2 كلام المصنف هنا مبني على أصل عنده، سيأتي ذكره في
"ص316"، من أن السنة لا يوجد فيها شيء إلا وله أصل في
القرآن؛ فانظره ومناقشته هناك.
ج / 4 ص -198-
المسألة السابعة:
العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم على أقسام:
قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد، والمعين
على معرفة مراد الله تعالى منه؛ كعلوم1 اللغة العربية التي
لا بد منها وعلم القراءات، والناسخ والمنسوخ، وقواعد أصول
الفقه، وما أشبه ذلك؛ فهذا لا نظر فيه هنا.
ولكن قد يدعى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن،
وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة، فإن علم العربية،
أو علم الناسخ والمنسوخ، وعلم الأسباب، وعلم المكي
والمدني، وعلم القراءات، وعلم أصول الفقه، معلوم عند جميع
العلماء أنها معينة على فهم القرآن، وأما غير ذلك؛ فقد
يعده بعض الناس وسيلة أيضًا ولا يكون كذلك، كما تقدم2 في
حكاية الرازي في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فهم قوله تعالى:
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ
بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6].
وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بـ"فصل المقال
فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال"3 أن علوم الفلسفة
مطلوبة؛ إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا
بها، ولو قال قائل: إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في
المعارضة.
وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك4 العلوم، هل
كانوا آخذين فيها، أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها؟ مع
القطع بتحققهم بفهم القرآن، يشهد لهم بذلك النبي -صلى الله
عليه وسلم- والجم الغفير؛ فلينظر امرؤ أين يضع قدمه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "العلم".
2 في "1/ 51-52".
3 وهو مطبوع، والمذكور فيه: "ص19 وما بعدها".
4 في "ط": "ترك".
ج / 4 ص -199-
وثم
أنواع أخر يعرفها من زاول هذه الأمور، ولا ينبئك مثل خبير؛
فأبو حامد1 ممن قتل هذه الأمور خبرة، وصرح فيها بالبيان
الشافي في مواضع من كتبه.
وقسم هو مأخوذ من جملته من حيث هو كلام، لا من حيث هو خطاب
بأمر أو نهي أو غيرهما، بل من جهة ما هو هو، وذلك ما فيه
من دلالة النبوة، وهو كونه معجزة لرسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فإن هذا المعنى ليس مأخوذًا من تفاصيل القرآن
كما تؤخذ منه الأحكام الشرعية؛ إذ لم تنص آياته وسوره على
ذلك مثل نصها على الأحكام بالأمر والنهي وغيرهما، وإنما
فيه التنبيه على التعجيز أن يأتوا بسورة مثله، وذلك لا
يختص به شيء من القرآن دون شيء، ولا سورة دون سورة، ولا
نمط منه دون آخر، بل ماهيته هي المعجزة له، حسبما نبه عليه
[قوله عليه]2 الصلاة والسلام:
"ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما
كان الذي أُوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ؛ فأرجو أن أكون
أكثرهم تابعًا يوم القيامة"3؛ فهو
بهيأته التي أنزله الله عليها دال على صدق الرسول -عليه
الصلاة والسلام- وفيها عجز الفصحاء اللسن، والخصماء اللد
عن الإتيان بما يماثله أو يدانيه، ووجه كونه معجزًا لا
يحتاج إلى تقريره في هذا الموضع؛ لأنه كيفما تصور4 الإعجاز
به؛ فماهيته هي الدالة على ذلك؛ فإلى أي نحو منه ملت
دَلَّك [ذلك]5 على صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فهذا القسم أيضًا لا نظر فيه هنا، وموضعه كتب الكلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من لطيف ما قيل عنه عبارة ابن العربي: "شيخنا أبو حامد
بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيأهم فما استطاع".
انظر: "الصفدية" "1/ 211"، و"السير" "19/ 327"، و"مجموع
فتاوى ابن تيمية" "4/ 66، 164".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
3 مضى تخريجه "ص180".
4 في "ط": "يتصور".
5 ليست في الأصل ولا في "ط".
ج / 4 ص -200-
وقسم
هو مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله، وخطاب الخلق به،
ومعاملته لهم بالرفق والحسنى من جعله عربيًّا يدخل تحت نيل
أفهامهم، مع أنه المنزه القديم، وكونه تنزل لهم بالتقريب
والملاطفة والتعليم في نفس المعاملة به، قبل النظر إلى ما
حواه من المعارف والخيرات، وهذا نظر خارج عما تضمنه القرآن
من العلوم، ويتبين صحة الأصل المذكور في كتاب الاجتهاد،
وهو أصل التخلق1 بصفات الله والاقتداء بأفعاله.
ويشتمل على أنواع من القواعد الأصلية والفوائد الفرعية،
والمحاسن الأدبية؛ فلنذكر منها أمثلة يستعان بها في فهم
المراد:
- فمن ذلك: عدم المؤاخذة قبل الإنذار، ودل على ذلك إخباره
تعالى عن نفسه بقوله:
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]؛ فجرت عادته في خلقه أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد
إرسال الرسل، فإذا قامت الحجة عليهم
{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، ولكل جزاء مثله.
- ومنها: الإبلاغ في إقامة الحجة على ما خاطب به الخلق؛
فإنه تعالى أنزل القرآن برهانًا في نفسه على صحة ما فيه،
وزاد على يدي رسوله -عليه الصلاة والسلام- من المعجزات ما
في بعضه الكفاية2.
- ومنها: ترك الأخذ من أول مرة بالذنب، والحلم عن تعجيل
المعاندين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قرر ابن تيمية في "الصفدية" "2/ 337"، وابن القيم في
"بدائع الفوائد" "1/ 164" و"عدة الصابرين" "36" أن هذه
العبارة غير سديدة، وأنها منتزعة من قول الفلاسفة بالتشبه
بالإله على قدر الطاقة، وبينا أن هذا مسلك ابن عربي وابن
سبعين وغيرهما من ملاحدة الصوفية، وصار ذلك مع ما ضموا
إليه من البدع والإلحاد موقعًا لهم في الحلول والاتحاد،
وذكرا أن الأحسن من هذه العبارة التعبد، وأحسن منها
-بالعبارة المطابقة للقرآن- وهي الدعاء، المتضمن للتعبد
والسؤال.
2 في "ف": "ما فيه"، وقال: "لعله "ما في بعضه الكفاية".
ج / 4 ص -201-
بالعذاب، مع تماديهم على الإباية والجحود بعد وضوح
البرهان، وإن استعجلوا به.
- ومنها: تحسين العبارة بالكناية ونحوها في المواطن التي
يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحيا من ذكره في عادتنا؛ كقوله
تعالى:
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43، والمائدة: 6].
{وَمَرْيَمَ
ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا
فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ
رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12].
وقوله:
{كَانَا
يَأْكُلانِ الطَّعَام}
[المائدة: 75].
حتى إذا وضح السبيل في مقطع الحق، وحضر وقت التصريح بما
ينبغي التصريح به1؛ فلا بد منه، وإليه الإشارة بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا
بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26].
{وَاللَّهُ لا
يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}
[الأحزاب: 53].
- ومنها: التأني في الأمور، والجري على مجرى التثبت،
والأخذ بالاحتياط، وهو المعهود في حقنا؛ فلقد أنزل القرآن
على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نجومًا في عشرين سنة؛
حتى قال الكفار:
{لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32].
فقال الله:
{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}
[الفرقان: 32].
وقال:
{وَقُرْآنًا
فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ
وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106].
وفي هذه المدة كان الإنذار يترادف، والصراط يستوي بالنسبة
إلى كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "به".
ج / 4 ص -202-
وجهة
وإلى كل محتاج إليه، وحين أبى من أبى من الدخول في الإسلام
بعد عشر سنين أو أكثر بدئوا1 بالتغليظ بالدعاء؛ فشرع
الجهاد لكن على تدريج2 أيضًا، حكمة بالغة، وترتيبًا يقتضيه
العدل والإحسان، حتى إذا كمل3 الدين، ودخل الناس فيه
أفواجًا، ولم يبق لقائل ما يقول؛ قبض الله نبيه إليه وقد
بانت الحجة، ووضحت المحجة، واشتد أس4 الدين، وقوي عضده
بأنصار الله؛ فلله الحمد كثيرًا على ذلك.
- ومنها: كيفية تأدب العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب
بالتضرع والدعاء؛ فقد بين مساق القرآن آدابًا استقرئت منه،
وإن لم ينص عليها بالعبارة؛ فقد أغنت إشارة التقرير عن
التصريح بالتعبير، فأنت ترى أن نداء الله للعباد لم يأت في
القرآن في الغالب إلا بـ"يا" المشيرة إلى بعد المنادي لأن
صاحب النداء منزه عن مداناة العباد، موصوف بالتعالي عنهم
والاستغناء، فإذا قرر نداء العباد للرب أتى بأمور تستدعي
قرب الإجابة:
- منها: إسقاط حرف النداء المشير إلى قرب المنادى، وأنه
حاضر مع المنادي غير غافل عنه؛ فدل على استشعار الراغب هذا
المعنى؛ إذ لم يأت في الغالب إلا "ربنا" "ربنا" كقوله:
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا}5 [البقرة: 286].
{رَبَّنَا
تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "بدئ".
2 كما سبق إذن لا إيجاب، ثم إيجاب لمقاتلة من يلونهم من
الكفار، ثم مقاتلة المشركين كافة. "د".
3 في الأصل: "أكمل".
4 في الأصل: "أمر".
5 وهذا وما ماثله وإن كان على لسان العباد؛ إلا أنه
بتعليمه تعالى لهم؛ فلا يقال: إن هذا حكاية لما قالوه، ولا
يتأتى أن يغير شيئًا منها بحذف حرف النداء ليعلمنا بذلك
شيئًا من آداب مخاطبته تعالى. "د".
ج / 4 ص -203-
{رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} [آل عمران: 35].
{رَبِّ
أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}
[البقرة: 260].
- ومنها: كثرة مجيء النداء باسم الرب المقتضي للقيام بأمور
العباد1 وإصلاحها؛ فكأن العبد متعلق2 بمن شأنه التربية
والرفق والإحسان، قائلًا: يا من هو المصلح لشئوننا على
الإطلاق أتم لنا ذلك بكذا، وهو مقتضى ما يدعو به، وإنما
أتى "اللهم" في مواضع قليلة، ولمعانٍ اقتضتها الأحوال.
- ومنها: تقديم الوسيلة بين يدي الطلب3؛ كقوله:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ}
الآية [الفاتحة: 5-6].
{رَبَّنَا
إِنَّنَا آمَنَّا} [آل عمران: 16].
{رَبَّنَا
آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ} [آل
عمران: 53].
{رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ}
[آل عمران: 191].
{رَبَّنَا
إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً} الآية [يونس: 88].
{رَبِّ
إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ....} إلى قوله:
{وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 21-28].
{وَإِذْ
يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127].
إلى غير ذلك من الآداب التي تؤخذ من مجرد التقرير.
ومن ذلك أشياء ذكرت في كتاب الاجتهاد في الاقتداء
بالأفعال، والتخلق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "العبد".
2 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "فكان العبد متعلقًا".
3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 284-286".
ج / 4 ص -204-
بالصفات، تضاف إلى ما هنا، وقد تقدم1 أيضًا منه جملة في
كتاب المقاصد.
والحاصل أن القرآن احتوى من هذا النوع من الفوائد والمحاسن
التي تقتضيها القواعد الشرعية على كثير يشهد بها شاهد
الاعتبار، ويصححها نصوص الآيات والأخبار.
وقسم هو المقصود الأول2 بالذكر، وهو الذي نبه عليه
العلماء، وعرفوه مأخوذًا من نصوص الكتاب منطوقها ومفهومها،
على حسب ما أداه اللسان العربي فيه، وذلك أنه محتوٍ من
العلوم3 على ثلاثة أجناس هي المقصود الأول4:
أحدها: معرفة المتوجه إليه، وهو الله المعبود سبحانه.
والثاني: معرفة كيفية التوجه إليه.
والثالث: معرفة مآل العبد ليخاف الله به ويرجوه.
وهذه الأجناس الثلاثة داخلة تحت جنس واحد هو المقصود، عبر
عنه قوله تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56]؛ فالعبادة هي المطلوب الأول، غير أنه لا يمكن إلا
بمعرفة المعبود؛ إذ المجهول لا يتوجه إليه ولا يقصد بعبادة
ولا بغيرها، فإذا عرف -ومن جملة المعرفة به أنه آمر وناهٍ
وطالب للعباد بقيامهم بحقه- توجه الطلب؛ إلا أنه لا يتأتى
دون معرفة كيفية التعبد؛ فجيء بالجنس الثاني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الخامسة من النوع الثاني، وجعل دلالة الكلام
على هذه الآداب من نوع الدلالة التبعية، وبسط المقام هناك؛
فراجعه ليتبين به بعض الحاصل الذي أشار إليه بعد. "د".
2 وهو من قسم الدلالة على المعنى الأصلي. "د".
3 في الأصل: "محتوى العلوم".
4 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "1/ 20-36".
ج / 4 ص -205-
ولما
كانت النفوس من شأنها طلب النتائج والمآلات، وكان مآل
الأعمال عائدًا على العاملين، بحسب ما كان منهم من طاعة أو
معصية، وانجر مع ذلك التبشير والإنذار في ذكرها أتى بالجنس
الثالث موضحًا لهذا الطرف، وأن الدنيا ليست بدار إقامة،
وإنما الإقامة في الدار الآخرة.
فالأول يدخل تحته علم الذات والصفات والأفعال، ويتعلق
بالنظر في الصفات أو في الأفعال النظر في النبوات؛ لأنها
الوسائط بين المعبود والعباد، وفي كل أصل ثبت للدين
علميًّا كان أو عمليًّا، ويتكمل بتقرير البراهين، والمحاجة
لمن جادل خصمًا من المبطلين1.
والثاني: يشتمل على التعريف بأنواع التعبدات من العبادات
والعادات والمعاملات، وما يتبع كل واحد منها من المكملات،
وهي أنواع فروض الكفايات، وجامعها2 الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر والنظر فيمن يقوم به.
والثالث: يدخل في ضمنه النظر في ثلاثة مواطن: الموت وما
يليه، ويوم القيامة وما يحويه، والمنزل الذي يستقر فيه،
ومكمل هذا الجنس الترغيب والترهيب، ومنه الإخبار عن
الناجين والهالكين وأحوالهم، وما أداهم إليه حاصل أعمالهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "خصماء المبطلين"، وفي "ط": "من خصماء
المبطلين".
2 أي: الجامع من بين فروض الكفايات الذي يتعلق بكل مطلوب
وكل منهي عنه في الشريعة هو الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر؛ فإنه لا يختص بباب من الشريعة دون باب، بخلاف فروض
الكفايات الأخرى؛ كالولايات العامة، والجهاد، وتعليم
العلم، وإقامة الصناعات المهمة، فهذه كلها فروض كفايات
قاصرة على بابها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب
كفائي مكمل لجميع أبواب الشريعة، هنا معنى الجمع، وليس
المراد بكونه جامعها أنه كلي لها، وأنها جزئيات مندرجة
تحته؛ فإنه لا يظهر. "د".
ج / 4 ص -206-
وإذا
تقرر هذا تلخص من مجموع العلوم الحاصلة في القرآن اثنا عشر
علمًا1، وقد حصرها الغزالي2 في ستة أقسام: ثلاثة منها هي
السوابق والأصول المهمة، وثلاثة هي توابع ومتممة.
فأما الثلاثة [الأول]3؛ فهي تعريف المدعو إليه، وهو شرح
معرفة الله تعالى، ويشتمل على معرفة الذات والصفات
والأفعال، وتعريف طريق السلوك إلى الله تعالى على الصراط
المستقيم، وذلك بالتحلية بالأخلاق الحميدة، والتزكية عن
الأخلاق الذميمة، وتعريف الحال عند الوصول إليه، ويشتمل
على ذكر حالي النعيم والعذاب، وما يتقدم ذلك من أحوال
القيامة.
وأما الثلاثة الأخر؛ فهي تعريف4 أحوال المجيبين للدعوة،
وذلك قصص الأنبياء والأولياء، وسره الترغيب، وأحوال
الناكبين وذلك قصص أعداء الله، وسره الترهيب، والتعريف
بمحاجة الكفار بعد حكاية أقوالهم الزائغة، وتشتمل على ذكر
الله بما ينزه عنه، وذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- بما
لا يليق به، وادكار5 عاقبة الطاعة والمعصية، وسره في جنبة
الباطل التحذير والإفضاح، وفي جنبة الحق التثبيت والإيضاح،
والتعريف بعمارة منازل الطريق، وكيفية أخذ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن كل واحد من الأجناس الثلاثة تحته ثلاثة أنواع من
العلم، ولكل جنس مكمل، أما الغزالي؛ فجعل الأجناس الثلاثة
علومًا ثلاثة فقط، بدون مراعاة تعدد ما اندرج تحتها والنظر
في شعبها، غير أنه جعل الثاني تعريف طريق السلوك إليه
بالتحلية والتزكية، وجعل التعريف بالعبادات والمعاملات...
إلخ من التوابع والمتممات، وعليك بالمقارنة بين اعتباراته
والاعتبارات السابقة، واعتباره أنسب بمقام الصوفية. "د".
2 في كتابه "جواهر القرآن" "ص9 وما بعدها".
3 زيادة من الأصل و"م" و"ط"، وسقطت من "ف" و"د".
4 فالتعريف الأول مكمل للثالث، والتعريف الثاني مكمل
للأول، والتعريف الثالث تابع ومكمل للثاني. "د".
5 في "ط": "وإنكار"!!
ج / 4 ص -207-
الأهبة والزاد، ومعناه محصول ما ذكره الفقهاء في العبادات والعادات
والمعاملات والجنايات، وهذه الأقسام الستة تتشعب إلى عشرة،
وهي: ذكر الذات، والصفات، والأفعال، والمعاد، والصراط
المستقيم، وهو جانب1 التحلية والتزكية، وأحوال الأنبياء،
والأولياء، والأعداء، ومحاجة الكفار، وحدود الأحكام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "جانبا".
ج / 4 ص -208-
المسألة الثامنة:
من الناس من زعم أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا1، وربما نقلوا
في ذلك بعض الأحاديث والآثار؛ فعن الحسن مما أرسله عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"ما أنزل الله آية إلا ولها ظهر وبطن -بمعنى ظاهر وباطن- وكل حرفٍ
حدّ، وكل حد مطلع"2.
وفسر3 بأن الظهر والظاهر هو ظاهر التلاوة، والباطن هو
الفهم عن الله لمراده؛ لأن الله تعالى قال:
{فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ
حَدِيثًا} [النساء: 78].
والمعنى: لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب، ولم يرد أنهم
لا يفهمون نفس الكلام، كيف وهو منزل بلسانهم؟ ولكن لم
يحظوا4 بفهم مراد الله من الكلام، وكأن هذا هو معنى ما روي
عن عليّ أنه سئل: هل عندكم كتاب؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "قانون التأويل" "ص196"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية"
"13/ 230 وما بعدها".
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص43" -ومن طريقه
البغوي في "شرح السنة" "1/ 262/ رقم 122"- بإسناد ضعيف،
فيه علي بن زيد بن جدعان ضعيف، وهو مرسل.
وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" "رقم 11, ط شاكر"، والطبراني
في "الكبير" "رقم 10090"، والبزار في "المسند" "رقم 2312"،
وابن حبان في "الصحيح" "1/ 276/ رقم 75, الإحسان" عن ابن
مسعود مرفوعًا:
"أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر وبطن".
وإسناده ضعيف، فيه إبراهيم بن مسلم الهجري.
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "رقم 10" من طريق آخر بإسناد
فيه مبهم؛ فهو ضعيف، وتكلم البغوي على شرح هذا الحديث
بكلام مسهب حسن؛ فراجعه، وانظر أيضًا: "فهم القرآن"
للمحاسبي "ص328".
3 المذكور في "تفسير سهل التستري" "ص3".
4 في "ط": "يخصوا".
ج / 4 ص -209-
فقال:
لا؛ إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه
الصحيفة1. الحديث، وإليه يرجع تفسير الحسن للحديث؛ إذ قال:
"الظهر هو الظاهر والباطن2 هو السر"3.
وقال تعالى:
{أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ
غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}
[النساء: 82].
فظاهر المعنى شيء، وهم عارفون به؛ لأنهم عرب والمراد شيء
آخر، وهو الذي لا شك فيه أنه من عند الله، وإذا حصل التدبر
لم يوجد4 في القرآن اختلاف ألبتة؛ فهذا الوجه الذي من جهته
يفهم الاتفاق وينزاح الاختلاف هو الباطن المشار إليه، ولما
قالوا في الحسنة:
{هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِِ}
[النساء: 78]، وفي السيئة: هذا من عند رسول الله، بين لهم
أن كلًّا من عند الله، وأنهم لا يفقهون حديثًا، لكن بين
الوجه الذي يتنزل عليه أن كلًّا من عند الله بقوله:
{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} الآية [النساء: 79].
وقال تعالى:
{أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
فالتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد، وذلك ظاهر في
أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن؛ فلم يحصل منهم تدبر، قال
بعضهم: "الكلام في القرآن على ضربين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص192"، وهو صحيح.
2 كذا في الأصل وجميع الطبعات، والصواب: "والبطن".
3 أخرجه عنه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "43".
4 فإن الاختلاف إنما جاء من الوقوف عند بعض الظواهر، وضرب
بعضها ببعض، وعدم التدبر في فقه النصوص حتى تتفق في
المقصود منها، وذلك بتفسير بعضها ببعض بتخصيص أو تقييد أو
تعميم، وهكذا من وجوه الفهم التي ترشد إليها المقاصد
الشرعية وسائر أدوات الفهم الستة المتقدمة في المسألة
السابعة. "د".
ج / 4 ص -210-
أحدهما: يكون برواية؛ فليس يعتبر فيها إلا النقل.
والآخر: يقع بفهم؛ فليس يكون إلا بلسان من الحق إظهار1
حكمة على لسان العبد" وهذا الكلام يشير إلى معنى كلام علي.
وحاصل هذا الكلام أن المراد بالظاهر هو المفهوم العربي،
والباطن هو مراد2 الله تعالى من كلامه وخطابه، فإن كان
مراد من أطلق هذه العبارة ما فسر؛ فصحيح ولا نزاع فيه، وإن
أرادوا غير ذلك؛ فهو إثبات أمر زائد على ما كان معلومًا
عند الصحابة ومن بعدهم؛ فلا بد من دليل قطعي يثبت هذه
الدعوى لأنها أصل يحكم به على تفسير الكتاب، فلا يكون
ظنيًّا، وما استدل به إنما غايته إذا صح سنده أن ينتظم في
سلك المراسيل، وإذا تقرر هذا؛ فلنرجع إلى بيانهما3 على
التفسير المذكور بحول الله.
وله أمثلة تبين معناه بإطلاق؛ فعن ابن عباس قال: "كان عمر
يدخلني مع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له عبد
الرحمن بن عوف: أتدخله ولنا بنون مثله؟ فقال له عمر: إنه
من حيث تعلم. فسألني عن هذه الآية:
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]، فقلت: إنما هو أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أعلمه إياه، وقرأ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قصد إظهار حكمة؛ فهو مفعول لأجله مضاف؛ أي: يريد
الله إظهار سر ومعنى من المعاني الخفية على لسان عبد من
أصفيائه. "د".
قلت: وفيه تعريض بـ"ف" حيث قال: "لعله إظهار لحكمه على
لسان العبد".
2 أي: الذي يتوصل إليه بالوسائل التي أشار إليها سابقًا،
وإلا؛ فالزائغون يدعون أن تأويلاتهم الزائغة هي مراد الله
تعالى، لكنه يحتاج في بعض ذلك إلى زيادة بصيرة كما في
مسألة ابن عباس وعمر المذكورة، وسيأتي له في فصل المسألة
التابعة شرطان يستقر عليهما ما يعنيه بالباطن المراد لله
تعالى، وينزاح بتحققها دعاوى الزائفين والمحرفين. "د".
3 أي: الظاهر والباطن على التفسير الذي ارتضاه. "د".
ج / 4 ص -211-
السورة
إلى آخرها. فقال عمر: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم"1.
فظاهر هذه السورة أن الله أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم-
أن يسبح بحمد ربه ويستغفره إذ نصره الله وفتح عليه،
وباطنها أن الله نعى إليه نفسه.
ولما نزل قوله تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
الآية [المائدة: 3]؛ فرح الصحابة وبكى عمر، وقال: "ما بعد
الكمال إلا النقصان"2 مستشعرًا نعيه -عليه الصلاة والسلام-
فما عاش بعدها إلا واحدًا وثمانين يومًا3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب إذا جاء نصر
الله والفتح، 8/ 20/ رقم 4294، وباب مرض النبي -صلى الله
عليه وسلم- ووفاته، 8/ 130/ رقم 4430، وكتاب التفسير، باب
قوله:
{وَرَأَيْتَ النَّاس...}، 8/ 734/ رقم 4969، وباب قوله:
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ}، 8/ 734/ رقم 4970"، والترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب
سورة النصر، 5/ 450/ رقم 3362" -وقال: "هذا حديث حسن
صحيح"- وأحمد في "المسند" "1/ 337، 344 مختصرًا"،
والطبراني في "المعجم الكبير" "10/ 321/ رقم 10617"،
والحاكم والبزار وابن سعد كما قال الزيلعي في "تخريج
أحاديث الكشاف" "4/ 321".
2 أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "8/ 140, ط دار الفكر"
عن محمد بن فضيل، وابن جرير في "تفسيره" "6/ 52" من طريق
سفيان عن ابن فضيل، والواحدي في "الوسيط" "2/ 154" من طريق
سهل بن عثمان، كلاهما "هو وابن فضيل" عن هارون بن عنترة عن
أبيه؛ قال: لما نزلت وذكر نحوه، ومضى لفظه عند المصنف "1/
152"، وأخرجه ابن جرير من طريق أحمد بن بشير عن هارون به.
وإسناده ضعيف، أبو هارون عنترة بن عبد الرحمن، وثقه أبو
زرعة وأبو حاتم، روى له النسائي حديثًا واحدًا عن ابن
عباس، وروايته هذه مرسلة، وانظر: "الدر المنثور" "3/ 18".
وقال ابن كثير في "التفسير" "2/ 24": "ويشهد لهذا المعنى
الحديث الثابت:
"إن
الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا؛ فطوبى للغرباء".
قلت: انظر ما قدمناه "1/ 151".
3 أسنده ابن جرير في "التفسير "6/ 80" عن ابن جريج، وذكره
السمرقندي في "بحر العلوم" "1/ 416, ط لبنان"، وابن كثير
في "التفسير" "2/ 14".
ج / 4 ص -212-
وقال
تعالى:
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ
كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوت
اتَّخَذَتْ بَيْتًا}1 الآية [العنكبوت: 41]، قال الكفار: ما بال العنكبوت والذباب يذكر
في القرآن؟ ما هذا الإله2؛ فنزل3:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً
فَمَا فَوْقَهَا}
[البقرة: 26]؛ فأخذوا بمجرد الظاهر، ولم ينظروا في المراد،
فقال تعالى:
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ} الآية
[البقرة: 26].
ويشبه ما نحن فيه نظر الكفار للدنيا، واعتدادهم منها بمجرد
الظاهر الذي هو لهو ولعب وظل زائل، وترك ما هو مقصود منها،
وهو كونها مجازًا ومعبرًا لا محل سكنى، وهذا هو باطنها على
ما تقدم4 من التفسير.
ولما قال تعالى:
{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر}
[المدثر: 30] نظر الكفار إلى ظاهر العدد؛ فقال أبو جهل,
فيما روي5: لأنه يعجز كل عشرة منكم أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقطت
{اتَّخَذَتْ بَيْتًا} من الأصل.
2 في الأصل: "الآله".
3 أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" "1/ رقم 281" عن ابن
جريج به، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره""1/ 41" عن قتادة
به، وأخرجه الواحدي في "أسباب النزول" "ص14" عن عبد الغني
بن سعيد الثقفي عن موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء
عن ابن عباس وذكر نحوه.
قال السيوطي في "لباب النقول" "19": "عبد الغني واه
جدًّا"، وقال: "وذكر المشركين لا يلائم كون الآية مدنية".
وانظر -لزامًا- "3/ 514".
وما بين المعقوفتين زيادة من الأصل.
4 وسيأتي له مزيد بسط في المسألة الثالثة من مبحث التعارض.
"د".
5 أخرجه ابن جرير في "التفسير" "29/ 159" عن ابن عباس
بإسناد ضعيف فيه مجاهيل.
وأخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "2/ 2/ 329"، وابن جرير في
"التفسير" "29/ 159-160"، وعبد بن حميد -كما في "الدر
المنثور" "8/ 333"- عن قتادة به.
ج / 4 ص -213-
يبطشوا
برجل منهم. فبين الله تعالى باطن الأمر بقوله:
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا
مَلائِكَةً...} إلى قوله:
{وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}
[المدثر: 31].
وقال:
{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ
لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]؛ فنظروا إلى ظاهر الحياة الدنيا1، وقال تعالى:
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
وقال تعالى:
{وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ...} الآية [لقمان: 6] لما نزل القرآن الذي هو هدى للناس ورحمة
للمحسنين، ناظره2 الكافر النضر بن الحارث بأخبار فارس
والجاهلية وبالغناء3؛ فهذا هو عدم الاعتبار لباطن ما أنزل
الله.
وقال تعالى في المنافقين:
{لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ
اللَّهِ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يومئ المصنف إلى مقولة عبد الله بن أبي، أخرج البخاري في
"صحيحه" "كتاب التفسير، باب سورة "المنافقون"، 8/ 644/ رقم
4900-4904" عن زيد بن أرقم؛ قال: "كنت في غزاة، فسمعت عبد
الله بن أبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى
ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها
الأذل. فذكرت ذلك لعمي -أو لعمر- فذكره للنبي -صلى الله
عليه وسلم- فدعاني فحدثته، فأرسل رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا،
فكذبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدقه، فأصابني هم
لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت
إلى أن كذبك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومقتك؟ فأنزل
الله تعالى:
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُون}، فبعث إليّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأ؛ فقال:
"إن الله قد صدقك يا زيد".
2 لعله: "وناظره". "ف". وفي "ط": "ناظره الكفار".
3 الخبر بالتفصيل عند الواحدي في "الوسيط" "3/ 440-441"،
و"أسباب النزول" "232-233"، وعزاه السيوطي في "لباب
النقول" "ص169" لجويبر عن ابن عباس، وكذا فعل في "الدر
المنثور" "6/ 504"، وعزاه فيه أيضًا إلى البيهقي في
"الشعب" "4/ 5194".
ج / 4 ص -214-
[الحشر: 13]، وهذا عدم فقه منهم؛ لأن من علم أن الله هو
الذي بيده ملكوت كل شيء، وأنه هو مصرف الأمور؛ فهو الفقيه،
ولذلك قال تعالى:
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13].
وكذلك قوله تعالى:
{صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا
يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127] لأنهم نظر بعضهم1 إلى بعض: هل يراكم من أحد؟ ثم
انصرفوا.
فاعلم2 أن الله تعالى إذا نفى الفقه أو العلم عن قوم؛ فذلك
لوقوفهم مع ظاهر الأمر، وعدم اعتبارهم للمراد منه، وإذا
أثبت ذلك؛ فهو لفهمهم مراد الله من خطابه، وهو باطنه.
فصل:
فكل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن
إلا عليها؛ فهو داخل تحت الظاهر.
فالمسائل البيانية والمنازع البلاغية لا معدل بها عن ظاهر
القرآن، فإذا فهم الفرق بين ضيق في قوله تعالى
{يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا3}
[الأنعام: 125]، وبين ضائق في قوله:
{وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُك} [هود:
12].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لأن المنافقين حينما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض،
وهم في محفل تبليغ الوحي ليتواطئوا على الهرب كراهة
سماعها، قائلين إشارة: هل يراكم من أحد من المسلمين إذا
قمتم من المجلس؟ كما قال تعالى:
{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} الآية [التوبة: 157]. "ف".
2 لعله: "واعلم" بصيغة الأمر وبالواو. "ف".
3 صفة مشبهة دالة على الثبوت والدوام في حق من يريد الله
أن يضله بخلاف "ضائق" اسم الفاعل الدال على الحدوث
والتجدد، وأنه أمر عارض له, صلى الله عليه وسلم. "د".
ج / 4 ص -215-
والفرق1 بين النداء بـ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}2، أو
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا}3،
وبين النداء بـ{يَا
أَيُّهَا النَّاسُ}4، أو بـ{يَا
بَنِي آدَمَ}5.
والفرق بين ترك العطف في قوله:
{إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ}6 [البقرة: 6]، والعطف في قوله:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]، وكلاهما قد تقدم عليه وصف المؤمنين.
والفرق بين تركه أيضًا في قوله:
{مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء: 154]، وبين الآية الأخرى:
{وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}7 [الشعراء: 186].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويبقى الكلام في أن هذا الفرق يرجع في جميع ما ذكره إلى
المعاني الثانوية التي هي منازع بيانية، أو أنه يرجع إلى
المعاني الوضعية في بعض الأمثلة. "د".
2 مدني خاص. "د".
3 مكي خاص. "د".
4 للناس كافة. "د".
5 للناس كافة. "د".
6 المقصود بما قبله بيان حال الكتاب تقريرًا لكونه يقينًا
لا شك فيه، وفي ضمن هذا البيان اتصاف الكفار بالإصرار على
الكفر والضلال، بحيث لا يجدي فهم الإنذار ولا يستفيدون من
الكتاب؛ فالآية تكميل لما قبلها؛ فالمحل للفصل، أما آية:
{وَمِنَ النَّاس}؛
فالمقصود منها مع سابقتها أن الناس على صنفين مهتد هاد،
وضال مضل، وبينهما التضاد؛ فالمحل للوصل، فقوله: "وكلاهما
تقدم عليه... إلخ"، يعني: الذي كان يقتضي الوصل لشبه
التضاد المعتبر جامعًا، وهذا من المنازع البلاغية وكذلك
الأمثلة بعده كما سيقول: "من الأمور المعتبرة... إلخ"، وإن
كانت حروف النداء المتقدمة من أصل الوضع والمعاني الأولية،
ومثله يقال في دلالة الفعل واسم الفاعل. "د".
7 أدخل الواو بين الجملتين للدلالة على أن كلًّا من
التسحير والبشرية مناف للرسالة، أما في آية:
{مَا أَنْت}؛ فإنما قصدوا كونه مسحرًا وأكدوه بأنه بشر مثلهم، وفي "الكشاف" "3/
125": "غير هذا الوجه مما يقتضي أن كلًّا له موضع اختصاصه،
هذا ومعلوم أن الآيتين في قصتين =
ج / 4 ص -216-
والفرق
بين الرفع1 في قوله:
{قَالَ
سَلامٌ} [هود: 69]، والنصب فيما قبله من قوله:
{قَالُوا سَلامًا} [هود: 69].
والفرق بين الإتيان بالفعل2 في التذكر من قوله:
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ
الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا}
[الأعراف: 201]، وبين الإتيان باسم الفاعل في الإبصار من
قوله:
{فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُون} [الأعراف: 201].
أو3 فهم الفرق بين إذا وإن في قوله تعالى:
{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ
قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ}4 [الأعراف: 131]، وبين "جاءتهم" و"تصبهم" بالماضي مع إذا،
والمستقبل مع إن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لقصد الثبات؛ فيكون تحيته أحسن من تحيتهم؛ لأنهما جملة
اسمية. "د".
2 لأنه يحدث بعد مس الشيطان ويتجدد بسبب المس، بخلاف
الإبصار بالحق؛ فهو ثابت له قائم بهم لأن اسم الفاعل حقيقة
فيمن قام به الفعل، وقد يغطيه مس الشيطان؛ فتجدد التذكر،
يكشف هذا الغطاء ليتجلى لهم الحق الذي عهدوه قائمًا
بنفوسهم؛ أي: يفاجئهم قيام البصيرة بهم دفعة بخلاف التذكر.
"د".
انظر: "نظم الدرر" "8/ 206".
3 الأنسب: "وفهم" بالواو. "ف".
4 المراد بالحسنة ما يستحسنونه من الخصب والرخاء والعافية،
ولما كانت هذه الحسنات شائعة عامة الوقوع بمقتضى العناية
الإلهية بسبق الرحمة وشيوع النعمة كانت متحققة؛ فجيء فيها
بالماضي وبإذا وتعريف الحسنة، ولما كانت السيئة التي يراد
منها أنواع البلاء نادرة الوقوع ولا تتعلق الإرادة بها إلا
تبعًا؛ فإن النقمة بمقتضى العناية الإلهية إنما تستحق
بالأعمال جيء فيها بأداة الشك، ولفظ الفعل المستقبل،
وتنكير السيئة. "د".
قلت: انظر "الكشاف" "2/ 84"، وكلام الشارح منه.
ج / 4 ص -217-
وكذلك
قوله:
{وَإِذَا أَذَقْنَا
النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ
يَقْنَطُونَ}1
[الروم: 36] مع إتيانه بقوله:
{فَرِحُوا} بعد إذا و{يَقْنَطُونَ} بعد إن، وأشباه ذلك من الأمور المعتبرة عند متأخري أهل البيان،
فإذا حصل فهم ذلك كله على ترتيبه في اللسان العربي؛ فقد
حصل فهم ظاهر القرآن.
ومن هنا حصل إعجاز القرآن عند القائلين بأن إعجازه
بالفصاحة؛ فقال الله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} الآية [البقرة: 23].
وقال تعالى:
{أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ
مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ} [هود: 13]، وهو لائق أن يكون الإعجاز بالفصاحة لا بغيرها؛ إذ لم
يؤتوا على هذا التقدير إلا من باب ما يستطيعون مثله في
الجملة، ولأنهم دعوا [وتحدوا] وقلوبهم لاهية عن معناه
الباطن الذي هو مراد الله من إنزاله، فإذا عرفوا عجزهم
عنه؛ عرفوا صدق الآتي به وحصل الإذعان، وهو باب2 التوفيق
والفهم لمراد الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا معبرًا بأداة التحقيق إشارة إلى أن الرحمة أكثر من
النقمة، وأسند الفعل إليه في مقام العظمة، إشارة إلى سعة
جوده، وقال:
{وَإِن}
بأداة الشك دلالة على أن المصائب أقل وجودًا، وقال:
{تُصِبْهُم}
غير مسند لها إليه تأديبًا لعباده، وإعلامًا بغزير كرمه،
قاله النقاعي في "نظم الدرر" "15/ 95"، والتعبير بالمضارع
في
{يَقْنَطُونَ}
لرعاية الفاصلة، والدلالة على الاستمرار في القنوط، قاله
الآلوسي في "تفسيره" "21/ 43".
2 أي: فالإعجاز الذي يترتب على فصاحته يقصد منه أثره، وهو
رجوعهم بسبب العجز إلى تصديقه والتفهم في مراده، فما كان
مؤديًا إلى العجز عن المعارضة وإلى أصل الاعتراف بصدقه
يكون من الظاهر، وما يجيء بعد ذلك من ثمرة الاعتراف وهو
فهم المعاني التي يتحقق بها للعبد وصف العبودية والقيام
بموجبها؛ فذلك من الباطن المراد والمقصود من الإنزال. "د".
ج / 4 ص -218-
وكل ما
كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية،
والإقرار لله بالربوبية؛ فذلك هو الباطن المراد والمقصود
الذي أنزل القرآن لأجله.
ويتبين ذلك بالشواهد المذكورة آنفًا، ومن ذلك أنه لما نزل:
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ
لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}
[البقرة: 245]، قال أبو الدحداح: إن الله كريم استقرض منا
ما أعطانا، هذا معنى الحديث1، وقالت2 اليهود:
{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}
[آل عمران: 181]؛ ففهم أبي الدحداح هو الفقه، وهو الباطن
المراد، وفي رواية: قال أبو الدحداح: يستقرضنا وهو غني؟
فقال عليه الصلاة والسلام:
"نعم ليُدخلكم الجنة". وفي الحديث قصة3، وفهم اليهود لم يزد على مجرد القول العربي
الظاهر، ثم حمل استقراض الرب الغني على استقراض العبد
الفقير، عافانا الله من ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي نصه وتخريجه قريبًا إن شاء الله.
2 راجع: "روح المعاني" في الآية. "د".
3 أخرج الحسن بن عرفة في "جزئه" "رقم 87"، وابن جرير في
"تفسيره" "2/ 593"، والطبراني في "المعجم الكبير" "22/
301/ رقم 764"، وأبو يعلى في "المسند" "8/ 404/ رقم 4986"،
والبزار في "مسنده" "1/ 447/ رقم 944, زوائده"، وابن حيويه
في "من وافقت كنيته كنية زوجه من الصحابة" "ص59-60"، وابن
أبي حاتم في "تفسيره" -كما في "تفسير ابن كثير" "1/ 306"-
من طريق خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن
الحارث عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: لما
نزلت:
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}، قال أبو الدحداح: يا رسول الله, وإن الله يريد منا القرض!! قال:
"نعم يا أبا الدحداح". قال: أرني يدك. قال: فناوله، قال: فإني أقرضت ربي حائطًا لي فيه
ستمائة نخلة. ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط، وأم الدحداح فيه
وعيالهم فناداها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك. قال: اخرجي،
قد أقرضت ربي حائطًا فيه ستمائة نخلة.
وفي سنده حميد الأعرج، قال البخاري: "منكر الحديث"، انظر:
"التاريخ الكبير" "1/ 2 =
ج / 4 ص -219-
..........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=/ 354"، و"التاريخ الصغير" "2/ 108"، و"الضعفاء الصغير"
"31".
وقال النسائي: "متروك الحديث"، انظر: "الضعفاء والمتروكين"
"33"، وقال الدارقطني: "متروك"، انظر: "الضعفاء
والمتروكين" "رقم 167"، وضعفه أحمد وابن معين والترمذي.
وذكره العقيلي والساجي وابن الجارود وغيرهم في الضعفاء،
كذا قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" "3/ 47".
ولهذا السند علة أخرى وهي الانقطاع بين عبد الله بن الحارث
وابن مسعود, قال أبو حاتم في ترجمته "حميد الأعرج": "قد
لزم عبد الله بن الحارث من ابن مسعود، ولا نعلم لعبد الله
عن ابن مسعود شيئًا"، انظر: "الجرح والتعديل" "1/ 2/ 226"،
وقال ابن حبان في ترجمة حميد أيضًا: "يروي عن عبد الله بن
الحارث عن ابن مسعود بنسخة كأنها موضوعة، لا يحتج بخبره
إذا انفرد، وليس هذا بصاحب الزهري، ذاك حميد بن قيس
الأعرج". انظر: "المجروحين" "1/ 262".
وقال الدارقطني: "حميد متروك، أحاديثه تشبه الموضوعة، وهو
كوفي، وعبد الله بن الحارث كوفي ثقة، ولم يسمع من ابن
مسعود". انظر: "سؤالات البرقاني للدارقطني" "ترجمة رقم
98", وانظر: "الكامل في الضعفاء" "2/ 689"، و"الضعفاء
الكبير" "1/ 268" للعقيلي.
والحديث عزاه السيوطي في "الدر المنثور" "1/ 746" إلى سعيد
بن منصور وابن سعد والبزار وابن المنذر والحكيم الترمذي
والبيهقي.
وقال الهيثمي في "المجمع" "9/ 324": "رواه أبو يعلى
والطبراني ورجالهما ثقات، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح"،
وأورده ابن حجر في "المطالب العالية" "4/ 105/ رقم 4080"،
وعزاه إلى أبي يعلى، وقال: "فيه ضعف"، ونقل الشيخ حبيب
الرحمن الأعظمي عن البوصيري قوله: "رواه أبو يعلى بسند
ضعيف".
قلت: وهذا هو الصحيح لما تقدم، بل ذكره الهيثمي نفسه "3/
113-114"، وعزاه للبزار، وقال: "وفيه حميد بن عطاء الأعرج،
وهو ضعيف".
قلت: وللحديث علة ثالثة، وهي تغير خلف بن خليفة واختلاطه.
قال ابن سعد: "تغير قبل موته واختلط"، وقال أحمد: "رأيت
خلفًا مفلوجًا لا يفهم، فمن كتب عنه قديمًا؛ فسماعه صحيح،
أتيته فلم أفهم عنه؛ فتركته". انظر "ميزان الاعتدال" "1/
659-660". =
ج / 4 ص -220-
ومن
ذلك أن العبادات المأمور بها بل المأمورات والمنهيات كلها
إنما طلب بها العبد شكرًا لما أنعم الله به عليه، ألا ترى
قوله:
{وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ
وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
وفي الأخرى:
{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 9].
والشكر ضد الكفر؛ فالإيمان وفروعه هو الشكر، فإذا دخل
المكلف تحت أعباء التكليف بهذا القصد؛ فهو الذي فهم المراد
من الخطاب، وحصل باطنه على التمام، وإن هو فهم من ذلك
مقتضى عصمة ماله ودمه فقط؛ فهذا خارج عن المقصود، وواقف مع
ظاهر الخطاب؛ فإن الله قال:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ
مَرْصَدٍ}
[التوبة: 5].
ثم قال:
{فَإِنْ
تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5].
فالمنافق إنما فهم مجرد ظاهر الأمر من أن الدخول فيما دخل
فيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وعزاه ابن حجر في "الإصابة" "4/ 59" إلى ابن منده،
وللحديث شواهد من غير ذكر للآية فيه.
أخرجه نحو القصة المذكورة من حديث أنس عن رجل أحمد في
"المسند" "3/ 146"، والطبراني في "المعجم الكبير" "22/
300"، والبغوي والحاكم؛ كما في "الإصابة" "4/ 51"، وقال
الهيثمي في "المجمع" "9/ 324": "رواه أحمد والطبراني،
ورجالهما رجال الصحيح"، وأخرج نحوها الطبراني في "الأوسط"
"2/ 516-517/ رقم 1887"، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب،
وفيه إسماعيل بن قيس، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في "المجمع"
"3/ 113"، وعبد بن حميد عن جابر بن سمرة، وأخرج مسلم في
"صحيحه" "2/ 665"، وأحمد في "مسنده" "5/ 18 و102"،
والطيالسي "760 و761" وغيرهم من حديث جابر بن سمرة: "كم من
عذق معلق أو مدلى في الجنة لابن الدحداح".
وذكر ابن الأثير في "أسد الغابة" "1/ 221" أن اسم أبي
الدحداح ثابت بن الدحداح وابن مردويه عن أبي هريرة وابن
جرير في "تفسيره" "2/ 593" عن زيد بن أسلم مرسلًا.
ج / 4 ص -221-
المسلمون موجب لتخلية سبيلهم؛ فعملوا على الإحراز من عوادي
الدنيا، وتركوا المقصود من ذلك، وهو الذي بينه القرآن من
التعبد لله والوقوف على قدم الخدمة، فإذا كانت الصلاة تشعر
بالزام الشكر بالخضوع لله والتعظيم لأمره؛ فمن دخلها
عريًّا من ذلك كيف يعد ممن فهم باطن القرآن؟ وكذلك إذا كان
له مال حال عليه الحول؛ فوجب عليه شكر النعمة ببذل اليسير
من الكثير، عودًا1 عليه بالمزيد؛ فوهبه عند رأس الحول
فرارًا من أدائها لا قصد له إلا ذلك، كيف يكون شاكرًا
للنعمة؟
وكذلك من يضار الزوجة لتنفك له من المهر على غير طيب
النفس لا يعد عاملًا بقوله تعالى:
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}
[البقرة: 229] حتى يجري على معنى قوله تعالى:
{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا
مَرِيئًا}
[النساء: 4].
وتجري [ها] هنا مسائل الحيل أمثلة لهذا المعنى؛ لأن من فهم
باطن ما خوطب به لم يحتل على أحكام الله حتى ينال منها
بالتبديل والتغيير، ومن وقف مع مجرد الظاهر غير ملتفت إلى
المعنى المقصود؛ اقتحم هذه المتاهات البعيدة.
وكذلك تجري مسائل المبتدعة أمثلة أيضًا، وهم الذين يتبعون
ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله؛ كما
قال2 الخوارج لعلي: إنه حكم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "موعودًا".
2 هو وما يأتي بعد في قوله: "فلو نظر... إلخ" يساعد على
تعيين الجملة الساقطة فيما سبق في المسألة الثانية من مبحث
الأحكام. "د".
قلت: أخرج مناظرة ابن عباس -رضي الله عنه- الحرورية فيما
أنكروه على عليّ -رضي الله عنه- وفيها ما عند المصنف من
قولهم: "إنه حكم الخلق في دين الله"، وكذا قولهم: "إنه محا
نفسه..."، وقولهم لابن عباس أيضًا: "لا تناظروه؛ فإنه ممن
قال الله فيهم...": عبد الرزاق في "المصنف" "10/ 157/ رقم
18678"، وأحمد في "المسند" "1/ 342"، والفسوي في =
ج / 4 ص -222-
الخلق
في دين الله، والله يقول:
{إِنِ
الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57، ويوسف: 40، 67]. وقالوا: إنه محا نفسه من إمارة
المؤمنين1؛ فهو إذًا أمير الكافرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "المعرفة والتاريخ" "1/ 522-524"، وأبو عبيد في
"الأموال" "444"، والنسائي في "خصائص علي" "190"،
والطبراني في "المعجم الكبير" "10/ 312"، والحاكم في
"المستدرك" "2/ 150-152"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/
179"، وأبو نعيم في "الحلية" "1/ 318-320"، وابن عبد البر
في "جامع بيان العلم" "2/ 103"، والخوارزمي في "المناقب"
"183"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "12/ 183/ أ"، كلهم من
طريق عكرمة بن عمار حدثني أبو زميل حدثني عبد الله بن عباس
به وذكر أحمد وأبو عبيد جزءًا منه.
وصححه الحاكم على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وهو كذلك.
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "6/ 241": "رواه الطبراني
وأحمد بعضه، ورجالهما رجال الصحيح".
وله شاهد عن عبد الله بن شداد عن علي، وفيه أن عليًّا -رضي
الله عنه- ناظرهم أولًا، ثم بعث إليهم ابن عباس.
أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 86"، وأبو يعلى في "المسند"
"1/ 367-371/ رقم 474"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 152"،
والبيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 179"، وابن عساكر في
"تاريخ دمشق" "9/ ق 403"، والضياء في "المختارة" "605"،
وإسناده صحيح.
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" "7/ 280": "تفرد به
أحمد، وإسناده صحيح، واختاره الضياء".
وعزاه في "المطالب العالية" "4504" لإسحاق بن راهويه، وأبي
بكر بن أبي شيبة، وأبي يعلى في "مسانيدهم".
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "6/ 235-237": "رواه أبو
يعلى، ورجاله ثقات".
ورويت المناظرة من طرق أخرى، انظر: "فتح الباري" "12/
296-297" تحت حديث رقم "6933".
وانظر "الاعتصام" "1/ 303, ط ابن عفان"، و"مجموع فتاوى ابن
تيمية" "13/ 30-31".
1 في "ط": "المسلمين".
ج / 4 ص -223-
وقالوا
لابن عباس1: لا تناظروه؛ فإنه ممن قال الله فيهم:
{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون} [الزخرف: 58]، وكما زعم أهل التشبيه في صفة الباري حين أخذوا بظاهر
قوله:
{تَجْرِي
بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]،
{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}
[يس: 71]،
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} [الشورى: 11]،
{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67]، وحكموا مقتضاه بالقياس على المخلوقين؛ فأسرفوا ما
شاءوا2.
فلو نظر الخوارج أن الله تعالى قد حكم الخلق في دينه في
قوله:
{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]، وقوله
{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، لعلموا أن قوله:
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] غير مناف لما فعله عليّ، وأنه من جملة حكم الله؛ فإن
تحكيم الرجال يرجع به الحكم لله وحده، فكذلك ما كان مثله
مما فعله علي.
ولو نظروا إلى محو الاسم من أمر لا يقتضي إثباته لضده؛ لما
قالوا: إنه أمير الكافرين، وهكذا المشبهة لو حققت معنى
قوله:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى: 11] في الآيات المذكورة لفهموا بواطنها، وأن الرب منزه عن
سمات المخلوقين.
وعلى الجملة؛ فكل من زاغ ومال عن الصراط المستقيم؛ فبمقدار
ما فاته من باطن القرآن فهمًا وعلمًا، وكل من أصاب الحق
وصادف الصواب؛ فعلى مقدار ما حصل له من فهم باطنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في شأن ابن عباس حين أراد مناظرتهم وقد حجهم في
المناظرة؛ فظفر منهم بألفين عادوا إلى حظيرة الإسلام. "ف".
2 الصواب إمرار آيات الصفات كما جاءت من غير تشبيه ولا
تكييف، ولا تأويل ولا تعطيل، وهذا مذهب السلف الصالح؛ كما
تراه مبسوطًا في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، ولا سيما
"الواسطية" و"الحموية" وكتب تلميذه ابن القيم وغيرهما.
ج / 4 ص -224-
المسألة التاسعة:
كون الظاهر هو المفهوم العربي مجردًا لا إشكال فيه؛ لأن
الموالف والمخالف اتفقوا على أنه منزل
{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين}
[الشعراء: 195]. وقال سبحانه:
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا
يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103].
ثم رد الحكاية عليهم بقوله:
{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ
وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].
وهذا الرد على شرط الجواب في الجدل؛ لأنه أجابهم بما
يعرفون من القرآن الذي هو بلسانهم، والبشر هنا حبر، وكان
نصرانيًّا فأسلم، أو سلمان1، وقد كان فارسيًّا فأسلم، أو
غيرهما ممن كان لسانه غير عربي باتفاق منهم، وقال تعالى:
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44].
وقد علم أنهم لم يقولوا شيئًا من ذلك؛ فدل على أنه عندهم
عربي، وإذا ثبت هذا؛ فقد كانوا فهموا معنى ألفاظه من حيث
هو عربي فقط، وإن لم يتفقوا على فهم المراد منه؛ فلا يشترط
في ظاهره زيادة على الجريان على اللسان العربي.
فإذًا كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان
العربي؛ فليس2 من علوم القرآن في شيء، لا مما يستفاد منه،
ولا مما يستفاد به، ومن ادعى فيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن الضحاك
قوله؛ كما في "الدر المنثور" "5/ 168"، وهو مردود بأن
الآية مكية، وسلمان أسلم في المدينة، وتجد أقوالًا أخرى
عند ابن جماعة في "غرر التبيان في من لم يسم في القرآن"
"ص305"، ولم يذكر سلمان من بينها.
2 سيأتي في الفصل التالي زيادة بيان لهذا وتقرير. "د".
ج / 4 ص -225-
ذلك؛
فهو في دعواه مبطل، وقد مر1 في كتاب المقاصد بيان هذا
المعنى، والحمد لله.
ومن أمثلة هذا الفصل ما ادعاه من لا خلاق له من أنه مسمى
في القرآن كبيان بن سمعان2، حيث زعم أنه المراد بقوله
تعالى:
{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} الآية [آل عمران: 138]، وهو من الترهات بمكان مكين، والسكوت على
الجهل كان أولى به من هذا الافتراء البارد، ولو جرى له على
اللسان العربي لعده الحمقى من جملتهم3، وكنه كشف عوار نفسه
من كل وجه، عافانا الله وحفظ علينا العقل والدين بمنه.
وإذا كان بيان في الآية علمًا له؛ فأي معنى لقوله:
{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاس} [آل عمران: 138]، كما يقال: هذا زيد للناس، ومثله في الفحش من تسمى
بالكسف، ثم زعم أنه المراد بقوله تعالى:
{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} الآية [الطور: 44]؛ فأي معنى يكون للآية على زعمه الفاسد؟ كما
تقول: وإن يروا رجلًَا من السماء ساقطًا يقولوا4: سحاب
مركوم، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النوع الثاني في وضع الشريعة للأفهام. "2/ 127 وما
بعدها".
2 انظر عن حيله وأباطيله وهتكها: "المختار في كشف الأسرار
وهتك الأستار" لعبد الرحيم الجوبري "ص173 وما بعدها"، ط
دار الكتاب العربي، دمشق - القاهرة.
3 لعل الأصل: "من جملة أدلتهم"؛ أي: لكان أتباعه يعدون هذا
دليلًا على صحة زعمهم في هذا الرجل، ولكنه فضح نفسه وكشف
عواره كما قال، فلم يجعلوا قوله: "إن الله يشير إليه في
كتابه... إلخ"؛ لم يجعلوه من الأدلة على عقيدتهم فيه لنبوه
ظاهرًا وباطنًا عن الجادة، وتقدم له في المقاصد أن هذا
المثال مما فقدت فيه شروط صحة التأويل لفظًا ومعنى. "د".
ونحوه عند "م".
4 في الأصل: "تقول".
ج / 4 ص -226-
وبيان
بن سمعان هذا هو الذي تنسبه إليه البيانية من الفرق1، وهو
فيما زعم ابن قتيبة2 أول من قال بخلق القرآن، والكسف هو
أبو منصور3 الذي تنسب إليه المنصورية.
وحكى بعض العلماء أن عبيد الله الشيعي المسمى بالمهدي4 حين
ملك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من الرافضة، وقد قتله خالد القسري وأراح العباد من شره.
"د".
قلت: وفي قتل خالد القسري له نظر، والمشهور أنه قتل الجعد
بن درهم، ولم يثبت ذلك على ما فصلناه في الجزء الثالث من
كتابنا: "قصص لا تثبت"، وانظر عن البيانية: "الفصل" "4/
185"، و"الملل والنحل" "152"، و"الفرق بين الفرق" "236"،
و"البرهان في معرفة عقائد أهل الزمان" "ص43, ط المصرية"،
و"لسان الميزان" "2/ 62"، و"الاعتصام" "1/ 215-216, ط ابن
عفان".
2 في كتابه: "اختلاف الحديث" "1/ 218, بتحقيق أحمد
الشقيرات"، وكذا في "عيون الأخبار" "2/ 148".
3 هو أبو منصور العجلي، والكسف لقبه، صلبه يوسف بن عمر
الثقفي والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك، وكان أبو
منصور يزعم أنه عرج به إلى السماء، وأن الله مسح بيده على
رأسه، وقال له: يا بني! بلغ عني. وأباح المحرمات، وأسقط
الفرائض، وكان أتباعه يؤمنون بنبوته، قال "ف" وتبعه "م":
"في مزاعمه الإمامة صارت لمحمد بن علي بن الحسين، وأن
الجنة رجل أمر بموالاته وهذا الإمام، والنار ضده، وكذا
الفرائض والمحرمات" ا. هـ.
قلت: انظر المزيد عنه وعن طائفته "المنصورية" في: "الفرق
بين الفرق" "243-245"، و"اختلاف الحديث" "1/ 218-219"،
و"عيون الأخبار" "2/ 147"، و"الفصل" "4/ 185"، و"الملل
والنحل" "2/ 14، 15"، و"البرهان في معرفة عقائد أهل
الأديان" "ص43, ط المصرية".
4 انظر عن أخباره: "البداية والنهاية" "11/ 191"، و"صلة
تاريخ الطبري" لعريب بن سعد "ص51-52"، و"تاريخ الإسلام"
للذهبي "حوادث 321-330هـ" "ص22-24"، و"البيان المعرب" "1/
206"، و"تاريخ ابن الوردي" "1/ 266"، و"الاعتصام" "1/ 216،
220, ط ابن عفان" للمصنف. وفي "ط": "المتسمي بالمهدي".
ج / 4 ص -227-
أفريقية واستولى عليها؛ كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما
على أمره، وكان أحدهما يسمى بنصر الله، والآخر بالفتح؛
فكان يقول لهما: أنتما اللذان ذكركما الله في كتابه فقال:
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح} [النصر: 1]. قالوا: وقد كان عمل ذلك في آيات من كتاب الله تعالى؛
فبدل قوله:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}
[آل عمران: 110] بقوله كتامة خير أمة أخرجت للناس، ومن كان
في عقله لا يقول مثل هذا؛ لأن المتسميين1 بنصر الله والفتح
المذكورين إنما وجدا بعد مئين من السنين من وفاة رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- فيصير المعنى: إذا مت يا محمد ثم خلق
هذان،
{وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا،
فَسَبِّحْ} الآية
[النصر: 2]؛ فأي تناقض وراء هذا الإفك الذي افتراه الشيعي
قاتله الله.
ومن أرباب الكلام من ادعى جواز نكاح الرجل منا تسع نسوة
حرائر2 مستدلًّا على ذلك بقوله تعالى:
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى
وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، ولا يقول مثل هذا من فهم وضع العرب في مثنى وثلاث
ورباع3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"م": "المتسمين"، والضمير عائد إلى مثنى.
2 حكاه القرطبي في "تفسيره" "5/ 17" عن بعض أهل الظاهر
وأهل الرفض؛ فقال: "اعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا
يدل على إباحة تسع، كما قاله من بعد فهمه للكتاب والسنة،
وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعة،
وعضد ذلك بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نكح تسعًا، وجمع
بينهن في عصمته، والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه
المقالة الرافضة وبعض أهل الظاهر..."، وناقش هذا القول
مناقشة قوية، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى قريبًا،
والله الموفق.
3 خاطب الله -عز وجل- العرب بأفصح اللغات، والعرب لا تدع
أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة، وكذلك تستقبح ممن
يقول: أعط فلانًا أربعة ستة ثمانية، ولا يقول: ثمانية عشر،
=
ج / 4 ص -228-
ومنهم
من يرى شحم الخنزير وجلده حلالًا؛ لأن الله قال:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ
الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، فلم يحرم شيئًا غير لحمه، ولفظ اللحم يتناول الشحم
وغيره بخلاف العكس1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وإنما الواو في هذا الموضع بدل أي: أنكحوا ثلاثًا بدلًا
من مثنى، ورباع بدلًا من ثلاث، ولذلك عطف بالواو ولم يعطف
بأو, ولو جاء بأو لجاز ألا يكون لصاحب المثنى ثلاث, ولا
لصاحب الثلاث رباع، وأما قولهم: إن مثنى تقتضي اثنين،
وثلاث ثلاثة، ورباع أربعة، فتحكم بما لا يوافقهم أهل
اللسان عليه، وجهالة منهم، وكذلك الآخرين بأن مثنى تقتضي
اثنين اثنين، وثلاث ثلاثة ثلاثة، ورباع أربعة أربعة، ولم
يعلموا أن اثنين اثنين، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا
حصر للعدد، ومثنى وثلاث ورباع بخلافها؛ ففي العدد المعدول
عند العرب زيادة معنى ليست في الأصل، وذلك أنها إذا قالت:
جاءت الخيل مثنى، إنما تعني بذلك اثنين اثنين؛ أي: جاءت
مزدوجة، قال الجوهري: "وكذلك معدول العدد"، وقال غيره: إذا
قلت: جاءني قوم مثنى أو ثلاث أو أحاد أو عشار؛ فإنما تريد
أنهم جاءوك واحدًا واحدًا، أو اثنين اثنين، أو ثلاثة
ثلاثة، أو عشرة عشرة، وليس هذا المعنى في الأصل؛ لأنك إذا
قلت: جائني قوم ثلاثة ثلاثة، أو قوم عشرة عشرة؛ فقد حصرت
عدة القوم بقولك ثلاثة وعشرة، فإذا قلت: جاءوني رباع
وثناء، فلم تحصر عدتهم، وإنما تريد أنهم جاءوك أربعة أربعة
أو اثنين اثنين، وسواء كثر عددهم أو قل في هذا الباب؛
فقصرهم كل صيغة على أقل ما تقتضيه بزعمه تحكم. قاله
القرطبي في "تفسيره" "5/ 17-18".
وانظر: "الاعتصام" "2/ 525, ط ابن عفان"؛ ففيه بيان أن
المستدل بالآية على جواز نكاح التسع "بدعة أجراها في هذه
الأمة لا دليل عليها ولا مستند فيها".
1 قال القرطبي في "تفسيره" "2/ 222": "أجمعت الأمة على
تحريم شحم الخنزير"، وقال: "لأن اللحم مع الشحم يقع عليه
اسم اللحم؛ فقد دخل الشحم في اسم اللحم، ولا يدخل اللحم في
اسم الشحم؛ وقد حرم الله تعالى لحم الخنزير؛ فناب ذكر لحمه
عن شحمه لأنه دخل تحت اسم اللحم".
وقال ابن العربي في "أحكامه" "1/ 54": "اتفقت الأمة على أن
لحم الخنزير حرام بجميع أجزائه، والفائدة في ذكر اللحم أنه
حيوان يذبح للقصد إلى لحمه"، قال: "وقد شغفت المبتدعة بأن
تقول: فما بال شحمه، بأي شيء حرم؟ وهم أعاجم لا يعلمون أنه
من قال لحمًا فقد قال شحمًا، ومن قال شحمًا فلم يقل لحمًا؛
إذ كل شحم لحم، وليس كل لحم شحمًا من جهة اختصاص اللفظ،
وهم لحم من جهة حقيقة اللحمية".
وانظر: "الاعتصام" "1/ 302, ط ابن عفان".
ج / 4 ص -229-
ومنهم
من فسر الكرسي في قوله:
{وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}
[البقرة: 255] بالعلم1، مستدلين ببيت لا يعرف، وهو:
..................................
ولا يكرسئ2 علم الله مخلوق3
كأنه عندهم: ولا يعلم
علمه، ويكرسئ مهموز، والكرسي غير مهموز.
ومنهم من فسر غوى في قوله تعالى:
{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] أنه تخم من أكل الشجرة، من قول العرب: "غوي الفصيل يغوي
غوًى"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومثله تفسيره بالملك؛ كما في "الظلال" "1/ 290"، وهو
مذهب المعتزلة والأشاعرة؛ كما تراه في "شرح الأصول الخمسة"
"ص227"، و"أصول الدين" "113-114" و"التبصير في الدين"
"15".
وانظر لزامًا: "المورد الزلال" "ص36-37"، و"تفسير ابن جرير
"24/ 37"، و"شرح الطحاوية" "311".
2 في النسخ المطبوعة كلها "بكرسي" بالباء الموحدة في أوله،
وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
3 قال ابن قتيبة في "الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية
والمشبهة" "ص35": "وطلبوا للكرسي غير ما نعلم، وجاءوا بشطر
بيت لا يعرف ما هو، ولا يدرى من قائله:
ولا يكرسئ علم الله مخلوق
والكرسي غير مهموز
بإجماع الناس جميعًا، و"يكرسئ" مهموز".
قلت: أورد هذا البيت أبو حيان في "البحر المحيط" "2/ 280"،
ولم ينسبه لأحد! وصدره:
ما لي بأمرك كرسيّ أكاتمه
...............................
وفسر الكرسي بالسر!
ج / 4 ص -230-
إذا
بشم1 من شرب اللبن وهو فاسد2؛ لأن غوي الفصيل [فعل]3،
والذي في القرآن على [وزن]4 فعل.
ومنهم من قال في قوله:
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ}
[الأعراف: 179]؛ أي: ألقينا فيها، كأنه عندهم من قول
الناس: "ذرته الريح"، وذرأ مهموز، وذرا غير مهموز5.
وفي قوله:
{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}
[النساء: 125]؛ أي: فقيرًا إلى رحمته، من الخلة بفتح
الخاء6، محتجين على ذلك بقول زهير7:
وإن أتاه خليل يوم مسألة
.............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أتخم.
2 حكاه السمين في "عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ" "ق
407"، والراغب في "المفردات" "369"، والفيروزآبادى في
"بصائر ذوي التمييز" "4/ 156"، وسكتوا عنه وأخروه، وقال
عنه الزمخشري في "الكشاف" "2/ 450": "تفسير خبيث"، ونقله
عنه الآلوسي في "روح المعاني" "16/ 274"، وأقره، وكذا رده
المصنف في "الاعتصام" "1/ 301, ط ابن عفان".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، قال "ف": "غوي؛ بفتح،
فكسر، يقال: غوي الفصيل يغوى أغوى من باب فرح، وما في
الآية بالفتح" ا. هـ.
4 سقط من "ط".
5 انظر في تفسير الآية: "روح المعاني" "9/ 118-119"،
و"تفسير المنار" "9/ 418"، و"تأويل مشكل القرآن" "282"،
ونحوه المذكور عند المصنف في "الاعتصام" "1/ 301-302, ط
ابن عفان".
6 قاله أبو القاسم البلخي، ونقله عنه الراغب في "المفردات"
"153"، والسمين في "عمدة الحفاظ" "ق 165"، والفيروزآبادي
في "بصائر ذوي التمييز" "2/ 557"، وتعقبوه، وأجمع عبارة
للفيروزآبادي قال: "وهذا القول منه تشه ليس بشيء، والصواب
الذي لا محيد عنه إن شاء الله أنه من "الخلة"، وهي المحبة
التي قد تخللت روح المحب وقلبه؛ حتى لم يبق فيه موضع لغير
محبوبه".
7 هو صدر بيت، وعجزه: "يقول لا غائب مالي ولا حرم"، وهو
ضمن قصيدة له في "ديوانه" "ص82" يمدح فيها هرم بن سنان
المري. وفي "ط": "بزهير في قوله".
ج / 4 ص -231-
قال
ابن قتيبة: أي فضيلة لإبراهيم في هذا القول؟ أما يعلمون أن
الناس فقراء إلى الله؟ وهل إبراهيم في لفظ خليل الله إلا
كما قيل: موسى كليم الله، وعيسى روح الله؟ ويشهد له
الحديث:
"لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلًا، إن صاحبكم خليل
الله"1،
وهؤلاء من أهل الكلام هم النابذون للمنقولات اتباعًا
للرأي، وقد أداهم ذلك إلى تحريف كلام الله بما لا يشهد
للفظه عربي ولا لمعناه برهان كما رأيت، وإنما أكثرت2 من
الأمثلة وإن كانت من الخروج عن مقصود العربية، والمعنى على
ما علمت لتكون تنبيهًا على ما وراءها مما هو مثلها أو قريب
منها.
فصل:
وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضًا مما تقدم في
المسألة قبلها، ولكن يشترط فيه شرطان:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من
فضائل أبي بكر الصديق، 4/ 1855/ رقم 2383" والترمذي في
"الجامع" "كتاب المناقب، باب مناقب أبي بكر الصديق, رضي
الله عنه، 5/ 606/ رقم 3655"، والنسائي في "فضائل الصحابة"
"رقم 4"، وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب في فضائل
أصحاب رسول الله, صلى الله عليه وسلم 1/ 36/ رقم 93"،
وأحمد في "المسند" "1/ 377، 389، 408، 409، 412، 433، 434،
437، 455"، و"الفضائل" "رقم 155، 156، 157، 158، 159، 160"
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا، دون لفظة "غير ربي".
وأخرجه بها البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب
قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "سدوا الأبواب..."، 7/ 12/
رقم 3654"، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- وهو في
"صحيح مسلم" "رقم 2382" من حديثه دون اللفظة المذكورة.
وقال الفيروزآبادي في "البصائر" "2/ 558" عقبه وعقب حديث
آخر نصه:
"إن الله تعالى
اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا".
قال: "والحديثان في "الصحيحين"، وهما يبطلان قول من قال:
الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد -عليه السلام- فإبراهيم
خليله ومحمد حبيبه".
2 في "ط": "أكثر".
ج / 4 ص -232-
أحدهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب،
ويجري1 على المقاصد العربية.
والثاني: أن يكون له شاهد نصًّا أو ظاهرًا في محل آخر يشهد
لصحته من غير معارض.
فأما الأول؛ فظاهر من قاعدة كون القرآن عربيًّا؛ فإنه لو
كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب؛ لم يوصف بكونه عربيًّا
بإطلاق، ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن ليس في ألفاظه ولا في
معانيه ما يدل عليه، وما كان كذلك؛ فلا يصح أن ينسب إليه
أصلًا؛ إذ ليست نسبته إليه على أن2 مدلوله أولى من نسبة
ضده إليه، ولا مرجح يدل على أحدهما؛ فإثبات أحدهما تحكم
وتقول على القرآن ظاهر، وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من
قال في كتاب الله بغير علم، والأدلة المذكورة في أن القرآن
عربي جارية هنا.
وأما الثاني فلأنه3 إن لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان
له معارض صار من جملة الدعاوى التي تدعى على القرآن،
والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء.
وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم أنه الباطن؛ لأنهما
موفران فيه، بخلاف ما فسر به الباطنية4؛ فإنه ليس من علم
الباطن، كما أنه ليس من علم الظاهر؛ فقد قالوا في قوله
تعالى:
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}
[النمل: 16]: إنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بحيث يجري... إلخ. "د".
2 في الأصل و"ط": "أنه".
3 في "ط": "فإنه".
4 انظر عن أشهر تفاسيرهم وأمثلة كبيرة على ضلالاتهم
ومناقشتهم في ذلك عند الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه "من
بلاغة القرآن"، والدكتور عدنان زرزور في كتابه "متشابه
القرآن"، والشيخ محمد حسين الذهبي في كتابه "التفسير
والمفسرون" "2/ 235 وما بعدها".
ج / 4 ص -233-
الإمام
ورث النبي علمه، وقالوا في "الجنابة": إن معناها مبادرة
المستجيب بإفشاء السر إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق،
ومعنى "الغسل" تجديد العهد على من فعل ذلك، ومعنى "الطهور"
هو التبري والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام،
و"التيمم" الأخذ من المأذون إلى أن يشاهد1 الداعي أو
الإمام، و"الصيام" الإمساك عن كشف السر، و"الكعبة" النبي،
و"الباب" عليّ، و"الصفا" هو النبي، و"المروة" عليّ،
و"التلبية" إجابة الداعي، و"الطواف سبعًا" هو الطواف بمحمد
-عليه الصلاة والسلام- إلى تمام الأئمة السبعة، و"الصلوات
الخمس" أدلة على الأصول الأربعة وعلى الإمام، و"نار
إبراهيم" هو غضب نمرود لا النار الحقيقية، وذبح "إسحاق"2
هو أخذ العهد عليه، و"عصا موسى" حجته التي تلقفت شبه
السحرة، و"انفلاق البحر" افتراق علم موسى -عليه السلام-
فيهم، و"البحر" هو العالم، و"تظليل الغمام" نصب موسى
الإمام لإرشادهم، و"المن" علم نزل من السماء، و"السلوى"
داع من الدعاة، و"الجراد والقمل والضفادع" سؤالات موسى
وإلزماته التي تسلطت عليهم، و"تسبيح الجبال" رجال شداد في
الدين، و"الجن الذين ملكهم سليمان" باطنية ذلك الزمان،
و"الشياطين" هم الظاهرية الذين كلفوا الأعمال الشاقة، إلى
سائر ما نقل من خباطهم3 الذي هو عين الخبال، وضحكة السامع،
نعوذ بالله من الخذلان4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "الاعتصام" "1/ 322, ط ابن عفان": "إلى أن يسعد
بمشاهد الداعي....".
2 كذا في الأصل وجميع النسخ المطبوعة، وهو رأي القرطبي في
"تفسيره"!! والصواب: "إسماعيل"؛ إذ هو الذبيح، على ما فصله
ابن القيم في "الزاد"، والسيوطي في "القول الفصيح في تعيين
الذبيح"، مطبوع ضمن "الحاوي" له "1/ 318-322".
3 في الأصل: "خطابهم".
4 تجد هذه الأمثلة ونحوها في "قواعد عقائد آل محمد" "ص47"
لمحمد بن الحسن الديلمي، ط إستانبول، مطبعة الدولة، سنة
1938م، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "5/
550-551 و13/ 236-238، 359 وما بعدها"، وابن حزم في
"الإحكام" "3/ 40" أمثلة كثيرة غير هذه من تفسيرات
الباطنية وهي من جنسها؛ فانظرها فإنها مفيدة.
ج / 4 ص -234-
قال
القتبى1: "وكان بعض أهل الأدب يقول: ما أشبه تفسير الروافض
للقرآن إلا بتأويل رجل من أهل مكة للشعر؛ فإنه قال ذات
يوم: ما سمعت بأكذب من بني تميم، زعموا أن قول القائل:
بيت زرارة محتب بفنائه
ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
إنه في رجل2 منهم. قيل
له: فما تقول أنت فيه؟ قال: البيت بيت الله، وزرارة
الحجر3. قيل: فمجاشع؟ قال: زمزم جشعت بالماء. قيل: فأبو
الفوراس؟ قال: أبو قبيس. قيل: فنهشل؟ قال نهشل أشده4،
وصمت5 ساعة، ثم قال: نعم، نهشل مصباح الكعبة؛ لأنه طويل
أسود، فذلك نهشل"، انتهى ما حكاه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو ابن قتيبة، وكلامه الذي أورده المصنف موجود في كتابيه
"اختلاف الحديث" "1/ 217-218"، و"عيون الأخبار" "2/ 146"،
ونحوه في "العقد الفريد" "2/ 250 و7/ 186"، وأفاد أن
القائل: "ما أشبه..." هو الشعبي.
2 كذا في الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة، وفي "اختلاف
الحديث": "رجال"، وهو أصوب.
3 في "د" و"ط": "الحج"، وقال "د": "صوابه "الحجر؛ بكسر
الحاء"، كما هو الرواية عن ابن قتيبة".
قلت: وكذا في "م"، وكتب في الهامش: "في المطبوعات الثلاث:
"الحج"، وتصويبه عن ابن قتيبة".
4 الرواية "أشدها"؛ أي: أصعبها في بيان معناه. "د"، وكتب
"م": "يريد أشد ما في البيت؛ أي: أعوصه وأصعبه تفسيرًا".
قلت: وفي "ط" ونسخ "اختلاف الحديث" الخطية الخمسة، التي
اعتمد عليها أخي الأستاذ أحمد الشقيرات "1/ 217, مضروبة
على آلة كاتبة"؛ كما عن المصنف: "أشده".
5 في "اختلاف الحديث" و"ط": "وفكر ساعة".
ج / 4 ص -235-
فصل:
وقد وقعت في القرآن تفاسير مشكلة يمكن أن تكون من هذا
القبيل، أو من قبيل الباطن الصحيح، وهي منسوبة لأناس من
أهل العلم، وربما نسب منها إلى السلف الصالح.
فمن ذلك فواتح السور1 نحو
{الم}، و{المص}, و{حم}، ونحوها فسرت بأشياء، منها ما يظهر جريانه على مفهوم صحيح، ومنها
ما ليس كذلك، فينقلون عن ابن عباس2 في
{الم}
أن "ألف" الله، و"لام" جبريل، و"ميم" محمد, صلى الله عليه
وسلم.
وهذا إن صح في النقل؛ فمشكل لأن هذا النمط من التصرف لم
يثبت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تجد كلامًا محققًا جيدًا حولها في "قانون التأويل" "208
وما بعدها"، و"معرفة قانون التأويل" "ق 27/ أ" -حيث أورد
فيه اثني عشر قولًا لعلماء التفسير وسبعة أقوال للصوفية-
كلاهما لابن العربي، و"تفسير الطبري" "1/ 67-74"، و"تأويل
مشكل القرآن" "299" لابن قتيبة، و"العقل وفهم القرآن"
"329" للمحاسبي، و"بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم"
"1/ 259-264"، و"بدائع الفوائد" "3/ 45-47"، و"الكشاف" "1/
12-19"، و"البحر المحيط" "1/ 34" لابن حيان، و"تفسير
الرازي" "2/ 3-13"، و"تفسير القرطبي" "1/ 154"، و"البرهان"
"1/ 214-216، و"معترك الأقران" "1/ 156"، و"الإتقان" "2/
11 وما بعدها"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "17/ 398"،
و"الإعجاز البياني للقرآن" "136" لبنت الشاطئ، و"براعة
الاستهلال في فواتح القصائد والسور" "ص99-302"، وفيه جمع
واسع لما قيل في معاني الحروف المذكورة في أوائل السور.
2 حكاه أبو الليث في "بحر العلوم" "1/ 89"، وغيره ولم
ينسبوه لابن عباس، وقال المناوي في "الفتح السماوي" "1/
126": "هذا لا يعرف عن ابن عباس ولا غيره من السلف"،
وتابعه ابن همات في "تحفة الراوي" "ق 8/ ب"، وورد عنه
أقوال كثيرة كما تراه في "الدر المنثور" "1/ 55-59".
وفي "ط": "في "الم"، وفي غيره: "أن الم"، قال "ف": "إن
"الم": لعله في "الم".
ج / 4 ص -236-
في
كلام العرب هكذا مطلقًا، وإنما أتى مثله إذا دل عليه
الدليل اللفظي أو الحالي؛ كما قال:
قلت لها قفي فقالت قاف1
وقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا أول رجز للوليد بن عقبة، وسبب قوله أنه لما شهد عليه
عند عثمان بن عفان بشرب الخمر؛ كتب إليه يأمره بالشخوص،
فخرج وخرج معه قوم يعذرونه، فيهم عدي بن حاتم، فنزل الوليد
يومًا يسوق بهم؛ فقال يرتجز:
قلت لها قفي فقالت قاف
لا تحسبينا قد نسينا الإيجاف
والنشوات من عتيق أوصاف
وعزف قينات علينا غراف
فقال له: "إلى أين تذهب
بنا؟ أقم".
كذا في "الأغاني" "5/ 181"، و"شرح شواهد الشافية" "ص271"،
وفي "تأويل مشكل القرآن" "309": "وأنشد الفراء وذكره"، وهو
في "الصاحبي" "94"، و"تفسير ابن جرير" "1/ 212, تحقيق
شاكر"، و"الوسيط" "1/ 76" للواحدي، و"المحرر الوجيز" "1/
82-83"، و"تفسير ابن كثير" "1/ 39"، و"مجمع البيان" "1/
34"، و"البحر المحيط" "1/ 35"، و"العمدة" "1/ 280"، و"بحر
العلوم" "1/ 87"، و"قانون التأويل" "216، و"البرهان" "3/
117" للزركشي، و"الإتقان" "2/ 12"، و"براعة الاستهلال"
"197"، وفي بعضها غير منسوب.
وأورده ابن جني في "الخصائص" "1/ 31، 81، 247"، ونقل عنه
ابن منظور في "اللسان" "9/ 359، مادة وقف" قوله: "ولو نقل
هذا الشاعر إلينا شيئًا من جملة الحال؛ فقال مع قوله:
"قالت: قاف": وأمسكت زمام بعيرها أو عاجته إلينا؛ لكان
أبين لما كانوا عليه وأدل، على أنها أرادت قفي لنا قفي
لنا، أي: تقول لي قفي لنا متعجبة منه، وهو إذا شاهدها وقد
وقفت علم من قولها قاف إجابة له لا رد لقوله، وتعجب منه في
قوله: "قفي لنا"".
قال: "ف": "أي: ذكرت حرفًا في حروف قفي وهو القاف، والظاهر
أن القصد بذكره امتثال الأمر بقرينة سابقة، وكذا قوله "فا"
بمعنى فأنا أقول لك، وقول "تا"؛ أي: تفعل فإن فعلته أقابل
الشر بمثله ويشبه أن يكون ذلك من النحت".
ج / 4 ص -237-
قالوا جميعًا كلهم بلافا1
وقال:
ولا أريد الشر إلا أن تا2
والقول في
{الم}
ليس3 هكذا، وأيضًا، فلا دليل من خارج يدل عليه؛ إذ لو كان
له دليل لاقتضت4 العادة نقله لأنه من المسائل التي تتوفر
الدواعي على نقلها لو صح أنه مما يفسر ويقصد تفهيم معناه،
ولما لم يثبت شيء من ذلك؛ دل على أنه من قبيل المتشابهات،
فإن ثبت له دليل يدل عليه صير إليه.
وقد ذهب فريق إلى أن المراد الإشارة إلى حروف الهجاء، وأن
القرآن منزل بجنس هذه الحروف وهي العربية، وهو أقرب من
الأول، كما أنه نقل أن هذه الفواتح أسرار لا يعلم تأويلها
إلا الله، وهو أظهر الأقوال؛ فهي من قبيل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "بلى؛ فلا"، وأورده السيوطي في "الإتقان" "2/
12"، وأوله:
"ناداهم ألا
الحموا ألا نا
قالوا جميعًا كلهم ألا فا"
وقال: "أراد: ألا تركبون
ألا فاركبوا".
2 الراجز هو لقيم بن أوس، وأوله: "بالخير خيرات وإن شرًّا
فا"؛ كما في "الكامل" "236"، و"شرح شواهد الشافية" "262"،
و"الهمع" "2/ 210، 236"، و"اللسان" "مادة تا"، و"المحرر
الوجيز" "1/ 83"، وعزاه إلى زهير بن أبي سلمى، و"تفسير ابن
كثير" "1/ 39"، و"الكتاب" "3/ 321"، لسيبويه، و"الإتقان"
"2/ 12"، و"شرح أبيات سيبويه" "2/ 277" لابن السيرافي،
و"تفسير ابن جرير" "1/ 70"، و"براعة الاستهلال" "197"، قال
سيبويه في "الكتاب" "3/ 321": "يريد: إن شرًّا فشر، ولا
يريد الشر إلا أن تشاء".
3 الأمثلة الثلاثة أدلتها من اللفظ، وليس في "الم" ما يدل
على هذا التفسير من اللفظ، وقوله: "وأيضًا"؛ أي: ولا قرينة
خارجة عن اللفظ أيضًا، وهو ما سماه بالدليل الحالي أي: غير
المقالي، وقوله: "لو صح... إلخ" تأكيد لأضعاف هذا المعنى؛
فإن الراجح أن أوائل السور من المتشابه الذي اختص الله
بعلمه. "د".
4 في "ط": "لاقتضاء".
ج / 4 ص -238-
المتشابهات، وأشار جماعة إلى أن المراد بها أعدادها
تنبيهًا على مدة هذه الملة1، وفي السير ما يدل على هذا
المعنى، وهو قول يفتقر إلى أن العرب كانت تعهد في
استعمالها الحروف المقطعة أن تدل بها على أعدادها، وربما
لا يوجد مثل هذا لها ألبتة، وإنما كان أصله في اليهود
حسبما ذكره أصحاب السير2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن كثير في "تفسيره" "1/ 76" عن هذه الحروف
المقطعة: "وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه
يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم؛ فقد ادعى ما
ليس له، وطار في غير مطاره".
2 يشير المصنف إلى ما عند ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 545,
تهذيب ابن هشام"، وأخرجه أيضًا البخاري في "التاريخ
الكبير" "2/ 208"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 92-93/ رقم
246, ط شاكر"، والداني في "البيان في عد آي القرآن"
"330-331" من طريق ابن إسحاق: حدثني الكلبي عن أبي صالح عن
ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رئاب؛ قال: "مر أبو ياسر
بن أخطب في رجال من اليهود برسول الله -صلى الله عليه وآله
وسلم- وهو يتلو صدر سورة البقرة:
{الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ}؛ فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال: تعلمون والله لقد
سمعت محمدًا يتلو فيما أنزل عليه:
{الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} فقالوا: أنت سمعت؟ قال: نعم. فمشى حيي في أولئك النفر إلى رسول
الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقالوا له: ألم يذكر أنك
تتلو فيما أنزل عليك:
{الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ}. فقال: "بلى". قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما بين النبي فيهم
مدة ملكه، وأجل أمته غيرك. الألف واحدة، واللام ثلاثون،
والميم أربعون؛ فهذه إحدى وسبعون. قال: يا محمد! هل مع هذا
غيره؟ قال: "نعم،
{المص}".
قالوا: هذه أطول وأثقل؛ الألف واحدة، واللام ثلاثة، والميم
أربعون، والصاد ستون؛ فهذه إحدى وثلاثون ومائة، هل مع هذا
غيره؟ قال: "نعم،
{الر}".
قال: هذه أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء
مائتان، هذه إحدى ومائتا سنة، هل مع هذا غيره؟ قال: "نعم،
{المر}".
قال: هذا أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم
أربعون، والراء مائتان؛ فهذه إحدى وسبعون ومائتان. ثم قال:
لبس علينا أمرك حتى ما يدرى أقليلًا أعطيت أم كثيرًا. ثم
قال: قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه: ما يدريكم
لعله قد جمع لمحمد هذا كله إحدى وسبعون، وإحدى وثلاثون
ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتنان، وإحدى وسبعون ومائتان؛
فذلك سبعمائة وأربع سنين. فقالوا: لقد =
ج / 4 ص -239-
................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= تشابه علينا أمره".
وإسناده ضعيف جدًّا، بل موضوع، آفته الكلبي، وهو محمد بن
السائب، متهم بالكذب، وشيخه أبو صالح باذام، مولى أم هانئ،
وهو ضعيف، وأبو صالح لم يسمع من ابن عباس؛ كما في "جامع
التحصيل" "رقم 55".
وحكم عليه ابن كثير بالضعف؛ فقال في "تفسيره" "1/ 39, ط
الشيخ مقبل": "فهذا مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو
ممن لا يحتج بما انفرد به"، وتابعه عليه الشوكاني في "فتح
القدير" "1/ 31"، وقد تكلمت بإسهاب ولله الحمد على تفسير
ابن عباس من طريق الكلبي في كتابي "كتب حذر منها العلماء"
"2/ 259 وما بعدها، المجموعة الأولى"؛ فراجعه إن شئت،
والله الهادي.
وأورده البخاري من وجه آخر فيه محمد بن أبي محمد مولى زيد
بن ثابت، وهو مجهول، وهذا مردود من جهة متنه، وهذا ما قرره
ابن حجر؛ فقال رحمه الله تعالى: "وهذا باطل لا يعتمد عليه؛
فقد ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنه- الزجر عن عد أبي جاد،
والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد؛ فإنه
لا أصل له في الشريعة". نقله عنه السيوطي في "الإتقان" "2/
11".
قلت: أشار الحافظ إلى ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"
"11/ 26/ رقم 19805", والبيهقي في "الكبرى" "8/ 139"، عن
ابن عباس بسند صحيح، قال: "إن قومًا ما يحسبون أبا جاد
وينظرون في النجوم، ولا أدري لمن فعل ذلك من خلاق".
وقال الشوكاني عقبه: "فانظر ما بلغت إليه أفهامهم من هذا
الأمر المختص بهم من عدد الحروف مع كونه ليس من لغة العرب
في شيء، وتأمل أي موضع أحق بالبيان من رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- من هذا الموضع؛ فإن هؤلاء الملاعين قد جعلوا ما
فهموه عند سماع:
{الم،
ذَلِكَ الْكِتَابُ} من ذلك العدد موجبًا للتثبيط عن الإجابة له، والدخول في شريعته،
فلو كان لذلك معنى يعقل ومدلول يفهم؛ لدفع رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- ما ظنوه بادئ بدء حتى لا يتأثر عنه ما
جاءوا به من التشكيك على من معهم".
ولا داعي بعد بيان وضع هذه القصة إلى تحميلها ما لا تحتمل
من مثل قول صاحب "التحرير والتنوير" "1/ 194-195": "وليس
في جواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياهم بعدة حروف
أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقرير
لاعتبارها رموزًا لأعداد مدة هذه الأمة، وإنما أراد إبطال
ما =
ج / 4 ص -240-
فأنت
ترى هذه الأقوال مشكلة إذا سبرناها بالمسبار المتقدم،
وكذلك سائر الأقوال المذكورة في الفواتح مثلها في الإشكال
وأعظم، ومع إشكالها؛ فقد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فهموه بإبطال أن يكون مفيدًا لزعمهم على نحو الطريقة
المسماة بالنقض في الجدل، ومرجعها إلى المنع والمانع لا
مذهب له، وأما ضحكه -صلى الله عليه وسلم- فهو تعجيب من
جهلهم"، ومن مثل قول الأمير الصنعاني في "رسالة شريفة فيما
يتعلق بالأعداد للحروف والأوفاق" "ص15" قال بعد أن ساق
القصة: "فهذا دليل أن ذلك كان من عرف اليهود واصطلاحهم،
ومن المعلوم قطعًا أنه لم يكن ذلك من لغة العرب كما يعلم
قطعًا أن العرب لم تعارض القرآن، فما هو إلا من علم اليهود
ومن أوضاع أسحارهم، وقد ثبت عن ابن عباس النهي عن عد أبي
جاد والإشارة إلى أن ذلك من السحر".
ثم قال: "فإن قلت: فقد قرر رسول الله -صلى الله عليه وآله
وسلم- حيي بن أخطب على تفسير تلك الحروف بالأعداد.
قلت: أما أولًا؛ فمعلوم أن تلك الحروف ليست موضوعة للأعداد
في العربية، وقد علم أنه تعالى أنزل القرآن عربيًّا؛ فلا
يفسر العربي إلا بالأوضاع العربية لا بالأوضاع العبرانية.
وأما ثانيًا؛ فقد علم مخالفته -صلى الله عليه وآله وسلم-
لليهود في أفعالهم وأقوالهم؛ فسكوته عن الإنكار هذا كسكوته
عن الإنكار إذا مروا إلى كنائسهم.
وأما ثالثًا؛ فلأنهم منكرون أنه كلام الله فهم فسروا على
تسليم أنه كلام كاذب عندهم.
وأما رابعًا؛ فلأنه يحتمل أن سكوته أراده لإغاظتهم
وتحزينهم، فإنه يعلم أن بقاءه يومًا واحدًا مما يسوءهم
ويحزنهم فضلًا عن أعوام.
وأما خامسًا؛ فلأنه معلوم أن هذا ليس من لغته ولا لغة
قومه، فكأنه يقول: إذا كان عرفًا لكم ولغة عندكم؛ فأنتم
تعلمون أنه ليس لغة لنا ولا هو عرفنا، وإنما هو شيء جئتم
به من تلقاء أنفسكم، فلا ينكر عليهم أن يتعارفوا بينهم بأي
لفظ.
فإن قلت: ومن أين علمنا أنه ليس من لغته ولا لغة قومه؟
قلت: عرفناه بأنه لم يأت حرف واحد عن صحابي ولا تابعي
بهذا، مع أنه قد نقل إلينا تفاسيرهم لكلام الله، بل هذا
معلوم يقينًا أنه من لغة العرب؛ فقد دونها أئمة اللغة
وبذلوا فيها وسعهم وتتبعوها في البوادي وغيرها، ولا تجد
كتابًا لغويًّا فيه شيء من هذا، وأن الحرف مسماه كذا من
العدد هذا أمر مقطوع بعدم وقوعه لغة؛ فتعين أنه أمر
اصطلاحي لا حجر فيه ولا ضير على متعاطيه، ونهى ابن عباس
عنه، وأنه من السحر يدل أنه عرف أنه اصطلاح لليهود
يستعملونه في الأسحار".
ج / 4 ص -241-
اتخذها
جمع من المنتسبين إلى العلم، بل إلى الاطلاع والكشف على
حقائق الأمور، حججًا في دعاوٍ ادعوها على القرآن، وربما
نسبوا شيئًا من ذلك [إلى]1 علي بن أبي طالب2، وزعموا أنها
أصل العلوم ومنبع المكاشفات على أحوال الدنيا والآخرة،
وينسبون ذلك إلى أنه مراد الله تعالى في خطابه العرب
الأمية التي لا تعرف شيئًا من ذلك، وهو إذا سلم أنه مراد
في تلك الفواتح في الجملة؛ فما الدليل على أنه مراد على كل
حال من تركيبها على وجوه، وضرب3 بعضها ببعض، ونسبتها إلى
الطبائع الأربع، وإلى أنها الفاعلة في الوجود، وأنها مجمل
كل مفصل، وعنصر كل موجود، ويرتبون في ذلك ترتيبًا جميعه
دعاوٍ محالة على الكشف والاطلاع، ودعوى الكشف ليس بدليل في
الشريعة على حال4، كما أنه لا يعد دليلًا في غيرها، كما
سيأتي بحول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د"، وأثبتناه من الأصل و"ف"
و"م" و"ط".
2 انظر لزامًا بسط ذلك في كتابي: "كتب حذر منها العلماء"
"2/ 248-249, المجموعة الأولى".
3 وأنها بهذا الحساب تبين تواريخ أمم سابقة ولاحقة، ومن
ذلك أن محيي الدين بن عربي ذكر في "فتوحاته" عند تفسير
قوله تعالى:
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} [النبأ: 29]: "إن الله أودع في القرآن من العلوم ما هي خارجة عن
حصرنا لها، وقال: سألت بعض العلماء: هل يصح لأحد حصر أمهات
هذه العلوم؟ فقال: إنها مائة ألف نوع وستمائة نوع، كل نوع
منها يحتوي على علوم لا يعلمها إلا الله تعالى". "د".
قلت: وكتابه هذا فيه طامات وأوابد، كما فصله جماعة من
العلماء؛ منهم: ابن تيمية في "الرد الأقوم على ما في فصوص
الحكم" ضمن "مجموع الفتاوى" "2/ 362-451"، والبقاعي في
"تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي"، كلاهما مطبوع، والسخاوي
في "القول المنبي في ترجمة ابن عربي"، وهو قيد التحقيق
عندي، والفاسي في الأول من كتابه "العقد الثمين"، والأهدل
في كتاب مفرد جامع مفيد، طبع قديمًا في تونس، وأتيت على ما
قيل فيه في كتابي: "كتب حذر منها العلماء"، يسر الله
إتمامه.
4 انظر في هدم الاحتجاج بالكشف: "القائد لتصحيح العقائد"
"ص37 وما بعدها". للمعلمي اليماني، و"مجموع الفتاوى" "5/
491 و11/ 77 و323 و13/ 73 و29-30"، و"الجواب الصحيح" "2/
92"، و"مدارج السالكين" "1/ 494 و3/ 228"، و"شرح الطحاوية"
"498"، و"تفسير القرطبي" "11/ 40 و7/ 39"، و"المقدمة
السالمة" "ص20, بتحقيقي" لعلي القاري، و"مشتهى الخارف
الجاني" "81"، و"شرح مراقي السعود" "288"، و"منهج
الاستدلال على مسائل الاعتقاد" "2/ 638 وما بعدها"،
و"أضواء البيان" "4/ 159"، وسيأتي للمصنف "ص470 وما بعد"
كلام مسهب في هذا الموضوع.
ج / 4 ص -242-
فصل:
ومن ذلك أنه نقل عن سهل بن عبد الله1 في فهم القرآن أشياء
مما يعد من باطنه؛ فقد ذكر عنه أنه قال في قوله تعالى:
{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22]؛ أي: أضدادًا، قال: "وأكبر الأنداد2 النفس الأمارة
بالسوء، المتطلعة إلى حظوظها ومناها3 بغير هدًى من الله".
وهذا يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد،
حتى لو فصل لكان المعنى: فلا تجعلوا لله أندادًا لا صنمًا
ولا شيطانًا ولا النفس ولا كذا، وهذا مشكل الظاهر جدًّا؛
إذ كان مساق الآية ومحصول القرائن فيها يدل على أن الأنداد
الأصنام أو غيرها مما كانو يعبدون، ولم يكونوا يعبدون
أنفسهم ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 له تفسير بعنوان: "تفسير القرآن العظيم" مطبوع في مطبعة
السعادة بالقاهرة، سنة 1326هـ-1908م، في "204 صفحات"، نشره
النعساني، والمذكور عند المصنف فيه "ص14"، وقد رد تفسير
الآية المذكور عند المصنف الشيخ محمد حسين الذهبي في
"الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن" "52"، وانظر غير
مأمور: "منهج ابن تيمية في تفسير القرآن الكريم" "ص60-61".
2 في "تفسير سهل" "ص14": "الأضداد".
3 في النسخ المطبوعة كلها و"ط": "الطواعة إلى حظوظها
ومنهيها"، وما أثبتناه من "تفسير سهل" "ص14"، وكتب "ف" على
"الطواعة": "أي: شديدة الطوع والانقياد إلى حظوظها وما
نهيت عنه".
ج / 4 ص -243-
يتخذونها أربابًا، ولكن له وجه جارٍ على الصحة، وذلك أنه
لم يقل1 إن هذا هو تفسير الآية، ولكن أتى بما هو ند2 في
الاعتبار الشرعي الذي شهد له القرآن من جهتين.
إحداهما3: أن الناظر قد يأخذ من معنى الآية معنى من باب
الاعتبار؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لم يقل: إن هذا المعنى داخل تحت عموم الآية بحيث يدل
عليه نظمها حقيقة أو مجازًا بالدلالة الآلية المعروفة، بل
قال: يفهم من الآية بنوع من الدلالة والفهم شبيه
بالاستنباط الأصولي الذي يرجع فيه إلى اعتبار العقل وتصرفه
وبالأخذ الصرفي الذي يعول فيه على اعتبار المعنى أو تنوعه،
والدلالة على المعاني التي تنكشف لأرباب السلوك من هذا
الطريق تسمى دلالة إشارية، ولا يعول عليها عندهم إلا إذا
أمكن تطبيقها على الظواهر المسوق لها الكلام، بل لا مطمع
في الوصول إليها إلا من طريقها؛ كالبيت لا يتوصل لداخله
إلا بعد ولوج بابه، خلافًا للباطنية الملاحدة الذين ينفون
ظواهر الآيات ويريدون بها معاني أخرى يزعمونها بواطن
القرآن وليست منه في شيء. "ف".
2 أي: جاء بالمعنى في "الند"، وأجراه في الآية وإن لم تنزل
فيه؛ لكونه يعتبر شرعًا كالند الذي نزلت فيه، ويشهد
لاعتبار هذا الإجراء وجهان: أحدهما في نفس موضوع اتخاذ
الأنداد والأرباب، والثاني أعم من ذلك، وهو حذر الصحابة
وخوفهم من تطبيق الآيات التي أنزلت في الكفار عليهم؛
فاجتنبوا لذلك ما ورد خاصًّا بالكفار مما اقتضى اتصاف
هؤلاء بالحرمان، ولو كان من أصل المباحات؛ كالتوسع في أخذ
الحظوظ الدنيوية. "د".
3 في الأسلوب انحراف أدى إلى قلق المعنى؛ وذلك لأن "كون
الناظر في معنى الآية، أخذ معنى..." إلى قوله: "أو
يقاربه"، هذا المقدار عام، وهو شرح لموضوع المعاني
الاعتبارية التي يلتفت إليها الصوفية، وليس خاصًّا بالجهة
الأولى، بل هو جار في الجهة الثانية وغيرها في كل ما روعي
فيه معنى اعتباري؛ فكان المناسب أن يقدم هذا الشرح بعد
قوله: "في الاعتبار الشرعي"، ثم يقول: وهذا الاعتبار الذي
اعتبره سهل يشهد له وجهان: أحدهما خاص بالموضوع، وهو الآية
الأولى؛ فحقيقة الند... إلخ، والثاني عام، وهو الآية
الثانية، ويقول في الثانية: إن لأهل الإسلام نظرًا
واعتبارًا في الآية، فأخذوا من معناها معنى أجروها فيه،
وإن لم تنزل فيه، ويشرحه كما شرح مسألة الند لو صنع ذلك
لاتضح المقام واتسق الكلام. "د".
ج / 4 ص -244-
فيجريه
فيما لم تنزل فيه1 لأنه يجامعه في القصد أو يقاربه؛ لأن
حقيقة الند أنه المضاد لنده الجاري على مناقضته، والنفس
الأمارة هذا شأنها؛ لأنها تأمر صاحبها بمراعاة حظوظها
لاهية أو صادة عن مراعاة حقوق خالقها وهذا هو الذي يعني به
الند في نده؛ لأن الأصنام نصبوها لهذا المعنى بعينه، وشاهد
صحة هذا الاعتبار قوله تعالى:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ
اللَّهِ}
[التوبة: 31]، وهم لم يعبدوهم من دون الله، ولكنهم ائتمروا
بأوامرهم، وانتهوا عما نهوهم عنه كيف كان؛ فما حرموا عليه
حرموه، وما أباحوا لهم حللوه2؛ فقال الله تعالى:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ
اللَّهِ}
[التوبة: 31]، وهذا شأن المتبع لهوى نفسه.
والثانية: أن الآية وإن نزلت في أهل الأصنام؛ فإن لأهل
الإسلام فيها نظرًا بالنسبة إليهم، ألا ترى أن عمر بن
الخطاب [رضي الله عنه] قال3 لبعض من توسع في الدنيا من أهل
الإيمان: "أين تذهب بكم هذه الآية:
{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]؟"، وكان هو يعتبر نفسه بها وإنما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر في ذلك: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 376-377 و16/
148-149".
2 أي: مع أن المحرم والمحلل هو الله، فلما أمرت النفس
صاحبها بمقتضى هواها صادة عن أوامر الله كان فيه معنى
اتخاذها لله ندًّا، كما أن في ائتمارهم وانتهائهم بأوامر
الأحبار هذا الاتخاذ الذي قرره القرآن، ولذلك قال: "وهذا
هو شأن المتبع لهوى نفسه". "د".
قلت: وما ذكره المصنف في تفسير الآية وارد في حديث صحيح،
مضى لفظه وتخريجه "3/ 299".
3 وتقدم أنه أخذه من حديث:
"أَوَفي شك أنت يابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم" الحديث؛ فقد شهد القرآن باعتباره بناء على الحديث المتقدم في مبحث
العموم والخصوص. "د".
قلت: تقدم الأثر وتخريجه "ص34".
ج / 4 ص -245-
أنزلت
في الكفار لقوله:
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ} الآية [الأحقاف: 20]، ولهذا المعنى تقرير في العموم والخصوص، فإذا
كان كذلك؛ صح التنزيل بالنسبة إلى النفس الأمارة في قوله:
{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22]، والله أعلم.
فصل
ومن المنقول عن سهل أيضًا في قوله تعالى:
{وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35]؛ قال1: "لم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة، وإنما
أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غيره، أي: لا تهتم بشيء هو
غيري"، قال: "فآدم لم يعصم من الهمة والتدبير فلحقه ما
لحقه"، قال: "وكذلك كل من ادعى ما ليس له وساكن قلبه
ناظرًا إلى هوى نفسه، لحقه الترك من الله مع ما جبلت عليه
نفسه فيه2؛ إلا أن يرحمه الله فيعصمه من تدبيره، وينصره
على عدوه وعليها".
قال: "وآدم لم يعصم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود
لما أدخل الجنة؛ لأن البلاء في الفرع3 دخل عليه من أجل
سكون القلب إلى ما وسوست
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جعل كلامه في الآية تفسيرًا ومرادًا من كلام الله تعالى
لاستيفائه الشرطين السابقين، بخلاف ما تضمنه الفصل السابق؛
فإنه جعله معنى إشاريًّا، وهو وجيه، وبخلاف ما يأتي في
بقية هذا الفصل عن سهل أيضًا؛ فإنه لم يقبله ولا على
المعنى الإشاري؛ إلا في قوله:
{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْت}
[النساء: 51]، على وجه لأنه لم يستوفِ الشرطين السابقين
المصححين للتفسير، ولم ينطبق عليه المعنى الاعتباري الذي
يتفجر لأهل البصائر من المعاني الشرعية كما سبق، وكما يأتي
في المسألة التالية، وقوله: "مع ما جبلت... إلخ" أي: يتركه
ليتصرف بمقتضى جبلته، وهو هنا حبه للخلود الذي يقتضي أن
يحصل أسبابه بتدبير من عنده. "د".
قلت: والمنقول عن سهل في "تفسيره" "ص15-17".
2 في "د": "عليه"، وفي الأصل و"ف" و"م" و"ط": "فيه" كما
أثبتناه.
3 أي: هذه الجزئية يعني أنه لم يبتل في أصل من أصول الدين
يريد بذلك تهوين الأمر في هذه المخالفة بأنها من الصغائر
لا من الكبائر. "د".
قلت: وفيه إشارة أدبية من الرد على "ف" حيث قال: "لعله فرع
الشجرة الذي أكل منه".
ج / 4 ص -246-
به
نفسه؛ فغلب الهوى والشهوة العلم والعقل بسابق القدر...."
إلى آخر ما تكلم به.
وهذا الذي ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس من أن المراد
النهي عن نفس الأكل لا عن سكون الهمة لغير الله، وإن كان
ذلك منهيًّا عنه أيضًا، ولكن له وجه يجري عليه لمن تأول،
فإن النهي إنما وقع عن1 القرب لا غيره، ولم يرد النهي عن
الأكل2 تصريحًا؛ فلا منافاة بين اللفظ وبين ما فسر به.
وأيضًا؛ فلا يصح حمل النهي على نفس القرب مجردًا إذ لا
مناسبة فيه تظهر، ولأنه لم يقل به أحد، وإنما النهي عن
معنى في القرب، وهو إما التناول والأكل، وإما غيره وهو شيء
ينشأ الأكل عنه وذلك مساكنة الهمة فإنه الأصل في تحصيل
الأكل ولا شك في أن السكون لغير الله لطلب نفع أو دفع منهي
عنه؛ فهذا التفسير له وجه ظاهر، فكأنه يقول: لم يقع النهي
عن مجرد الأكل من حيث هو أكل، بل عما ينشأ عنه الأكل من
السكون لغير الله؛ إذ لو انتهى لكان ساكنًا لله وحده، فلما
لم يفعل وسكن إلى أمر في الشجرة غره به الشيطان، وذلك
الخلد المدعى؛ أضاف الله إليه لفظ العصيان3، ثم تاب عليه،
إنه هو التواب الرحيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "على".
2 في النسخ المطبوعة: "الأول"، وما أثبتناه من الأصل و"ط".
3 والأحوط نظرًا إلى مقام آدم -عليه السلام- أن صدور ما
ذكر منه كان قبل النبوة وكان سهوًا أو عن تأويل، وعلى فرض
وقوعه بعد البعثة؛ فالحق أنه من الصغائر التي لا تنافي
العصمة خصوصًا إذا وقع عن تأويل، وإنما عظم الأمر عليه
وعظم لديه نظرًا إلى علو شأنه ومزيد فضل الله عليه
وإحسانه. وقد شاع: حسنات الأبرار سيئات المقربين. =
ج / 4 ص -247-
247
ومن ذلك أنه قال1 في قوله تعالى:
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} الآية [آل عمران: 96]: "باطن البيت قلب محمد -صلى الله عليه وسلم-
يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد واقتدى بهدايته".
وهذا التفسير يحتاج إلى بيان؛ فإن هذا المعنى لا تعرفه
العرب، ولا فيه من جهتها وضع مجازي مناسب، ولا يلائمه2
مساق بحال؛ فكيف هذا؟
والعذر عنه أنه لم يقع فيه ما يدل على أنه تفسير3 للقرآن؛
فزال الإشكال إذًا، وبقي النظر في هذه الدعوى، ولا بد إن
شاء الله من بيانها4.
ومنه قوله في تفسير قول الله تعالى:
{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ومما يدل على ذلك ما أخرجه البيهقي عن أبي عبد الله
المغربي؛ قال: ففكر إبراهيم في شأن آدم -عليه السلام-
فقال: يا رب! خلقته بيدك، ونفخت فيه من روحك، وأسجدت له
ملائكتك، ثم بذنب واحد ملأت أفواه الناس من ذكر معصيته!
فأوحى الله تعالى إليه: يا إبراهيم! أما علمت أن مخالفة
الحبيب على الحبيب شديدة؟ وبالجملة لا ينبغي لأحد أن ينسب
إليه العصيان اليوم، ولا أن يخبر به؛ إلا أن يكون تاليًا
أو راويًا له عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأما أن
يكون مبتدأ من قبل نفسه فلا. وقد صرح القاضي أبو بكر بن
العربي وارتضاه القرطبي بعدم جواز نسبة العصيان للآباء
إلينا المماثلين لنا؛ فكيف يجوز نسبته للآباء الأقدام،
والنبي المقدم الأكبر، وقد قيل بمثل ذلك في نسبة
المتشابهات إليه تعالى. "ف".
قلت: وانظر "3/ 548" ما قدمناه عن "حسنات الأبرار...".
1 في تفسيره "تفسير القرآن العظيم" "ص41"، وفيه بدل
"واقتدى بهدايته": "من النبي".
2 أي: فهو فاقد للشرطين المتقدمين في التفسير. "د".
3 أي: بل معنى إشاري. "د".
4 وسيأتي البيان في المسألة العاشرة، وأنه إذا كان
الاعتبار من الأمر الوجودي الخارج عن القرآن كهذا؛ فإنه
يلزم التوقف فيه متى لم تتحقق الشروط المتقدمة. "د".
ج / 4 ص -248-
[النساء: 51]، قال1: "رأس الطواغيت كلها النفس الأمارة
بالسوء إذا خلى العبد معها للمعصية".
وهو أيضًا من قبيل ما قبله، وإن فرض أنه تفسير فعلى ما مر2
في قوله تعالى:
{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22].
وقال3 في قوله تعالى:
{وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} الآية
[النساء: 36]: "وأما باطنها؛ فهو القلب،
{وَالْجَارِ الْجُنُبِ}
[النساء: 36]: النفس الطبيعي4،
{وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36]: العقل المقتدي بعمل الشرع،
{وَابْنِ السَّبِيلِ} [النساء: 36]: الجوارح المطيعة لله, عز وجل".
وهو من المواضع المشكلة في كلامه، ولغيره مثل ذلك أيضًا،
وذلك أن الجاري على مفهوم كلام العرب في هذا الخطاب ما هو
الظاهر من أن المراد بالجار ذي القربى وما ذكر معه ما يفهم
منه ابتداء، وغير ذلك لا يعرفه العرب، لا من آمن منهم ولا
من كفر، والدليل على ذلك أنه لم ينقل عن السلف الصالح من
الصحابة والتابعين تفسير للقرآن يماثله أو يقاربه، ولو كان
عندهم معروفًا لنقل لأنهم كانوا أحرى بفهم ظاهر القرآن
وباطنه باتفاق الأئمة5، ولا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما
كان عليه أولها، ولا هم أعرف بالشريعة منهم، ولا أيضًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "تفسيره" "ص46" عند قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ}.
2 أي: يكون أخذه من معنى الآية وإن لم تنزل فيه من
الاعتبار، لكنه فيما مر نفي أن يكون تفسيرًا، وكان هذا أهم
شيء في الجواب عن كلامه في معنى:
{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22]. "د".
3 في "تفسيره" "ص45".
4 في "تفسير سهل": "والجار الجنب: هو الطبيعة". وفي "ط":
"النفس الطبعي".
5 في "ط": "الأمة".
ج / 4 ص -249-
ثم
دليل يدل على صحة هذا التفسير، لا من مساق الآية؛ فإنه
ينافيه1 ولا من خارج؛ إذ لا دليل عليه كذلك، بل مثل هذا
أقرب إلى ما ثبت رده ونفيه عن القرآن من كلام الباطنية ومن
أشبههم.
وقال2 في قوله:
{صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ}
[النمل: 44]: "الصرح" نفس الطبع، و"الممرد" الهوى إذا كان
غالبًا ستر أنوار الهدى، بالترك من الله تعالى العصمة
لعبده.
وفي قوله3:
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا}
[النمل: 52]؛ أي: قلوبهم عند إقامتهم على ما نهوا عنه، وقد
علموا أنهم مأمورون منهيون، والبيوت القلوب؛ فمنها عامرة
بالذكر، ومنها خراب بالغفلة عن الذكر.
وفي قوله:
{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50]؛ قال: "حياة القلوب بالذكر"4، وقال في قوله تعالى:
{ظَهَرَ
الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}
الآية [الروم: 41]: "مثل الله القلب بالبحر، والجوارح
بالبر، ومثله أيضًا بالأرض التي تزهى بالنبات"، هذا
باطنه5.
وقد حمل بعضهم قوله تعالى:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ
يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] على أن المساجد القلوب تمنع بالمعاصي من ذكر الله6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذ كيف ينصب الأمر بالإحسان على هذه الأشياء؟ "د".
2 لا وجود لها في "تفسيره" المطبوع.
3 في "تفسيره" "ص107".
4 في "تفسيره" "ص112".
5 في "تفسيره" "ص112".
6 ذهب إلى نحو هذا القشيري في "لطائف الإشارات" "1/ 115"،
وعبارته:
{وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ
فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114]، إشارة إلى أن الظالم خرب أوطان العبادة بالشهوات،
وأوطان العبادة نفوس العابدين"، ونقل نحوه الآلوسي في "روح
المعاني" "1/ 364-365 في باب الإشارة في الآية"، وابن
العربي في "قانون التأويل" "ص224-225".
ج / 4 ص -250-
ونقل
في قوله تعالى:
{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] أن باطن النعلين هو الكونان: الدنيا، والآخرة1؛ فذكر عن
الشبلي أن معنى
{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:
12]: اخلع الكل منك تصل إلينا بالكلية، وعن ابن عطاء:
{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} عن الكون؛ فلا تنظر إليه بعد هذا الخطاب، وقال: النعل النفس،
والوادي المقدس دين المرء، أي: حان وقت خلوك من نفسك،
والقيام معنا بدينك، وقيل غير ذلك مما يرجع إلى معنى لا
يوجد في النقل عن السلف.
وهذا كله إن صح نقله خارج2 عما تفهمه العرب، ودعوى3 ما لا
دليل عليه في مراد الله بكلامه، ولقد قال الصديق: "أي سماء
تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر نحوه القشيري في "لطائف الإشارات" "2/ 448"،
والآلوسي في "روح المعاني" "16/ 169"، وقال: "ولا يخفى
عليك أنه بعيد"، وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/
238".
"2 و3" فهو فاقد الشرطين السابقين. "د".
قلت: وانظر لزامًا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 376 و13/
237 وما بعدها"، و"مقدمة في أصول التفسير" "ص86-89, تحقيق
زرزور"، و"الإحياء" "1/ 37"، والباب الخامس من كتاب "فضائح
الباطنية" للغزالي.
4 له طرق كثيرة عن أبي بكر بألفاظ متعددة، سيأتي عند
المصنف "ص276" لفظان فيها، وهي لا تخلو من كلام أو انقطاع،
ولكنه بمجموعها يصل إلى درجة الحسن إن شاء الله تعالى، كما
قال الحافظ ابن حجر وغيره، وهذا التفصيل:
أخرجه مسدد في "مسنده" كما في "المطالب العالية" "ق 135/ ب
و3/ 300/ رقم 3527" المطبوعة من طريق عبد الله بن مرة،
والطبري في "تفسيره" "1/ 78/ رقم 78، 79" من طريق إبراهيم
النخعي، وعبد الله بن مرة، وابن عبد البر في "جامع بيان
العلم" "2/ 833-834/ =
ج / 4 ص -251-
...............................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رقم 1561, ط الجديدة" من طريق إبراهيم النخعي عن أبي
معمر عن أبي بكر به.
وإسناده منقطع، أبو معمر هو عبد الله بن سخبرة الأزدي، لم
يسمع من أبي بكر, وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "6/
317"، وابن حجر في "الفتح" "13/ 271" لعبد بن حميد من طريق
النخعي عن أبي بكر من غير ذكر أبي معمر، قال ابن حجر:
"وهذا منقطع بين النخعي والصديق".
قال ابن عبد البر عقبه: "وذكر مثل هذا عن أبي بكر الصديق:
ميمون بن مهران، وعامر الشعبي، وابن أبي مليكة".
قلت: أخرجه من طريق ابن أبي مليكة: سعيد بن منصور في
"سننه" "1/ 168/ رقم 39, ط الجديدة" -ومن طريقه البيهقي في
"المدخل" "رقم 792"- بإسناد صحيح إلى ابن أبي مليكة، وهو
لم يسمع من أبي بكر الصديق, رضي الله عنه.
وأخرجه من طريق الشعبي, ابن أبي شيبة في "المصنف" "10/
512/ رقم 10152"، والخطيب في "الجامع" "2/ 193/ رقم 1585"،
وروايته عن أبي بكر مرسلة، وأخرجه أبو عبيد في "فضائل
القرآن" "رقم 824 وص227, ط غاوجي"، و
أبي شيبة في "المصنف" "10/ 513/ رقم 65101", وعبد بن حميد
في "تفسيره", ومن طريقه الثعلبي في "تفسيره"، قاله الزيلعي
في "تخريج أحاديث الكشاف" "4/ 158" بإسناد صحيح إلى العوام
بن حوشب عن إبراهيم التيمي به.
والعوام ثقة ثبت؛ فإسناده صحيح إلا أنه منقطع بين التيمي
وأبي بكر؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مقدمة أصول
التفسير" "ص 108"، و"مجموع الفتاوى" "13/ 372"، والزيلعي
في "تخريج أحاديث الكشاف" "4/ 158"، وابن كثير في "تفسيره"
"1/ 5 و4/ 473"، وابن حجر في "الفتح" "13/ 271".
وأخرجه البيهقي في "الشعب" "5/ 228/ رقم 2082" من طريق علي
بن زيد بن جدعان عن القاسم بن محمد أن أبا بكر الصديق, رضي
الله عنه... وذكر نحوه.
وإسناده ضعيف، فيه ابن جدعان وهو ضعيف، والقاسم بن محمد
روايته عن جده مرسلة؛ كما قال العلائي في "جامع التحصيل"
"ص310".
والأثر بمجموع هذه الطرق لا ينزل عن مرتبة الحسن؛ فقد ساقه
ابن حجر في "الفتح" من طرق التيمي والنخعي، وأعلهما
بالانقطاع، وقال: "لكن أحدهما يقوي الآخر".
ج / 4 ص -252-
وفي
الخبر:
"من قال في القرآن برأيه فأصاب؛ فقد أخطأ"1.
وما أشبه ذلك من التحذيرات، وإنما احتيج إلى هذا كله
لجلالة من نقل عنهم ذلك من الفضلاء، وربما ألم الغزالي
بشيء منه في "الإحياء" وغيره، وهو مزلة قدم لمن لم يعرف
مقاصد القوم؛ فإن الناس في أمثال هذه الأشياء بين قائلين:
منهم من يصدق به ويأخذه على ظاهره، ويعتقد أن ذلك هو مراد
الله تعالى من كتابه، وإذا عارضه ما ينقل في كتب التفسير
على خلافه؛ فربما كذب به أو أشكل عليه، ومنهم من يكذب به
على الإطلاق، ويرى أنه تقول وبهتان، مثل ما تقدم من تفسير
الباطنية ومن حذا حذوهم، وكلا الطريقين فيه ميل عن
الإنصاف، ولا بد قبل الخوض في رفع الإشكال من تقدم أصل
مسلم، يتبين به ما جاء من هذا القبيل، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ما جاء
في الذي يفسر القرآن برأيه، 5/ 200/ رقم 2952"، وأبو داود
في "السنن" "كتاب العلم، باب الكلام في كتاب الله بغير
علم، 3/ 320/ رقم 3652"، والنسائي في "فضائل القرآن" "رقم
111"، وأبو يعلى في "المسند" "3/ 90/ رقم 1520"،
و"المفاريد" "رقم 32"، وابن بطة في "الإبانة" "2/ 614/ رقم
798"، عن جندب بن عبد الله البجلي مرفوعًا.
وإسناده ضعيف، فيه سهيل بن أبي حزم ليس بالقوي، قال
الترمذي: "وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم"،
وله شاهد لا يفرح به عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ:
"من قال في
القرآن بغير علم؛ فليتبوأ مقعده من النار".
أخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 4023"، وابن بطة في
"الإبانة" "رقم 799"، وهو ضعيف أيضًا.
وانظر: "الإيمان" "273" لابن تيمية، و"شرح العقيدة
الطحاوية" "167"، و"رفع الأستار" "111".
ج / 4 ص -253-
المسألة العاشرة:
فنقول: الاعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الظاهرة
للبصائر، إذا صحت على كمال شروطها؛ فهي على ضربين:
أحدهما: ما يكون أصل انفجاره من القرآن، ويتبعه سائر
الموجودات؛ فإن الاعتبار الصحيح في الجملة هو الذي يخرق
نور البصيرة فيه حجب1 الأكوان من غير توقف، فإن توقف؛ فهو
غير صحيح أو غير كامل، حسبما بينه أهل التحقيق بالسلوك2.
والثاني: ما يكون أصل انفجاره من الموجودات جزئيها أو
كليها، ويتبعه الاعتبار في القرآن3.
فإن كان الأول؛ فذلك الاعتبار صحيح، وهو معتبر في فهم باطن
القرآن من غير إشكال لأن فهم القرآن، إنما يرد على القلوب
على وفق ما نزل له القرآن وهو الهداية التامة على ما يليق
بكل واحد من المكلفين وبحسب4 التكاليف وأحوالها، لا
بإطلاق، وإذا كانت كذلك؛ فالمشي على طريقها مشي على الصراط
المستقيم، ولأن الاعتبار القرآني قلما يجده إلا من كان من
أهله عملًا به على تقليد أو اجتهاد؛ فلا يخرجون عند
الاعتبار فيه عن حدوده، كما لم يخرجوا في العمل به والتخلق
بأخلاقه عن حدوده، بل تنفتح لهم أبواب الفهم فيه على توازي
أحكامه، ويلزم من ذلك أن يكون معتدًّا به لجريانه على
مجاريه، والشاهد على ذلك ما نقل من فهم السلف الصالح فيه؛
فإنه كله جارٍ على ما تقتضي به العربية، وما تدل عليه
الأدلة الشرعية حسبما تبين قبل.
وإن كان الثاني؛ فالتوقف عن اعتباره في فهم باطن القرآن
لازم، وأخذه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "حجاب".
2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 377".
3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 240-241".
4 في "ط": "بحسب".
ج / 4 ص -254-
على
إطلاقه فيه ممتنع لأنه بخلاف الأول؛ فلا يصح إطلاق القول
باعتباره في فهم القرآن؛ فنقول:
إن تلك الأنظار الباطنة في الآيات المذكورة إذا لم يظهر
جريانها على مقتضى الشروط المتقدمة؛ فهي راجعة إلى
الاعتبار غير القرآني، وهو الوجودي1، ويصح تنزيله على
معاني القرآن لأنه وجودي2 أيضًا؛ فهو مشترك من تلك الجهة
غير خاص؛ فلا يطالب فيه المعتبر بشاهد موافق إلا ما يطالبه
[به] المربي، وهو أمر خاص، وعلم منفرد بنفسه لا يختص بهذا
الموضع فلذلك يوقف على محله، فكون القلب جارًا ذا قربى،
والجار الجنب هو النفس الطبيعي، إلى سائر ما ذكر؛ يصح
تنزيله اعتباريًّا مطلقًا، فإن مقابلة الوجود بعضه ببعض في
هذا النمط صحيح وسهل جدًّا عند أربابه، غير أنه مغرر بمن
ليس براسخ أو داخل تحت إيالة راسخ.
وأيضًا فإن من ذكر عنه مثل ذلك من المعتبرين لم يصرح بأنه
المعنى المقصود المخاطب به الخلق بل أجراه مجراه وسكت عن
كونه هو المراد، وإن جاء شيء من ذلك وصرح صاحبه أنه هو
المراد؛ فهو من أرباب الأحوال الذين لا يفرقون بين
الاعتبار القرآني والوجودي، وأكثر ما يطرأ هذا لمن هو بعد
في السلوك، سائر على الطريق لم يتحقق بمطلوبه، ولا اعتبار
بقول من لم يثبت اعتبار قوله من الباطنية وغيرهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثال الاعتبار الخارجي ما يروونه عن بعضهم في معنى قوله
تعالى:
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، قال: ألف شهر هي مدة الدولة الأموية؛ لأنها مكثت
ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر، وأن ذلك من الله تسلية
لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث أطلعه على ملوك بني
أمية واحدًا واحدًا؛ فسري عنه بهذه السورة، هذا المعنى لم
يؤخذ من القرآن، بل أخذ من الخارج والواقع في ذاته بمصادفة
مطابقة العدد، واللفظ لا ينبو عنه، لكنه لا دليل من الشرع
على كونه هو المعنى المقصود. "د". وفي "ط": "الوجدي".
2 في "ط": "وجدي".
ج / 4 ص -255-
وللغزالي في "مشكاة الأنوار" وفي كتاب1 الشكر من "الإحياء"
وفي كتاب2 "جواهر القرآن" [في الاعتبار القرآني]3 وغيره ما
يتبين به لهذا الموضع أمثلة؛ فتأملها هناك، والله الموفق
[للصواب].
فصل:
وللسنة في هذا النمط مدخل، فإن كل واحد منهما قابل لذلك
الاعتبار المتقدم الصحيح الشواهد، وقابل أيضًا للاعتبار
الوجودي؛ فقد فرضوا نحوه في قوله, عليه الصلاة والسلام:
"لا تدخل
الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة"4 إلى
غير ذلك من الأحاديث، ولا فائدة في التكرار إذا وضح طريق
الوصول إلى الحق والصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مما جاء فيه "4/ 86" أن قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
يَضْحَكُونَ...}
إلى قوله:
{وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 29-33] إشارة إلى ضحك الجاهلين وتغامزهم على أهل
السلوك، وقولهم: كيف يقولون: فني الشخص عن نفسه، وإنه
ليأكل أرطالًا من الخبز في اليوم، وطوله كذا وعرضه كذا؟
قال: وكذلك أمة نوح كانوا يضحكون عليه عند صنعه للسفينة؛
فقال:
{إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} [هود: 38]. "د".
2 منه "ص43" أن الفاتحة اشتملت من الأقسام العشرة التي هي
علوم القرآن على ثمانية منها، وهي ما عدا محاجة الكفار
وأحكام الفقهاء، ويتبين بهذا أنهما واقعان في الصنف الأخير
من مراتب العلوم، وما قدمهما إلا حب المال والجاه فقط، ثم
قال "ص43": "إن الفاتحة مفتاح الكتاب ومفتاح الجنة؛ فأبواب
الجنة ثمانية، ومعاني الفاتحة ترجع إلى ثمانية..."؛ فهذا
من نوع الاعتبارات القرآنية، وقد أوضحه هناك بأن كل قسم
بفتح باب بستان من بساتين المعرفة، وأن روح العارف لتفرح
وتنشرح في رياض المعرفة بما لا يقل عن انشراح من يدخل
الجنة التي يعرفها. "د".
قلت: وناقش أبا حامد الغزالي في كلامه هذا ابن العربي
المالكي في "قانون التأويل" "ص236 وما بعدها"؛ فانظره فإنه
مفيد.
3 سقط من "ط".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب اللباس، باب التصاوير،
10/ 380/ رقم 5949"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب اللباس
والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، 3/ =
ج / 4 ص -256-
المسألة الحادية عشرة:
المدني من السور ينبغي أن يكون منزلًا في الفهم على المكي،
وكذلك المكي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض، على حسب
ترتيبه في التنزيل، وإلا لم1 يصح، والدليل على ذلك أن معنى
الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي، كما أن المتأخر
من كل واحد منهما مبني على متقدمه، دل على ذلك الاستقراء،
وذلك إنما يكون ببيان مجمل، أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق،
أو تفصيل ما لم يفصل، أو تكميل ما لم يظهر تكميله2.
وأول شاهد على هذا أصل3 الشريعة؛ فإنها جاءت متممة لمكارم
الأخلاق، ومصلحة لما أفسد قبل من ملة إبراهيم -عليه
السلام- ويليه تنزيل سورة الأنعام؛ فإنها نزلت مبينة
لقواعد العقائد وأصول الدين، وقد خرج4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 1665/ رقم 2106" عن أبي طلحة الأنصاري -رضي الله عنه-
مرفوعًا.
ويشير المصنف في الاستدلال بهذا الحديث على ما قاله ابن
القيم في "الكلام في مسألة السماع" "ص397-398": "فإذا منع
الكلب والصورة دخول الملك إلى البيت؛ فكيف تدخل معرفة الرب
ومحبته في قلب ممتلئ بكلاب الشهوات وصورها؟!".
1 ف "ط": "وإن لم".
2 انظر في ذلك: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "15/ 159-160 و17/
125-126".
3 أي: إن الشريعة جاءت مبنية على ما سبقها من شريعة
إبراهيم، مصححة لما غيروه منها ومكملة لها؛ فليكن هذا نفسه
في إجراء بعضها مع بعض يكون المتأخر منها مكملًا لسابقه
ومبنيًّا عليه، ويلي هذا الشاهد شاهد نزول سورة الأنعام
التي هي من أوائل السور المكية؛ فإنك تجدها معنية بالأصول
والعقائد، ثم جاءت سورة البقرة مفصلة لتلك القواعد، مبينة
أقسام أفعال المكلفين... إلخ. "د".
4 انظر في ذلك: "تصور الألوهية كما تعرضه سورة الأنعام"،
و"معركة النبوة مع المشركين أو قضية الرسالة كما تعرضها
صورة الأنعام، كلاهما لأستاذنا الشيخ إبراهيم الكيلاني،
طبع مكتبة الأقصى - عمان.
ج / 4 ص -257-
العلماء منها قواعد التوحيد التي صنف فيها المتكلمون من
أول إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة، هذا ما قالوا.
وإذا نظرت1 بالنظر المسوق في هذا الكتاب؛ تبين به من قرب
بيان القواعد الشرعية الكلية، التي إذا انخرم منها كلي
واحد انخرم نظام الشريعة، أو نقص منها أصل كلي.
ثم لما هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة
كان من أول ما نزل عليه سورة البقرة، وهي التي قررت قواعد
التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام؛ فإنها بينت من
أقسام أفعال المكلفين جملتها، وإن تبين في غيرها تفاصيل
لها كالعبادات2 التي هي قواعد الإسلام، والعادات من أصل
المأكول والمشروب وغيرهما، والمعاملات من البيوع والأنكحة
وما دار بها، والجنايات من أحكام الدماء وما يليها.
وأيضًا؛ فإن حفظ الدين فيها، وحفظ النفس والعقل والنسل
والمال مضمن فيها، وما خرج عن المقرر فيها؛ فبحكم التكميل،
فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبني عليها، كما
كان غير الأنعام من المكي المتأخر عنها مبنيًّا عليها،
وإذا تنزلت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب؛
وجدتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إلى سورة الأنعام بالنظر الكلي الأصولي الذي يعني به
كتاب "الموافقات" نبين لك بجلاء اشتمالها على الأصول
والكليات في الشريعة بالوصف الذي قاله، وكأنه لم ير أن
يأخذ على عهدته اشتمالها على جميع قواعد التوحيد التي
ذكروها في علم التوحيد إلى مبحث الإمامة، وأيضًا؛ فقواعد
الشريعة -بالوصف الذي ذكره من أنها "إذا انخرم منها كلي...
إلخ"- لا تخص قواعد التوحيد، بل تكون في العمليات أيضًا من
بقية الضروريات والحاجيات... إلخ، ولم يذكروا اشتمالها
عليها؛ فهو يزيد على كلامهم ببيان أنها تشتمل عليها أيضًا؛
فلهذا وذاك قال: "هذا ما قالوه"، فقوله: "وإذا نظرت"
كالاستدراك على كلامهم بالزيادة والنقص. "د".
2 هي وما بعدها أمثلة لما بينته سورة البقرة من أفعال
المكلفين. "د".
ج / 4 ص -258-
كذلك،
حذو القذة بالقذة1؛ فلا يغيبن عن2 الناظر في الكتاب هذا
المعنى؛ فإنه من أسرار علوم التفسير، وعلى حسب المعرفة به
تحصل له المعرفة بكلام ربه سبحانه.
فصل:
وللسنة هنا مدخل؛ لأنها مبينة للكتاب؛ فلا تقع في التفسير
إلا على وفقه، وبحسب المعرفة بالتقديم والتأخير يحصل بيان
الناسخ من المنسوخ في الحديث، كما يتبين ذلك في القرآن
أيضًا، ويقع في الأحاديث أشياء تقررت قبل تقرير كثير من
المشروعات؛ فتأتي فيها إطلاقات أو عمومات ربما أوهمت، ففهم
منها, يفهم منها لو وردت بعد تقرير تلك المشروعات؛ كحديث:
"من
مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله؛ دخل الجنة"3.
أو حديث:
"ما من
أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صادقًا
من قلبه؛ إلا حرمه الله على النار"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القذة؛ بالضم: ريش السهام، وهو مثل يضرب للشيئين يستويان
ولا يتفاوتان. "ف". وقال "ماء": "أي: الشيء الذي يقصص على
الشيء كالنعل ونحوه".
2 هكذا في "د" وفي الأصل، و"ف" و"م" و"ط": "على".
3 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن
من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/ 55/ رقم 26"،
والنسائي في "عمل اليوم والليلة" "رقم 1115"، وأبو عوانة
في "المسند" "1/ 6، 7"، وأحمد في "المسند" "1/ 65، 69"،
وابن منده في "الإيمان" "رقم 32" عن عثمان بن عفان
مرفوعًا.
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب
قوله:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ...}، 6/ 474/ رقم 3435"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل
على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/ 57-58/ رقم
29" عن عبادة بن الصامت مرفوعًا. =
ج / 4 ص -259-
وفي
المعنى أحاديث كثيرة وقع من أجلها الخلاف بين الأمة فيمن
عصى الله من أهل الشهادتين؛ فذهبت المرجئة إلى القول
بمقتضى هذه الظواهر على الإطلاق، وكان ما عارضها مؤولًا1
عند هؤلاء، وذهب أهل السنة والجماعة إلى خلاف ما قالوه،
حسبما هو مذكور في كتبهم وتأولوا هذه الظواهر.
ومن جملة ذلك أن طائفة من السلف قالوا: إن هذه الأحاديث
منزلة على الحالة الأولى للمسلمين، وذلك قبل أن تنزل
الفرائض والأمر والنهي، ومعلوم أن من مات في ذلك الوقت ولم
يصل أو لم يصم مثلًا، وفعل ما هو محرم في الشرع لا حرج
عليه؛ لأنه لم يكلف بشيء من ذلك بعد، فلم يضيع من أمر
إسلامه شيئًا، كما أن من مات والخمر في جوفه قبل أن تحرم؛
فلا حرج عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال "د": "فالتمثيل بمثله يحتاج إلى تحقق أنه كان قبل
تقرير المشروعات من صلاة وصوم وحج وجهاد وغيرها، وذلك
بعيد؛ فإن الحديث ورد في المدينة بعد فرضية الصلوات الخمس
في مكة؛ فليراجع، نعم، إن حديث أبي ذر: "بشرني بأن من مات
لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة"، يمكن أن يكون في أوائل
التشريع لتقدم إسلام أبي ذر؛ إلا أن قوله فيه: "وإن زنى
وإن سرق" يفيد أنه ورد بعد تقرر حرمة الزنى والسرقة، وأقوى
شبهة ترد على ما يقرره المؤلف في هذا ما سبق من حديث أبي
هريرة وأخذه نعلي رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ومشيه
في الطريق يبشر الناس بهذه البشرى نفسها، وقول عمر للرسول:
هل أرسلت أبا هريرة بهذه البشرى؟ قال:
"نعم".
فقال له عمر: "دعهم لئلا يتكلوا"؛ فإن إسلام أبي هريرة كان
في السنة السابعة من الهجرة بعد تقرر غالب أحكام الشريعة".
أما "ف"؛ فاختصر الكلام، فقال: "رده الإمام النووي في "شرح
مسلم" بأن راوي بعض هذه الأحاديث أبو هريرة, رضي الله عنه
-وهو متأخر الإسلام، أسلم عام خيبر سنة سبع بالاتفاق-
وكانت أحكام الشريعة كالصلاة والصيام والزكاة وغيرها وكذا
الحج على الراجح من فرضه سنة خمس أو ست متقررة، وذكر لهذه
الأحاديث ونحوها تأويلات، حكاها عن القاضي عياض وغيره لا
يتسع المجال لإيرادها؛ فلتراجع".
1 في الأصل: "مؤول". وفي "ط": "مأول".
ج / 4 ص -260-
لقوله
تعالى:
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الآية [المائدة: 93]، وكذلك من مات قبل أن تحول القبلة نحو الكعبة
لا حرج عليه في صلاته إلى بيت المقدس لقوله تعالى:
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143].
وإلى1 أشياء من هذا القبيل فيها بيان لما نحن فيه، وتصريح
بأن اعتبار الترتيب في النزول مفيد في فهم الكتاب والسنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "إلى..." بدون واو.
ج / 4 ص -261-
المسألة الثانية عشرة:
ربما أخذ تفسير القرآن على التوسط والاعتدال، وعليه أكثر
السلف المتقدمين، بل ذلك شأنهم، وبه كانوا أفقه الناس فيه،
وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه.
وربما أخذ على أحد الطرفين الخارجين عن الاعتدال: إما على
الإفراط، وإما على التفريط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
فالذين أخذوه على التفريط قصروا في فهم1 اللسان الذي به
جاء، وهو العربية، فما قاموا في تفهم2 معانيه ولا قعدوا،
كما تقدم عن الباطنية وغيرها، ولا إشكال في اطراح التعويل
على هؤلاء.
والذين أخذوه على الإفراط أيضًا قصروا في فهم معانيه من
جهة أخرى، وقد تقدم في كتاب المقاصد3 بيان أن الشريعة
أمية، وأن ما لم يكن معهودًا عند العرب؛ فلا يعتبر فيها،
ومر فيه أنها لا تقصد التدقيقات4 في كلامها، ولا تعتبر
ألفاظها كل الاعتبار5 إلا من جهة ما تؤدي المعاني المركبة،
فما وراء ذلك إن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قصروا في فهمه من جهة اللسان الذي جاء به، وحاولوا
حمله على معان لا تعرفها العرب. "د".
2 في "ط": "تفهيم".
3 انظر ما مضى "2/ 109".
4 لكن هذا خلاف ما ذكروه من نقدهم للشعر من جهة لفظه، كما
ورد في قصة الخنساء ونقدها المشهور لحسان في قوله: "لنا
الجفنات الغر يلمعن في الضحى... البيتين"، حيث لاحظت عليه
في ثمانية مواضع كلها ترجع إلى نقد اللفظ، وأنه لو عبر
بغيره كان أحسن؛ فقالت: هلا قلت: "الجفان"؛ لأن الجفنات
عدد قلة، ولو قلت: "يجرين" بدل "يقطرن"، ولو قلت: "يشرقن"
بدل "يلمعن"... إلخ؛ إلا أن يقال: إنها ملاحظات ترجع إلى
تحسين المعنى وتجويده، لا إلى اللفظ وتحسينه. "د". قلت:
وتذكر القصة عن النابغة أيضًا، انظر: "شرح ديوان حسان"
"ص425".
5 في "م": "الاعتبارات".
ج / 4 ص -262-
كان
مقصودًا لها؛ فبالقصد الثاني، ومن جهة ما هو معين على
إدراك المعنى المقصود، كالمجاز والاستعارة والكناية، وإذا
كان كذلك؛ فربما لا1 يحتاج فيه إلى فكر، فإن احتاج الناظر
فيه إلى فكر؛ خرج عن نمط الحسن إلى نمط القبح والتكلف،
وذلك ليس من كلام العرب، فكذلك لا يليق بالقرآن من باب
الأولى.
وأيضًا؛ فإنه حائل2 بين الإنسان وبين المقصود من الخطاب،
من التفهم لمعناه ثم التعبد بمقتضاه، وذلك أنه إعذار
وإنذار، وتبشير وتحذير، ورد إلى الصراط المستقيم؛ فكم بين
من فهم معناه ورأى أنه مقصود العبارة فداخله من خوف الوعيد
ورجاء الموعود ما صار به مشمرًا عن ساعد الجد والاجتهاد،
باذلًا غاية الطاقة في الموافقات، هاربًا بالكلية عن
المخالفات، وبين من أخذ في تحسين الإيراد والاشتغال بمآخذ
العبارة ومدارجها، ولم اختلفت مع مرادفتها مع أن المعنى
واحد، وتفريع التجنيس ومحاسن الألفاظ، والمعنى المقصود في
الخطاب بمعزل عن النظر فيه؟!
كل عاقل يعلم أن مقصود الخطاب ليس هو التفقه في العبارة،
بل التفقه في المعبر عنه وما المراد به، هذا لا يرتاب فيه
عاقل.
ولا يصح أن يقال: إن التمكن في التفقه في الألفاظ
والعبارات وسيلة إلى التفقه في المعاني بإجماع العلماء؛
فكيف يصح إنكار ما لا يمكن إنكاره؟ ولأن الاشتغال بالوسيلة
والقيام بالفرض الواجب فيها دون3 الاشتغال بالمعنى المقصود
لا ينكر في الجملة، وإلا لزم ذم علم العربية بجميع أصنافه،
وليس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "كان ذلك قريبًا لا...".
2 لأنه شغل كبير بما لا يعني، مضيع للوقت فيما ليس
مقصودًا؛ فيحول عن المقصود كما بينه بقوله: "فكم بين من
فهم... إلخ". "د".
3 أي: قبل الاشتغال. "د".
ج / 4 ص -263-
كذلك
باتفاق العلماء.
لأنا نقول: ما ذكرته في السؤال لا ينكر بإطلاق، كيف
وبالعربية فهمنا عن الله تعالى مراده من كتابه؟ وإنما
المنكر الخروج في ذلك إلى حد الإفراط، الذي يشك في كونه
مراد المتكلم، أو يظن أنه غير مراد، أو يقطع به فيه؛ لأن
العرب لم يفهم منها قصد مثله في كلامها ولم يشتغل بالتفقه
فيه سلف هذه الأمة؛ فما يؤمننا من سؤال الله تعالى لنا يوم
القيامة: من أين فهمتم عني أني قصدت1 التجنيس الفلاني بما
أنزلت من قولي:
{وَهُمْ
يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}
[الكهف: 104]، أو قولي:
{قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168]؟ فإن في دعوى مثل هذا على القرآن، وأنه مقصود
للمتكلم به خطرًا، بل هو راجع إلى معنى2 قوله تعالى:
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ
مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا
وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}
[النور: 15]، وإلى أنه قول في كتاب الله بالرأي، وذلك
بخلاف الكناية في قوله تعالى:
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6].
وقوله:
{كَانَا
يَأْكُلانِ الطَّعَامَ}
[المائدة: 75].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يلزم من التعريف عن وجود الجناس في القرآن أن يدعى
أنه مقصود لله، بل على تسليم أن هذا ليس مما يجري على
مقاصد العرب في كلامهم، يكون وقوع الجناس مما اتفق، كما
اتفق أن هناك فقرًا من الآيات موافقة لشطرات من بحور
الشعر, كما في قوله:
كسر الجرة عمدًا
وملأ الأرض شرابا
قلت لما غاب عقلي
ليتني كنت ترابا
فمن أين لنا أن من
يستخرج الجناسات من القرآن يدعي أنها مقصودة لله في خطابه؟
حتى يكون فيه هذا الحظر. "د".
قلت: انظر "إعجاز القرآن" للباقلاني "ص51, تحقيق السيد
صقر".
2 وإنما قال: "إلى المعنى" لما هو ظاهر من أن الآيات في
حادثة معينة، وهي حادثة الإفك؛ فيكون تنزيل الآية على ما
نحن فيه من باب الاعتبارات ودلالة الإشارات. "د".
ج / 4 ص -264-
وما
أشبه ذلك؛ فإنه شائع في كلام العرب، مفهوم من مساق الكلام،
معلوم اعتباره عند أهل اللسان ضرورة، والتجنيس ونحوه ليس
كذلك، وفرق ما بينهما خدمة المعنى المراد وعدمه؛ إذ ليس في
التجنيس ذلك، والشاهد على ذلك ندوره من1 العرب الأجلاف
البوالين على أعقابهم -كما قال أبو عبيدة- ومن كان نحوهم،
وشهرة الكناية وغيرها، ولا تكاد تجد ما هو نحو التجنيس إلا
في كلام المولدين ومن لا يحتج به؛ فالحاصل أن لكل علم
عدلًا وطرفا إفراط وتفريط، والطرفان هما المذمومان، والوسط
هو المحمود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "عن".
ج / 4 ص -265-
المسألة الثالثة عشرة:
مبنية1 على ما قبلها؛ فإنه إذا تعين أن العدل في الوسط؛
فمأخذ الوسط ربما كان مجهولًا، والإحالة على مجهول لا
فائدة فيه؛ فلا بد من ضابط يعول عليه في مأخذ الفهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 محصول المسألة قبلها أن بعض الناس يفرط في تفهمه للقرآن؛
فيحمله على غير ما تقتضيه اللغة العربية كالباطنية
وأشباههم، وبعضهم يفرط في جلب مباحث اللغة حوله؛ فيحمله
زيادة عما يقصده العرب في مخاطباتهم بمثله مما لم ينظر
بمثله السلف فيه كالمحسنات اللفظية وادعاء أنه ذكر لفظ كذا
دون مرادفه بقصد كذا، وهذا تقول على الله؛ فلا بد من طريق
وسط، أما هذه المسألة؛ فمحصلها إرشاد إلى طريقة فهم الكتاب
من ناحية ربط بعض جمله المشتركة في قضية واحدة، وأنه
بمعاضدة بعضها لبعض يتبين مقصود الخطاب، ويتبين فقه
الكلام، وأنه لا يؤخذ جملة منقطعة عن سابقها ولاحقها، وأن
السور النازلة في قضية واحدة أمرها في ذلك ظاهر كما مثل،
أما السور المشتملة على قضايا كثيرة؛ فهل ينظر فيها إلى
ترتيب السورة كلها ككلام واحد؟ قال: نعم، إن ذلك يفيد من
وجهة الإعجاز، وإدراك انفراد الكتاب بمرتبة في البلاغة لا
تنال، ثم ذكر في الفصل بعدها أنه هل يفيد النظر فيما بين
السور بعضها مع بعض؟ هذه خلاصة المسألتين؛ فأين ابتناء هذه
المسألة على ما قبلها وكل منهما في ناحية؟ نقول: نعم، إن
النظر في الجملة الواحدة، والجمل المشتركة في القضية وفيما
بين السورة كلها ولو كانت متعددة القضايا إنما يكون وسيلة
اللغة العربية وقواعدها المعروفة في فنونها؛ فكأنه يقول:
إن ما نحتاج إليه من ذلك ما يكون معينًا على فهم الجمل
منفردة ومنضمة إلى أخواتها في قضية أو قضايا، وما زاد أو
نقص عنه؛ فإفراط أو تفريط؛ فهذا هو الضابط الذي نأخذ به من
مباحث اللغة، وكلامه لا ينافي أنه لا بد أيضًا من الوسائل
الستة المتقدمة له، من أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ،
والمكي والمدني، وعلم القراءات وعلم الأصول، وقد أشار إلى
بعض ذلك بقوله: "وقد يعينه على هذا المقصد النظر في أسباب
التنزيل"، وعليك بالتأمل في المقام لتعرف هل لا بد للفهم
الوسط من ملاحظة هذين الأمرين من الأمور الستة المشار
إليها، وإذا تذكرت ما سبق له من بناء المدني بعضه على بعض
والمكي كذلك وبناء المدني على المكي؛ لاح لك وجه الحاجة في
هذا المقام أيضًا إلى معرفة المكي والمدني، فاستمد المعونة
منه تعالى لتصل إلى علم نافع. "د".
ج / 4 ص -266-
والقول
في ذلك -والله المستعان- أن المساقات تختلف باختلاف
الأحوال والأوقات والنوازل، وهذا معلوم في علم المعاني
والبيان؛ فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم
و1الالتفات إلى أول الكلام وآخره، بحسب2 القضية وما اقتضاه
الحال فيها، لا ينظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون
أولها، فإن القضية وإن اشتملت على جمل؛ فبعضها متعلق
بالبعض لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد، فلا محيص
للمتفهم عن رد3 آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، وإذ
ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرق النظر في
أجزائه؛ فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في
النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض، إلا في موطن واحد،
وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه،
لا بحسب مقصود المتكلم، فإذا صح له الظاهر على العربية؛
رجع إلى نفس الكلام، فعما قريب يبدو له منه المعنى المراد؛
فعليه بالتعبد به، وقد يعينه على هذا المقصد النظر في
أسباب التنزيل؛ فإنها تبين كثيرًا من المواضع التي يختلف
مغزاها على الناظر.
غير أن الكلام المنظور فيه تارة يكون واحدًا بكل اعتبار،
بمعنى أنه أنزل في قضية واحدة طالت أو قصرت، وعليه أكثر
سور المفصل، وتارة يكون متعددًا في الاعتبار، بمعنى أنه
أنزل في قضايا متعددة؛ كسورة البقرة، وآل عمران، والنساء،
واقرأ باسم ربك، وأشباهها ولا علينا أنزلت السورة بكمالها
دفعة واحدة، أم نزلت شيئًا بعد شيء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الواو زائدة وما بعدها خبر عن الذي، أي: إن الضابط
الذي يلزم أن يكون على بال من يريد الفهم هو الالتفات...
إلخ. "د". قلت: هي في "ط": "المستمع المتفهم الالتفات".
2 لا بحسب السورة برمتها دائمًا؛ فقد تكون السورة نازلة في
قضايا كثيرة؛ فكل قضية تعتبر وحدها طالت أو قصرت، كما يأتي
بيانه في سورة البقرة وسورة المؤمنون. "د".
3 أي: بمعرفة أنها بيان لها، أو توكيد، أو تكميل، أو
تفريع، أو تقرير، وهكذا مما يقتضيه النظر العربي. "د".
ج / 4 ص -267-
ولكن
هذا القسم له1 اعتباران:
اعتبار من جهة تعدد القضايا؛ فتكون كل قضية مختصة بنظرها،
ومن هنالك2 يلتمس الفقه على وجه ظاهر لا كلام فيه، ويشترك
مع هذا الاعتبار القسم الأول؛ فلا فرق بينهما في التماس
العلم والفقه.
واعتبار من جهة النظم3 الذي وجدنا عليه السورة؛ إذ هو
ترتيب بالوحي لا مدخل فيه لآراء الرجال، ويشترك معه أيضًا
القسم الأول؛ لأنه نظم ألقي بالوحي، وكلاهما لا يلتمس منه
فقه على وجه ظاهر، وإنما يلتمس منه ظهور بعض أوجه الإعجاز،
وبعض مسائل نبه عليها في المسألة4 السابقة قبل،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "لها".
2 أي: من النظر في كل قضية على حدتها. "د".
3 أي: يوضع كل جزء منها في مكانه مع تعدد القضايا، وقوله:
"ويشترك معه أيضًا القسم الأول"؛ أي: من جهة وضع كل جملة
منه في مكانها، ولكن قوله: "وكلاهما لا يلتمس منه فقه على
وجه ظاهر" غير ظاهر في القسم الأول؛ لأن هذا الوضع من
القسم الأول يفيد الفقه المطلوب في القضية، بل قد يتوقف
الفقه فيها على النظر فيما بين أجزائها من فصل ووصل يتبين
بهما غرض التوكيد من غرض التكميل، وهكذا من الأغراض التي
تفهم من نظم الجمل بعضها مع بعض في القضية الواحدة، أليس
هذا هو الذي يقول فيه: إنه لا بد "من رد آخر الكلام على
أوله وأوله على آخره وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم
المكلف..." إلى أن قال: "فعليه بالتعبد به". "د".
قلت: انظر إشارات قوية وبديعة في ضرورة ما ذكره المصنف عند
الفراهي في "دلائل النظام"، وهو مطبوع بالهند.
4 الحادية عشرة من بناء المدني على المكي وبناء كل بعضه
على بعض في الفهم، وهذا يؤكد ما قلناه من أن النظر فيما
بين أجزاء القضية الواحدة يفيد فقهًا؛ إلا أنه يقال: لا
يلزم من تقدم جملة على أخرى في النظم أن تكون متقدمة عليها
في النزول كما في آيتي العدة في ربع:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْن}
[البقرة: 233]؛ فالآية السابقة في التلاوة والنظم متأخرة
في النزول، وناسخة للمتأخرة، وكلاهما مدني أيضًا. "د".
ج / 4 ص -268-
وجميع
ذلك لا بد فيه من النظر في أول الكلام وآخره بحسب تلك
الاعتبارات؛ فاعتبار جهة النظم مثلًا في السورة لا تتم به
فائدة إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر؛ فالاقتصار على بعضها
فيه غير مفيد غاية المقصود، كما أن الاقتصار على بعض الآية
في استفادة حكم ما لا يفيد إلا بعد كمال النظر في جميعها.
فسورة البقرة مثلًا كلامٌ واحد باعتبار النظم1، واحتوت على
أنواع من الكلام بحسب ما بث فيها، منها ما هو كالمقدمات
والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب، ومنها ما هو كالمؤكد
والمتمم، ومنها ما هو المقصود في الإنزال، وذلك2 تقرير
الأحكام على تفاصيل الأبواب، ومنها الخواتم العائدة على ما
قبلها بالتأكيد والتثبيت وما أشبه ذلك.
ولا بد من تمثيل شيء من هذه الأقسام؛ فبه يبين ما تقدم،
فقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ...} إلى قوله:
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 183-187] كلام واحد وإن نزل في أوقات شتى، وحاصله بيان
الصيام وأحكامه، وكيفية أدائه3، وقضائه، وسائر ما يتعلق به
من الجلائل التي لا بد منها ولا ينبني إلا عليها.
ثم جاء قوله:
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الآية [البقرة: 188] كلامًا4 آخر بين أحكامًا أخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تفصيل ذلك في: "النبأ العظيم" "ص163 إلى آخر
الكتاب"، و"النظم في سورة البقرة" لحسين الدراويش، أطروحة
دكتوراه عن قسم الآداب في الجامعة الأردنية.
2 أي: المقصود الأول في الإنزال هو تقرير الأحكام في كل
باب وقضية من القضايا المتعددة. "د".
3 في "د": "آدابه"، وهو خطأ، وما أثبتناه من الأصل و"ف"
و"م" و"ط".
4 في "ط": "كلام".
ج / 4 ص -269-
وقوله:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ}
[البقرة: 189].
وانتهى الكلام على قول طائفة، وعند أخرى أن قوله:
{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ} الآية [البقرة: 189] من تمام1 مسألة الأهلة، وإن انجر معه2 شيء
آخر، كما انجر على القولين معًا تذكير وتقديم لأحكام الحج
في قوله:
{قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
وقوله تعالى:
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر}
[الكوثر: 1] نازلة في قضية واحدة3.
وسورة
{اقْرَأْ} نازلة في قضيتين4.
الأولى إلى قوله:
{عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5].
والأخرى ما بقي إلى آخر السورة.
وسورة "المؤمنون"5 نازلة في قضية واحدة، وإن اشتملت على
معان كثيرة فإنها من المكيات، وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة
معان، أصلها معنى واحد وهو الدعاء إلى عبادة الله تعالى:
أحدها: تقرير الوحدانية لله الواحد الحق، غير أنه يأتي على
وجوه؛ كنفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فهو ضرب مثل لسؤالهم عن الهلال يبدو صغيرًا... إلخ،
ولبيان أن هذا السؤال خروج عما يهمهم في دينهم ودنياهم،
وأنه مجرد تعسف كإتيان البيوت من ظهورها بدل أبوابها. "د".
قلت: ومضى تخريج سؤالهم عن الهلال... في "3/ 149".
2 في "ط": "معها".
3 انظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" "3/ 256"
للبقاعي، وله أيضًا كلام بديع على هذه السورة -لا يوجد في
كتاب- في آخر كتابه "الأقوال القويمة في حكم النقل من
الكتب القديمة"، يسر الله نشره.
4 انظر: "مصاعد النظر" "3/ 213".
5 انظر: "مصاعد النظر" "2/ 303"، و"في ظلال القرآن" "4/
2452".
ج / 4 ص -270-
الشريك
بإطلاق، أو نفيه بقيد ما ادعاه الكفار في وقائع مختلفة، من
كونه مقربًا إلى الله زلفى، أو كونه ولدًا أو غير ذلك من
أنواع الدعاوى الفاسدة.
والثاني: تقرير النبوة للنبي محمد، وأنه رسول الله إليهم
جميعًا، صادق فيما جاء به من عند الله؛ إلا أنه وارد على
وجوه أيضًا؛ كإثبات كونه رسولًا حقًّا، ونفي ما ادعوه عليه
من أنه كاذب، أو ساحر، أو مجنون، أو يعلمه بشر، أو ما أشبه
ذلك من كفرهم وعنادهم.
والثالث: إثبات أمر البعث والدار الآخرة وأنه حق لا ريب
فيه بالأدلة الواضحة، والرد على من أنكر ذلك بكل وجه يمكن
الكافر إنكاره به؛ فرد بكل وجه يلزم الحجة، ويبكت الخصم،
ويوضح الأمر.
فهذه المعانى الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من
القرآن بمكة في عامة الأمر، وما ظهر ببادئ الرأي خروجه
عنها؛ فراجع إليها في محصول الأمر، ويتبع ذلك الترغيب
والترهيب، والأمثال والقصص، وذكر الجنة والنار ووصف يوم
القيامة وأشباه ذلك.
فإذا تقرر هذا وعدنا إلى النظر في سورة "المؤمنون" مثلًا
وجدنا فيها المعاني الثلاثة على أوضح الوجوه؛ إلا أنه غلب
على نسقها ذكر إنكار الكفار للنبوة التي هي المدخل
للمعنيين1 الباقيين, وإنهم إنما أنكروا ذلك بوصف البشرية
ترفعًا منهم أن يرسل إليهم من هو مثلهم، أو ينال هذه
الرتبة غيرهم إن كانت؛ فجاءت2 السورة تبين وصف البشرية وما
تنازعوا فيه منها، وبأي وجه تكون على أكمل وجوهها حتى
تستحق الاصطفاء والاجتباء من الله تعالى؛ فافتتحت السورة
بثلاث جمل:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "إلى المعنيين".
2 في نسخة "د": "جاءت فكانت".
ج / 4 ص -271-
إحداها, وهي الآكد في المقام: بيان الأوصاف المكتسبة للعبد
التي إذا اتصف بها رفعه الله وأكرمه، وذلك قوله:
{قَدْ
أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون...} إلى قوله:
{هُمْ فِيهَا خَالِدُون}
[المؤمنون: 1-11].
والثانية: بيان أصل التكوين للإنسان وتطويره الذي حصل له
جاريًا على مجاري الاعتبار1 والاختيار، بحيث لا يجد الطاعن
إلى الطعن على من هذا حاله سبيلًا.
والثالثة: بيان وجوه الإمداد له من خارج بما يليق به في
التربية والرفق، والإعانة على إقامة الحياة، وأن ذلك له
بتسخير السموات والأرض وما بينهما، وكفى بهذا تشريفًا
وتكريمًا.
ثم ذكرت قصص من تقدم مع2 أنبيائهم واستهزاءهم بهم بأمور
منها كونهم من البشر؛ ففي قصة نوح مع قومه قولهم:
{قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ
أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 24].
ثم أجمل ذكر قوم آخرين أرسل فيهم رسولًا منهم؛ أي: من
البشر لا من الملائكة؛ فقالوا:
{مَا
هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا
تَأْكُلُونَ مِنْهُ} الآية [المؤمنون: 33].
{وَلَئِنْ
أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا
لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 34].
{إِنْ هُوَ
إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [المؤمنون: 38]؛ أي: هو من البشر. ثم قال تعالى:
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً
رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ}
[المؤمنون: 44].
فقوله:
{رَسُولُهَا} مشيرًا إلى أن المراد رسولها الذي تعرفه منها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الاعتناء".
2 في "ط": "من".
ج / 4 ص -272-
ثم ذكر
موسى وهارون ورد فرعون، وملئه بقولهم:
{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا}
[المؤمنون: 47] إلخ.
هذا كله حكاية عن الكفار الذين غضوا من رتبة النبوة بوصف
البشرية، تسلية لمحمد -عليه الصلاة والسلام- ثم بين أن وصف
البشرية للأنبياء لا غض فيه، وأن جميع الرسل إنما كانوا من
البشر، يأكلون ويشربون كجميع الناس، والاختصاص أمر آخر من
الله تعالى؛ فقال بعد تقرير رسالة موسى:
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50]، وكانا مع ذلك يأكلان ويشربان، ثم قال:
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51]؛ أي: هذا من نعم الله عليكم، والعمل الصالح شكر تلك
النعم، ومشرف للعامل به؛ فهو الذي يوجب التخصيص لا الأعمال
السيئة، وقوله:
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52]، إشارة إلى التماثل بينهم، وأنهم جميعًا مصطفون من
البشر، ثم ختم هذا المعنى بنحو مما به بدأ؛ فقال:
{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ...} إلى قوله:
{وَهُمْ لَهَا سَابِقُون}
[المؤمنون: 57-61].
وإذا تؤمل هذا النمط من أول السورة إلى هنا؛ فهم أن ما ذكر
من المعنى هو المقصود مضافًا إلى المعنى الآخر، وهو أنهم
إنما قالوا ذلك وغضوا من الرسل بوصف البشرية؛ استكبارًا من
أشرافهم، وعتوًّا على الله ورسوله؛ فإن الجملة الأولى من
أول السورة تشعر بخلاف الاستكبار، وهو التعبد لله بتلك
الوجوه المذكورة، والجملة الثانية مؤذنة بأن الإنسان منقول
في أطوار العدم وغاية الضعف؛ فإن التارات1 السبع أتت عليه
وهي كلها ضعف إلى ضعف، وأصله العدم؛ فلا يليق بمن هذه صفته
الاستكبار، والجملة الثالثة مشعرة بالاحتياج إلى تلك
الأشياء والافتقار إليها، ولولا2 خلقها لم يكن للإنسان
بقاء بحكم العادة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "النارات".
2 في "ط": "إذ لولا".
ج / 4 ص -273-
الجارية؛ فلا يليق بالفقير الاستكبار على من هو مثله في
النشأة والخلق، فهذا كله كالتنكيت عليهم، والله أعلم.
ثم ذكر القصص في قوم نوح:
{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} [المؤمنون: 24]، والملأ هم الأشراف.
وكذلك فيمن بعدهم:
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ}
الآية [المؤمنون: 33].
وفي قصة موسى:
{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا
عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47].
ومثل هذا الوصف يدل على أنهم لشرفهم في قومهم قالوا هذا
الكلام، ثم قوله:
{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ...}
إلى قوله:
{لا يَشْعُرُونَ}
[المؤمنون: 54-56] رجوع إلى وصف أشراف قريش، وأنهم إنما
تشرفوا بالمال والبنين؛ فرد عليهم بأن الذي يجب له الشرف
من كان على هذا الوصف وهو قوله:
{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57].
ثم رجعت الآيات1 إلى وصفهم في ترفهم وحال مآلهم، وذكر
النعم عليهم، والبراهين عل صحة النبوة، وأن ما قال عن الله
حق من إثبات الوحدانية، ونفى الشريك وأمور الدار الآخرة
للمطيعين والعاصين، حسبما اقتضاه الحال والوصف للفريقين؛
فهذا النظر إذا اعتبر كليًّا2 في السورة وجد على أتم من
هذا الوصف، لكن على منهاجه وطريقه، ومن أراد الاعتبار3 في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من قوله:
{حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ...} إلخ. "د".
2 أي: إن بيانه لذلك إجمالي لا تفصيلي، ولو أنه اعتبر
التفصيل الكلي لكان ظهور ارتباط أجزاء السور بعضها ببعض،
وأنها لبيان الأمور الثلاثة التي ذكرها أولًا أوضح مما
قال. "د".
3 في نسخة "د": "الاختيار".
ج / 4 ص -274-
سائر
سور القرآن؛ فالباب مفتوح، والتوفيق بيد الله؛ فسورة
"المؤمنون" قصة واحدة في شيء واحد.
وبالجملة؛ فحيث ذكر قصص الأنبياء -عليهم السلام- كنوح،
وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى، وهارون، فإنما ذلك تسلية
لمحمد -عليه الصلاة والسلام- وتثبيت لفؤاده لما كان يلقى
من عناد الكفار وتكذيبهم له على أنواع مختلفة، فتذكر القصة
على النحو الذي يقع له مثله، وبذلك اختلف1 مساق القصة
الواحدة بحسب اختلاف الأحوال، والجميع حق واقع لا إشكال في
صحته، وعلى حذو ما تقدم من الأمثلة يحتذي في النظر في
القرآن لمن أراد فهم القرآن، والله المستعان.
فصل2:
وهل للقرآن مأخذ في النظر على أن جميع سوره كلام واحد بحسب
خطاب العباد، لا بحسبه في نفسه؟ فإن كلام الله في نفسه
كلام واحد لا تعدد فيه بوجه ولا باعتبار، حسبما تبين في
علم الكلام3، وإنما مورد البحث هنا باعتبار خطاب العباد
تنزلًا لما هو من معهودهم فيه، هذا محل احتمال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فتارة تذكر مفصلة مطولة، وتارة يقتصر على بعض آخر، بحسب
ما يقع منهم له, صلى الله عليه وسلم. "د"، وفي "ط": "ويدلك
اختلاف".
2 الكلام قبله في النظر إلى السورة الواحدة والكلام هنا في
النظر إلى القرآن كله جملة واحدة. "د".
3 هذا قائم على أصل مخالف لعقيدة السلف، أعني: إنه قائم
على أن كلام الله معنى قائم بالنفس، مجرد عن الألفاظ
والحروف، وهذا مخالف للكتاب والسنة وأهل اللغة والعرف،
انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 522-523، 9/ 283 و12/
49-50، 122، 166"، و"العقيدة السلفية في كلام رب البرية"
"ص278-279 وص345 وما بعدها".
ج / 4 ص -275-
وتفصيل.
فيصح في الاعتبار أن يكون واحدًا بالمعنى المتقدم، أي:
يتوقف فهم بعضه على بعض بوجه ما، وذلك أنه يبين بعضه
بعضًا؛ حتى إن كثيرًا منه لا يفهم معناه حق الفهم إلا
بتفسير موضع آخر أو سورة أخرى، ولأن كل منصوص عليه فيه من
أنواع الضروريات مثلًا مقيد بالحاجيات، فإذا كان كذلك؛
فبعضه متوقف على البعض في الفهم؛ فلا محالة أن ما هو كذلك
فكلام واحد؛ فالقرآن كله كلام واحد بهذا الاعتبار1.
ويصح أن لا يكون كلامًا واحدًا، وهو المعنى الأظهر فيه؛
فإنه أنزل سورًا مفصولًا بينها معنى وابتداء؛ فقد كانوا
يعرفون انقضاء السورة وابتداء الأخرى بنزول
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول الكلام، وهكذا نزول أكثر الآيات التي نزلت على وقائع
وأسباب2 يعلم من إفرادها بالنزول استقلال معناها للأفهام،
وذلك لا إشكال فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا هو الظاهر الذي يصح التعويل عليه، وأدلته فيه لا
تنقض، وأما كونه نزل سورًا مفصولًا بعضها من بعض ببسم
الله... إلخ؛ فلا يقتضي استقلال بعضها عن بعض بالمعنى
المراد، وكيف يتأتى بناء المدني على المكي، وأن كل منهما
يبنى بعضه على بعض إذا أخذت كل سورة على حدتها غير منظور
فيها لما ورد في غيرها؛ وأين يكون البيان والنسخ؟ ومعلوم
أنه لا يلزم في البيان ولا في النسخ أن يكون المنسوخ
والناسخ والمبين والبيان في سورة واحدة؛ فقوله: "ولا إشكال
فيه" غير ظاهر. "د".
2 في "ط": "ولأسباب".
ج / 4 ص -276-
المسألة الرابعة عشرة:
إعمال الرأي في القرآن جاء ذمه، وجاء أيضًا ما يقتضي
إعماله، وحسبك من ذلك ما نقل عن الصديق؛ فإنه نقل عنه أنه
قال, وقد سئل في شيء من القرآن: "أي سماء تظلني، وأي أرض
تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟"1.
وربما روي فيه: "إذا قلت في كتاب الله برأيي"1.
ثم سئل عن الكلالة المذكورة في القرآن؛ فقال: "أقول2 فيها
برأيي، فإن كان صوابًا؛ فمن الله، وإن كان خطأ؛ فمني ومن
الشيطان، الكلالة كذا وكذا"3.
فهذان قولان اقتضيا إعمال الرأي وتركه في القرآن، وهما لا
يجتمعان.
والقول فيه أن الرأي ضربان4:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "ص250".
2 في "د": "لا أقول"، والصواب حذف "لا".
3 أورده ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 911/ رقم
1712" عن ابن مسعود، ولم يسنده".
4 قد حذر العلماء قديمًا عن التفسير بالرأي، ولكنهم لم
يبينوا كل البيان ما هو المراد من التفسير بالرأي، وإذ كان
المروي في ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قليلًا
جدًّا، ولم يكثر فيه أيضًا ما روي عن الصحابة، فأضافوا به
ما روي عن التابعي وتبعهم مع اختلاف الأقاويل بينهم، وعلى
هذا صنف ابن جرير -رحمه الله- تفسيره وهو أحسن التفاسير
حتى قيل: إنه لم يصنف مثله.
والقرآن قد تضمن من الحكمة والمعارف ما لا يحيط به إلا
الله تعالى، وقد حث القرآن نفسه على التفكير والتدبر فيه،
وقد تبين لأصحاب العقول معارف غامضة قد تضمنها الآيات ولم
يجدوها فيما روي عن السلف؛ فذكروها في تفاسيرهم، وأكبر
التفاسير المتداولة التي كتبت على هذا الطريق ما ألفه
الإمام الرازي, رحمه الله.
ج / 4 ص -277-
أحدهما: جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة؛
فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما لأمور:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وكلاهما متلقى بالقبول بين المسلمين عامة، مع اتفاق
العلماء على أن كليهما يحتوي على الغث والسمين، ولا بد
للناظر فيهما من النقد والإمعان؛ فنوجهك إلى هذين
التفسيرين لتقيس عليهما غيرهما؛ فإنهما مثالان لسائر
التفاسير، ثم نبين لك ما هو التفسير بالرأي الذي ذمه
العلماء, وما هي الطريق المثلى التي تعصمك منه.
فاعلم أن الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- أجمعين قد
اختلفوا كثيرًا في التأويل مع تقارب خطاهم، فلو أخذوا
تأويلاتهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما اختلفوا،
ولكنهم أخذوها عن علمهم باللسان، واقتصارهم على علمهم
بنظائر الآيات وعلمهم بالسنة، وعن بصيرة يعطيها الله
عباده، ولذلك ترى أنهم يتقاربون في المآل، وبالجملة؛ فإنهم
لم يؤولوا القرآن بالرأي المذموم الذي لا مستند له في
الكتاب والسنة ولسان العرب.
إن السلف اختلفوا في تأويل القرآن كثيرًا؛ لكونه جامعًا
لوجوه كثيرة، ولكونهم متفاوتين في مدارج العقول، وهذا كما
اختلفوا في الفتاوى، ولكنهم مع ذلك اعتمدوا على أصول راسخة
للتأويل، فلم يعتمدوا على الرأي المحض وهوى النفس؛ فكان
غالب خلافهم خلاف تنوع لا خلاف تضاد.
ومن قال: إن التفسير الذي لم يكن منقولًا عن السلف فهو
التفسير بالرأي؛ فمحمول على أن من ترك المنقول أو شك أن
يقع في أوهامه فيرى الباطل معقولًا كما قالوا في من لم
يتقلد السلف في الفتاوى وركب رأسه؛ فلا يؤمن إبعاده عن
جادة الشريعة كل الإبعاد، وكذلك محمول على أخذ ما يحتاج
إليه في علم أسباب النزول ومواقعه؛ فلا بد أن يؤخذ من
النقل مع التنقيد والاختيار بما صح وثبت، ولا يحمل ذلك على
ترك النظر في دلالة القرآن، وحمل الآية على نظائرها،
والجمود على المنقول المحض، وعدم الفرق بين صحيحه وسقيمه،
وتسويته في الاعتماد، فإن المنقول جله الأحاديث الضعاف
والمتناقض بعضها بعضًا، بل المتناقض لظاهر القرآن؛ فهل
يعتمد عليها، أو يترك القرآن لا يتدبر فيه ولا يفهم
معانيه؟ نعم، ينظر في ما نقل من السلف للتأكيد عند
الموافقة، ورجع النظر عند المخالفة؛ حتى يطمئن القلب بما
يفهم من الكلام، فإنه أوثق وأبعد عن الخطأ.
وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 370-375"، و"قانون
التأويل" "366" لابن العربي، و"التكميل في أصول التأويل"
"ص7-9" للفراهي.
ج / 4 ص -278-
أحدها:
أن الكتاب لا بد من القول فيه ببيان معنى، واستنباط حكم،
وتفسير لفظ، وفهم مراد، ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم؛ فإما
أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها، وذلك غير
ممكن؛ فلا بد من القول فيه بما يليق.
والثاني: أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول -صلى الله
عليه وسلم- مبينًا ذلك كله بالتوقيف؛ فلا يكون لأحد فيه
نظر ولا قول، والمعلوم أن عليه الصلاة والسلام لم يفعل
ذلك1 فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه بل بين منه ما
لا يوصل إلى علمه إلا به، وترك كثيرًا مما يدركه أرباب
الاجتهاد باجتهادهم؛ فلم يلزم في جميع تفسير القرآن
التوقيف2.
والثالث: أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم،
وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا، ومن جهتهم بلغنا
تفسير معناه، والتوقيف ينافي هذا؛ فإطلاق القول بالتوقيف
والمنع من الرأي لا يصح3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج ابن حبان في "الثقات" "7/ 396" بسند فيه ضعف عن
عائشة قالت: "ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفسر
شيئًا من القرآن إلا آيًا علمهن إياه جبريل".
2 قد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبض ولم يفسر
من القرآن إلا قليلًا جدًّا، وهذا وحده يجعل كل منصف يقول:
أشهد أن محمدًا رسول الله، إذ لو كان صلى الله عليه وسلم
فسر للعرب بما يحتمله زمنهم وتطيقه أفهامهم؛ لجمد القرآن
جمودًا تهدمه عليه الأزمنة والعصور بآلاتها ووسائلها؛ فإن
كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- نص قاطع، ولكنه ترك
تاريخ الإنسانية يفسر كتاب الإنسانية؛ فتأمل حكمة ذلك
السكوت؛ فهي إعجاز لا يكابر فيه إلا من قلع مخه من رأسه،
قاله الرافعي في "إعجاز القرآن" "ص14, الهامش"، دار الكتاب
العربي، الطبعة الثالثة.
3 لما رأى أهل السنة أن أهل البدعة والباطل جعلوا يؤولون
القرآن بالهوى ويحملون النصوص على غير مرادها؛ تحرجوا
الاشتغال بالأقاويل في التفسير؛ إلا ما روي عن الصحابة
والتابعين، ولا شك أنهم لم يريدوا بذلك إلا سدًّا لأبواب
الفتنة، وكان ذلك هو الطريق، فإن التأويل إذا لم يؤسس على
قواعده التي تكون فارقة بين الحق والباطل؛ لم يمنع عن
القول بالرأي المحض. =
ج / 4 ص -279-
والرابع: أن هذا الفرض لا يمكن؛ لأن النظر في القرآن من
جهتين:
من جهة الأمور الشرعية؛ فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك
الرأي والنظر جدلًا.
ومن جهة المآخذ العربية، وهذا لا يمكن فيه التوقيف، وإلا
لزم ذلك في السلف الأولين، وهو باطل؛ فاللازم عنه مثله،
وبالجملة؛ فهو أوضح من إطناب فيه1.
وأما الرأي غير الجاري على موافقة العربية أو الجاري2 على
الأدلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأما الصحابة والتابعون؛ فأولوا القرآن بالعلم والنظر
الصحيح، فإن تصفحنا الأصول التي جروا عليها كانت لنا أسوة
حسنة في تدبر كتاب الله، وقد جمع أهل التأويل نبذًا من
أقوالهم، ولكنهم لم يجمعوا أصول تدبرهم، والحاجة إلى ذلك
شديدة؛ فإن الله تعالى أوجب التفكر في كتابه بصريح القول
في غير ما آية، وقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على
ذلك، وعلمهم النظر والاستنباط، وكان ذلك مما فرض الله
عليه.
وإذ غلب على أكثر الناس أن القول بما لم يرو عن السلف هو
القول بالرأي؛ فصار ذلك مانعًا عن التفكر والتدبر، احتجنا
إلى بيان الفرق بين القول بالرأي المنهي عنه وبين طريق
السلف الذين تفكروا وتدبروا في القرآن، وإلى بيان الحاجة
الشديدة إلى استعمال الفكر والتدبر في كتاب الله.
من العجائب بل من المصائب أن يشتبه الحق بالباطل عند أهل
الحق؛ فيتعصبون للباطل، ويعثرون في وضح النهار بعدما
جاءتهم البينات ضمن ذلك حرموا الفكر والنظر في آيات الله
المشهودة والمتلوة، وجعلوا السنة بدعة والبدعة سنة، وذلك
بعد أن علموا أن القرآن قد حث على الفكر والتدبر في
كليهما، وأن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يتدبرون
القرآن، ويقولون بما فهموا منه وينقلون ذلك عنهم.
انظر: "التكميل في أصول التأويل" "ص9" للفراهي.
1 كتب "م" في الهامش: "هكذا في المطبوعات الثلاث، ولعل
الأصل الكلام: "فهو أوضح من أن يحتاج إلى إطناب فيه"".
2 لعل الصواب: "غير الجاري".
ج / 4 ص -280-
الشرعية؛ فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال، كما كان
مذمومًا في القياس أيضًا، حسبما هو مذكور في كتاب1 القياس؛
لأنه تقول على الله بغير برهان؛ فيرجع إلى الكذب على الله
تعالى.
وفي هذا القسم جاء من التشديد في القول بالرأي في القرآن
ما جاء؛ كما روي عن ابن مسعود: "ستجدون أقوامًا يدعونكم
إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم؛ فعليكم بالعلم،
وإياكم والتبدع، وإياكم والتنطع، وعليكم بالعتيق"2.
وعن عمر بن الخطاب: "إنما أخاف عليكم رجلين: رجل يتأول
القرآن على غير تأويله، ورجل ينافس الملك على أخيه"3.
وعن عمر أيضًا: "ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه
إيمانه، ولا من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع المسألة الثانية في القياس من كتاب "الإحكام"
للآمدي. "د".
2 أخرجه عبد الرزاق في "الجامع" "11/ 252/ رقم 20465"،
والدارمي في "السنن" "1/ 54"، والطبراني في "الكبير" "9/
189/ رقم 8845"، وابن وضاح في "البدع" "25"، والمروزي في
"السنة" "24-25"، وابن حبان في "روضة العقلاء" "37"،
والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 43"، والبيهقي في
"المدخل" "رقم 387"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1202/
رقم 2363"، كلهم من طريق أيوب السختياني عن أبي قلابة عن
ابن مسعود به بألفاظ المذكور أحدها.
وأبو قلابة لم يسمع من ابن مسعود؛ كما قال الهيثمي في
"المجمع" "1/ 26"، ولذا قال البيهقي عقبه: "وهذا مرسل،
وروي موصولًا من طريق الشاميين".
قلت: أخرجه البيهقي في "المدخل" "رقم 388" من طريق أبي
إدريس الخولاني عن ابن مسعود، وذكره المصنف من قوله في
"الاعتصام" "1/ 77".
وأخرجه الآجري في "الشريعة" "48"، وابن وضاح في "البدع"
"25-26" نحوه عن معاذ.
3 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1202/ رقم 2364"
بإسناد رجاله ثقات؛ إلا أن فيه انقطاعًا، عمرو بن دينار لم
يسمع من عمر, رضي الله عنه.
ج / 4 ص -281-
فاسق
بين فسقه، ولكني أخاف عليها رجلًا قد قرأ القرآن حتى أذلقه
بلسانه، ثم تأوله على غير تأويله"1.
والذي ذكر عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن قوله:
{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]؛ فقال:
"أي سماء تظلني"2 الحديث.
وسأل رجل ابن عباس عن
{يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ}
[المعارج: 4]؛ فقال له ابن عباس: فما
{يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ3
سَنَةٍ} [السجدة: 5]؟ فقال الرجل: إنما سألتك لتحدثني. فقال ابن عباس: "هما
يومان ذكرهما الله في كتابه، الله أعلم بهما، نكره أن نقول
في كتاب الله ما لا نعلم"4.
وعن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن شيء من القرآن؛
قال: "أنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أورده ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2368" عن الأعرابي
معلقًا، وذكره بسنده، وهو ضعيف، فيه سويد بن سعيد، صدوق في
نفسه إلا أنه عمي فصار يتلقن ما ليس من حديثه، وأبو حازم
سلمة بن دينار لم يسمع من عمر.
2 مضى تخريجه من عدة طرق عن أبي بكر، يصل بمجموعها إلى
الحسن، كما بيناه ولله الحمد في التعليق على "ص250".
والأب: الكلأ والمرعى؛ فهو للدواب كالفاكهة للإنسان، وقيل:
هو كل ما أخرجت الأرض من النبات. "خ".
3 في الأصول: "... مقداره خمسين ألف"، وما أثبتناه هو
الموجود في مصادر التخريج. "استدراك3".
ومن "م" تكرار أول المسألة؛ إلا أنه جعل السؤال عن يوم
بألف سنة.
4 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "227-228"، وعزاه له
ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 372-373"، وفي آخره
عندهما: "يعلم" بدلًا من "نعلم"، وفي "تفسير القرطبي" "18/
283": "لا أعلم"، وإسناده صحيح.
ج / 4 ص -282-
لا
أقول في القرآن شيئًا"1.
وسأله رجل عن آية؛ فقال: "لا تسألني عن القرآن، وسل عنه من
يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه, يعنى عكرمة"2، وكأن هذا
الكلام مشعر بالإنكار على من يزعم ذلك.
وقال ابن سيرين: سألت عبيدة عن شيء من القرآن؛ فقال: "اتق
الله، وعليك بالسداد؛ فقد ذهب الذين يعلمون فيما أنزل
القرآن"3.
وعن مسروق؛ قال: "اتقوا التفسير؛ فإنما هو الرواية عن
الله"4.
وعن إبراهيم؛ قال: "كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه"5.
وعن هشام بن عروة؛ قال: "ما سمعت أبي6 تأول آية من كتاب
الله"7،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص228"، وذكره ابن
تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 373"، والقرطبي في "تفسيره"
"1/ 34".
2 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص228"، وابن جرير في
"التفسير" "1/ 86"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "10/ 511"،
وذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 373"، والقرطبي
في "تفسيره" "1/ 37".
3 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "228"، وابن أبي شيبة
في "المصنف" "10/ 511"، وابن جرير في "التفسير" "1/ 89"،
وذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 374".
4 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "229"، وذكره ابن
تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 374"، والقرطبي في "تفسيره"
"1/ 34".
قلت: وفي الأصل و"ط": "على الله".
5 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "229"، وأبو نعيم في
"الحلية" "4/ 222"، وذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"
"13/ 374".
6 كيف وقد تأول عروة آية:
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] على غير وجهها، وقالت له أم المؤمنين خالته: بئسما
قلت يابن أختي، إلا أن يقال: إنه نفي سماعه، أو =
ج / 4 ص -283-
وإنما
هذا كله توقّ وتحرز أن يقع الناظر فيه في الرأي المذموم،
والقول فيه من غير تثبت1، وقد نقل عن الأصمعي -وجلالته في
معرفة كلام العرب معلومة- أنه لم يفسر قط آية من كتاب
الله، وإذا سئل عن ذلك لم يجب، انظر الحكاية عنه في
"الكامل"2 للمبرد.
فصل:
فالذي يستفاد من هذا الموضع أشياء:
- منها: التحفظ من القول في كتاب الله تعالى إلا على بينة؛
فإن الناس في العلم بالأدوات المحتاج إليها في التفسير على
ثلاث طبقات:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 374-375" بعد أن
ساق جملة من هذه الآثار: "فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها
عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما
لا علم له به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا؛
فلا حرج عليه، ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في
التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموا وسكتوا عما
جهلوه،وهذا هو الواجب على كل أحد؛ فإنه كما يجب السكوت عما
لا علم له به؛ فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه".
2 يريد المصنف قول المبرد في "الكامل" "2/ 43": "وذاك أن
الأصمعي كان لا ينشد ولا يفسر ما كان فيه ذكر الأنواء لقول
رسول الله, صلى الله عليه وسلم:
"إذا ذكرت
النجوم فأمسكوا"؛ لأن الخبر
في هذا بعينه " مطرنا بنوء كذا وكذا"، وكان لا يفسر ولا
ينشد شعرًا فيه هجاء، وكان لا يفسر شعرًا يوافق تفسيره
شيئًا من القرآن، هكذا يقول أصحابه".
ج / 4 ص -284-
إحداها: من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين كالصحابة والتابعين
ومن يليهم وهؤلاء قالوا مع التوقي والتحفظ، والهيبة والخوف
من الهجوم؛ فنحن أولى بذلك منهم إن ظننا بأنفسنا أنا في
العلم والفهم مثلهم، وهيهات!
والثانية: من علم من نفسه أنه لم يبلغ مبالغهم ولا داناهم؛
فهذا طرف لا إشكال في تحريم ذلك عليه.
والثالثة: من شك في بلوغه مبلغ أهل الاجتهاد، أو ظن ذلك في
بعض علومه دون بعض؛ فهذا أيضًا داخل تحت حكم المنع من
القول فيه؛ لأن الأصل عدم العلم، فعندما يبقى له شك أو
تردد في الدخول مدخل العلماء الراسخين؛ فانسحاب الحكم
الأول عليه باقٍ بلا إشكال، وكل أحد فقيه نفسه في هذا
المجال، وربما تعدى بعض أصحاب هذه الطبقة طوره؛ فحسن ظنه
بنفسه، ودخل في الكلام فيه مع الراسخين، ومن هنا افترقت
الفرق، وتباينت النحل، وظهر في تفسير القرآن الخلل.
- ومنها: أن من ترك النظر في القرآن، واعتمد في ذلك على من
تقدمه، ووكل إليه النظر فيه غير ملوم، وله في ذلك سعة إلا
فيما لا بد له منه، وعلى حكم الضرورة؛ فإن النظر فيه يشبه
النظر في القياس كما هو مذكور في بابه، وما زال السلف
الصالح يتحرجون من القياس فيما لا نص فيه، وكذلك وجدناهم
في القول في القرآن؛ فإن المحظور فيهما واحد، وهو خوف
التقول على الله، بل القول في القرآن أشد؛ فإن القياس يرجع
إلى نظر الناظر، والقول في القرآن يرجع إلى أن الله أراد
كذا، أو عنى كذا بكلامه المنزل، وهذا عظيم الخطر.
- ومنها: أن يكون على بال من الناظر والمفسر والمتكلم عليه
أن ما يقوله تقصيد1 منه للمتكلم، والقرآن كلام الله؛ فهو
يقول بلسان بيانه: هذا مراد الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقصيد؛ أي: نسبة قصد هذا المعنى لصاحب الكلام. "م".
ج / 4 ص -285-
من هذا
الكلام؛ فليتثبت أن يسأله الله تعالى: من أين قلت عني هذا؟
فلا يصح له ذلك إلا ببيان الشواهد، وإلا؛ فمجرد الاحتمال
يكفي بأن يقول يحتمل أن يكون المعنى كذا وكذا، بناء أيضًا
على صحة تلك الاحتمالات في صلب العلم، وإلا؛ فالاحتمالات
التي لا ترجع إلى أصل غير معتبرة؛ فعلى كل تقدير لا بد في
كل قول يجزم به أو يحمل من شاهد يشهد لأصله، وإلا كان
باطلًا، ودخل صاحبه تحت أهل الرأي المذموم، والله أعلم. |