الموافقات

ج / 5 ص -369-       النظر الثاني: في أحكام السؤال والجواب وهو علم الجدل:
وقد صنف الناس فيه من متقدم ومتأخر1، والذي يليق منه بغرض هذا الكتاب فرض مسائل:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من أشهر الكتب المطبوعة في هذا الباب: "الكافية في الجدل" للجويني، و"كتاب الجدل على طريقة الفقهاء" لابن عقيل الحنبلي، و"المنهاج في ترتيب الحجاج" للباجي، و"المعونة في الجدل" للشيرازي، و"علم الجذل على علم الجدل" للطوفي.
وانظر: "كشف الظنون" "1/ 579"، و"مفتاح دار السعادة" "1/ 304 و2/ 599"، و"مقدمة ابن خلدون" ص457".

 

ج / 5 ص -371-       المسألة الأولى:
إن السؤال إما أن يقع من عالم أو غير عالم، وأعني بالعالم المجتهد، وغير العالم المقلد، وعلى كلا التقديرين؛ إما أن يكون المسئول عالما أو غير عالم؛ فهذه أربعة أقسام:
الأول: سؤال العالم [للعالم]1، وذلك في المشروع2 يقع على وجوه؛ كتحقيق ما حصل، أو رفع إشكال عن له، وتذكر ما خشي عليه النسيان، أو تنبيه المسئول3 على خطأ يورده مورد الاستفادة، أو نيابة منه عن الحاضرين من المتعلمين، أو تحصيل ما عسى أن يكون فاته من العلم4.
والثاني: سؤال المتعلم لمثله؛ وذلك أيضا يكون على وجوه كمذاكرته له بما سمع، أو طلبه منه ما لم يسمع مما سمعه المسئول، أو تمرنه معه في المسائل قبل لقاء العالم، أو التهدي بعقله إلى فهم ما ألقاه العالم.
والثالث: سؤال العالم للمتعلم، وهو على وجوه كذلك؛ كتنبيهه على موضع إشكال يطلب رفعه، أو اختبار عقله أين بلغ، والاستعانة بفهمه إن كان لفهمه فضل، أو تنبيهه5 على ما علم؛ ليستدل به على ما لم يعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 أي: وأما غير المشروع: فهو أن يسأله عن حكم حادثة نزلت به مثلًا مما يجب عليه أن يرجع فيه إلى اجتهاد نفسه؛ بحيث لا يجوز له أن يقلد مجتهدًا آخر، والوجوه الستة التي ذكرها خارجة عن موضوع التقليد الممنوع. "د".
3 في "ط": "للمسئول".
4 أي: مما لم يكن عن اجتهاد، بل كتلقي حديث أو بحث في رواية وما أشبه ذلك. "د".
5 وهذه الكلمة القصيرة تضمنت أهم أركان فن التربية العملية المسمى بالبيداجوجيا، وهو بناء المعلم تعليم تلميذه شيئًا جديدًا على ما تعلمه قبل؛ فقد كان نتيجة لمقدمات، ثم يصير بعد علمه به مقدمة لمسألة جديدة، وهكذا. "د".

 

ج / 5 ص -372-       والرابع: وهو الأصل الأول: سؤال المتعلم للعالم، وهو يرجع إلى طلب علم1 ما لم يعلم.
فأما الأول والثاني والثالث؛ فالجواب عنه مستحق2 إن علم، ما لم يمنع من ذلك عارض3 معتبر شرعا، وإلا؛ فالاعتراف بالعجز.
وأما الرابع؛ فليس الجواب [عنه] بمستحق بإطلاق، بل فيه تفصيل؛ فيلزم الجواب إذا كان عالما بما سئل عنه متعينا4 عليه في نازلة واقعة5 أو في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويشترك معه فيه بعض وجوه القسم الأول والثاني. "د".
2 عبر بذلك دون مطلوب شرعا؛ لأنه قد لا يكون كذلك؛ كما يعلم من مراجعة التفاصيل التي ذكرها لهذه الأقسام الثلاثة، أما قوله في الرابع: "فليس بمستحق"؛ فإنه أراد به لازمًا شرعًا كما يقتضيه قوله: "فيلزم الجواب... إلخ". "د".
3 أي: كما أشار إليه بعد بقوله: "وقد لا يجوز" وكما يأتي تفصيله في الفصل الآتي. "د".
4 قالوا: إن للمفتي رد الفتوى إذا كان في البلد غيره أهلًا لها شرعًا، خلافًا للحليمي. "د".
قلت: انظر في ذلك: "البحر الرائق" "6/ 260"، و"المجموع" "1/ 45" للنووي، و"منتهى الإرادات" "4/ 57 - بذيل كشاف القناع"، و"مباحث في أحكام الفتوى" "ص40"، و"الفتيا ومناهج الإفتاء" "ص24". "د".
5 لأن الأجتهاد إنما يباح عند الضرورة، كذا قال البيهقي، ثم روى عن معاذ: "أيها الناس! لا تعجلوا بالبلاء قبل وقوعه". "د".
قلت: أخرج أثر معاذ الدارمي في "السنن" "1/ 56"، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 296"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 12"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 293"، وإسحاق في "مسنده"؛ كما في "المطالب العالية" "3009"، وقال ابن حجر فيه: "إسناده حسن".
قلت: وفيه جهالة أصحاب طاوس.

 

ج / 5 ص -373-       أمر فيه نص1 شرعي بالنسبة إلى المتعلم، لا مطلقا، ويكون السائل ممن يحتمل عقله الجواب، ولا يؤدي السؤال إلى تعمق ولا تكلف، وهو مما يبنى عليه عمل شرعي، وأشباه ذلك، وقد لا يلزم الجواب في مواضع، كما إذا لم يتعين عليه، أو المسألة اجتهادية2 لا نص فيها للشارع، وقد لا يجوز، كما إذا لم يحتمل3 عقله الجواب، أو كان فيه تعمق، أو أكثر من السؤالات التي هي من جنس الأغاليط، وفيه4 نوع اعتراض، ولا بد من ذكر جملة يتبين بها هذا المعنى بحول الله في أثناء المسائل الآتية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وإن لم يقع بالفعل. "د".
2 ينظر: هل يجب عليه بذل الوسع عند استيفاء الشروط المذكورة وإن لم يصل كما كان مالك يفعل؟ وهو المنقول عن أبي الخطاب وابن عقيل وغيرهما؛ فيحمل عليه كلامه بأن الذي لا يلزمه إنما هو جواب المسألة؛ لأنه قد لا يصل إليه اجتهاده. "د".
قلت: سئل سحنون "المتوفى 240هـ" رحمه الله، أيسع العالم أن يقول: "لا أدري" فيما يدري؟ قال: "أما ما فيه كتاب أو سنة ثابتة، فلا، وأما ما كان من هذا الرأي؛ فإنه يسعه ذلك؛ لأنه لا يدري أمصيب هو أم مخطئ". ذكره الذهبي في "السير" "12/ 65".
3 قال ابن عقيل: "في هذا تحرم الإجابة، ولعله المراد بقول ابن الجوزي: لا ينبغي" ا. هـ. "شرح التحرير"، وسيأتي أن بعض الأسئلة يشتد فيه النهي، وبعضها يخفف، والإجابة بحسبه، كما يأتي أيضًا أن السؤال المتضمن للاعتراض ومعارضة الكتاب والسنة بالرأي مستقل بسببية النهي بقطع النظر عن كونه من الأغاليط، وعليه؛ فقوله: "وفيه نوع اعتراض" ليس قيدًا لما قبله؛ فحقه "أو" كالسببين قبله. "د".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "وفيه".

 

ج / 5 ص -374-       المسألة الثانية:
الإكثار من الأسئلة مذموم، والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح؛ من ذلك قوله تعالى: {يا أيها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ1 إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية: [المائدة: 101].
وفى الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قرأ:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية [آل عمران: 97]. فقال رجل: يا رسول الله! أكُلَّ عام؟ فأعرض ثم قال: يا رسول الله! أكل عام "ثلاثا"؟ وفى كل ذلك يعرض، وقال في الرابعة: "والذى نفسي بيده؛ لو قلتُها لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها، ولو لم تقوموا بها لكفرتم؛ فذروني ما تركتكم"2.
وفى مثل هذا3 نزلت:
{لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاء} الآية [المائدة: 101].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والمراد بالأشياء ما لاخير لهم فيه من التكاليف الشاقة عليهم، والأسرار الخفية التي قد يُفتضحون بها، وكل يسوء؛ أما الثاني؛ فظاهر؛ أما الأول؛ فلأن السؤال عما لم كلفوا به ربما كان سببًا في التكليف؛ عقوبة لخروجهم عن الأدب، وتركهم بما يليق بهم من التسليم لله من غير تعرض للكميات والكيفيات؛ كما يشير إليه حديث الحج، وإن لم يقع هذا النوع من العقوبة من هذه الشريعة السمحة، وإذا كان كذلك؛ ظهر أن الاستدلال بالآية فيه قصور عن المدعى؛ لأنه إنما يظهر ذلك في مدة الوحي، والمدعى أوسع من هذا. "د".
قلت: قال ابن العربي في "أحكام القرآن" "2/ 700" في "المسألة السادسة" من المسائل تحت الآية المذكورة: "اعتقد قوم من الغافلين تحريم أسئلة النوازل حتى تقع؛ تعلقًا بهذه الآية، وهو جهل؛ لأن هذه الآية قد صرحت بأن السؤال المنهي عنه إنما كان فيما تقع المساءة في جوابه، ولا مساءة في جواب نوازل الوقت".
2 مضى تخريجه "1/ 256"، والرجل هو الأقرع بن حابس كما صرح به النسائي "5/ 83"، والدارقطني "2/ 279"، وابن ماجه "رقم 1886"، وانظر: "تنبيه المعلم" "رقم 512" وتعليقنا عليه.
3 قيل: نزلت لهذا السبب نفسه، وهو السؤال عن فرضية الحج في كل عام، وقالوا: إنه =

 

ج / 5 ص -375-       وكره عليه الصلاة والسلام المسائل وعابها، ونهى عن كثرة السؤال، وكان عليه الصلاة والسلام يكره السؤال فيما لم ينزل1 فيه حكم، وقال:
"إن الله فرض فرائض؛ فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء؛ فلا تنتهكوها، وحد حدودا؛ فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء رحمة بكم؛ لا عن نسيان؛ فلا تبحثوا عنها"2.
وقال ابن عباس: "ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة3 مسألة حتى قبض صلى الله عليه وسلم، كلهن في القرآن:
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيض} [البقرة: 222].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأقرب، وقيل: نزلت حيثما ألحفوا في السؤال وهو يخطب عليه السلام على المنبر؛ حتى غضب، وقال:
"من أحب أن يَسأل عن شيء فليسأل..." إلى آخر الحديث الآتي، ولذلك قال: "وفي مثله"، أي: "وهو الإلحاف في السؤال، سواء أكان في خصوص مادة الحديث السابق أم في غيرها. "د".
قلت: مضى تخريج سبب نزول الآية في "1/ 45، 258"؛ فانظره هناك.
1 هذا أيضًا مما يقتضي تقييد ذم كثرة السؤال، ومثله ما يأتي عن الربيع، وسيأتي قيد آخر في كلام ابن عمر، ولذلك عُقد الفصل بعدُ، وبه تتبين القيود التي يلزم أن تراعى في أصل المسألة. "د".
2 مضى تخريجه "1/ 253".
3 ينظر في توجيه العدد مع أن المتتبع لأسئلتهم يجد ما فوق المئات، وتوجيهه بأن المراد أن ما ذكر في القرآن من هذا العدد فقط لا يفيد المؤلف في غرضه. "د".
قلت: التوجيه المذكور نص عليه في الأثر، وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 77": "قلت: ومراد ابن عباس بقوله: "ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة": المسائل التي حكاها الله في القرآن عنهم: وإلا؛ فالمسائل التي سألوه عنها وبين لهم أحكامها بالسنة لا تكاد تحصى"، وذكر في آخر "الجزء الرابع، ص266-414"، جملة كثيرة من أسئلة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وفتاواه فيها.
بقي تحرير عدد الأسئلة التي في القرآن، تتابعت مصادر التخريج على إيراد الأثر بلفظ: "ثلاث عشر مسألة"، وعند البزار: "عن اثنتي عشرة مسألة"، كلها في "القرآن"، قال السيوطي في "الإتقان" "2/ 315" عقبه: "وأورده الإمام الرازي بلفظ: "أربعة عشر حرفًا"، ثم ذكرها عنها =

 

ج / 5 ص -376-       {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220].
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَام} [البقرة: 217].
ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم"1.
يعني أن هذا كان الغالب2 عليهم.
وفى الحديث:
"إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليه؛ فحرم عليهم من أجل مسألته"3.
وقال:
"ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= تعدادًا، ثم بيَّن أن اثنين منها -وهما السؤال عن الروح، والسؤال عن ذي القرنين- سألهما غير الصحابة، ثم قال: "فالخالص اثنا عشر؛ كما صحت به الرواية".
قلت: رواية الطبراني فيها ستة من الأسئلة، وبعضها ليس في القرآن.
1 أخرجه الدرامي في "السنن" "1/ 51"، والطبراني في "الكبير" "11/ 454/ رقم 12288"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 296" "رقم 296" من طريق محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به، بألفاظ متقاربة.
وقال ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1062/ رقم 2053": "وروى جرير بن عبد الحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء... "وذكره".
قلت: وجرير، وابن فضيل ممن رويا عن عطاء بعد الاختلاط؛ فالإسناد ضعيف؛ قال الهيثمي في "المجمع" "1/ 159": "فيه عطاء بن السائب، وهو ثقة، ولكنه اختلط، وبقية رجاله ثقات"، وحكمه هذا أدق من قول ابن مفلح في "الآداب الشرعية" "2/ 77": "إسناده حسن"؛ إلا أنه فاته العزو للبزار، وهو عنده باللفظ الذي أوردناه آنفًا؛ كما أفاده السيوطي في "الإتقان" "في النوع الثاني والأربعين 2/ 315"، وصححه.
2 فلا ينافي سؤال بعضهم: "ما بال الهلال... إلخ؟"، وسؤال حذافة: "من أبي؟". "د".
قلت: تخريجها -على الترتيب- "3/ 149-150، 1/ 45".
3 مضى تخريجه "1/ 48/ 256"، وفي "ط": @"لم يحرم عليهم".

 

ج / 5 ص -377-       على أنبيائهم"1.
وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب؛ فذكر الساعة وذكر قبلها أمورا عظاما، ثم قال:
"من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه؛ فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا". قال: فأكثر الناس من البكاء حين سمعوا ذلك، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: "سَلُوني". فقام عبد الله ابن حذافة السهمي؛ فقال: من أبي؟ فقال: "أبوك حذافة". فلما أكثر أن يقول: "سَلُوني"؛ برك عمر بن الخطاب على ركبتيه فقال: يا رسول الله! رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبينا. قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك، وقال أولًا: "والذي نفسي بيده؛ لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أُصلي؛ فلم أر كاليوم في الخير والشر"2!!.
وظاهر هذا المساق يقتضي أنه إنما قال:
"سلوني" في معرض الغضب، تنكيلا بهم في السؤال حتى يروا عاقبة ذلك؛ ولأجل ذلك3 ورد في الآية قوله: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم} [المائدة: 101].
ومثل ذلك قصة أصحاب البقرة؛ فقد روي عن ابن عباس أنه قال: "لو ذبحوا بقرة ما أجزأتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم حتى ذبحوها وما كادوا يفعلون"4.
وقال الربيع بن خثيم5: "يا عبد الله! ما علمك الله في كتابه من علم؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 256".
2 مضى تخريجه "1/ 45، 258"، وهو في "الصحيحين".
3 أي: بناء على أن الآية نزلت في تلك القصة. "د".
4 مضى تخريجه "1/ 49".
5 كذا في الأصل و"ط"، وهو الصواب، وفي النسخ المطبوعة: "خيثم" بتقديم التحتية على الثاء المثلث, وهو خطأ.

 

ج / 5 ص -378-       فاحمد الله، وما استأثر عليك به من علم؛ فكِلْهُ إلى عالمه ولا تتكلف؛ فإن الله يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]1 إلخ.
وعن ابن عمر؛ قال: "لا تسألوا عما لم يكن؛ فإني سمعت عمر يلعن من سأل عما لم يكن"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو ذر الهروي في "ذم الكلام" "ص138"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1044/ رقم 2011" من طرق عنه بألفاظ متقاربة، وهو حسن.
2 أخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 47" من طريق حماد بن زيد عن أبيه؛ قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن شيء لا أدري ما هو؛ فقال له ابن عمر... "وذكره".
ورجاله ثقات؛ إلا أنه ضعيف؛ زيد بن درهم والد حماد لم يلق ابن عمر؛ فهو منقطع.
وأخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 1054-1055/ رقم 2036" من طريق شريك عن ليث "وهو ابن أبي سليم" عن طاوس عن ابن عمر مثله.
وإسناده ضعيف أيضًا.
وأخرجه الدارمي في "السنن" "1/ 47" -ومن طريقه البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 293"- وابن بطة في "الإبانة" "317"، وابن عبد البر في "الجامع" "2051، 2052" من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن طاوس؛ قال: قال عمر وهو على المنبر: "أحرّج بالله على كل امرئ مسلم سأل عن شيء لم يكن؛ فإن الله قد بين ما هو كائن".
ورجاله ثقات؛ إلا أنه ضعيف لانقطاعه، فإن طاوس لم يلقَ عمر.
وأخرجه أبو خيثمة في "العلم" "رقم 125"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2056" من طريق حبيب بن الشهيد، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 292" من طريق سفيان، كلاهما: ابن طاوس عن طاوس؛ قال: قال عمر: "لا يحل أن تسألوا عما لم يكن...".
وإسناده منقطع كالذي قبله.
وأخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" "712" من طريق يعلى بن عبيد، عن أبي سنان، عن عمرو بن مرة؛ قال: خرج عمر على الناس؛ فقال: "أحرج عليكم أن تسألونا عما لم يكن...".
وإسناده ثقات؛ إلا أنه منطقع أيضًا، عمرو بن مرة لم يلقَ عمر. =

 

ج / 5 ص -379-       وفي الحديث؛ أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن الأغلوطات"1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والأثر بمجموع هذه الطرق يدل على أن له أصلًا.
وهناك شواهد كثيرة عن السلف تدل على كراهيتهم السؤال عن الحوادث قبل وقوعها، تراها في مقدمة "سنن الدارمي" "باب كراهة الفتيا"، "الفقيه والمتفقه" "2/ 7، باب القول في السؤال عن الحادثة والكلام فيها قبل وقوعها"، و"جامع بيان العلم" "2/ 1037 وما بعده -ط ابن الجوزي، باب ما جاء في ذم القول في دين الله تعالى وبالرأي والظن والقياس على غير أصل، وعيب الإكثار من المسائل دون اعتبار"، و"المدخل إلى السنن الكبرى" "للبيهقي "ص218 ومما بعدها، باب من كره المسألة عما لم يكن ولم ينزل به وحي"، و"الآداب الشرعية" "2/ 76-79" لابن مفلح.
وانظر في الكلام على هذا المسلك في الفقه وتأريخه والمقدار المحمود منه في "أحكام القرآن" لابن العربي "2/ 700"، و"أحكام القرآن" للجصاص "2/ 483، و"جامع العلوم والحكم" "شرح الحديث التاسع 1/ 243"، و"الفقيه والمتفقه" "2/ 9-12"، و"إعلام الموقعين" "4/ 221"، الفائدة 38 في آخر الكتاب"، و"الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" "2/ 117-122"، و"منهج السلف في السؤال عن العلم وفي تعلم ما يقع وما لم يقع".
1 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب العلم، باب التوقف في الفتيا 3/ 321/ رقم 3656"، وأحمد في "المسند" "5/ 435"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "1/ 305"، والطبراني في "الكبير" "19/ 380/ رقم 982"، والآجري في "أخلاق العلماء" "183"، وتمام في "الفوائد" "رقم 114، 115، 116 - مع ترتيبه الروض البسام"، وابن بطة في "الإبانة" "300، 302"، والدارقطني في "الأفراد" "ق246/ أ – ب - مع أطراف الغرائب"، والخطابي في "غريب الحديث" "1/ 354"، والهروي في "ذم الكلام" "ص135"، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 303، 305"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 10-11"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1055-1056/ رقم 2037، 2038"، والمزي في "تهذيب الكمال" "ق687" من طريقين عن الأوزاعي، عن عبد الله بن سعد، عن الصنابحي عن معاوية مرفوعًا، وفي إحدى الطرقين أبهم اسم الصحابي.
وإسناده ضعيف من أجل عبد الله بن سعد بن فروة؛ فإنه مجهول كما قال أبو حاتم في "الجرح والتعديل" "2/ 2/ 64"، وترجمه ابن حبان في "الثقات" "7/ 39"، وقال: "يخطئ"، =

 

ج / 5 ص -380-       فسره الأوزاعي؛ فقال: "يعني: صعاب المسائل"1.
وذكرت المسائل عند معاوية فقال: "أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وبه أعله المنذري في "مختصر سنن أبي داود" "5/ 250"، ولذا قال فيه ابن حجر في "التقريب": "مقبول"؛ أي: إذا توبع، ولم يتابع. وانظر ترجمته في "ميزان الاعتدال" "2/ 428".
نعم، له شواهد، ولكن لا يفرح بها.
أخرجه الطبراني في "الكبير" "19/ 913"، وفي "مسند الشاميين" "رقم 2130" من طريق سليمان بن داود الشاذكوني عن عبد الملك بن عبد الله عن إبراهيم بن أبي عبلة عن رجاء بن حيوة عن معاوية مرفوعًا، والشاذكوني متهم.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" "19/ رقم 865"، وفي "مسند الشاميين" "رقم 2257"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1056/ رقم 2039" من طريق سليمان بن أحمد الواسطي عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن عبادة بن نُسَيّ، عن الصنابحي عن معاوية مرفوعًا بلفظ: "نهى عن عضل المسائل".
وهذا إسناده واهٍ، فيه علل كثيرة:
الأولى: مخالفة الوليد بن مسلم لكل من عيسى بن يونس وروح بن عبادة؛ إذ روياه عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي، قال الأول: عن معاوية، وقال الآخر: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمه.
الثانية: الوليد بن مسلم مدلس، ولم يصرح بالسماع.
الثالثة: جهالة عبد الله بن سعد كما تقدم.
الرابعة: سليمان بن أحمد الواسطي، متروك، بل اتهمه ابن معين.
قال الدراقطني في "العلل" "7/ 67/ رقم 1219": "والصحيح حديث عيسى بن يونس"، وأفاد أن عبد الملك بن محمد الصنعاني رواه فوهم فيه؛ فقال: "عن الأوزاعي عن عمرو "!!" بن سعد عن عبادة بن نسي عن معاوية"!.
وعلى أي حال الحديث ضعيف، لا يجوز الاحتجاج به.
وفسر "ف" -وتبعه "م"- الأغلوطات؛ فقال: "أي: التي يغالط بها العلماء؛ ليزلوا؛ فيهيج بذلك شر وفتنةٌ، وإنما نهى عنها؛ لأنها مع إيذائها غير نافعة في الدين، ومثله قول ابن مسعود: "أنذرتكم صعاب المنطق"؛ يريد المسائل الدقيقة الغامضة.
1 ووقع تفسيره مسندا عقب طرقه السابقة، ولا سيما عند الحربي.

 

ج / 5 ص -381-       عن عضل المسائل؟".
وعن عبدة بن أبي لبابة قال: "وددت أن حظي من أهل هذا الزمان أن لا أسألهم عن شيء، ولا يسألوني [عن شيء]، يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثرون أهل الدراهم بالدراهم"2.
وورد في الحديث:
"إياكم وكثرة السؤال"3.
وسئل مالك عن حديث:
"نهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال"4؛ قال: "أما كثرة السؤال؛ فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل، فقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، وقال الله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]؛ فلا أدري أهو هذا، أم السؤال في [مسألة الناس في] الاستعطاء؟" 5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه بهذا اللفظ في الحديث الذي قبله، وكتب "ف" -وتبعه "م"- موضحًا "عضل المسائل" ما نصه: "جمع عضلة كغرفة وغرف، والمعضلة هي الأمر المعيي الذي لا يهتدى لوجهه، وفي حديث عمر: "أعوذ بالله من كل معضلة ليس لها أبو حسن -يريد عليًّا كرم الله وجهه-". ثم استعمل استعمال النكرات؛ فقيل في كل مشكلة معضلة ولا أبا حسن لها ".
2 أخرجه الدارمي "207"، أبو ذر الهروي في "ذم الكلام" "ص91"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1058-1059/ رقم 2045" -والمذكور لفظه، وما بين المعقوفتين منه- وإسناده حسن.
3 أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1059" من طريق إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن الحجاج بن عامر الثمالي مرفوعًا.
وشرحبيل صدوق، فيه لين وهو شامي، وإسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده، ومخلط في غيرهم. وفي "ط": "وروي في الحديث...".
4 مضى تخريجه، وهو في "الصحيحين".
5 قال ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1059/ رقم 2047": "وفي سماع أشهب: سئل مالك عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم... "وذكره".
وأخرج زهير بن حرب أبو خيثمة في "العلم" "رقم 77" -ومن طريقه أبو ذر الهروي في "ذم =

 

ج / 5 ص -382-       وعن عمر بن الخطاب؛ أنه قال على المنبر: "أحرج بالله على كل امرئ سأل عن شيء لم يكن1؛ فإن الله [قد]2 بين ما هو كائن"3.
وقال ابن وهب: "قال لي مالك وهو ينكر كثرة الجواب للمسائل: يا عبد الله! ما علمته فقل به ودل عليه وما لم تعلم فاسكت عنه وإياك أن تتقلد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الكلام" "ص132"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1057/ رقم 2042"-عن عبد الرحمن بن مهدي ثنا مالك عن الزهري عن سهل بن سعد قال: "كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها".
وهكذا ذكره زهير بن حرب، ورواه عنه ابنه أحمد -كما عند ابن عبد البر- فقال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها"، وهذا خلاف لفظ "الموطأ"، وكذا خلاف لفظ غير واحد ممن رواه عن مالك على الجادة بلفظ: "كره "كما عند مالك في "الموطأ" "2/ 566 - رواية يحيى"- ومن طريقه البخاري في "الصحيح" "كتاب الطلاق، باب من جوز الطلاق الثلاث...، 9/ 361/ رقم 5259"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب اللعان، باب منه، 2/ 1129/ رقم 1492"، وأحمد في "المسند" "5/ 334"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب في اللعان، 2/ 273/ رقم 2245"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "رقم 2043، 2044" -عن الزهري به، وفيه قصة طويلة.
وأخرجه من طرق عن الزهري به البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ}، 8/ 448/ رقم 4745، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، 13/ 276/ رقم 7304"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب اللعان، باب منه، 2/ 1130/ رقم 1492 بعد 2، 3"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطلاق، باب بدء اللعان، 6/ 170/ رقم 3466"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الطلاق، باب اللعان، 2/ 667/ رقم 2066"، وأحمد في "المسند" "5/ 336، 337".
1 يريد الافتراضات الصرفة، أما ما يقع في العادة؛ فإن الشريعة تكفلت به لا ينقصها منه شيء، وهذا معنى قوله: "فإن الله قد بين ما هو كائن". "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
3 مضى تخريجه بهذا اللفظ "ص378 - الهامش".

 

ج / 5 ص -383-       للناس قلادة سوء"1.
وقال الأوزاعي: "إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه الأغاليط"2.
وعن الحسن؛ قال: "إن شرار عباد الله الذين يجيئون بشرار المسائل، يعنتون بها عباد الله"3.
وقال الشعبي: "والله؛ لقد بغض هؤلاء القوم إليَّ المسجد حتى لهو أبغض إلى من كناسة داري. قلت: من هم يا أبا عمرو4؟ قال: الأرَأَيْتِيُّون"5.
وقال: "ما كلمة أبغض إلى من "أَرَأَيْتَ"6.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 822"، والخطب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 170"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1071/ رقم 2080"، والدوري "فيما رواه الأكابر عن مالك" "رقم 39" بإسناد صحيح إلى ابن وهب به.
2 أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1073/ رقم 2083" بإسناد صحيح.
3 أخرجه ابن بطة في "الإبانة" "304، 305"، وعلقه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 2084"، وهو صحيح.
4 كذا في الأصل و"ط"، وفي جميع النسخ المطبوعة: "عمر"، وهو خطأ، انظر: "تهذيب الكمال" "14/ 28".
5 أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" "6/ 251"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 600، 601، 602، 603"، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 215"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "رقم 2089"، وأبو ذر الهروي في "ذم الكلام" "ص105"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 184"، وهو صحيح عنه.
وكتب "ف" -وتبعه "م"- تعليقًا على "الأرأيتيون": "بهمزة قبل التاء؛ أي: الذين يكثرون من قول أرأيت".
6 أخرجه البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 226"، وابن عبد البر في الجامع" "رقم 2095"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 605"، وهو صحيح عنه.

 

ج / 5 ص -384-       وقال أيضا لداود الأودي1: "احفظ عنى ثلاثا [لها شأن]2: إذا سئلت عن مسألة فأجبت فيها؛ فلا تتبع مسألتك3 أرأيت، فإن الله قال في كتابه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43]؛ حتى فرغ من الآية، والثانية إذا سئلت عن مسألة؛ فلا تقس4 شيئا بشيء، فربما حرمت حلالا أو حللت حراما والثالثة إذا سئلت عما لا تعلم؛ فقل لا أعلم وأنا شريكك"5.
وقال يحيى بن أيوب: "بلغني أن أهل العلم كانوا يقولون: إذا أراد الله أن لا يعلم عبده [خيرًا] أشغله بالأغاليط"6.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل وجميع النسخ المطبوعة: "ألا"، وهو خطأ؛ إذ هو جزء من كلمة "الأودي"، وعلق "ف"- وتبعه "م"- بقوله: "في الأصل بياض، ولعل محله: "ألا تريد أن تعلم أو أن تسلم، احفظ عني ثلاثًا، الأولى: إذا سألت.. إلخ".
قلت: الصواب ما ذكرناه، وهو كذا في "ط" ومصادر التخريج الآتية.
2 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة، وأثبتناه من الأصل و"ط" ومصادر التخريج.
3 أي: فلا تعقب جوابك بتأييده ببحث عقلي وتأييد نظري؛ حتى لا تكون مبتعًا للهوى، هذا ما يفيده الاستدلال بالآية ويشير إليه قوله بعد: "ومتابعة المسائل.. إلخ"، وإن كان كلامه الآتي عاما في السائل والمجيب، ثم هل هذا يستقيم في أيامنا هذه، أم أن المصلحة تقتضي التأييد بالعقليات؟ وعلى كل حال يلزم تقييده بغير ما يفيد وجهة نظر الشرع في الحكم، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم كان يقولها في هذه المواطن؛ كقوله:
"أرأيت لو كان على أبيك دين؟"، وسيأتي في الفصل بعده ما يؤيده، حيث قيد في النوع الخامس في الأسئلة المذمومة كراهة السؤال عن علة الحكم بأن يكون في أمر تعبدي أو يكون السائل غير أهل لذلك. "د".
4 إذا لم يكن الشعبي ممن يمنعون القياس يلزم حمل كلامه على غير إطلاقه. "د".
5 أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1076-1077/ رقم 2096"، والإسناد فيه ضعف، داود بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي فيه ضعف.
6 أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1077-1078/ رقم 2099" عن يحيى بن أيوب به، وإسناده صحيح.

 

ج / 5 ص -385-       والآثار كثيرة.
والحاصل [منها] أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية مذموم، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعظوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه، وكانوا يحبون أن يجيء الأعراب فيسألوه1 حتى يسمعوا كلامه، ويحفظوا منه العلم، ألا ترى ما في "الصحيح" عن أنس؛ قال: "نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع"2.
ولقد أمسكوا عن السؤال حتى جاء جبريل، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأمارتها، ثم أخبرهم عليه الصلاة والسلام أنه جبريل، وقال: "أراد أن تعلموا3 إذ لم تسألوا"4.
وهكذا كان مالك بن أنس لا يقدم عليه في السؤال كثيرا، وكان أصحابه يهابون ذلك، قال أسد بن الفرات -وقد قدم على مالك: "وكان ابن القاسم وغيره من أصحابه يجعلونني أسأله عن المسألة، فإذا أجاب يقولون: قل له فإن كان كذا؛ فأقول له: فضاق علي يوما فقال لي: هذه سليسلة بنت سليسلة، إن أردت هذا فعليك بالعراق"5، وإنما كان مالك يكره فقه العراقيين وأحوالهم لإيغالهم في المسائل وكثرة تفريعهم في الرأي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "فيسألون".
2 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب السؤال عن أركان الإسلام، 1/ 41/ رقم 12 بعد 10" عن أنس رضي الله عنه".
3 "تعلموا" ضبطناه على وجهين: "تعلَّمُوا"؛ أي: تتعلموا، والثاني: "تعلَموا"، أفاده النووي.
4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان العلم والإسلام والإحسان 1/ 40/ رقم 10" عن أبي هريرة مرفوعًا".
5 ذكره القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 466".

 

ج / 5 ص -386-       وقد جاء عن عائشة أن امرأة سألتها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة؛ فقالت لها: "أحرورية أنت؟" إنكارا عليها السؤال عن مثل هذا. وقضى النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة؛ فقال الذى قضى عليه: كيف أغرم ما لا شرب2 ولا أكل، ولا شهق ولا استهل، ومثل ذلك يُطَلُّ3 فقال عليه الصلاة والسلام: "إنما هذا من إخوان الكهان"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 526".
2 في النسخ المطبوعة و"ط": "ما لا شرب" والمذكور من الأصل، وكذا في "صحيح البخاري"، قال ابن حجر في "الفتح" "10/ 218": "ووقع في رواية مالك: "ما لا" بدل "من لا"، وهذا هو الذي في "الموطأ"، وقال أبو عثمان بن جني: معنى قوله: "لا أكل"؛ أي: لم يأكل، أقام الفعل الماضي مقام المضارع"، وفي "ط": "ولا أكل ولا نطق".
3 كذا في الأصل، وفي نسخة "م": "ومثل هذا يطل"، وفي "ف": "ومثل ذلك باطل"، وفي "د" و"ط": "ومثل ذلك بطل".
قال ابن حجر في "الفتح" "10/ 218": "يطل: للأكثر بضم المثناة التحتانية، وفتح الطاء المهملة، وتشديد اللام؛ أي: يهدر، يقال: دم فلان هدر، إذا ترك الطلب بثأره، وطل الدم بضم الطاء وفتحها أيضًا وحكي: أطل، ولم يعرفه الأصمعي، ووقع للكشميهني في رواية ابن مسافر "بطل"؛ بفتح الموحدة، ,التخفيف: من البطلان، كذا رأيته في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر، وزعم عياض أنه وقع هنا للجميع بالموحدة، قال: "بالوجهين في "الموطأ"، وقد رجح الخطابي أنه من البطلان، وأنكره ابن بطال؛ فقال: كذا يقوله أهل الحديث: وإنما هو "طل الدم"؛ إذا هدر.
قلت: وليس لإنكار معنى بعد ثبوت الرواية، وهو موجه، راجع إلى معنى الرواية الأخرى" انتهى.
وعبارة القاضي عياض في "مشارق الأنوار" "1/ 88" هذا نصها: "ورأيت في بعض الأصول من "الموطأ" عن ابن بكير بالوجهين، قرأناها على مالك في "موطئه"، ورجح الخطابي رواية الياء باثنتين على رواية الباء بواحدة فيه". قلت: ونقل عياض عن الخطابي مخالف لما ذكره ابن حجر عنه؛ فتنبه، وكلام الخطابي في "إعلام الحديث" "3/ 2138" يؤيد رواية الباء، ونص كلامه في "الغريب" "3/ 251": "عامة المحدثين يقولون: بطل من البطلان، ورواه بعضهم: يطل؛ أي: يهدر وهو جيد في هذا الموضع".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الطب، باب الكهانة، 10/ 216/ رقم =

 

ج / 5 ص -387-       وقال1 ربيعة لسعيد في مسألة عقل الأصابع حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها: "نقص عقلها؟ فقال سعيد: أعراقي أنت؟ فقلت: بل عالم متثبت أو جاهل متعلم. فقال: هي السنة يا ابن أخي"2.
وهذا كاف في كراهية كثرة السؤال في الجملة.
فصل:
ويتبين من هذا أن لكراهية السؤال مواضع، نذكر منها عشرة مواضع3:
أحدها: السؤال عما لا ينفع في الدين؛ كسؤال عبد الله بن حذافة: من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 5758، 5759، 5760، وكتاب الفرائض، باب ميراث المرأة والزوج مع الولد وغيره، 12/ 24/ 6740، وكتاب الديات، باب جنين المرأة، 12/ 246/ رقم 6904، وباب جنين المرأة وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد، 12/ 252/ رقم 6909، 6910" -وليس فيه الموطن الشاهد إلا في باب الكهانة؛ إذ ورد في سواه مختصرًا- ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني، 3/ 1309-1310/ رقم 1681 بعد 36" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
1 من نوع أسئلة الاعتراض مع التنكيت في شدة المصيبة ونقصان العقل بالتورية، وسيشير إليه بعد. "د".
2 مضى "2/ 526"، وانظر -غير مأمور- تعليقنا عليه.
3 انظر في هذا: "إعلام الموقعين" "4/ 157"، و"الفروق" "1/ 34"، و"الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام" "ص264-366" - وفي التعليق عليه ما نصه: "وقد عقد الإمام الشاطبي في "الموافقات" فصلًا حسنًا، ساق فيه عشرة نماذج مختلفة للأمور التي يكره السؤال فيها، ثم قال: "ويقاس عليها ما سواها"، وكأنه قعد فيها ما رسمه القرافي هنا، رحمة الله عليهما، فعد إليها، فإنها مما يسافر إلى تحصليه"- و"فيض القدير" "6/ 355" للمناوي، و"مباحث في أحكام الفتوى" "ص41-44"، و"صفة المفتي والمستفتي" "ص44، 47، 49، 51"، و"الفتوى في الإسلام" "ص100" للقاسمي، و"الفقيه والمتفقة" "2/ 197"، و"إرشاد الفحول" "ص266".

 

ج / 5 ص -388-       أبي1"، وروي في التفسير أنه عليه الصلاة والسلام سئل: ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط، ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدرا، ثم ينقص إلى أن يصير كما كان؟ فأنزل الله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ}2 الآية [إلى قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189]؛ فأنما أجيب3 بما فيه من منافع الدين.
والثاني: أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته؛ كما سأل الرجل عن الحج: أكل عام4؟ مع أن قوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] قاض بظاهره أنه للأبد لإطلاقه، ومثله سؤال بني إسرائيل5 بعد قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67].
والثالث: السؤال من غير احتياج إليه في الوقت، وكان هذا والله أعلم خاص6 بما لم ينزل فيه حكم، وعليه يدل قوله:
"ذروني ما تركتكم"7، وقوله: "وسكت عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان؛ فلا تبحثوا عنها"8.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 45، 258".
2 إذا كان السؤال عن العلة والسبب تم التقريب، وكان الجواب في الآية الشريعة والخبر من الأسلوب الحكيم، ويسمى القول بالموجب، وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب تنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله، وإن كان عن الغاية والحكمة، أي ما شأن الهلال وحكمة اختلاف تشكلاته النورية بدءًا وعودا؛ كان الجواب مطابقًا للحكمة الظاهرة اللائقة بشأن التبليغ العام المذكرة لنعمة الله تعالى ومزيد رأفته سبحانه، ولم يكن مما نحن فيه. "ف".
قلت: ومضى تخريج سبب النزول بالتفصيل في "3/ 149".
3 راجع: "روح المعاني" "2/ 72" في تفسير الآية يتضح المقام. "د".
4 يشير إلى الحديث المتقدم لفظه وتخريجه في "1/ 256".
5 انظر أثر ابن عباس في ذلك وتخريجه في "1/ 45".
6 هذا متعين، وإلا لمنع من تعلم العلم الزائد عما يحتاج إليه الشخص في الوقت، ولا يقول بهذا أحد. "1/ 256".
8 مضى تخريجه "1/ 253".

 

ج / 5 ص -389-       والرابع1: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها؛ كما جاء في النهي عن الأغلوطات2.
والخامس: أن يسأل عن علة الحكم، وهو من قبيل التعبدات التي لا يعقل لها معنى، أو السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة3.
والسادس: أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق4، وعلى ذلك يدل قوله تعالى:
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، ولما سأل الرجل5: "يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ قال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا؛ فإنا نرد على السباع وترد علينا"6. الحديث.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ينطبق عليه أيضًا الأول والثالث؛ فالأغلوطات لا تنفع في الدين، وأيضًا لا حاجة لها في العلم. "د".
2 مضت الأحاديث الواردة في ذلك مع تخريجها قريبًا.
3 انظر ما مضى عند المصنف "2/ 526"، والحديث مضى تخريجه "2/ 526".
4 أي: التعمق في الدين، كما في السؤال عن ورود السباع الحوض، وكما سيأتي في الاعتراض على الظواهر بتحميلها ما يبعد عنها. "د".
5 هو عمرو بن العاص، كان في ركب عمر. "د".
قلت: وقع التصريح به في مصادر التخريج الآتية.
6 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 23-24/ رقم 14 - رواية يحيى، و1/ 26/ رقم 55 - رواية أبي مصعب، و42 - رواية محمد بن الحسن" - ومن طريقه عبد الرزاق في "المصنف" "رقم 250"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "1/ 250" و"الخلافيات" "3/ رقم 927"- عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر به.
وأخرجه الدراقطني في "السنن" "1/ 32"، وابن المنذر في "الأوسط" "1/ 310" من طريق حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد به.

 

ج / 5 ص -390-       والسابع: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي، ولذلك قال سعيد: "أعراقي أنت؟"1 وقيل لمالك بن أنس: "الرجل يكون عالما بالسنة؛ أيجادل عنها؟ قال: "لا2، ولكن يخبر بالسنة، فإن قبلت منه وإلا سكت"3.
والثامن: السؤال عن المتشابهات، وعلى ذلك يدل قوله تعالى:
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ} الآية [آل عمران: 7].
وعن عمر بن عبد العزيز: "من جعل دينه غرضًا4 للخصومات؛ أسرع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ورجاله ثقات؛ إلا أنه منقطع؛ لأن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب لم يدرك عمر، فإنه ولد في خلافة عثمان؛ فالإسناد ضعيف، وبه أعله النووي في "المجموع" "1/ 174"؛ إذ قال: "مرسل منطقع"، وكذا قال محمد بن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" "1/ 246"، وزاد النووي: "إلا أن هذا المرسل له شواهد تقويه".
قلت: له شاهد من حديث ابن عمر وآخر من حديث جابر، كلاهما مرفوعًا، إلا أنهما ضعيفان، انظر تفصيل ذلك في "تمام المنة" "ص47، 48"، و"الخلافيات" "3/ مسألة 39".
1 مضى تخريجه "2/ 526"، ومضى بتمامه قريبًا "ص387".
2 فيه النظر السابق، وهو أن هذا لا يصلح لزماننا الذي لا بد فيه من المجادلة لتأييد الحق، وإلا لم يسمع من كثير من الناس، وفي "إعلام الموقعين" "4/ 259": "عاب بعض الناس ذكر الدليل في الفتوى، قال ابن تيمية: بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل". "د".
قلت: انظر في ضرورة ذكر الدليل مع الفتوى: "إعلام الموقعين" "4/ 161، و"الفقيه والمتفقه" "1/ 321-322"، و"صفة الفتوى والمستفتي" "66"، و"الفتوى في الإسلام" "98-99" للقاسمي، و"الفتيا ومناهج الإفتاء" "ص118-119" للأشقر.
3 ذكر السجزي في "رسالته" إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف" "ص235"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 936/ رقم 1784"، والقاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 170" هكذا: "وقال الهيثم بن جميل: قلت: لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله! الرجل يكون... إلخ".
4 هكذا في الأصل، وفي النسخ المطبوعة: "عرضنا" -بالعين المهملة- وفي "ط": "عرضا"، وقال "د": "لعل الأصل "غرضًا" من الغين المعجمة؛ أي: هدفًا ومرمى، أما بالعين؛ فالذي يوافق المعنى "عرضة"؛ بالتاء، وضم العين".
قلت: والصواب بالغين المعجمة كما في مصادر التخريج.

 

ج / 5 ص -391-       التنقل"1.
ومن ذلك سؤال من سأل مالكا عن الاستواء، فقال: "الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة"2.
والتاسع: السؤال عما شجر3 بين السلف الصالح، وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين؛ فقال: "تلك دماء كف الله عنها يدي؛ فلا أحب أن يطلخ بها لساني"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الدارمي في "السنن" "رقم 310"، والآجري في "التشريعة" "1/ 56، 57"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 566، 568، 577، 578، 579، 580"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 128/ رقم 216"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 391/ رقم 1770" من طرق عنه، وهو حرف غامق.
2 أخرجه عثمان بن سعيد الدرامي، في "الرد على الجهمية" "رقم 104"، وأبو عثمان الصابوني في "عقيدة السلف" "رقم 24، 25، 26"، و"اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "664"، وأبو نعيم في "الحلية" "6/ 325-326"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" "2/ 304-305، 305-306/ رقم 866، 867 - ط المحققة"، وابن عبد البر في "التمهيد" "7-151" من طرق عنه.
وجود إسناده ابن حجر في "الفتح" "13/ 406، 407"، وقال الذهبي في "العلو" "ص141 - مختصره": "وهذا ثابت عن مالك، وتقدم عن ربيعة شيخ مالك، وهو قول السنة قاطبة".
3 أي: وقع. "ماء".
4 أخرجه الخطابي في "العزلة" "ص136 - ط دار ابن كثير" بسنده إلى الشافعي، ذكره عن عمر بن عبد العزيز.
وأخرجه بسند لا بأس به عن عمر بن عبد العزيز: ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 934/ رقم 1778"، وابن الجوزي في "سيرة عمر بن عبد العزيز" "ص165".

 

ج / 5 ص -392-       والعاشر: سؤال التعنت1 والإفحام وطلب الغلبة في الخصام، وفى القرآن في ذم نحو هذا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204].
وقال:
{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58].
وفى الحديث:
"أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم"2.
هذه جملة من المواضع التي يُكره السؤال فيها، يقاس عليها ما سواها، وليس النهي فيها واحدا، بل فيها ما تشتد كراهيته، ومنها ما يخف، ومنها ما يحرم، ومنها ما يكون محل اجتهاد، وعلى جملة3 منها يقع النهي عن الجدال في الدين؛ كما جاء "إن المراء في القرآن كفر"4.
وقال تعالى:
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} الآية [الأنعام: 68].
وأشباه ذلك من الآي أو الأحاديث؛ فالسؤال في مثل ذلك منهي عنه، والجواب بحسبه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يسأل ليعنت المسؤول ويقهره، لا يعلم، يعني: وإن لم تكن المسألة من الأغلوطات، وبذلك يغاير الرابع. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب
{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}، 8/ 188/ رقم 4523"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب العلم، باب في الآلد الخصم، 4/ 2054/ رقم 2668" عن عائشة رضي الله عنها.
3 يقع على خمسة منها. "د".
4 مضى تخريجه "3/ 40".

 

ج / 5 ص -393-       المسألة الثالثة:
ترك الاعتراض على الكبراء محمود، كان المعترض فيه مما يفهم أولا يفهم.
والدليل على ذلك أمور:
أحدها: ما جاء في القرآن الكريم؛ كقصة موسى مع الخضر1، واشتراطه عليه أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرا؛ فكان ما قصه الله تعالى من قوله:
{هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78]، وقول2 محمد عليه الصلاة والسلام: "يرحم الله موسى، لو صبر حتى يقص علينا من أخبارهما"3، وإن كان إنما تكلم بلسان العلم؛ فإن الخروج عن الشرط يوجب4 الخروج عن المشروط.
وروى في الأخبار5 أن الملائكة لما قالوا:
{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجها "1/ 456"، وهي في "الصحيحين".
2 أي: فالاعتراض كان سببًا من للحرمان من التوسع في العلم الخاص. "د".
3 مضى تخريجه "1/ 546".
4 وقد يقال: حينئذ: إن ذلك بسبب الخروج عن الشرط لا بسبب أصل الاعتراض. "د".
5 هذا الخبر متكلم فيه، وعلى فرض صحته إنما يظهر على القول بعد عصمة الملائكة الأرضية كما حكي عن بعضهم على ما فيه؛ ولذلك وقع إبليس فيما وقع إذ كان من الملائكة الأرضيين، وعلى أن سؤال الملائكة في الآية سؤال إنكار واعتراض على الله تعالى وطعن على آدم وبنيه، وكلاهما غير صحيح، وحاشا عباد الله المكرمين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون أن يسألوا ربهم كذلك، بل سؤالهم إنما وقع لاستكشاف الحكمة، وإزالة الشبهة التي أثارها في نفوسهم ما فهموه من اسم الخليفة، وما يقتضيه اختلاف طبائعه وتركيب أمزجته، وليس المقصود منه التعجب والتفاخر والاعتراض حتى يضر بعصمتهم كما قيل، ولو كان كذلك؛ لما كان الجواب بهذا التلطف والإقناع المفيد، قال تعالى:
{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}؛ فقد أقرهم على ما فهموه من الاسم الشريف، وأرشدهم بقصور علمهم إلى ما انطوى تحت سره المنيف، وأظهر لهم من شأنه =

 

ج / 5 ص -394-       وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} الآية [البقرة: 30]؛ فرد الله عليهم بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} أرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم.
وجاء في أشد من هذا اعتراض إبليس بقوله:
{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]؛ فهو الذى كتب له به الشقاء إلى يوم الدين لاعتراضه على الحكيم الخبير، وهو دليل في مسألتنا، وقصة1 أصحاب البقرة من هذا القبيل أيضًا، حين تعنتوا في السؤال فشدد الله عليهم.
والثاني: ما جاء في الأخبار؛ كحديث:
"تعالوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بتعليم آدم ما لم يعلموه ولن يعلموه؛ فازدادوا بذلك علمًا ويقينًا، وفهموا أنه الصالح للخلافة دونهم؛ فإن خليفة الله في عمارة أرضه وسياسة خلقه وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم يجب أن يكون جامعًا بين التجرد والتعلق، وحافظًا للنسبتين، وذلك لا يكون ملكًا وإنما يكون بشرًا، وآدم عليه السلام هو المجلي له سبحانه والجامع لصفتي جماله وجلاله، ومن هنا قال الخليفة الأعظم صلى الله عليه وسلم:
"إن الله تعالى خلق آدم على صورته" أو "على صورة الرحمن"، وبه جمعت الأضداد، وكملت النشأة، وظهر الحق، وفائدة هذه المقالة تعظيم شأن المجعول، وإظهار فضله، وتعريفه للملائكة؛ ليعرفوا قدره؛ لأنه باطن من الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية، وما يعرفه لبطونه من الملأ الأعلى إلا اللوح والقلم، والله أعلم. "ف".
قلت: قول المعلق: "وآدم عليه والسلام هو المجلي له... إلخ"، فيه نفس صوفي، ومتعلق للقائلين بوحدة الوجود، وهي عقيدة فاسدة؛ فافهم واحذر، وظفرت به عند الآلوسي في "روح المعاني" "1/ 220"، نقلًا عن ابن عربي الصوفي، وذكر الآلوسي ما أورده المصنف فيما سيأتي قريبًا "أرسل عليهم نارًا فأحرقتهم"، وزاد: "ورد في بعض الأخبار أن القائلين كانوا عشرة آلاف". وقال: "وعندي أن ذلك غير صحيح".
قلت: ومن مظان ذلك "عرائس المجالس" للثعالبي، ونظرت فيه؛ فلم أعثر على شيء وانظر عنه لزومًا: كتابنا "كتب حذر منها العلماء" "2/ 20".
1 أي: قولهم:
{أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67] فإنه استبعاد لما قاله وإنكار، أي: أين ما سألنا عنه بيان القاتل من الأمر بذبح البقر؟ فهو اعتراض على الكبراء.

 

ج / 5 ص -395-       بعده"1. فاعترض في ذلك بعض2 الصحابة حتى أمرهم عليه الصلاة والسلام بالخروج ولم يكتب3 لهم شيئًا.
وقصة أم إسماعيل حين نبع لها ماء زمزم، فحوضته ومنعت الماء من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، 8/ 132/ رقم 4431 و4432، وكتاب المرضى، باب قول المريض: قوموا عني، 10/ 126/ رقم 5669" ومسلم في "الصحيح" "كتاب الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه 3/ 1259/ رقم 1637" عن ابن عباس رضي الله عنهما بألفاظ منها:
"ائتوني أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعدي"، ومنها: "هلم أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعدي"، ومنها: "هلموا أكتب لكم...".
2 هو عمر رضي الله عنه، حيث قال: "إن رسول الله قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن..." إلى آخر الحديث. "د".
قلت: وقع التصريح بأن قائل المذكور عمر في "صحيح البخاري" "رقم 5669"، و"صحيح مسلم" "رقم 1637 بعد 22"، ووقع في الحديث: "وقالوا: ما شأنه، أهجر؟ استفهموه".
قال أبو ذر ولد سبط ابن العجمي في "تنبيه المعلم" "رقم 635 - بتحقيقي": "من القائلين: عمر رضي الله عنه".
قلت: لم يذكر مستنده، ولا يوجد ما يدل عليه، وأفاد صاحب "تكملة فتح الملهم" "2/ 136، 145" بهذا؛ فقال: "لم أجد في شيء من الروايات الصحيحة أن قائل هذا الكلام -أي: "ما شأنه؛ أهجر؟"- هو سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه".
قلت: وأفاد الدهلوي في "التحفة الاثنا عشرية" "ص453" أن قائلي ذلك أهل البيت، أو صدر منهم على سبيل الاستفهام الاستنكاري، وفي "مسند أحمد" "1/ 90" ما يشعر أن موقف علي رضي الله عنه كموقف عمر رضي الله عنه؛ وانظر في معنى "هجر" وتوجيهها: "فتاوى ابن رشد" "2/ 1054-1058"، ووقع في آخر رواية عند البخاري "رقم 4432، 5669"، ومسلم "رقم 1637 بعد 22": "فكان يقول ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم".
3 فحرموا بسبب ذلك من البيان الذي كان يفيدهم، لا سيما على القول بأنه كان في شأن الخلافة!! "د".

 

ج / 5 ص -396-       السيلان؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "لو تركت لكانت زمزم عينا معينا"1.
وفى الحديث أنه طبخ لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدر فيها لحم؛ فقال:
"ناولني ذراعًا". قال الراوي: فناولته ذراعًا؛ فقال: "ناولني ذراعًا". فناولته ذراعًا؛ فقال: "ناولني ذراعًا". فقلت: يا رسول الله! كم للشاة من ذراع؟ فقال: "والذي نفسي بيده؛ لو سكت لأعطيت أذرعًا ما دعوت"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يظهر أن هذا حرص لا اعتراض، ولا يخفى شؤم الحرص في غير أمور الآخرة. "د".
قلت: وأخرج قصتها بطولها، والمذكور جزء منها: البخاري في "صحيحه" "كتاب الأنبياء باب يزفون: النسلان في المشي، رقم 3362، 3364، وكتاب المساقاة، باب من رأى أن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه، رقم 2368"، وأحمد في "المسند" "1/ 347، 360"، وابنه عبد الله في "زوائد المسند" "5/ 121"، وعبد الرزاق في "المصنف" "5/ 105/ رقم 9107"، والنسائي في "فضائل الصحابة" "رقم 271، 272، 273" وغيرهم، وقد خرجته بتفصيل في كتابي"من قصص الماضيين" "ص97-106".
2 في الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة: "ذراعًا ما دعوت" والتصحيح من مصادر التخريج أخرجه بهذا اللفظ الدارمي في "سننه" "1/ 22 أو1/ 27/ رقم 45 - ط دار إحياء السنة "، وأحمد في "المسند" "3/ 484-485"، وابن أبي شيبة في "مسنده" "3/ ق214/ أ- مع "إتحاف الخيرة"، والترمذي في "الشمائل" "رقم 60"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "1/ 350/ رقم 472"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "7/ 95"، والطبراني في "الكبير" "22/ 335/ رقم 842"، ودعلج في "مسند المقلين" "4 - المنتقى"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" "2/ ق275/ ب- 276/ أ"، والبغوي في "الشمائل" "2/ 618/ رقم 949"، وقوّام السنة الأصبهاني في "دلائل البنوة" "3/ 883-884/ رقم 136"، جميعهم من طريق أبان عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم به.
وإسناده ضعيف، قتادة مدلس، وقد عنعن، وشهر بن حوشب فيه كلام مشهور، وإن كان لا يننزل عن درجة الحسن؛ كما حققته في تعليقي على "الخلافيات" للبيهقي.
ولكن الحديث صحيح؛ فله شواهد، منها حديث أبي رافع رضي الله عنه، أخرجه أحمد في "المسند" "6/ 392" من طريق خلف بن الوليد عن أبي جعفر الرازي عن شرحبيل بن سعد =

 

ج / 5 ص -397-       ...................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عن أبي رافع به.
وإسناده ضعيف، صالح في المتابعات وخالف خلفًا سلمة بن الفضل؛ فرواه عن أبي جعفر الرازي عن داود بن أبي هند عن شرحبيل به، وراية خلف عن أبي جعفر عن شرحبيل، لم يذكر بينهما أحدًان هو أشبه بالصواب، قاله الدراقطني في "العلل" "7/ 20/ رقم 1180".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المسند" -ومن طريقه أبو يعلى في "المسند" كما في "إتحاف الخيرة" "3/ ق214/ أ"- عن زيد بن الحباب عن فائد مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع عن مولاة عبيد الله بن علي بن أبي رافع عن أبي رافع به.
وإسناده ضعيف، عبيد الله بن علي لين الحديث؛ كما في "التقريب"، وحديثه عن جده مرسل؛ كما في "تهذيب الكمال" "19/ 120".
وخولف ابن أبي شيبة؛ فأخرجه المحاملي في "أماليه" "رقم 257 - رواية ابن البيع" ثنا أحمد بن محمد ثنا زيد بن الحباب حدثني فائد حدثني مولاي عبيد الله بن علي بن أبي رافع -مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله سماه عُلَيًّا- قال: ثني أبو رافع به نحوه.
وأحمد بن محمد هو حفيد يحيى بن سعيد القطان، وثقه ابن حبان في "الثقات" "8/ 38-39"، وقال: "وكان متقنًا"، وابن أبي شيبة أحفظ منه وأتقن.
وخولف زيد بن الحباب؛ فأخرجه أبو يعلى في "المسند" "3/ ق216 - مع إتحاف الخيرة"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "6/ 203-204/ رقم 3434"، والطبراني في "الكبير" "24/ 300/ رقم 763" من طريق الفضيل بن سليمان عن فائد عن عبيد الله أن جدته سلمى أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي رافع... وذكر نحوه.
وزيد أثبت من الفضيل، ولعل الوجهين محفوظان!!
ولكن أخرجه أحمد في "المسند" "6/ 8"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 393"، والطبراني في "الكبير" "1/ 305/ رقم 970"، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" "2/ 562/ رقم 346" من طريق حماد بن سلمة عن عبد الرحمن بن أبي رافع عن عمته سلمى عن أبي رافع به نحوه.
وإسناده حسن في الشواهد، وعبد الرحمن لم يرو عنه غير حماد بن سلمة؛ كما في "الوحدان" "ص33 - ط الهندية" لمسلم، و"الكاشف" "2/ 145/ رقم 3231" للذهبي.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" "1/ 303/ رقم 964" من طريق ابن وهب عن عمرو بن =

 

ج / 5 ص -398-       وحديث علي قال: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى فاطمة من الليل؛ فأيقظنا للصلاة، قال: فجلست وأنا أعرك عيني وأقول: إنا والله ما نصلي إلا ما كُتِبَ لنا، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثها. بعثها، فولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا"1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الحارث؛ أن بكيرًا حدثه أن الحسن بن علي بن أبي رافع حدثه عن أبي رافع به نحوه، وبرقم "965" من طريق بكر بن سهل عن عبد الله بن يوسف عن ابن لهيعة عن بكير بن عبد الله به، وجعله من مسند "رافع"، وهو في "الأوسط" "1/ ق187/ ب" من طريق بكر بن سهل به، وفيه: "عن الحسن بن علي بن أبي رافع؛ أنه حدثه أن أبا رافع حدثه به"؛ فالخطأ من الناسخ أو المحقق أو الطابع!!
وللحديث شاهد عن أبي هريرة أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 517"، وابن حبان في "صحيحه" "8/ 139/ رقم 6450 - الإحسان" من طريق محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة.
وإسناده حسن، إن كان ابن عجلان سمعه من أبيه.
وأخرجه الحسين بن محمد بن خسرو في "مسنده"، ومحمد بن الحسن في "الآثار" "1/ 27-28"، وأبو نعيم في "مسند أبي حنيفة" "ص102"، كلهم من طريق أبي حنيفة عن شيخ له مجهول سماه عبد الرحمن بن داود، وقيل: داود بن عبد الرحمن العطار، وقيل: "عبد الرحمن بن زاذان عن شرحبيل، وأسنده عن أبي سعيد الخدري، قال الدراقطني في "العلل" "7/ 21": "ووهم فيه؛ وإنما هو حديث أبي رافع".
والحديث صحيح بمجموع هذه الطرق إن شاء الله تعالى، ورجح الزرقاني في "شرحه على المواهب" أن القصة تكررت.
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، وطرق النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليًّا عليهما السلام ليلة للصلاة، 3/ 10/ رقم 1127، وكتاب التفسير، باب سورة الكهف، 8/ 407-408/ رقم 4724 - مختصرًا وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}، 13/ 313/ رقم 7347، وكتاب التوحيد، باب في المشيئة والإرادة، 13/ 446/ رقم 7465"، ومسلم في =

 

ج / 5 ص -399-       وحديث: "يا أيها الناس! اتهموا1 الرأي؛ فإنا كنا يوم أبي جندل ولو نستطيع2 أن نرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددناه"3.
ولما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنٌ جد سعيد بن المسيب فقال له:
"ما اسمك؟". قال: حزن. قال: "بل أنت سهل". قال: لا أغير اسما سماني به أبي. قال سعيد: فما زالت الحزونة [فينا]4 حتى اليوم"5.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
والثالث: ما عهد بالتجربة من أن الاعتراض على الكبراء قاض بامتناع الفائدة مبعد بين الشيخ والتلميذ، ولا سيما عند الصوفية؛ فإنه عندهم الداء الأكبر حتى زعم القشيري6 عنهم أن التوبة منه لا تقبل والزلة لا تقال، ومن ذلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "صحيحه" كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، 1/ 537-538/ رقم 775"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 2/ 7/ رقم 325" و"المجتبى" "كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الترغيب في قيام الليل، 3/ 205-206/ رقم 1611، 1612"، وأحمد في "المسند" "1/ 112" عن علي رضي الله عنه بألفاظ متقاربة، والمذكور عند المصنف لفظ النسائي في "المجتبى" "رقم 1612"، وانظر: "تحفة الأشراف" "رقم 10070".
1 أي: فلا تجلعوه في مقابلة الشريعة فتعترضوها به. "د".
2 أي: وقد ظهر خطؤنا وتعين المصحلة فيما أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رده إلى الكفار تنفيذًا للشرط. "د".
3 مضى تخريجه "1/ 143" وهو أثر عن سهل بن حنيف في "صحيح البخاري" وغيره.
4 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأدب، باب اسم الحزن، 10/ 574/ رقم 6190، وباب تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه، 10/ 575/ رقم 6193" عن حزن بن أبي وهب رضي الله عنه.
6 في "رسالته" المشهورة "ص150".

 

ج / 5 ص -400-       حكاية الشاب الخديم لأبي يزيد البسطامي؛ إذ كان صائمًا؛ فقال له أبو تراب النخشبي وشقيق البلخي: "كل معنا يا فتى. فقال: أنا صائم. فقال أبو تراب: كل ولك أجر شهر فأبى فقال شقيق: كل ولك أجر صوم سنة. فأبى؛ فقال أبو يزيد: دعوا من سقط من عين الله". فأخذ ذلك الشاب في السرقة وقطعت يده1.
وقد قال مالك بن أنس لأسد حين تابع سؤاله: "هذه سليسلة بنت سليسلة، إن أردت هذا؛ فعليك بالعراق"2. فهدده بحرمان الفائدة منه بسبب اعتراضه3 في جوابه، ومثله أيضا كثير لمن بحث عنه.
فالذى تلخص من هذا أن العالم المعلوم بالأمانة والصدق والجري على سنن أهل الفضل والدين والورع إذا سئل عن نازلة فأجاب، أو عرضت له حالة يبعد العهد بمثلها، أو لا تقع من فهم السامع موقعها أن لا يواجه بالاعتراض والنقد، فإن عرض إشكال فالتوقف أولى بالنجاح، وأحرى بإدراك البغية إن شاء الله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضت في "2/ 497"، وهي في "رسالة القشيري" "151"، وانظر ما علقناه هناك.
2 مضى قريبا "ص385"، وتخريجه هناك.
3 لا يؤخذ من الرواية السابقة في المسألة الثانية أنه كان يعترض، بل كان يتابع السؤال ويكثر منه فقط؛ فيقول: "فإن كان كذا...." بإيعاز أصحاب مالك لتهيبهم سؤاله بأنفسهم. "د".

 

 

ج / 5 ص -401-       المسألة الرابعة:
الاعتراض على الظواهر غير مسموع1.
والدليل عليه أن لسان العرب هو المترجم عن مقاصد الشارع، ولسان العرب يعدم فيه النص2 أو ينذر إذ قد تقدم أن النص إنما يكون نصا إذا سلم عن احتمالات عشرة3، وهذا نادر أو معدوم، فإذا ورد دليل منصوص وهو بلسان العرب؛ فالاحتمالات دائرة به، وما فيه احتمالات لا يكون نصا على اصطلاح المتأخرين؛ فلم يبق إلا الظاهر والمجمل، فالمجمل الشأن فيه طلب المبين أو التوقف؛ فالظاهر هو المعتمد إذن، فلا يصح الاعتراض عليه؛ لأنه من التعمق والتكلف.
وأيضًا؛ فلو جاز الاعتراض على المحتملات لم يبق للشريعة دليل يُعتمد، لورود الاحتمالات وإن ضعفت، والاعتراض المسموع مثله يضعف الدليل؛ فيؤدي إلى القول بضعف جميع4 أدلة الشرع أو أكثرها، وليس كذلك باتفاق.
ووجه ثالث: لو اعتبر مجرد الاحتمال في القول لم يكن لإنزال الكتب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ماء": "غير مقبول".
2 يطلق النص على الدليل السمعي مطلقًا، ومنه قوله هنا: "دليل منصوص"، ويطلق على ما لا يحتمل غير ما قصد به؛ فيكون قطعيًا في دلالته على معناه وهو ما سلم عن الاحتمالات العشرة، وهو ما أجرى المؤلف أدلته في الكتاب على مقتضاه، ويطلق على ما دل باعتبار وضعه واعتبار سوقه أيضًا على المعنى، وعلى هذا يقبل النص التأويل والتخصيص "د".
3 تقدم في المسألة التاسعة من كتاب المقاصد. "د".
4 أي: حيث قلنا بعدم النص، ومعلوم أن الإجماع والقياس مبنيان على أدلة الكتاب والسنة التي هي من قسم الظاهر الذي بقي من الأقسام كما سبق له، وقوله: "أو أكثرها"؛ أي: حيث قلنا بوجود قليل من النصوص. "د".

 

ج / 5 ص -402-       ولا لإرسال النبي عليه الصلاة والسلام بذلك فائدة؛ إذ يلزم أن لا تقوم الحجة على الخلق بالأوامر والنواهي والإخبارات؛ إذ ليست في الأكثر نصوصًا لا تحتمل غير ما قصد بها، لكن ذلك باطل بالإجماع والمعقول، فما يلزم عنه كذلك.
ووجه رابع1: وهو أن مجرد الاحتمال إذا اعتبر أدى إلى انخرام العادات والثقة بها، وفتح باب السفسطة وجحد العلوم، ويبين هذا المعنى في الجملة ما ذكره الغزالي [عن نفسه] في كتابه "المنقذ من الضلال"2، بل ما ذكره السوفسطائية في جحد العلوم فبه3 يتبين لك أن منشأها طريق الاحتمال في الحقائق العادية أو العقلية؛ فما بالك4 بالأمور الوضعية؟
ولأجل اعتبار الاحتمال المجرد شدد على أصحاب البقرة إذ تعمقوا في السؤال عما لم يكن لهم إليه حاجة مع ظهور المعنى، وكذلك ما جاء في الحديث في قوله: "أحجنا هذا لعامنا أو للأبد؟"5 وأشباه ذلك، بل هو أصل في الميل عن الصراط المستقيم؛ ألا ترى أن المتبعين لما تشابه من الكتاب إنما اتبعوا فيها مجرد الاحتمال، فاعتبروه وقالوا فيه6، وقطعوا فيه على الغيب بغير دليل؛ فذموا بذلك وأمر النبي7 عليه الصلاة والسلام بالحذر منهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأوجه الثلاثة السابقة ترجع إلى عدم إبطال الأدلة القولية بالاحتمالات، وهذا الوجه كالترقي عليها، وكأنه يقول: بل إذا اعتبرت الاحتمالات المجردة عن الأدلة؛ بطلت العلوم الأخرى المرتبة على العادات، أي: الأسباب والمسببات العادية المبثوثة في الكون؛ فالتجربيات والمشاهدات تلحقها الاحتمالات، فإذا اعتبرت ضاعت العلوم اليقينية، أي: فقبول الاحتمالات مطلقًا يفسد سائر العلوم عقلية ونقلية؛ فهو باطل. "د".
2 انظر منه: "ص26 وما بعد".
3 كذا في "ط":، وفي غيره: "منه".
4 في "ط": "فما ظنك".
5 مضى تخريجه "1/ 256".
6 في "م": "وقالوا فيه على"، والصواب حذف "على". وفي "ط": "عن الغيب".
7 أي: بقوله في الحديث المشهور:
"فأولئك الذين سمى الله؛ فاحذروهم". "د".
قلت: مضى تخريجه "ص143".

 

ج / 5 ص -403-       ووجه خامس: وهو أن القرآن قد احتج على الكفار بالعمومات العقلية والعمومات1 المتفق عليها؛ كقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} إلى أن قال {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ] قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}2 [المؤمنون: 84-89]؛ فاحتج عليهم بإقرارهم بأن ذلك لله على العموم، وجعلهم إذ أقروا بالربوبية لله في الكل ثم دعواهم الخصوص مسحورين لا عقلاء.
وقوله تعالى:
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61]، يعني: كيف يصرفون عن الإقرار بأن الرب هو الله بعد ما أقروا3؛ فيدعون لله شريكًا.
وقال تعالى:
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَار} إلى قوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: 5-6]، وأشباه ذلك مما ألزموا أنفسهم فيه الإقرار بعمومه، وجعل خلاف ظاهره على خلاف المعقول، ولو لم يكن عند العرب الظاهر حجة غير معترض عليها لم يكن في إقرارهم بمقتضى العموم حجة عليهم لكن الأمر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فمع كونها عقلية وثابتة في الواقع بالعقل كما سيقول: "وجعل خلاف ظاهره على خلاف المعقول" هي متفق عليها بين المتناظرين، وهذا الثاني هو محل الاستدلال هنا باعتبار الظواهر؛ لأن العموم المسلم بين الطرفين هو من باب الظاهر في هذه التراكيب. "د".
2 أي: تخدعون وتصرفون عن الحق. "ماء".
3 ليكن على ذكر منك أنهم كانوا يعترفون بأن الله هو الرب الخالق لكل شيء، المالك المتصرف في السماوات والأرض، ولكنهم مع هذا يؤلهون معه شيئًا من مخلوقاته؛ نجومًا، أو حجارة، أو غيرها، يعبدونها؛ فكان الرد عليهم موجهًا إلى أن مستحق العبادة هو المتصرف في الكون وحده، وأنهم يكونون مجانين إذا جمعوا بين الاعتراف بعموم التصرف له وحده وبين تأليه غيره وعبادته، ولذا جعل ختام الآيات الذي هو كالنتيجة قوله:
{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [المؤمنون: 116]؛ فجعل المعنى بالحصر، ومحط الرد عليهم هو نفس الشريك في الألوهية والعبادة؛ فقوله: "فيدعون لله شريكًا"؛ أي: في استحقاق العبادة. "د".

 

ج / 5 ص -404-       على خلاف ذلك؛ فدل على أنه ليس مما يعترض عليه.
وإلى هذا1؛ فأنت ترى ما ينشأ بين الخصوم وأرباب المذاهب من تشعب الاستدلالات، وإيراد الإشكالات عليها بتطريق2 الاحتمالات؛ حتى لا تجد عندهم بسبب ذلك دليل يعتمد لا قرآنيا ولا سنيا، بل انجر هذا الأمر إلى المسائل الاعتقادية؛ فاطَّرحوا فيها الأدلة القرآنية والسنية لبناء كثير منها على أمور عادية؛ كقوله [تعالى]3:
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ} الآية [الروم: 28].
وقوله:
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ} [الأعراف: 195].
وأشباه ذلك.
واعتمدوا على مقدمات عقلية غير بديهة4 ولا قريبة من البديهيَّة5، هربا من احتمال يتطرق في العقل للأمور العادية؛ فدخلوا في أشد مما منه فرُّوا، ونشأت مباحث لا عهد للعرب بها وهم المخاطبون أولا بالشريعة؛ فخالطوا الفلاسفة في أنظارهم، وباحثوهم في مطالبهم التي لا يعود الجهل بها على الدين بفساد، ولا يزيد البحث فيها إلا خبالا، وأصل ذلك كله الإعراض عن مجاري العادات في العبارات ومعانيها الجارية في الوجود.
وقد مر فيما تقدم أن مجاري العادات قطعية في الجملة وإن طرق العقل إليها احتمالا؛ فكذلك العبارات؛ لأنها في الوضع6 الخطابي تماثلها أو تقاربها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ويضم إلى هذه الوجوه الخمسة على سماع الاعتراض على الظاهر تلك المفاسد. "د".
2 في "ماء": "لتطريق".
3 زيادة من "م" و"ط".
4 في "د": "بديهة".
5 في "د": "البديهة".
6 في "ط": "الموضع".

 

ج / 5 ص -405-       ومر أيضًا بيان كيفية اقتناص القطع من الظنيات، وهى خاصة1 هذا الكتاب لمن تأمله والحمد لله؛ فإذن لا يصح في الظواهر الاعتراض عليها بوجوه الاحتمالات المرجوحة؛ إلا أن يدل دليل على الخروج2 عنها، فيكون ذلك داخلا في باب التعارض والترجيح، أو في باب البيان، والله المستعان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تتبع الظنيات في الدلالة أو في المتن أو فيهما، والوجوه العقلية كذلك، ويضم قوة منها إلى قوة، ولا يزال يستقري حتى يصل إلى ما يعد قاطعًا في الموضوع كالتواتر المعنوي، ولا يبالي أن يكون بعض الأدلة ضعيفًا؛ لأنه لا يستند إلى دليل خاص؛ كما أن رواة التواتر المعنوي لا يلزم في جميعهم أن يكون محل الثقة، ولكن المجموع يلزم أن يكون كذلك؛ فهذه خاصية هذا الكتاب في استدلالاته، وهي طريقة ناجحة أدت إلى وصوله إلى المقصود، اللهم إلا في النادر، رحمه الله رحمة واسعة. "د".
2 فتكون حينئذ هي المؤول بعينه. "د".

 

ج / 5 ص -406-       المسألة الخامسة:
الناظر1 في المسائل الشرعية إما ناظر1 في قواعدها الأصلية أو في جزئياتها الفرعية، وعلى كلا الوجهين؛ فهو إما مجتهد أو مناظر، فأما المجتهد الناظر لنفسه؛ فما أداه إليه اجتهاده فهو الحكم في حقه؛ إلا أن الأصول والقواعد إنما ثبتت بالقطعيات2؛ ضرورية كانت أو نظرية؛ عقلية أو سمعية، وأما الفروع؛ فيكفي فيها مجرد الظن على شرطه المعلوم في موضعه، فما أوصله إليه الدليل؛ فهو الحكم في حقه أيضًا، ولا يفتقر إلى مناظرة؛ لأن نظره في مطلبه إما نظر في جزئي، وهو ثانٍ عن نظره في الكلي الذى ينبني عليه، وإما نظر في كلي ابتداء، والنظر في الكليات ثانٍ عن3 الاستقراء، وهو محتاج إلى تأمل واستبصار وفسحة زمان يسع ذلك.
وهكذا إن كان عقليا؛ ففرض المناظرة هنا لا يفيد؛ لأن المجتهد قبل الوصول متطلب من الأدلة الحاضرة عنده؛ فلا يحتاج إلى غيره فيها، وبعد الوصول هو على بينة من مطلبه في نفسه؛ فالمناظرة عليه بعد ذلك زيادة.
وأيضًا؛ فالمجتهد أمين على نفسه، فإذا كان مقبول القول قبله المقلد، ووكله المجتهد الآخر إلى أمانته؛ إذ هو عنده مجتهد مقبول القول؛ فلا يفتقر إذا اتضح له مسلك المسألة إلى مناظرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "النظر.... إما نظر...".
2 ولا يقال: إذا كانت القواعد الأصولية التي تفرع عنها الجزئيات لا بد أن تكون قطعية؛ فكيف يتأتى الخلاف بين الأصوليين في تلك القواعد؛ لأن المراد أنها قطعية هذا المجتهد بعد استقرائه أدلتها حتى يقطع بها؟ وهذا لا ينافي أن غيره يقطع ويجزم بما يخالفها حسبما أدت إليه الأدلة تالتي ارتضاها، ويكون الفرق بين الأصول والفروع أن الأولى لا يعمل ولا يفرع عليها، إلا إذا جزم بخلاف الفروع؛ فإنها يكفي فيها الظن القوي بأن هذا هو حكم الله فيها. "د". وفي "ط": "تثبت بالقطعيات".
3 في الأصل: "على".

 

ج / 5 ص -407-       وهنا أمثلة كثيرة كمشاورة1 رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين2 في مصالحة الأحزاب على نصف تمر المدينة، فلما تبين له من أمرهما عزيمة المصابرة والقتال؛ لم يبغ به بدلا ولم يستشر غيرهما، وهكذا مشاورته3 وعرضه الأمر في شأن عائشة، فلما أنزل الله الحكم؛ لم يلق على أحد بعد وضوح القضية، ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم، فكلمه4 عمر في ذلك؛ فلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإن كانت الأمثلة ما عدا الثاني في مصلحة عامة المسلمين، وليست خاصة بالمجتهد صلى الله عليه وسلم في قتال الأحزاب، ولا بأبي بكر في مثاليه؛ إلا أن المجتهد في الموضوعين لما كان هو المسئول عن الأمر وتنفيذه عُدَ كأنه يجتهد لنفسه، وعليه؛ فلا تكون الأمثلة خارجة عن أصل فرضه. "د".
2 سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وفي رواية لما سألوه أن يناصفهم تمر المدينة؛ قال: "حتى أستأمر السعود هذين، وسعد بن الربيع، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود". فقالوا: "لا والله ما أعطينا في أنفسنا الدنية في الجاهلية؛ فكيف وقد جاء الله بالإسلام وأعزنا بك، ما لهم عندنا إلا السيف. "د".
قلت: مضى تخريج ذلك في "1/ 499".
3 فقد دعا عليًا وأسامة بن زيد، فأما أسامة؛ فقال: "أهلك، ولا نعلم إلا خيرًا"، وأما علي؛ فقال: "لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، وسأل بربرة أيضًا"، أما كلمات سيدنا علي؛ فكانت مخبأة للإسلام بعد، فكان بسببها ما كان. "د".
قلت: مشاورته صلى الله عليه سلم لأسامة وعلي واردة ضمن حديث الإفك الطويل، وقد مضى تخريجه "2/ 422"، وقول الشارح: "أما كلمات سيدنا علي... إلخ" ليس في بصحيح البتة ولا ارتباط بين مشورته رضي الله عنه وما وقع فيما بعد، وتفصيل ذلك يطول.
4 حيث قال: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" الحديث؛ فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال.
فإن قلت: أفلا يعد ما وقع من عمر والصحابة في احتجاجهم بالحديث مناظرة على أبي بكر؟
فالجواب: إن هذا داخل في مناظرة المستعين الآتية، وكلامنا الآن في المجتهد الذي =

 

ج / 5 ص -408-       يلتفت إلى وجه المصلحة في ترك القتال؛ إذ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافه، وسألوه1 في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم2.
وإذا تقرر وجود هذا في الشريعة وأهلها3 لم يحتج بعد ذلك إلى مناظرة ولا إلى مراجعة؛ إلا من باب الاحتياط، وإذا فرض محتاطًا؛ فذلك إنما يقع إذا بنى عليه بعض التردد فيما هو ناظر فيه، وعند ذلك يلزمه أحد أمرين:
إما السكوت اقتصارا على بحث نفسه إلى التبين؛ إذ لا تكليف عليه قبل بيان الطريق.
وإما الاستعانة بمن يثق به، وهو المناظر المستعين؛ فلا يخلو أن يكون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وضحت له القضية؛ فلا يحتاج إلى المناظرة، وأبو بكر من هذا القبيل وإن احتاج غيره إلى مناظرته. "د".
قلت: ومناظرة أبي بكر وعمر مضى تخريجها "1/ 500"، وانظر: "مسند الفاورق" "2/ 672-673" لابن كثير.
1 أي: بلسان عمر؛ فشدد النكير عليهم؛ كما في كتب السير، وفي "السيرة الحلبية" توسع وبسط في الموضع. "د".
2 يشير إلى من أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله عنهما في مرضة الذي توفي فيه، 8/ 152/ رقم 4468، 4469" عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثًا توأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال:
"إن تطعنوا في إمارته؛ فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله؛ إن كان لخليقًا بالإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده".
3 أي: الصحابة العارفين بها والمجتهدين في أحكامها، وقوله: "لم يحتج بعد ذلك إلى مناظرة"؛ أي: في إثبات المسألة، أو معناه: لم يحتج في مثله، أي: في الجزئيات التي من قبيله إلى مناظرة وربما ساعد هذا الفهم قوله: "ولا إلى مراجعة إلا من باب الاحتياط". "د".

 

ج / 5 ص -409-       موافقا له في الكليات التي يرجع إليها ما تناظرا1 فيه، أولا.
فإن كان موافقا له صح إسناده2 إليه واستعانته به لأنه إنما يبقى له تحقيق3 مناط المسألة المناظر فيها، والأمر سهل فيها؛ فإن اتفقا فحسن، وإلا فلا حرج لأن الأمر في ذلك راجع إلى أمر ظني مجتهد فيه، ولا مفسدة في وقوع الخلاف هنا حسبما تبين في موضعه.
وأمثلة هذا الأصل كثيرة، يدخل فيها أسئلة الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسائل المشكلة عليهم، كما في سؤالهم4 عند نزول قوله:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم} [الانعام: 82].
وعند نزول5 قوله:
{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه} الآية [البقرة: 284].
وسؤال ابن أم كتوم حين نزل:
{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} الآية [النساء: 95]، حتى نزل6 {غَيْرُ أُولِي الضَّرَر} [النساء: 95].
وسؤال عائشة عند قوله عليه الصلاة والسلام: "من نوقش الحساب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط" و"م": "تناظر".
2 في "ط": "استناده".
3 بل وتحقيق الأدلة الجزئية من كتاب وسنة أو قياس.. إلخ.
4 مضى لفظه وتخريجه في "3/ 402".
5 مضى لفظه وتخريجه في "4/ 37".
6 يشير المصنف إلى ما أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب قول الله عز وجل
{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، 6/ 45/ رقم 2831" عن البراء؛ قال: "لما نزلت: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا؛ فجاءه بكتف فكتبها، وشكا ابن أم مكتوبة ضرارته؛ فنزلت: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَر}.
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 2832، وبرقم 4592" عن زيد بن ثابت بنحوه.

 

ج / 5 ص -410-       عذِّب"1، واستشكالها مع الحديث قول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8].
وأشباه ذلك.
وإنما قلنا: إن هذا الجنس من السؤالات داخل في قسم المناظر المستعين؛ لأنهم إنما سألوا بعد ما نظروا في الأدلة، فلما نظروا أشكل عليهم الأمر، بخلاف السائل عن الحكم ابتداءً، فإن هذا من قبيل المتعلمين؛ فلا يحتاج إلى غير تقرير الحكم، ولا عليك من إطلاق3 لفظ "المناظر" فإنه مجرد اصطلاح لا ينبني عليه حكم، كما أنه يدخل تحت هذا الأصل ما إذا أجرى الخصم المحتج نفسه مجرى السائل المستفيد؛ حتى ينقطع الخصم بأقرب الطرق4 كما جاء في شأن حاجة إبراهيم عليه السلام [قومه]5 بالكوكب والقمر والشمس؛ فإنه فرض نفسه بحضرتهم مسترشدًا حتى يبين لهم من نفسه البرهان أنها ليست بآلهة، وكذلك قوله في الآية الأخرى:
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الشعراء: 70-71].
فلما سأل عن المعبود سأل عن المعنى الخاص بالمعبود بقوله:
{هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّون} [الشعراء: 72-73]؛ فحادوا عن الجواب إلى الإقرار بمجرد الاتباع للآباء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "33/ 293".
2 حتى قال لها: "ذلك العرض". "د".
3 الذي قد تظهر منافاته لإدخاله هذا الجنس في قسم المناظر المستعين؛ لأن الصحابة لا يعدون مناظرين للنبي صلى الله عليه وسلم إذا روعي معنى المناظرة اصطلاحًا، يعني؛ لأن هذا اصطلاح آخر. "د".
4 لأنه يأخذ من مناظره الموافقة على مقدمات الدليل أولًا فأولًا؛ حتى لا يبقى إلا الاعتراف بالنتيجة. "د".
5 سقطت من "ط".

 

ج / 5 ص -411-       ومثله قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63].
وقوله تعالى:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْء} [الروم: 40].
وقوله:
{أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} [يونس: 35].
وقوله:
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] إلى آخرها.
فهذه الآي وما أشبهها إشارات إلى التنزل منزلة الاستفادة والاستعانة في النظر، وإن كان مقتض ى الحقيقة فيها تبكيت الخصم؛ إذ كان مجيئًا بالبرهان في معرض الاستشارة في صحته؛ فكان أبلغ1 في المقصود في المواجهة بالتبكيت، ولما اخترموا من التشريعات أمورًا كثيرة أدهاها الشرك طولبوا2 بالدليل؛ كقوله تعالى:
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [الأنبياء: 24].
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس 59].
{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِه} الآية [المؤمنون: 117].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن مواجهة الخصم بالتبكيت تنفره من استماع سائر الدليل، وتثير فيه حمية العناد، وقد استعمل القرآن الطريقين في مقامين. "د".
2 الفرق بين هذا النوع وما قبله في محاجة إبراهيم وما بعدها، أن تلك فيها الأسئلة تفصيلية تؤخذ منها مقدمات الدَّليل الخاص الذي يقوم حجة على الخصم، أما هذه؛ فالسؤال فيها بطلب البرهان إجمالًا على دعواهم، يعني: وهم عاجزون عنه؛ فلم يبق إلا تسليمهم ببطلانها. "د".

 

ج / 5 ص -412-       وهو من جملة المجادلة بالتي هي أحسن.
وإن كان المناظر مخالفًا له في الكليات التي ينبني عليها النظر في المسألة؛ فلا يستقيم له الاستعانة به، ولا ينتفع به في مناظرته؛ إذ ما من وجه جزئي في مسألته إلا وهو مبني على كلي، وإذا خ الف في الكلي؛ ففي الجزئي المبني عليه أولى؛ فتقع مخالفته في الجزئي من جهتين، ولا يمكن رجوعها إلى معنى متفق1 عليه؛ فالاستعانة مفقودة.
ومثاله في الفقهيات مسألة الربا في غير المنصوص عليه؛ كالأرز، والدخن، والذرة، والحلبة، وأشباه ذلك؛ فلا يمكن الاستعانة هنا بالظاهريّ النافي للقياس لأنه بانٍ على نفي القياس جملة، وكذلك كل مسألة قياسية لا يمكن أن يناظر فيها مناظشرة المستعين؛ إذ هو مخالف في الأصل الذي يرجعان إليه، وكذلك مسألة الحلبة والذرة أو غيرهما بالنسبة إلى المالكي إذا استعان بالشافعي أو الحنفي وإن قالوا بصحة القياس؛ لبنائهما المسألة على خلاف2 ما يبني عليه المالكي، وهذا القسم شائع في سائر الأبواب؛ فإن المنكر للإجماع لا يمكن الاستعانة به في مسألة تنبني على صحة الإجماع، والمنكر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فتضيع فائدة المناظرة التي يقصد منها رجوع المتناظرين إلى الحق. "د".
2 القياس يتوقف على العلة؛ فبعد الاتفاق عليها تمكن الاستعانة في مثل هذا الموضوع؛ أما إذا اختلف فيها كما هنا؛ فلا يتأتى الاتفاق في نتيجة القياس؛ فامالكية يقولون: إن العلة في ربا النسيئة مجرد الطعم لا على وجه التداوي، فيدخل فيه الخضر والفواكه والبقول؛ فيمنع فيها النسيئة ولو متساوية، ومن ذلك الحلبة ولو جافة، وربا الفضل علته الاقتيات والادخار، أي مجموع الأمرين، فالطعام الربوي ما يقتات ويدخر، فهذا يمنع فيه الفضل في الجنس الواحدج، والنسيئة مطلقًا، ومنه الأرز والدخن والذرة، ويلحق به المصطلح، والشافعية يقولون: كل مطعوم ولو خضرًا أو دواء أو مصلحًا يدخله ربا الفضل وربا النسيئة، والحنفية يقولون: العلة الاتفاق في الجنس والتقدير بالكيل والوزن؛ كما ذكره في "البحر". "د".

 

ج / 5 ص -413-       لإجماع أهل المدينة لا يمكن أن يستعان به في مسألة تنبني عليه من حيث هو منكر، والقائل بأن صيغة الأمر للندب أنو اللإباحة أو بالوقف لا يمكن الاستعانة بهم لمن كان فائلًا بأنها للوجوب ألبتة.
فإن فرض المخالف مساعدًا صحت الاستعانة، كما إذا كان مساعدًا حقيقة، وهذا لا يخفى.
فصل:
وإذا فرض المناظر مستقلًا بنظره غير طالب للاستعانة ولا مفتقرًا إليها، ولكنه طالب لرد الخصم إلى رأيه أو ما هو منزل منزلته؛ فقد تكفل العلماء بهذه الوظيفة1، غير أن فيها أصلًا يرجع إليه، وقد مر التنبيه عليه في أول كتاب الأدلة2، وهنا تمامه بحول الله، وهي:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد توسعوا في ذيك، وأطالوا في باب القياس الأصولي واعتراضاته، كما دون أهل المنطق فنًّا خاصًا في طرق الاعتراض على الحدود والأقيسة. "د".
2 في المسألة السادسة، وقد أحال بقية البيان هناك على المسألة السادسة هنا. "د".

 

ج / 5 ص -414-       المسألة السادسة:
فنقول: لما انبنى الدليل على مقدمتين: إحداهما تحقق المناط، والأخرى تحكم عليه، ومر أن محل النظر هو تحقق المناط ظهر انحصار الكلام بين المتناظرين هنالك، بدليل الاستقراء، وأما المقدمة الحاكمة، فلا بد من فرضها مسلمة.
وربما وقع الشك في هذه الدعوى، فقد يقال: إن النزاع قد يقع في المقدمة الثانية، وذلك أنك إذا قلت: "هذا مسكر" وكل [مسكر]1 خمر أو وكل مسكر حرام"؛ فقد يوافق الخصم على أن هذا مسكر وهي مقدمة تحقيق المناط، كما أنه قد يخالف فيها أيضًا، وإذا خالف فيها فلا نكير على الجملة لأنها محل الاختلاف، وقد يخالف فثي أن كل مسكر خمر؛ فإن الخمر إنما يطلق على النيىء من عصير العنب، فلا يكون3 هذا المشار إليه خمرًا وإن أسكر، وإذ ذالك لا يسلم أن كل مسكر مر، ويخالف أيضًا في أن كل مسكر حرام؛ فإن الكلية لهذه المقدمة لا تثبت لأنها مخصوصة أخرج منها النبيذ بدليل دل عليه، وإذا لم تصح كليتها؛ لم يكن فيها دليل، فإذًا [قد]4 صارت منازعًا فيها؛ فكيف يقال بانحصار النزاع في إحدى المقدمتين دون الأخرى؟ بل كل واحدة منهما قابلة النزاع، وهو خلاف ما تأصّل.
والجواب: أن تقدم صحيح، وهذا الإشكال غير وارد، وبيانه أن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقطت من "د" و"ف"، وكتب "د" ما نصه: "لعله سقط هنا كلمة "مسكر" كما يدل عليه لاحق الكلام".
2 أي: فلا بدع في ذلك، ولا ضرر في طريق المناظرة. "د".
3 أي: فلا يلزم إلا بعد تحقق أنه نيء من عصير العنب. "د".
4 ما بين المعقوفتين سقط من "د".

 

ج / 5 ص -415-       الخصمين إملاا أن يتفقا على أصل يرجعان إليه أم لا، فإن لم يتفقا على شيء1؛ لم يقع بمناظرتهما فائدة بحال، وقد مر هذا، وإذا كانت الدعوى لا بد لها من دليل، وكان الدليل عند الخصم متنازعًا فيه، فليس عنده بدليل؛ فصار الإتيان به عبثًا لا يفيد فائدة ولا يحصل [مقصودًا، و]2 مقصود الماظرة رد الخصم إلى الصواب بطريق يعرفه؛ لأن رده بغير ما يعرفه من باب تكليف ما لا يطاق؛ فلا بد من رجوعهما إلى دليل يعرفه الخصم السائل معرفة الخصم المستدل.
وعلى ذلك دل قوله تعالى:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59]؛ لأن الكتاب والسنة لا خلاف فيهما عند أهل الإسلام، وهما الدليل والأصل المرجوع إليه في مسائل التنازع، وبهذا [المعنى] وقع الاحتجاج على الكفار؛ فإن الله تعالى قال: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون} إلى قوله: {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84-89].
فقررهم بما به أقروا، واحتج [عليهم] بما عرفوا؛ حتى قيل لهم:
{فَأَنَّى تُسْحَرُون} [المؤمنون: 89]، أي: فكيف تخدعون عن الحق بعد ما أقررتم به، فادعيتم مع الله إلهًا غيره؟
وقال تعالى:
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42].
وهذا من المعروف عندهم؛ إذ كانوا ينحتون بأيديهم ما يعبدون.
وفي موضع آخر:
{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95].
وقال تعالى:
{قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": يتفقا على [كل] شيء.
2 سقطت من "ط".

 

ج / 5 ص -416-       قال له ذلك بعد ما ذكر له قوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258]؛ فوجد الخصم مدفعًا، فانتقل إلى ما لا يمكنه فيه المدفع [لا] بالمجاز ولا بالحقيقية، وهو من أوضح الأدلة فيما نحن فيه.
وقال تعالى:
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} الآية [آل عمران: 59]؛ فأراهم البرهان بما لم يختلفوا فيه، وهو آدم.
وقال تعالى:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 65]، وهذا قاطع في عواهم أن إبراهيم يهودي أو نصراني.
وعلى هذا النحو تجد احتجاجات القرآن؛ فلا يؤتى فيه إلا بدليل يقر الخصم بصحته شاء أم أبى.
وعلى هذا النحو تجد احتجاجات القرآن؛ فلا يؤتي فيه إلا بدليل يقر الخصم بصحته شاء أم أبى.
وعلى هذا النحو جاء الرد على من قال:
{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]؛ قال تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} الآية [الأنعام: 91]؛ فحصل إفحامه بما هو به عالم.
وتأمل حديث صلح الحديبية؛ ففيه إشارة إلى هذا المعنى، فإنه لما أمر عليًا أن يكتب "بسم الله الرحمن الرحيم". قالوا: ما نعرف "بسم الله الرحمن الرحيم"، ولكن اكتب ما نعرف: "باسمك اللهم". فقال: "
اكتب: من محمد رسول الله"، قالوا: لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك؛ فعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان قولهم1 من حمية الجاهلية، وكتب على ما قالوا2، ولم يحتشم من ذلك حين أظهروا [له] النَّصَفة من عدم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "وإن كان هذا من حمية..."، وفي "ط": "وإن كان قولهم ذلك من...".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب عمرة القضاء، 8/ 499/ رقم 4251" عن البراء بن عازب بنحوه.

 

ج / 5 ص -417-       العلم وأنهم إنما يعرفون كذا.
وإذا ثبت هذا؛ فالأصل المرجوع إليه هو الدليل الدال على صحة الدعوى، وهو ماتقرر في المقدمة الحاكمة؛ فلزم1 أن تكون مسلمة عند الخصم من حيث جعلت حاكمة في المسألة؛ لأنها إن لم مسلمة لم يفد الإتيان بها، وليس فائدة التحام إلى الدليل إلا قطع النزاع ورفع الشغب2، وإذا كان كذلك؛ فقول القائل: "هذا مسكر وكل مسكر خمر" إن فرض تسليم الخصم فيه للمقدمة الثانية؛ صح الاستدلال من حيث أتى بدليل مسلم، وإن فرض نزاع الخصم فيها لم يصح الاستدلال بها ألبتة، بل تكون مقدمة تحقيق المناط في قياس آخر، وهي التي لا يقع النزاع إلا فيها؛ فيبين أن كل مسكر خمر بدليل استقراء أو نص أو غيرهما، فإذا بين3 ذلك حكم عليه بأنه حرام مثلُا إن كان مسلمًا أيضًا عند الخصم، كما جاء في النص:
"إن كل خمر حرام"4، وإن نازع في أن كل خمر حرام؛ صارت مقدمة تحقيق المناط، ولا بد إذ ذاك من مقدمة أخرى تحكم عليها، وفي كل مرتبة من هذه المراتب لا بد من مخالفة الدعوى للدعوى الأخرى التي في المرتبة الأخرى؛ فإن سؤال السائل: هل كل خمر حرام؟ مخالف لسؤاله إذا سأل: هل كل مسكر خمر؟
وهكذا سائر مراتب الكلام في هذا النمط؛ فمن هنا لا ينبغي أن يؤتى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وليس فيه ذكر للبسملة، ووردت في حديث المِسْوَر بن مخرمة، أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، 5/ 329-330/ رقم 2731، 2732"، وهو ضمن حديث طويل.
3 النَّصَفة؛ بالتحريك: اسم الإنصاف، وتفسيره أن تعطيهمن نفسك النَّصف، أي تعطيه من الحق كالذي تستحق لنفسك، قاله في "لسان العرب". "ماء".
1 في "ط": "فيلزم".
2 أي: تهييج الشر. "ماء".
3 في "ط": "تبين".
4 مضى تخريجه "4/ 360".

 

ج / 5 ص -418-       بالدليل على حكم المناط منازعًا فيه، ولا مظنة للنزاع فيه؛ إذ يلزم فيه الانتقال من مسألة إلى أخرى لأنا إن فعلنا ذلك لم تتخلص لنا مسألة، وبطلبت فائدة المناظرة.
فصل:
واعلم أن المراد بالمقدمتين ها هنا ليس ما رسمه أهل المنطق على وفق الأشكال المعروفة، ولا على اعتبار التناقض والعكس، وغير ذلك وإن جرى الأمر على وفقها في الحقيقة؛ فلا يستتب جريانه على ذلك الاصطلاح؛ لأن المراد تقريب الطريق الموصل إلى المطلوب على أقرب ما يكون، وعلى وفق ما جاء في الشريعة، وأقرب الأشكال إلى هذا التقرير1 ما كان بديهيًا في الإنتاج أو ما أشبهه من اقتراني أو استثنائي، إلا أن المتحرى فيه إجراؤه على عادة العرب في مخاطباتها ومعهود كلامها، إذ هو أقرب إلى حصول المطلوب على أقرب ما يكون، ولأن التزام الاصطلاحات المنطقية والطرائق المستعملة فيها مبعد عن الوصول إلى المطلوب في الأكثر؛ لأن الشريعة لم توضع إلا على شرط الأمية، ومراعاة علم المنطق في القضايا الشرعية مُنافٍ لذلك؛ فإطلاق لفظ المقدمتين لا يستلزم ذلك الاصطلاح.
ومن هنا يعلم منى ما قاله المازري في قوله عليه الصلاة والسلام:
"كل مسكر خمر، وكل خمر حرام"2؛ قال: "فنتيجة3 هاتين المقدمتين أن كل مسكر حرام"، قال: "وقد أراد بعض أهل الأصول أن يمزج هذا بشيء من علم أصحاب المنطق؛ فيقول: إن أهل المنطق يقولون: لا يكون القياس ولا تصح

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ماء": "التقريب".
2 مضى تخريجه "4/ 360".
3 في مطبوع "العلم" "3/ 63، فقرة قم 937": "فإن نتيجة...".

 

ج / 5 ص -419-       النتيجة إلا بمقدتين، فقوله: "كل مسكر خمر" مقدمة لا تنتج بانفرادها شيئًا...1.
وهذا وإنت اتفق لهذا الأصولي ها هنا2 وفي موضع أو موضعين في الشريعة؛ فإنه لا يستمر في سائر أقيستها، ومعظم طرق الأقيسة الفقهية لا يسلك فيها هذا المسلك، ولا يعرف من هذه الجهة، وذلك أنا [مثلُا]3 لو عللنا تحريمه عليه الصلاة والسلام التفاضل في البُرّ بأنه مطعوم كما قال الشافعي؛ لم نقدر أن نعرف هذه العلة إلا ببحث4 وتقسيم، فإذا5 عرفناها؛ فللشافعي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في مطبوع "المعلم" "3/ 64" بعد كلمة "شيئًا" ما نصه: وهم يسمون اللفظة الأولى من المقدمة موضوعًا، واللفظة الثانية محمولًا، بمعنى أن اللفظة الأولى وضعت لأن تحمل الثانية عليها؛ فيكون المحمول في المقدمة الأولى هو الموضوع في المقدمة الثانية، وتكون النتيجة موضوع المقدمة الأولى ومحمول الثاني، فيصير كل مسكر حرام، ويجعل أصحاب المنطق هذا أصلًا يسهلون به معرفة النتائج والقياس، وهذا وإن اتفق...".
2 أي: في نظم هذا الحديث الذي جاء على رسم المنطق مصادفة. "د".
3 سقطت من النسخ المطبوع، وهي في الأصل و"ط"، وعند المازري في "المعلم" "3/ 64".
4 أي: عن الصفات اللاحقة للبُرِّ، وتقسيم لها بين ما يصلح علة وإمارة شرعية على حرمة التفاضل وما يصلح، وهذا هو المعبر عنه بالسبر والتقسيم عندهم، وبعد معرفتها بهذا الطريق يستوي أن تجعلها حدًا أوسط، ونصوغ الدليل على طريقة أهل المنطق، وألا نجعلها كذلك؛ فنعبر بأي عبارة، فنقول مثلُا: السفرجل ربوي لأنه من المطعومات، والموضع يستمد من تعريف الدليل عند كل من الأصوليين والمنطقيين ومعرفلة النسبة بينهما باعتبار التحقق والوجود، والرد ا لمشار إليه ممكن كما بسطوه في شرح قول ابن الحاج: "ولا بد من مستلزم للمطلوب حاصل للمحكوم عليه، فمن ثم وجبت المقدمتان". فقالوا: إن هذا ظاهر على الاصطلاح المنطقي، أما على الأصولي الذي يقول: إن الدليل هو المفرد كالعالم مثلُا، فإنما تجبان فيه من حيث يتعلق به النظر بالفعل، ويكون معنى الاستلزام حينئذ المناسبة المصححة للانتقال. "د".
5 في "د": "فإذ"، وفي الأصل و"ف" و"م" و"ط" و"ماء" ما أثبتناه، وكذا في "المعلم" "1/ 64"

 

ج / 5 ص -420-       أن يقول حينئذ: كل سفرجل مطعوم، وكل مطعوم ربوي؛ فيكون النتيجة السفرجل ربوي"1.
قال: "ولكن هذا لا يفيد الشافعي فائدة؛ لأنه إنما عرف هذا وصحة هذه النتيجة بطريقة أخرى، فلما عرفها من تلك الطريقة أراد أن يضع عبارة يعبر بها مذهبه؛ فجاء بها على هذه الصيغة"3.
قال: ولو جاء بها على أي صيغة أراد مما يؤدي منه مراده4؛ لم يكن لهذه الصيغة مزية عليها"5.
قال: وإنما6 نبهنا على ذلك لما ألفينا بعض المتأخرين صنف كتابًا أراد أن يرد فيها أصول الفقه لأصول علم المنطق"7.
هذا ما قاله المازري، وهو صحيح في الجملة، وفيه من8 التنبيه ما ذكرناه من عدم التزام طريقة أهل المنطق في تقرير القضايا الشرعية، وفيه9 أيضًا إشارة إلى ما تقدم من أن المقدمة الحاكمة على المناط إن لم يكن متفقًا عليها مسلمة عند الخصم؛ فلا يفيد وضعها دليلًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "المعلم بفوائد مسلم" "3/ 64".
2 في مطبوع "المعلم" "3/ 64" "ما يفيد...".
3 "المعلم بفوائد مسلم" "3/ 64".
4 في مطبوع "المعلم": "مما تؤدي عنه مراده".
5 "المعلم بفوائد مسلم" "3/ 64".
6 في "م": "وإنا"
7 "المعلم بفوائد مسلم" "3/ 64".
8 أي: حيث قال "فالشافعي... إلخ". "د".
9 أي: حيث قال "ولكن هذا لا يفيد الشافعي شيئًٍا". "د".

 

ج / 5 ص -421-       ولما كان قوله عليه الصلاة نالسلام: "وكل خمر حرام"1 مسلمًا؛ لأنه نص النبي؛ لم يعترض فيه المخالف، بل قابله بالتسليم، واعترض القاعدة بعدم2 الطراد، وذلك مما يدل على أنه من كلامه عليه الصلاة والسلام أمر اتفاقي، لا أنه قصد قصد المنطقيين.
وهكذا يقال في القياس الشرطي في نحو قوله تعالى:
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]؛ لأن "لُو" لما سيقع3 لوقوع غيره؛ فلا استثناء لها4 في كلام العرب قصدًا، وهو معنى تفسير سيبويه5، ونظيرها6 "إنْ"؛ لأنها تفيد ارتباط الثاني بالأول في التسبب، والاستثناء لا تعلق له بها في صريح كلام العرب؛ فلا احتياج إلى ضوابط المنطق في تحصيل المراد في المطالب الشرعية.
وإلى هذا المعنى- والله أعلم- أشار الباجي في "أحكام الفصول"7

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "4/ 360".
2 أي: القائلة: لا تصح النتيجة... إلخ. "د".
3 عبارة سيبويه: "لما كان سيقع لوقوع غيره". "د".
4 أي: فلا يؤتى بعدها بقضية استثنائية لنقيض التالي حتى يرفع المقدم، ولا لعين المقدم ليثبت التالي. "د".
5 في كتابه "الكتاب" "2/ 332".
6 أما المناطقة؛ ففرقوا بينهما بأن استعمال "لو" لما يستثنى فيه نقيض التالي؛ لأنها وضعت لتعليق العدم بالعدم، واستعمال "إن" لما يستثنى فيه عين المقدم؛ لأنها وضعت لتعليق الوجدود بالوجود، والله أعلم. "د".
7 ففيه "ص529-531، فقرة رقم 567، 568" ما نصه: "وقد زعمت الفلاسفة أن القياس لا يصح ولا يتم من مقدمة واحدة، لا يكون عنها نتيجة، وإنما ينبني القياس من مقدمتين فصاعدًا؛ إحداهما قول القائل: "كل حي قادر" والثانية: "كل قادر فاعل"، والمقدمة عندهم مقال موجب شيئًا لشيء أو سالب شيئًا عن شيء؛ فالموجب كقولنا: "كل حي قادر"، والسالب كقولنا: =

 

ج / 5 ص -422-       حين رد على الفلاسفة في زعمهم أن لا نتيجة إلا من مقدمتين، ورأى أن المقدمة الواحدة قد تنتج، وهو كلام مشكل الظاهر؛ إلا إذا طولع به هذا الموضع فربما استقام في النظر1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "كل حي ليس بميت"، وهذا ليس من القياس بسبيل ولا له به تعلق.
وذلك أننا قد بينا أن القياس عند أهل النظر وفي مقتضى اللغة إنما هو حمل أمر على أمر بوجه يجمع بينهما فيه ويسوي بينهما في الحكم لأجله، وقد دللنا على ذلك، وإذا كان ذلك وجب أن يكون ما قالوه ليس من القياس بشيء، وإنما هو ضم قول إلى قول يقتضي أمرًا من الأمور، وهو موجب ضم القولين ومقتضاه من غير حمل شيء على شيء ولا قياسه عليه، وما سموه نتيجة، فإنما هو موجب ضم أحد القولين إلى الآخر.
وما يبين ذلك اتفاقنا نحن وهم على أن قولنا: "زيد حي" يقتضي أنه ليس بميت، وينتج منه سلب الموت عنه، ومع ذلك؛ فليس بقياس، وكذلك قولنا: "زيد عالم" ينتج منه نفي الجهل عنه، وليس بقياس.
ومما يدل على ذلك أنه قد تنتج لنا القسمة الصحيحة للأمر العام شيئًا معلومًا من غير أن تكون القسمة المنتجة من مقدماتهم ولا معدودة في مقاييسهم، وذلك أننا إذا قلنا: "الموجود قسمان: قديم..."؛ علم كل سامع أن القسم الآخر ليس بقديم، وتنتج هذا من جهة القسمة وتحديد أحد القسمين، وهذا بين في فساد ما ذهبوا إليه.
ولولا من يعتني بجهالاتهم من الأغمار والأحداث؛ لنزهنا كتابنا عن ذكر الفلاسفة، ولكن قد نشأ أغمار وأحداث جهال عدلوا عن قراءة الشرائع وأحكام الكتاب والسنن إلى قراءة الجهالات من المنطق، واعتقدوا صحتها، وعولوا على متضمنها دون أن يقرؤوا أقوال خصومهم من أهل الشرائع ا لذين أحكموا هذا الباب وحققوا معانيه، وعدتهم الملحدة مثل الكندي والرازي وغيرهما الذين يترجمون كتبهم بأقوال تغر من لا علم له بكتبهم وأقوالهم ومذاهبهم؛ فيقولون: "إنا نثبت صانعًا يفعل الطبائع في الأجسام، ثم الطبائع بعد ذلك تفعل العل والأغراض والأمراض"؛ فسهلوا على الأغمار باب الكفر، وجعلوا لهم سترًا وجنة عن عوام الناس، ومن لا خبر له بما تؤول إليه أقوالهم، ولو أن هؤلاء الممتحنين بهذه الطريقة تصفحوا كتاب الله وسنة رسوله وأقوال المتكلمين من المسلمين والفقهاء وذوي الأفهام؛ لبان لهم بأدنى نظر الحق، وتبين لهم الصدق، والله المستعان".
1 في "ط": "فيه هذا النظر".

 

ج / 5 ص -423-       وقد تم والحمد لله الغرض المقصود، وحصل بفضل الله إنجاز ذلك الموعود على أنه قد بقيت أشياء لم يسع إيرادها؛ إذ لم يسهل على كثير من السالكين مرادها، وقل على كثرة التعطش إليها ورادها فخشيت أن لا يردوا مواردها وأن لا ينظموا في سلك التحقيق شواردها؛ فثنيت من جماح بيانها العنان، وأرحت من رسمها القلم والبنان، على أن في أثناء الكتاب رموزًا مشيرة، وأشعة توضح من شمسها المنيرة، فمن تهدي إليها رجا بحول الله الوصول، ومن لا؛ فلا عليه إذا اقتصر التحصيل على المحصول؛ ففيه إن شاء الله مع تحقيق علم الأصول علم يذهب به مذاهب السلف، ويقِفُه1 على الواضحة إذا اضطرب النظر واختلف.
فنسأل الله الذي بيده ملكوت كل شيء أن يعيننا على القيام بحقه، وأن يعاملنا بفضله ورفقه، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ف": "ويفقه".
2 من الأصل وحده.
قال "د": "والحمد لله الذي أنعم بالتوفيق لهذه الصبابة في خدمة أصول الدين، والصلاة والسلام على الرسول الأكرم وكافة الآل والصحابة وسائر التابعين، والتوجه إلى الله في القبول؛ فإنه غاية المأمول، ونهاية المسؤول، تم بتوفيقه تعالى الجزء الرابع والأخير من كتاب "الموافقات" نفع الله به المسلمين، وأثاب مؤلفه وشارحه وطابعه وناشره، وكل من أدى فيه خدمة للعلم والدين، وأعان على تيسيره للطالبين، آمين، والحمد لله رب العالمين".

 

ج / 5 ص -424-       ................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وجاء في نهاية الأصل: "تم جميع الثاني من كتاب "الموافقات"".
وفي "ف" ما نصه: "تم هذا التعليق بعون الله وتوفيقه مع العناية بتصحيح الأصل من الجزء الثالث إلى هنا حسبما أشرنا إليه الفهم على يد أفقر العباد وأحوجهم إلى مولاه الرؤوف: محمد بن حسنين بن محمد مخلوف العدوي المالكي عفي عنه، وذلك بمصر، يوم الخميس 8 شوال، سنة 1341هـ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم".
وتعليقات "ف" عبارة عن تتمة لما كتبه "خ"، والموجود في آخر طبعته ما نصه: "قد تم بعون الله وقوته طبع الجزء الثاني من "الموافقات"، يليه إن شاء الله الجزء الثالث مفتتحًا بالأدلة الشرعية".
وفي نهاية "م" ما رسمه: "وقد تم – والحمد الله- الغرض المقصود، وحصل -بفضل الله- إنجاز ذلك الموعود، وعلى أنه قد بقيت أشياء لم يسع إيرادها؛ إذ لم يسهل على كثير من السالكين مرادها، وقل على كثرة التعطش إليها ورادها، فخشيت أن لا يردوا مواردها، وأن لا ينظموا في سلك التحقيق شواردها؛ فثنيت من جماح بيانها العنان، وأرحت من رسمها القلم والبنان، على أن في أثناء الكتاب رموزًا مشيرة، وأشعة توضح من شمسها المنيرة، فمن تهدي إليها رجا بحول الله الوصول، ومن لا؛ فلا عليه إذا اقتصر التحصيل على المحصول، ففيه –إن شاء الله- مع تحقيق علم الأصول، علم يذهب به مذاهب السلف، ويقفه على الواضحة إذا اضطرب النظر واختلف؛ فنسأل الله الذي بيده ملكوت كل شيء أن يعيننا على القيام بحقه، وأن يعاملنا بفضله ورفقه، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى".
قال أبو عبيدة عفى الله عنه: فرغت من التعليق على هذا السفر العظيم –بعون الله وكرمه- وضبط نصه، وتخريج أحاديثه وآثاره، وتوثيق ما استطعت من نصوصه، ومراجعة مادته، في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة 1417هـ، وكان البدء فيه في أوائل شعبان سنة 1415هـ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وجزى الله مؤلفه وكل من خدمه، وأعان على نشره، خير الجزاء.