الموافقات ج / 5 ص -341-
النظر الأول:
وفيه مسائل:
بعد أن نقدم مقدمة لا بد من ذكرها، وهى أن كل من تحقق
بأصول الشريعة؛ فأدلتها عنده لا تكاد1 تتعارض، كما أن كل
من حقق2 مناط المسائل؛ فلا يكاد يقف في متشابه؛ لأن
الشريعة لا تعارض فيها البتة، فالمتحقق بها متحقق بما في
[نفس] الأمر؛ فيلزم أن لا يكون عنده تعارض، ولذلك لا تجد
البتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم
الوقوف؛ لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من
الخطأ؛ أمكن التعارض بين الأدلة عندهم، فإذا ثبت هذا
فنقول:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد أوضح ذلك في الفصل اللاحق للمسألة الثالثة من
التشابه. "د".
قلت: انظر بسط المسألة على عدم التعارض مع الأدلة العقلية:
"كشف الأسرار" "3/ 76"، و"التقرير والتحبير" "3/ 2"، و"شرح
منار الأنوار" لابن مالك "ص226 - ط التركية"، وما مضى في
المسألة الثالثة من الطرف الأول في الاجتهاد.
2 في "ط": "تحقق".
ج / 5 ص -342-
المسألة الأولى:
التعارض إما
أن يعتبر من جهة ما في نفس الأمر، وإما من جهة نظر
المجتهد، أما من جهة ما في نفس الأمر؛ فغير ممكن بإطلاق،
وقد مر آنفا في كتاب الاجتهاد من ذلك -في مسألة أن الشريعة
على قول واحد- ما فيه كفاية، وأما من جهة نظر المجتهد؛
فممكن بلا خلاف، إلا أنهم إنما نظروا فيه بالنسبة إلى كل
موضع لا يمكن فيه الجمع بين الدليلين، وهو صواب؛ فإنه إن
أمكن الجمع فلا تعارض1؛ كالعام مع الخاص، والمطلق مع
المقيد وأشباه ذلك2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولا داعي إلى الترجيح، قالوا: من شروط الترجيح التي لا
بد من اعتبارها ألا يمكن الجمع بين الدليلين بوجه مقبول،
فإن أمكن تعين المصير إليه، قال في "المحصول" "5/ 406":
"العمل بكل منهما أولى من إهمال أحدهما"، وبه الفقهاء
جميعًا. ا. هـ شوكاني في "الإرشاد" "ص273". "د".
قلت: انظر في ذلك: "المحلى" "1/ 121-122"، و"الخلافيات"
"1/ 329" وتعليقنا عليه "1/ 235، 236، 237، 244، 245"،
و"الأوسط" "2/ 306-309" لابن المنذر، و"الإبهاج" "3/
139-144"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص417-419، 421"، و"شرح
مشكاة الأنوار على المنار" "2/ 109"، و"جمع الجوامع" "2/
359-361 - مع شرح المحلي"، و"الاعتبار" "ص4-5"، للحازمي،
و"توجيه النظر" "ص224-226"، و"أدلة التشريع المتعارضة"
"ص36-38" لبدران أبو العنين بدران، و"التعارض والترجيح بين
الأدلة الشرعية" "1/ 265-299"، وأفاد أن خلافًا وقع في
المسألة.
2 ومثلوا له أيضًا بقوله عليه السلام "فيما أخرجه مسلم في
"صحيحه" "كتاب الأقضية، باب بيان خير الشهود 3/ 1344/ رقم
1719" عن زيد بن خالد الجهني رفعه": "ألا
أخبركم بخير الشهود؟" فقيل: نعم.
فقال:
أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد" مع قوله "فيما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الفتن، باب ما جاء
في لزوم الجماعة، 4/ 465، رقم 2165"، وابن ماجه في "السنن"
"كتاب الأحكام، باب كراهية الشهادة لمن لم يستشهد 2/ 791/
رقم 2363" =
ج / 5 ص -343-
لكنا
نتكلم هنا بحول الله تعالى فيما لم يذكروه من الضرب الذى
لا يمكن فيه الجمع ونستجر من الضرب الممكن فيه الجمع
أنواعا مهمة، وبمجموع النظر في الضربين يسهل إن شاء الله
على المجتهد في هذا الباب ما عسر على كثير ممن زاول
الاجتهاد، وبالله التوفيق1.
فأما ما لا يمكن فيه الجمع، وهى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأحمد في "المسند" "1/ 18"، وغيرهم عن عمر مرفوعًا، وهو
صحيح، والمذكور جزء من آخر الحديث، وأوله:
"أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم...."، وفيه":
"ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد"؛ فحملوا الأول على ما فيه حق لله، والثاني على ما فيه حق الآدمي؛
فكل عمل به في وجه؛ فلا تعارض ولا ترجيح، وسيأتي له كثير
منه في المسألة الثالثة. "د".
1 في "م": "والله ولي التوفيق".
ج / 5 ص -344-
المسألة الثانية:
فإنه قد مر
في كتاب الاجتهاد أن محال الخلاف دائرة بين طرفي نفي
وإثبات ظهر قصد الشارع في كل واحد منهما؛ فإن الواسطة آخذة
من الطرفين بسبب، هو متعلق الدليل الشرعي؛ فصارت الواسطة
يتجاذبها الدليلان معًا: دليل النفي ودليل الإثبات، فتعارض
عليها الدليلان؛ فاحتيج إلى الترجيح، وإلا؛ فالتوقف وتصير
من المتشابهات، ولما كان قد تبين في ذلك الأصل هذا المعنى؛
لم يحتج إلى مزيد.
إلا أن الأدلة كما يصح تعارضها على ذلك الترتيب كذلك يصح
تعارض ما في معناها1 كما في تعارض القولين على المقلد؛ لأن
نسبتهما إليه نسبة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عرفوا التعارض بأنه تقابل الدليلين على سبيل الممانعة،
بأن يثبت أحدهما ما ينفيه الأخر؛ فالتعارض الذي يتكلم فيه
الأصولين واقع بين الدليلين أنفسهما، فيجيء الترجيح بينهما
من جهة المتن أو السند أو المعنى أو أمر خارج؛ أما أنواع
التعارض التي ذكرها المؤلف من هذه المسألة أولًا وآخرًا
-إذا استثنينا تعارض القولين على المقلد- فأنها ليست في
شيء من تعارض الدليلين الذي أفاض فيه الأصوليون؛ إذ الأدلة
في هذه الأنواع لا تعارض فيها باعتبارها في أنفسها، وإنما
التعارض فيها باعتبار التطبيق وتحقيق المناط في محل الحكم،
وقد قال المؤلف في المسألة الثالثة من التشابه في الأدلة
"3/ 318" ما حصله أن التشابه الراجح إلى المناط ليس راجعًا
إلى الأدلة؛ فالنهي عن أكل الميتة واضح، والإذن في أكل
المذكية واضح، والاشتباه عند اختلاطهما في المأكول لا في
الدليل. ا. هـ.
وسبق له في المسألة الرابعة من الاجتهاد "ص144 وما بعد"
ذِكْر أكثر هذه الأنواع أمثلة لموضوع القاعدة التي أشار
إليها في صدر هذه المسألة، وهو الواسطة تقع بين طرفين
مختلفي الحكم، وفيها شبه من كل منهما، وحيث كانت كل هذه
الأنواع راجعة إلى اختلاف المناط في الواسطة، وكان اختلاف
المناط ليس من التعارض في الأدلة؛ فلا يصح جعل بعضها من
التعارض الحقيقي في الأدلة وبعضها شبيهًا به وفي معناه،
فإن كان المؤلف يريد أن ما قبل قوله: "كذلك يصح... إلخ" من
باب تعارض الأدلة حقيقة وما بعده من الملحق به، فغير صحيح
كما عرفت =
ج / 5 ص -345-
الدليلين إلى المجتهد، ومنه تعارض العلامات1 الدالة على
الأحكام المختلفة، كما إذا انتهب نوع من المتاع يندر وجود
مثله من غير الانتهاب؛ فيرى مثله في يد رجل ورع؛ فيدل صلاح
ذي اليد على أنه حلال، ويدل ندور مثله من غير النهب على
أنه حرام؛ فيتعارضان، ومنه تعارض الأشباه الجارَّة إلى
الأحكام المختلفة؛ كالعبد؛ فإنه آدمي، فيجري مجرى الأحرار
في الملك، ومال فيجري مجرى سائر الأموال في سلب الملك،
ومنه تعارض الأسباب؛ كاختلاط الميتة بالذكية، والزوجة
بالأجنبية؛ إذ كل واحدة منهما تطرق إليها احتمال وجود
السبب المحلل والمحرم، ومنه تعارض الشروط؛ كتعارض
البينتين؛ إذ قلنا: إن الشهادة شرط في إنفاذ الحكم؛
فإحداهما تقتضي إثبات أمر، والأخرى تقتضي نفيه، وكذلك ما
جرى مجرى [هذه]2 الأمور داخل في حكمها.
ووجه الترجيح في هذا الضرب غير3 منحصر؛ إذ الوقائع الجزئية
النوعية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وإن كان يعني أنه يتكلم من أول الأمر على تعارض آخر غير
ما ذكره الأصوليون وهو تعارض ليس باعتبار الأدلة في
أنفسها، بل باعتبار المناط، وهو ما يشير إليه قوله: "تعارض
-عليها- الدليلان"، وقوله: "كما يصح تعارضها -على ذلك
الترتيب"؛ فهو صحيح، لكن يرد عليه أن تعارض الدليلين بهذا
المعنى موجود بعينه في تعارض العلامات وما معه، كما يرشد
إليه قوله بعد: "وحقيقة النظر الالتفات إلى كل طرف من
الطرفين... إلخ"، وصنيعه هنا يوهم خلاف ذلك، وأن تعارض
العلامات وما معها ليس من جنس ما قبله، وقد يجاب بأن هذه
الأنواع وإن اشتركت في أن الكل من باب التعارض الواقع على
واسطة بين الطرفين، لكن المنظور إليه في النوع الأول حصول
التعارض بين دليلي الطرفين، وفي الأنواع حصل التعارض أولًا
وبالذات بين علامتي الطرفين أو سببيهما... إلخ"، وهو إن
كان يلزم منه تعارض دليليهما على تلك الواسطة؛ لكن ليس هو
نفس تعارض الدليلين؛ فلذلك جعله في معنى تعارض الدليلين؛
لأنه يَئُول إليه. "د".
1 في نسخة "ماء": "المعاملات".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
3 أي: بخلاف وجوه الترجيح في التعارض الواقع بين نفس
الدليلين؛ فقد حصرها =
ج / 5 ص -346-
أو
الشخصية لا تنحصر، ومجاري العادات تقضي بعدم الاتفاق بين
الجزئيات بحيث يحكم على كل جزئي بحكم جزئي واحد؛ بل لا بد
من ضمائم تحتفّ، وقرائن تقترن، مما يمكن تأثيره في الحكم
المقرر؛ فيمتنع إجراؤه في جميع الجزئيات، وهذا أمر مشاهد
معلوم، وإذا كان كذلك؛ فوجوه1 الترجيح جارية مجرى الأدلة
الواردة على محل التعارض؛ فلا يمكن في هذه الحال [إلا]2
الإحالة على نظر المجتهد فيه، وقد تقدم لهذا المعنى تقرير
في أول3 كتاب الاجتهاد، وحقيقة النظر الالتفات إلى كل طرف
من الطرفين أيهما أسعد4 وأغلب5 أو أقرب بالنسبة إلى تلك
الواسطة؛ فيبنى على6 إلحاقها به من غير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأصوليون في الأنواع الأربعة التي أشرنا إليها، وأضافوا
إليها ترجيح الأقيسة وما معها؛ فصارت ستة أنواع. "د".
قلت: فَصَّل الكلام على وجوه الترجيح على وجه مستوعب:
الشيخ عبد اللطيف البرزنجي في رسالته العالِمية
"الدكتوراة": "التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية"، وهو
مطبوع في مجلدين سنة 1397هـ، عن مطبعة العاني، والعراق.
1 هل وجوه الترجيح هي الجارية مجرى الأدلة المذكورة، أم أن
العلامات والأشباه والأسباب المتعارضة هي الجارية هذا
المجرى؟ فتحتاج إلى نظر المجتهدين فيها من أهل الذكر
والخبرة في كل نوع منها؛ إلا أن يقال: إنه يعني بوجوه
الترجيح هذه الأسباب والعلامات.... إلخ، ولا ينافيه قوله
بعدُ: "أيهما أسعد أو أغلب.. إلخ".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
3 في المسألة الأولى منه، حيث بسط الكلام في الاجتهاد في
تحقيق المناط. "د"، وهذا يؤيد ما قررناه في هذا المقام،
وأن الكلام كله مسوق في تحقيق المناط، لا في التعارض الذي
فصله الأصوليون ولا في نوع منه، إنما هو نوع آخر شبيه به.
"د".
4 أي: أقوى وأنسب. "د".
5 كذا في "ط" و"د"، وفي غيرهما: "أو أغلب".
6 لعل الصواب: "فيبنى عليها إلحاقها"، وهو راجع لكل واحد
من الثلاثة منفردة أو مجتمعة. "د".
ج / 5 ص -347-
مراعاة
للطرف الآخر أو مع مراعاته1 كمسألة2 العبد في مذهب مالك3
ومن خالفه وأشباهها.
فصل:
هذا وجه النظر في الضرب الأول على ظاهر كلام4 الأصوليين،
وإذا تأملنا المعنى فيه؛ وجدناه راجعًا5 إلى الضرب الثاني،
وأن الترجيح راجع إلى وجه من الجمع6، أو إبطال7 أحد
المتعارضين، حسبما يذكر على أثر هذا بحول الله تعالى.
وأما ما يمكن فيه الجمع، وهي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عند مراعاة الطرفين كيف يكون من الضرب الأول الذي لا
يمكن فيه الجمع، مع أنه في هذه الحالة يكون أعمل الطرفين
المتعارضين إعمالًا جزئيًا في كل منهما؛ فلم يلغ أحدهما،
ولم يعمل الآخر إعمالًا كليًّا، فوضعه هذه المسألة للضرب
الذي لا يمكن فيه الجمع إنما هو باعتبار الغالب، وسيأتي له
كلام في المسألة الثالثة. "د".
2 في "د": "مسألة".
3 فعنده أن يملك ملكًا غير تام، وعند غيره لا يملك رأسًا،
ولكل تفريعه. "د".
4 أي: حيث اشتغلوا بترجيح أحد الدليلين بالمرجحات التي
تقتضي اعتماد أحد الدليلين وإهمال الآخر، وهذا لا يكون إلا
إذا كان مما لا يمكن فيه الجمع، ولكن قد سبق لنا ذكر شيء
من أمثلة ما اعتبروا فيه الجمع بإعمال الدليلين. "د".
5 ظاهره أن كل ما حكم عليه الأصوليون بعدم إمكان الجمع فيه
يرجع إلى الضرب الثاني الذي فيه؛ إما الجمع، أو الأبطال
لأحدهما؛ فلا تبقى معارضة مطلقًا، فإن كان هذا مراده حقيقة
يريد به القضاء على باب التعادل والترجيح؛ فإنه لم يصل
إليه، وذلك لأن الصور التي ذكرها في المسألة الثالثة على
فرض أنها حاصرة للصور المعقولة في التعارض، فإن الأحكام لم
تُستوفَ في الصورة الثانية؛ فما بين الجزئيتين الداخلتين
تحت كلية واحدة لا ينحصر حكمه في الإبطال بالطرق التي أشار
إليها أو الإعمال الذي ذكره، بل هناك شيء كثير، بل أكثر ما
ذكر في باب التعادل، والترجيح ليس فيه إبطال أحد الدليلين
بالنسخ وما معه، ولا إعمال الدليلين معًا؛ فبقي ما قالوه
كما هو ولم يرجع الضرب الأول إلى الثاني. "د".
6 كذا في "ط" وفي غيره "وإبطال"، وكتب "د": الصواب: "أو"؛
ليتفق مع المسألة الثالثة.
7 هذا إنما يظهر فيما سيذكره في المسألة الثالثة في الصورة
الثانية في الأمر الأول منها؛ فإنه هو الذي فيه إبطال
الدليلين إبطالًا حقيقيًّا، أما ما رجحوا فيه دليلًا على
آخر بالمرجحات المتعلقة بالمتن أو السند أو المعنى أو
بخارج -مع اعترافهم بأنه لا يزال الدليل قابلًا لأن يكون
صحيحًا غايته أنه وجد لمقابله ما يقتضي الظن بأرجحيته- فلا
يكون فيه أبطال أحدهما إبطالًا حقيقيًّا، وتسمية ما ذكره
من نسخ أحدهما وما معه جمعًا بين الدليلين بعيد من جهة
المعنى، وقد اعترف بذلك حيث يقول: "لم يمكن فرض اجتماع
دليلين فيتعارضا"، وعليه؛ فإدخال هذا النوع في التعارض ثم
دعوى أنه مما أمكن فيه الجمع لا محصل له. "د".
ج / 5 ص -349-
المسألة الثالثة:
فنقول:
لتعارض الأدلة في هذا الضرب صور:
إحداها: أن يكون في جهة كلية مع جهة جزئية [تحتها]1؛
كالكذب المحرم مع الكذب للإصلاح بين الزوجين، وقتل المسلم
المحرم مع القتل قصاصا أو بالزنى؛ فهو إما أن يكون الجزئي
رخصة في ذلك الكلي، أو لا.
وعلى كل تقدير؛ فقد مر في هذا الكتاب ما يقتبس منه الحكم2
تعارضًا وترجيحا، وذلك في كتاب الأحكام وكتاب الأدلة؛ فلا
فائدة في التكرار.
والثانية: أن يقع في جهتين جزئيتين، كلتاهما داخلة تحت
كلية واحدة؛ كتعارض حديثين3، أو قياسين، أو علامتين4 على
جزئية واحدة، وكثيرًا ما يذكره الأصوليون في الضرب الأول
الذى لا يمكن5 فيه الجمع، ولكن وجه النظر فيه أن التعارض
إذا ظهر؛ فلا بد من أحد أمرين: "إما الحكم على أحد
الدليلين بالإهمال"؛ فيبقى الآخر هو المعمل لا غير؛ وذلك
لا يصح إلا مع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
2 ومحصله إعمال الدليلين، كما سبق في مسألة شرب العسل
لصاحب الصفراء في كتاب الأدلة. "د".
3 وانظر لِمَ لم يذكر تعارض آيتين؟ ولعله لا يقول
بتعارضهما لأنهما قطعيتان، ولكن التعارض واقع باعتبار
الدلالة الظنية، وللحديثين المتواترين حكم الآيتين، وقد
أطلق في الحديثين، وقد عرفت أن الكلام في التعارض صورة فقط
لا في التعارض الحقيقي؛ لأنه لا يقع في الشريعة مطلقًا؛
فلا فرق بين القطعي وغيره. "د".
4 أي: كما صنع هو في تعارض العلامتين، وقد توسع هنا في
العلامة؛ فجعلها شاملة للسببين والشبهين، إلى غير ذلك مما
يكون فيه تحقيق المناط. "د".
5 أي: مع أن هذه الصورة قد تكون مما يمكن فيه ذلك؛ كما
يذكره في الأمر الثاني. "د".
ج / 5 ص -350-
فرض1
إبطاله بكونه منسوخًا، أو تطريق غلط أو وهم في السند أو في
المتن إن كان خبر آحاد، أو كونه مظنونا يعارض مقطوعا به2،
إلى غير ذلك من الوجوه القادحة في اعتبار ذلك الدليل، وإذا
فرض أحد هذه الأشياء؛ لم يمكن فرض اجتماع الدليلين3
فيتعارضا، وقد سلموا أن أحدهما [إذا كان] منسوخًا لا يعد
معارضًا، فكذلك ما في معناه4؛ فالحكم إذن للدليل الثابت
عند المجتهد كما لو انفرد عن معارض من أصل، "والأمر الثاني
الحكم عليهما معا بالإعمال"5، ويلزم من هذا أن لا يتوارد
الدليلان على محل التعارض من وجه واحد؛ لأنه محال مع فرض
إعمالهما فيه، فإنما يتواردان من وجهين، وإذ ذاك يرتفع
التعارض البتة؛ إلا أن هذا الإعمال تارة يرد على محل
التعارض كما في مسألة العبد في رأي مالك، فإنه أعمل حكم
الملك له من وجه، وأهمل ذلك من وجه، وتارة يخص6 أحد
الدليلين؛ فلا يتواردان على محل التعارض معًا، بل يعمل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كلامه -كما عرفت- قاصر على ما يتأتى فيه القدح في اعتبار
الدليل، ولا يشمل ما إذا ترجح فقط أحد الدليلين المتعارضين
بالمرجحات المشهورة مع بقاء الاعتراف بصحة الدليل المهمل،
مع أن هذا النوع هو الذي عليه معظم باب التعادل والترجيح
عندهم. "د".
2 هذا على رأي؛ والتحقيق ما عرفته من أنه يتأتى التعارض
بين الكتاب والسنة لأنه ليس المراد به التناقض والتعارض
الحقيقي، بل التعارض في الشرعيات صوري فقط، وبذلك نسخت
السنة الكتاب وخصصته.. إلخ، ولا يعد كون السنة مظنونة
المتن قدحًا فيها في مقابلة قطعي الكتاب الظني الدلالة؛
إلا أن يكون مراده به الدليل المقطوع به من جميع الوجوه
إذا قابله ظني. "د".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "دليلين".
4 أي: من طريق الغلط والوهم..... إلخ، ما أشار إليه. "د".
5 راجع كتب الأصول، ففيها من هذا النوع كثير من الأمثلة.
"د".
6 أي: فيُعْمِل الدليلين، لكن يخص كل واحد منهما ببعض
الجزئيات، بضم قيود أو رفع بعضها؛ كما تقدم في تحقيق
المناط الخاص، وكما تقدم لنا في حديث "خير الشهود"، حيث
حمل كل على محل خاص به من حق الله وحق الآدمي، وسيأتي له
تمثيل في التيمم. "د". =
ج / 5 ص -351-
في
غيره ويهمل بالنسبة إليه لمعنى اقتضى ذلك. ويدخل تحت هذا
الوجه كل ما يستثنيه المجتهد صاحب النظر في تحقيق المناط
الخاص المذكور في أول كتاب الاجتهاد، وكذلك في فرض الكفاية
المذكور في كتاب الأحكام1.
والصورة الثالثة: أن يقع التعارض في جهتين جزئيتين لا
تدخل2 إحداهما تحت الأخرى، ولا ترجعان إلى كلية واحدة،
كالمكلف لا يجد ماء ولا تيممًا؛ فهو بين أن يترك مقتضى
{أَقِيمُوا
الصَّلاة} [البقرة: 43] لمقتضى
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] إلى آخرها، أو يعكس؛ فإن الصلاة راجعة إلى كلية من
الضروريات، والطهارة راجعة إلى كلية من التحسينيات على
قول3 من قال بذلك، أو معارضة
{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} لقوله:
{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150] بالنسبة إلى من التبست عليه القبلة؛ فالأصل أن
الجزئي راجع في الترجيح إلى أصله الكلي، فإن رجح الكلي؛
فكذلك4 جزئيه، أو لم يرجح فجزئيه مثله؛ لأن الجزئي معتبر
بكليه، وقد ثبت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت: تجد أمثلة كثيرة من هذا الباب في "شرح معاني
الآثار" و"مشكل الآثار"، كلاهما للطحاوي.
1 قال هناك: إن فرض الجهاد كفاية يجب أن يخص بمن فيه غناء
ونجدة؛ فلا إثم على من ليس كذلك إذا لم تقم به الأمة، وكذا
مثل الولاية العامة.. إلخ ما قال؛ فهذا فيه تخصيص لأحد
الدليلين بقيد يراعى فيه، حتى لا يتعارض دليل طلب الجهاد
كفاية مع دليل:
{لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
[البقرة: 286] إذا تسلط الدليلان على محل واحد. "د".
2 احتاج له لأن المراد بالجزئي النوعي، وقد حقق بهذا القيد
مخالفة هذه الصورة للصورة الأولى، وحقق بقوله: "ولا
ترجعان" مخالفتها للصورة الثانية. "د".
3 أما إذا قلنا: إنها من المكملات لنفس الصلاة؛ فيقال فيها
ما سيقال في القبلة، والظاهر أنه لا فرق بين القبلة
والطهارة؛ فكل شرط سابق على الدخول في الصلاة ومتسصحب
فيها. "د".
4 أي: فيصلي بلا وضوء ولا تيمم كما هو بعض الأقوال في مذهب
مالك، وقد يقال: كيف يكون استقبال القبلة ليس من كلية
الصلاة مع أنه شرط؟ إلا أن يقال: إنه شرط خارج عنها؛ =
ج / 5 ص -352-
ترجيحه؛ فكذلك يترجح جزئيه.
وأيضا؛ فقد تقدم أن الجزئي خادم لكليه، وليس الكلي بموجود
في الخارج إلا في الجزئي؛ فهو الحامل1 له، حتى إذا انخرم؛
فقد ينخرم الكلي؛ فهذا إذا متضمن له، فلو رجح غيره من
الجزئيات غير الداخلة معه في كليه؛ للزم ترجيح ذلك الغير
على الكلي، وقد فرضنا أن الكلي المفروض هو المقدم على
الآخر؛ فلا بد من تقديم جزئيه كذلك، وقد انجر في هذه
الصورة حكم الكليات2 الشاملة لهذه الجزئيات؛ فلا حاجة إلى
الكلام فيها مع أن أحكامها مقتبسة من كتاب المقاصد من هذا
الكتاب، والحمد لله.
والصورة الرابعة3: أن يقع التعارض في كليين من نوع واحد،
وهذا في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فهو مكمل، والمكمل إذا عاد بسببه إهمال المكمل ألغي.
"د". وفي "ط": "فذلك".
قلت: انظر تفصيل المسألة وأدلتها مع سبب الخلاف في: "عقد
الجواهر الثمينة" "1/ 81-82"، و"الذخيرة" "1/ 350-351"،
و"منح الجليل" "1/ 161".
1 أي: الذي يتحقق فيه كالعرض مع المعروض. "د".
2 أي أنه وإن كان التعارض المفروض بين جزئيتين؛ إلا انه
انجر معه الكلام في تعارض الكليين اللذين ليسا من نوع
واحد، وحكمه قد علم من بيان حكم الجزئيين الداخلين في هذين
الكليين؛ فيرجح كلي الضرويات على كل الحاجيات مثلًا،
وهكذا. "د".
3 بقي أنهم ذكروا من صور التعارض ما كان بين الدليلين عموم
وخصوص وجهي، كما في حديث:
"لا صلاة إلا
بفاتحة الكتاب"* مع حديث:
"قراءة الإمام قراءة المأموم"**؛ فالأول =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب وجوب
القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، 2/ 236-237/ رقم
756"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة
الفاتحة في كل ركعة، 1/ 295/ رقم 394" عن عبادة بن الصامت
مرفوعًا، ولفظه:
"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب".
** روي عن جماعة من الصحابة بألفاظ متقاربة؛ منهم: جابر،
وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وعلي، وأبو الدرداء،
وجميعها لا تخلو من مقال، وحسنه شيخنا الألباني في
"الإرواء" "رقم 500" بتعدد طرقه، بينما قال ابن حجر في
"الفتح" "2/ 242": "حديث ضعيف عند الحفاظ، وقد استوعب طرقه
وعلله الدراقطني وغيره".
ج / 5 ص -353-
ظاهره
شنيع، ولكنه في التحصيل صحيح.
ووجه شناعته أن الكليات الشرعية قد مر أنها قطعية لا مدخل
فيها للظن، وتعارض القطعيات محال.
وأما وجه الصحة؛ فعلى ترتيب يمكن الجمع بينهما فيه إذا كان
الموضوع له اعتباران؛ فلا يكون تعارضا في الحقيقة، وكذلك
الجزئيان1 إذا دخلا تحت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يقتضى أن الفاتحة واجبة على المأموم، والثاني يقتضي أن
المأموم يكفيه عنها قراءة إمامه لها، فعموم كل منهما
يقابله خصوص الآخر ويعارضه، وكذا ما بين حديث:
"من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها"*، وحديث النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها**، ولا يخفى أنهما
جزئيتان كلتاهما داخلة تحت كلية الصلاة، وقد أعملوا كلًا
من الدليلين على خلاف في طريق الإعمال، ويمكن إدخال ذلك في
الصورة الثانية في الأمر الثاني، أما مالك؛ فقد التمس
إزالة المعارضة في مسألة الفاتحة من خارج عنهما، وهو حديث
جابر: قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى ركعة لم يقرأ فيها
بأم القرآن فلم يصلِّ؛ إلا أن يكون وراء الإمام"***، وعلى
كل حال؛ فقد أعملهما معًا. "د".
1 أعاده ومثل له مع دخوله في الأمر الثاني من الصورة
الثانية ليرتب عليه بيان الكليين إذا تعارضا وكان لهما
اعتباران؛ لأنهما مثلهما في ذلك كما قال: "وأما التعارض في
الكليين على ذلك الاعتبار... إلخ. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 597"، ومسلم في "صحيحه"
"رقم 684" عن أنس رضي الله عنه بنحوه.
** مضى تخريجه "2/ 516"، "وهو صحيح".
*** أخرجه الخلعي في "فوائده" "ق47/ أ" عن يحيى بن سلام عن
مالك عن وهب بن كيسان عن جابر مرفوعًا، وإسناده ضعيف، يحيى
بن سلام ضعفه الدراقطني، وقال الزيلعي في "نصب الراية" "1/
10": "هذا باطل لا يصح عن مالك"، والصواب أنه موقوف على
جابر؛ كما عند البيهقي" "2/ 160".
ج / 5 ص -354-
كلي
واحد وكان موضوعهما واحدًا؛ إلا أن له اعتبارين.
فالجزئيان أمثلتهما كثيرة، وقد مر منها1 ومن الأمثلة الميل
ونحوه في تحديد طلب الماء للطهور؛ فقد يكون فيه مشقة
بالنسبة إلى شخص فيباح له التيمم، ولا يشق بالنسبة إلى آخر
فيمنع من التيمم؛ فقد تعارض على الميل دليلان، لكن بالنسبة
إلى شخصين، وهكذا ركوب البحر2 يمنع منه بعض ويباح لبعض،
والزمان واحد، لكن بالنسبة إلى ظن السلامة والغرق، وأشباه
ذلك.
وأما التعارض في الكليين على ذلك الاعتبار؛ فلنذكر له
مثالا عاما يقاس عليه ما سواه إن شاء الله.
وذلك أن الله تعالى وصف الدنيا بوصفين كالمتضادين3:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كما في المسائل التي أشار إليها فيما يستثنيه
المجتهد في تحقيق المناط الخاص وما ذكر معه. "د".
2 انظر تفصيل ذلك مع الأدلة في: "مصنف ابن أبي شيبة" "4/
135 و5/ 336"، و"مصنف عبد الرزاق" "11/ 149"، و"سنن سعيد
بن منصور" "2/ 185-187"، و"السنن الكبرى" "4/ 334-335"
للبيهقي، و"مجمع الزوائد" "4/ 64"، و"فتح الباري" "4/
229"، و"القرى لقاصد أم القري" "67-68"، و"تفسير القرطبي"
"2/ 190 و7/ 341"، و"أحكام القرآن" "1/ 131" للجصاص،
و"إتحاف السادة المتقين" "4/ 513"، وكتابنا "المروءة"
"ص108 - ط الأولى"، وغيرهما كثير، وانظر ما مضى "1/ 331".
3 وإنما كان هذان الوصفان كليين لأنهما في معنى "كل ما
اشتملت عليه الحياة الدنيا مذموم"، "وكل ما اشتملت عليه
الحياة الدنيا ممدوح ونافع"، وإنما لم يجعلهما متضادين
حقيقة لوجود الاعتبارين المشار إليهما أيضًا؛ فإن ما ذكر
من الآيات والأحاديث ليس صريحًا في الوصفين المذكورين،
ولكنه يفهم منه ذلك، ولذا قال: "يقتضي"، ووسط الوجهين
المذكورين في كل منهما كمقدمة ينتقل الذهن منها إلى وصف
الذم، ثم بين التضاد بين الوجوه المقتضية للوصفين، وسيأتي
له بعد تمام البيان أن يقول: "فالوصفان إذن متضادان". "د".
ج / 5 ص -355-
وصف
يقتضي ذمها وعدم الالتفات إليها وترك اعتبارها.
ووصف يقتضي مدحها والالتفات إليها وأخذ ما فيها بيد
القبول؛ لأنه1 شيء عظيم مهدىً من ملك عظيم.
فالأول له وجهان:
أحدهما: أنها لا جدوى لها ولا محصول عندها، ومن ذلك قوله
تعالى:
{أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ
وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} الآية2 [الحديد: 20].
فأخبر أنها مثل اللعب واللهو الذي لا يوجد في شيء ولا نفع
فيه إلا مجرد الحركات والسكنات التي لا طائل تحتها ولا
فائدة وراءها3.
وقوله تعالى:
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].
فحصر فائدتها في الغرور المذموم العاقبة.
وقوله تعالى:
{وَمَا هَذِهِ4
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ
الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}
[العنكبوت: 64].
وقوله تعالى:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
وَالْبَنِينَ} إلى قوله:
{ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14].
وقال:
{الْمَالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
[الكهف: 46].
إلى غير ذلك من الآيات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "على لأنها"، والصواب حذف "على".
2 أي: إلى قوله:
{وَالْأَوْلَادِ}، وأما قوله:
{كَمَثَلِ غَيْثٍ}...
إلخ؛ فظاهر دخوله في الوجه الثاني. "د".
3 في "ط": "طائل وراءها، ولا فائدة تحتها".
4 سقطت من "د": و"ط".
ج / 5 ص -356-
وكذلك
الأحاديث في هذا المعنى؛ كقوله:
"لو كانت
الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة
ماء"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في
هوان الدنيا على الله عز وجل، 4/ 560/ رقم 2320"، وابن
ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، 2/
1376-1377/ رقم 4110"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 306"،
وابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 128"، وابن عدي في "الكامل"
"5/ 1956"، والعقلي في "الضعفاء الكبير" "3/ 46"، وأبو
نعيم في "الحلية" "3/ 253"، والطبراني والضياء في
"المختارة" -كما في "المقاصد" "346" -من طريقين ضعيفين؛ في
أحدهما: عبد الحميد بن سليمان، وفي الأخرى زكريا بن منظور،
وكلاهما ضعيف- عن أبي حازم عن سهل بن سعد مرفوعًا.
إلا أن الحديث صحيح بشواهده، قال الترمذي: "وفي الباب عن
أبي هريرة"، وقال: "هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه".
قلت: حديث أبي هريرة أخرجه البزار في "مسنده" "4/ رقم 3693
- زوائده"، وابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 130"، وابن عدي
في "الكامل" "6/ 2235"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 1440"،
وفيه محمد بن عمار بن حفص المديني، وهو ضعيف.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 129" من طريق آخر عن
أبي هريرة، وفيه أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن، وهو ضعيف.
وفي الباب عن ابن عمر، أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" "4/
92"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 1439" من طريق علي بن عيسى
الماليني عن محمد بن أحمد بن أبي عون عن أبي مصعب عن مالك
عن نافع به.
قال الخطيب: "هذا غريب جدًّا من حديث مالك، لا أعلم رواه
غير أبي جعفر بن أبي عون عن أبي مصعب، وعنه علي بن عيسى
الماليني، وكان ثقة".
وأبو جعفر ثقة؛ كما قال الخطيب "1/ 311"؛ فالسند مع غرابته
صحيح.
وعن ابن عباس أخرجه أبو نعيم في "الحلية" "3/ 304 و8/
290"، وفيه الحسن بن عمارة، وهو متروك.
وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" "620" من مرسل الحسن،
وإسناده حسن، وبرقم "509" بسند فيه ضعف من طريق إسماعيل بن
عياش عن عثمان بن عبد الله بن رافع أن رجالًا =
ج / 5 ص -357-
وهى
كثيرة جدًّا، وعلى هذا المنوال نسج الزهاد ما نقل عنهم1 من
ذم الدنيا وأنها لا شيء.
والثاني: أنها كالظل الزائل والحلم المنقطع، ومن ذلك قوله
تعالى:
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ
السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} إلى قوله:
{كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}
[يونس: 24].
وقوله:
{إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ}
[غافر: 39].
وقوله:
{لا
يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ،
مَتَاعٌ قَلِيلٌ} الآية: [آل عمران: 196-197].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حدَّثوا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال.. "وذكره"؛ وإسماعيل ضعيف في
المدنيين، وعثمان مدني، مترجم في "الجرح والتعديل"، "3/ 1/
156"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا.
وأخرجه هناد في "الزهد" "رقم 800" عن عمرو بن مرة مرسلًا
و"رقم 578" ثنا عبدة عن محمد بن عمرو؛ قال: سمعت أشياخنا
يذكرون عن النبي صلى الله عليه وسلم... "وذكره".
والحديث إن شاء الله تعالى صحيح بمجموع هذه الطرق.
1 جعل الغزالي شئون الحياة الدنيا ثلاثة أقسام:
الأول: ما يصحبك منها إلى الآخرة وتبقى معك ثمرته بعد
الموت، وهو العلم بالله والعمل، أي العبادة الخالصة؛ فهذه
هي الدنيا الممدوحة.
والثاني: المقابل له على الطرف الأقصى، وهو كل ما فيه حظ
عاجل ولا ثمرة له في الآخرة؛ كالتلذذ بالمعاصي، والتنعم
بالمباحات الزائدة عن الحاجة؛ حتى يعد داخلًا في جملة
الرفاهية والرعونات؛ كالتنعم بالقناطير المقنطرة من الذهب
والفضة والخيل المسومة، والأنعام، والحرث، والخدم من
الغلمان والجواري، والمواشي، والقصور، ورفيع الثياب، وما
إلى ذلك، فحظ العبد من هذا كله من الدنيا المذمومة.
والقسم الثالث: متوسط بين الطرفين، وهو الحظ العاجل المعين
على أعمال الآخرة؛ كقدر القوت من الطعام، وما يحتاج إليه
من اللباس، وكل ما لا بد منه للإنسان في بقائه وصحته التي
يتوصل بها إلى العلم والعمل. "د".
ج / 5 ص -358-
وقوله:
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ
أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ
الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45].
وغير ذلك من الآيات المفهمة معنى الانقطاع والزوال وبذلك
تصير كأن لم تكن، والأحاديث في هذا أيضًا كثيرة؛ كقوله
عليه الصلاة والسلام:
"ما لي وللدنيا؟! ما أنا في الدنيا إلا كراكب [قال]1 تحت شجرة
ثم راح وتركها"2،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة ما بين المعقوفتين من الأصل، وهو من القيلولة، وفي
"ماء" و"ط: "استظل".
2 أخرجه وكيع في "الزهد" "رقم 64" -ومن طريقه ابن أبي شيبة
في "المصنف" "13/ 217"، وأحمد في "المسند" "1/ 7-8، 441"
و"الزهد" "8"، وابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 183"، وأبو
يعلى في المسند" "8/ 416/ رقم 4998 و9/ 148/ رقم 5229"،
وأبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 297" و"أخلاق النبي صلى الله
عليه وسلم" "ص295 أو 272 - ط أخرى"، وابن أبي الدنيا في
"قصر الأمل" "رقم 126" وفي "ذم الدنيا" "رقم 133"، وتمام
في "الفوائد" "رقم 912 أو رقم 1619 - مع ترتيبه الروض
البسام" - والطيالسي في المسند" "277 أو 2/ 120 - مع منحه
المعبود"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب منه، 4/
588-589/ رقم 2377"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد،
باب مثل الدنيا، 2/ 1376/ رقم 4109"، والرامهرمزي في
"الأمثال" "20"، ونعيم بن حماد في "زيادات زهد ابن
المبارك" "رقم 195"، ويونس بن بكير في "زيادات السيرة"
"ص195"، وهناد في "الزهد" "رقم 744"، وأحمد في "المسند"
"1/ 391" و"الزهد" ص12"، وأبو يعلى في "المسند" "9/
195-196/ رقم 5292"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله
عليه وسلم" "ص165"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "1/
467"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 310"، والطبراني في
"الأوسط" "2/ ق297/ ب"، والأصبهاني في "الترغيب والترهيب"
"رقم 1407"، والبيهقي في "دلائل النبوة" "1/ 337-338"
و"الشعب" "7/ 311"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 102 و4/
234"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 1384"، والبغوي في
"شرح السنة" "14/ 235-236/ رقم 4034"، جميعهم من طريق
المسعودي عن عمرو بن مرة عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود
مرفوعًا. =
ج / 5 ص -359-
...............................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وإسناده حسن، المسعودي هو عبد الرحمن بن عبد الله اختلط
قبل موته، وسماع وكيع منه قديم؛ قبل الاختلاط كما قال
الإمام أحمد.
وله عن ابن مسعود طريقان آخران:
الأول: أخرجه ابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 181"- وعنه أبو
الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" "ص272"-
الطبراني في "الكبير" "10/ 200-201/ رقم 10327"، والبيهقي
في "الشعب" "7/ 311" من طريق عبيد الله بن سعيد قائد
الأعمش عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي عبد الرحمن
السلمي عنه به رفعه.
قال الهيثمي في "المجمع" "10/ 326": "وفيه عبيد الله بن
سعيد، قائد الأعمش، وقد وثقه ابن حبان وضعفه جماعة".
قلت: وفيه أيضًا حبيب، وهو مدلس وقد عنعن؛ فإسناده ضعيف.
والآخر: أخرجه ابن عدي في "الكامل" "2/ 332"، وابن حبان في
"المجروحين" "1/ 238"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 234" من
طريق الحسن بن الحسين العرني عن جرير بن عبد الحميد عن
الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عنه رفعه.
وإسناده ضعيف أيضًا، الحسن بن الحسين العرني يروي
المقلوبات؛ كما قال ابن حبان، وقال أبو حاتم: "لم يكن
بصدوق عندهم"، وقال ابن عدي: "لا يشبه حديثه حديث الثقات"،
قال أبو نعيم عقبه: "وهو غريب"، وقال ابن حبان: "هذا خبر
ما رواه عن إبراهيم إلا المسعودي؛ فإنه روي عن عمرو مرة عن
إبراهيم، والمسعودي لا تقوم الحجة بروايته".
قلت: ولحديث ابن مسعود شاهدان يصح بأحدهما، هما:
الأول: حديث ابن عباس، أخرجه أحمد في "المسند" "1/ 301"
و"الزهد" "ص13"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "رقم 599"،
وابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" "رقم 134" و"قصر الأمل"
"رقم 127"- ومن طريقه البيهقي في "الشعب" "7/ 312"- وابن
أبي عاصم في "الزهد" "رقم 182"وأبو الشيخ في "الأمثال"
"رقم 298"، وابن حبان في "الصحيح" "رقم 2526 - موارد، و14/
265/ رقم 6352 - الإحسان"، ,الطبراني في "الكبير" "11/
327/ رقم 11898"، والحاكم في "المستدرك" "4/ 310"، وأبو
نعيم في "الحلية" "3/ 343"، والخطيب في "الموضع" "2/
366-367"، كلهم من طريق هلال بن خباب عن عكرمة عنه
مرفوعًا. =
ج / 5 ص -360-
وهو
حادي1 الزهاد إلى الدار الباقية.
وأما الثاني من الوصفين؛ فله وجهان أيضًا:
أحدهما: ما فيها من الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته
وصفاته العلى، وعلى الدار الآخرة؛ كقوله تعالى:
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ
بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}
إلى
{كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 6-11].
وقوله:
{أَمَّنْ
جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا} الآية [النمل: 61].
وقوله:
{يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ
الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ
نُطْفَةٍ}
الآية [إلى قوله:
{وَأَنَّ
اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}]
[الحج: 5-7].
وقوله:
{قُلْ
لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّه} [إلى قوله:
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}]
[المؤمنون: 84-91].
إلى غير ذلك من الآيات التي هي دلائل على العقائد وبراهين
على التوحيد.
والثاني: أنها مننٌ ونعم امتن الله بها على عباده، وتعرف
إليهم بها في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وإسناده قوي في الشواهد، هلال ثقة؛ إلا أنه تغير كما قال
الثوري ويحيى القطان، وهما أعلم بشيخهما من ابن معين عندما
قال: "لا ما اختلط ولا تغير"، والمثبِت مقدم على النافي،
قال الهيثمي في "المجمع" "10/ 326": "رجال أحمد رجال
الصحيح؛ غير هلال بن خباب، وهو ثقة".
والآخر: حديث عائشة، أخرجه أبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى
الله عليه وسلم" "ص268"، وإسناده واهٍ، فيه الوازع بن
نافع، متروك، له ترجمته في اللسان" "6/ 213"، والخلاصة
الحديث صحيح بمجموع هذه الطرق.
1 في "ماء": "حال".
ج / 5 ص -361-
أثناء
ذلك، واعتبرها ودعا إليها بنصبها لهم1 وبثها فيهم؛ كقوله
تعالى:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ
رِزْقًا لَكُمْ} إلى قوله:
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}2 [إبراهيم: 32-34].
وقوله:
{الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ]} الآية [البقرة: 22].
وقوله:
{هُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ
شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ} إلى قوله:
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 10-18].
وفيها:
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ
لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} الآية [النحل: 81].
وفي أول السورة:
{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ
وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5].
ثم قال:
{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ
تَسْرَحُونَ} ثم قال:
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا
وَزِينَة} [النحل: 6-8].
فامتن تعالى ههنا وعرف بنعم من جملتها الجمال والزينة، وهو
الذى ذم به الدنيا في قوله:
{أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ}
[الحديد: 20].
إلى غير ذلك، بل حين عرف بنعيم الآخرة امتن بأمثاله في
الدنيا؛ كقوله:
{فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 28-30].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وبمثل قوله تعالى:
{كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ}
[النحل: 14]. "د".
2 في سورة إبراهيم. "د".
ج / 5 ص -362-
وهو
قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا} [النحل: 81].
وقال:
{وَلَهُمْ
فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}
[البقرة: 25].
وقال:
{وَاللَّهُ
جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}
[النحل: 72].
وهو كثير؛ حتى إنه قال في الجنة:
{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15] إلى آخر أنواع الأنهار الأربعة.
وقال:
{وَاللَّهُ
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا} إلى أن قال:
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ
الْجِبَالِ بُيُوتًا} إلى قوله:
{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}
[النحل: 65-69].
وهو كثير أيضا؛ [وأيضًا] فأنزل الأحكام وشرع الحلال
والحرام تخليصًا لهذه النعم التي خلقها لنا من شوائب
الكدرات الدنيويات والأخرويات1.
وقال تعالى:
{مَنْ
عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَة} [النحل: 97] يعني في الدنيا1
{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم} [النحل: 97] يعني في الآخرة.
وقال حين امتن بالنعم:
{انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99].
{كُلُوا مِنْ
رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ
وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15].
وقال في بعضها:
{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}
[النحل: 14].
فعد طلب الدنيا فضلا, كما عد حب الإيمان وبغض الكفر فضلًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "الكدرات الدنيوية والأخروية".
2 هو رأي بعض المفسرين، وأولى ماقيل بناء على هذا التفسير
أنها الحياة التي تصحبها القناعة، لأنه لا يطيب عيش في
الدنيا لغير القانع، وذلك مشاهد معروف، وقيل: حياة طيبة
يعنى في الجنة؛ لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر، وصحة
بلا سقم، وملك بلا هلك، وسعادة بلا شقاوة. "د".
ج / 5 ص -363-
والدلائل أكثر من الاستقصاء.
فاقتضى الوصف الأول المضادة للثاني؛ فالوجه الأول من الوصف
الأول يضاد هذا الوجه الأخير من الوصف الثاني، وهو ظاهر؛
لأن عدم اعتبارها وأنها مجرد لعب لا محصول له مضاد لكونها
نعما وفضلا، والوجه الثاني من الوصف الأول مضاد للأول من
الوصف الثاني؛ لأن كونها زائلة وظلا يتقلص عما قريب مضاد
لكونها براهين على وجود الباري ووحدانيته واتصافه بصفات
الكمال، وعلى أن الآخرة حق؛ فهي مرآة يرى فيها الحق، في كل
ما هو حق، وهذا لا تنفصل الدنيا فيه من الآخرة، بل هو في
الدنيا لا يفنى؛ لأنها إذا كانت موضوعة لأمر وهو العلم
الذى تعطيه؛ فذلك الأمر موجود فيها تحقيقه وهو لا يفنى،
وإن فني منها ما يظهر للحس، وذلك المعنى ينتقل إلى1
الآخرة؛ فتكون هنالك نعيما
فالحاصل أن ما بث فيها من النعم التي وضعت2 عنوانا عليه
-كجعل اللفظ دليلا على المعنى- [فالمعنى]3 باق وإن فني
العنوان، وذلك ضد كونها منقضية بإطلاق؛ فالوصفان إذن
متضادان، والشريعة منزهة عن التضاد، مبرأة عن الاختلاف؛
فلزم4 من ذلك أن5 توارد الوصفين على جهتين مختلفتين، أو
حالتين متنافيتين، بيانه أن لها نظرين:
أحدهما: نظر مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا من كونها
متعرفا للحق، ومستحقا لشكر الواضع لها، بل إنما يعتبر فيها
كونها عيشا ومقتنصا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما سبق آنفًا في كلام الغزالي في القسم الأول. "د".
2 أي: هذه النعم وضعت عنوانًا على العلم الذي تعطيه، وهو
العقائد المتعلقة بوحدانية الله وصفاته العلى، وتمجيده
وتقديسه. "د". وفي "ط": "بث فيها من العلم".
3 زيادة في الأصل.
4 في "ط": "فيلزم".
5 أي: فوجب بسبب هذا التعارض أن يحمل كل من الدليلين على
حال واعتبار غير ما يحمل عليه الآخر. "د".
ج / 5 ص -364-
للذات،
ومآلا للشهوات، انتظاما في سلك البهائم؛ فظاهر أنها من هذه
الجهة قشر بلا لب، ولعب بلا جد، وباطل بلا حق؛ لأن صاحب
هذا النظر لم ينل منها إلا مأكولا ومشروبا، وملبوسا
ومنكوحا ومركوبا، من غير زائد، ثم يزول عن قريب؛ فلا يبقى
منه شيء؛ فذلك كأضغاث الأحلام، فكل ما وصفته الشريعة فيها
على هذا الوجه حق، وهو نظر الكفار الذين لم يبصروا منها
إلا ما قال تعالى من أنها لعب ولهو وزينة وغير ذلك مما
وصفها به، ولذلك صارت أعمالهم
{كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى
إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39].
وفى الآية الأخرى:
{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ
فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].
والثاني: نظر غير مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا؛
فظاهر أنها ملأى من المعارف والحكم، مبثوث فيها من كل شيء
خطير مما لا يقدر على تأدية شكر بعضه؛ فإذا نظر إليها
العاقل وجد كل [شيء فيها نعمة]1 يجب شكرها، فانتدب إلى ذلك
حسب قدرته وتهيئته، وصار ذلك القشر محشوا لبا، بل صار
القشر نفسه لبا؛ لأن الجميع نعم طالبة للعبد أن ينالها
فيشكر لله بها وعليها، والبرهان2 مشتمل على النتيجة بالقوة
أو بالفعل؛ فلا دق ولا جل في هذه الوجوه إلا والعقل عاجز
عن بلوغ أدنى ما فيه من الحكم والنعم، ومن ههنا أخبر تعالى
عن الدنيا بأنها جد وأنها حق؛ كقوله تعالى:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115].
وقوله:
{وَمَا
خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
بَاطِلًا} [ص: 27].
وقوله:
{وَمَا
خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
لاعِبِين، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَق} [الدخان: 38].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط" فقط، وبدلها في سائر النسخ: "نعمة فيها".
2 تشبيه للتقريب. "د".
ج / 5 ص -365-
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا
بِالْحَقِّ} [الروم: 8].
إلى غير ذلك.
ولأجل هذا صارت أعمال أهل [هذا]1 النظر معتبرة مثبتة؛ حتى
قيل:
{فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون} [التين: 6].
{مَنْ عَمِلَ
صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَة} [النحل: 97]3.
فالدنيا من جهة النظر الأول مذمومة، وليست بمذمومة من جهة
النظر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من "ط" فقط، وكتب "د": "لعل الأصل: "أهل هذا النظر"، وفي
"ط" بعدها "معتبرة منبنية".
2 أي: غير مقطوع، كما أن أعمالهم غير مقطوعة ولا فانية،
ويظهر أن غرضه أن أجرهم في الآخرة غير مقطوع عن عملهم في
الدنيا، بل متصل به حتى يظهر ارتباط الكلام في سياق
الاستدلال. "د".
3 إذا اقتصر على ما ذكره في الآية، وكان المراد الحياة في
الدنيا كما سبق له في معناها؛ فلا يظهر وجه ارتباطه بما
يستدل عليه من استقرار الأعمال الصالحة واتصالها بالآخرة،
وإن كان المراد الحياة في الآخرة كما هو رأي بعض المفسرين
صح؛ وعلى الأول كان المناسب إثبات بقية الآية:
{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} إلخ. "د".
قلت: قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" "3/ 419" معلقًا على
قول الحسن البصري: "هي حياة الآخرة ونعيم الجنة"، قال:
"وهناك هو الطبيب على الإطلاق، ولكن ظاهر هذا الوعد أنه في
الدنيا، والذي أقول: "إن طيب الحياة اللازم للصالحين إنما
هو بنشاط نفوسهم، ونيلها وقوة رجائهم، والرجاء للنفس أمر
ملذٌّ؛ فبهذا تطيب حياتهم، وأنهم احتقروا الدنيا، فزالت
همومهم عنهم؛ فإن انضاف إلى هذا مال حلال وصحة أو قناعة؛
فذلك كمال، وإلا؛ فالطيب فيما ذكرنا راتب"، وقال الزمخشري
في الكشاف" "2/ 343":
{حَيَاةً طَيِّبَة} يعني في الدنيا، وهو الظاهر لقوله:
{وَلَنَجْزِيَنَّهُم}، وعده الله ثواب الدنيا والآخرة". وانظر: "تفسير ابن كثير" "2/
607".
ج / 5 ص -366-
الثاني، بل هي محمودة؛ فذمها بإطلاق لا يستقيم، كما أن
مدحها بإطلاق لا يستقيم، والأخذ لها من الجهة الأولى مذموم
يسمى أخذه رغبة في الدنيا وحبا في العاجلة، وضده هو الزهد
فيها، وهو تركها من تلك الجهة، ولا شك أن تركها من تلك
الجهة مطلوب، والأخذ لها من الجهة الثانية غير مذموم، ولا
يسمى أخذه رغبة فيها، ولا الزهد فيها من هذه الجهة محمود،
بل يسمى سفها وكسلا وتبذيرا.
ومن هنا وجب الحجر على صاحب هذه الحالة1 شرعا، ولأجله كان
الصحابة طالبين لها، مشتغلين بها، عاملين فيها؛ لأنها من
هذه الجهة عون على شكر الله عليها، وعلى اتخاذها مركبا
للآخرة، وهم كانوا أزهد الناس فيها، وأورع الناس في كسبها؛
فربما سمع أخبارهم في طلبها من يتوهم أنهم طالبون لها من
الجهة الأولى لجهله بهذا الاعتبار، وحاش لله من ذلك، إنما
طلبوها من الجهة الثانية؛ فصار طلبهم لها من جملة
عباداتهم، كما أنهم تركوا طلبها من الجهة الأولى؛ فكان ذلك
أيضا من جملة عباداتهم، رضى الله عنهم، وألحقنا بهم،
وحشرنا معهم، ووفقنا لما وفقهم له بمنه وكرمه.
فتأمل هذا الفصل؛ فإن فيه رفع شُبَهٍ كثيرة تَرِدُ على
الناظر في الشريعة وفى أحوال أهلها، وفيه رفع مغالط تعترض
للسالكين لطريق الآخرة؛ فيفهمون الزهد وترك الدنيا على غير
وجهه؛ كما يفهمون طلبها على غير وجهه؛ فيمدحون ما لا يمدح
شرعا، ويذمون ما لا يذم شرعا.
وفيه أيضا من الفوائد فصل القضية بين المختلفين في مسألة
الفقر والغنى، وأن ليس الفقر أفضل من الغنى بإطلاق، ولا
الغنى أفضل بإطلاق، بل الأمر في ذلك يتفصل؛ فإن الغنى إذا
أمال إلى إيثار العاجلة كان بالنسبة إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: حالة التبذير بوضعها في غير موضعها. "د".
ج / 5 ص -367-
صاحبه
مذموما، وكان الفقر أفضل منه، وإن أمال إلى إيثار الآجلة؛
فإنفاقه1 في وجهه، والاستعانة به على التزود للمعاد؛ فهو
أفضل من الفقر2، والله الموفق بفضله.
فصل:
واعلم أن أكثر أحكام هذا النظر مذكور في أثناء3
الكتاب؛ فلذلك اختصر القول فيه.
وأيضًا؛ فإن ثم أحكاما أخر تتعلق به، قلما يذكرها
الأصوليون، ولكنها بالنسبة إلى أصول هذا الكتاب كالفروع؛
فلم نتعرض لها؛ لأن المضطلع بها يدرك الحكم فيها بأيسر
النظر، والله المستعان، وإنما ذكر هنا ما هو كالضابط
الحاصر، والأصل العتيد، لمن تشوف إلى ضوابط التعارض
والترجيح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "فإنفاقه"، وكتب "د": "لعله:
بإنفاقه".
2 انظر في المفاضلة بين الفقر والغنى": "تفسير القرطبي"
"3/ 329 و5/ 343 و14/ 306 و15/ 216 و19/ 213"، و"عدة
الصابرين" "ص193-195، 284، 203-204، 208-209، 217،
313-314، 317-322"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "11/ 21، 69،
119-121، 195 و14/ 305-306"، ورسالة محمد البيركلي
"ت981هـ" "المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر"، وهي
مطبوعة عن دار ابن حزم -بيروت، سنة 1414هـ، في "64" صفحة،
وما مضى "1/ 187-188" مع التعليق.
3 ولذا تراه اتبع فيه طريقة الإحالة على ما سبق خمس مرات،
يعين في كل منها الموضوع
المحال عليه مما يؤخذ منه حكم المسألة التي هو بصدد
بيانها. "د". |