الموافقات ج / 5 ص -283-
المسألة الأولى:
إن المقلد إذا عرضت له مسألة دينية؛ فلا يسعه في الدين إلا
السؤال عنها على الجملة1؛ لأن الله لم يتعبد الخلق بالجهل،
وإنما تعبدهم على متضى قوله سبحانه:
{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّه} [البقرة: 282] لا على ما يفهمه2 كثير من الناس، بل على ما قرره
الأئمة في صناعة النحو، أي: إن الله يعلمكم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: سواء أَسَأَل عنها وطلب الوقوف على دليلها حتى
يقتنع، كما في العقائد وكما في الفروع إن كان من أهل
الاستقلال، أم سأل بمقدار ما يصحح به عمله فقط، وأيضًا؛
سواء أكان سؤاله لمن هو أَهْلٌ أم لا.. إلخ ما سيبينه في
المسألة الثانية. "د".
2 يفهمونها على حد:
{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]؛ إلا أن فهمهم لا تساعده قواعد اللغة الفصحى؛ لأنه
مبني على أن جملة
{وَيُعَلِّمُكُم} حال مقدرة، أو بمعنى مضمونًا لكم التعليم، وكلاهما يفيد أن التعليم
مرتب على التقوى، ولكن الجملة المضارعية المثبتة وقوعها
حالًا بالواو قليل؛ حتى قالوا: لا بد له من التأويل،
والوجه الثاني أن هذه الجمل الثلاث مستقلة بعضها عن بعض؛
فالأولى طلب تقوى الله، والثانية وعد بالإنعام، والثالثة
غاية التعظيم، ولذا ساغ فيها تكرار كلمة الجلالة مع أنهم
كرهوا تكرار اللفظ الواحد في الجمل المتعاقبة. "د".
قلت: نبه شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "18/
177" على خطأ فهم الآية، قال رحمه الله تعالى بعد كلام:
"وقد شاع في لسان العامة أن قوله:
{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}
من الباب الأول، حيث يستدلون بذلك على أن التقوى سبب تعليم
الله، وأكثر الفضلاء يطعنون في هذه الدلالة؛ لأنه لم يربط
الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط، فلم يقل:
"وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمكم"، ولا قال: "فيعلمكم"،
وإنما أتى بواو العطف، وليس من العطف ما يقتضي أن الأول
سبب الثاني"، ثم قال "18/ 177-178": "وقد يقال: العطف قد
يتضمن معنى الاقتران والتلازم، كما يقال: "زرني وأزورك"،
و"سَلِّمْ علينا ونسلِّمُ عليك"، ونحو ذلك مما يقتضي
اقتران الفعلين، والتعاوض من الطرفين"، قال: "فقوله:
{وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}
قد يكون من هذا الباب؛ فكلٌّ من تعليم الرب وتقوى العبد
يقارب الآخر ويلازمه ويقتضيه، فمتى علمه الله العلم النافع
اقترن به التقوى بحسب ذلك، ومتى اتقاه زاده من العلم...
وهلم جرا".
ج / 5 ص -284-
على كل
حال فاتقوه؛ فكأن الثاني سبب في الأول1؛ فترتب الأمر
بالتقوى على حصول التعليم ترتبا معنويًا، وهو يقتضي تقدم
العلم على العمل، والأدلة على هذا المعنى كثيرة2، وهي قضية
لا نزاع فيها؛ [فلا فائدة في التطويل فيها]3، لكنها
كالمقدمة لمعنى آخر وهى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ماء": "فكان الثاني سببًا في الأول".
2 انظر بعضها في "صحيح البخاري" "كتاب العلم، باب العلم
قبل القول والعمل 1/ 159"، و"روضة الطالبين" "ص92"
للغزالي.
3 ما بين المعقوفتين سقط من "ط".
ج / 5 ص -285-
المسألة الثانية:
وذلك أن
السائل لا يصح له أن يسأل من لا يعتبر في الشريعة جوابه؛
لأنه إسناد أمر إلى غير أهله؛ والإجماع على عدم صحة مثل
هذا1، بل لا يمكن2 في الواقع؛ لأن السائل يقول لمن ليس
بأهل لما سئل عنه: أخبرني عما لا تدري، وأنا أسند أمري لك
فيما نحن بالجهل3 به على سواء، ومثل هذا لا يدخل في زمرة
العقلاء؛ إذ لو قال له: دلني في هذه المفازة على الطريق
إلى الموضع الفلاني، وقد علم أنهما في الجهل بالطريق سواء؛
لعدَّ من زمرة المجانين؛ فالطريق الشرعي أولى؛ لأنه هلاك
أخروي، وذلك هلاك دنيوي خاصة، والإطناب في هذا أيضا غير
محتاج إليه؛ غير أنا نقول بعده:
إذا تعين عليه السؤال؛ فحق عليه أن لا يسأل إلا من هو من
أهل ذلك المعنى الذى يسأل عنه؛ فلا يخلو أن يتحد في ذلك
النظر4 أو يتعدد، فإن اتحد؛ فلا إشكال، وإن تعدد؛ فالنظر
في التخيير وفى الترجيح قد تكفل به أهل الأصول، وذلك إذا
لم يعرف أقوالهم في المسألة قبل السؤال، أما إذا كان [قد]
اطلع على فتاويهم قبل ذلك، وأراد أن يأخذ بأحدها؛ فقد تقدم
قبل هذا أنه لا يصح له إلا الترجيح؛ لأن من مقصود الشريعة
إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله، وتخييره
يفتح له باب اتباع الهوى؛ فلا سبيل إليه البتة، وقد5 مر في
ذلك تقرير حسن في هذا الكتاب؛ فلا نعيده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حكى الإجماعَ الرازيُّ في "المحصول" "6/ 81" وغيره.
2 أي: حصوله من العقلاء. "د". وفي "ط" بعده: "في الوقائع".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "بالجهل".
4 هكذا في الأصل، وفي "د" و"ط" و"ماء": "القطر".
5 في المسألة الثالثة من كتاب الاجتهاد ولواحقها. "د".
ج / 5 ص -286-
المسألة الثالثة:
حيث يتعين1
الترجيح؛ فله طريقان: أحدهما عام، والآخر خاص.
فأما العام؛ فهو المذكور في كتب الأصول؛ إلا أن فيه موضعا
يجب أن يُتَأمل ويُحترز منه، وذلك أن كثيرا من الناس
تجاوزوا الترجيح بالوجوه الخالصة إلى الترجيح ببعض الطعن
على المذاهب المرجوحة عندهم، أو على أهلها القائلين بها،
مع أنهم يثبتون مذاهبهم ويعتدون بها ويراعونها، ويفتون
بصحة الاستناد إليهم في الفتوى، وهو غير لائق بمناصب
المرجحين، وأكثر ما وقع ذلك في الترجيح بين المذاهب
الأربعة وما يليها من مذهب داود ونحوه2؛ فلنذكر هنا أمورا
يجب التنبه لها:
أحدها: أن الترجيح بين الأمرين إنما يقع في الحقيقة بعد
الاشتراك3 في الوصف الذى تفاوتا فيه، وإلا؛ فهو إبطال
لأحدهما، وإهمال لجانبه رأسًا، ومثل4 هذا لا يسمى ترجيحًا،
وإذا كان كذلك؛ فالخروج في [ترجيح] بعض المذاهب على بعض
إلى القدح في أصل الوصف بالنسبة إلى أحد المتصفين خروج عن
نمط5 إلى نمط آخر مخالف له، وهذا ليس من شأن العلماء،
وإنما الذى يليق بذلك الطعن والقدح في حصول ذلك الوصف لمن
تعاطاه وليس من أهله، والأئمة المذكورون برآء6 من ذلك؛
[فهذا]7 النمط لا يليق بهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "تعين".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 291-293"،
و"بدعة التعصب المذهبي" للشيخ محمد عيد عباسي.
3 في "ف" و"م": "بين الاشتراك"، وقالا: "لعله: "بعد
الاشتراك"، وفي "ط": "مع الاشتراك".
4 في "د": "مثله".
5 لعل فيه سقط كلمة "الترجيح". "د".
6 إذ الموضوع أنهم يثبتون مذاهبهم.. إلخ ما تقدم. "د".
7 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
ج / 5 ص -287-
والثاني: أن الطعن في مساق الترجيح يبين1 العناد من أهل
المذهب2 المطعون عليه، ويزيد في دواعي التمادي والإصرار
على ما هم عليه؛ لأن الذى غُضَّ من جانبه مع اعتقاده خلاف
ذلك حقيق بأن يتعصب لما هو عليه ويظهر محاسنه؛ فلا يكون
للترجيح المسوق هذا المساق فائدة زائدة على الإغراء
بالتزام [المذهب]3، وإن كان مرجوحًا؛ فكأن4 الترجيح لم
يحصل.
والثالث: أن هذا الترجيح مغرٍ بانتصاب المخالف للترجيح
بالمثل أيضًا؛ فبينا نحن نتتبع المحاسن5 صرنا نتتبع
القبائح [من المجانبين]؛ فإن النفوس مجبولة على الانتصار
لأنفسها ومذاهبها وسائر ما يتعلق بها؛ فمن غَضَّ من جانب
صاحبه غَضَّ صاحبه من جانبه؛ فكأن المرجح لمذهبه على هذا
الوجه غاضٌّ من جانب مذهبه؛ فإنه تسبب في ذلك كما في
الحديث:
"إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه".
قالوا: وهل يسب الرجل والديه؟ قال:
"يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه"6؛ فهذا من ذلك.
وقد منع الله أشياء من الجائزات7 لإفضائها إلى الممنوع؛
كقوله:
{لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104].
وقوله:
{وَلا
تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّه}
الآية [الأنعام: 108].
وأشباه ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يثيره. "د". قلت: في "ط": "يثير".
2 في الأصل: "المذاهب".
3 سقط من "د"، وفي الأصل: "المذاهب".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "فإن".
5 أي: لترجُّحٍ بها صار كل منا يبحث عن القبائح عند الآخر،
يزعم أن ذلك يرجح مذهبه. "د".
6 مضى تخريجه "3/ 76".
7 أي: فما بالك بالممنوعات؟ "د".
ج / 5 ص -288-
والرابع: أن هذا العمل مورث للتدابر والتقاطع بين أرباب
المذاهب، وربما نشأ الصغير منهم على ذلك حتى يرسخ في قلوب
أهل المذاهب بغض من خالفهم فيتفرقوا شيعًا، وقد نهى الله
تعالى عن ذلك وقال:
{وَلا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا}
الآية [آل عمران: 105].
وقال:
{إِنَّ
الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ
مِنْهُمْ فِي شَيْء} [الانعام: 159].
وقد مر تقرير هذا المعنى قبلُ؛ فكل ما أدى إلى هذا ممنوع؛
فالترجيح بما يؤدي إلى افتراق الكلمة وحدوث العداوة
والبغضاء ممنوع.
ونقل الطبري1 عن عمر بن الخطاب -وإن لم يصحح سنده2 - أنه
لما أرسل الحطيئة من الحبس في هجائه3 الزبرقان بن بدر؛ قال
له: "إياك والشعر. قال: لا أقدر يا أمير المؤمنين على
تركه، مأكلة عيالي ونملة على لساني4. قال: فشبب بأهلك،
وإياك وكل مدحة مجحفة. قال: وما هى؟ قال: تقول بنو فلان
خير من بنى فلان، امدح ولا تفضل. قال: أنت يا أمير
المؤمنين أشعر مني".
فإن صح هذا الخبر وإلا فمعناه صحيح؛ فإن المدح إذا أدى إلى
ذم الغير كان مجحفًا، والعوائد شاهدة بذلك.
والخامس: أن الطعن والتقبيح في مساق الرد أو الترجيح ربما
أدى إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في كتابه "تهذيب الآثار" "2/ 2/ 20/ رقم 2718"؛ قال: ثنا
الزبير بن بكار: ثني محمد بن الضحاك بن عثمان، عن أبيه؛
قال: "لما أرسل عمر...."، والخبر مرسل، بل معضل؛ فإسناده
ضعيف.
2 الصواب أنه سكت عليه، ولم يضعفه.
3 في الأصل والنسخ المطبوعة كلها: "هجاء"، والتصويب من
"تهذيب الآثار" و"ط".
4 أي: قرحة فيه لا تنفك عنه. "ف" و"م".
ج / 5 ص -289-
التغالي والانحراف في المذاهب، زائدا إلى ما تقدم؛ فيكون
ذلك سبب إثارة1 الأحقاد الناشئة عن التقبيح الصادر بين
المختلفين في معارض2 الترجيح والمحاجة.
قال الغزالي في بعض كتبه: "أكثر الجهالة3 إنما رسخت في
قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق أظهروا الحق، في
معرض التحدي والإدلاء4، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين
التحقير والازدراء؛ فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة
والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على
العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها، حتى انتهى التعصب
بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال
بعد السكوت عنها طول العمر قديمة، ولولا استيلاء الشيطان
بواسطة العناد والتعصب للأهواء؛ لما وجد مثل هذا الاعتقاد
مستقرا5 في قلب مجنون فضلا عن قلب عاقل".
هذا ما قال؛ وهو الحق الذى تشهد له العوائد الجارية6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله "بسبب" كما يدل عليه لاحق الكلام؛ فالزائد على ما
تقدم إنما هو الانحراف الشديد والتغالي في مجافاة الحق؛
بسبب الأحقاد الناشئة عن مر التشنيع في معرض المحاجة كما
سيمثل له في كلام الغزالي. "د".
2 في "ط": "معرض".
3 في "ط" و"الاعتصام" "2/ 230 - ط رشيد رضا؛ و2/ 732 - ط
ابن عفان": "الجهالات".
4 من قولهم: "أدلى فلان في فلان"؛ أي: قال قبيحًا، وليس
المراد الإدلاء بالحجة؛ لأنه لا يناسب ما قبله وما بعده.
"د".
قلت: تصحفَت في "الاعتصام" "ط رضا" إلى: "والإدلال"، وفي
طبعة ابن عفان: "والإذلال".
5 في "الاعتصام" "2/ 230 - ط رضا": "مستفزًا"، وفيه "2/
732 - ط ابن عفان": "مستنفرًا"؛ وكلاهما خطأ.
6 زاد في "الاعتصام" عليه: "فالواجب تسكين الثائرة ما قدر
على ذلك، والله أعلم".
ج / 5 ص -290-
وقد
جاء في حديث الذى لطم وجه اليهودي القائل: "والذى اصطفى
موسى على البشر" أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب وقال:
"لا
تفضلوا بين الأنبياء"1، أو:
"لا تفضلوني على موسى"2، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالتفضيل3 أيضًا؛ فذكر
المازري4 في تأويله عن بعض شيوخه أنه يحتمل أن يريد: لا
تفضلوا بين أنبياء الله تفضيلا يؤدي إلى نقص بعضهم، قال:
"وقد خرج الحديث على سبب، وهو لطم الأنصاري وجه اليهودي؛
فقد يكون عليه الصلاة والسلام خاف أن يفهم من هذه الفعلة
انتقاص [حق]5 موسى [عليه السلام]5؛ فنهى عن التفضيل المؤدي
إلى نقص الحقوق".
قال عياض6: "وقد يحتمل أن يقول هذا وإن علم بفضله عليهم
وأعلم به أمته، لكن نهاه عن الخوض فيه والمجادلة به؛ إذ قد
يكون ذلك ذريعة إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب
قول الله تعالى:
{وَإِنَّ
يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين}
6/ 450-451/ رقم 3414"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل،
باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم 4/ 1844 رقم 2373
بعد 159" عن أبي هريرة مرفوعًا:
"لا تفضلوا بين أنبياء الله؛ فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات
ومن في الأرض إلا من شاء الله قال: ثم ينفخ فيه أخرى؛
فأكون أول من بُعث -أو: في أول من بُعث- فإذا موسى عليه
السلام آخذ بالعرش.." لفظ مسلم.
ولفظ البخاري:
"لا تفضلوا بين
أولياء الله".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى
صلى الله عليه وسلم 4/ 1844/ رقم 2373 بعد 160"، وابن أبي
شيبة في "المصنف" في "11/ 509"، وأحمد في "المسند" "3/ 31،
33" عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ:
"لا تخيروني على موسى؛ فإن الناس....".
3 أي: التفضيل بين الأنبياء وتفضيله على موسى؛ فهو راجع
للروايتين. "د".
4 في كتابه: "المعلِم بفوائد مسلم" "3/ 134".
5 زيادة من "المعلم"، وما بين المعقوفتين الأخريين من
"المعلم" و"ط".
6 ونقله عنه الأبي في "إكمال إكمال العلم" "6/ 166".
ج / 5 ص -291-
ذكر ما
لا يُحَبُّ منهم عند الجدال، أو ما يحدث1 في النفس لهم
بحكم الضجر والمراء؛ فكان نهيه عن المماراة في ذلك كما نهي
عنه في القرآن2 وغير ذلك". هذا ما قال، وهو حق3، فيجب أن
يعمل به فيما بين العلماء؛ فإنهم ورثة الأنبياء.
فصل:
وأما1 إذا وقع الترجيح بذكر الفضائل والخواص والمزايا
الظاهرة التي يشهد بها الكافة؛ فلا حرج فيه؛ بل هو مما لا
بد منه في هذه المواطن، أعني: عند الحاجة إليه، وأصله من
الكتاب قول الله تعالى:
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} الآية [البقرة: 253]؛ بيَّن أصل التفضيل، ثم ذكر بعض الخواص
والمزايا المخصوص بها بعض الرسل.
وقال تعالى:
{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ
وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}
[الإسراء: 55].
وفى الحديث من هذا كثير: [كقوله] لما سئل: من أكرم الناس؟
فقال:
"أتقاهم".
فقالوا: ليس عن هذا نسألك. قال:
"فيوسف،
نبي الله ابن نبي الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معطوف على "ذكر"؛ أي: ذريعة إلى أن يحدث في نفوسهم شيء
لا يليق بمقامهم بسبب ضجرها من المراء والجدل، وإن لم
يتكلم به. "د".
2 ولا تجادلوا أهل الكتاب. "د".
3 ذهب الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" "3/ 57 - ط المحققة"
إلى قول آخر، وهو حسن؛ فقال رحمه الله تعالى: "... وكان
هذا عندنا والله أعلم على التفضيل بينهم، وعلى التخيير
بينهم بآرائنا، وربما لم يوقفنا عليه، ولم يُبَيِّنْه لنا،
فأما ما بينه لنا وأعلمنا؛ فقد أطلقه لنا، وعاد ما نهى عنه
في هذا الباب ما سوى ذلك مما لم يبينه لنا، ولم يطلق لنا
القول فيه بما قد تولاه عز وجل ومنعنا منه، واللهَ نسأله
التوفيق".
4 سقط من "ط".
ج / 5 ص -292-
نبي الله
ابن خليل الله". قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال:
"فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا
فقهوا"1.
وقال عليه الصلاة والسلام:
"بينما موسى في
ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل، فقال: هل تعلم أحدًا أعلم
منك؟ قال: لا. فأوحى الله إليه: بلى، عبدنا خضر"2.
وفى رواية:
"أن موسى قام
خطيبا في بني إسرائيل؛ فسئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا.
فعتب الله عليه إذ3 لم يَرُدَّ العلم إليه. قال له: بلى لي
عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك" الحديث4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأنبياء، باب قول الله
تعالى:
{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} 6/ 387/ رقم 2353، وباب
{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} 6/ 414/ رقم 3374، وباب قول الله تعالى:
{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِين} 6/ 417/ رقم 3383، وكتاب المناقب، باب قول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم} 6/ 525/ رقم 3490، وكتاب التفسير، باب
{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِين}، 8/ 362/ رقم 4689"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب من فضائل
يوسف عليه السلام 4/ 1846-1847/ رقم 2378" عن أبي هريرة
رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب ما ذُكر في
ذهاب موسى عليه السلام في البحر إلى الخضر، رقم 74، وباب
الخروج في طلب العلم، رقم 78، وكتاب الأنبياء، باب حديث
الخضر مع موسى عليهما السلام، رقم 3400، وكتاب التوحيد،
باب قول الله تعالى:
{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْء}
رقم 7478"، وأحمد "5/ 116"، وابن جرير في "التفسير" "15/
282" عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
3 في "د": "إذا".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب ما يستحب
للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم، رقم 122، وكتاب بدء الخلق،
باب صفة إبليس وجنوده، رقم 3278، وكتاب أحاديث الأنبياء،
باب منه، رقم 3401، وكتاب التفسير، باب
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ}... رقم 4725، وباب
{قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} رقم 4727، وكتاب الإيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان،
رقم 6672"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب في فضائل
الخضر عليه السلام 4/ 1847/ رقم 2380" عن أبي بن كعب رضي
الله عنه.
ج / 5 ص -293-
واستب
رجل من المسلمين ورجل من اليهود؛ فقال المسلم: "والذى
اصطفى محمدا على العالمين -في قسم يقسم به- فقال اليهودي:
والذى اصطفى موسى على العالمين..........." إلى أن قال
عليه الصلاة والسلام:
"لا تخيروني على موسى؛ فإن الناس يصعقون، فأكون أول من
يفيق؛ فإذا موسى آخذ بجانب العرش؛ فلا أدرى أكان فيمن صَعق
فأفاق، أو كان ممن استثنى اللهُ"1.
وفى رواية:
"لا تفضلوا بين
الأنبياء؛ فإنه ينفخ في الصور..."
الحديث2.
فهذا3 نفي للتفضيل مستند إلى دليل، وهو دليل على صحة
التفضيل في الجملة إذا كان ثم مرجح، وقال:
"كَمُلَ من
الرجال كثير، ولم يكمل من النساء؛ إلا آسية امرأة فرعون،
ومريم ابنة عمران، وإنَّ فَضْلَ عائشة على النساء كفضل
الثريد على سائر الطعام"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه قريبًا، في "ط":
"فإذا موسى باطش".
2 مضى تخريجه قريبًا.
3 أي: فهذا النوع في حديثي موسى نهى عن التفضيل إذا لم يكن
له مرجح، فإذا كان له مرجح ومستند؛ فلا مانع منه كما في
الأحاديث الأخرى، ومنه يعلم أن الأصل هكذا: "نفي للتفضيل
إذا كان غير مستند إلى دليل" كما يرشد إليه ما بعده. "د".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب
قول الله تعالى:
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ
فِرْعَوْن} 6/ 448/ رقم 3411، وباب قوله تعالى:
{إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَم} 6/ 471-472/ رقم 3433، وكتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضي
الله عنها 7/ 106/ رقم 3769، وكتاب الأطعمة، باب الثريد 9/
551/ رقم 5418، وكتاب فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أم
المؤمنين 4/ 1886-1887/ رقم 2431" عن أبي موسى الأشعري رضي
الله عنه.
ج / 5 ص -294-
وقال
للذى قال له: يا خير البرية:
"ذاك إبراهيم"1.
وقال في الحديث الآخر:
"أنا سيد ولد آدم"2.
وأشباهه مما يدل على تفضيله على سائر الخلق، وليس النظر
هنا في وجه التعارض بين الحديثين3 وإنما النظر في صحة
التفضيل ومساغ الترجيح على الجملة، وهو ثابت4 من الحديثين،
وقال:
"خير
القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"5.
وقال [ابن]6 عمر: "كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان"7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب من فضائل
إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، 4/ 1839/ رقم 2369" عن
أنس بن مالك رضي الله عنه.
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي
صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، 4/
1782/ رقم 2278" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
3 "استدراك 4".
4 أي: في كل منهما صراحة، وإن كان الأول يفيد تفضيل
إبراهيم على جيمع الخلق، والثاني يفيد تفضيل خاتم الأنبياء
على أولاد آدم؛ فلذا كان بينهما تعارض كما قال المؤلف.
"د".
5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الشهادات، باب لا يشهد
على شهادة جور إذا أشهد، 5/ 258-259/ رقم 2651"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين
يلونهم ثم الذين يلونهم، 4/ 1964/ رقم 2535" عن عمران بن
حصين رضي الله عنه.
ولفظ البخاري:
"خيركم
قرني...."، ولفظ مسلم:
"إن خيركم قرني..."،
و"خير
هذه الأمة القرن الذي بعثت فيه..".
6 ما بين المعقوفتين سقط في الأصل ومن النسخ المطبوعة
كلها، واستدركته من مصادر التخريج.
7 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب فضل
أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، 7/ 16/ رقم 3655
-والمذكور لفظه- وباب مناقب عثمان رضي الله عنه 7/53-54/
رقم 3697"، والترمذي في "الجامع" "أبواب المناقب، باب في
مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه، 5/ 629-630/ رقم 3707"،
وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في التفضيل، 4/
206/ رقم 4627، 4628".
ج / 5 ص -295-
وقال
عثمان للرهط القرشيين الثلاثة، وهم عبد الله بن الزبير،
وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام: "إذا
اختلفتم أنت وزيد بن ثابت في شيء من القرآن1؛ فاكتبوه
بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم"2. ففعلوا ذلك.
وقال "صلى الله عليه وسلم":
"خير دور الأنصار [بنو النجار ثم]3 بنو عبد الله الأشهل،
ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفى كل دور
الأنصار خير"4.
وقال:
"أرحم أمتى
بأمتي أبو بكر، وأشدهم في الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان،
وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن
ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة
أبو عبيدة بن الجراح"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من جهة الإملاء الذي ينبني على النطق لا في أصل
الألفاظ، حاشا لله أن يكون ذلك في المتواترة ألفاظه لفظًا
لفظًا. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المناقب، باب نزل القرآن
بلسان قريش، 6/ 537/ رقم 3506، وكتاب فضائل القرآن، باب
نزل القرآن بلسان قريش والعرب، 9/ 8-9/ رقم 4984، وباب جمع
القرآن، 9/ 10-11/ رقم 4987".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب
منقبة سعد بن عبادة، 7/ 126/ رقم 2807"، ومسلم في "صحيحه"
"كتاب فضائل الصحابة، باب في خير دور الأنصار رضي الله
عنهم، 4/ 1949/ رقم 2511" عن أبي أسيد رضي الله عنه.
5 أخرجه بهذا اللفظ الخطيب البغدادي في "الفصل للوصل"
"ق102/ ب-103/ أ" من طريق إسماعيل بن علية ثنا خالد عن أبي
قلابة؛ قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم.... وذكره =
ج / 5 ص -296-
وقال
عبد الرحمن بن يزيد: "سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت
والهدي من النبي صلى الله عليه وسلم حتى نأخذ عنه؛ فقال:
ما أعرف أحدًا أقرب سمتًا وهديًا ودلا بالنبي صلى الله
عليه وسلم من ابن أم عبد"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مرسلًا، ثم قال: "وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:
"لكل أمة أمين....".
وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" "7/ 472" عن ابن علية به
مختصرًا مرسلًا مقتصرًا على:
"أرحم أمتى بأمتي....".
وأخرجه ابن الأعرابي في "معجمه" "رقم 537" عن ابن علية به
مختصرًا مرسلًا مقتصرًا على:
"أصدق أمتي حياء عثمان".
وأخرجه أيضًا "7/ 531" -ومن طريقه مسلم في "صحيحه" "كتاب
فضائل الصحابة، باب فضائل أبي عبيدة بن الجراح، 4/ 1881/
رقم 2419" عن ابن علية به مرفوعًا موصولًا مقتصرًا على:
"إن لكل أمة أمينًا..."،
والمتتبع لطرق هذا الحديث يجزم بيقين أن الحديث من مرسل
أبي قلابة عد ذكر أبي عبيدة، وقد ظفرت بكلام جماعة من
الحفاظ فيه نحو هذا؛ منهم البيهقي في "السنن الكبرى" "6/
210"، والحاكم في "معرفة علوم الحديث" "ذكر النوع السابع
والعشرين، ص114"، والخطيب في "الفصل للوصل" "ق102/ أ"،
والدارقطني في "الأفراد" "ق96/ أ- مع ترتيبه"، وأبو نعيم
الأصبهاني في "الرد على الرافضي" أو "تثبيت الإمامة وترتيب
الخلافة" "ص112-113" - وأطلق التضعيف وأيده بكلام قوي-
وابن عبد البر في "الاستعاب" "1/ 50 - مع الإصابة"، وابن
تيمية في "منهاج السنة النبوية" "7/ 512-513"، و"مجموعه
الفتاوى" "4/ 10، 408-409 و31/ 343"، و"الفتاوى المصرية"
"1/ 369 - ط دار الفكر"، ومحمد بن عبد الهادي في "جزء طرق
حديث
"أفرضكم زيد" "ق10/ أ-
10/ ب"- وقد فرغت من تحقيقه- وابن حجر في "فتح الباري" "7/
93".
وللحديث طرقا أخرى وشواهد جمعتها وخرجتها وتكلمت عليها في
دراسة مستقلة، وأثبت فيها ما قررته آنفًا من أن الحديث
مرسل بسياقه عد ذكر أبي عبيدة، وهي مطبوعة بعنوان: "دراسة
حديث:
"أرحم أمتي بأمتي...".
1: أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب
مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، 7/ 102/ رقم 3762"
-وهذا لفظه- وكتاب الأدب، باب الهدي الصالح، 10/ 509/ رقم
6097".
وكتب "د" معرفًا بابن أم عبد: "وهو عبد الله بن مسعود".
ج / 5 ص -297-
ولما
حضر معاذا الوفاة، قيل له: "يا أبا عبد الرحمن! أوصنا.
قال: أجلسوني. قال: إن العلم والإيمان مكانهما؛ من
ابتغاهما وجدهما" يقول ذلك ثلاث مرات، والتمسوا العلم عند
أربعة رهط، عند عويمر1 أبي الدرداء وعند سلمان2 الفارسي،
وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام... "3
الحديث.
وقال عليه الصلاة والسلام:
"اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر"4.
وما جاء في الترجيح والتفضيل كثير لأجل ما ينبني عليه من
شعائر الدين، وجميعه ليس فيه إشارة إلى تنقيص المرجوح،
وإذا كان كذلك؛ فهو القانون اللازم والحكم المنبرم الذى لا
يتعدى إلى سواه، وكذلك فعل السلف الصالح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل بياض.
2 في الأصل سليمان.
3 أخرجه البخاري في "التاريخ الصغير" "1/ 73" -وهو
"الاوسط" على التحقيق- والترمذي في "الجامع" "أبواب
المناقب، باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه، 5/
671/ رقم 3804" -واللفظ له- والنسائي في "فضائل الصحابة"
"149"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "4/ 86"، والفسوي في
"المعروفة والتاريخ" "1/ 467-468" - ومن طريقه ابن عساكر
في "تاريخ دمشق" "7/ ق417" - والحاكم في "المستدرك" "3/
416" من طريقين عن زيد ابن عميرة؛ قال: لما حضر... به،
وتمته: "الذي كان يهوديًا فأسلم؛ فإني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول:
"إنه عاشر عشرة في الجنة".
وإسناده حسن، وقال الترمذي عقبه: "هذا حديث حسن صحيح
غريب"، وقال: قال الحاكم: "صحيح الإسناد".
وأخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" "2/ 550"، والخطيب
البغدادي في "تالي التلخيص" "رقم 298 - بتحقيقنا", وابن
عساكر في "تاريخ دمشق" "7/ ق417" من طرق ضعيفة عن معاذ به.
4 مضى تخريجه في التعليق على "4/ 456".
ج / 5 ص -298-
فصل:
وربما انتهت
الغفلة أو التغافل بقوم ممن يشار إليهم في أهل العلم أن
صيروا الترجيح بالتنقيص تصريحا أو تعريضا دأبهم، وعمروا
بذلك دواوينهم، وسودوا به قراطيسهم؛ حتى صار هذا النوع
ترجمة من تراجم الكتب المصنفة في أصول الفقه أو كالترجمة،
وفيه ما فيه مما أشير إلى بعضه، بل تطرق الأمر إلى السلف
الصالح من الصحابة فمن دونهم؛ فرأيت بعض التآليف المؤلفة
في تفضيل بعض الصحابة على بعض على منحى التنقيص بمن جعله
مرجوحا وتنزيه1 الراجح عنده مما نسب إلى المرجوح عنده، بل
أتى الوادي فطم على القرى؛ فصار هذا النحو مستعملا فيما
بين الأنبياء، وتطرق ذلك إلى شرذمة من الجهال؛ فنظموا فيه
ونثروا، وأخذوا في ترفيع محمد عليه الصلاة والسلام وتعظيم
شأنه بالتخفيض من شأن سائر الأنبياء، ولكن2 مستندين إلى
منقولات أخذوها على غير وجهها، وهو خروج عن الحق، وقد علمت
السبب في قوله عليه الصلاة والسلام:
"لا تفضلوا بين الأنبياء"3، وما قال الناس فيه؛ فإياك والدخول في هذه المضايق؛ ففيها الخروج
عن الصراط المستقيم4.
وأما الترجيح الخاص؛ فلنفرد له مسألة [على حدة]، وهى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": و"ترجيح".
2 في "ط": "لكن" بإسقاط الواو، ويشير المصنف في كلامه
السابق إلى ما أثير في عصره -واستمر إلى القرن العاشر- من
المفاضلة بين محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام؛ وذكر
نحوه ابن القيم في "جلاء الأفهام". وانظر: "الإشارات" "رقم
820 - بقلمي".
3 مضى تخريجه "ص290".
4 انظر كلام المصنف المتقدم في آخر المسألة السادسة من
النوع الأول من المقاصد.
ج / 5 ص -299-
المسألة الرابعة:
وذلك أن من
اجتمعت فيه شروط الانتصاب للفتوى على قسمين:
أحدهما: من كان منهم في أفعاله وأقواله وأحواله عند1 مقتضى
فتواه؛ فهو متصف بأوصاف العلم، قائم معه مقام الامتثال
التام؛ حتى إذا أحببت الاقتداء به من غير سؤال أغناك عن
السؤال في كثير من الأعمال، كما كان رسول الله عليه وسلم
يؤخذ العلم من قوله وفعله وإقراره.
فهذا القسم إذا وجد؛ فهو أولى ممن ليس كذلك، وهو القسم
الثاني وإن كان في أهل العدالة مبرزًا؛ لوجهين:
أحدهما: ما تقدم في موضعه من أن من هذا حاله؛ فوعظه أبلغ،
وقوله أنفع، وفتواه أوقع2 في القلوب ممن ليس كذلك؛ لأنه
الذى ظهرت ينابيع العلم عليه، واستنارت كليته به، وصار
كلامه خارجا من صميم القلب3، والكلام إذا خرج من القلب وقع
في القلب، ومن كان بهذه الصفة؛ فهو من الذين قال الله
فيهم:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، بخلاف من لم يكن كذلك؛ فإنه وإن كان عدلا وصادقا
وفاضلا لا يبلغ كلامه من القلوب هذه المبالغ، حسبما حققته
التجربة العادية.
والثاني4: أن مطابقة الفعل القول شاهد لصدق ذلك القول، كما
تقدم بيانه أيضًا؛ فمن طابق فعله قوله صدقته القلوب،
وانقادت له بالطواعية النفوس، بخلاف من لم يبلغ ذلك المقام
وإن كان فضله ودينه معلومًا، ولكن التفاوت الحاصل في هذه
المراتب مفيد زيادة؛ الفائدة أو عدم زيادتها فمن زهد الناس
في الفضول التى لا تقدح في العدالة وهو زاهد فيها وتارك
لطلبها؛ فتزهيده أنفع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "على".
2 في "ط"ك "أرفع".
3 في "ط": "قلبه".
4 يحتاج إلى الفرق بين هذا الوجه وسابقه. "د".
ج / 5 ص -300-
من
تزهيد من زهد فيها وليس بتارك لها، فإن ذلك مخالفة وإن
كانت جائزة، وفي مخالفة القول الفعل هنا ما يمنع من بلوغ
مرتبة من طابق قوله فعله.
فإذا اختلف مراتب المفتين في هذه المطابقة؛ فالراجح للمقلد
اتباع من غلبت مطابقة قوله بفعله.
والمطابقة أو عدمها ينظر فيها بالنسبة إلى الأوامر
والنواهي، فإذا طابق فيهما؛ [فهو الكمال، فإن تفاوت الأمر
فيهما]1 -أعني فيما عدا شروط العدالة- فالأرجح المطابقة في
النواهي، فإذا وجد مجتهدان أحدهما مثابر على أن لا يرتكب
منهيا عنه، لكنه في الأوامر ليس كذلك، والآخر مثابر على أن
لا يخالف2 مأمورا به، لكنه في النواهي على غير ذلك؛ فالأول
أرجح في الاتباع من الثاني؛ لأن الأوامر والنواهي فيما عدا
شروط العدالة إنما مطابقتها من المكملات ومحاسن العادات
واجتناب النواهي آكد وأبلغ في القصد الشرعي من أوجه:
أحدها: أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وهو معنى
يعتمد عليه أهل العلم.
والثاني: أن المناهي تمتثل3 بفعل واحد وهو الكف؛ فللإنسان
قدرة عليها في الجملة من غير مشقة، وأما الأوامر؛ فلا قدرة
للبشر على فعل جميعها، وإنما تتوارد على المكلف على البدل
بحسب ما اقتضاه الترجيح؛ فترك بعض الأوامر ليس بمخالفة على
الإطلاق، بخلاف [فعل] بعض النواهي، فإنه مخالفة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 أي: بقدر ما في قدرته كما تقدم له، وكما يأتي في قوله
بعد: "فلا قدرة للبشر على فعل جميعها... إلخ. "د".
3 في "م": "تمثل".
ج / 5 ص -301-
في
الجملة؛ فترك النواهي أبلغ في تحقيق1 الموافقة.
الثالث: النقل؛ فقد جاء في الحديث:
"فإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا، وإذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه
ما استطعتم"2، فجعل المناهي آكد في الاعتبار من الأوامر، حيث حتم في المناهي من
غير مثنوية، ولم يحتم ذلك في الأوامر إلا مع التقييد
بالاستطاعة، وذلك إشعار بما نحن فيه من ترجيح مطابقة
المناهي على مطابقة الأوامر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "تحقق".
2 مضى تخريجه "1/ 256".
ج / 5 ص -302-
المسألة الخامسة:
الاقتداء
بالأفعال الصادرة من1 أهل الاقتداء يقع على وجهين:
أحدهما: أن يكون المقتدى به بالأفعال2 ممن دل الدليل على
عصمته كالاقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، أو فعل
أهل الإجماع أو ما يعلم3 بالعادة أو بالشرع أنهم لا
يتواطئون على الخطأ؛ كعمل4 أهل المدينة على رأي مالك.
والثاني: ما كان بخلاف ذلك.
فأما الثاني؛ فعلى ضربين:
أحدهما: أن ينتصب بفعله ذلك؛ لأن يقتدي به قصدًا؛ كأوامر
الحكام ونواهيهم، وأعمالهم في مقطع الحكم، من أخذ وإعطاء
ورد وإمضاء، ونحو ذلك أو5 يتعين بالقرائن قصده إليه تعبدًا
به واهتماما بشأنه دينا وأمانة.
والآخر: أن لا يتعين فيه شيء من ذلك.
فهذه أقسام ثلاثة، لا بد من الكلام عليها بالنسبة إلى
الاقتداء.
فالقسم الأول لا يخلو أن يقصد المقتدي إيقاع الفعل على
الوجه الذى أوقعه6 عليه المقتدي به، لا يقصد به إلا ذلك
سواء عليه أفهم مغزاه أم لا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط": "عن".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "بالأفعال".
3 واقعة موقع "من"؛ فهو داخل فيمن الدليل على عصمته. "د".
4 في الأصل و"ف" و"م" و"ط": "وعمل"، وكتب "ف": "لعله:
"كعمل أهل المدينة"، والمثبت من "د".
5 صنف آخر من أحد الضربين، وقوله: "والآخر.. إلخ" هو الضرب
الثاني؛ فلا هو ممن دل الدليل على عصمته، ولا هو ممن انتصب
للاقتداء أو تعيين قصده؛ فلذا كانت الأقسام ثلاثة فقط.
"د". وفي "ط": "ويتعين".
6 كذا في "ط" و"ماء"، وفي "م": دلة"، وفي "م" و"ف": وقعه".
ج / 5 ص -303-
من غير
زيادة، أو يزيد عليه تنوية1 المقتدى به في الفعل أحسن2
المحامل مع احتماله في نفسه؛ فيبني في اقتدائه على المحمل
الأحسن، ويجعله أصلا يرتب عليه الأحكام ويفرع عليه
المسائل.
فأما الأول؛ فلا إشكال في صحة الاقتداء به على حسب ما قرره
الأصوليون، كما اقتدى3 الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم
في أشياء كثيرة؛ كنزع الخاتم الذهبي4، وخلع النعلين في
الصلاة5، والإفطار في السفر6، والإحلال من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ف" و"م": "تنويه" بهاء في آخره، وفي "د" و"ط":
"تنوية" بتاء مربوطة، وكتب "ف" هنا ما نصه: "من نواه
بالتشديد: جعله ينوي، والمراد هنا حمله على أن المقتدي به
قصد بفعله أحسن الوجوه، أو لعله الميم، بالميم؛ أي: كون
المقتدي به مصيبًا بفعله أحسن المحامل، يقال: رجل منوي؛
بفتح الميم، وسكون النون: إذا كان يصيب النجعة المحمودة".
2 وهو أن يكون فعله تعبدًا، مع احتماله أن يكون دنيويًا،
وقد يقال: إنه في صورة فهم مغزاه وسره الشرعي، يتعين فيه
أن يكون فاهمًا فيه التعبد من المعصوم لعدم التنوية
المذكورة إنما يظهر فيما لم يفهم مغزاه. "د".
3 فإن قيل: وهل اقتداؤهم به صلى الله عليه وسلم في مثل
الإفطار في السفر والإحلال من العمرة كان مجردًا من
تنويتهم له صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك تعبدًا، وإنما
فعلوه لمجرد أنه فعله من غير زيادة حتى يصح عده من القسم
الأول؟ قلنا: إن محل الفرق بين القسمين قوله: "مع احتماله
في نفسه" في الثاني، وهذه الأمثلة ليست مما يحتمل في نفسه
لأنها متعينة للتعبد؛ فاتضح كلامه. "د".
4 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب
اللباس، باب خواتيم الذهب، 10/ 315/ رقم 5865، وباب ختم
الفضة 10/ 318/ رقم 5866، 5867" عن ابن عمر رضي الله
عنهما؛ قال بألفاظ أحدها: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يلبس خاتمًا من ذهب؛ فنبذه فقال:
"لا ألبسه أبدًا". فنبذ
الناس خواتيمهم.
5 يشير المصنف إلى ما أخرجه أبو دواد في "سننه" "كتاب
الصلاة، باب الصلاة في النعل 1/ 175/ رقم 650" -وهذا لفظه،
ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" "2/ 431"- والدارمي
في "السنن" "1/ 320"، وأحمد في "المسند" "3/ 20، 92"،
والطيالسي في "المسند" "رقم 2154"، والحاكم في "المستدرك"
"1/ 260"، والبيهقي في "الكبرى" "2/ =
ج / 5 ص -304-
العمرة
عام الحديبية1، وكذلك أفعال الصحابة التى أجمعوا عليها2،
وما أشبه ذلك.
وأما الثاني3؛ فقد يحتمل أن يكون فيه خلاف إذا أمكن4
انضباط المقصد، ولكن الصواب أنه غير معتدٍّ به شرعًا في
الاقتداء؛ لأمور:
أحدها: أن تحسين الظن إلغاء لاحتمال5 قصد المقتدى به دون
ما نواه المقتدي من غير دليل.
فالاحتمال الذى عينه المقتدي لا يتعين، وإذا لم يتعين لم
[يكن ترجيحه]6 إلا بالتشهي، وذلك مهمل في الأمور الشرعية؛
إذ لا ترجيح إلا بمرجِّح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 402، 431" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال: بينما
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه،
فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما
قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته؛ قال: @"ما حملكم
على إلقائكم نعالكم؟". قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا
نعالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن جبريل
صلى الله عليه وسلم أتاني، فأخبرني أن فيها قذرًا"، وقال:
"إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرًا أو
أذى؛ فليمسحه، وليصلِّ فيهما".
وإسناده صحيح، صححه النووي في "المجموع" "2/ 179، 3/ 132،
156"، وشيخنا الألباني في "الإرواء" "رقم 284".
6 مضى لفظه وتخريجه "4/ 87-88".
1 مضى لفظه وتخريجه "ص264".
2 كصلاة التراويح جماعة في المسجد. "د".
قلت: مضى تخريج ذلك "4/ 423".
3 وهو زيادة نية التعبد. "د".
4 فإذا لم يمكن؛ فلا وجه للاختلاف فيه، بل يتعين إلغاؤه.
"د".
5 أي: وهو احتمال قوي لا يصح إهماله بمجرد تحسين المقتدي
الظن بأن المقتدى به فعله على الوجه الأفضل وهو التعبد،
وإلغاؤه بدون دليل ترجيح الاحتمالين بمجرد التشهي. "د".
6 كذا في "ط"، وبدله في جميع النسخ: "يترجح".
ج / 5 ص -305-
ولا
يقال: إن تحسين الظن مطلوب على العموم؛ فأولى أن يكون
مطلوبا بالنسبة إلى من1 ثبتت عصمته؛ لأنا نقول: تحسين الظن
بالمسلم -وإن ظهرت مخايل2 احتمال إساءة الظن فيه- مطلوب3
بلا شك؛ كقوله تعالى:
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ
الظَّن} الآية [الحجرات: 12].
وقوله:
{لَوْلا
إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} الآية [النور: 12].
بل أمر الإنسان في هذا المعنى أن يقول ما لا يعلم كما أمر4
باعتقاد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: كما هو الفرض في هذا القسم. "د".
2 بالياء: جمع مخلية؛ كمعايش، ومعيشة. "ف".
3 في الأصل: "مطلوبه".
4 أداة الطلب الموجه إلى القول في الآيتين واحدة، وهي:
"لولا"، كما أنها موجهة إلى ظن الخير بالمؤمنين والمؤمنات
في الأولى؛ فالمطلوب في الأولى أن يظنوا الخير بأهل
الإيمان، وأن يقولوا:
{هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}، وفي الثاني أن يُكَذِّبوا ما سمعوا، ويهولوا عليه ويقولوا: "سبحان
الله!"؛ أي: تنزه عن أن يَصِمَ نبيه ويشينَه؛ لأن فجور
الزوجة ينفر القلوب من زوجها، وأن يقولوا:
{هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، وعليه؛ فلا يظهر وجه لما قيل*: "إن موضع الأمر قوله:
لولا إذ سمتعتموه، وذكر الأول؛ لتعلقه به"، ويبقى الكلام
في أن طلب الجزم في قولهم:
{هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}
[النور: 12]، و{هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيم} [النور: 16] من باب طلب القول والاعتقاد لما يعلم أو ما لا يعلم،
قال بالأول الفخر، والعلامة الثاني؛ لأن الأنبياء معصومون
من كل منفر، وهذا منه كما أشرنا إليه، واستشكل بأن هذا لو
كان شرطًا عقليًا في النبوة؛ لما خفي عليه صلى الله عليه
وسلم ولما سألها؛ فقال:
"إن كنتِ ألممت بذنب؛ فاستغفري الله، وتوبي إليه..." إلخ**، وأجيب بأجوبة، واختار الآلوسي*** أن هذا من مجرد الظن بخيرة
المؤمنين؛ فراجعه. "د".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المذكور قول "ف".
** قطعة من حديث الإفك الطويل، ومضى تخريجه "2/ 422".
*** في "تفسيره" "18/ 120-121".
ج / 5 ص -306-
ما لا
يعلم في قوله:
{وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12].
وقوله:
{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا
أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ
عَظِيمٌ}
[النور: 16].
إلى غير ذلك مما في هذا المعنى.
ومع ذلك؛ فلم يبْن عليه حكم شرعي، ولا اعتبر في عدالة شاهد
ولا في غير ذلك [بـ] مجرد هذا التحسين؛ حتى تدل الأدلة
الظاهرة المحصلة للعلم أو الظن الغالب.
فإذا كان المكلف مأمورا بتحسين الظن بكل مسلم، ولم يكن كل
مسلم عدلًا [عند المحسِّن] بمجرد هذا التحسين حتى تحصل
الخبرة أو التزكية1؛ دل على أن مجرد تحسين الظن بأمر لا
يثبت ذلك الأمر، وإذا لم يثبته لم ينبنِ عليه حكم، وتحسين
الظن بالأفعال من ذلك؛ فلا ينبني عليها حكم.
ومثاله كما إذا فعل المقتدى به فعلًا يُحتمل أن يكون
دينيًا تعبديًا، ويُحتمل أن يكون دنيويًا راجعا إلى مصالح
الدنيا، ولا قرينة تدل على تعين أحد الاحتمالين؛ فيحمله
هذا المقتدي على أن المقتدى به إنما قصد الوجه الديني [لا
الدنيوي] بناء على تحسينه الظن به.
والثاني: أن تحسين الظن عمل قلبي من أعمال المكلف بالنسبة
إلى المقتدى به مثلًا، وهو مأمور به مطلقا وافق ما في نفس
الآمر أو خالف؛ إذ لو كان يستلزم2 المطابقة علما أو ظنا
لما أمر به مطلقًا، بل بقيد الأدلة المفيدة لحصول الظن بما
في نفس الآمر، وليس كذلك باتفاق فلا يستلزم المطابقة، وإذا
ثبت هذا؛ فالاقتداء بناء على هذا التحسين بناء على عمل من
أعمال نفسه لا على أمر3 حصل لذلك المقتدى به، لكنه قصد
الاقتداء بناء على ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "والتزكية".
2 في "ط": "ويلتزم".
3 وهو قصده في الواقع بهذا الفعل التعبد، وقوله: "على ما
عند المقتدى به"؛ أي: كما يقتضيه معنى الاقتداء. "د".
ج / 5 ص -307-
عند
المقتدى به؛ فأدَّى إلى بناء الاقتداء على غير شيء، وذلك
باطل، بخلاف الاقتداء بناء على ظهور علاماته؛ فإنه إنما
انبنى على أمر حصل للمقتدى به علما أو ظنا1، وإياه قَصَد
المقتدي باقتدائه فصار كالاقتداء به في الأمور المتعينة2.
والثالث3: أن هذا الاقتداء يلزم منه التناقض؛ لأنه إنما
يُقتدَى به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر ظنًّا مثلًا،
ومجرد تحسين الظن لا يقتضي أنه كذلك في نفس الأمر لا علما
ولا ظنًا، وإذا لم يقتضه لم يكن الاقتداء به بناء على أنه
كذلك في نفس الأمر، وقد فرضنا أنه كذلك، هذا خلف متناقض.
وإنما يشتبه هذا الموضع من جهة اختلاط تحسين الظن بنفس
الظن، والفرق بينهما ظاهر؛ لأمرين:
أحدهما: أن الظن نفسه يتعلق بالمقتدى به مثلا بقيد كونه في
نفس الأمر كذلك، حسبما دلت عليه الأدلة الظنية، بخلاف
تحسين الظن؛ فإنه يتعلق به كان في الخارج على حسب ذلك الظن
أو لا.
والثاني: أن الظن ناشئ عن الأدلة الموجبة له ضرورة4 لا
انفكاك للمكلف5 عنه وتحسين الظن أمر اختياري للمكلف غير
ناشئ عن دليل يوجبه وهو يرجع إلى نفي بعض الخواطر المضطربة
الدائرة بين النفي والإثبات في كل واحد من الاحتمالين
المتعلقين بالمقتدى به، فإذا جاءه خاطر الاحتمال الأحسن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": و"ظنًّا".
2 أي: للتعبد كما في الصنف الأول من هذا القسم. "د".
3 هذا الوجه لازم لما قبله، ولو قال عقب قوله: "فأدى إلى
بناء الاقتداء على غير شيء"، ويلزمه أيضًا التناقض؛
لصَحَّ؛ لأن مقدمات هذا الوجه هي محصل مقدمات الوجه
الثاني. "د".
4 كما قالوه في لزوم النتيجة للدليل. "د".
5 في "ط": "لانفكاك المكلف".
ج / 5 ص -308-
قوَّاه
وثبتَهُ بتكراره في فكره ووعظ النفس في اعتقاده، وإذا أتاه
خاطر الاحتمال الآخر ضعفه ونفاه، وكرر نفيه على فكره،
ومحاه عن ذكره.
فإن قيل: إذا كان المقتدى به ظاهره والغالب من أمره الميلُ
إلى الأمور الأخروية، والتزود للمعاد، والانقطاع إلى الله،
ومراقبة أحواله فيما بينه وبين الله؛ فالظاهر منه أن هذا
الفرد المحتمل ملحق بذلك الأعم الأغلب، شأن الأحكام
الواردة على هذا الوزان.
فالجواب: أن هذا الفرد إذا تعين هكذا على هذا الفرض فقد
يقوى الظن بقصده إلى الاحتمال الأخروي؛ فيكون مجال
الاجتهاد كما سيذكر بحول الله، ولكن ليس هذا الفرض بناء
على مجرد تحسين الظن، بل على نفس الظن المستند إلى دليل
يثيره، والظن الذى يكون هكذا قد ينتهض في الشرع سببا لبناء
الأحكام عليه، وفرض مسألتنا ليس هكذا، بل على جهة أن لا
يكون لأحد الاحتمالين ترجيح يثير مثله غلبة الظن بأحد
الاحتمالين ويضعف الاحتمال الآخر كرجل1 متق لله محافظ على
امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ليس [له]2 في الدنيا شغل
إلا بما كلف من أمر دينه بالنسبة إلى دنياه وآخرته؛ فمثل
هذا له في هذه الدار حالان:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لتكن على ذكر من أصل الموضوع، وهو أن المتقدى به ممن دل
الدليل على عصمته كالنبي صلى الله عليه وسلم أو فعل أهل
الإجماع، لا فعل واحد منهم، بل فعل صدر من جمع يتحقق منهم
الإجماع الشرعي، أو صدر من جماعة يقوم الدليل على أنهم لا
يتواطئون على الخطأ؛ كعمل أهل المدينة، فالفعل المقتدى فيه
فيما عدا النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون عمل فرد ولا
جماعة لا يتحقق فيهم ما ذكر؛ فتمثيله برجل... إلخ هنا
وفيما يفهم من أصل السؤال بعيد عن أصل الفرض، ومحتاج
تطبيقه على أصل الموضوع إلى تكلفات، وإنما يتضح التمثيل
فيما يأتي له بعد بالأفعال الجبلية بالنسبة له صلى الله
عليه وسلم من حيث تحسين الظن بأن أفعاله مصروفة إلى
الآخرة. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
ج / 5 ص -309-
- حال دنيوي، به يقيم معاشه ويتناول ما مَنَّ الله به عليه
من حظوظ نفسه.
- وحال أخروي، به يقيم أمر آخرته.
فأما هذا الثاني؛ فلا كلام فيه، وهو متعين في نفسه، وغير
محتمل إلا في القليل، ولا اعتبار بالنوادر.
وأما الأول؛ فهو مثار الاحتمال، فالمباح مثلا يمكن أن
يأخذه من حيث حظ نفسه، ويمكن أن يأخذه من حيث حق ربه عليه
في نفسه، فإذا عمله ولم يُدرَ وجه أخذه؛ فالمقتدي به بناء
على تحسين ظنه به وأنه إنما عمله متقربا إلى الله ومتعبدا
له به؛ فيعمل به على قصد التقرب ولا مستند له إلا تحسين
ظنه بالمقتدى به، ليس له أصل يبني عليه؛ إذ يحتمل احتمالا
قويا أن يقصد المقتدى به نيل ما أبيح له من حظه؛ فلا يصادف
قصد المقتدي محلا، بل إن صادف صادف أمرا مباحا صيره متقربا
به، والمباح لا يصح التقرب به كما تقدم تقريره في كتاب
الأحكام.
بل نقول: إذا وقف المقتدى به وقفة، أو تناول ثوبه على وجه،
أو قبض [على] لحيته في وقت ما، أو ما أشبه ذلك؛ فأخذ هذا
المقتدي يفعل مثل فعله بناء على أنه قصد به العبادة مع
احتمال أن يفعل ذلك لمعنى دنيوي أو غافلًا؛ كان هذا
المقتدي معدودا من الحمقى والمغفلين؛ فمثل هذا هو المراد
بالمسألة.
وكذلك إذا كان له درهم مثًلا، فأعطاه صديقًا له؛ لصداقته1،
وقد كان يمكن أن ينفقه على نفسه ويصنع به مباحا أو يتصدق
به؛ فيقول المقتدي: حسن الظن به يقتضى أنه [كان] يتصدق به،
لكن آثر به على نفسه في هذا الأمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا لفقر مثلًا. "د".
ج / 5 ص -310-
الأخروي؛ فيجيء1 منه جواز الإيثار في الأمور الأخروية.
وهذا المعنى لحظ بعض العلماء في حديث:
"واختبأت دعوتى شفاعة لأمتي يوم القيامة"2،
فاستنبط منه صحة الإيثار في أمور الآخرة؛ إذ كان إنما
يدعو3 بدعوته التي أعطيها في أمر من أمور الآخرة لا في
أمور الدنيا.
فإذا بنينا على ما تقدم4؛ فلقائل أن يقول: إن ما قاله غير
متعين؛ لأنه كان يمكنه أن يدعو بها في أمر من أمور دنياه
لأنه لا حجر عليه ولا قدح فيه ينسب إليه؛ فقد كان عليه
الصلاة والسلام يحب من الدنيا أشياء، وينال مما أعطاه الله
من الدنيا ما أبيح له، ويتعين ذلك في أمور؛ كحبه للنساء،
والطيب5،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يفرع عليه جواز ذلك، ولا بد له أن يجعل في طي حسن
ظنه أنه إنما أعطاه لصديقه ليتصدق به؛ حتى يتم له
الاستنباط. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الدعوات، باب لكل نبي
دعوة مستجابة 11/ 96/ رقم 3604، وكتاب التوحيد، باب في
المشيئة والإرادة 13/ 447/ رقم 7474"، ومسلم في "صحيحه"
"كتاب الإيمان، باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة
الشفاعة لأمته 1/ 188-190/ رقم 198" عن أبي هريرة مرفوعًا:
"لكل نبي دعوة
مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي؛ شفاعة لأمتي في
الآخرة". لفظ البخاري.
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 6305"، ومسلم في "صحيحه"
"رقم 210" عن أنس نحوه.
وأخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 201" عن جابر مرفوعًا، وفي
آخره:
"وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي
يوم القيامة".
3 أي: فحسن الظن به صلى الله عليه وسلم أنه يدعو بها لأمر
أخروي؛ فآثر أمته عن نفسه في أمر أخروي. "د".
4 وهو أن الصواب أنه غير معتدٍّ به شرعًا للأدلة السابقة،
فلنا أن نردَّ ما لحظه هذا البعض؛ فنقول: إن ما قاله...
إلخ. "د".
5 مضى بيان ذلك وتخريجه في "2/ 240".
ج / 5 ص -311-
والحلواء، والعسل، والدباء1، وكراهيته للضب2، وأشباه ذلك،
وكان يترخص في بعض الأشياء مما أباح الله له3، وهو منقول
كثيرًا.
ووجه ثانٍ4 وهو أنه قد دعا عليه الصلاة والسلام بأمور
كثيرة دنيوية؛ كاستعاذته من الفقر، والدين، وغلبة الرجال،
وشماتة الأعداء، والهم وأن يرد إلى أرذل العمر5، وكان
يمكنه أن يعوض من ذلك أمور الآخرة فلم يفعل، ويدل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى بيان حبه صلى الله عليه وسلم للحلواء والعسل وتخريجه
في "1/ 185"، وأما حبه صلى الله عليه وسلم للدباء؛ فأخرجه
البخاري في "صحيحه" "رقم 5379، 5420، 5535، 5437" عن أنس
رضي الله عنه.
2 مضى بيان ذلك وتخريجه في "4/ 115".
3 مضى بيان ذلك وتخريجه في عدة أحاديث. انظر "1/ 469-470،
523".
4 مغايرة هذا الوجه لما قبله من حيث إنه في هذا وقع الدعاء
فعلًا بأمور دنيوية، وفيما قبله أنه بحيث لو وقع؛ لكان
مقبولًا؛ لما ثبت أنه كان يميل إلى بعض أمور دنيوية ولا
حجر عليه في طلبها. "د".
5 ورد ذلك في أحاديث عديدة، منها:
ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب من غزا
بصبي للخدمة 6/ 86/ رقم 2893" -وهذا لفظه- ومسلم في
"صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من العجز والكسل
وغيره 4/ 2079/ رقم 2706" عن أنس؛ قال: كنت قال: كنت أسمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا يقول:
"اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل، والجبن،
وضلع الدين، وغلبة الرجال".
وما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب ما يتعوذ
من الجبن 6/ 36-37/ رقم 2822" عن ميمون الأودي: قال: كان
سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان
الكتابة، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يتعوذ منهن دبر الصلاة:
"اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل
العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر".
فحدثت به مصعبًا؛ فصدقه.
وما أخرجه النسائي في "المجتبى" كتاب السهو، باب التعوذ في
دبر الصلاة 3/ 73-74" -وهذا لفظه- وأحمد في "المسند" "5/
36، 39، 44"، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" "رقم 110"
بسند صحيح على شرط مسلم عن مسلم بن أبي بكرة؛ قال: كان أبي
يقول =
ج / 5 ص -312-
عليه
في نفس المسألة أن جملة من الأنبياء دعوا الدعوة المضمونة
الإجابة لهم المذكورة في قوله:
"لكل نبى دعوة مستجابة في أمته"1 على وجه مخصوص بالدنيا جائز لهم، وهو الدعاء عليهم؛ كقوله:
{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ
دَيَّارًا}
[نوح:
26]، حسبما نقله المفسرون2، وكان من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في دبر الصلاة، "اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر،
وعذاب القبر". فكنت أقولهن، فقال أبي: أي بني! عمن أخذت
هذا؟ قلت: عنك. قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يقولهن في دبر الصلاة.
وما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب القدر، باب من تعوذ
بالله من درك الشقاء وسوء القضاء 11/ 513/ رقم 6616" عن
أبي هريرة مرفوعًا:
"تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة
الأعداء".
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "أيضًا في "كتاب الدعوات، باب
التعوذ من جهد البلاء 11/ 148/ رقم 6347" عن أبي هريرة رضي
الله عنه؛ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله
من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة
الاعداء".
وأخرجه بنحوه مسلم في "صحيحه" "كتاب الذكر والدعاء، باب من
التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره 4/ 2080/ رقم
2707".
1 هو صدر الحديث السابق، وسيأتي الكلام على قوله في "أمته"
من جهة الرواية ومن جهة المعنى. "د".
2 ذهب ابن العربي في "أحكامه" "4/ 1861" -وتبعه القرطبي في
"تفسيره" "18/ 313"- إلى أن دعاء نوح عليه السلام على قومه
كان "غضبًا بغير نص ولا إذن صريح في ذلك"، ولم يبين هنا هل
استجيب لنوح أم لا، وبينه في مواضع أخر، منها قوله:
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَه} وكذلك في قوله تعالى:
{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنَا
أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا
الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ
قُدِرَ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}،
بقى الدليل الذي يعين أن دعوت عليه السلام المستجابة هي
المذكورة، لم أظفر بأحد من المفسرين تعرض لذلك، وذلك على
خلاف قول المصنف، وقد نظرت في تفسير الآية عند الزمخشري،
والآلوسي، والبقاعي، وابن كثير، والجلالين، وحواشيه، وابن
عطية، وابن الجوزي، والقرطبي، والقاسمي، والشنقيطي، ولكن
سيأتي أن في رواية مسلم: "دعاها لأمته"، و"مستجابة في
أمته"، وهذا يرجح ما ذكره المصنف هنا.
ج / 5 ص -313-
الممكن
أن يدعو بغير ذلك مما فيه صلاح لهم في الآخرة؛ فكونهم
فعلوا ذلك وهم صفوة الله من خلقه دليل على أنه لا يتعين في
حقهم أن تكون جميع أعمالهم وأقوالهم مصروفة إلى الآخرة
فقط، فكذلك دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لا يتعين فيها
أمر الآخرة البتة؛ فلا دليل في الحديث على ما قال هذا
العالم.
أمر ثالث1: وهو أنا لو بنينا على هذا الأصل2؛ لكنا نقول
ذلك القول في كل فعل من أفعاله عليه الصلاة والسلام، كان
من أفعال الجبلة الآدمية أو لا؛ إذ يمكن أن يقال: إنه قصد
بها أمورا أخروية وتعبدا مخصوصًا، وليس كذلك عند العلماء،
بل كان يلزم منه أن لا يكون له فعل من الأفعال مختصًا3
بالدنيا إلا ما بين أنه راجع إلى الدنيا؛ لأنه لا يتبين إذ
ذاك كونه دنيويا لخفاء قصده فيه حتى يصرح به4، وكذلك إذا
لم يبين جهته لأنه محتمل أيضًا؛ فلا يحصل من بيان أمور
الدنيا إلا القليل، وذلك خلاف ما يدل عليه معظم الشريعة،
فإذا ثبت صح أن الاقتداء على هذا الوجه غير ثابت5، وأن
الحديث لا دليل فيه من هذا الوجه.
مع أن الحديث كما تقدم يقتضي أن الدعوة مخصوصة بالأمة؛
لقوله فيه:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا يصلح دليلًا لأصل الموضوع، وهو أن الصواب عدم
الاعتداد بالمحتمل في الاقتداء؛ فيكون رابع الأدلة الثلاثة
المتقدمة. "د".
2 أي: المجيز للاقتداء تحسين الظن الذي بني عليه الإيثار
في أمور الآخرة. "د".
3 أي: متعينًا لها غير محتمل. "د".
4 لعله قد سقطت هنا جملة المشبه به، والأصل: "فما بين
رجوعه إلى الآخرة؛ فهو أخروي، وكذلك.... إلخ"، وقوله: "فلا
يحصل... إلخ" مبني على تمهيد مطوي، حاصله أن ما لم يبين
جهته هو الغالب والكثير، وقوله: "وذلك خلاف... إلخ" في قوة
الاستثنائية القائلة: وذلك باطل. "د".
5 طبق قوله سابقًا: "الصواب أنه غير معتدٍّ به شرعًا".
"د".
ج / 5 ص -314-
"لكل نبي دعوة مستجابة في أمته"1؛ فليست مخصوصة به، فلا يحصل فيها معنى الإيثار الذى ذكره؛ لأن
الإيثار ثانٍ عن قبول الانتفاع في2 جهة المؤثر، وهنا ليس
كذلك.
والقسم الثاني إن كان مثل انتصاب الحاكم ونحوه؛ فلا شك في3
صحة الاقتداء؛ إذ لا فرق بين تصريحه4 بالانتصاب للناس
وتصريحه بحكم ذلك الفعل المفعول أو المتروك، وإن كان مما
تعين فيه قصد العالم إلى التعبد بالفعل أو الترك، بالقرائن
الدالة على ذلك؛ فهو موضع احتمال:
فللمانع أن يقول: إنه إذا لم يكن معصوما تطرق إلى أفعاله
الخطأ والنسيان والمعصية5 قصدا، وإذا لم يتعين وجه فعله6؛
فكيف يصح الاقتداء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه في "ص310"، وأفاد "د" أنه في "صحيح مسلم"
بروايات منها روايتان قريبتان في المعنى مما يرويها
المؤلف، إحداهما:
"لكل نبي دعوة دعا بها في أمته"، والأخرى:
"دعاها لأمته"، وعلى
هاتين يتمشى كلام المؤلف؛ أما على رواية البخاري وروايات
مسلم الأولى؛ فيمكن استنباط الإيثار الذي قاله بعضهم، لولا
الاحتمال الذي ذكره المؤلف سابقًا من أنه لا مانع أن يدعو
بها في أمور ديناه؛ فلا يكون في أمور الآخرة متعينًا حتى
يستدل به على الإيثار المذكور، وإلى ما فصلناه أشار المؤلف
بقوله: "كما تقدم"، أي أنه بالرواية المتقدمة لا معنى
للاستدلال به على الإيثار رأسًا، يعني: وما قررناه أولًا
مقطوع فيه النظر عن هذه الرواية، ومصروف إلى الروايات
الأخرى التي لم تصرح بما يقتضي أن الدعوة مختصة بأمته.
2 في "ط": "مَن".
3 في "ط": "إشكال".
4 أي: لا فرق بين ما بعد كالتصريح القولي بسبب الانتصاب
المذكور، وهو فعله في مقطع الحكم من أخذ ورد... إلخ، وبين
تصريحه اللفظي بحكم الفعل من إذن ومنع مثلًا، وإنما أولنا
كلمة "التصريح" بهذا؛ لأن موضوع المسألة الاقتداء بفعله.
"د".
قلت: انظر صحة الاقتداء بالحاكم في "مجموع فتاوى ابن
تيمية" "30/ 407".
5 هذا في الحقيقة لا داعي إليه في الدليل، ويكر بالإبطال
على الأقوال نفسها وعلى أفعال المنتصب اللذين سلمنا فيها
بصحة الاقتداء، ويرشح ما قلناه قوله بعد: "ولعله فعله
ساهيًا"، ولم يقل: أو عاصيًا. "د".
6 إلا بقرائن قد لا تصدق؛ كما هو موضوع كلامه. "د".
ج / 5 ص -315-
قصدا
في العبادات أو في العادات؟ ولذلك حكي عن بعض السلف1 أنه
قال: "أضعف العلم الرؤية، يعنى: أن يقول رأيت فلانا يعمل
كذا، ولعله فعله ساهيًا".
وعن إياس ابن معاوية: "لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن
سَلْهُ يصدقْك"2.
وقد ذم الله تعالى الذين قالوا3:
{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} الآية [الزخرف: 22].
وفى الحديث من قول المرتاب: "سمعت الناس يقولون شيئا
فقلته"4. فالاقتداء بمثل هذا المفروض كالاقتداء بسائر
الناس أو هو قريب منه.
وللمجيز أن يقول: إن غلبة الظن معمول بها في الأحكام5،
وإذا تعين بالقرائن قصده إلى الفعل أو الترك -ولا سيما في
العبادات، ومع التكرار أيضًا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عطاء، وأورد نحوه عنه ابن عبد البر في "جامع بيان
العلم" "2/ 778/ رقم 1448"، ونصه: "وأضعف العلم: علم
النظر، أن يقول الرجل: رأيت فلانًا".
2 أخرجه وكيع في "أخبار القضاة" "1/ 350"، وابن شبة كما في
"تهذيب الكمال" "3/ 433".
3 أي: الذين قلدوا من ليس أهلًا، وفي الحديث لفظ: "الناس"؛
أي: مطلق الناس الذين لا يقلدون، فتقليد من ليس أهلًا
المنفي عليه في الآية، والحديث يشبهه تقليد العالم في
الفرض المذكور، وليس التقليد بعمومه مذمومًا كما تدل عليه
تلك المسائل الأصولية. "د".
4 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب
الكسوف، باب الصلاة النساء مع الرجال في الكسوف 2/ 543/
رقم 1053"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الكسوف، باب ما عرض على
النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة
والنار 2/ 624/ رقم 905"، ومالك في "الموطأ" "1/ 188-189"
عن أسماء رضي الله عنها".
5 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "3/ 312-313 و13/
310-326"، و"المسودة في أصول الفقه" "ص518"، و"البحر
المحيط" للزركشي "1/ 76، 82 و5/ 276 و6/ 285".
ج / 5 ص -316-
وهو من
أهل الاقتداء بقوله؛ فالاقتداء بفعله كذلك.
وقد قال مالك في إفراد يوم الجمعة بالصوم: "إنه جائز"1،
واستدل على ذلك بأنه رأى بعض أهل العلم يصومه، قال2:
"وأراه كان يتحراه"؛ فقد استند
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذهب الجمهور إلى كراهته، وقال عياض: "لعل قول مالك يرجع
إليه؛ لأن مذهبه كراهة تخصيص يوم معين بالصيام" وأشار
الباجي في "المنتقى" "2/ 76" إلى احتمال أنه قول آخر له،
وقال الداودي: "لم يبلغه الحديث، ولو بلغه ما خالفه"، قال
الأبي: "فالحاصل أن المازري والداودي فهما من "الموطأ"
الجواز، وعياض رده إلى ما علم من مذهبه من كراهته تخصيص
يوم معين بالصوم، وعضده بما أشار إليه الباجي؛ هذا وأكثر
الشيوخ يحكي عن مالك الجواز، ولكن بناؤه على ما قال المؤلف
بعيد، فإنه روي عن ابن مسعود أنه "كان صلى الله عليه وسلم،
يصوم من كل شهر ثلاثة ايام، وقلما رأيته يفطر يوم
الجمعة"*، وعن ابن عمر: "ما رأيته [صلى الله عليه وسلم]
مفطرًا يوم الجمعة قط"**، ويكون قوله: "لم أسمع أحدًا من
أهل العلم ينهى عنه"، وقوله: "وقد رأيت بعض أهل العلم
يصومه وأراه كان يتحراه... إلخ" من باب الترشيح والتقوية
لهذه الأحاديث؛ لا أن عمل بعض أهل العلم هو الدليل المسقط
لحكم الحديث الصحيح كما يقول المؤلف، يراجع: "الزرقاني على
الموطأ" "2/ 203". "د".
قلت: انظر أيضًا: "الاستذكار" "10/ 260-264"، و"مصنف ابن
أبي شيبة" "3/ 46"، و"الشرح الصغير" "1/ 694" للدردير.
2 عبارته في "الموطأ" "كتاب الصيام، باب جامع الصيام 1/
311 - رواية يحيى" هذا =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أخرجه الترمذي في "الجامع" "رقم 742 "، وأبو دواد في
"السنن" "رقم 2450" -دون: "وقلما..."، والنسائي في
"المجتبى" "4/ 204"، وأحمد في "المسند" "1/ 406"، وابن
خزيمة في "الصحيح" "3/ 3129"، وإسناده صحيح، وصححه ابن عبد
البر في "الاستذكار" "10/ 260".
** أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" "3/ 46" بإسنادٍ ضعيف،
فيه ليث بن أبي سليم.
ج / 5 ص -317-
إلى
فعل بعض الناس عند ظنه أنه كان يتحراه، وضم إليه أنه لم
يسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن
صيامه، وجعل ذلك عمدة مسقطة لحكم الحديث الصحيح من نهيه
عليه الصلاة والسلام عن إفراد يوم الجمعة بالصوم.
فقد يلوح من هنا أن مالكا يعتمد هذا العمل الذى يفهم من
صاحبه القصد إليه إذا كان من أهل العلم والدين، وغلب على
الظن أنه لا يفعله جهلا ولا سهوا ولا غفلة؛ فإن كونه من
أهل العلم المقتدى بهم يقتضي عمله به، وتحريه إياه دليل2
على عدم السهو والغفلة، وعلى هذا يجري ما اعتمد عليه من
أفعال السلف، إذا تأملتها وجدتها قد انضمت إليها قرائن
عينت قصد المقتدى به، وجهة فعله، فصَحَّ الاقتداء.
والقسم الثالث: هو3 أن لا يتعين فعل المقتدى به لقصد دنيوي
ولا أخروي، ولا دلت قرينة على جهة ذلك الفعل، فإن قلنا في
القسم الثاني بعدم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= نصها: لم اسمع أحدًا من أهل العلم والفقه، ومن يقتدى به
ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل
العلم يصومه، وأراه كان يتحراه".
قال ابن عبد البر في "الاستذكار" "10/ 261" في تحديد "بعض
أهل العلم": "وأما الذي ذكره مالك؛ فيقولون: إنه محمد بن
المنكدر، وقيل: إنه صفوان بن سليم".
1 ورد ذلك في أحاديث كثيرة منها:
- ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب صوم يوم
الجمعة 4/ 232"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب
كراهية صيام يوم الجمعة منفردًا 2/ 801/ رقم 1143" عن محمد
بن عباد؛ قال: "سألت جابرًا رضي الله عنه: أنهى النبي صلى
الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم". زاد بعض
الرواة: "يعنى: أن ينفرد بصومه". لفظ البخاري.
- وأخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 1985"، ومسلم في "صحيحه"
"رقم 1144" عن أبي هريرة مرفوعًا:
"لا يصم أحدكم يوم الجمعة؛ إلا أن يصوم قبله، أو يصوم بعده".
2 خبر قوله: "وتحرِّيه". "د".
3 في "ط": "وهو".
ج / 5 ص -318-
صحة
الاقتداء؛ فههنا أولى، وإن قلنا بالصحة؛ فقد ينقدح فيه
احتمال، فإن قرائن التحري للفعل [هنالك]1 موجودة؛ فهي دليل
يتمسك به في الصحة2.
وأما ههنا، فلما فقدت قوى احتمال الخطأ والغفلة وغيرهما،
هذا مع اقتران الاحتياط على الدين؛ فالصواب والحالة هذه
منع الاقتداء إلا بعد الاستبراء بالسؤال عن حكم النازلة
المقلد فيها، ويتمكن قول من قال3: "لا تنظر إلى عمل
الفقيه، ولكن سله يصدقْك" ونحوه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين زيادة من الأصل و"ماء" و"ط".
2 أي: في القسم الثاني. "د".
3 هو إياس بن معاوية كما تقدم قريبًا "ص315".
ج / 5 ص -319-
المسألة السادسة:
قد تقدم1 أن
لطالب العلم في طلبه أحوالا ثلاثة:
أما الحال الأول؛ فلا يسوغ الاقتداء بأفعال صاحبه كما لا
يقتدى بأقواله؛ لأنه لم يبلغ درجة الاجتهاد بعد، فإذا كان
اجتهاده غير معتبر؛ فالاقتداء به كذلك لأن أعماله إن كانت
باجتهاد منه فهي ساقطة، وإن كانت بتقليد فالواجب الرجوع في
الاقتداء إلى مقلده أو إلى مجتهد آخر، ولأنه عرضة لدخول
العوارض2 عليه من حيث لا يعلم بها فيصير عمله مخالفا فلا
يوثق بأن عمله صحيح فلا يمكن الاعتماد عليه.
وأما الحال الثالث؛ فلا إشكال في صحة استفتائه، ويجري
الاقتداء بأفعاله، على ما تقدم في المسألة قبلها.
وأما الحال الثاني؛ فهو موضع إشكال بالنسبة إلى استفتائه3،
وبالنسبة إلى الاقتداء بأفعاله؛ فاستفتاؤه3 جارٍ على النظر
المتقدم في صحة اجتهاده أو عدم صحته.
وأما الاقتداء بأفعاله؛ فإن قلنا بعدم صحة اجتهاده فلا يصح
الاقتداء كصاحب الحال الأول، وإن قلنا بصحة اجتهاده جرى
الاقتداء بأفعاله على ما تقدم من التفصيل والنظر.
هذا إذا لم يكن في أعماله صاحب حال، فإن كان صاحب4 حال وهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المسألة الثالثة عشرة من الطرف الأول في الاجتهاد.
2 أي: من شأنها أن تدخل النقص والخلل في أعماله، وذلك
كدواعي الهوى والانحراف عن قصد الدليل وغير ذلك. "د".
3 في "ط": "استيفائه.. فاستيفاؤه".
4 ليس خاصًا بالحالة الثانية، بل عام لكل من صح اجتهاده،
واستفتاؤه كان من ذوي الحالة الثانية أو الثالثة. "د".
ج / 5 ص -320-
ممن
يستفتى؛ فهل يصح الاقتداء به بناء على التفصيل المذكور أم
لا، وهل يصح استفتاؤه في كل شيء أم لا؟
كل هذا مما ينظر فيه، فأما الاقتداء بأفعاله حيث يصح
الاقتداء بمن ليس بصاحب حال؛ فإنه لا يليق إلا بمن هو ذو
حال مثله، وبيان ذلك أن أرباب الأحوال عاملون في أحوالهم
على إسقاط الحظوظ، بالغون غاية الجهد في أداء الحقوق؛ إما
لسائق الخوف، أو لحادي الرجاء، أو لحامل المحبة؛ فحظوظهم
العاجلة قد سقطت من أيديهم بأمر شاغل عن غير ما هم فيه؛
فليس لهم عن الأعمال فترة، ولا عن جد السير راحة، فمن كان
بهذا الوصف؛ فكيف يقدر على الاقتداء به من هو طالب لحظوظه
مشاح في استقصاء مباحاته؟!
وأيضًا؛ فإن الله تعالى سهل عليهم ما عسر على غيرهم،
وأيدهم بقوة منه على ما تحملوه من القيام بخدمته، حتى صار
الشاق على الناس غير شاق عليهم، والثقيل على غيرهم خفيفا
عليهم؛ فكيف يقدر على الاقتداء بهم ضعيف المنة1 عن حمل تلك
الأعباء، أو مريض العزم في
قطع مسافات النفس، أو خامد الطلب لتلك المراتب العلية، أو
راض بالأوائل عن الغايات؟!
فكل هؤلاء لا طاقة لهم باتباع أرباب الأحوال، وإن تطوقوا
ذلك زمانًا؛ فعما قريب ينقطعون2، والمطلوب الدوام، ولذلك
قال النبي عليه الصلاة والسلام:
"خذوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لن يمل حتى تملوا"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: القوة، وتقدمت. أما "ماء"؛ ففيها: "الهمة".
2 كما في حديث الترمذي الصحيح: @"إن لكل شيء شرة، ولكل شرة
فترة"، والشرة: النشاط والرغبة. "د".
قلت: مضى تخريجه الحديث "3/ 522".
3 مضى تخريجه "1/ 525"، وهو صحيح.
ج / 5 ص -321-
وقال:
"أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل"1.
وأمر2 بالقصد في العمل وأنه مبلغ، وقال:
"إن الله يحب الرفق في الأمر كله"3.
وكره العنف والتعمق والتكلف والتشديد4 خوفا من الانقطاع،
وقال:
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي
كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7].
ورفع عنا الإصر الذى كان على الذين من قبلنا، فإذا كان
الاقتداء بأرباب الأحوال آيلا إلى مثل هذا الحال؛ لم
يَلِقْ أن ينتصبوا منصب الاقتداء وهم كذلك، ولا أن يتخذهم
غيرهم أئمة فيه، اللهم إلا أن يكون صاحب حال مثلهم وغير
مخوف عليه الانقطاع؛ فإذ ذاك يسوغ الاقتداء بهم على ما ذكر
من التفصيل، وهذا المقام قد عرفه أهله، وظهر لهم برهانه
على أتم وجوهه.
وأما الاقتداء بأقواله إذا استفتي في المسائل؛ فيحتمل
تفصيلًا، وهو أنه لا يخلو إما أن يستفتى في شيء هو فيه
صاحب حال، أو لا؛ فإن كان الأول جرى حكمه مجرى الاقتداء
بأفعاله، فإن نطقه في أحكام أحواله من جملة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 525"، وهو بقية الحديث السابق.
2 كما في حديث:
"سددوا
وقاربوا"، وهو صحيح، ومضى تخريجه "2/ 208".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب الرفق في
الأمر كله، 10/ 449/ رقم 6024، وكتاب الدعوات، باب الدعاء
على المشركين، 11/ 194/ رقم 6395"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
البر والصلة، باب فضل الرفق، 4/ 2003-2004/ رقم 2593" عن
عائشة رضي الله عنها.
والمذكور لفظ البخاري، ولفظ مسلم:
"يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا
يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه".
4 ورد ذلك في أحاديث عديدة، تقدم منها ما يفي بالغرض،
وانظر غير مأمور: "1/ 522".
ج / 5 ص -322-
أعماله، والغالب فليه أنه يفتي بما يقتضيه حاله، لا بما
يقتضيه حال السائل، وإن كان الثاني ساغ ذلك لأنه إذ ذاك
كأنما يتكلم من أصل العلم لا من رأس الحال؛ إذ ليس مأخوذًا
فيه.
ج / 5 ص -323-
المسألة السابعة:
يذكر فيها
بعض الأوصاف التي تشهد للعامي بصحة اتباع من اتصف بها في
فتواه.
قال مالك بن أنس1: "ربما وردت علي المسألة تمنعني من
الطعام والشراب والنوم. فقيل له: يا أبا عبد الله! والله
ما كلامك عند الناس إلا نقر في حجر، ما تقول شيئا إلا
تلقوه منك. قال: فمن أحق أن يكون هكذا إلا من كان هكذا؟
قال الراوي: فرأيت في النوم قائلا يقول: مالك معصوم".
وقال2: "إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، فما اتفق لي
فيها رأي إلى الآن".
وقال3: "ربما وردت علي المسألة فأفكر فيها ليالي".
وكان4 إذا سئل عن المسألة قال للسائل: "انصرف حتى أنظر
فيها". فينصرف ويردد فيها، فقيل له في ذلك؛ فبكى وقال:
"إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم".
وكان إذا جلس؛ نكس رأسه، وحرك شفتيه يذكر الله ولم يلتفت
يمينًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 144 - ط بيروت":
"قال عبد الرحمن العمري: قال لي مالك... "وذكره"، وفيه:
"كنقش في الحجر"، و"أن يكون كذا"، وفي "ط": "نقش".
2 في "ترتيب المدارك" "1/ 144": قال: ابن القاسم: سمعت
مالكًا يقول... "وذكره".
3 في "ترتيب المدارك" "1/ 144": "قال ابن مهدي: سمعت
مالكًا يقول... "وذكره"، وفيه: "... المسألة فأسهر فيها
عامة ليلي".
4 في "ترتيب المدارك" "1/ 144": قال ابن عبد الحكم: كان
مالك إذا... وذكره"، وفيه: ".... ويتردد فيها؛ فقلنا...
شفتيه بذكر... وكان أحمر فيصفر".
ج / 5 ص -324-
ولا
شمالا، فإذا سئل عن مسألة؛ تغير لونه -وكان أحمر- فيصفر،
وينكس رأسه ويحرك شفتيه، ثم يقول: "ما شاء الله، لا حول
ولا قوة إلا بالله"، فربما سئل عن خمسين مسألة؛ فلا يجيب
منها في واحدة، وكان يقول: من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض
نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في
الآخرة، ثم يجيب.
وقال بعضهم1: "لكأنما مالك والله إذا سئل عن مسألة؛ واقف
بين الجنة والنار".
وقال2: "ما شيء أشد علي من أن أسأل عن مسألة من الحلال
والحرام؛ لأن هذا هو القطع في حكم الله ولقد أدركت أهل
العلم والفقه ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت
أشرف عليه، ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه
والفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غدا لقللوا من هذا،
وإن عمر بن الخطاب وعليا وعامة خيار الصحابة كانت ترد
عليهم المسائل وهم خير القرن الذى بعث فيهم النبي صلى الله
عليه وسلم، وكانوا يجمعون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
ويسألون، ثم حينئذ يفتون فيها، وأهل زماننا هذا قد صار
فخرهم الفتيا؛ فبقدر ذلك يفتح لهم من العلم".
قال3: "ولم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا الذين
يُقتدى بهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 144"، وفي "د": "مسألة
والله".
2 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 144-145"، وفيه: ".... كأن
هذا هو.. وعلقمة -وهو خطأ- خيار الصحابة..... تتردد عليهم
المسائل. ويسألون حينئذ ثم.......".
3 نقله عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 145"، وفيه: "مضى ولا
من سلفنا... ويعول... أكره كذا وأحب...".
وذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1075/ رقم
2091"؛ قال: "وذكر ابن وهب وعتيق بن يعقوب أنهما سمعا مالك
بن أنس يقول.... "وذكر نحوه".
ج / 5 ص -325-
ومعول
الإسلام عليهم أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقول:
أنا أكره كذا، وأرى كذا وأما حلال وحرام؛ فهذا الافتراء
على الله، أما سمعت قول الله تعالى:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ} الآية [يونس: 59]؛ لأن الحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما
حرماه".
قال موسى بن داود1: "ما رأيت أحدا من العلماء أكثر أن
يقول: "لا أحسن" من مالك، وربما سمعته يقول: "ليس نبتلى
بهذا الأمر، ليس هذا ببلدنا"، وكان2 يقول للرجل يسأله،
اذهب حتى أنظر في أمرك، قال الراوي: فقلت: إن الفقه من
باله3 وما رفعه الله إلا بالتقوى.
وسأل4 رجل مالكا عن مسألة -وذكر أنه أرسل فيها من مسيرة
ستة أشهر من المغرب- فقال له: أخبر الذى أرسلك أنه لا علم
لي بها. قال: ومن يعلمها؟ قال: من علمه الله. وسأله رجل عن
مسألة استودعه إياها أهل المغرب؛ فقال: ما أدري ما ابتلينا
بهذه المسألة ببلدنا، ولا سمعنا أحدا من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نقله عنه عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 145"، وليس فيه:
"ليس نبتلى بهذا الأمر".
2 في "ترتيب المدارك" "1/ 145": "قال مروان بن محمد: كنت
أرى مالكًا يقول للرجل... "وذكره"، وفيه: "من بابه".
3 أي معروف عنده، ولكنه لورعه يريد التثبت، وهذا نوع من
التقوى الموجبة لرضى الله عن عبده ورفعه في أعين خلقه.
"د".
4 في "ترتيب المدراك" "1/ 145-146": "قال ابن مهدي: سأل
رجل مالكًا"... و"ذكره"، وفيه: "تكلم بها ولكن... جاءه....
بغلة يقودها...".
وأسنده إلى ابن مهدي ابنُ أبي حاتم في "مقدمة الجرح
والتعديل" "ص18"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص134"،
والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 174"، وابن عبد البر في
"جامع بيان العلم" "2/ 838/ رقم 1573":، والبيهقي في
"المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 816"، وأبو نعيم في
"الحلية" "6/ 323" بألفاظ متقاربة.
ج / 5 ص -326-
أشياخنا تكلم فيها، ولكن تعود فلما كان من الغد جاء وقد
حمل ثقله على بغله يقوده، فقال: مسألتي! فقال: ما أدري ما
هي؟ فقال الرجل: يا أبا عبد الله! تركت خلفي من يقول: ليس
على وجه الأرض أعلم منك. فقال مالك غير مستوحش: إذا رجعت
فأخبرهم أني لا أحسن". وسأله آخر1 فلم يجبه، فقال له: "يا
أبا عبد الله أجبني. فقال: ويحك، تريد أن تجعلني حجة بينك
وبين الله؟ فأحتاج أنا أولا أن أنظر كيف خلاصي ثم أخلصك".
وسئل2 عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها"
"لا أدري".
وسئل3 من العراق عن أربعين مسألة؛ فما أجاب منها إلا في
خمس.
وقد4 قال ابن عجلان: "إذا أخطأ العالم "لا أدري"؛ أصيبت
مقاتله".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 146"، وفيه: "أتريد أن..."
ونحوه في "المعرفة والتاريخ" "1/ 556"، و"الفقيه والمتفقه"
"2/ 169"، و"المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 823".
2 في ترتيب المدارك" "1/ 146": قال الهيثم بن جبيل: "شهدتُ
مالكًا سئل عن...".
3 في ترتيب المدارك" "1/ 146": "وقال خالد بن خراش: قدمت
من العراق على مالك بأربعين..."، وفيه: "... فما
أجابني...".
4 في "د" و"ف" و"ط": "وقال: قال....."، وسقطت "قال" من
"م"، والتصويب من "ترتيب المدارك" "1/ 146"، والأصل.
وأسند مقولة ابن عجلان ابنُ أبي حاتم في "مناقب الشافعي"
"ص107"، والآجري في "أخلاق العلماء" "ص134"، والحازمي في
"سلسلة الذهب" -ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر للخبر"
"1/ 22-23"- والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 172-173"،
والبيقهي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 812"، وابن
عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 840، 840 841/ رقم
1852، 1853"، وإسناده صحيح.
ونحوها عن ابن عجلان عند أبي الشيخ في "طبقات المحدثين
بأصبهان" "3/ 142"، وأبي نعيم في "أخبار أصبهان" "1/ 349".
ج / 5 ص -327-
ويروى
هذا الكلام عن ابن عباس1، وقال2: "سمعت ابن هرمز يقول:
ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول لا أدري"، وكان3 يقول في
أكثر ما يسأل عنه: "لا أدري". قال عمر بن يزيد: "فقلت
لمالك في ذلك؛ فقال: يرجع أهل الشام إلى شامهم، وأهل
العراق إلى عراقهم، وأهل مصر إلى مصرهم، ثم لعلي أرجع عما
أفتيهم4 به. قال: فأخبرت الليث بذلك؛ فبكى وقال: مالك
والله أقوى من الليث "أو نحو هذا".
وسئل5 مرة عن نيف وعشرين مسألة؛ فما أجاب منها إلا في
واحدة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه عنه الآجري في "أخلاق العلماء" "ص133"، والخطيب في
"الفقيه والمتفقه" "2/ 172"، والبيهقي في "المدخل إلى
السنن الكبرى" "رقم 813"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/
839، 840/ رقم 1580، 1581" بأسانيد منقطعة.
والمذكور من "ترتيب المدارك" "1/ 146".
2 في "ترتيب المدارك" "1/ 146": "وقال مالك: "سمعت ابن
هرمز."، وأسنده إلى ابن هرمز: الفسوي في "المعرفة
والتاريخ" "1/ 655"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/
173"، والبيهقي في "مدخل إلى السنن الكبرى" "رقم 809"،
وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 835/ رقم 1564".
3 في "ترتيب المدارك" "1/ 146": "وقال ابن وهب: كان مالك
يقول: "وذكره بتمامه".
وأسند الحميدي في "جذوة المقتبس" "2/ 485" إلى الفضل بن
دكين؛ قال: "ما رأيت أحدًا أكثر قولا "لا أدري" من مالك بن
أنس"، وفي "د": "لعلي أرجع عما أرجع..." والصواب حذف
"أرجع" الثانية.
4 في "ط": "أفتيتهم".
5 في "ترتيب المدارك" "1/ 147": قال ابن أبي أويس: سئل
مالك مرة عن نيف... "وذكره".
ج / 5 ص -328-
وربما
سئل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عشر، ويقول في
الباقي: "لا أدري".
قال أبو مصعب1: "قال لنا المغيرة: تعالوا نجتمع [ونستذكر]
كل ما بقي علينا ما نريد أن نسأل عنه مالكا. فمكثنا نجمع
ذلك، وكتبناه في قنداق2 ووجه به المغيرة إليه، وسأله
الجواب؛ فأجابه في بعضه وكتب في الكثير منه: لا أدري، فقال
المغيرة: يا قوم! لا والله ما رفع الله هذا الرجل إلا
بالتقوى من كان منكم يسأل عن هذا فيرضى أن يقول: لا
أدري؟".
[والروايات عنه في لا أدري"]3 و"لا أحسن" كثيرة؛ حتى قيل
لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول مالك "لا أدري" لفعل قبل
أن يجيب في مسألة4.
وقيل5: "إذا قلت أنت يا أبا عبد الله لا أدري؛ فمن يدري؟
قال: ويحك أعرفتني، ومن أنا، وإيش منزلتي حتى أدري ما لا
تدرون؟ ثم أخذ يحتج بحديث ابن عمر6، وقال: هذا ابن عمر
يقول "لا أدري"؛ فمن أنا؟ وإنما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكذا في "ترتيب المدارك" "14/ 147" و"ط"، وما بين
المعقوفتين منه، وفي الأصول: "نجمع"، و"ما نريد"، والتصويب
منه ومن "ط".
2 بضم القاف: صحيفة الحساب. "ف" و"م".
قلت: تصحفت في "ترتيب المدراك" إلى "قنوان"!!
3 سقط من "ط".
4 أخرجه الحميدي في "جذوة المقتبس" "2/ 485" بسنده إلى
وهب؛ قال: "ولو شئت أن أنصرف كل يوم عن مالك وألواحي
مملوءة من "لا أدري" لفعلت"، وذكره الذهبي في "السير" "8/
108".
5 في "ترتيب المدراك" "1/ 147": "وقال بعضهم: إذا قلت...
"وذكره"، وفيه: "ما عرفتني؟ وما أنا"، وفي "ط": "وقيل
له...".
6 يشير إلا سؤال الأعرابي لابن عمر: "أترث العمة؟ قال: لا
أدري. قال: أنت ابن عمر ولا تدري؟ قال: نعم، اذهب إلى
العلماء؛ فسلهم"، وأخرجه الدرامي في "السنن" "1/ 63"، وأبو
داود في "الناسخ والمنسوخ"، والذهلي في "جزئه"، وابن
مردويه في "التفسير المسند" -كما في "فتح الباري" "3/
273"، و"موافقة الخبر والخبر" "1/ 81"- والآجري في "أخلاق
العلماء" "ص131-132"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/
171-172"، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" "رقم
796"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 834-835،
835-836/ رقم 1563، 1566"، بألفاظ وأسانيد بعضها صحيح على
شرط البخاري.
ج / 5 ص -329-
أهلك
الناسَ العُجْبُ وطَلَبُ الرياسةِ، وهذا يضمحِلُّ عن
قليل".
وقال مرة أخرى1: "قد ابتلي عمر بن الخطاب بهذه الأشياء؛
فلم يجب فيها2، وقال ابن الزبير: لا أدري، وابن عمر: لا
أدري".
وسئل3 مالك عن مسألة فقال: "لا أدري. فقال له السائل: إنها
مسألة خفيفة سهلة، وإنما أردت أن أعلم بها الأمير، وكان
السائل ذا قَدر؛ فغضب مالك وقال: مسألة خفيفة سهلة! ليس في
العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى:
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]؛ فالعلم كله ثقيل، وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة".
قال بعضهم4: ما سمعت قط أكثر قولا من مالك: "لا حول ولا
قوة إلا بالله"، ولو نشاء أن ننصرف بألواحنا مملوءة بقوله:
"لا أدري
{إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]؛ لفعلنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 147".
2 وكان رضي الله عنه يجمع الشباب فيستشيرهم تارة، وأهل بدر
تارة أخرى، وأخرج الأول عنه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل"
"193" والخليلي في "الإرشاد" "1/ 309"، وابن عبد البر في
"جامع بيان العلم" "1/ 106 - ط القديمة"، وذكره عنه الذهبي
في "السير" "8/ 372-373" وأخرج الثاني والبيهقي في
"المدخل" "رقم 803".
3 في "ترتيب المدارك" "1/ 147-148": "وقال مصعب: سئل
مالك..... "وذكره"، وانظر: "الإمام مالك مفسرًا" "ص399"
لحميد الحمر، ط دار الفكر، 1415هـ.
4 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 148".
ج / 5 ص -330-
وقال1
له ابن القاسم: "ليس بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل
مصر. فقال مالك: ومن أين علموها؟ قال: منك. فقال2 مالك: ما
أعلمها [أنا]؛ فكيف يعلمونها؟!".
وقال ابن وهب3: "قال مالك: سمعت من ابن شهاب أحاديث كثيرة
ما حدثت بها قط ولا أحدث بها قال الفروي: فقلت له: لم؟
قال: ليس عليها العمل".
وقال4 رجل لمالك: إن الثوري حدثنا عنك في كذا. فقال: "إني
لأحدث في كذا وكذا حديثا ما أظهرتها بالمدينة".
وقيل5 له: عند ابن عيينة أحاديث ليست عندك. فقال: "أنا
أحدث الناس بكل ما سمعت؟! إني إذن أحمق!"، وفي رواية6:
"إني أريد أن أضلهم إذن! ولقد خرجت مني أحاديث لوددت أني
ضربت بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها، وإن كنت أجزع الناس
من السياط!".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 148"، وما بين المعقوفتين
منه، وفي الأصول: "يعلمونها بي"، والتصويب منه.
2 كذا في الأصل و"د" و"ف" و"ط"، وفي "الترتيب"و"م": "قال".
3 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 148"، و"ما رواه الأكابر"
"43"، و"الحلية" "6/ 322، و"السير" "8/ 62".
4 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 148-149"، وفيه: "إني
لأحدثك....".
5 في "ترتيب المدارك" "1/ 149": "قال الشافعي: قيل لمالك:
عند ابن عيينة..." وفيه: "إذا أحدث..".
6 وكذا في "ترتيب المدارك" "1/ 149-150"، وفيه: "أفزع
الناس"، وأسنده بنحوه من طريق القعنبي عن مالك الحميدي في
"جذوة المقتبس" "2/ 552-553" والضبي في "البغية" "ص464"،
وانظر: "نوادر ابن حزم" "1/ 56".
ج / 5 ص -331-
ولما
مات؛ وجد في تركته حديث كثير جدا لم يحدث بشيء منه في
حياته1.
وكان إذا قيل له: "ليس هذا الحديث عند غيرك" تركه، وإن قيل
له: "هذا مما2 يحتج به أهل البدع" تركه، وقيل له: إن فلانا
يحدث3 بغرائب. فقال: "من الغريب نفرّ". وكان4 إذا شك في
الحديث طرحه كله، وقال5: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب؛
فانظروا [في] رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به،
وكل ما لم يوافق ذلك فاتركوه".
وقال6: "ليس كل ما قال الرجل وإن كان فاضلا يتبع ويجعل سنة
ويذهب به إلى الأمصار، قال الله تعالى:
{فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} الآية [الزمر: 17-18].
وسئل عن مسألة أجاب فيها ثم قال مكانه: "لا أدري، إنما هو
الرأي وأنا أخطئ وأرجع، وكل ما أقول يكتب"7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر تفصيل ذلك في "ترتيب المدارك" "1/ 148، 149".
2 في "د" "ما"، وما أثبتناه من "ترتيب المدارك" "1/ 150"
والأصل و"ف" و"م" و"ط".
3 في "ترتيب المدارك" "1/ 150": "تحدثنا".
4 في "ترتيب المدراك" "1/ 150": "قال الشافعي: كان مالك
إذا شك..".
5 في ترتيب المدارك" "1/ 146-147": قال معن: سمعت مالكًا
يقول: إنما أنا بشر...."، وما بين المعقوفتين منه.
6 قال المؤلف في "الاعتصام" "2/ 362": "ذكر ابن معين عن
عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك... "وذكره"، ونحوه في
"المقدمات" لابن رشد "3/ 424 - ط دار الغرب"، وانظر:
"الإمام مالك مفسرًا" "ص341".
7 نحوه في "ترتيب المدارك" "1/ 150".
ج / 5 ص -332-
وقال
أشهب1: "ورآني أكتب جوابه في مسألة فقال: لا تكتبها؛ فإني
لا أدري أثبت عليها أم لا".
قال ابن وهب2: "سمعته يعيب كثرة الجواب من العالم حين
يُسأل، قال: وسمعته عندما يكثر عليه من السؤال يكف، ويقول:
حسبكم! من أكثر أخطأ، وكان يعيب كثرة ذلك، وقال: يتكلم
كأنه جمل مغتلم3 يقول: هو كذا هو كذا يهدر في كل شيء.
وسأله رجل عراقي عن رجل وطئ دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة،
فأفقست البيضة عنده عن فرخ: أيأكله؟ فقال مالك: سَلْ عما
يكون، ودع ما لا يكون. وسأله آخر عن نحو هذا فلم يجبه؛
فقال له: لم لا تجيبني يا أبا عبد الله! فقال4: لو سألت
عما تنتفع به أجبتك".
وقيل له5: إن قريشا تقول: إنك لا تذكر في مجلسك آباءها
وفضائلها. فقال: "إنما نتكلم فيما نرجو بركته".
قال ابن القاسم6: "كان مالك لا يكاد يجيب، وكان أصحابه
يحتالون أن يجيء رجل بالمسألة التي يحبون أن يعلموها كأنها
مسألة بلوى، فيجيب فيها".
وقال7 لابن وهب: "اتق هذا الإكثار وهذا السماع الذى لا
يستقيم أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثله في "ترتيب المدارك" "1/ 150".
2 أخرجه الدوري "فيما رواه الأكابر" "36، 53"، بنحون،
ومثله في "ترتيب المدارك" "1/ 150"/ وزاد: "يعني: الرجل
الذي يجلس لهذا".
3 [أي]: هائج. "ف" و"م".
4 في "ترتيب المدارك" "1/ 150" زيادة "له".
5 في "ترتيب المدارك" "1/ 151": "قال ابن المعدل: قيل
لمالك: إن قريشًا...".
6 مثله في "ترتيب المدراك" "1/ 151". وفي "ط": "أن
يتعلموها".
7 مثله في "ترتيب المدارك" "1/ 151"، وفيه: "اتق هذه
الآثار، وهذا السماع... فقال [له]... لأعرفه لأحَدِّث.
فقال: ما سمع... إلا تحد َّث به، وعلى ذكر القدر وسعت".
ج / 5 ص -333-
يحدث
به. فقال: إنما أسمعه لأعرفه، لا لأحدث به. فقال له: ما
يسمع إنسان شيئا إلا يحدث به، وعلى ذلك لقد سمعت من ابن
شهاب أشياء ما تحدثت بها، وأرجو أن لا أفعل ما عشت، وقد1
ندمت أن لا أكون طرحت من الحديث أكثر مما طرحت".
قال أشهب2: "رأيت في النوم قائلا يقول: لقد لزم مالك كلمة
عند فتواه لو وردت على الجبال لقلعتها، وذلك قوله: "ما شاء
الله، لا قوة إلا بالله"".
هذه جملة تدل الإنسان على من يكون من العلماء أولى بالفتيا
والتقليد له، ويتبين بالتفاوت في هذه الأوصاف الراجح من
المرجوح، ولم آتِ بها على ترجيح تقليد مالك، وإن كان أرجح3
بسبب شدة اتصافه بها، ولكن لتتخذ قانونا في سائر العلماء؛
فإنها موجودة في سائر هداة الإسلام، غير أن بعضهم أشد
اتصافا بها من بعض4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ترتيب المدارك" "1/ 151": "وروى البياضي عنه أنه
قال: لقد ندمت أن لا أكون طرحت أكثر مما طرحت من الحديث".
وفي "ط": "وقال: لقد...".
2 مثله في "ترتيب المدارك" "1/ 151"، وفيه: "لو ورد عليه
الجبال"، وفي "ط" و"ف" و"م": "وردت عليه"، وعلَّقا: "لعل
"أصل" هذه العبارة: "لو وردت على الجبال لقلعتها"".
3 انظر رجحان مذهب أهل المدينة في "مجموع الفتاوى" "10/
260 و20/ 294-320 و333-396"، وانظر منه: "20/ 320-348"
تعظيم الناس لمالك.
4 في "ط": "من البعض".
ج / 5 ص -334-
المسألة الثامنة:
يسقط عن المستفتي1 التكليف بالعمل عند فقد المفتي، إذا لم
يكن له به علم لا من جهة اجتهاد معتبر، ولا من تقليد،
والدليل على ذلك أمور:
أحدها: أنه إذا كان المجتهد يسقط عنه التكليف عند تعارض
الأدلة عليه على الصحيح -حسبما تبين في موضعه من الأصول-
فالمقلد عند فقد العلم بالعمل رأسا أحق وأولى.
والثاني: أن حقيقة هذه المسألة راجعة إلى العمل قبل تعلق
الخطاب، والأصل في الأعمال قبل ورود الشرائع سقوط التكليف؛
إذ لا حكم عليه قبل العلم بالحكم؛ إذ شرط التكليف عند
الأصوليين العلم بالمكلف به، وهذا غير عالم [به] بالفرض؛
فلا ينتهض سببه على حال.
والثالث: أنه لو كان مكلفا بالعمل؛ لكان من تكليف ما لا
يطاق؛ إذ هو مكلف بما لا يعلم، ولا سبيل له إلى الوصول
إليه، فلو كلف به لكلف بما لا يقدر على الامتثال فيه، وهو
عين المحال؛ إما عقلًا وإما شرعًا، والمسألة بيِّنَة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من هو بصدد الاستفتاء، وهو من عرضت له مسألة دينية
وليس من أهل الاجتهاد. "د".
قلت: قال إمام الحرمين في "الغياثي" "ص431" في مثل اختيار
المصنف: "وهذا زَلَل ظاهر"، ثم أسهب في بيان أن هذه
المسألة "تنزل منزلة التباس الأحوال في الطهارة والنجاسة
مع وجود العلماء"، ثم قال "ص442": "فقصارى القول فيه
اعتبار شك بشك، وبناء على الأمر على تغليب ما قضى الشارع
بتغليبه"، ثم قال "ص481": "ويتحصل من مجموع ما نفينا
وأثبتنا أن الناس يأخذون ما لو تركوه لتضرروا في الحال أو
في المآل، والضرار الذي ذكرناه في أدراج الكلام عنينا به
ما يُتوقع منه فساد البنية، أو ضعف يصد عن التصرف، والتقلب
في أمور المعاش"، ثم فصل ذلك في سائر الأبواب، وقرر أشياء
نفيسة وقواعد كلية مليحة، وصرح في "ص521" أنه ألف الكتاب
عند تخليه انحلال الشريعة، وانقراض حملتها، ورغبة الناس عن
طلبها.
ج / 5 ص -335-
فصل:
ويتصور في
هذا العمل أمران:
أحدهما: فقد1 العلم به أصلًا؛ فهو كمن لم يرد عليه تكليف
البتة.
والثاني: فقد العلم لوصفه دون أصله كالعالم بالطهارة أو
الصلاة2 أو الزكاة على الجملة، لكنه لا يعلم كثيرا من
تفاصيلها وتقييداتها وأحكام العوارض فيها، كالسهو وشبهه؛
فيطرأ عليه فيها ما لا علم له بوجه العمل به، وكلا الوجهين
يتعلق به أحكام بحسب الوقائع لا يمكن استيفاء الكلام فيها،
وكتب الفروع أخص3 بها من هذا الموضع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كمن يسمع أن التهجد مطلوب ولكن لا يدري ما هو، أو يسمع
أن العمرة مطلوبة ولا يعرفها؛ من أي نوع من العبادات؟ لا
أنه لم يُروَ إليه حتى اسم العمل المطلوب؛ لأنه حينئذ لا
يتحقق فيه أنه مستفتٍ هذا، ومغايرته لما بعده ظاهرة، وما
يسقط عنه في أصل العلم، وما يسقط عنه في الثاني الوصف الذي
لم يتيسر له طريق معرفته. "د".
2 في "ط": "أو بالصلاة".
3 فمنها يُعلم ما رتب على هذه ا لمسألة مما يسقط عنه وما
لا يسقط بعد حصول العلم به. "د".
ج / 5 ص -336-
المسألة التاسعة:
فتاوى
المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة1 الشرعية بالنسبة
إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قائمة مقامها، فكما أن المجتهدين ملزمون باتباع
الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة... إلخ، فكذلك المقلدون
ليس لهم أهلية الاجتهاد يلزمهم اتباع قول المجتهدين والأخذ
بفتواهم؛ كما قال الآمدي في "الأحكام" "4/ 306 وما بعد"
واستدل عليه بالنص والإجماع والمعقول؛ فالنص الآية التي
استدل بها المؤلف والإجماع السكوتي على ذلك المعقول، وهو
أن من لم يكن عنده أهلية الاجتهاد إذا حدثت به حادثة
فرعية؛ فإما ألا يكون متعبدًا بشيء أصلًا، وهو خلاف
الإجماع، وإن كان متعبدًا بشيء؛ فإما بالنظر في الدليل
المثبت للحكم، أو بالتقليد، والأول ممتنع؛ لأن ذلك مما
يفضي في حقه وحق الخلق أو أجمع إلى النظر في أدلة الحوادث
والاشتغال عن المعايش، وتعطيل الحرف والصناعات، وخراب
الدنيا بتعطيل الحرث والنسل، ورفع التقليد رأسًا، وهو
منتهى الحرج والإضرار المطلوب رفعهما؛ فلم يبقَ إلا
التقليد، وأنه هو المتعبد به عند ذلك الفرض، هذا هو ما
يريد المؤلف تقريره، وهو بعينه الذي يوافق المسألة قبله من
سقوط التكليف عن المستفتي والمقلد إذا لم يجد المفتي، فهذا
لا يكون إلا إذا كانت أقوال المجتهدين كأقوال الرسل، من
جهة وجوب اتباعها والتزام العمل بها، وأنها كخطاب الله
الوارد على لسان الرسل بالنسبة للعوام، ولا معنى لكونها
حجة على الناس إلا ذلك، وسبق للآمدي في تعريف التقليد ما
صرح فيه بوجوب أخذ العامي بقول المفتي، حتى قال: "إنه حجة
ملزمة كالأخذ بالإجماع وبقول الرسول عليه السلام"، وأما
كون ذلك حجة لذاته، أو ليس لذاته، وكذا كون الأدلة الشرعية
للمجتهدين حجة لذاتها أو للمعجزة؛ فهذا أمر آخر وبحث آخر،
لا يخص موضوع المسألة. "د".
وكتب "ف" -وتبعه "م"- ما نصه: "لا لأن أقوالهم حجة على
الناس في ذاتها كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ فإن
ذلك لا يقول به أحد، بل لأنه -لعدالتهم، وسعة اضطلاعهم،
واستقامة أفهامهم، وعنايتهم بضبط الشرعية وحفظ نصوصها- لا
بد أن تستند أقوالهم إلى مأخذ شرعي عام أو خاص وإن يذكروه
لمن يستفتيهم في النوازل، فإن ذلك غير لازم؛ فقد كان
المجتهدون من الصحابة والتابعين يفتون العامة من غير إبداء
المستند، ويُتَّبَعون* في ذلك من غير نكير، وشاع ذلك بينهم
حتى تَوَاتَر".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "م": "والناس يتبعونهم في ذلك".
ج / 5 ص -337-
المجتهدين.
والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها
سواء؛ إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئا؛ فليس النظر في
الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولا يجوز ذلك لهم البتة وقد
قال تعالى:
{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
والمقلد غير عالم؛ فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم
مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق، فهم إذن القائمون له
مقام الشارع، وأقوالهم قائمة مقام [أقوال] الشارع.
وأيضًا؛ فإنه إذا كان فقد المفتي1 يسقط2 التكليف فذلك
مساوٍ لعدم الدليل؛ إذ لا تكليف إلا بدليل، فإذا لم يوجد
دليل على العمل سقط التكليف به؛ فكذلك إذا لم يوجد مفتٍ في
العمل؛ فهو غير مكلف به، فثبت أن قول المجتهد دليل العامي،
والله أعلم.
ويتعلق3 بكتاب الاجتهاد نظران:
أحدهما: في تعارض الأدلة على المجتهد، وترجيح بعضها على
بعض.
والآخر: في أحكام السؤال والجواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ط: "عدم المفتي".
2 في "ط": "بسقوط".
3 لعل هنا كلمة "فصل" محذوفة. "ف". |