الموافقات

ج / 5 ص -253-       المسألة الأولى:
المفتي قائم1 في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم.
والدليل على ذلك أمور:
أحدها: النقل الشرعي في الحديث:
"إن العلماء ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم"2.
وفي "الصحيح":
"بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت؛ حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب". قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: "العلم"3. وهو في معنى الميراث.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القيام مقامه صلى الله عليه وسلم بجملة أمور، منها: الوراثة في علم الشريعة بوجه عام، ومنها إبلاغها الناس، وتعليمها للجاهل بها، والإنذار بها كذلك، ومنها بذل الوسع في استنباط الأحكام في مواطن الاستنباط المعروفة، فكل مرتبة من هذه المراتب أعلى مما قبلها، فالمرتبة الأولى استدل عليها بحديثين وبمجموع الآيتين؛ فصدر الآية الثانية يفيد وراثة العلم، وعجز الثانية مع الأولى يفيدان الوراثة بوجه عام، والوراثة في النذارة بوجه خاص ولو أخرهما إلى الرتبة الثانية؛ ليستدل بهما عليها كان أجود، والرتبة الثانية استدل عليها بالأحاديث الثلاثة، والثالثة أدلتها هي عين أدلة الاجتهاد، ومطالبة من بلغ ربتبته بالقيام به مضافة إلى دليل أنه صلى الله عليه وسلم له الاجتهاد، وهذه الرتبة للمفتي أهم الرتب الثلاثة في القيام مقامه والخلافة عنه صلى الله عليه وسلم كما سيقول المؤلف، وبهذا التقرير يتضح كلامه؛ فليست الأمور الثلاثة دليلًا على نوع واحد، بل المستدل عليه أنواع ثلاثة كلها داخلة تحت الخلافة عنه، وأدلتها أيضًا مختلفة بحسبها. "د".
قلت: أسهب ابن القيم في بيان أن المفتي في الأمة قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في "إعلام الموقعين"، ونقل القاسمي في "الفتوى في الإسلام" ص49-54" كلام المصنف هذا، وانظر: "المعتمد" "1/ 338"، و"أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "1/ 94"، و"الفتيا ومناهج الإفتاء" "ص119"، وكلاهما للشيخ محمد الأشقر.
2 مضى تخريجه "4/ 76".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التعبير، باب اللبن 12/ 393/ رقم 7006، وباب إذا جرى اللبن في أطرافه أو أظافره 12/ 394/ رقم 7007، وباب إذا أعطى فضله غيره في النوم 12/ 417/ رقم 7027، وباب القدح في النوم 12/ 420/ رقم 7032، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه" "4/ 1859-1860/ رقم 2391" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

 

ج / 5 ص -254-       وبُعث النبي صلى الله عليه وسلم نذيرا؛ لقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هود: 12].
وقال في العلماء:
{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} الآية [التوبة: 122]، وأشباه ذلك.
والثاني: أنه نائب عنه في تبليغ الأحكام؛ لقوله:
"ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب"1.
وقال:
"بلغوا عني ولو آية"2.
وقال:
"تسمعون ويُسمَع منكم، ويُسمَع ممن يَسمَع منكم"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في صحيحه "كتاب العلم، باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب" "1/ 199/ رقم 105"، "وكتاب المغازي، باب حجة الوداع 8/ 108/ رقم 4406"، "وكتاب الأضاحي، باب من قال: الأضحى يوم النحر 10/ 7-8/ رقم 5550"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال 3/ 1305-1306/ رقم 1679" عن أبي بكرة رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل 6/ 496/ رقم 3461" وغيره عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
3 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب العلم، باب فضل نشر العلم 3/ 321-322/ رقم 3659" ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" "6/ 539"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "1/ 292/ رقم 203" ومن طريقه ابن خير في "الفهرست" "10، 12-13" وأحمد في "المسند" "1/ 321"، وابن حبان في "الصحيح" "1/ 263/ رقم 62 - الإحسان، ورقم 77 - =

 

ج / 5 ص -255-       وإذا كان كذلك؛ فهو معنى كونه قائما مقام النبي.
والثالث: أن المفتي شارع من وجه؛ لأن ما يبلغه من الشريعة؛ إما منقول عن صاحبها، وإما مستنبط من المنقول؛ فالأول يكون فيه مبلغًا، والثاني يكون فيه قائما مقامه في إنشاء الأحكام، وإنشاءُ الأحكام إنما هو للشارع1، فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده؛ فهو من هذا الوجه شارع، واجب اتباعه2 والعمل على وفق ما قاله، وهذه هي الخلافة على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= موراد"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 95"، والرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "92"، والرازي في "مشيخته" "رقم 5"، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" "70"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 250"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1012-1013/ رقم 1932" عن ابن عباس، وإسناده حسن.
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ليس له علة".
"قلت: فيه أبو جعفر الرازي عبد الله بن عبد الله، لم يخرج له الشيخان، قال النسائي: "ليس به بأس"، ووثقه ابن حبان؛ فقال عقب حديثه: "ثقة كوفي"، ولم يضعفه أحد، قاله العلائي في "جامع التحصيل" "ص50-51"، وزاد: "والحديث حسن، وقد صححه الحاكم في "المستدرك"، وفي كلام إسحاق بن راهويه ما يقتضي تصحيحه أيضًا".
وللحديث شاهد عن ثابت بن قيس أخرجه البزار في "مسنده" "146 - زوائده"، والطبراني في "الكبير" "2/ 71/ رقم 1321"، والرامهرمزي في "المحدث الفاصل" "ص91"، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" "ص37-38"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 1012/ رقم 1931".
ورجاله ثقات؛ إلا أن انقطاعًا فيه؛ عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من ثابت، أفاده الهيثمي في "مجمع الزوائد" "1/ 137".
1 أي: بالوحي أو الاجتهاد على القول به له صلى الله عليه وسلم. "د".
2 في هذا نظر؛ فالمفتي ليس شارعًا، وليس واجب الاتباع؛ لأنه مفتٍ، وإلا للزم الناس فتاوى المجتهدين جميعًا على اختلافها وتناقضها، ويتأيد ذلك بما أخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 654" بعد "257" وغيره عن ابن مسعود قوله: "إن الله شرع لنبيكم سنن الهدى"، وقال تعالى: =

 

ج / 5 ص -256-       التحقيق1، بل القسم الذى هو فيه مبلغ لا بد من نظره فيه من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعية، ومن جهة تحقيق مناطها وتنزيلها على الأحكام، وكلا الأمرين راجع إليه فيها؛ فقد قام مقام الشارع أيضا في هذا المعنى، وقد2 جاء في الحديث: "أن من قرأ القرآن؛ فقد أدرجت النبوة بين جنبيه"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}، وترى في لفظ "المشروع" بحثًا مطولًا في كتاب "التطور التشريعي في المملكة العربية السعودية" "ص32-36"، ولكل من الشيخ عبد العال عطوة والشيخ عبدا لستار فتح الله سعيد في كتابه "المنهاج القرآني في التشريع" "ص300-302" اعتراضات على مؤلف الكتاب في تجويزه هذا الإطلاق.
وانظر: الفروق" "4/ 53-54"، و"نظرات في اللغة" "ص106" للغلاييني، و"معجم المناهي اللفظية" "ص303-305 - ط الأولى" للشيخ بكر أبو يزيد، والتعليق على "الفتوى في الإسلام" "ص53" للقاسمي، و"تغيُّر الفتوى" "ص57-58" لبازمول.
1 أفاد الشيخ القاسمي في كتابه "الفتوى في الإسلام" "ص53 - الهامش" أن المصنف يشير إلى حديث: "اللهم ارحم خلفائي".
قلت: الحديث ضعيف باطل، ومضى تخريج نحوه بإسهاب.
2 يصلح أن يكون دليلًا للرتب الثلاثة. "د".
3 أخرجه محمد بن نصر المروزي في "قيام الليل" "ص159"، وأبو عبيد "ص53"، وابن الضريس "65"، وأبو الفضل الرازي "51"، كلهم في "فضائل القرآن"، والشجري في "الأمالي" "1/ 92"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 531"، والخطيب في "تاريخه" "9/ 396" من طريق إسماعيل بن رافع عن إسماعيل بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا.
وإسناده ضعيف جدًّا؛ إسماعيل بن رافع متروك.
وأخرجه ابن الانباري في "إيضاح الوقف والابتداء" "1/ 11-12"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 187-188"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 440-441"، وأبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن" "رقم 50"، والخطيب في "تاريخ بغداد" "13/ 446"، والشجري في "الأمالي" "1/ 85"، والبيهقي في "الشعب" "4/ 557-558" و"5/ 530"، وابن الجوزي في "الموضوعات" "1/ 252-253"، و"الحدائق" "1/ 501" من طريق بشر بن نمير عن القاسم =

 

ج / 5 ص -257-       وعلى الجملة؛ فالمفتي مخبِرٌ عن الله كالنبي، ومُوقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي، ونافذ أمره في الأمة بمنشور1 الخلافة كالنبي، ولذلك سُمُّوا أولى الأمر، وقُرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
والأدلة على هذا المعنى كثيرة.
فإذا ثبت هذا انبنى عليه معنى آخر وهو:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ابن عبد الرحمن عن أبي أمامة مرفوعًا: "من قرأ ثلث القرآن أعطى ثلث النبوة.... ومن قرأ القرآن كله أعطي النبوة كلها".
وإسناده هالك، بشر بن نمير مُتهم.
وأخرجه الأجُرِّي في "أخلاق حملة القرآن" "رقم 14"، ومن طريقه أبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن" "رقم 49"، من طريق مسلمة بن علي الخشني عن زيد بن واقد عن مكحول عن أبي أمامة رفعه: "من قرأ ربع القرآن؛ فقد أوتي ربع النبوة..... ومن قرأ القرآن؛ فقد أوتي النبوة؛ غير أنه لا يوحى له"، وإسناده ضعيف جدًّا؛ مسلمة بن على متروك الحديث، ومكحول لم يسمع من أبي أمامة.
وقد صح موقوفا بنحو اللفظ الذي أورده المصنف عن عبد الله بن عمرو قوله، ومضى تخريجه "4/ 189".
1 أقرب معاني "المنشور" هنا ما كان غير مختوم من كتب السلطان، وذلك هو ما أشار إليه سابقًا من الآيات والأحاديث الدالة على خلافة العلماء عنه صلى الله عليه وسلم. "د".

 

ج / 5 ص -258-       المسألة الثانية:
وذلك أن الفتوى من المفتي تحصل من جهة القول، والفعل والإقرار؛ فأما الفتوى بالقول؛ فهو الأمر المشهور ولا كلام فيه.
وأما بالفعل؛ فمن وجهين:
أحدهما: ما يقصد به الإفهام في معهود1 الاستعمال؛ فهو قائم مقام القول المصرح به كقوله عليه الصلاة والسلام:
"الشهر هكذا وهكذا وهكذا"2 وأشار بيديه.
وسئل عليه الصلاة والسلام في حجته؛ فقال3:
"ذبحتُ قبل أن أرمي" فأومأ بيده؛ قال: "ولا حرج"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في عرف المفتي والمستفتي؛ فرب إشارات يختلف استعمالها عند الأمم والطوائف. "د".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الطلاق، باب اللعان 9/ 439/ رقم 5302" عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:
"الشهر هكذا وهكذا " يعني ثلاثين"، ثم قال: "وهكذا وهكذا "يعنى تسعًا وعشرين". يقول مرة ثلاثين، ومرة تسعًا وعشرين.
أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال 2/ 761/ رقم 1080 بعد 15" عن ابن عمر، وفيه:
"الشهر هكذا وهكذا وهكذا" -وعقد الإبهام في الثالثة- "والشهر هكذا وهكذا وهكذا" -يعني: تمام الثلاثين.
وأخرجه بألفاظ كثيرة، وكذا أخرجه البخاري بنحوه في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"إذا رأيتم الهلال فصوموا" 4/ 119/ رقم 1908، وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكتب ولا نحسب" 4/ 126/ رقم 1913"، وأوله في بعض طرقه: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب".
3 أي: فقال السائل في سؤاله. "م".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب من أجاب الفتيا بإشارة

 

ج / 5 ص -259-       وقال: "يقبض العلم، ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج". قيل: يا رسول الله! وما الهرج؟ فقال هكذا بيده؛ فحرفها؛ كأنه يريد القتل1.
وحديث عائشة في صلاة الكسوف حين أشارت إلى السماء، قلت: آية؟ فأشارت برأسها أي نعم2.
وحين سُئِلَ عليه الصلاة والسلام عن أوقات الصلوات قال للسائل:
"صل معنا3 هذين اليومين". ثم صلى، ثم قال له: "الوقت ما بين هذين"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والرأس 1/ 181/ رقم 84".
ومضى تخريجه "4/ 100" دون لفظة الإيماء باليد وهو في ستة مواطن أخرى من "صحيح البخاري" "الأرقام: 1721، 1722، 1723، 1734، 6666"، و"صحيح مسلم" "رقم 1306" دونها والمثبت:
"ولا حرج" من "صحيح البخاري"، وفي الأصول: "لا" من غير واو.
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس 1/ 182/ رقم 85"، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن حجر في "الفتح" "1/ 182" معلقًا على: "فحرفها، كأنه يريد القتل": "كأن ذلك فهم من تحريف اليد وحركتها كالضارب، لكن هذه الزيادة لم أرها في معظم الروايات؛ وكأنها من تفسير الراوي عن حنظلة؛ فإن أبا عوانة رواه عن عباس الدروي عن أبي عاصم عن حنظلة، وقال في آخره: "وأرانا أبو عاصم كأنه يضرب عنق الإنسان".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الكسوف، باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف 2/ 543/ رقم 1053" عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها؛ قالت: أتيت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم-حين خسفت الشمس- فإذا الناس قيام يصلون، وإذا هي قائمة تصلي؛ فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها إلى السماء، وقالت: سبحان الله! فقلت: آية. فأشارت؛ أي نعم...".
وأخرجه أيضًا مسلم في "صحيحه" "كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار 2/ 624/ رقم 905"، ومالك في الموطأ" "1/ 188-189".
3 لو اكتفى صلى الله عليه وسلم بصلاته معهم هذين اليومين، وفهم الصحابي منها الغرض؛ لكان مما نحن فيه، أما وقد قال له: "الوقت..... إلخ"، والإفتاء بهذا القول لا بمجرد الفعل الذي إنما حصل مساعدًا على إيجاز الإفتاء القولي، نعم، له دخل في قوة البيان، ولكن الفتوى قولية، انبنى على الفعل وضوحها وإيجازها، وقد يقال: إنها مركبة من الفعل والقول. "د".
4 مضى تخريجه "3/ 156".

 

ج / 5 ص -260-       أو كما قال، وهو كثير جدًا.
والثاني: ما يقتضيه كونه أسوة يقتدى به، ومبعوثا لذلك قصدًا، وأصله2 قول الله تعالى:
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية [الأحزاب: 37].
وقال قبل ذلك:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَة} الآية [الأحزاب: 21].
وقال في إبراهيم:
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيم} [الممتحنة: 4] إلى آخر القصة3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كحديث الأنصاري الذي شكا عدم الحفظ؛ فقال له: "استعن بيمينك"* وأومأ بيده إلى الخط، وقد يقال أيضًا: إنها مركبة منهما، وسيأتي في المسألة بعد هذه أنه لما سأله الرجل عن أمر؛ قال:
"إني أفعله...". "د".
2 أي: الدليل القولي العام للاقتداء بأفعاله صلى الله عليه وسلم. "د".
3 والكلام وإن كان في الفعل وباقي القصة قول؛ إلا أن قول إبراهيم والذين معه لقومهم.... إلخ يعد فعلًا في هذا المقام، كما سبق في القول التكليفي، وهو الذي لا يؤتى به أمرًا ولا نهيًا ولا أخبارًا عن حكم شرعي، بل يؤتى به كما يؤتى بالأفعال، وبيانه في المسألة السادسة من السنة. "د".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء في الرخصة فيه" "أي: كتابة العلم" 5/ 39/ رقم 2666" عن أبي هريرة، والحديث ضعيف؛ قال الترمذي عقبه: "هذا حديث إسناده ليس بذلك القائم، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: الخليل بن مرة منكر الحديث".

 

ج / 5 ص -261-       والتأسي: إيقاع الفعل على الوجه الذى فعله، وشَرْعُ مَن قبلَنا شَرْعٌ لنا1.
وقال عليه الصلاة والسلام لأم سلمة:
"ألا أخبرتيه أني أُقَبِّل وأنا صائم"2.
وقال:
"صلوا كما رأيتموني أُصَلِّي" و: "خذوا عني مناسككم"4.
وحديث5 ابن عمر وغيره في الإقتداء بأفعاله أشهر من أن يخفى، ولذلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الآية فيها التصريح بطلب القدوة بإبراهيم؛ فلا يحتاج للبناء على هذه القاعدة. "د".
2 رواية مالك:
"ألا أخبرتها"، والضمير يعود على السائلة، وقد تقدمت هذه الرواية، ورواية مسلم وإن لم يكن فيها جملة: "ألا أخبرتيه"؛ إلا أن الضمير عائد إلى عمر بن أبي سلمة ابنها، فيصح لو وجدت جملة: "ألا أخبرتيه"... إلخ أن يكون الضمير مذكرًا؛ لأنه يعود إلى عمر ابنها. "د".
قلت: مضى تخريجه "4/ 74".
3 مضى تخريجه "3/ 245".
4 مضى تخريجه "3/ 246".
5 ورد ذلك في أحاديث كثيرة، أقتصِر على واحد منها جُمع فيه أربع خصال:
أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين في النعلين ولا يمسح على النعلين 1/ 267-268/ رقم 166"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة 2/ 844-845/ رقم 1187" عن عبيد بن جريج قال لعبد الله بن عمر: "يا أبا عبد الرحمن! رأيتك تصنع أربعًا لم أر أحدًا من أصحابك يصنعها. قال: وما هي يا ابن جريج؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت حتى كان يوم التروية، قال عبد الله: أما الأركان؛ فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين، وأما النعال السبتية؛ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعل التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها؛ فأنا أحب أن ألبسها، وأما الصفرة؛ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها؛ فأنا أحب أن أصبغ بها، وأما الإهلال؛ فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته". لفظ البخاري، وانظر: "تحفة الأشراف" "6/ 6/ رقم 7316".

 

ج / 5 ص -262-       جعل الأصوليون أفعاله في بيان الأحكام كأقواله.
وإذا كان كذلك، وثبت للمفتي أنه قائم مقام النبي ونائب منابه؛ لزم من ذلك أن أفعاله محل للاقتداء أيضًا، فما قصد بها البيان والإعلام؛ فظاهر، وما لم يقصد به ذلك؛ فالحكم فيه كذلك أيضا من وجهين:
أحدهما: أنه وارث، وقد كان المورث [قدوة]1 بقوله وفعله مطلقًا2؛ فكذلك3 الوارث، وإلا لم يكن وارثًا على الحقيقة؛ فلا بد من أن تنتصب أفعاله مقتدى بها كما انتصبت أقواله.
والثاني: أن التأسي بالأفعال -بالنسبة إلى من يُعظَّم في الناس- سر مبثوث في طباع4 البشر، لا يقدرون على الانفكاك عنه بوجه ولا بحال، لا سيما عند الاعتياد والتكرار، وإذا صادف محبة وميلا إلى المتأسى به، ومتى وجدت5 التأسي بمن هذا شأنه مفقودا في بعض الناس؛ فاعلم أنه إنما ترك لتأسٍ آخر، وقد ظهر ذلك6 في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في محلين:
أحدهما: حين دعاهم عليه الصلاة والسلام [إلى الخروج] من الكفر إلى الإيمان، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الله؛ فكان من آكد متمسكاتهم التأسي بالآباء7؛ كقوله:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط في "ف" و"م".
وفي "ماء": "الموروث مقتدى"، وفي "ط": "الموروث يقتدى".
2 أي: سواء أقصد به البيان أم لم يقصد. "د".
3 ولعل أصل العبارة: مطلقًا كذلك فكذلك. إلخ. "ف".
4 وهل يكفي هذا لأن يكون دليلًا شرعيًا على شرعية التأسي بالمفتي ولو لم يقصد البيان؟ "د".
5 في "م": "وجد".
6 أي: ترك التأسي لتأسٍ آخر. "د".
7 فصل المصنف الكلام على هذا في كتابه "الاعتصام" "2/ 688-690 - ط ابن =

 

ج / 5 ص -263-       [لقمان: 21] وما أشبهه من الآيات.
وقالوا:
{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب} [ص: 5].
ثم كرر عليهم التحذير من ذلك؛ فكانوا عاكفين على ما عليه آباؤهم، إلى أن نوصبوا بالحرب1 وهم راضون بذلك؛ حتى كان من جملة ما دُعوا به التأسي بأبيهم إبراهيم، وأضيفت الملة المحمدية إليه؛ فقال تعالى:
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيم} [الحج: 78]؛ فكان ذلك بابا للدعاء إلى التأسي بأكبر آبائهم عندهم، وبيَّن لهم مع ذلك ما في الإسلام من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم التي كانت آباؤهم تستحسنها وتعمل بكثير منها؛ فكان التأسي داعيا إلى الخروج عن التأسي، وهو من أبلغ ما دعوا به من2 جهة التلطف بالرفق ومقتضى الحكمة، وبذلك جاء في القرآن بعد قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123].
وقوله3:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة} [النحل: 125].
فكان هذا الوجه من التلطف في الدعاء إلى الله نوعا من الحكمة التي كان عليه الصلاة والسلام يدعو بها.
وأيضًا؛ فإن ما ذكر في القرآن من مكارم الأخلاق كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصدق الفعلُ القولَ بالنسبة إليهم، فكان ذلك مما دعا إلى اتِّباعه والتأسي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عفان في السبب الثالث من أسباب الخلاف "التصحيح على اتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق"، من الباب التاسع "في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين". وانظر: "الأمر بالمعروف" لابن تيمية "ص46-47 - ط المكتبة القيمة".
1 في "م": "الحرب"، وفي "ط": "نصبوا الحرب".
2 في "ط": "في".
3 في "ط" بدون "واو" على أنها فاعل "جاء"، وقال "د": "لعل الواو زائدة".

 

ج / 5 ص -264-       به1؛ فانقادوا ورجعوا إلى الحق.
والمحل الثاني: حين دخلوا في الإسلام وعرفوا الحق، وتسابقوا إلى الانقياد لأوامر النبي عليه الصلاة والسلام ونواهيه، فربما أمرهم بالأمر وأرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم؛ فتوجهوا إلى ما يفعل ترجيحا له على ما يقول، وقضيته عليه الصلاة والسلام معهم في توقفهم عن الإحلال بعد ما أمرهم؛ حتى قال لأم سلمة:
"أما ترين أن قومك أمرتهم فلا يأتمرون؟". فقالت: اذبح واحلق. ففعل النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعوه2. ونهاهم عن الوصال؛ فلم ينتهوا واحتجوا بأنه يواصل؛ فقال: "إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني"3، ولما تابعوا في الوصال واصل بهم حتى يعجزوا، وقال: "لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم"4.
وسافر بهم في رمضان وأمرهم بالإفطار وكان هو صائما؛ فتوقفوا أو توقف بعضهم حتى أفطر هو فأفطروا5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهل هذا المحل خالٍ من قصد البيان حتى يكون دليلًا على قوله: "وما لم يقصد.... إلخ"؟ نعم، في المحل الثاني الذي فيه أنه كان يفعل من التشديد على نفسه في العبادة غير ما يطلبه منهم؛ كمسألة الوصال وغيرها، لم يكن يقصد بالفعل البيان؛ لأنه خاص به. "د".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد 5/ 329-333/ رقم 2731، 2732"، وأحمد في "المسند" "4/ 326"، والبيهقي في "الدلائل" "4/ 150" عن المسور بن مخرمة، وهو جزء من حديث طويل في عمرة الحديبية، وانظر: "مرويات غزوة الحديبية" "ص225-234"، و"المحقق عن علم الأصول" "ص147" و"4/ 87".
3 مضى تخريجه "2/ 239".
4 مضى تخريجه "1/ 526"، وفي "ط": "لا يدع"، والصواب حذف "لا".
5 مضى لفظه وتخريجه "4/ 87-88".

 

ج / 5 ص -265-       وكانوا يبحثون عن أفعاله1 كما يبحثون عن أقواله، وهذا من أشد المواضع على العالم المنتصب، وقد تقدم له بيان آخر في باب البيان؛ لكن على وجه آخر، والمعنى في الموضعين واحد.
ولعل قائلا يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصومًا، فكان عمله للاقتداء محلا بلا إشكال بخلاف غيره؛ فإنه محل للخطأ والنسيان والمعصية والكفر فضلا عن الإيمان، فأفعاله لا يوثق بها؛ فلا تكون مقتدى بها.
فالجواب: أنه إن اعتبر هذا الاحتمال في نصب أفعاله حجة للمستفتي؛ فليعتبر مثله في نصب أقواله، فإنه يمكن فيها الخطأ والنسيان والكذب عمدا وسهوا؛ لأنه ليس بمعصوم، ولما لم يكن ذلك معتبرا في الأقوال؛ لم يكن2 معتبرًا في الأفعال، ولأجل هذا تستعظم شرعا زلة العالم كما تبين في هذا الكتاب وفي باب البيان؛ فحق3 على المفتي أن ينتصب للفتوى بفعله وقوله، بمعنى أنه لا بد له من المحافظة على أفعاله حتى تجري على قانون الشرع؛ ليتخذ فيها أسوة.
وأما الإقرار؛ فراجع [في المعنى] إلى الفعل؛ لأن الكف فعل، وكف المفتي عن الإنكار إذا رأى فعلا من الأفعال كتصريحه بجوازه، وقد أثبت الأصوليون ذلك دليلا شرعيا بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكذلك يكون بالنسبة إلى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وصنفوا في حجيتها وأحكامها كتبًا ورسائل، منها: "المحقق من علم الأصول" لأبي شامة "ت665هـ"، و"تفصيل الإجمال" للعلائي، و"أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام" لمحمد العروسي عبد القادر، و"أفعال الرسول" لمحمد الاشقر، وهو أوعبها وأحسنها.
2 الفرق واضح بين الأقوال والأفعال بالوجدان والمشاهدة؛ فكثير من المنتصبين يزنون الفتوى القولية وزنًا تامًا، مع أن أفعالهم يكون فيها كثير من مخالفة ما يفتون الناس به؛ ترخصًا لأنفسهم، لا سيما في باب المكارم والمطلوبات على غير الوجوب، والمنهيات على غير الحرمة. "د".
3 الحق والمطالبة به شيء، واتخاذ حجة شرعية شيء آخر. "د".

 

ج / 5 ص -266-       المنتصب بالفتوى، وما تقدم من الأدلة في الفتوى الفعلية جارٍ هنا بلا إشكال، ومن هنا ثابر1 السلف على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر2، ولم يبالوا في ذلك بما ينشأ عنه من عود المضرات عليهم بالقتل فما دونه، ومن أخذ بالرخصة3 في ترك الإنكار فر بدينه واستخفى بنفسه، ما لم يكن ذلك سببا للإخلال بما هو أعظم من ترك الإنكار؛ فإن ارتكاب خير الشرين أولى من ارتكاب شرهما4، وهو راجع في الحقيقة إلى إعمال القاعدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمراتب الثلاث في هذا الوجه مذكورة شواهدها في مواضعها من الكتب المصنفة فيه5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فلم يكفوا عن الإنكار، حتى لا يكونوا كالمصرحين بجواز المنكر. "د".
2 انظر قصتين ماتعتين للسلف في الأمر بالمعروف في "الطبقات الكبرى" "5/ 137" لابن سعد، و"الإحكام" "4/ 163-164" لابن حزم. وفي "ط": "السلف الصالح".
3 أي: فاعتزل الخلق حتى لا يترتب على إنكاره أذى شديد يصيبه، وقوله: "المراتب الثلاث"؛ أي: التغيير باليد واللسان والقلب. "د".
4 انظر عنها: "الأمر بالمعروف" "ص22 - ط المكتبة القيمة" لابن يتيمة، و"إعلام الموقعين" "2/ 7" و"3/ 291"، و"مفتاح دار السعادة" "ص341، 348"، و"روضة المحبين" "ص132"، و"الداء والدواء" "ص225-226، 309-310"، و"قواعد ابن رجب" "ق112 - بتحقيقي"، و"القواعد الكلية والضوابط الفقهية" "ص10" ليوسف بن عبد الهادي، و"الأمر بالمعروف" "ص178" للعمري.
5 انظر: "الإحياء" "2/ 289-292"، و"الأمر بالمعروف" "169 وما بعدها" للعمري.

 

ج / 5 ص -267-       المسألة الثالثة:
تنبني على ما قبلها، وهى أن الفتيا لا تصح من مخالف1 لمقتضى العلم، وهذا وإن كان الأصوليون قد نبهوا عليه وبينوه؛ فهو في كلامهم مجمل يحتمل البيان بالتفصيل المقرر في أقسام الفتيا.
فأما فتياه بالقول؛ فإذا جرت أقواله على غير المشروع، [فلا يوثق بما يفتي به؛ لإمكان جريانها كسائر أقواله على غير المشروع]، وهذا من جملة أقواله، فيمكن2 جريانها على غير المشروع؛ فلا يوثق بها.
وأما أفعاله، فإذا جرت على خلاف أفعال أهل الدين والعلم؛ لم يصح الاقتداء بها ولا جعلها أسوة في جملة أعمال السلف الصالح.
وكذلك إقراره؛ لأنه من جملة أفعاله.
وأيضًا؛ فإن كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة عائد3 على صاحبيه بالتأثير، فإن المخالف بجوارحه يدل على مخالفته في قوله، والمخالف بقوله يدل على مخالفته بجوارحه؛ لأن الجميع يستمد من أمر واحد4 قلبي.
هذا بيان عدم صحة الفتيا منه على الجملة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي له تفسير الصحة بالانتفاع والوقوع لا الصحة في الحكم الشرعي ما لم يحط إلى رتبة الفسق بالمخالفة. "د".
وكتب في "ف" -وتبعه "م"- ما نصه: "أي: لا تعد صحيحة منتفعًا بها موثوقًا بحكمها إذا صدرت ممن يخالف قوله فعله؛ لأن للمفتي وراثة وخلافة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وله منصب التأسي والاقتداء به؛ فمن هذه الجهة إذا خالف قوله عمله كان كالمكذب نفسه، ولا شك أن من أخبر بشيء وكذب نفسه فيه، يهدر قوله، ويطرح رأيه، ولا يوثق به".
2 أي: فيحتمل احتمالًا قريبًا أن يكون فتياه بالقول غير صحيحة كأقواله الأخرى. "د".
3 في الأصل: ".... الوجوه الثلاثة دالٌّ على...".
4 وهو كمال الإيمان أو عدمه. "د".

 

ج / 5 ص -268-       وأما على التفصيل؛ فإن المفتي إذا أمر مثلا بالصمت عما لا يعني؛ فإن كان صامتًا عما لا يعني ففتواه صادقة، وإن كان من الخائضين فيما لا يعني فهي غير صادقة1، وإذا دلَّك على الزهد في الدنيا وهو زاهد فيها صدقت فتياه، وإن كان راغبا في الدنيا فهي كاذبة، وإن دلَّك على المحافظة على الصلاة وكان محافظا عليها صدقت فتياه، وإلا فلا.
وعلى هذا الترتيب سائر أحكام الشريعة في الأوامر، ومثلها النواهي؛ فإذا نهي عن النظر إلى الأجنبيات من النساء، وكان في نفسه منتهيا عنها صدقت فتياه، أو نهي عن الكذب وهو صادق اللسان، أو عن الزنى وهو لا يزني، أو عن التفحش وهو لا يتفحش، أو عن مخالطة الأشرار وهو لا يخالطهم، وما أشبه ذلك؛ فهو الصادق الفتيا والذي2 يقتدى بقوله ويقتدى بفعله؛ وإلا فلا؛ لأن علامة صدق القول مطابقة الفعل، بل هو الصدق في الحقيقة عند العلماء، ولذلك قال تعالى:
{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه}3 [الأحزاب: 23].
وقال في ضده:
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَن} إلى قوله: {وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُون} [التوبة: 75-77].
فاعتبر في الصدق مطابقة القول الفعل، وفي الكذب مخالفته.
وقال تعالى في الثلاثة الذين خلفوا:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}4 [التوبة: 119].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أراد به غير ظاهرة الصدق؛ لعدم وجود العلاقة الدالة على صدق قوله، وهي مطابقة الفعل للقول، أو المراد: غير صادقة بمعنى عدم مطابقتها لفعله وإن كان الصدق عند الجمهور مطابقة الواقع. "ف".
2 في "ط": "الذي" بدون واو.
3 أي: فعلوا ووفوا بما عاهدوا الله تعالى. "ف".
4 أي: اتقوا الله وكونوا مثلهم في الصدق وخلوص النية، كما هو أحد التفاسير، وقال الآلوسي "في تفسيره" "11/ 45": "أنه المناسب" أي: فهؤلاء قد طابق قولهم فعلهم؛ فلم ينتحلوا أعذارًا كغيرهم، وقال يقال: إن السبب وإن كان خاصًا وهو مطابقة لفعلهم؛ إلا أن لفظ الصدق بمعناه الأعم عند الجمهور وهو مطابقة نسبة الخبر الواقع يدل على خصوص الغرض وهو مطابقة قول الشخص لفعله، وهو المعنى الخاص عند العلماء. "د".

 

ج / 5 ص -269-       وهكذا إذا أخبر العالم عن الحكم أو أمر أو نهى؛ فإنما ذلك مشترك بينه وبين سائر المكلفين في الحقيقة؛ فإن وافق صدق وإن خالف كذب؛ فالفتيا لا تصح مع المخالفة وإنما تصح مع الموافقة.
وحسب الناظر من ذلك1 سيد البشر صلى الله عليه وسلم، حيث كانت أفعاله مع أقواله على الوفاق2 والتمام؛ حتى أنكر على من قال: يحل الله لرسوله ما شاء3.
وحين سأله الرجل عن أمر؛ فقال:
"إني أفعله". فقال له: إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. غضب صلى الله عليه وسلم وقال: "والله؛ إني لأرجو أن أكون4 أخشاكم لله، وأعلمكم بما اتقي"5.
وفي القرآن عن شعيب عليه السلام:
{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: 89].
وقوله:
{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْه} [هود: 88].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "في ذلك".
2 كذا في الأصل و"ط"، وفيه "الوفاق التمام"، ,في جميع النسخ المطبوعة "الوفاء -بالهمزة- والتمام".
3 مضى تخريجه "2/ 503".
4 في الأصل: "تكون".
5 مضى تخريجه "2/ 503".
6 لأنه يدعو الناس إلى توحيد الله بلسانه، فإذا عاد إلى شركهم؛ كان كاذبًا، لم يصدق قوله فعله. "د".
7 يقال: "خالفني فلان إلى كذا" إذا قصده وأنت مُوَلٍّ عنه، "وخالفني عنه" بالعكس؛ أي: إذا سمعتم نصحي، وتجنبتم التطفيف والبخس وعبادة الأوثان وسائر المعاصي؛ فإني لا أفعله،= واستبد به دونكم لأن الأنبياء لا ينهون عن شيء ويخالف فعلهم قولهم؛ وقد يقال: إن الآية ليس فيها أن هذا يعد كذبًا، بخلاف ما قبلها، إلا أن يقال: إنها تفيده بضميمتها إليها؛ لأن المخالف إليه فيها هو ما سماه كذبًا في قوله:
{إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم}. "د".

 

ج / 5 ص -270-       فبينت الآية أن مخالفة القول الفعل تقتضي كذب القول، وهو مقتضى ما تقدم في المسألة قبل هذا، وقد قالوا في عصمة1 الأنبياء قبل النبوة من الجهل بالله وعبادة غير الله: إن ذلك؛ لأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله، وهذا المعنى جار من باب أولى فيما بعد النبوة، بالنسبة إلى فروع الملة فضلا عن أصولها؛ فإنهم لو كانوا آمرين بالمعروف [ولا يفعلونه] وناهين عن المنكر ويأتونه -عياذا بالله من ذلك- لكان ذلك أولى2 منفِّر وأقرب صادٍّ عن الاتباع؛ فمن كان في رتبة الوارثة لهم؛ فمن حقيقة نيله الرتبة ظهور الفعل على مصداق القول.
ولما نهى3 عن الربا قال:
"وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب"4.
وحين وضع الدماء التي كانت في الجاهلية؛ قال:
"وأول دم أضعه دمنا: دم ربيعة بن الحارث"5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في دليلها. "د".
2 في "م": "أوَّل".
3 في خطبة حجة الوداع المشهورة. "د".
4 مضى تخريجه "4/ 380".
5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 886-892/ رقم 1218" ضمن حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه الطويل، ولفظه:
"وإن أول دم أضع من دمائنا دمُ ابن ربيعة بن الحارث".
وأخرجه أحمد في "المسند" "5/ 73" عنه بلفظ:
"وأول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث"، وأبو داود في "السنن" "كتاب المناسك، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 182-186/ رقم 1905". بلفظ: "ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه دماؤنا"؛ -قال عثمان: "قلت: هو ابن أبي شيبة، =

 

ج / 5 ص -271-       وقال حين شفع له في حد السرقة: "والذي نفسي بيده؛ لو سرقت فاطمة بنت رسول الله لقطعت يدها"1.
وكله ظاهر في المحافظة على مطابقة القول الفعل بالنسبة إليه وإلى قرابته، وأن الناس في أحكام الله سواء.
والأدلة في هذا المعنى أكثر من أن تحصى.
وقد ذم الشرع الفاعل بخلاف ما يقول؛ فقال الله تعالى:
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُم} الآية [البقرة: 44].
وقال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُون} [الصف: 2-3].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= شيخ أبي داود":
"دم ابن ربيعة"، وقال سليمان -"قلت: هو ابن عبد الرحمن الدمشقي، شيخ آخر لأبي داود في الحديث"-: "دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب"، وقال بعض هؤلاء -"أي: المذكورين، وعبد الله بن محمد النفيلي وهشام بن عمار؛ فمجموع شيوخه في هذا الحديث أربعة"- "كان مسترضعا في بني سعد، فقتلته هذيل".
وأخرجه أبو داود في "السنن" أيضًا "كتاب البيوع، باب في وضع الربا 3/ 244-245/ رقم 3334"، بلفظ:
"ألا وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع، وأول دم أضع منها دم الحارث ابن عبد المطب، وكان مسترضعًا في بني ليث، فقتلته هذيل".
قال الخطابي في "معالم السنن" "3/ 59-60":
"دم الحارث بن عبد المطلب"؛ فإن أبا داود هكذا روى، وإنما هو في سائر الروايات: "دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب"، وأسند إلى ابن الكلبي قوله: "إن ربيعة بن الحارث لم يقتل، وقد عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمن عمر، وإنما قتل له ابن صغير في الجاهلية؛ فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم فيما أهدر، ونسب الدم إليه؛ لأنه ولي الدم".
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب منه 8/ 24-25/ رقم 4304"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود 34/ 1315/ رقم 1688" عن عائشة رضي الله عنها.

 

ج / 5 ص -272-       عن جعفر بن برقان؛ قال: سمعت ميمون ابن مهران يقول: "إن القاص1 المتكلم ينتظر المقت2، والمستمع ينتظر الرحمة. قلت: أرأيت قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُون} الآية [الصف: 2]، هو الرجل يقرظ نفسه فيقول: فعلت كذا وكذا من الخير؟ أو هو الرجل يأمر بالمعروف وينهى3 عن المنكر وإن كان فيه تقصير؟ فقال: كلاهما"4.
فإن قيل: إن كان كما قلت تعذر القيام بالفتوى وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد قال العلماء: إنه لا يلزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبه مؤتمرا أو منتهيا، وإلا أدى ذلك إلى خرم الأصل، وقد مر أن كل تكملة أدت إلى انخرام الأصل المكمل غير معتبرة؛ فكذلك هنا5، ومثله الانتصاب للفتوى، ومن الذى يوجد لا يزلُّ ولا يضلُّ ولا يخالف قوله فعله، ولا سيما في الأزمنة المتأخرة البعيدة عن زمان النبوة؟
نعم، لا إشكال في أن من طابق قوله فعله على الإطلاق هو المستحق للتقدم في هذه المراتب، وأما أن يقال: إذا عدم ذلك لم يصح الانتصاب؛ هذا مشكل جدا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في القاج / 5 ص -بالقاف "وآخره صاد مهملة مشددة: هو" الذي يقص [الحديث و] الأخبار، ويعظ الناس. "ف" و"م".
2 لأنه يخشى عليه ألا يطابق فعله ما يعظ؛ فيمقت من الله ومن العباد، أما المستمع؛ فيرجى له أن يعمل بما سمع؛ فيرحم. "د".
3 في "ط": "أو ينهى".
4 أخرجه ابن المبارك في "الزهد" "رقم 49 - ط الأعظمي، ورقم 41 - ط المحققة"، وإسناده حسن، وصححه السيوطي في "تحذير الخواص" "ص240". "استدراك 3".
5 أي: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه أصل كلي في الدين، ومكمله الائتمار والانتهاء، حتى يكون قدوة وينتفع به، ولكنه إذا جعل هذا المكمل شرطًا مطردًا حتى عند عدم وجود المؤتمر؛ انخرم الأمر بالمعروف، وضاع هذا الأصل؛ فيهمل هذا المكمل. "د".

 

ج / 5 ص -273-       فالجواب: أن هذا السؤال غير وارد على القصد المقرر؛ لأنا إنما1 تكلمنا على صحة الانتصاب والانتفاع في الوقوع لا في الحكم الشرعي؛ فنحن نقول: واجب على العالم المجتهد الانتصاب والفتوى على الإطلاق، طابق قوله فعله أم لا، لكن الانتفاع بفتواه لا يحصل ولا يطرد2 إن حصل؛ وذلك أنه إن كان موافقا3 قوله لفعله حصل الانتفاع والاقتداء به في القول والفعل معا أو كان مظنة للحصول؛ لأن الفعل يصدق القول أو يكذبه، وإن خالف فعله قوله؛ فإما أن تؤديه المخالفة إلى الانحطاط عن رتبة العدالة إلى الفسق، أو لا؛ فإن كان الأول؛ فلا إشكال في عدم صحة الاقتداء وعدم صحة الانتصاب شرعا وعادة، ومن اقتدى به كان مخالفا مثله؛ فلا فتوى في الحقيقة ولا حكم، وإن كان الثاني؛ صح الاقتداء به واستفتاؤه وفتواه فيما وافق4 دون ما خالف، فمن المعلوم كما تقدم أنه إذا أفتاك بترك الزنا والخمر وبالمحافظة على الواجبات وهو في فعله على حسب فتواه [لك]؛ حصل تصديق قوله بفعله، وإذا أفتاك بالزهد في الدنيا أو ترك مخالطة المترفين أو نحو ذلك مما لا يقدح في أصل العدالة ثم رأيته يحرص على الدنيا ويخالط من نهاك عن مخالطتهم؛ فلم يصدق القول الفعل.
هذا وإن كان الشرع قد أمرك بمتابعة قوله؛ فقد نصبه الشارع أيضا ليؤخذ بقوله وفعله؛ لأنه وارث النبي، فإذا خالف فقد خالف مقتضى المرتبة، وكذب الفعل القول لما في الجبلات من جواذب التأسي بالأفعال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "إذا".
2 أي: بل يقع الانتفاع به نادرًا، بخلاف الصادق؛ فالانتفاع به مطرد أي غالب، كما سيقول: "أو كان مظنة للحصول". "د".
3 في "ط": "بقوله".
4 أي: فيما وافق فيه قوله فعله؛ أما كل ما خالف فيه قوله فعله؛ فلا يعتد بقوله المخالف لفعله فيه، وسيأتي أنه يحمل ذلك على كمال الصحة لا على البطلان؛ لأن الشرع نصبه للمتابعة في القول وإن خالف مرتبته في الفعل، وسيأتي مزيد البيان في الفصل الآتي. "د".

 

ج / 5 ص -274-       فعلى كل تقدير لا يصح الاقتداء ولا الفتوى على كمالها في الصحة إلا مع مطابقة القول الفعل على الإطلاق، وقد قال أبو الأسود الدؤلي1:

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها           فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يسمع ما تقول ويقتدى        بالرأي منك وينفع التعليم

لا تنه عن خلق وتأتىَ مثله           عارٌ عليك إذا فعلت عظيم

[وهو معنى موافق للنقل والعقل، لا خلاف فيه بين العقلاء]2.
فصل:
فإن قيل: فما حكم المستفتي مع هذا المفتي الذي لم يطابق قوله فعله؛ هل يصح تقليده في باب التكليف، أم لا؟ بمعنى أنه يؤخذ بقوله ويعمل عليه أو لا.
فالجواب: أن هذه المسألة مبنية على ما تقدم، فإن أخذت من جهة الصحة في الوقوع فلا تصح؛ لأنها إذا لم تصح بالنسبة إلى المفتي، فكذلك يقال بالنسبة إلى المستفتي؛ هذا هو المطَّرِد والغالب، وما سواه كالمحفوظ النادر الذى لا يقوم منه أصل كُلِّيٌّ بحال، وأما إن أخذت من جهة الإلزام الشرعي؛ فالفقه فيها ظاهر، فإن كانت مخالفته ظاهرة قادحة في عدالته؛ فلا يصح إلزامه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأبيات من قصيدة لأبي الأسود الدؤلي في "شرح شواهد المغني" "194"، ومنها:
يا أيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم
وفي "البيان والتبين" "1/ 198" للجاحظ عدا الثالث، وعزاهما للأفوه الأودي، وفيه:
فهناك تُعذَر إن وَعَظت ويُقتَدَى
بالقول منك ويُقبَل التعليم
ويروى بعضها للمتوكل الليثي. انظر: "حماسة البحتري" "173".
2 انظر: "الاجتهاد في الإسلام" لنادية العمري "ص113-115"، وما بين المعقوفتين سقط من "م".

 

ج / 5 ص -275-       إذ من شرط قبول القول والعمل به صدقه، وغير العدل لا يوثق به، وإن كانت فتواه جارية على مقتضى الأدلة في نفس الأمر؛ إذ لا يمكن علم ذلك إلا من جهته، وجهته غير موثوق بها؛ فيسقط الإلزام عن المستفتي، وإذا سقط الإلزام عن المستفتي؛ فهل يبقى إلزام1 المفتي متوجها أم لا؟ يجرى2 ذلك على خلاف في مسألة حصول الشرط الشرعي: هل هو شرط3 في التكليف أم لا؟ وذلك مقرر في كتب الأصول4، وإن لم تكن مخالفته قادحة في عدالته؛ فقبول قوله صحيح، والعمل عليه مبرئ للذمة والإلزام الشرعي متوجه عليهما معا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: هل يبقى مكلفًا بالإفتاء مع فقد الشرط الشرعي وهو العدالة أو لا؟. "د".
2 قد يقال: وهل العدالة شرط في تكليفه بالإبلاغ، أم هي شرط شرعي لإلزام المستفتي الأخذ بأقواله؟ "د".
3 نسبوا للحنفية القول بشرطية ذلك في التكليف، وتبرأ الحنفية من كون ذلك عامًا، وقالوا: إنه لا يقول به عاقل؛ بل النزاع بينهم وبين الشافعية في خصوص تكليف الكفار بفروع الشريعة لا غير، وعليه لا محل لإجراء هذا الخلاف هنا حتى يعد تسليم أن العدالة شرط في وجوب الإبلاغ. "د".
4 انظر منها على سبيل المثال: "البحر المحيط" "6/ 204" للزركشي، و"المستفتي" "2/ 350"، و"إعلام الموقعين" "1/ 11 و4/ 220"، و"جمع الجوامع" "2/ 385 - مع حاشية البناني"، و"المجموع" "1/ 76"، و"روضة الناظر" "3/ 960 - ط المحققة"، و"أدب المفتي والمستفتي" "ص107"، لابن الصلاح، و"صفة الفتوى" "ص13" لابن حمدان، و"الفتيا ومناهج الإفتاء" "ص40" للأشقر، و"الفتوى في الإسلام" "ص62-63" للقاسمي، و"إرشاد الفحول" "ص296".

 

ج / 5 ص -276-       المسألة الرابعة:
المفتي البالغ ذروة2 الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور؛ فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال.
والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذى جاءت به الشريعة؛ فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين؛ خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين3.
وأيضًا4؛ فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكرمين، وقد رد5 عليه الصلاة والسلام التبتل6. وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة:
"أفتان أنت يا معاذ"7.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نقل جل هذه المسألة عن المصنف القاسمي في "الفتوى" "ص56-60".
2 قال "الماء": "جمعها" "ذري"، وهي من الدرجات".
3 انظر أدلة هذا من الكتاب والسنة وآثار السلف في: رسالة السخاوي "الجواب الذي انضبط عن: "لا تكن حلوا فتُستَرَط" بتحقيقي، و"العزلة" "ص207، 236 - ط المحققة" للخطابي، و"الموشى" "ص83-84" لابن الوشاء -وهو مطبوع بعنوان "الظرف والظرفاء" تصرفًا من المحقق، وهو غير جيد، والله الموافق- و"الغلو في الدين".
4 دليل ثانٍ غير استدلاله بالقاعدة الأصولية التي تقدمت له في كتاب المقاصد في المسألة الثانية عشرة من النوع الثالث. "د".
5 أي: على جماعة من أصحابه طلبوا منه ذلك. "د".
6 مضى تخريجه "1/ 522"، وهو صحيح.
7 مضى تخريجه "1/ 528"، وهو صحيح.

 

ج / 5 ص -277-       وقال: "إن منكم منفرين"1.
وقال:
"سددوا، وقاربوا، واغدُوا ورُوحُوا وشيء من الدلجة، والقصدَ القصدَ تبلُغُوا"2.
وقال:
"عليكم من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا"3.
وقال:
"أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قَلَّ"4.
ورد عليهم الوصال5، وكثير من هذا.
وأيضا؛ فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق، أما في طرف التشديد؛ فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال؛ فكذلك أيضا؛ لأن المستفتي إذا ذُهِبَ به مذهب العنت والحرج بُغِّضَ إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة، وهو مشاهد؛ وأما إذا ذُهِب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلك، والأدلة كثيرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 528"، وهو صحيح.
2 مضى تخريجه "2/ 208" وهو في "الصحيحين"، وكتب "ف" -وتبعه "م"- ما نصه: "أي: اطلبوا السداد أي الصواب والقصد في القول والعمل، وأصل السداد: إغلاق الخلل وردم الثلم، والمقاربة قريبة من هذا المعنى؛ فقوله صلى الله عليه وسلم:
"سددوا وقاربوا" مراد به اطلبوا بأعمالكم السداد والاستقامة، وهو القصد في الأمر والعدل فيه فلا تميلوا بها* إلى الأطراف، ولمغايرة الثاني للأول في المعنى اللغوي عطف عليه "واغدوا" أي: بكروا بأعمالكم، والغدوة نقيض الرواح؛ والدلجة؛ بالضم، سير الحر**، وبالفتح: سير الليل كله".
3 مضى تخريجه "1/ 525".
4 مضى تخريجه "2/ 404"، وفي "د" و"ف": "ما دام".
5 مضى ذلك في أحاديث عديدة، انظر منها: "2/ 239".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في "م": "فلا تميلوا بأنفسكم..".
** في "م": "السير في وقت الحر".

 

ج / 5 ص -278-       فصل:
فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضادًا1 للمشي على التوسط؛ كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضا [أيضًا]2.
وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد؛ فلا يجعل بينهما وسطًا، وهذا غلط، والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب، ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك، وأكثر من هذا شأنه من أهل [الانتماء إلى]3 العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية، بحيث يتحرى4 الفتوى بالقول الذى يوافق هوى المستفتي، بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه، وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى، وليس بين التشديد والتخفيف واسطة، وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة، وقد تقدم أن اتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها، وأن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى، وأن الشريعة حمل على التوسط لا على مطلق التخفيف، وإلا؛ لزم ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ومخالف للهوى، ولا على مطلق التشديد؛ فليأخذ الموفق في هذا الموضوع حذره؛ فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "مضاد".
2 سقط من "ط".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
4 تقدم الكلام على هذا بأوفى بيان في المسألة الثالثة ولواحقها من كتاب الاجتهاد.
5 تكلم بعض الأصوليين على هذه المسألة على هذا النحو: "هل يجب الأخذ بأخف القولين أو الأثقل؟"، وذكر ذلك المصنف في آخر المسألة من الطرف الأول من كتاب =

 

ج / 5 ص -279-       فصل:
قد يسوغ للمجتهد أن يحمل نفسه من التكليف ما هو فوق الوسط؛ بناء على ما تقدم في أحكام الرخص، ولما كان مفتيا بقوله وفعله كان له أن يخفي ما لعله يُقتدَى1 به فيه فربما اقتدى به فيه من لا طاقة له بذلك العمل، فينقطع وإن اتفق ظهوره للناس نبه عليه، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل؛ إذ كان قد فاق الناس عبادة وخلقًا، وكان عليه الصلاة والسلام قدوة؛ فربما اتبع لظهور عمله؛ فكان ينهى عنه في مواضع؛ كنهيه عن الوصال، ومراجعته لعمرو بن العاص2 في سرد الصوم3.
وقد قال تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّم} [الحجرات: 7].
وأمر بحل4 الحبل الممدود بين الساريتين5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الاجتهاد مع الأدلة معتمدًا على الرازي، واختار المصنف قولًا آخر، وهو صحيح من حيث الجملة وعلى وجه العموم، وإلا يلزم في كثير من المسائل القول إما بالأخف أو الأثقل، والمرجح النص والدليل؛ نعم، يظهر أهمية كلام المصنف في مجمل ما يفتي به؛ المطلوب ما قرر، على الرغم من صبغ فقه ابن عباس بالترخص في كثير من المسائل، وصبغ فقه ابن عمر بالتشدد في كثير من المسائل، وقصة المنصور مع مالك، وذكره هذا أمر مشهور، ولكن في صحتها نظر كبير، ولتحقيق ذلك موطن آخر.
وانظر في المسألة: "المحصول" "6/ 159-160"، و"شرح المحلي على جمع الجوامع" "2/ 352".
1 في "ط": "أن يقتدى".
2 كان المراجعة لعبد الله بن عمرو بن العاص لا لعمرو نفسه. "د".
3 مضى تخريجه ذلك "2/ 240"، وهو صحيح.
4 حبل وضعته زينب أم المؤمنين رضي الله عنها حتى إذا فترت تعلقت به. "د".
قلت: مضى تخريج ذلك "1/ 528"، وهو صحيح.
5 أي: ليتعلقوا به خشية النوم. "ف" و"م".

 

ج / 5 ص -280-       وأنكر على الحولاء بنت تويت قيامها الليل1.
وربما ترك العمل2 خوفا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.
ولهذا -والله أعلم- أخفى السلف الصالح أعمالهم؛ لئلا يتخذوا قدوة، مع ما كانوا يخافون عليه أيضًا من رياء أو غيره، وإذا كان الإظهار عرضة للاقتداء؛ لم يظهر منه إلا ما صح للجمهور أن يحتملوه.
فصل:
إذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع، وهو الذي كان عليه السلف الصالح؛ فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالاتِّباع وأولى بالاعتبار، وإن كانت المذاهب كلها طرقا إلى الله، ولكن الترجيح فيها لا بد منه؛ لأنه أبعد من اتباع الهوى كما تقدم، وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد؛ فقد قالوا3 في مذهب داود لما وقف مع الظاهر مطلقًا: إنه بدعة حدثت بعد المائتين، وقالوا في مذهب أصحاب الرأي4: لا يكاد المعرق5 في القياس إلا يفارق السنة؛ فإن كان ثم رأي بين هذين؛ فهو الأولى بالاتباع، والتعيين في هذا المذهب موكول إلى أهله، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 527".
2 كقيام رمضان جماعة في المسجد. "د" قلت: تقدم مع تخريجه "4/ 423".
3 المذكور قول القاضي عياض كما قدمناه "2/ 320"، وانظر -لزامًا- تعليقنا عليه.
4 المذكور قول مالك على ما في "الاعتصام" "2/ 638 - ط ابن عفان" أو قول أصبغ، على ما مضى عند المصنف "ص199".
5 كذا في "ط": وفي النسخ المطبوعة: "المعرق" بعين مهملة، وتصحف في "الاعتصام" إلى "المفرق" بالفاء، والصواب ما اثبتناه، وكتب "ف" -وتبعه "م"- ما نصه: "أي": المناضل فيه، المتوغل في مناحيه".