الموافقات

ج / 5 ص -7-      [بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم]1
كتاب الاجتهاد:
وللنظر فيه [ثلاثة]2 أطراف.
أ- طرف يتعلق بالمجتهد3 من جهة4 الاجتهاد.
ب- طرف5 يتعلق بفتواه.
ج- وطرف يتعلق النظر فيه بإعمال قوله والاقتداء به.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين زيادة من "د".
2 زيادة في نسخة "ماء."
3 في "ط": "بالمجتهدين".
4 أي من جهة تنوعه إلى عام وخاص، ومن جهة ما يتحقق به الخاص من الوسائل، وما يصح فيه الاجتهاد وما لا يصح، وأسباب خطأ المجتهد، إلى غير ذلك "د".
5 هذه المرتبة متفرعة على ما قبلها، والطرف الثالث لا يبعد في مقصوده عن هذا الثاني. "د".

 

ج / 5 ص -11-   المسألة الأولى:
الاجتهاد1 على ضربين:
أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة.
والثاني: يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الاجتهاد هو استفراغ الجهد وبذل غاية الوسع، إما في درك الأحكام الشرعية، وإما في تطبيقها، فالاجتهاد في تطبيق الأحكام هو الضرب الأول الذي لا يخص طائفة من الأمة دون طائفة، وهو لا ينقطع باتفاق، والاجتهاد في درك الأحكام هو الضرب الثاني الذي يخص من هو أهل له، وقد اختلفوا في إمكان انقطاعه، فقال الحنابلة: لا يخلو عصر من مجتهد، وقال الجمهور: يجوز أن يخلو، وهو مذهب المنصور؛ لأنه لا يلزم عنه محال لذاته، وللأدلة السمعية الكثيرة كقوله:
"إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا..." الحديث "د".
قلت: مضى تخريج الحديث "1/ 97"، وهو صحيح.
وانظر في تعريف الاجتهاد ومباحثه عند الأصوليين: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 111، 254، 255 و20/ 202 و22/ 299، 230 و29/ 153"، و"مختصر الطوفي" "173"، و"مختصر البعلي "163"، و"شرح الكوكب المنير/ 4 458"، و"روضة الناظر" "2/ 401 - مع شرح ابن بدران"، و"الإحكام" "4/ 62" للآمدي، و"المستصفى" "2/ 350"، و"التلويح على التوضيح" "3/ 62"، و"كشف الأسرار" "4/ 14"، و"الإحكام" "1/ 41 و2/ 155" لابن حزم، و"شرح تنقيح الفصول" "429"، و"نهاية السول" "3/ 233"، و"الحدود" "64" للباجي، و"فواتح الرحموت" "2/ 362" و"إرشاد الفحول" "250".
وانظر في إمكان انقطاعه: "جمع الجوامع"2/ 416"، و"التقرير والتحبير" "3/ 339"، و"تيسير التحرير" "4/ 240-241"، و"مسلم الثبوت" "2/ 399"، وشرح العضد على ابن الحاجب" "2/ 308"، و"البحر المحيط" "6/ 209 وما بعدها" للزركشي، و"الإحكام" "4/ 233" للآمدي، و"إرشاد الفحول" "253"، و"المسودة" "472"، و"المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل" "191"، و"صفة الفتوى" "17" لابن حمدان، "والإمام أحمد بن حنبل" "ص395" لأبي زهرة.

 

ج / 5 ص -12-   فأما الأول؛ فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق1 المناط، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين2 محله، وذلك أن الشارع إذا قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وثبت عندنا معنى العدالة3 [شرعا افترقنا إلى تعيين من حصلت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في "المنهاج": "تحقيق المناط هو تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع، أي إقامة الدليل على وجودها فيه، كما إذا اتفقا على أن العلة في الربا هي القوت، ثم يختلفان في وجودها في التين حتى يكون ربويًا" ا. هـ. وهذا لا يلزمه أن تكون العلة فيه ثبتت بالنص أو الإجماع، بل بأي طريق من الطرق التسعة تثبت، كما أنه لا يندرج فيما يسمى قياسًا، بل هو مجرد تطبيق الكلي على جزئياته. "د".
وكتب "ف" و"م" هنا ما نصه: "تحقيق المناط عند الأصوليين أن يقع الاتفاق على كلية وصف بنص أو إجماع؛ فيجتهد الناظر في وجوده في صورة النزاع التي خفي فيها وجود العلة، كتحقيق أن النباش سارق؛ فالوصف -وهو السرقة- علم أنه مناط الحكم، وبقي النظر في تحقيق وجوده في هذه الصورة، قال الغزالي: "وهذا النوع من الاجتهاد لا خلاف فيه بين الأمة"، والمصنف توسع فيه إلى [وفي "م": على] ما ترى".
قلت: انظر في ذلك: "الإحكام" "3/ 435" للآمدي، و"البحر المحيط" "3/ 268"، و"تيسير التحرير" "4/ 42-43"، و"المحلي على جمع الجوامع" "3/ 293"، "3/ 293"، "والإبهاج" "3/ 57"، و"نشر البنود" "2/ 207"، و"إرشاد الفحول" "222"، و"شرح اللمع" "2/ 815"، و"مباحث العلة في القياس" "517"، و"مجموع فتاوي ابن تيمية" "13/ 111، 254، 255 و22/ 329/ 330".
2 أي: في تطبيقه على الجزئيات والحوادث الخارجية، سواء أكان نفس الحكم ثابتًا بنص أم إجماع أم قياس. "د".
3 وهي ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، وملازمة التقوى تكون باجتناب الكبائر، والمروءة صون النفس عن الأدناس وما يشينها عند الناس، والشرط في الرواية والشهادة أدناها، وهو ترك الكبائر، وترك الإصرار على صغيرة، وترك الإصرار على ما يخل بالمروءة، هكذا عرفها الأصوليون، وعليه لا يدخل: "الطرف الآخر" الذي ذكره في جزئياتها، وهو ظاهر، وإن أوهم قوله: "وطرف آخر" غير ذلك؛ إلا أنه قوله: "في الخروج عن مقتضى الوصف" يكشف عن قصده، وهو أن =

 

ج / 5 ص -13-   فيه هذه الصفة وليس الناس في وصف العدالة]1 على حد سواء، بل ذلك يختلف اختلافا متباينا؛ فإنا إذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة: "طرف أعلى" في العدالة لا إشكال فيه كأبي بكر الصديق، و"طرف آخر" وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف؛ كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الإسلام، فضلا عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها، و"بينهما" مراتب لا تنحصر، وهذا الوسط غامض، لا بد فيه من بلوغ حد الوسع، وهو الاجتهاد.
فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل شاهد، كما2 إذا أوصى بماله للفقراء؛ فلا شك أن من الناس من لا شيء له، فيتحقق فيه اسم الفقر3؛ فهو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= من ثبت له مجرد كونه مسلمًا ولم ينقض وقت ما تحقق فيه بعد من اتصافه بالعدالة المحتاج إلى مدة يعرف فيها تجاه نفسه للخير أو الشر، مثل هذا ليس بعدل؛ إلا أنه أقل درجة في الخروج عن العدالة، ويزيد عنه في الخروج عنها من حد في كبيرة.. إلخ، ولو جعل الطرف الآخر أقل من تحقق فيه العدالة، ثم جعل بينه وبين عدالة أبي بكر مراتب كثيرة؛ لكان أوضح من هذا الصنيع الموهم، فإن أحد الطرفين من العدالة، والآخر خارج، وليس هذا مألوفا في التعبير عن الوسط والطرفين؛ فقوله: "وطرف آخر"؛ أي: خارج عنها، وقوله: "غامض"؛ أي: لا سيما في تطبيق الجزء الثاني من حد العدالة وهو المروءة. "د".
قلت: وقد ناقش الصنعاني التعريف الذي ذكره الشارح لـ"العدالة"-وهو ما درج عليه الأصوليون وأصحاب المصطلح- نقاشًا قويًا في كتابه "ثمرات النظر"، انظره بتعليقنا، أما المروءة وحدها وخوارمها، فينظر "المروءة وخوارمها" بقلمي، وينظر أيضًا: "توضيح الأفكار" "2/ 119، 149"، و"الاختيارات العلمية" لابن تيمية "356-357"، و"الإضافة، دراسات حديثية" "ص11-86".
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وأثبته من "ط" والنسخ المطبوعة.
2 ولعله: "وكما". "ف". وأثبتها "م" بالواو.
3 إنما يتمشى كلامه في هذا المقام على رأي المالكية، من أن الفقير هو من يملك قوت عامه، والمسكين من لا يملك شيئًا، وهذا إذا ذكرا معًا، فإذا افترقا -كما هنا- اجتمعا؛ فالفقير هنا يشملها معًا، فالصورة الأولى وهي من لا شيء له من كسب ولا مال يتحقق فيها الوصف العام؛ =

 

ج / 5 ص -14-   من أهل الوصية، ومنهم من لا حاجة به ولا فقر وإن لم يملك نصابا، وبينهما وسائط؛ كالرجل يكون له الشيء ولا سعة له؛ فينظر فيه: هل الغالب عليه حكم الفقر أو حكم الغنى؟ وكذلك في فرض نفقات الزوجات والقرابات؛ إذ هو مفتقر إلى النظر في حال المنفق عليه والمنفق1، وحال الوقت إلى غير ذلك من الأمور التي لا تنضبط بحصر، ولا يمكن استيفاء القول في آحادها؛ فلا يمكن أن يستغنى ههنا بالتقليد؛ لأن التقليد إنما يتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه، والمناط هنا لم يتحقق بعد؛ لأن كل صورة من صوره النازلة نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا؛ فلا بد من النظر فيها بالاجتهاد، وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها؛ فلا بد من النظر في كونها مثلها أولا، وهو نظر اجتهادي2 أيضا، وكذلك القول فيما فيه حكومة من أروش الجنايات، وقيم المتلفات.
ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص3 على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر، ومع ذلك؛ فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين، وليس ما به

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فدخولها في الوصية ظاهر، والصورة الثانية من عنده كسب أو مال يكفيه حاجاته طول العام، وإن لم يبلغ المال نصابًا، وخروجه عن الوصية ظاهر، والصورة الثالثة من له كسب أو مال ولو كان زائدًا عن النصاب لكنه يضيق عن حاجاته؛ فهذا محل نظر؛ لأن الحاجات تختلف، فقد يعد بعض الناس فقد شيء من المعيشة ضيقًا وحرجًا، وقد لا يعده الآخر شيئًا مطلقًا ولا يخطر بباله فقده، وما جرى عليه كلامه غير ما عليه الحنفية من اعتبار النصاب وعدمه في الفقر والغنى، وهم لا يعتبرون الكسب أيضًا، والشافعية كالمالكية في اعتبار الكسب، ولكنهم ينظرون في ضابط الغنى بالمال إلى ما يكفيه عمره الغالب من تلزمه نفقته. "د".
1 النظر إلى حالهما معًا هو مذهب مالك، وقوله: "وحال الوقت" يرجع إلى ما قبله؛ لأن النظر في حالهما معتبر فيه الوقت، فليس زائدًا على ما تقرر في الفروع. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "اجتهاد".
3 في "ماء": "تقضي".

 

ج / 5 ص -15-   الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق، ولا هو طردي بإطلاق، بل ذلك منقسم إلى الضربين، وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين؛ فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب، حتى يحقق تحت أي دليل تدخل، فإن أخذت بشبه1 من الطرفين؛ فالأمر أصعب، وهذا كله بين لمن شدا2 في العلم، ومن القواعد3 القضائية "البينة على المدعي واليمين على من أنكر"4؛ فالقاضي لا يمكنه الحكم في واقعة -بل لا يمكنه توجيه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "بشبهة".
2 أي: أحسن منه طرفًا، والشدو: كل شيء قليل من كثير، والشادي: الذي يتعلم شيئًا من العلم والأدب والفتيا ونحو ذلك. "ف". ومن الخطأ "الشادِّين" بتشديد الدال.
3 في "ماء": "الفوائد".
4 ويروى على أنه حديث نبوي، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى" "10/ 252" من طريق أبي القاسم الطبراني عن الفريابي ثنا سفيان عن نافع عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس بلفظ: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعي رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة به"، وقال: "قال أبو القاسم: لم يروه عن سفيان إلا الفريابي".
قلت: وأخرجه البخاري في "الصحيح" كتاب الرهن، باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه فالبينة...، رقم 2514، وكتاب الشهادات، باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود، رقم 2668، وكتاب التفسير، باب:
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ}، رقم 4552"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه، رقم 1711" بلفظ: "واليمين على المدعى عليه" دون "البينة على المدعي"، وذكرها من أخطاء سفيان أو الفريابي؛ فإن الجماهير رووه عن نافع دونها، انظر: "إرواء الغليل" "8/ 264-265/ رقم 2641"، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" "35/ 391" في هذا الحديث بهذا اللفظ: "ليس إسناده في الصحة والشهرة مثل غيره، ولا رواه عامة أهل السنن المشهورة، ولا قال بعمومه أحد من علماء الملة".
وبسط ذلك تلميذه ابن القيم في "الطرق الحكمية" "ص87-88"، "110-111" ط العسكري" بكلام ماتع نافع؛ فقف عليه غير مأمور.

 

ج / 5 ص -16-   الحجاج ولا الطلب1 الخصوم بما عليهم- إلا بعد فهم المدعي من المدعى عليه، وهو أصل2 القضاء، ولا يتعين ذلك بنظر واجتهاد ورد الدعاوى إلى الأدلة، وهو تحقيق المناط بعينه.
فالحاصل أنه لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومُفْتٍ، بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه؛ فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهوًا من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة، وإن كانت كثيرة فلا، فوقعت له في صلاته زيادة؛ فلا بد من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين، ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر، فإذا تعين له قسمها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تفسير لما قبله؛ فإن معناه أنه لا يمكنه إدارة المحاجة بين الطرفين بدون ما ذكر. "د". وي "ط": "توجيه الحجج".
2 قال في "تبصرة الحكام" في القسم الثاني من الركن السادس في كيفية القضاء "1/ 98: "إن علم القضاء يدور على معرفة المعي من المدعى عليه؛ لأنه أصل مشكل، وأنهم لم يختلفوا في حكم كل منهما، ولكن الكلام في تمايزهما، ولهم في تحديدهما عبارات كثيرة: منها أن الأول من إذا ترك الخصومة ترك، أو من لا يستند قوله إلى مصدق، أو من لا يكون قوله على وفق أصل أو عرف، والثاني ما ليس كذلك؛ غير أن الأنظار تضطرب لتعارض الأحوال من عرف أو غالب أو أصل وهكذا، مثاله يتيم بلغ رشيدًا طلب من الوصي تسليمه ماله الذي تحت يده؛ فاليتيم طالب، وإذا ترك ترك، والأصل أمانة الوصي على مال اليتيم؛ فهذا كله يفهم منه أن اليتيم هو المدعي، والوصي مدعى عليه، ولكن الوصي أيضًا مدعٍ أنه سلم المال، واليتيم مدعى عليه التسلم، ومعلوم اختلاف الحكم باختلاف الاعتبارين، وما حل الإشكال إلا الرجوع لآية:
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] التي يؤخذ منها أن الوصي لا يؤتمن في التسليم إلا بالإشهاد، وإن كان مؤتمنًا في نفس الإنفاق، وبذلك كان مجرد قوله: "سلمت" دعوى على اليتيم بلا بينة، واليتيم هو المدعى عليه؛ فيحلف اليمين ويستحق المال، قال القاضي شريح: "وَلِيت القضاء وعندي أني لا أعجز عن معرفة ما يتخاصم فيه إليَّ، فأول ما ارتفع إلى خصمان أشكل على من أمرهما من المدعي ومن المدعى عليه؟" ا. هـ. ملخصًا.

 

ج / 5 ص -17-   تحقق له مناط الحكم؛ فأجراه عليه، وكذلك سائر تكليفاته، ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن؛ لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك، منزلات على أفعال مطلقات كذلك، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة؛ فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلا وقد لا يكون، وكله اجتهاد.
وقد يكون من هذا القسم ما يصح فيه التقليد، وذلك فيما اجتهد فيه الأولون من تحقيق المناط إذا كان متوجها على الأنواع لا على الأشخاص المعينة؛ كالمثل في جزاء الصيد، فإن الذي جاء في الشريعة قوله تعالى:
{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95].
وهذا ظاهر في اعتبار المثل؛ إلا أن المثل لا بد من تعيين نوعه، وكونه مثلا لهذا النوع المقتول؛ ككون الكبش مثلا للضبع، والعنز مثلا للغزال، والعناق1 مثلا للأرنب، والبقرة مثلا للبقرة الوحشية، والشاة مثلا للشاة من الظباء، وكذلك الرقبة الواجبة2 في عتق الكفارات، والبلوغ3 في الغلام والجارية، وما أشبه ذلك، ولكن هذا الاجتهاد في الأنواع لا يغني عن الاجتهاد في الأشخاص المعينة؛ فلا بد من هذا الاجتهاد4 في كل زمان؛ إذ لا يمكن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بفتح أوله: دابة فوق الكلب الصيني، يصيد كما يصيد الفهد، ويأكل اللحم، وهو من السباع. "ف".
2 فقد ضبطها الأولون بأن تكون سليمة من مثل الشلل والعور والبكم. "د".
3 كما ضبطوا بلوغ الأنثى بالحيض وما معه، وبلوغ الذكر بالإنزال وما معه. "د".
4 قال في "المنهاج" بصدد اعتراضه على بعض حدود الاجتهاد: "ويدخل فيه ما ليس باجتهاد في عرف الفقهاء؛ كالاجتهاد في قيم المتلفات، وأروش الجنايات، وجهة القبلة، وطهارة الأواني والثياب" ا. هـ. فقد أخرج هذه الأمثلة وكلها من باب تحقيق المناط عن أن تكون اجتهادًا =

 

ج / 5 ص -18-   حصول التكليف1 إلا به، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد؛ لكان تكليفا بالمحال، وهو غير ممكن شرعا، كما أنه غير ممكن عقلا، وهو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= خلافًا لصنيع المؤلف، وفي "إحكام الآمدي" ما يوافق طريقة المؤلف؛ فقد جعل تعرُّف شخص القبلة، وتعرف عدالة الشخص الفلاني من باب الاجتهاد وتحقيق المناط بعد ما عرفه بأنه النظر في معرفة وجود علة الحكم ومناطه في آحاد الصور، بعد معرفتها في نفسها، ومثل له أيضًا بالنظر في وجود علة شرب الخمر وهي الشدة المطربة في نوع النبيذ؛ فأنت ترى الآمدى قد أدخل هذه الصور في تحقيق المناط وجعله عامًا في الأشخاص والأنواع كما صنع المؤلف حيث يقول: "وقد يكون من هذا القسم ما يصح فيه التقليد إذا كان متوجهًا على الانواع". "د".
1 أي: لا يمكن توجه الخطاب إلا به، وتكون هذه دعوى دليلها ما بعدها، أو تجعل دليلًا للملازمة بعدها، ويكون المراد بحصوله حصول المكلف به مع قصده ونيته، أي: لا يتأتى امتثال التكليف إلا بمعرفة المكلف به وهي لا تكون إلا بهذا الاجتهاد، وهذا شرط لإمكان الامتثال وفقده رافع لهذا الإمكان؛ فيكون التكليف مع عدم إمكان الامتثال تكليفا بالمحال، والتكليف بالمحال غير واقع شرعًا، كما أنه غير ممكن عقلًا، وإنما يتم هذا بناء على أنه من باب تكليف المحال الراجع إلى المأمور لا إلى المأمور به، فهو نظير ما قيل في تكليف الغافل وأنه محال؛ لأن التكليف يعتمد العلم بالأمر وبالفعل المأتي به، وما نحن فيه -ما لم يحصل الاجتهاد المذكور- لا يحصل العلم بالمأتي به، أما التكليف بالمحال الذي يرجع المحال فيه إلى المأمور به وهو تكليف ما لا يطاق؛ فقد جعلوه خمسة أقسام: محال لذاته، ومحال للعادة، ومحال لطروء مانع كأمر المقيد بالمشي، وصححوا جواز التكليف بهذه الثلاثة وإن لم تقع، والرابع انتفاء القدرة عليه حالة التكليف مع وجودها حالة الامتثال، كما هو شأن جميع التكاليف عند الأشعري؛ لأن القدة عليه مقارنة للفعل، والخامس أن يكون عدم القدرة لتعلق علم الله بعدم حصوله كإيمان أبي جهل، وهذان واقعان، وبهذا اتضح كلام المؤلف. "د".
قلت: انظر بسط ذلك في "المسوَّدة" "80"، و"مختصر الطوفي" "11"، و"شرح الكوكب المنير" "1/ 484"، و"الإحكام" "1/ 137" للآمدي، و"المستصفى" "1/ 86"، و"العضد على ابن الحاجب" "2/ 9"، و"المحلى على جمع الجوامع" "1/ 206 - مع حاشية البناني"، و"تيسير التحرير" "2/ 135"، و"روضة الناظر" "1/ 18 - مع شرح ابن بدران"، و"القواعد والفوائد الأصولية" "57"، و"فواتح الرحموت" "1/ 123، 132"، و"إرشاد الفحول "9".

 

ج / 5 ص -19-   أوضح دليل في المسألة.
وأما الضرب الثاني، وهو الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع؛ فثلاثة1 أنواع:
أحدها: المسمى بتنقيح المناط2، وذلك أن يكون الوصف المعتبر في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الاجتهاد يكون في كل ما دليله ظني من الشرعيات؛ فيكون في دلالات الألفاظ كالبحث عن مخصص العام، والمراد من المشترك وباقي الأقسام التي في دلالتها عى المراد خفاء، من المشكل والمجمل.... إلخ، كما يكون في الترجيح عند التعارض، إلى غير ذلك، وسيأتي للمؤلف كلام في مجال الاجتهاد؛ فقارنه بما هنا، وتأمل وجه حصره هنا فيما ذكره من تحقيق المناط وتنقيحه وتخريجه، وما بناه على ذلك من حصر ما يمكن انقطاعه فيما ذكره في الضرب الثاني. "د".
2 تنقيح المناط عندهم أن يدل نص ظاهر عل التعليل بوصف، أو يكون أوصاف في محل الحكم دل عليها ظاهر النص؛ فيجتهد الناظر في حذف خصوص الوصف أو بعضها، وينيط الحكم بالأعم أو بالباقي، وحاصله الاجتهاد في الحذف والتعيين، ويمثل له بحديث الأعرابي الذي قال: واقعت أهلي في نهار رمضان. فقال له صلى الله عليه وسلم: "اعتق رقبة"؛ فإن أبا حنيفة ومالكًا رضي الله عنهما حذفا خصوص المواقعة، وأنا الكفارة بمطلق الإفطار، كما حذف الشافعي رضي الله عنه غيرها من أوصاف المحل؛ ككون الواطئ أعرابيًا، وكون الموطوءة زوجة، وكون الوطء في القبل من الاعتبار وأناط الكفارة بها. "ف".
قال "ماء": "التنقيح مأخوذ من تنقيح النخل، وهو إزالة ما يستغنى عنه وإبقاء ما يحتاج إليه، وكلام منقح لا حشو باطنًا، ولا في الظواهر" ا. هـ.
قلت: وحديث الأعرابي المذكور أخرجه البخاري في "الصحيح" "رقم 1937/ 2600، 5368، 6087، 6164، 6710، 6709، 6711، 6821"، ومسلم في "الصحيح" "2/ 871-783/ رقم 1111"، وأبو داود في "السنن" "رقم 2390، 2393"، والترمذي في "الجامع" "رقم 724"، وابن ماجه في "السنن" "رقم 1671"، والنسائي في "الكبرى"؛ كما في "التحفة" "9/ 327"، وأحمد في "المسند" "2/ 241، 516" عن أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر الهامش الآتي.
وانظر: تنقيح المناط في: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 478، 19/ 14-17، 22/ =

 

ج / 5 ص -20-   الحكم مذكورا مع غيره في النص؛ فينقح بالاجتهاد، حتى يميز ما هو معتبر مما هو ملغى، كما جاء في حديث الأعرابي الذي جاء ينتف شعره ويضرب صدره1.
وقد قسمه2 الغزالي إلى أقسام ذكرها في "شفاء الغليل"3، وهو مبسوط

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
330، 21/ 326-329، 547، 34/ 122"، - ويبن أن الصواب أنه ليس من باب القياس-، و"المسودة" "387 "، و"مختصر الطوفي" "146"، و"شرح الكوكب المنير" "4/ 203"، و"روضة الناظر" "277"، و"المستصفى" "2/ 231"، و"شفاء الغليل" "412"، و"الإحكام" "3/ 436" للآمدي، و"نهاية السول" "3/ 74"، و"الإبهاج" "3/ 56"، و"المحلى على جمع الجوامع" "2/ 292"، و"تيسير التحرير" "4/ 42"، والمحصول" "2/ 2/ 315"، والتلويح على التوضيح "2/ 580"، ومفتاح الوصول" "147"، و" المحصول" "2/ 315"، و"التلويح على التوضيح" "2/ 580"، و"مفتاح الوصول" "147"، و"نشر البنود" "2/ 204"، و"إرشاد الفحول" "221"، و"مباحث العلة في القياس" "507" وما بعدها".
1 حديث الأعرابي مضي تخريجه في الهامش السابق، ولفظه -كما عند أحمد في الموطن الثاني: عن أني هريرة؛ أن أعرابيًا جاء يلطم وجهه، وينتف شعره، ويقول: ما أراني إلا قد هلكت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وما أهلكك؟". قال: أصبت أهلي في رمضان. قال: "أتستطيع أن تعتق رقبة؟". قال: لا. قال: "أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟". قال: لا. قال: "أتستطيع أن تطعم ستين مسكنًا؟". قال: لا. وذكر الحاجة، قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزنبيل -وهو المكتل فيه خمسة عشر صاعًا- أحسبه تمرًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أين الرجل؟". قال: "أطعم هذا". قال: يا رسول الله! ما بين لابتيها أحد أحوج منا أهل بيت. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، قال: "أطعم أهلك".
2 قسموه باعتبار طرق الحذف إلى أربعة أنواع:
أ- ما بين إلغاء بعض الاوصاف بثبوت الحكم بالباقي في محل آخر؛ فيلزم استقلال ا لمستبقي وعدم جزئيه المغلى.
ب- وبكونه مما علم إلغاؤه مطلقًا في أحكام الشارع، كالاختلاف بالطول والقصر والسواد والبياض؛ فلا يعلل بها حكم أصلًا.
ج- أو علم إلغاؤه في هذا الحكم المبحوث عنهه؛ كالذكورة والأنوثة في أحكام العتق. =

 

ج / 5 ص -21-   في كتب الأصول، قالوا: وهو خارج عن باب القياس، ولذلك قال به أبو حنيفة مع إنكاره1 القياس في الكفارات، وإنما هو راجع إلى نوع من تأويل الظاهر.
والثاني: المسمى بتخريج2 المناط، وهو راجع إلى أن النص الدال على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= د- أو ألا يظهر للوصف المنظور في حذفه مناسبة بينه وبين الحكم بعد البحث عنها؛ قال في "المنهاج" "2/ 705 - مع شرح الأصفهاني": "قال في" "المحصول" "5/ 230": إن هذا- أعني المسمى بتنقيح المناط الذي يبين به إلغاء الفارق -طرق جيد؛ إلا أنه بعينه طريق السبر والتقسيم من غير تفاوت، هذا وفي أصول الحنفية أنهم لم يقبلوا الطريق الرابع منه، وما قيل إنه هو السبر والتقسيم بعينه هو قول الفخر الرازي، ورد بالفرق الظاهر؛ فالسبر لتعيين العلة استقلالًا أو اعتبارًا، والتنقيح لتعيين الفارق وإبطاله لا لتعيين العلة، قال الصفي الهندي: الحق أنه قياس خاص مندرج تحت مطلق القياس؛ فالقياس إما بذكر الجامع، أو بإلغاء الفارق، بأن يقال: لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا، وكذا لا مدخل له في العلية كما في إلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق، يقال: لا فرق إلا الذكورة، وهي ملغاة اتفاقًا، ولما قال الغزالي: لا نعرف خلافًا في جواز تنقيح المناط؛ رد عليه العبدري بأن الخلاف ثابت بين مثبتي القياس ومنكريه لرجوعه للقياس، وهذا ولما قسموا القياس إلى قياس علة وقياس دلالة وقياس في معنى الأصل؛ قالوا: إن هذا هو القياس بنفي الفارق". "د".
3 انظر منه: "ص428 وما بعدها".
1 قال الآمدي: "وهذا الضرب وإن أقر به أكثر منكري القياس؛ فهو دون الأول، أعني تحقيق المناط. "د".
وكتب "ف" هنا ما نصه: "وسماه استدلالًا وفرق بينه وبين القياس بأن القياس ما كان الإلحاق فيه بجامع يفيد غلبة الظن، والاستدلال ما كان بجامع يفيد القطع".
2 وذلك كالاجتهاد في إثبات أن الشدة المطربة هي علة حرمة الخمر مثلًا بمسلك من مسالك العلة المعتبرة، وككون القتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص حتى يقاس على ذلك كل ما سواه؛ فهو نظر واجتهاد في معرفة علة حكم دل النص أو إجماع عليه دون علته، وهذا في الرتبة دون سابقيه، ولذا أنكره أهل الظاهر والشيعة وطائفة من البغداديين المعتزلة.
قال"ماء": "المناط؛ بفتح الميم: من الإناطة، وهي تعليق الشيء على الشيء وإلصاقه به، قال حسان:

وأنت زنيم نيط في آل هاشم          كما نيط خلف الراكب القدح الفرد

 

ج / 5 ص -22-   الحكم لم يتعرض للمناط؛ فكأنه أخرج بالبحث، وهو الاجتهاد1 القياسي، وهو معلوم.
والثالث: هو نوع من تحقيق المناط المتقدم الذكر؛ لأنه2 ضربان:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال أبو تمام:

بلاد بها نيطت علي تمايمي      وأول أرض مس جلدي ترابها

أحب بلاد الله ما بين منعج         إلي وسلمًا أن تصوب سحابها

وسمي به؛ لأن العلة ربط بها الحكم وعلق عليها. قاله [في] "نشر البنود" [2/ 204]".
وكتب "ف" هنا ما نصه: "تخريج المناط هو إبداء ما نيط به الحكم، أي استنباطه وتعيينه بإبداء مناسبة بينه وبين الحكم مع الاقتران بينهما، والسلامة من القوادح؛ كاستنباط الإسكار في حديث مسلم:
"كل مسكر حرام" بالنظر في الأصل, وحكمه ووصفه، فإن مجرد النظر في ذلك يعلم منه أن الإسكار لإزالته العقل حفظه، مناسب للحرمة، وقد اقترن بها، وسلم من القوادح" انتهى.
قلت: مضى تخريج حديث "كل مسكر حرام" في "4/ 34"، وهو صحيح.
وانظر في تخريج المناط: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 17-18 و22/ 337".
و"روضة الناظر" "278"، و"شرح الكوكب المنير" "4/ 200-202"، و"مختصر الطوفي" "146"، و"الإحكام" "3/ 436" للآمدي، و"المستصفى" "2/ 233"، و"الإبهاج" "3/ 58"، و"تيسير التحرير" "4/ 43"، و"شرح تنقيح الفصول" "389"، و"شرح العضد" "2/ 239"، و"مباحث العلة في القياس" "516-517".
1 هو بعضه، وإلا، ففي نوع القياس ذي العلة المنصوصة أو المجمع عليها لا يزال الاجتهاد القياسي موجودًا، وإن لم يدخل في مسمى تخريج المناط. "د".
2 لعل الأصل: "إلا أنه"؛ أي: إن هذا القسم من تحقيق المناط ضربان: ما يرجع للأنواع، وما يرجع للجزئيات، لكن بالمعنى الخاص الذي سيفيض الكلام فيه، وهذان حكمهما حكم القسمين الأولين، يجوز انقطاعهما ولا يؤدي إلى ممنوع، وأما ما يرجع للجزئيات لكن بالمعنى العام الذي يستوي فيه المكلفون وينظر إليهم بنظر واحد، فهذا لا يجوز انقطاعه كما تقدم له هذا تخليص كلامه. "د".

 

ج / 5 ص -23-   أحدهما: ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص، كتعيين1 نوع المثل في جزاء الصيد، ونوع الرقبة في العتق في الكفارات، وما أشبه ذلك، وقد تقدم التنبيه عليه.
الضرب الثاني: ما يرجع إلى تحقيق مناط فيما تحقق مناط حكمه، فكأن تحقيق2 المناط على قسمين:
- تحقيق عام، وهو ما ذكر.
- وتحقيق خاص من ذلك العام.
وذلك أن الأول نظر في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما، فإذا نظر المجتهد في العدالة مثلًا، ووجد هذا الشخص متصفا بها على حسب ما ظهر له، أوقع3 عليه ما يقتضيه النص من التكاليف المنوطة بالعدول، من الشهادات والانتصاب للولايات4 العامة أو الخاصة وهكذا إذا نظر في الأوامر والنواهي الندبية، والأمور الإباحية، ووجد المكلفين والمخاطبين على الجملة، أوقع عليهم أحكام تلك النصوص، كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرمات من غير التفات إلى شيء5 غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة، فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في هذا النظر.
أما الثاني، وهو النظر الخاص، فأعلى من هذا وأدق، وهو في الحقيقة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د" و"ف" و"م": "كتعين"، والمثبت من الأصل و"ماء" و"ط".
2 أي: في الجزئيات كما أشرنا إليه. "د".
3 في "م": "أو وقع".
4 في "ط": "للولاية".
5 أي: مما سيشير إليه بقوله: "يعرف به النفوس ومراميها.. إلخ"، أي التي هي المعارف المتعلقة بطب النفوسن وهي وظيفة مشايخ الطريق في الزمن السابق، ويظهر أنه تحقق ما يريد المؤلف الاستدلال على إمكانه، وهو خلو الزمن عن أصحاب هذا الاجتهاد. "د".

 

ج / 5 ص -24-   ناشىء عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}1. [الأنفال: 29].
وقد يعبر عنه بالحكمة، ويشير إليها قوله تعالى:
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].
قال مالك: "من شأن ابن آدم أن لا يعلم ثم يعلم، أما سمعت قول الله تعالى:
{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]2.
وقال أيضًا: "إن الحكمة مسحة ملك على قلب العبد"3.
وقال أيضًا: "الحكمة نور يقذفه الله في قلب العبد"4.
وقال: "أيضًا يقع بقلبي أن الحكمة الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله"5.
وقد كره مالك كتابة العلم -يريد ما كان نحو الفتاوى؛ فسئل: ما الذي نصنع؟ فقال: تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم، ثم لا تحتاجون إلى الكتاب.
وعلى الجملة، فتحقيق المناط الخاص نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان، ومداخل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: هداية ونورًا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل. "ماء".
2 أورد نحوه عن مالك القرطبي في "التفسير" "7/ 396"، وذكره القاضي عياض في "ترتيب المدراك" "1/ 186 - ط بيروت".
3 أورده القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 186".
4 أورده القاضي عياض في "المدارك" "1/ 186"، وذكر المصنف عن مالك نحوه "1/ 105"، وخرجناه هناك، وفاتنا عزوه للدوري فيما رواه الأكابر "ص62" ولأبي نعيم "6/ 319".
5 أورد القاضي عياض في "المدارك" "1/ 186".

 

ج / 5 ص -25-   الهوى والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها1 هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل، هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره2.
ويختص غير المنحتم بوجه آخر وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص، دون شخص إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك، فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر، ورب عمل يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر، ويكون بريئًا من ذلك في بعض الأعمال دون بعض، فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورًا يعرف به النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف، فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق، لكن مما ثبت عمومه3 في التحقيق الأول العام، ويقيد به ما ثبت إطلاقه في الأول، أو يضم قيدًا أو قيودًا لما ثبت له في الأول بعض القيود.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ماء": "يلتقيها".
2 فكل منها لا يدخله العجب به، والرياء، والسمعة، والاعتماد على العمل، وهكذا من تحميل النفس فيهما ما لا قدرة لها عليه؛ فيدخل بذلك في الضرر أو الحرج، فهذه القيود تخلص له العمل من تلك الشوائب. "د". وفي "ط": "المنحتم من غيره".
3 فتحقيق المناط العام المتقدم يلاحظ في هذا الخاص أيضًا؛ فمرتبة هذا الخاص تأتي بعد تحقيق العام في الشخص الذي ينظر فيه بالنظر الخاص، فلو لم يكن ممن ينطبق عليهم تعلق التكليف من الوجهة العامة بهذا النوع من العمل، لا يكون هناك محل للنظر الخاص في أنه يناسبه أو لا يناسبه.. إلخ "د".

 

ج / 5 ص -26-   هذا معنى تحقيق المناط هنا.
وبقي الدليل على صحة هذا الاجتهاد، فإن ما سواه قد تكفل الأصوليون ببيان الدلالة عليه، وهو داخل تحت عموم تحقيق المناط، فيكون مندرجًا تحت مطلق الدلالة عليه، ولكن إن تشوف أحد إلى خصوص الدلالة عليه؛ فالأدلة عليه كثيرة نذكر منها ما تيسر بحول الله.
فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في أوقات مختلفة، عن أفضل الأعمال، وخير الأعمال، وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال، فأجاب بأجوبة مختلفة كل واحد منها لو حمل على إطلاقه أو عمومه لاقتضى مع غيره التضاد في التفضيل1، ففي "الصحيح" أنه عليه الصلاة والسلام سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال:
"إيمان بالله". قال: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". قال: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور"2.
وسئل عليه الصلاة والسلام: أي الأعمال أفضل؟ قال:
"الصلاة لوقتها". قال: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين". قال: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ماء" "التفصيل" بالصاد المهملة.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب من قال إن الإيمان هو العمل، 1/ 77/ رقم 26، وكتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، 3/ 381/ رقم 1519"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، 1/ 88/ رقم 83" عن أبي هريرة رضي الله عنه، والمذكورة لفظ مسلم، وزاد البخاري:
"إيمان بالله ورسوله"، ولذ قال مسلم عقبه: "وفي رواية محمد بن جعفر قال: "إيمان بالله ورسوله".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير، 6/ 3 رقم 2782"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، 1/ 89/ رقم 85" عن ابن مسعود رضي الله عنه.

 

ج / 5 ص -27-   وفي النسائي عن أبي إمامة، قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: مرني بأمر آخذه عنك. قال: "عليك بالصوم، فإنه لا مثل له"1.
وفي الترمذي: [سئل] أي الأعمال أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات"2.
وفي "الصحيح" في قول:
"لا إله إلا الله وحده لا شريك له".... إلخ،
قال:
"ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به" الحديث3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه النسائي في "المجتبى" كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب.. 4/ 165-166"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "3/ 5" وأحمد في "المسند" "5/ 248-249، 255، 258"، وعبد الرزاق في "المصنف" "رقم 7899"، والطبراني في "الكبير" "رقم 7463، 7464، 7465"، وابن خزيمة في "الصحيح" "رقم 1893"، وابن حبان في "الصحيح" "8/ 211، 212، 213/ رقم 3425، 2426 - الإحسان ورقم 929، 930 - موارد"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 421"، والأصبهاني في "الترغيب والترهيب" "رقم 1723" عن أبن أمامة، وإسناده صحيح.
وفي "ماء": "لا مثيل له".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الدعاء، باب منه، 5/ 458/ رقم 3376"، وأحمد في "المسند" "3/ 75"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 981"، والبغوي في "شرحة السنة" "5/ 17/ رقم 1246، 1247" من طريق ابن ليهعة عن دراج أبي السمخ عن أبي الهيثم عن أبي سعيد به، ولفظه: "أي العباد"، وليس: "أي الأعمال".
قال الترمذي: "وهذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث دراج".
قلت: في رواية دراج عن أبي الهيثم ضعف، ولذا الحديث ضعيف، وهو في "ضعيف سنن الترمذي" "رقم 670".
ويغني عنه ما في "صحيح مسلم" "رقم 2676" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"سبق المفردون". قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا والذكرات". ولا يوجد فيه السؤال عن أفضل الأعمال ونحوه.
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الدعوات، باب فضل التهليل، 11/ 201/ =

 

ج / 5 ص -28-   وفي النسائي: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء"1.
وفي البزار: أي العبادة أفضل؟ قال: "دعاء المرء لنفسه"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رقم 6403" عن أبي هريرة مرفوعًا:
"من قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مئة مرة؛ كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسن، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر منه".
وفي "صحيح مسلم" "17/ 17-18 - بشرح النووي" عنه مرفوعًا:
"من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مئة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه".
وفي رواية لأبي داود في "سننه" "رقم 5091":
"سبحان الله العظيم وبحمده".
وانظر: "سلاح المؤمن" "ص271" لابن الإمام، و"الأذكار" للنووي: "1/ 220" تحقيق الأخ سليم الهلالي.
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء، رقم 3370"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، رقم 3829" والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 712"، والطيالسي في "المسند" "1/ 253 - منحة"، وأحمد "2/ 362"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 490"، وابن حبان في "الصحيح" "3/ 151-152/ رقم 870 - الإحسان"، والطبراني في "الأوسط" "3/ 252-253/ رقم 2544"، وفي "الدعاء" "رقم 28" من طريق عمران القطان عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن عن أبي هريرة مرفوعًا.
قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا عمران".
قلت: إسناده حسن من أجل عمران القطان، وباقي رجاله ثقات، وفي عزو المصنف للنسائي نظر، بل هو خطأ، إذ لم يعزه له المزي في "تحفة الأشراف" "9/ 466/ رقم 12938"، ولا ابن الإمام في "سلاح المؤمن" "رقم 10"، ولا النووي في "الأذكار" "رقم 1166".
2 أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 715"، والحاكم في المستدرك "1/ 543"، والبزار في "المسند" "4/ 51/ رقم 3173، 3174 - زوائده" من طريق مبارك بن حسان عن عطاء عن عائشة به. وإسناده ضعيف؛ لضعف المبارك بن حسان، انظر: "تهذيب التهذيب" "10/ 26" و"الكامل في "الضعفاء" "6/ 2324".
وفي "ماء": "أي العبادات أفضل؟!".

 

ج / 5 ص -29-   وفي الترمذي: "ما من شيء أفضل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من خلق حسن"1.
وفي البزار: "يا أبا ذر! ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما؟ عليك بحسن الخلق، وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده، ما عمل الخلائق بمثلهما"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق، رقم 2003"، والطبراني في "من اسمه عطاء من رواة الحديث "رقم 13" من طريق طريف بن مطرف، وأحمد في "المسند" "6/ 442"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "6/ 468"-ولم يسق لفظه، وأبو نعيم "في الحلية" "7/ 107" من طريق الحسن بن مسلم، كلاهما عن عطاء الطيخاراني عن أم الدرداء عن أبي الدرداء به، وإسناده صحيح.
ورواه عن عطاء بنحوه: القاسم بن أبي بزة، وأخرجه من طريقه أبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، رقم 4799"، وابن أبي شيبة في "المصنف" 8/ 516"، وأحمد في "المسند" "6/ 446/ 448"، والبخاري في "الأدب المفرد" "رقم 270"، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" "ص9"، وابن أبي الدنيا في "التواضع" "رقم 173"، وتابع عطاء: يعلى بن مملك كما عند عبد الرزاق في "المصنف" "رقم 20157"، وا لترمذي في "الجامع" "رقم 2002"، وأحمد في "المسند" "6/ 451"، والبزار في "المسند" "رقم 1975 - زوائده" والبغوي في "شرح السنة" "رقم 3496"، وابن أبي الدنيا في "التواضع" "رقم 172"، والحديث صحيح.
2 أخرجه ابن أبي عاصم في "الزهد" "رقم 2"، وأبو يعلى في "المسند" "6/ 53/ رقم 3298"، والبزار في "المسند" "4/ 220/ رقم 3573 - زوائده"، وابن أبي الدنيا في "الصمت" "رقم 554"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 191"، والطبراني في "الأوسط" "رقم 7099" من طريق بشار بن الحكم عن ثابت البناني عن أنس مرفوعًا.
إسناده ضعيف، بشار بن الحكم، قال أبو زرعة: "شيخ بصري منكر الحديث"، وقال ابن حبان: "منكر الحديث جدًّا، ينفرد عن ثابت بأشياء ليست من حديثه كأنه ثابت آخر، لا يكتب حديثه إلا على جهة التعجب" ومنه تعلم ما في قول الهيثمي في "المجمع" "8/ 22": "ورجال أبي يعلى ثقات"! وكذا قول البوصيري -كما في هامش "المطالب العالية" "رقم 2540": "ورواته ثقات".
وأخرج نحوه هناد في "الزهد" "رقم 1129"، وابن أبي الدنيا في "المصنف" "رقم 646" تعن الشعبي مرسلًا، وإسناده ضعيف، فيه مبهم وضعيف.

 

ج / 5 ص -30-   وفي مسلم: أي المسملين خير؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده"1.
وفيه: سئل: أي الإسلام خير؟ قال:
"تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"2.
وفي "الصحيح":
"وما أعطي أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، 1/ 65/ رقم 40 بعد 64" عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
وأخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب أي الإسلام أفضل، 1/ 54/ رقم 11"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، 1/ 66" عن أبي موسى بلفظ: "أي الإسلام أفضل؟".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب إطعام الطعام من الإسلام، 1/ 55/ رقم 12، وباب إفشاء السلام من الإسلام، 1/ 82/ رقم 28"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، 1/ 65/ رقم 39 بعد 63" عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، 3/ 335/ رقم 1469"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر، 2/ 729/ رقم 1053" عن أبي سعيد مرفوعًا، وهو جزء في آخر الحديث.

 

ج / 5 ص -31-   وفي الترمذي: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"1.
وفيه:
"أفضل العبادة انتظار الفرج"2.
إلى أشياء من هذا النمط جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق، ويشعر إشعارًا ظاهرًا بأن القصد إنما هو بالنسبة3 إلى الوقت أو إلى حال السائل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، 9/ 74/ رقم 5027، 5028"، والترمذي في "الجامع" "أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء في تعليم القرآن، 5/ 173/ رقم 2907"، وأبو داود في "كتاب الصلاة، باب في ثواب قراءة القرآن، رقم 1452"، والنسائي في "فضائل القرآن" "رقم 61"، وغيرهم عن عثمان رضي الله عنه.
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الدعوات، باب في انتظار الفرج وغير ذلك، 5/ 565/ رقم 3571"، وابن أبي الدنيا في "الفرج بعد الشدة" "رقم 2" و"القناعة والتعفف" رقم 79، والطبراني في الكبير "10/ 124" رقم 188، والدعاء "رقم 22"، والأوسط "2/ ق15/ أ" من طريق حماد بن واقد عن إسرائيل عن إبي إسحاق الهمداني عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رفعه: "سلوا الله من فضله، فإن الله عز وجل يحب أن يُسأَل وأفضل...".
قال الطبراني: "ولم يَرْوِ هذا الحديث عن أبي إسحاق إلا إسرائيل، تفرد به حماد بن واقد، ولا يروى عن ابن مسعود إلا بهذا الإسناد"، وقال الترمذي عقبه: "هكذا روى حماد بن واقد في هذا الحديث، وقد خولف في روايته، وحماد بن واقد هذا هو الصفار ليس بالحافظ، وهو عندنا شيخ بصرى، وروى أبو نعيم هذا الحديث عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل"، قال: "وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح".
قلت: وحكيم بن جبير متهم، وإن كان الأصح في حديثه الإرسال: فالحديث ضعيف جدًا.
وورد عن ابن عمر وابن عباس وأنس وعلي بلفظ: "انتظار الفرج بالصبر عبادة"، وطرقه كلها معلولة، ومدارها على كذابين ووضاعين؛ إلا حديث علي فهو ضعيف جدًا، انظر: "السلسلة الضعيفة" "رقم 1572، 1573".
3 فهو من تحقيق المناط وتعيين الصورة التي توجد فيها الأفضلية بالنسبة للوقت أو السائل. "د".

 

ج / 5 ص -32-   وقد دعا1 عليه السلام لأنس بكثرة المال فبورك له فيه.
وقال لثعلبة بن حاطب حين سأله2 الدعاء له بكثرة المال: "قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه"3.
وقال لأبي ذر:
"يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي؛ لا تَأَمَّرنَّ على اثنين ولا تولين مال يتيم"4.
ومعلوم أن كلا العملين5 من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله وقد قال في الإمارة والحكم:
"إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن" الحديث6.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بقوله صلى الله عليه وسلم:
"اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته" أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الدعوات، باب قول الله تبارك وتعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِم} 11/ 136/ رقم 6334، وباب الدعاء بكثرة المال والوالد مع البركة، 11/ 182/ رقم 6378، 6379، وباب الدعاء بكثرة الولد مع البركة، 11/ 183/ رقم 6380، 6381"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الجماعة في الناقلة.... 1/ 458/ رقم 660، وكتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أنس رضي الله عنه 4/ 1928/ رقم 2480" عن أم سليم رضي الله عنهما.
2 أي: ولم يقبل الإرشاد لما يناسب نفسه، ونزل فيه:
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية [التوبة: 75]؛ فكان هذا من معجزات علم الغيب. "د".
قلت: لم يثبت ذلك كما قال المحققون من علماء الحديث.
3 مضي تخريجه "2/ 448"، وهو ضعيف.
4 مضى تخريجه في "2/ 448"، وفي الأصل:
"ولا تَلِيَنَّ مال يتيم".
"5" في "ط": "كلًّا من العملين".
"6" تتمة الحديث:
"وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا"، أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل 3/ 1458/ رقم 1827 والنسائي في "المجتبى" "كتاب آداب القضاة، باب فضل الحاكم العادل في حكمه، 8/ 221"، والحميدي في "المسند" "2/ 268/ رقم 588"، وأحمد في "المسند" "2/ 160"، وابن المبارك في "الزهد" "رقم 1484"، والآجري في "الشريعة" "ص322"، وابن زنجويه في "الأموال" "1/ 66" ومن طريقه البغوي في "التفسير" "2/ 93، "وشرح السنة" "10/ 63"، والبيهقي في "السنن الكبرى "10/ 87" والهروي في "الأربعين في دلائل التوحيد" رقم "16"، وأبو نعيم في "فضيلة العادلين" "رقم 13 بتحقيقي" عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

 

ج / 5 ص -33-   وقال: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة"، ثم نهاه عنهما لما علم له خصوصا في ذلك من الصلاح.
وفي "أحكام إسماعيل بن إسحاق" عن ابن سيرين؛ قال: كان أبو بكر يخافت، وكان عمر يجهر -يعني: في الصلاة؛ فقيل لأبي بكر: كيف تفعل؟ قال: أناجي ربي وأتضرع إليه، وقيل لعمر: كيف تفعل؟ قال: أوقظ الوسنان، وأخسأ الشيطان، وأرضي الرحمن. فقيل لأبي بكر: "ارفع شيئا" وقيل لعمر: "اخفض شيئا"2 وفسر بأنه عليه الصلاة والسلام قصد3 إخراج كل واحد منهما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "3/ 294".
2 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الصلاة، باب ما جاء في قراءة الليل، رقم 447"، ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" "4/ 30-31/ رقم 919" والتفسير" "4/ 190"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، رقم 1329"، وابن خزيمة في "الصحيح" "رقم 1161" ومن طريقه ابن حبان في "الصحيح" "3/ 6-7/ رقم 733 - الإحسان"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 310" من طريق يحيى بن إسحاق السليحينى عن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة مرفوعًا بنحوه، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
قال الترمذي عقبه: "هذا حديث غريب، وإنما أسنده يحيى بن إسحاق عن حماد بن سلمة، وأكثر الناس إنما رووا هذا الحديث عن ثابت عن عبد الله بن رباح مرسلًا".
قلت: يحيى ثقة، وقد وصل الحديث؛ فوصله من باب زيادة الثقة إن شاء الله تعالى؛ فهذه علة لا تضر، ولا سيما أن له شاهدًا عن أبي هريرة، عند أبي داود في "السنن" "رقم 1330" بإسناد حسن، وعن علي عند أحمد في "المسند" "1/ 109"، ورجاله ثقات، وانظر: "التهجد" لعبد الحق الإشبيلي "ص 166".
وفي "د": "وقيل لعمرو"، والصواب: "لعمر".

 

ج / 5 ص -34-   عن اختياره وإن كان قصده صحيحًا.
وفي "الصحيح": أن ناسا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال:
"وقد وجدتموه؟" قالوا: نعم. قال: "ذلك صريح الإيمان"1.
وفي حديث آخر: "من وجد من ذلك شيئًا، فليقل: آمنت بالله"2.
وعن ابن عباس في مثله؛ قال: "إذا وجدت شيئا من ذلك فقل:
{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [الحديد: 3]3. فأجاب4 النبي عليه الصلاة والسلام بأجوبة مختلفة، وأجاب ابن عباس بأمر آخر والعارض من نوع واحد.
وفي "الصحيح":
"إني أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يكبه الله في النار"5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها 1/ 119/ رقم 132" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
3 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في رد السنة 4/ 329/ رقم 5110"، واللالكائي -مختصرا- في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "5/ 920/ رقم 1663"، وإسناده حسن: انظر: "صحيح سنن أبي داود" "3/ 962/ رقم 4262".
4 أقول: وأجاب من سأله عن المباشرة للصائم بالمنع، وأجاب آخر بالجواز، ثم ظهر أن الأول شاب والثاني شيخ. "د".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل 1/ 79/ رقم 27، وكتاب الزكاة، باب قول الله تعالى:
{لَا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} 3/ 340-341/ رقم 1478"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الإيمان: باب تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه 1/ 132/ رقم 150" عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

 

ج / 5 ص -35-   وآثر عليه الصلاة والسلام في بعض الغنائم قومًا، ووكل قومًا إلى إيمانهم1 لعلمه بالفريقين، وقبل عليه الصلاة والسلام من أبي بكر ماله كله2، وندب غيره إلى استبقاء بعضه وقال: "أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك"3، وجاء آخر بمثل البيضة من الذهب؛ فردها في وجهه4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم" يعطي المؤلفة قلوبهم 6/ 251/ رقم 3150" عن عبد الله بن مسعود؛ قال: "لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناسًا في القسمة؛ فأعطى الأقرع بن حابس مئة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسًا من أشراف العرب، فآثرهم يومئذ في القسمة".
وما أخرجه البخاري أيضًا في الكتاب والباب نفسه "رقم 3147" عن أنس أن ناسًا من الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال هوازن ما أفاء: "فطفق يعطي قريشًا ويدعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم". قال أنس: فحدثت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أدم، ولم يدع معهم أحدًا غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
"ما كان حديث بلغنى عنكم؟". فقال له فقهاؤهم: "أما ذوو آرائنا يا رسول الله؛ فلم يقولوا شيئًا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم؛ فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشًا ويترك الأنصار وسيوفنا تقطر من دمائهم". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعطي رجالًا حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعوا إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به؟".
2 مضى تخريجه "3/ 70".
3 مضى تخريجه "3/ 70"، وقوله صلى الله عليه وسلم هذا لكعب بن مالك حيث أراد أن ينخلع عن ماله بعد قبول توبته.
4 يشير إلى ما أخرجه أبو داود في "سننه" "كتاب الزكاة، باب الرجل يخرج من ماله، 2 =

 

ج / 5 ص -36-   وقال علي: "حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله؟!"1، فجعل إلقاء العلم مقيدًا، فرب مسألة تصلح لقوم دون قوم2، وقد قالوا في الرباني: إنه الذي يعلم3 بصغار العلم قبل كباره4، فهذا الترتيب من ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= / 128/ رقم 1673 عن جابر بن عبد الله، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله! أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة، ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من خلفه، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته، أو لعقرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي أحدكم بما يملك، فيقول: هذه صدقة ثم يقعد يستكف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى".
وأخرجه الدارمي في "سننه" "1/ 391"، وابن خزيمة في "صحيحه" "4/ 98/ رقم 2441"، وأبو يعلى في "المسند" "رقم 2084"، وابن حبان في "الصحيح" "8/ 165-166/ رقم 3372، الإحسان"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 413"، والبيهقي في "الكبرى" "4/ 181".
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي.
قلت: فيه ابن إسحاق: أخرج له مسلم مقرونًا بغيره، وهو مدلس، وقد عنعن، ولم يصرح بالتحديث، فالإسناد ضعيف.
نعم، صح قوله صلى الله عليه وسلم:
"خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى"، لوروده من طريق آخر عند أحمد في "المسند" "3/ 346"، ولوجود شاهد له عن أبي هريرة عند البخاري في "الصحيح" "رقم 1428" وغيره.
1 مضى تخريجه "1/ 124"، وانظر عنه: "مجموع فتاوى ابن تيمية "13/ 260، 261".
2 في "د": "لقوم".
3 في "ط": "الذي يربي".
4 ذكره البخاري في "صحيحه" كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل 1/ 160 - فتح" عقب قول ابن عباس: "كونوا ربانيين: حلماء فقهاء"، ثم قال: "ويقال: الرباني: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره".

 

ج / 5 ص -37-   وروى عن الحارث بن يعقوب، قال: "الفقيه كل الفقيه من فقه في القرآن، وعرف مكيدة الشيطان"1، فقوله: "وعرف مكيدة الشيطان" هو النكتة في المسألة.
وعن أبي رجاء العطاردي، قال: "قلت للزبير بن العوام: ما لي أراكم يا أصحاب محمد من أخف الناس صلاة؟ قال: نبادر الوسواس"2.
هذا مع أن التطويل مستحب، ولكن جاء ما يعارضه، ومثله حديث:
"أفتَّان أنت يا معاذ؟"3.
ولو تتبع هذا النوع لكثر جدًّا، ومنه ما جاء عن الصحابة والتابعين وعن الأئمة المتقدمين، وهو كثير.
وتحقيق المناط في الأنواع واتفاق الناس عليه في الجملة مما يشهد له4 كما تقدم، وقد فرع العلماء عليه، كما قالوا في قوله تعالى:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} الآية [المائدة: 33]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 817/ رقم 1528" بسنده إليه.
2 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "2/ 366-367، 367/ رقم 3727، 3730"، وابن عساكر وابن النجار، كما في "كنز العمال" "1/ 398/ رقم 1706"، وإسناده صحيح.
3 أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"" ومضى تخريجه "1/ 528، 2/ 248".
وكتب "د": "وكان معاذ يطوِّل بهم في الصلاة؛ فيقرأ بالبقرة، وفيهم أصحاب الحاجات فشكوه، أي: مع أن التطويل مطلوب في الأصل".
قلت: انظر في شرح الحديث: تهذيب سنن أبي داود" "1/ 415-417"، و"زاد المعاد" "1/ 212"، كلاهما لابن القيم.
4 أي: يشهد للنظر الشخصي الخاص، ويفريعهم على مناط الأنواع كما في الأمثلة لا يتم إلا بالنظر الشخصي الخاص، فلذلك كان النوعي شاهدًا للشخصي الخاص الذي هو بصدد إثباته. "د".

 

ج / 5 ص -38-   إن الآية تقتضي مطلق التخيير، ثم رأوا أنه مقيد بالاجتهاد، فالقتل في موضع والصلب في موضع، والقطع في موضع والنفي في موضع، وكذلك التخيير في الأسارى من المن والفداء.
وكذلك جاء في الشريعة الأمر بالنكاح وعدوه من السنن، ولكن قسموه إلى الأحكام الخمسة، ونظروا في ذلك في حق كل مكلف وإن كان نظرا نوعيا؛ فإنه لا يتم إلا بالنظر الشخصي، فالجميع في معنى واحد، والاستدلال على الجميع واحد، ولكن قد يستبعد ببادىء الرأي وبالنظر الأول؛ حتى يتبين مغزاه ومورده من الشريعة، وما تقدم وأمثاله كافٍ مفيد للقطع بصحة هذا الاجتهاد، وإنما وقع التنبيه عليه؛ لأن العلماء قلَّما نبهوا عليه على الخصوص، وبالله التوفيق.
فإن قيل: كيف تصح دعوى التفرقة بين هذا1 الاجتهاد المستدل عليه2 وغيره من أنواع الاجتهاد، مع أنهما في الحكم سواء؟ لأنه إن كان غير منقطع فغيره كذلك، إذ لا يخلو أن يراد بكونه غير منقطع أنه لا يصح ارتفاعه [بالكلية، وإن صح إيقاع بعض جزئياته، أو يراد
أنه لا يصح ارتفاعه] ولا بالجزئية وعلى كل تقدير فسائر أنواع الاجتهاد كذلك.
أما الأول؛ فلأن الوقائع في الوجود لا تنحصر؛ فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو تحقيق المناط بالمعنى الأول. "د".
"2: أي: على أنه لا يرتفع من الدنيا ما دام التكليف موجودًا. "د".
3 لعل الأصل: "بالكلية أو بالجزئية"، أي: لا يخلو أن يكون هناك بالانقطاع الممنوع هو الارتفاع كليًا بحيث لا يكون له وجود أصلًا، أي: وأما ارتفاعه في بعض الجزئيات مع بقائه في البعض الآخر؛ فليس بممنوع، أو يكون غرضك أنه لا يرتفع أصلًا ولا في جزئية، وقد فرع على الأول ما يفيد استواءهما في عدم الارتفاع كليًا، وعلى الثاني ما يفيد استواءهما في أنه لا ضرر في تعطل بعض الجزئيات في كل من النوعين. "د". وما بين المعقوفتين من "ط" فقط.

 

ج / 5 ص -39-   بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصًا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، وعند ذلك؛ فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهو أيضًا اتباع للهوى، وذلك كله فساد؛ فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية، وهو معنى تعطيل التكليف لزومًا، وهو مؤدٍّ إلى تكليف ما لا يطاق1؛ فإذًا لا بد من الاجتهاد في كل زمان؛ لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان.
وأما الثاني: فباطل؛ إذ لا يتعطل مطلق التكليف بتعذر الاجتهاد في بعض الجزئيات، فيمكن ارتفاعه في هذا النوع الخاص وفى غيره2، فلم يظهر بين الاجتهادين فرق.
فالجواب: أن الفرق بينهما ظاهر من جهة أن هذا النوع الخاص كلي في كل زمان، عام في جميع الوقائع أو أكثرها، فلو فرض ارتفاعه لارتفع معظم التكليف الشرعي أو جميعه، وذلك غير صحيح؛ لأنه إن فرض في زمان ما ارتفعت الشريعة ضربة لازب3 بخلاف غيره، فإن الوقائع المتجددة التي لا عهد بها في الزمان المتقدم قليلة بالنسبة إلى ما تقدم، لاتساع النظر والاجتهاد من المتقدمين فيمكن تقليده فيه؛ لأنه معظم الشريعة، فلا تتعطل الشريعة بتعطل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فدليلك بعينه يجري في الأنواع الثلاثة أيضًا؛ فرفع الاجتهاد فيها يؤدي إلى تكليف المحال؛ فلا وجه لهذه التفرفة، بقي أن يقال: إن هذا غير ما أجراه في الدليل هناك قال: "لكان تكليفًا بالمحال، وهو غير ممكن شرعًا، كما أنه غير ممكن عقلًا"، والتزمنا هناك تصحيح كلامه، بجعله من التكليف المحال، ورجعه إلى تكليف الغافل، ولكنه هنا جعله من تكليف ما لا يطاق، وهو التكليف بالمحال، وهو جائز عقلًا، غايته أنه غير واقع في الشرع، والظاهر أن غرضه هنا عين ما تقدم له. "د".
2 لعله: وفي غيره كذلك"؛ أي: في غير الاجتهاد المستدل عليه من أنواع الاجتهاد.
"ف".
3 في "ط": "لازم".

 

ج / 5 ص -40-   بعض الجزئيات، كما لو فرض العجز في تحقيق المناط في بعض الجزئيات دون السائر؛ فإنه لا ضرر على الشريعة في ذلك؛ فوضح أنهما ليسا سواء2، والله أعلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "اجتهاد تحقيق".
2 إذ إنه إذا تعطلت الأنواع الثلاثة؛ فإنما يتعطل قليل من فروع الشريعة، بخلاف تحقيق المناط المستدل على عدم ارتفاعه، فإن تعطله يقتضي تعطل جميع فروع الشريعة، أو على الأقل معظمها. "د".

 

ج / 5 ص -41-   المسألة الثانية:
إنما تحصل1 درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
أحدهما: فهم2 مقاصد الشريعة على كمالها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي في المسألة الخامسة والسادسة ما يفيد أن هذا الحصر ليس تحقيقًا، وأنه بالنسبة لبعض أنواع الاجتهاد فقط، وأن بعضها يحتاج لأكثر من الوصفين، وبعضها لا يتوقف عليهما. "د".
2 لم نر من الأصوليين من ذَكَر هذا الشرط الذي جعله الأول، بل جعله السبب، أما التمكن من الاستنباط؛ فهو الذي اقتصرت عليه كتب الأصول المشتهرة، وجعلوه يتحقق بمعرفة الكتاب والسنة، أي ما يتعلق منهما بالأحكام، ثم بمعرفة مواقع الإجماع، وشرائط القياس، وكيفية النظر، وعلم العربية، والناسخ والمنسوخ، وحال الرواة، وهذه هي المعارف التي أشار إليها المؤلف، ثم رأيت في "إرشاد الفحول" "ص258" للشوكاني نقل الغزالي [في "المنخول" "ص366-367" وهو مأخوذ -كما هو معلوم- عن إمام الحرمين الجويني، والمذكور في كتابه "البرهان" "2/ 927، 338"] عن الشافعي -بعد بيان مفيد ينبغي للمجتهد أن يعمله؛ قال: "ويلاحظ القواعد الكلية أولًا، ويقدمها على الجزيئات، كما في القتل بالمثقل، فتقدم قاعدة الردع على مراعاة الاسم، فإن عدم قاعدة كلية نظر في النصوص ومواقع الإجماع" ا. هـ. وهذا بعينه ما يشير إليه المؤلف هنا، وأوضحه إيضاحًا كافيًا في المسألة الأولى من كتاب الأدلة؛ إلا أنه يبقى الكلام فيما نقله في "التبصرة" "1/ 56 - لابن فرحون" عن القرافي في نقض حكم الحاكم إذا خالف القياس والنص والقواعد، حيث قال: "ما لم يكن هناك معارض لها؛ فلا ينقض الحكم إجماعًا، كما في صحة عقد القراض، والمساقاة والسلم والحوالة ونحوها؛ فإنها على خلاف قواعد الشرع والنصوص والقياس، ولكن الأدلة الخاصة مقدمة على القواعد والنصوص والأقيسة"، ولا يخفى مخالفة هذا لما قرره المؤلف هنا، وما سبطه سابقًا، وما نقله الغزالي عن الشافعي، اللهم إلا إن يقال: معنى تقديم الدليل الخاص على القواعد في كلام القرافي تخصيصه لها، والأخذ به في موضع المعارضة إذا لم تتحقق استقامة الحكم بالكلي فيه؛ كالعرايا وسائر المستثنيات، كما تقدم للمؤلف هناك. "د".
قلت: ذكر ابن السبكي في "جمع الجوامع" "2/ 383" نقلًا عن والده في تعريف "المجتهد": "هو مَن هذه العلوم ملكة له، وأحاط بمعظم قواعد الشرع، ومارسها بحيث اكتسب قوة =

 

ج / 5 ص -42-   والثاني: الممكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.
أما الأول؛ فقد مر في كتاب المقاصد أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح، وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك، لا من حيث إدراك1 المكلَّف؛ إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات2،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يفهم بها مقصود الشارع". وذكر فيه "2/ 401" في شروط المجتهد "معرفة القواعد الكلية"، ثم ذكر عن الشافعي نحو ما عند الشوكاني، وبين البناني في "حاشيته" عليه أن هذا الاشتراط لا يخرج عن معرفة الآيات والأحاديث المتعلقة بالأحكام، فمن لم يذكر هذا الشرط -وكذا شرط معرفة المقاصد؛ فقد اعتبره مفهومًا من معرفة القرآن والسنة، فلا بد للمجتهد من أن يعرف جزئياتهما وكلياتهما، ويدرك أيضًا العلل والمصالح المنوطة بالأحكام، ومن الأصوليين من أشار إلى ذلك؛ كابن قدامة، فإنه قال في "روضة الناظر" "2/ 406 - مع شرح مختصر الروضة": "ولا بد من إدراك دقائق المقاصد في الكتاب والسنة".
وذكر ذلك علي بن عبد الكافي في السبكي في مقدمة "شرح المنهاج" "1/ 8"؛ حيث علق كمال رتبة الاجتهاد على ثلاثة أشياء، آخرها: "أن يكون له من الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة، ما يكسبه قوة يفهم منها موارد الشرع من ذلك، ومن يناسب أن يكون حكمًا لها في ذلك المحل".
وقال ابنه في "الابتهاج بشرح المنهاج" "3/ 206" أن العالم إذا تحققت له رتبة الاجتهاد جاز تقليده، وذكر من شروط ذلك "الاطلاع على مقاصد الشريعة، والخوض في بحارها".
وانظر: "الاجتهاد" "ص192" للسيد محمد موسى، و"الاجتهاد" "ص96-101" لنادية العمري، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "287-290".
1 أي: الإدراك البحث الذي لم يراع فيه الحيثية المذكورة. "د".
2 كما تقدم له أنها تكون منافع أو مضار في حال دون حال، ووقت دون وقت، ولشخص دون شخص، وأن الأغراض في الأمر الواحد تختلف، بحيث إذا نفذ غرض بعض تضرر آخر لمخالفة غرضه؛ فوضع الشريعة لا يصح أن يكون تبعًا لما يراه المكلف مصلحة؛ لأنه لا يستتب الأمر مع ذلك، بل بحسب ما رسمه الشرع من إقامة الحياة الدينا للحياة الآخرة، ولو نافت الأهواء والأغراض
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون: 71]، وتقدم الدليل على ذلك، وأن العقلاء في الفترات كانوا يحافظون على اعتبار المصالح بحسب عقولهم، لكن على وجه لم يهتدوا به إلى النصفة والعدل، بل مع الهرج، وكانت المصلحة تفوت مصلحة أخرى، وتهدم قاعدة أو قواعد؛ فجاء الشرع بالميزان الذي يجمع بين المصالح في كل وقت. "د".

 

ج / 5 ص -43-   واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث1 مراتب، فإذا بلغ الإنسان مبلغًا، فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة2 من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها فقد حصل له وصف هو السبب3 في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله.
وأما الثاني: فهو كالخادم للأول؛ فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولا، ومن هنا كان خادما4 للأول، وفي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا تعدوها وإن حصل اختلاف في بعض جزئياتها أنها من الضروريات أو من الحاجيات أو مكملات إحداهما مثلًا. "د".
2 هذا على القول المرجوح من عدم القول المرجوح من عدم جواز تجزؤ الاجتهاد، فأما على جواز ذلك وهو الراجح المختار للغزالي، وقال ابن السبكي: "إنه الصحيح؛ فلا يشترط الفهم المذكور لغير المسألة التي يتعلق بها اجتهاده". قال في "المحصول" "6/ 25": "والحق [أنه يجوز] أن [تحصل] صفة الاجتهاد تحصل في فن، بل في مسألة دون مسألة". "د".
قلت: انظر في مسألة تجزئ الاجتهاد: المستصفى" "2/ 353-354"، و"الأحكام" "4/ 164" للآمدي، و"المرآة" "2/ 469" مع "حاشية الإزميري"، و"البحر المحيط" "4/ 473 و6/ 209" للزركشي، و"شرح تنقيح الفصول" "430"، و"المعتمد" "2/ 929"، و"التقرير والتحبير" "3/ 294"، و"مقدمة المجموع" "1/ 71"، و"إرشاد الفحول" "254-255"، وإعلام الوقعين "216-217"، و"جمع الجوامع" "2/ 405-406 - مع حاشية البناني"، و"شرح العضد على ابن الحاجب" "2/ 290-291"، "وفواتح الرحموت" "2/ 364"، و"الاجتهاد في الإسلام" "ص164-173" لنادية العمري.
3 لا ينافي أنه لا بد من الوصف الآخر وهو التمكن؛ لأنه جعله شرطًا، وسمى هذا سببًا. "د".
4 لأنه لا يفهم مقاصد الشريعة إلا بواسطة هذه المعارف، وقد تقدم أنه لا بد من الكليات =

 

ج / 5 ص -44-   استنباط الأحكام ثانيًا، لكن لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط؛ فلذلك جعل شرطا ثانيًا، وإنما كان الأول هو السبب في بلوغ هذه المرتبة؛ لأنه المقصود والثاني وسيلة.
لكن1 هذه المعارف تارة يكون الإنسان عالمًا بها مجتهدًا فيها، وتارة يكون حافظًا لها متمكنًا من الاطلاع على مقاصدها غير بالغ رتبة الاجتهاد فيها، وتارة يكون غير حافظ ولا عارف؛ إلا أنه عالم بغايتها وأن له افتقارًا2 إليها في مسألته التي يجتهد فيها؛ فهو بحيث إذا عنت له مسألة ينظر فيها زاول أهل المعرفة بتلك المعارف المتعلقة بمسألته؛ فلا يقضي فيها إلا بمشورتهم، وليس بعد هذه المراتب الثلاث مرتبة يعتد بها في نيل المعارف المذكورة.
فإن كان مجتهدا فيها كما كان مالك في علم الحديث، والشافعي في علم الأصول؛ فلا إشكال، وإن كان متمكنا من الاطلاع على مقاصدها كما قالوا في الشافعي3 وأبي حنيفة في علم الحديث؛ فكذلك أيضا لا إشكال في صحة اجتهاده، وإن كان القسم الثالث؛ فإن تهيأ له الاجتهاد في استنباط الأحكام مع كون المجتهد في تلك المعارف كذلك4؛ فكالثاني وإلا؛ فكالعدم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= التي هي ضوابط المصالح والمفاسد مضمومة إلى الجزئيات التي هي الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وما يتعلق بها من المباحث المفصلة في كتب الأصول، وأنه لا يستغنى بالكليات عن الجزئيات، ولا بهذه عن تلك؛ فالجزئيات يفهم بها مقاصد الشريعة أولًا، فهي تخدمها من هذه الجهة، وعند الاستباط لا بد من ضمها معًا، كما تقدم بسطه في أول مسألة فهي تخدمها من هذه الجهة، وعند الاستباط لا بد من ضمها معًا، كما تقدم بسطه في أول مسألة في الأدلة؛ فلذا قال: "وفي استبناط الأحكام ثانيًا" وقد جعل التمكن شرطًا ثانويًا للحصول على درجة الاجتهاد، وفهم المقاصد شرطًا أوليًا، حتى عبر عنه بالسبب الذي هو أقوى من الشرط وعلله بأنه المقصود، ولو جرى على ما سبق له لعلله بأن الكليات هي أهم الجزأين؛ إذ لا بد من اعتبار الجزئيات بها دائمًا، بحيث لا يمكن أن يخرم الجزئي الكلي بخلاف الجزئيات، فإنها وإن كانت تعتبر في الاستنباط؛ إلا أنه لا بد من ردها إلى الكليات. "د".
1 في "ط": "لكون".
2 في "ماء": "افتقار".
3 هذا متعقب، انظر: "ص46".
4 سيأتي له أن يصح أن يسلم المجتهد من القارئ، ومن المحدث، ومن اللغوي، ومن المؤرخ العالم بالناسخ والمنسوخ، ولم يشترط في هؤلاء أن يكونوا متهيئين لاستنباط الأحكام؛ حتى يأخذ عنهم المجتهد ويبني حكمه؛ فما معنى قوله: "كذلك؟" الذي يفيد أن ذلك التهيؤ له قيد لصحة أخذ المجتهد عنه ما يبني عليه استنباطه؟ نعم، في "شرح العضد" "2/ 290-291" لابن الحاجب في مسألة تجزؤ الاجتهاد: "المفروض حصول جميع ما هو أمارة في [تلك] المسألة في ظنه نفيًا أو إثباتًا؛ إما بأخذه من مجتهد، وأما بعد تقرير الأئمة الأمارات".
ولكنه يحتمل أخذها من مجتهد في ذلك العلم الذي أخذ عنه فيه، وإن لم يكن مجتهدًا في الأحكام بأن لم يكن مستوفيًا كل الشرائط له؛ فتأمل. "د".

 

ج / 5 ص -45-   فصل:
وقد حصل من هذه الجملة أنه لا يلزم1 المجتهد في الأحكام الشرعية أن يكون مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة، بل الأمر ينقسم: فإن كان ثم علم لا يمكن أن يحصل وصف الاجتهاد بكنهه إلا من طريقه؛ فلا بد أن يكون من أهله حقيقة حتى يكون مجتهدا فيه، وما سوى ذلك من العلوم؛ فلا يلزم ذلك فيه، وإن كان العلم به معينا فيه ولكن لا يخل التقليد فيه بحقيقة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه قضية توجه النفي فيه إلى الكلية؛ فتنحل إلى موجبة وسالبة جزئيتين، وهما ما أشار إليهما بقوله: "بل الأمر ينقسم"؛ فقوله: "فإن كان ثم علم" الجزئية الموجبة، وقوله: "وما سوى ذلك" الجزئية السالبة، ويكن جعلهما كليتين هكذا: "كل علم لا يمكن أن يحصل.. إلخ".
و"وكل علم يحصل وصل الاجتهاد من غير طريقه لا يلزم أن يكون مجتهدًا فيه"؛ فالمطلبان الأخيران ليسا أمرًا زائدا على المطلب الأول، بل هما تفصيله ومآله، كما تقتضيه قوله: "بل الأمر ينقسم"، ولذلك ترى الدليل على الأول يخرج عن كونه استدلالًا على الثالث خاصة، وعندما أراد الاستدلال على الثالث؛ لم يجد شيئًا غير ما ذكره على الأول، والتزم أن يقول: "فقد مر ما يدل عليه"، وحينئذ؛ فهما مطلبان لا ثلاثة عند التحقيق. "د".

 

ج / 5 ص -46-   الاجتهاد؛ فهذه ثلاثة مطالب1 لا بد من بيانها:
أما الأول:
وهو أنه لا يلزم أن يكون مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة؛ فالدليل عليه أمور:
أحدها: أنه لو كان كذلك؛ لم يوجد مجتهد إلا في الندرة ممن سوى2
الصحابة، ونحن نمثل بالأئمة الأربعة؛ فالشافعي عندهم مقلِّد في الحديث لم يبلغ درجة الاجتهاد في انتقاده ومعرفته3، وأبو حنيفة كذلك، وإنما عدوا من أهله مالكا وحده، وتراه في الأحكام يحيل على غيره كأهل التجارب والطب والحيض وغير ذلك ويبني الحكم على ذلك والحكم4 لا يستقل دون ذلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مأخذ الأول قوله: "لا يلزم.. إلخ"، ومأخذ الثاني قوله: "فإن كان ثم علم.. إلخ" ومأخذ الثالث قوله: "وما سوى ذلك... إلخ" "ف".
2 ولماذا نستثني الصحابة وهم كغيرهم لا يتأتى لأحدهم أن يكون عالمًا لكل ما يتوقف عليه الاجتهاد؛ من تجارب، وطب، وغير ذلك، ولا بد من الرجوع إلى غيرهم في كثير مما يتوقف عليه الاجتهاد كما هو الواقع. "د". وفي"ط": "مما سوى".
3 انظر رد ذلك في مسألة الاحتجاج بالشافعي" "ص38 وما بعدها" للخطيب، و"مناقب الشافعي" "2/ 324-325" للبيهقي، "تهذيب الأسماء واللغات" "1/ ق1/ 50".
4 أي: والحكم الذي بناه لا يستغني عن ذلك الاجتهاد الذي رجع فيه لغيره من هؤلاء، فلو كان لا بد في المجتهد، أن يكون مجتهدًا في كل ما يتعلق به الاجتهاد؛ لكان هؤلاء الأئمة غير مقبول منهم الاجتهاد، وهو باطل، وقوله: "ولو كان مشترطًا.... إلخ" هذا دليل ثانٍ، محصله: لو كان هذا منهم شرطًا لزم ألا يجلس للقضاء بين الناس إلا مجتهد في كل ما يتوقف عليه حكمه على أحد الخصمين للآخر، وليس كذلك بإجماع؛ فأنت تراه يقيس الاجتهاد على القضاء، مع أن القضاء رتبة أخرى يدور أمرها على تحقيق المناط في الجزئيات غالبًا، ولذلك أجمعوا على اجتهاده صلى الله عليه وسلم في القضاء، مع اختلافهم في كون الاجتهاد في استباط الأحكام في رتبته صلى الله عليه وسلم، فلا يسلم قياس الاجتهاد على القضاء في عدم لزوم العلم بكل ما يتوقف عليه الحكم. "د".

 

ج / 5 ص -47-   الاجتهاد.
ولو كان مشترطًا في المجتهد الاجتهاد في كل ما يفتقر إليه الحكم؛ لم يصح لحاكم أن ينتصب للفصل بين الخصوم حتى يكون مجتهدًا في كل ما يفتقر إليه الحكم الذي يوجهه على المطلوب للطالب1، وليس الأمر كذلك بالإجماع.
والثاني2:
أن الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية علم مستقل3 بنفسه، ولا يلزم في كل علم أن تبرهن مقدماته فيه بحال، بل يقول العلماء:
إن مَن فَعَل ذلك؛ فقد أدخل في علمه علما آخر ينظر فيه بالعرض لا بالذات، فكما يصح للطبيب أن يسلم من العلم الطبيعي أن الأُسطقصات4 أربعة، وأن مزاج الإنسان أعدل الأمزجة فيما يليق أن يكون عليه مزاج الإنسان، وغير ذلك من المقدمات، وكذلك يصح أن يسلم المجتهد من القارئ أن قوله تعالى:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د" وحدها، وفي الأصل و"ف" و"م": "الطالب".
2 هو في الحقيقة دليل ثالث. "د".
3 ليس هناك علم يقال له "علم الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية" له موضوع يميزه عما سواه؛ حتى يعد كل ما خرج عنه نظرًا في عرضي العلم لا في ذاتي له، فإن كان مراده المعارف التي ينبني عليها التمكن في الاجتهاد؛ فذلك ما نحن بسبيل معرفته، وتمييز ما يتوقف عليه مما لا يتوقف عليه؛ فبعد أن يمتاز ما يتوقف عليه يقال: إن ما زاد عنه يكون البحث فيه أشبه شيء فيه بإدخال علم في آخر، وهو في اصطلاحهم غير محمود وبالجملة فهذا الدليل أشبه بالشعريات ما لم يمحص الأمر ويحصر ما يتوقف عليه الاجتهاد توقفًا أصليًا كما أشرنا إليه. "د".
قلت: كلمة "علم" لا وجود لها في الأصل.
4 كلمة يونانية يراد بها العناصر: الماء، والتراب، والهواء، والنار. "ف".
قلت: الضبط الذي رسمناه هو الذي صوبه دوزي في "تكملة المعاجم العربية" "1/ 130".
وقال "ماء": يقال لها: "الاستقصاءات"، ويقال لها: "الأركان".

 

ج / 5 ص -48-   {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6]، بالخفض مروي1 على الصحة، ومن المحدث أن الحديث الفلاني صحيح أو سقيم، ومن عالم2 الناسخ والمنسوخ أن قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّة} منسوخ بآية المواريث، ومن اللغوي أن القرء يطلق3 على الطهر والحيض، وما أشبه ذلك، ثم يبنى عليه الأحكام، بل براهين الهندسة في أعلى مراتب اليقين وهي مبنية على مقدمات4 مسلمة في علم آخر، مأخوذة في علم الهندسة على التقليد، وكذلك العدد وغيره من العلوم اليقينية، ولم يكن ذلك قادحًا في حصول اليقين للمهندس أو الحاسب في مطالب علمه، وقد أجاز5 النظار وقوع الاجتهاد في الشريعة من الكافر المنكر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليس في هذا اجتهاد حتى يقال: إنه أخذ من المجتهد كما تقدم له في مثال الطبيب، إنما هو مجرد الراوية والتلقي، ويشترك المجتهد في ذلك مع المروي عنه بمجرد الرواية، إلا أن يقال: إنه لا يلزمه في الرواية حينئذ أن يعرف طرقها وطبقات الرواة لها بخلاف عالم القرءات الذي يعد فنيًا أو نسميه خصيصاً، وهذه إذا اشترطنا في الأخذ عنه أن يكون بالغًا هذه المرتبة وإن كانت عبارة هنا لا تفيد ذلك؛ لأنه اكتفي بقوله: "مروي على وجه الصحة", ولا يخفى أن هذا يكفي فيه مجرد تلقي الرواية. "د".
2 في "ط": "علم".
3 ينافي ما سيأتي له أنه لا بد أن يكون مجتهدًا في اللغة، بحيث يساوي العرب في فهمها مفردات وتراكيب، ومن ينقص عن ذلك لا يعد بقوله في فهم الكتاب والسنة كما سيأتي له في الحاصل آخر والمسألة. "د".
4 كوجود الدائرة الذي سيمثل به، وكوجود الزاوية؛ فإنهما يرجعان إلى علم وجود الكم المتصل المبرهن عليه في غير الهندسة، وكذا العدد بالنسبة للكم المنفصل. "د".
"5" في "التحرير": و"شرحه" "3/ 291، 343 - مع التقرير والتحبير" و"منهاج البيضاوي"* "ص268" شرطية الإيمان، ثم ما هي ثمرة هذا التجويز؟ هل يقلده المسلمون فيما استنبطه من الأحكام الشرعية، وهو غير معقول، أم يعمل هو بها؟ وهذا لا يعنينا ولا يعد اجتهادًا =

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* لم يصرحا في مبحث "الاجتهاد" بشرطية الإيمان، وإنما أفاده كلامهما.

 

ج / 5 ص -49-   لوجود الصانع والرسالة والشريعة، إذ كان الاجتهاد إنما ينبني1 على مقدمات تفرض صحتها، كانت كذلك في نفس الأمر أولا وهذا أوضح من إطناب فيه.
فلا يقال: إن المجتهد إذا لم يكن عالما بالمقدمات التى يبني عليها لا يحصل له العلم بصحة اجتهاده؛ لأنا نقول: بل يحصل له العلم بذلك؛ لأنه مبني على فرض2 صحة تلك المقدمات، وبرهان الخلف3 مبني على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في الشريعة، وقوله: "تفرض صحتها" هذا غير كاف، بل لا بد من تأكده صحتها حتى يكون معتقدًا أو ظانًا صحة الحكم، أما مجرد الفرض، فلا يؤدي إلى حكم مظنون فضلًا عن معتقد، وهذا يقر أيضًا على اجتهاد الكافر؛ لأنه لا يعتقد صحة المقدمات التي ينبني عليها اجتهاده في الشريعة؛ لأنها الكتاب والسنة وما يرجع إليهما، قال في "التحرير" و"شرحه": "وأما العدالة، فشرط قبول فتواه، فإنه لا يقبل قول الفاسق في الديانات، لا شرط صحة الاجتهاد، لجواز أن يكون للفاسق قوة الاجتهاد، فله أن يأخذ باجتهاد نفسه" ا. هـ. فليس الكلام في الكافر على ما رأيت، وقال الآمدي: "شرطه أن يعلم وجوب الرب وما يجب له من الصفات مصدقًا بالرسول وما جاء به". "د".
قلت: "وانظر المستصفى" "2/ 350"، "روضة الناظر" "3/ 960"، "إعلام الموقعين" "1/ 11"، و"جمع الجوامع" "2/ 385".
1 في "ماء" "ط": "يُبنى".
2 وهل فرض الصحة يحصل الظن أو العلم بصحة النتيجة، أو أنه يؤول الأمر إلى أن يكون عنده ليس بعلم ولا ظن، بل إن صحت المقدمات وهو لا يعلم بصحتها تكون نتيجة صحيحة؟ فتأمل. "د".
3 المتقدمون من المناطقة على تركبه من قياسين: اقتراني شرطي، ثم استثنائي، هكذا: لو لم يكن المطلوب حقًّا لكان نقيضه حقًا، ولو كان نقيضه حقًا لكان المحال ثابتًا، ونيتجة هذا لو ثم يكن المطلوب حقًا لكان المحال ثابتًا توضع في الاستثنائي، ويستثنى نقيض تاليها، هكذا لكن المحال غير ثابت، فالمطلوب حق، وبعض المتأخرين على أنه قياس استثنائي فقط مركب من متصلة مقدمها نقيض المطلوب، وتاليها أمر محال يستثنى فيه نقيضه، وعلى كل حال، فالصدق والكذب في الاقتراني الشرطي وكذا في الاستثنائي المتصل إنما يرجع إلى وجود الارتباط والتلازم وعدمهما، وإنتاجها يتوقف على كون ذلك كليًا ودائمًا؛ فأين تكون المقدمات الباطلة في نفس الأمر التي يبني عليها فتقيد العلم بالمطلوب؟
فكلامه غير واضح. "د".

 

ج / 5 ص -50-   مقدمات باطلة في نفس الأمر، تفرض صحيحة فيينى عليها، فيفيد النباء عليها العلم بالمطلوب؛ فمسألتنا كذلك.
والثالث:
أن نوعًا من الاجتهاد لا يفتقر إلى شيء من تلك العلوم أن يعرفه، فضلًا أن يكون مجتهدًا فيه، وهو الاجتهاد في تفتيح2 المناط، وإنما يفتقر 3 إلى الاطلاع على مقاصد الشريعة خاصة، وإذا ثبت نوع من الاجتهاد دون الاجتهاد4 في تلك المعارف ثبت مطلق الاجتهاد بدونه، وهو المطلوب.
فإن قيل: إن جاز أن يكون مقلِّدا في بعض ما يتعلق بالاجتهاد لم تصف له مسألة معلومة: لأن مسألة يقلد في بعض مقدماتها لا تكون مجتهدًا فيها بإطلاق، فلم يمكن أن يوصف صاحبها بصفة الاجتهاد بإطلاق، وكلامنا إنما هو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "ينبني".
2 كيف وهو لا يكون إلا في أوصاف تضمنها نص الشارع، وهو عربي يحتاج فهمه إلى الرتبة العربية المشترطة. "د".
3 قال فيما تقدم: إن التمكن من الاستنباط على معارف وعلوم كثيرة، وإنه خادم للأول وهو فهم مقاصد الشريعة؛ فقوله: "وإنما يفتقر إلى
الاطلاع على مقاصد الشريعة خاصة دون شيء من تلك العلوم" لا يتأتى مع سابق الكلام؛ لأنه على ما تقدم لا بد له من هذه المعارف كوسيلة إلى فهم مقاصد الشريعة على الأقل، وإن لم يحتج إليها عند التخريج، وإنما يصح ذلك إذا صح أن يأخذ مقاصد الشريعة تقليدًا؛
فتأمل. "د".
4 بل دليله ينتج أكثر من ذلك؛ فيقال: وإن ثبت نوع من الاجتهاد دون هذه العلوم، رأسًا فضلًا عن الاجتهاد فيها؛ ثبت مطلق الاجتهاد بدون تلك المعارف وبدون الاجتهاد فيها، ثم لا يخفى أن هذا غير ما أصله أولًا من جعله شرطًا للحصول على صفة الاجتهاد، وهذا يزيد ما أشرنا إليه في الكلام على الحصر في الوصفين بيانًا ووضوحًا. "د".
قلت: كتب "ف" هنا ما نصه: "اسلأولى: "بدون الاجتهاد".

 

ج / 5 ص -51-   في مجتهد يعتمد على اجتهاده بإطلاق، ولا يكون كذلك مع تقليده في بعض المعارف المبني عليها.
فالجواب: إن ذلك شرط في العلم بالمسألة1 المجتهد فيها بإطلاق لا شرطًا في صحة الاجتهاد؛ لأن تلك المعارف ليست جزءًا من ماهية الاجتهاد، وإنما الاجتهاد يتوصل إليها بها، فإذا كانت محصلة بتقليد أو باجتهاد أو بفرض2 محال، بحيث يفرض تسليم صاحب تلك
المعارف المجتهد فيها ما حصل هذا ثم بنى عليه؛ كان بناؤه صحيحًا لأن الاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم، وهو قد وقع، ويبين ذلك ما تقدم في الوجه الثاني، وأن العلماء3 الذين بلغوا درجة الاجتهاد عند عامة الناس؛ كمالك، والشافعي، وأبي حنيفة
كان لهم أتباع أخذوا عنهم وانتفعوا بهم، وصاروا في عداد أهل الاجتهاد، مع أنهم عند الناس مقلدون في الأصول لأئمتهم، ثم اجتهدوا بناءً
على مقدمات مقلد فيها، واعتبرت أقوالهم واتبعت آراؤهم، وعمل على وفقها، مع مخالفتهم لأئمتهم وموافقتهم، فصار قول ابن القاسم أو قول أشهب أو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل وجميع النسخ المطبوعة: "بمسألة" وما أثبتناه من "ط" وهو الذي صوبه "د"، فقال: "لعل الأصل: "المجتهد فيها مجتهد بإطلاق"".
2 مبني على ما سبق له، وقد علمت أن هذه توسعة في الكلام لا محل لها؛ لأنه لا يعد من بذل الوسع الكافي في الاجتهاد أن يفرض المجتهد المحتاج إلى أمارة أن المجتهد في علم هذه الأمارة يسلم بما حصل عليه منها، ثم يبني على هذا الفرض استنباطه حكمًا شرعيًا يجب عليه العمل به ويقلد فيه، بمجرد هذا الفرض الذي ليس من نوع التقليد، ولا نوع الاجتهاد في هذه الأمارة، وما سلم له في الوجه الثاني كان من باب التقليد للعالم المحدث ومن معه، وسيقول بعد: "ثم اجتهدوا على مقدمات مقلد فيها"، ولم يأت بمثال للمقدمات المفروضة التي كرر الكلام فيها. "د".
3 هذا المثال أظهر من الأمثلة التي ذكرها في الدليل الثاني من التسليم للقارئ واللغوي... إلخ؛ لأنه لم يقدم دليلًا على صحة هذا التسليم،
بل أرسلها دعوى مجردة، أما هذا المثال، فواضح؛ لأنه لا ينازع أحد في التسليم لمثل ابن القاسم وأبي يوسف في الاجتهاد، والمخالفة في بعض
الفروع لمالك وأبي حنيفة، واعتبار اجتهادهما صحيحًا. "د".

 

ج / 5 ص -52-   غيرهما معتبرًا في الخلاف على إمامهم، كما كان أبو يوسف ومحمد بن الحسن مع أبي حنيفة، والمزني والبويطي مع الشافعي1، فإذًا لا ضرر على الاجتهاد2 مع التقليد في بعض القواعد المتعلقة بالمسألة المجتهد فيها.
وأما الثاني من المطالب: وهو فرض علم تتوقف صحة الاجتهاد عليه، فإن كان ثم علم لا يحصل الاجتهاد في الشريعة إلا بالاجتهاد فيه، فهو لا بد مضطر إليه؛ لأنه إذا فرض كذلك لم يمكن في العادة الوصول إلى درجة الاجتهاد دونه، فلا بد من تحصيله على تمامه، وهو ظاهر، إلا أن هذا العلم مبهم في الجملة فيسأل عن تعيينه.
والأقرب في العلوم إلى أن يكون هكذا علم اللغة العربية، ولا أعني بذلك النحو وحده، ولا التصريف وحده، ولا اللغة، ولا علم المعاني، ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان، بل المراد جملة علم اللسان ألفاظ أو معاني كيف تصورت، ما عدا الغريب3، والتصريف المسمى بالفعل، وما يتعلق بالشعر من حيث هو الشعر كالعروض والقافية، فإن هذا غير مفتقر إليه هنا، وإن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر طبقات أصحاب الأئمة الأربعة بتفصيل حسن أوعب مما عند المصنف عند ابن القيم في "الفروسية" "ص283-285 - بتحقيقي".
2 الأنسب "على المجتهد". "ف".
قلت: وهكذا "المجتهد" عند "م".
3 أي: علم غريب اللغة، وقد اعتنى به العلماء بحثًا وتدوينًا، لا سيما غريب القرآن والحديث. "ف".
قلت: وكتب "د" ما نصه: "لعله لا يريد الغرابة بالمعنى الأعم الذي يشمل ما لا يخل بالفصاحة وما يخل بها، بل يريد الثاني حتى يكون للاستثناء وجه في عدم الحاجة إليه؛ لأنه لا يوجد في القرآن أصلًا، أما المعنى الأول، فهو موجود قطعًا والاجتهاد يتوقف عليه؛ لأنه تعريف بمعنى المفردات".

 

ج / 5 ص -53-   كان العلم به كمالًا في العلم بالعربية وبيان تعين1 هذا العلم ما تقدم في كتاب المقاصد من أن الشريعة عربية، وإذا كانت عربية؛ فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم؛ لأنهما سيان2 في النمط ما عدا وجوه الإعجاز، فإذا فرضنا مبتدئًا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا؛ فهو متوسط في فهم الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة؛ فكان فهمه فيها3 حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة، فمن لم يبلغ شأوهم؛ فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة، ولا كان قوله فيها مقبولًا.
فلا بد من أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها؛ كالخليل، وسيبويه، والأخفش، والجرمي، والمازني ومن سواهم، وقد قال الجرمي4: "أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس [في الفقه] من كتاب سيبويه"5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "تعلم".
2 أي أن ما ورد في الشريعة من الكتاب والسنة وما ورد من كلام العرب من نمط واحد وطريق واحد، سوى ما اختص به من المزايا التي ترتفع بها درجة الكلام في الحسن والقبول، فالقرآن انفرد عن سائر كلام العرب بمزايا جعلته معجزًا للبشر عن الإتيان بسورة منه، والحديث امتاز بما جعله يفوق غيره من كلامهم وإن لم يبلغ درجة الإعجاز. "د".
3 يعني: فهمه من حيث ما يفيده الكلام العربي، وليس المراد أنه بمجرد ذلك يكون مجتهدًا في الشريعة ويؤخذ بقوله فيها، بل لا بد من ضم
الصفات الأخرى من معرفة مقاصد الشريعة وغير ذلك. "د".
4 هو أبو عمر صالح بن إسحاق البجلي مولى لهم، نزل في جرم، فنسب إليهم، إمام العربية، وكان صادقًا ورعًا خيرًا، إليه انتهى علم النحو في زمنه، توفي سنة خمس وعشرين ومئتين، له ترجمة في "السير" "10/ 561-563".
5 أسنده عنه الزبيدي في "طبقات النحويين واللغويين" "ص75"، وقول المصنف الآتي: "وفسروا ذلك..." أورده الزبيدي من مقالة محمد بن يزيد، وهو ممن روى عن الجرمي، وكذا في صدر "كتاب سيبويه" "1/ 5-6" كما سيأتي عند المصنف قريبًا.

 

ج / 5 ص -54-   وفسروا ذلك بعد الاعتراف به بأنه كان صاحب حديث، وكتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفتيش، والمراد بذلك أن سيبويه وإن تكلم في النحو، فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب، وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك، بل هو يبين في كل باب ما يليق به، حتى إنه احتوى على علم المعاني والبيان ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني، ومن هنالك كان الجرمي على ما قال، وهو كلام يروى عنه في صدر1 "كتاب سيبويه" من غير إنكار.
ولا يقال: إن الأصوليين قد نفوا هذه المبالغة في فهم العربية؛ فقالوا: ليس على الأصولي أن يبلغ في العربية مبلغ الخليل وسيبويه وأبي عبيدة والأصمعي، الباحثين عن دقائق الإعراب ومشكلات اللغة، وإنما يكفيه أن يحصل منها ما تتيسر به معرفة ما يتعلق بالأحكام بالكتاب2 والسنة.
لأنا نقول: هذا غير ما تقدم3 تقريره، وقد قال الغزالي4 في هذا الشرط: "إنه القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال، حتى يميز5 بين صريح الكلام وظاهره ومجمله6، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "صدد" بالدال في آخره، وكتب في الهامش: "في المطبوعات: "في صدر".
2 لعل الأصل من الكتاب. "د".
3 من أن من لم يبلغ شأو العرب والصحابة في فهم اللغة لم يكن قوله حجة. "د".
4 في "المستصفى" "2/ 352".
5 في "المستصفى": "إلى حد يميز...".
6 تفردت "م" بزيادة بعد "مجمله": "ومبينه".

 

ج / 5 ص -55-   ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه، ونصه وفحواه ولحنه ومفهمومه".
وهذا الذي اشترط لا يحصل إلا لمن بلغ في اللغة العربية درجة الاجتهاد، ثم قال: "والتخفيف1 فيه [أنه]2 لا يشترط أن يبلغ مبلغ3 الخليل والمبرد، وأن يعلم4 جميع اللغة ويتعمق في النحو".
وهذا أيضًا صحيح، فالذي نفي اللزوم فيه5 ليس هو المقصود في الاشتراط، وإنما المقصود تحرير الفهم حتى يضاهي6 العربي في ذلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في الأصل و"د"، أما "ف" و"م"، ففيهما "التحقيق لذلك"، وعلق "ف"، فقال: "صوابه التخفيف بالفاء ضد التثقيل، كما يفهم من عبارة الغزالي، حيث جعل لكل علم من العلوم المشروطة في الاجتهاد مرتبتين ثقيلة وخفيفة. راجع "المستصفى" "2/ 352".
2 سقطت من الأصل و"ف" و"د"، وأثبتها من "م" و"ط"، وهي في المستصفى" "2/ 352".
3 بدلها في مطبوع "المستصفى": "درجة".
4 بدلها في مطبوع "المستصفى": "يعرف".
5 أي: وهو علم جميع اللغة لم نشترطه؛ لأننا إنما اشترطنا أن يساوي العربي في فهم اللغة، ولم نشترط أن يعرف الجميع؛ لأن العربي لا
يعرف جميع اللغة، ولا يدقق تدقيقات متعمقة مثل ما للخليل مثلًا، وهذا لا يمنع أن يشترط الاجتهاد في اللغة بناء على الكلام الغزالي نفسه، حيث قال: "القدر الذي يفهم به خطاب العرب... إلخ"؛ لأن هذا لا يكون إلا لمن بلغ درجة الاجتهاد. "د".
قلت: انظر كلام الأصوليين حول الدرجة التي ينبغي للمجتهد أن يصل إليه في معرفة العربية: "الرسالة" "ص51-52" للشافعي، و"الإحكام" "3/ 205" للآمدي، و"جمع الجوامع" "2/ 400 - مع حاشية البناني"، و"البحر المحيط" "6/ 202-203"، و"الإجتهاد" "ص168-172" لسيد موسى، و"الاجتهاد في الإسلام" "ص84-90" لنادية العمري.
6 انظر إذا ما اشتهر عن أبي حنيفة من عدم إجادته اللغة، فهذا يدل على عدم صحة ما اشتهر. "د".
قلت: تجد ذلك مفصلًا في "تأنيب الخطيب" "ص44-58"، و"فقه أهل العراق وحديثهم "ص59"، كلاهما للكوثري، و"الروض الباسم" "1/ 160" لابن الوزير.

 

ج / 5 ص -56-   المقدار، وليس من شرط العربي أن يعرف جميع اللغة ولا أن يستعمل الدقائق، فكذلك المجتهد في العربية، فكذلك المجتهد في الشريعة، وربما يفهم بعض الناس أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل وسيبويه في الاجتهاد في العربية، فيبني في العربية على التقليد المحض، فيأتي في الكلام على مسائل الشرعية بما السكوت أولى به منه، وإن كان ممن1 تعقد عليه الخناصر جلالة في الدين، وعلمًا في الأئمة المهتدين.
وقد أشار الشافعي في "رسالته"2 إلى هذا المعنى3، وأن الله خاطب العرب بكتابه بلسانها على ما تعرف من معانيها4، ثم ذكر5 مما يعرف من معانيها اتساع لسانها وأن تخاطب بالعام مرادًا به ظاهره، وبالعام يراد به العام ويدخله الخصوص، ويستدل على ذلك ببعض ما يدخله في الكلام، وبالعام يراد به الخاص، ويعرف بالسياق، وبالكلام ينبئ أوله عن آخره، وآخره عن أوله، وأن تتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، والمعاني الكثيرة بالاسم الواحد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "مما"، وكتب "ف": "الأولى "ممن"؛ أي: "وإن كان ذلك المتكلم ممن تعقد عليه الخناصر.... إلخ".
2 انظر منها "الفقرات 173-178".
3 بعد أن ذكر في "الاعتصام" مهم ما قاله الشافعي في هذا المعنى وأمثلته؛ قال "2/ 808 - ط ابن عفان": "وإنما أتى الشافعي بـ [النوع] الأغمض من طرائق العرب؛ لأن سائر تصرفاتها بسطها أهل فنون اللغة من نحو وبيان.. إلخ وأهل الأخبار المنقولة عن العرب لمقتضيات الأحوال". "د". وفي "ط": "خاطب بكتابه العرب...".
4 أي: معاني العرب التي تنساق إليها أفهامهم. "ف".
5 أي: الشافعي في "الرسالة" "الفقرات 77-78".

 

ج / 5 ص -57-   ثم قال1: "فمن جهل هذا من لسانها- وبلسانها نزل الكتاب وجاءت به السنة؛ فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته معرفته2؛ كانت موافقته للصواب3 وإن وافقه من حيث لا يعرف غير محمودة، وكان بخطئه غير معذور، إذا نطق 4 فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الصواب والخطأ فيه".
هذا قوله، وهو الحق الذي لا محيص عنه، وغالب ما صنف في أصول الفقه من الفنون إنما هو المطالب العربية التي تكفل المجتهد فيها بالجواب عنها، وما سواها من المقدمات؛ فقد يكفي فيه التقليد، كالكلام في الأحكام تصورًا وتصديقًا؛ كأحكام النسخ، وأحكام الحديث، وما أشبه5 ذلك.
فالحصل أنه لا غنى للمجتهد6 في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب، بحيث يصير فهم خطابها له وصفا غير متكلف ولا متوقف فيه في الغلب إلا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب.
وأما الثالث من المطالب:
وهو أنه لا يلزم في غير العربية من العلوم أن يكون المجتهد عالمًا بها؛ فقد مر ما يدل عليه؛ فإن المجتهد إذا بنى اجتهاده على التقليد في بعض المقدمات السابقة عليه؛ فذلك في كونه مجتهدًا في عين مسألته،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الشافعي في "الرسالة" "الفقرات 177-178".
2 في النسخ المطبوعة، و"ط": "يثبته معرفة"، وما أثبتناه من "الرسالة".
3 في النسخ المطبوعة، و"ط": "موافقة الصواب"، وما أثبتناه من "الرسالة".
4 كذا في جميع النسخ، وفي مطبوع "الرسالة": "إذا ما نطق...".
5 كأسباب النزول ومواقع الإجماع. "د".
6 كذا في "م"، وفي الأصل و"ف" و"د" و"ط": "بالمجتهد"، وكتب "ف": "المناسب للمجتهد باللام؛ أي: لا بد له من ذلك: يقال: ما لك عنى عنه ولا مغني، أي: ما لك عنه بد".

 

ج / 5 ص -58-   كالمهندس إذا بنى بعض براهينه على صحة وجود الدئراة مثلًا: فلا يضره في صحة برهان تقليده لصاحب ما بعد الطبيعة وهو المبرهن على وجودها، وإن كان المهندس لا يعرف ذلك بالبرهان، وكما قالوا في تقليد الشافعي في علم الحديث ولم يقدح ذلك من صحة اجتهاده، بل كما يبني القاضي في تغريم قيمة المتلف على اجتهاد المقوم للسلع وإن لم يعرف هو ذلك، ولا يخرجه ذلك عن درجة الاجتهاد، وكما بنى مالك أحكام الحيض والنفاس على ما يعرفه النساء من عاداتهن، وإن كان هو غير عارف به، وما أشبه ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "لم" بغير واو.

 

ج / 5 ص -59-   المسألة الثالثة:
الشريعة كلها ترجع1 إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك؛ ولا يصلح فيها غير ذلك، والدليل عليه أمور:
أحدها: أدلة القرآن، من ذلك قوله تعالى:
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا2 كَثِيرًا} [النساء: 82]؛ فنفى أن يقع فيه الأختلاف البتة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فليس من مقاصد الشرع وضع حكمين متخالفين في موضوع واحد، بل لا يريد إلا طريقًا واحدا في الواقع، ولا ينافي هذا حصول اختلاف من المجتهدين من الطريق الذي يريده الشارع. "د".
قلت: وكتب "ف" ما نصه: "أي: ليس فيها ما يفهم قولين مختلفين يتضاربان في حكم بحيث يفيد أحدهما الوجوب والآخر الحرمة في نفس الأمر، بل أدلتها سالمة من التعارض في ذاتها، بريئة من الاختلاف الواقعي، وهذا لا ينفي وجود التعارض والاختلاف في فهم الناظر وظنه".
2 مبني على أن المراد الاختلاف في الأحكام الشرعية، ومنعه بعضهم بوقوع هذا الاختلاف فعلًا، وقال: المراد به التناقض في المعنى والقصور عن البلاغة؛ فالأول بأن يطابق بعضه الواقع، وبعضه لا يكون كذلك، ويكون العقل موافقًا لبعض أحكامه دون بعض، والثاني بتفاوته في النظم ركَّة وفصاحة، وبلوغًا لحد الإعجاز في البعض دون البعض، وكل ذلك يكون سببه نقصان القوة البشرية وتخاذلها عن الوفاء بمواجب
الصحة الكاملة والإعجاز التام، على أن الآية في وصف القرآن، وهو أخص من مطلق الشريعة؛ فإنها كما تشمله تشمل السنة والإجماع والقياس وسنة الصحابة كما تقدم؛ فالدليل أخص من المدعى، ولكن المانع لا يتأتى له إثبات الاختلاف في الأحكام الشرعية أيضًا بالمعنى الذي يريده المؤلف وهو تعارض أدلتها في نفس الأمر؛ فيرجع إلى المعنى الذي يقرره المؤلف. "د".
قلت: قرر ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "13/ 19" أن الاختلاف في القرآن يراد به التضاد والتعارض، ولا يراد به مجرد عدم التماثل، وانظر في الاختلاف ومعناه المنفي عن القرآن: "تأويل مشكل القرآن" "24، 33"، و"بصائر ذوي التمييز" "2/ 561-562"، و"الاعتصام" "2/ 232-233 - ط رضا، و2/ 818 - ط ابن عفان"، و"المنهاج في ترتيب الحجاج" للباجي- وهو مصنف حول الاختلاف في الاصطلاح، و"الحقيقة الشرعية" "ص33-40".

 

ج / 5 ص -60-   ولو كان فيه ما يقتضي قولين مختلفين لم يصدق عليه هذا الكلام على حال.
وفي القرآن:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59]، وهذه الآية صريحة في رفع1 التنازع والاختلاف؛ فإنه رد المتنازعين إلى الشريعة، وليس ذلك إلا ليرتفع الاختلاف، ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلى شيء واحد؛ إذ لو كان فيه ما يقتضي الاختلاف لم يكن في الرجوع إليه رفع تنازع، وهذا باطل2.
وقال تعالى:
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}3... الآية [آل عمران: 105]، والبينات هي الشريعة، فلولا أنها لا تقتضي الاختلاف ولا تقبله البتة لما قيل لهم: من بعد كذا، ولكان لهم فيها أبلغ العذر، وهذا غير صحيح؛ فالشريعة لا اختلاف فيها.
وقال تعالى:
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] فبين أن طريق الحق واحد، وذلك عام في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: عن الشريعة وإثبات أنها لا اختلاف فيها، والاستدلال بهذه الآية تام يشمل القرآن والسنة وغيرهما مما يبني عليهما. "د".
2 أي: عبث لا يطلبه الله تعالى، أي: وقد طلب منهم الرجوع إليهما لرفع التنازع، والرجوع إلى ما يقتضي الاختلاف لا يمكن أن يحقق المطلوب فيكون عبثًا؛ إلا أنه مع قوة هذا الدليل على المدعى تبقى شبهة في المقام، وهي أن الأئمة المجتهدين مع رجوعهم للكتاب والسنة قد لا يرتفع النزاع بينهم، وقد يجاب عنها بأنه لم يقل: إن رددتموه ارتفع قطعًا وبطريقة كلية. "د".
3 وقد يقال: إن التفرق المنهي عنه التفرق بالعداوة، والاختلاف في أصول الدين، وتكفير بعضهم بعضًا؛ كما هو الواقع في شأن هؤلاء اليهود والنصارى، الذين نعى عليهم هذا التفرق والاختلاف، ولو كان كما يقول؛ لكان المسلمون وأولهم الصحابة قد وقعوا فيما نهوا عنه، ولكان يترتب عليه الجزاء الذي ترتب على تفرق اليهود والنصارى، معاذ الله؛ فقوله: "والبينات هي الشريعة"، نقول: بل أخص، فلا ينتج
المطلوب. "د".

 

ج / 5 ص -61-   جملة الشريعة وتفاصيلها.
وقال تعالى:
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} [البقرة: 213]، ولا يكون حاكمًا بينهم ألا مع كونه قولا واحدًا فصلًا بين المختلفين.
وقال:
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية إلى قوله: {وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه} [الشورى: 13]، ثم ذكر بني إسرائيل وحذر الأمة أن يأخذوا بسنتهم؛ فقال: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشورى: 14].
وقال تعالى:
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176].
والآيات في ذم الاختلاف والأمر بالرحوع إلى الشريعة كثير كله، قاطع في أنها لا اختلاف فيها، وإنما هي على مأخذ واحد وقول واحد، قال المزني صاحب الشافعي: "ذم الله الاختلاف وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة". [فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمه، ولو كان التنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة"].
والثاني: أن عامة 2 أهل الشريعة أُثبتوا في القرآن والسنة الناسخ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أورده ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" "2/ 910 - ط المحققة".
2 لم يخالف إلا أبو مسلم الأصفهاني من المسلمين في وقوعه في شريعة واحدة، والصحيح أن خلافه لفظي؛ لأنه يسميه تخصيصًا، ولم يخالف فيه من الملل الأخرى سوى الشمعونية من اليهود، ذهبوا إلى امتناعه عقلًا وسمعًا، والعنانية منهم إلى امتناعه سمعًا، أما العيسوية منهم أصحاب عيسى* الأصفهاني؛ فيجيزونه عقلًا وسمعًا، واعترفوا بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم قالوا للعرب خاصة. "د".
قلت: انظر في مذهب أبي مسلم الأصفهاني: "نهاية السول" "2/ 149"، و"نظرية النسخ في الشرائع السماوية" "ص23" لشعبان محمد
إسماعيل، مطابع الدجوي، مصر، سنة 1977، و"لا نسخ في القرآن" لأحمد السقا "ص17-18"، ط دار الفكر العربي، سنة 1978م.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الشرح، والصواب: "أبو عيسى"، انظر: "الملل والنحل" "1/ 215"، وانظر عنهم وعن "العنانية" و"الشمعونية": "اعتقادات فرق المسلمين" "82-83"، و"الحور العين" "144"، و"أديان العرب في الجاهلية" "199-202".

 

ج / 5 ص -62-   والمنسوخ على الجملة، وحذروا من الجهل والخطأ فيه، ومعلوم أن الناسخ والمنسوخ إنما هو فيما بين دليلين يتعارضان بحيث لا يصح اجتماعهما بحال، وإلا لما كان أحدهما ناسخًا والآخر منسوخًا، والفرض خلافه؛ فلو كان الاختلاف من الدين لما كان لإثبات الناسخ والمنسوخ -من غير نص قاطع فيه- فائدة، ولكان الكلام في ذلك كلامًا فيما لا يجني ثمرة؛ إذ كان يصح العمل بكل واحد منهما ابتداءً ودوامًا، استنادًا إلى أن الاختلاف أصل من أصول الدين، لكن هذا كله باطل بإجماع؛ فدل على أن الاختلاف لا أصل له في الشريعة، وهكذا القول في كل
دليل مع معارضه؛ كالعموم2 والخصوص، والإطلاق والتقييد، وما أشبه3 ذلك؛ فكانت تنخرم هذه الأصول كلها، وذلك فاسد؛ فما
أدى إليه مثله.
والثالث: أنه لو كان في الشريعة مساغ للخلاف لأدى إلى تكليف ما لا يطاق؛ لأن الدليلين إذا فرضنا تعارضهما وفرضناهما مقصودين معًا للشارع؛ فإما أن يقال: إن المكلف مطلوب بمقتضاهما، أو لا، أو مطلوب بأحدهما دون الآخر، والجميع غير صحيح؛ فالأول يقتضي "افعل"، "لا تفعل" لمكلف واحد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لما كان هناك مقتض للبحث والاجتهاد عن الناسخ والمنسوخ، بل كان يجب الوقوف في ذلك عند ما ثبت بنص قاطع فقط. "د".
2 أي: فكان لا يلزم البحث عن المخصصات للعام مع أنه يمتنع العمل بالعموم قبل البحث عن مخصص إجماعًا. "د".
3 أي: كالترجيح بين الأدلة المتعارضة. "د".

 

ج / 5 ص -63-   من وجه واحد، وهو عين التكليف بما لا يطاق، والثاني باطل؛ لأنه خلاف1 الفرض، وكذلك الثالث؛ إذ كان الفرض2 توجه الطلب بهما؛ فلم يبق إلا الأول فيلزم منه ما تقدم.
لا يقال: إن الدليلين بحسب شخصين أو حالتين؛ لأنه خلاف الفرض، وهو أيضًا قول واحد لا قولان؛ لأنه إذا انصرف كل دليل إلى جهة لم يكن ثم اختلاف، وهو المطلوب.
والرابع: أن الأصوليين اتفقوا على إثبات الترجيح3 بين الأدلة المتعارضة إذا لم يمكن الجمع، وأنه لا يصح إعمال أحد دليلين متعارضين جزافًا4 من غير

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن محصل الثاني أنه غير مطلوب بمقتضى الدليلين، والفرض توجه الطلب، ولم يقل: أنه يكلف بما لا يطاق لأنه لا يكون كذلك إلا لو كان الحاصل أنه مطلوب بمقتضى الدليلين ومطلوب بضد ذلك مثلًا، وقوله: "وكذا الثالث"؛ أي: يلزمه خلاف الفرض؛ لأن الفرض أنهما مقصودان معًا للشارع، فلا يعقل معه أن يكون التكليف بأحدهما دون الآخر، وقوله: "فلم يبق إلا الأول"؛ أي: لم يبقَ غير مخالف لأصل المفروض إلا الأول، وقد بطل بكونه تكليف ما لا يطاق. "د".
قلت: انظر تفصيل ذلك في "الإبهاج" "3/ 200"، و"حاشية البناني على المحلي" "2/ 358"، و"المستصفى" "2/ 379 وما بعدها"، و"نهاية السول" "3/ 161-169 - بحاشية التقرير والتحبير".
2 لعله: "إذ كان علة" لقوله: "وكذلك الثالث". "ف".
3 في "المسودة في أصول الفقه" "ص306": "لا يجوز أن يوجد في الشرع خبران متعارضان من جميع الوجوه، وليس مع أحدهما ترجيح يقدم به، ذكره الخلال، وهذا قول القاضي".
4 لأنه إنما يصح أن يعمد إلى أحد الدليلين المتعارضين جزافًا إذا كان الاختلاف أصلًا في الدين، والحاجة إلى الترجيح لا تكون إلا؛ لأن الحق واحد علينا تعرفه، ولعله لهذه المزية التي انفرد بها الترجيح عن العموم والنسخ وما معهما، أفرده بهذا الدليل الرابع مع إمكان دخوله في قوله: "وما أشبه ذلك"، كما أشرنا إليه، وإن كان بيانه في قوله: "إذ لا فائدة فيه" هو البيان السابق بعينه =

 

ج / 5 ص -64-   نظر في ترجيحه على الآخر، والقول بثبوت الخلاف في الشريعة يرفع باب الترجيح جملة؛ إذ لا فائدة فيه ولا حاجة إليه على فرض ثبوت الخلاف أصلًا شرعيًا لصحة وقوع التعارض في الشريعة لكن1 ذلك فاسد؛ فما أدى إليه مثله.
والخامس: أنه شيء لا يتصور؛ لأن الدليلين المتعارضين إذا قصدهما الشارع مثلًا لم يتحصل مقصوده؛ لأنه إذا قال2 في الشيء الواحد: "افعل" "لا تفعل"؛ فلا يمكن أن يكون المفهوم منه طلب الفعل لقوله: "لا تفعل"، ولا طلب تركه لقوله: "افعل"، فلا يتحصل للمكلف فهم التكليف؛ فلا يتصور توجهه على حال، والأدلة على ذلك كثيرة لا يحتاج فيها إلى التطويل؛ لفساد الاختلاف في الشريعة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ولو صور الدليل هكذا: اتفقوا على إثبات الترجيح، وأنه لا يصح إعمال أحد الدليلين متعارضين جزافًا بدون نظر في طرق ترجيحه، والقول بثبوت الخلاف يرفع لزوم النظر في الترجيح، ويصحح أخذ أحد الدليلين جزافًا؛ لكان لإفراد الترجيح بدليل رابع وجه؛ لأن ما تقدم في الثاني مأخذه أن البحث في العموم وما معه لا يجني له ثمرة، والمأخذ في هذا الدليل أن قولهم بلزوم الترجيح يتنافى مع كون الاختلاف أصلًا في
الدين، ولا يخفى أن مثله يقال في العموم والإطلاق كما أشرنا إليه. "د".
قلت: انظر كلامًا حسنًا وجمعًا مستطابًا في تقديم الجمع على الترجيح في "التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية" "1/ 264-301".
1 في "ط": "لكان".
2 هذا ليس بعيدًا عن الاحتمال الأول في الدليل الثالث الذي قرره بأنه تكليف بما لا يطاق؛ غايته أنه قرره هنا من جهة فهم المكلف، وأنه لا يتأتى له أن يفهم المكلف به، ويكون حينئذ خللًا في المأمور، وتقدم أن ذلك من التكليف المحال الراجع إلى تكليف الغافل، فعلى فرض أنه يقصد ذلك لا يكون الفرق إلا من جهة التصوير والتقرير لا غير؛ لأنه يمكن تصوير الاحتمال المذكور به؛ فلا تكون هناك حاجة إلى هذا رأسًا، إلا أن يقال: إن نظره هنا من جهة أنه لا يحصل المقصد من التكليف، يعني: فيكون عبثًا، وهذه جهة أخرى لإبطاله غير جهة تكليف
ما لا يطلق في الدليل الثالث، وهذا ما يفيده قوله: "لم يتحصل مقصوده"، وإن كان في استدلاله بعد ذلك نحا نحو لزوم التكليف المحال كما أشرنا إليه. "د".

 

ج / 5 ص -65-   فإن قيل: إن كان ثم ما يدل على رفع الاختلاف فثم ما يقتضي وقوعه في الشريعة، وقد وقع، والدليل عليه أمور:
- منها: إنزال المتشابهات؛ فإنها مجال للاختلاف لتباين الأنظار واختلاف الآراء والمدارك، هذا وإن كان التوقف فيها هو المحمود؛ فإن الاختلاف فيها قد وقع، ووضع الشارع لها مقصود له، وإذا كان مقصودًا له وهو عالم بالمآلات؛ فقد جعل سبيلًا إلى الاختلاف2، فلا يصح أن ينفى عن الشارع رفع3 مجال الاختلاف جملة.
- ومنها: الأمور الاجتهادية التي جعل الشارع فيها للاختلاف مجالًا؛ فكثيرًا ما تتوارد عل المسألة الواحدة أدلة قياسية4 وغير قياسية، بحيث يظهر بينهما التعارض، ومجال5 الاجتهاد مما6 قصده الشارع في وضع الشريعة حين شرع القياس ووضع الظواهر التي تختلف في أمثالها النظار ليجتهدوا فيثابوا على ذلك، ولذلك نبه في الحديث على هذا المقصد بقوله عليه الصلاة والسلام:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المراد بها المتشابهات الحقيقية، وقوله: "ومنها الأمور الاجتهادية" هي المتشابهات الإضافية. "د".
2 أي: وذلك يدل على أن الاختلاف له أصل في الشريعة، وأنها لا ترجع إلى قول واحد, في فروعها ما دام الاختلاف مستندًا إلى وضع من الشارع. "ف".
3 لعل الصواب: "وضع" بالواو والضاد كما يدل عليه السياق والسباق. "د".
4 كما ذكروه في معارضات القياس؛ كقول الحنفي: "مسح الرأس مسح؛ فلا يكرر كمسح الخف"؛ فيقول الشافعي: "مسح الرأس ركن؛ فيكرر كالغسل". "د".
5 أي: فوضعه للشريعة مراعيًا فيها شرعية القياس، ومجيئه بالظواهر التي من شأنها أن تختلف فيها الأنظار، هذا الوضع مقصود ليتأتى الاجتهاد وإثابة المجتهدين، فلما وضع مثار الاختلاف لهذا القصد؛ كان الاختلاف مقصودًا له، فلا يصح نفيه عن الشريعة، ومن هذا البيان يعلم أن جواب لما محذوف، وقد ذكر دليل الجواب بقوله بعد: "فهذا موضع آخر.. إلخ". "د".
6 كذا في "ط" وحده، وفي غيره: "لما"، وكتب "ف": "لعله: "مما قصده الشارع".

 

ج / 5 ص -66-   "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ؛ فله أجر، وإن أصاب؛ فله أجران"1 فهذا موضع آخر من موضع الخلاف بسبب وضح محاله.
-ومنها: أن العلماء الراسخين [و]2 الأئمة المتقين اختلفوا3: هل كل مجتهد مصيب، أم المصيب واحد؟ والجميع سوغوا هذا الاختلاف، وهو دليل على أن له مساغًا في الشريعة على الجملة.
وأيضًا؛ فالقائلون بالتصويب معنى كلامهم أن كل قول صواب، وأن الاختلاف حق، وأنه غير منكر ولا محظور في الشريعة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد، فأصاب أو أخطأ، 3/ 318/ رقم 7352"، ومسلم في "الصحيح"كتاب الأقضية، باب أجر الحاكم إذا اجتهد، 3/ 342/ رقم 716" عن عمرو بن العاص.
2 زيادة من الأصل و"ط".
3 رأي الغزالي والقاضي والمزني والمعتزلة أن الحق يصح تعدده بتعدد اختلاف المجتهدين في المسائل التي لا نص فيها ولا إجماع، وهي محلات الاجتهاد، والمختار أن الحق واحد؛ من أصابه أصاب، ومن أخطأه أخطأ، وهو مأجور أيضًا، وهو رأي الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأكثر الفقهاء. "د".
قلت: انظر في هذه المسألة: "المحصول" "6/ 29 وما بعدها"، و"البحر المحيط" "6/ 236 وما بعدها"، و"التبصرة" "ص498"، و"المنخول" "ص455"، و"شرح اللمع" "2/ 1044"، و"الإبهاج "3/ 178"، والبرهان" "2/ 316"، و"المستصفى" "2/ 357"، و"الأنجم الزاهرات" "252"، و"شرح الأسنوي" "2/ 202-203 - مع البدخشي"، و"شرح العضد عل ابن الحاجب" "2/ 294"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص486"، و"عقد الجيد" "ص34" للدهلوي، و"التمهيد" "4/ 307"، و"شرح الكوكب المنير" "4/ 489"، و"
الإحكام" "4/ 183" للآمدي، و"تيسير التحرير" "4/ 202"، و"فواتح الرحموت" "2/ 380"، و"كشف الأسرار" "4/ 16"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 9-39"، و"المسودة في أصول الفقه" "ص495"، و"المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل" "ص186".

 

ج / 5 ص -67-   وأيضًا؛ فطائفة1 من العلماء جوزوا أن يأتي في الشريعة دليلان متعارضان، ويجويز ذلك عندهم مستند إلى أصل شرعي في الاختلاف.
وطائفة أيضًا رأوا أن قول الصحابي حجة2؛ فكل قول صحابي وإن عارضه قول صحابي آخر؛ كل واحد منهما حجة، وللمكلف في كل واحد منهما متمسك، وقد نقل هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:
"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"3، فأجاز جماعة الأخذ بقول من شاء منهم إذا اختلفوا.
وقال القاسم بن محمد: "لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعلم العامل بعمل رجل منهم إلا رأي أنه في سعة، ورأى أن خيرًا منه قد عمله"4.
وعنه أيضًا: "أي ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شيء"5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في "التحرير" "3/ 2-3 مع التقرير والتحبير": "والحق أن التعارض في الأدلة الشرعية إنما هو في الظاهر فقط، لا في نفس الأمر، ولذلك يصح أن يقع بين القطعين، وبهذا يرد على من قال: إنه يشترط فيه الوحدات الثمانية؛ لأن ذلك يصح إذا كان التعارض حقيقيًّا وفي نفس الأمر". قال الشافعي: "لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان صحيحان متضادان ينفي أحدهما ما يثبته الآخر، من غير جهة الخصوص والعموم، والإجمال والتفسير؛ إلا على وجه النسخ، وحكى الماوردي والروياني عن كثيرين أن التعارض على جهة التكافؤ جائز وواقع"، وقال القاضي أبو بكر وجماعة: "إن الترجيح بين الظواهر المتعارضة إنما يصح على القول بأن المصيب في الفروع واحد". "د".
2 انظر ما علقناه على "4/ 456 وما بعد".
3 الحديث منكر، وقد خرجناه فيما مضى "4/ 452".
4 أجرجه بسنده إلى القاسم: ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 900-901/ رقم 1787"، وإسناده صحيح.
"5" أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 901/ رقم 1687".

 

ج / 5 ص -68-   ومثل معناه مروي عن عمر بن عبد العزيز، قال: "ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم"، قال القاسم: "لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: "ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولا واحدًا كان الناس في ضيق، وإنما أئمة يقتدى بهم؛ فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة"1.
وقال بمثل ذلك جماعة من العلماء.
و أيضًا؛ فإن أقوال العلماء بالنسبة [إلى العامة كالأدلة بالنسبة إلى]2 المجتهدين، ويجوز لكل واحد على قول جماعة أن يقلد من العلماء من شاء3، وهو من ذلك في سعة، وقد قال ابن الطيب وغيره في الأدلة إذا تعارضت على المجتهد واقتضى كل واحد ضد حكم الآخر ولم يكن4 ثم ترجيح؛ فله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 901، 902/ رقم 1688، 1689"، وإسناده حسن. وفي "ط": "فلو أخذ رجل بقول أحد...".
2 ما بين المعقوفتين من "ط" فقط، وبدله في "ف": "كأقوال"، وقال "ف": "لعل في العبارة سقطًا والأصل؛ فإن أقوال العلماء بالنسبة إلى المقلدين كأقوال المجتهدين".
وتابعه "د" و"م"؛ فأثبتوها في المتن، ولم ينبهوا على ذلك.
3 أي: ولا يلزم البحث عن مرجح، ولا التعرف عن الأفضل، ومقابله أن تعدد أقوالهم يعتبر للعامي كتعدد الأدلة وتعرضها عند المجتهد، وسيأتي له المبحث مستوفى، يعني: وهذا يؤيد إشكاله على المسألة لأنه إنما يصح إذا سلم تعارض الأدلة، وكان ما يترتب عليه من الخلاف مفيدًا في الشريعة. "د".
4 بهذا القيد لا ينافي ما تقدم له في الدليل الرابع من الاتفاق على إثبات الترجيح بين الأدلة المتعارضة؛ فهنا موضوع الخلاف وجود التعارض مع عجز المجتهد عن الترجيح بين الإمارتين، وفيه تسعة مذاهب: أحدها هذا التخيير، ونسب أيضًا إلى أبي علي وابنه أبي هاشم والقاضي أبي بكر، وقيل: يتساقطان فيطلب الحكم من موضع آخر. "د". قلت انظر في هذه المسألة: "شرح العبادي على الورقات" "ص150-153"، و"البحر المحيط" و"أدلة التشريع المتعارضة" ص183" لبدران أبو العينين.

 

ج / 5 ص -69-   الخيرة في العمل بأيها شاء، لأنهما صارا بالنسبة إليه كخصال الكفارة، والاختلاف عند العلماء لا يشاء إلا من تعارض الأدلة؛ فقد ثبت إذًا في الشريعة تعارض الأدلة؛ إلا أن ما تقدم من الأدلة على منع الاختلاف يحمل على الاختلاف في أصول الدين لا في فروعه، بدليل وقوعه في الفروع من لدن زمان الصحابة إلى زماننا.
فالجواب: أن هذه القواعد المعترض بها يجب أن يحقق النظر فيها بحسب هذه المسألة؛ فإنها من المواضع المخيلة1.
أما مسألة المتشابهات؛ فلا يصح أن يُدَعَى فيها أنها موضوعة في الشريعة قصد الاختلاف شرعًا2؛ لأن هذا قد تقدم في الأدلة السابقة ما يدل على فساده، وكونها3 قد وضعت؛
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] لا نظر فيه؛ فقد قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم فكسر؛ أي: المشكلة من أخال الشيء اشتبه، أو بفتح فكسر، أي: التي هي موضع الخيل، وهو الظن، وفي "ط": "فإنها في المواضع..".
2 الأنسب بقصد الاختلاف:
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ}؛ أي: ليموت من يموت عن حجة عاينها، و{وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}، أي: يعيش عن حجة شاهدها، فلا يبقى محل للتعلل بالأعذار لا نظر فيه؛ أي: لا إشكال فيه؛ لأنه يستلزم إرادة الاختلاف كما أشار إليه بقوله: فقد قال..." إلخ.
وقال "د": "أي من حيث التشريع والإرادة الأمرية" ا. هـ.
قلت: وقارن مع حاشية "رقم 3" بعدها.
3 أي: وكونه قد ترتب على وضع الشريعة هلاك البعض ونجاة البعض ليس محل البحث ومجال النظر، بل هو مقام آخر تشير آية:
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ}... إلخ لأن هذا وضع قدري ليس تابعًا للأمر والنهي، ولا رابطة بينه وبين التكليف الذي هو محل البحث هنا؛ فلم يطلب منهم أن يختلفوا وإن كان طبق ما جرت به الإرادة القدرية. "د".
وكتب "ف": "أي: بقصد الابتلاء كما سيأتي، لا بقصد الاختلاف".

 

ج / 5 ص -70-   رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}1 [هود: 118]؛ ففرق بين الوضع القدري2 الذي لا حجة فيه للعبد -وهو الموضوع على وفق الإرادة التي لا مرد لها- وبين الوضع الشرعي الذي لا يستلزم وفق الإرادة، وقد قال تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}3 [البقرة: 2].
وقال:
{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26].
ومر بيانه في كتاب الأوامر؛ فمسألة المتشابهات من الثاني4 لا من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صدر الآية:
{ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: مجتمعين على الدين الحق بحيث لا يقع من أحد منهم كفر، لكنه لم يشأ سبحانه ذلك: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} في العقائد التي هى أصول الدين بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}؛ أي: ولثمرة الاختلاف من كون فريق في الجنة وفريق في السعير خلقهم؛ فالإشارة للاختلاف كما روي عن الحسن وعطاء، وقيل:
للرحمة والاختلاف، أي لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم بعضًا كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، ونظير هذا قوله
تعالى:
{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} "ف".
قلت: انظر شرح المصنف للآية: "الاعتصام" "2/ 675-677 - ط ابن عفان".
2 أي: الراجع إلى إرادة التكوين الذي تشير إليه الآيتان وليس للعبد أن يتعلل به، والوضع الشرعي هو الراجع إلى التشريع للذي يلزمه
الأمر فيما يطلب شرعًا والنهي فيما ينهى عنه شرعًا، بخلاف الأول؛ فلا تلازم فيه بين الإرادة وبين الأمر والنهي، كما تقدم له بسطه في المسألة الأولى من الأمر والنهي. "د".
قلت: مضى هناك الإحالة على مواطن بحث ابن تيمية وابن القيم لهذا الموضوع.
3 اجتمع في هذه الآية الوضعان القدري والشرعي معًا، وصدر الآية بعدهما فيه الوضع القدري لا غير؛ لأن المقصود الشرعي من القرآن أن يكون هداية وهو سبب للهداية قطعًا، ولكن الفاسقين لم يتنفعوا به لإعراضهم عنه؛ فكان بطعنهم فيه جهلًا وعنادًا سببًا في زيادة ضلالهم، ولا
أنهم كانوا مهديين فأضلهم. "د".
4 أي: الوضع القدري الذي أشار إليه بقوله: "وقد قال تعالى:
{هُدىً لِلْمُتَّقِين}.... إلخ، وقوله: "لا من الأول"؛ أي: الشرعي الذي هو موضوع البحث والجدل. "د".

 

ج / 5 ص -71-   الأول، وإذا كان كذلك؛ لم يدل على وضع الاختلاف شرعًا1، بل وضعها للابتلاء؛ فيعمل الراسخون على وفق ما أخبر الله عنهم، ويقع الزائغون في اتباع أهوائهم، ومعلوم أن الراسخون هم المصيبون، وإنما أخبر عنهم أنهم على مذهب واحد في الإيمان بالمتشابهات علموها أو لم يعلموها، وأن الزائغين هم المخطئون؛ فليس في المسألة إلا أمر2 واحد، لا أمران ولا ثلاثة، فإذا لم يكن [إنزال]3 المتشابه علمًا للاختلاف ولا أصلًا فيه, وأيضًا لو كان كذلك لم ينقسم المختلفون فيه إلى مصيب ومخطئ4، بل كان يكون الجميع مصيبين؛ لأنهم لم يخرجوا عن قصد الواضع للشريعة؛ لأنه قد تقدم أن الإصابة إنما هي بموافقة [قصد]3 الشارع، وإن الخطأ بمخالفته، فلما كانوا منقسمين إلى مصيب ومخطئ دل على أن الموضع ليس بموضع اختلاف شرعًا.
وأما مواضع الاجتهاد5؛ فهي راجعة إلى نمط التشابه لأنها دائرة بين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: حتى يكون دليلًا على قصده الاختلاف من حيث التشريع. "د".
وقال "ف": "أي إن الشارع لم يقصد بإنزال المتشابهات وضع أصل للاختلاف، بحيث يكون حجة دالة عليه بل قصد بإنزالها وضع أصل للابتلاء كما قال تعالى:
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} والواجب على الكل هو ذلك الأحسن، وهو هنا عمل المصيبين دون المخطئين؛ فهي لشيء واحد، والتعدد والاختلاف إنما جاء في الزيغ واتباع الهوى؛ فلا مدخل لوضع المتشابه فيه".
2 وهو طلب الإيمان به من الجميع. "د".
3 سقط في "ط".
4 أي: راسخ في العلم وزائغ، يعني: وقد قسمهم الله إلى القسمين، وإنما عبر بالإصابة والخطأ ليجري الدليل مرتبًا على سابقه من قوله: "ومعلوم أن الراسخين... إلخ"، وعليه؛ فلا يقال: إن هذا الجواب ضعيف؛ لأنه يؤول إلى أن الاعتراض بنى على مذهب المصوبة، والجواب بني على مذهب المخطئة، ومثله لا يعتد به جوابًا حاسمًا للإشكال؛ فقوله: "فلما كانوا منقسمين إلى مصيب... إلخ"؛ أي: كما تقتضيه الآية الكريمة. "د".
5 وهي المسائل الفقهية التي لا قاطع فيها؛ إذ هي وقع الخلاف في أن المصيب فيها واحد أو متعدد، أما العقليات والشرعيات القطعية؛ فالمصيب فيها واحد، وإنما في إثم المخطئ فيها وتكفيره وفيه تفصيل يرجع إليه في كتب الأصول. "ف".

 

ج / 5 ص -72-   طرفي نفي وإثبات شرعيين؛ فقد يخفى هنالك وجه الصواب من وجه الخطأ.
وعلى كل تقدير إن قيل بأن المصيب واحدًا1؛ فقد شهد أرباب هذا القول بأن الموضع ليس مجال الاختلاف، ولا هو حجة من حجج الاختلاف، بل هو مجال استفراغ الوسع، وإبلاغ الجهد؛ في طلب مقصد الشارع المتحد، فهذه الطائفة على وفق الأدلة المقررة أولًا، وإن قيل: إن الكل مصيبون2؛ فليس على الإطلاق، بل بالنسبة إلى كل مجتهد أو من قلده لاتفاقهم على أن كل مجتهد لا يجوز له الرجوع عما أداه إليه اجتهاده ولا الفتوى إلا به؛ لأن الإصابة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه وكثير من الفقهاء القائلون بأن لله في الواقعة حكمًا واحدًا معينًا موجودًا قبل الاجتهاد، نصب عليه دليلًا وأوجد على المجتهد أصابته بالنظر فيما يوصل عليه، كما أوجب على المكلف معرفته بالنظر والاستدلال، فإذا اجتهد ووضع النظر موضعه؛ فقد أصابه، وإن قصر؛ فقد أخطأه ولو بذل وسعه في تحصيله. "ف".
2 كما ذهب إليه جماعة من الفقهاء القائلون بأنه ليس لله قبل الاجتهاد معين في الواقعة، بل حكم الله تابع لظن المجتهد، فما ظنه فيها من الحكم، فهو حكم اله تعالى في حقه، وحق مقلده وإن كان الله يعلم غير ما يظنه المجتهد أزلا، ولكن العلم غير الحكم؛ فالحكم لم يشرع إلا على وجه الإبهام، وهو ما يظنه المجتهد، والكلام في الحكم باعتبار التعلق التنجيزي؛ لأنه المتأخر التابع لظن المجتهد ومعناه أن الشارع عند هذا الفريق اعتبر ظن المجتهد المتعلق بمأخذ الحكم ودليله بمثابة الشرع، أي الكلام اللفظي الذي يظهر الحكم، أي الخطاب النفسي في صورته؛ فنظر المجتهد وظنه المسائل الاجتهادية منضم إلى المأخذ الشرعي في ظهور الحكم وتعلقه بأفعال المكلفين تعلقًا تنجيزيًا وقبل نظره وبيانه لا يوجد الحكم في النازلة شاغلًا لذمة المكلف؛ فهو بمثابة بيان الرسول صلى الله عليه وسلم في مجملات الشريعة، فكما أن حكم المجمل لا يتبين ولا يتعلق بالمكلف إلا بعد بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، كذلك الحكم المستنبط في المآخذ الاجتهادية لا يتبين ولا يتعلق بالمجتهد ومن يقلده إلا بعد اجتهاده وبيانه. "ف".

 

ج / 5 ص -73-   عندهم إضافية لا حقيقية1، فلو كان الاختلاف سائغا على الإطلاق2؛ لكان فيه حجة، وليس كذلك.
فالحاصل أنه لا يسوغ على هذا الرأي إلا قول واحد، غير أنه إضافي؛ فلم يثبت به اختلاف مقرر على حال، وإنما الجميع محومون على قول واحد هو قصد الشارع عند المجتهد، لا قولان مقرران؛ فلم يظهر إذًا من قصد الشارع وضع أصل للاختلاف، بل وضع موضع للاجتهاد في التحويم على إصابة قصد الشارع الذي هو واحد، ومن هناك لا تجد مجتهدا يثبت لنفسه قولين معًا3 أصلًا، وإنما يثبت قولا واحدًا وينفي ما عداه.
وقد مر4 جواب مسألة التصويب والتخطئة.
وأما تجويز أن يأتي دليلان متعارضان، فإن أراد الذاهبون إلى ذلك التعارض في الظاهر وفي أنظار المجتهدين لا في نفس الأمر؛ فالأمر على ما قالوه جائز، ولكن لا يقضي ذلك بجواز التعارض في أدلة الشريعة، وإن أرادوا تجويز

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ولو كانت حقيقة لم يكن هناك مانع من ترك المجتهد رأي نفسه إلى رأي غيره. "د".
2 أي: بحيث يجوز لكل واحد من المجتهدين أن يأخذ برأي غيره منهم. "د".
3 كما قرره الأصوليون في مسألة "لا يجوز أن يكون لمجتهد في مسألة قولان متناقضان في وقت واحد بالنسبة إلى شخص واحد"؛ لأنه إن حصل تعارض جمع أو رجح، وإلا وقف. "د".
4 جواب عن قوله: "وأيضًا؛ فالقائلون بالتصويب... إلخ"، وجوابه هو الجواب المذكور آنفًا عن الاعتراض باختلافهم في أن كل مجتهد مصيب، وهو أن الإصابة إضافية لا حقيقة، بدليل أنه ليس للمجتهد أن يترك ما وصل إليه اجتهاده إلى قول غيره. "د".
قلت: وانظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 124، 20/ 22"، و"فتح الباري" "7/ 409-410"، و"إرشاد الفحول" "ص261-262"، و"الاختلاف وما إليه" "73-78".

 

ج / 5 ص -74-   ذلك في نفس الأمر؛ فهذا لا ينتحله من يفهم الشريعة لورود1 ما تقدم من الأدلة عليه، ولا أظن [أن]2 أن أحدا منهم يقوله3.
وأما مسألة قول الصحابي؛ فلا دليل فيه لأمرين:
أحدهما: أن ذلك من قبيل الظنيات إن سلم صحة الحديث، على أنه مطعون في سنده، ومسألتنا قطعية ولا يعارض الظن القطع4.
والثاني: على تسليم ذلك فالمراد أنه5 حجة على انفراد كل واحد منهم أي أن من استند6 إلى قول أحدهم؛ فمصيب7 من حيث قلد أحد المجتهدين، لا أن كل واحد منهم حجة في نفس الأمر بالنسبة إلى كل8 واحد؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "لو ورد".
2 سقط في "ط".
3 نقل الشوكاني في "إرشاد الفحول" "ص275" أن الماوردي والروياني حكيا عن الأكثرين أن التعارض على جهة التكافؤ في نفس الأمر، بحيث لا يكون أحدهما أرجح من الأخر جائز وواقع، وعليه يحمل قول المصنف: "التعارض في الظاهر وفي أنظار المجتهدين"، وذهب جماعة من الشافعية، منهم البيضاوي والشيرازي إلى جواز التعارض بين الأمارات، وعدم جواز ذلك بين الأدلة القاطعة.
وانظر: "المحلي على جمع الجوامع" "2/ 59"، و"شرح نهاية السول" "3/ 256"، و"مشكاة الأنوار" "2/ 109، 417"، و"التلويح شرح التوضيح" "2/ 103"، و"الإبهاج بشرح المنهاج" "3/ 132، 133، 137، 146، 147" و"شرح تنقيح الفصول" "417، 418" و"كشف الأسرار" "3/ 706"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 138"، و"حاشيتا التفتازاني والجرجاني على شرح العضد على ابن الحاجب" "2/ 99"، و"إعلام الموقعين" "1/ 367"، و"زاد المعاد" "3/ 150"، و"أدلة التشريع المتعارضة "ص26-35" لبدران أبو العينين بدران، و"التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية: "1/ 59 وما بعدها" لعبد اللطيف البرزنجي.
4 في الأصل: "القطعي".
5 في "ط": "منهم".
6 في "ف": "أسند".
7 في "م": "مصيب".
8 أي: بل بالنسبة لنفسه ولمن قلده كما سبق في المجتهدين. "د".

 

ج / 5 ص -75-   فإن هذا مناقض لما تقدم.
وأما قول من قال: إن اختلافهم رحمة وسعة؛ فقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال: "ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة، وإنما الحق في واحد، قيل له: فمن يقول إن كل مجتهد مصيب؟ فقال: هذا لا يكون [هكذا، لا يكون] قولان مختلفين1 صوابين".
ولو سلم؛ فيحتمل أن يكون من جهة فتح باب الاجتهاد، وأن مسائل الاجتهاد قد جعل الله فيها سعة بتوسعة مجال الاجتهاد لا غير ذلك، قال القاضي إسماعيل2: "إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي، فأما أن يكون توسعة أن3 يقول الإنسان4 بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا، فاختلفوا".
قال ابن عبد البر5: "كلام إسماعيل هذا حسن جدا".
وأيضًا؛ فإن قول من قال: "إن اختلافهم رحمة" يوافق ما تقدم6، وذلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "مختلفان"، وينقل المصنف -بتصرف- عن "جامع بيان العلم" "2/ 906، 907"، وفيه: "قولان مختلفان يكونان صوابًا جميعًا، وما الحق والصواب إلا واحد"، وليس عنده: "إن كل مجتهد مصيب"، وهي في "ترتيب المدارك" "1/ 192، 193"، و"إعلام الموقعين" "4/ 211"، و"صفة الفتوى" "41" لابن حمدان، و"آداب المفتي والمستفتي" "125".
2 نقل مقولته ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 906-907".
3 في مطبوع "الجامع": "لأن".
4 في مطبوع "الجامع": "الناس".
5 في "الجامع" "2/ 907".
6 أي: من أن ذلك بسبب فتحهم باب الاجتهاد. "د".
قلت: هذا ما صرح به المصنف في "الاعتصام" "2/ 676-676 - ط ابن عفان".

 

ج / 5 ص -76-   لأنه قد ثبت أن الشريعة لا اختلاف فيها، وإنما جاءت حاكمة بين المختلفين [وقد ذمت المختلفين] فيها وفي غيرها من متعلقات الدين؛ فكان ذلك عندهم عامًّا في الأصول والفروع، حسبما اقتضته الظواهر المتضافرة والأدلة القاطعة، فما جاءتهم1 مواضع الاشتباه وكلوا ما لم يتعلق به عمل إلى عالمه على مقتضى قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِه} [آل عمران: 7]، ولم يكن لهم بد من النظر في متعلقات الأعمال؛ لأن الشريعة قد كملت، فلا يمكن خلو الوقائع عن أحكام الشريعة؛ فتحروا أقرب الوجوه عندهم إلى أنه المقصود الشرعي، والفطر والأنظار تختلف؛ فوقع الاختلاف من هنا لا من جهة أنه من مقصود الشارع، فلو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات الفرعية ولم يتكلموا فيها -وهم القدوة في فهم الشريعة والجري على مقاصدها- لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب للأدلة الدالة على ذم الاختلاف، وأن الشريعة لا اختلاف فيها، ومواضع الاشتباه مظانٌّ الاختلاف في إصابة الحق فيها؛ فكان المجال يضيق على من بعد الصحابة، فلما اجتهدوا ونشأ من اجتهادهم في تحري الصواب الاختلاف؛ سهل على من بعدهم سلوك الطريق، فلذلك والله أعلم قال عمر بن عبد العزيز: "ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم"2.
وقال: "ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا"3.
وأما اختلاف العلماء بالنسبة إلى المقلدين؛ فكذلك أيضًا، لا فرق بين مصادفة المجتهد الدليل، ومصادفة العامي المفتي؛ فتعارض الفتويين عليه كتعارض الدليلين4 على المجتهد، فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معًا، ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح، كذلك لا يجوز

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "جاءت".
"2 و3" مضى تخريجهما قريبًا.
4 أي: في نظر المجتهد، وأما في نفس الأمر؛ فلا تعارض على الصحيح. "ف".
قلت: وما عند المصنف في "المستصفى" "2/ 391" للغزالي.

 

ج / 5 ص -77-   للعامي اتباع المفتيين معًا ولا أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح1.
وقول من قال2: "إذا تعارضا عليه تخير" غير صحيح من وجهين:
أحدهما: أن هذا قول بجواز تعارض الدليلين في نفس الأمر وقد مر فيه آنفًا.
والثاني: ما تقدم من الأصل الشرعي، وهو أن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، وتخييره بين القولين نقض لذلك الأصل، وهو غير جائز، فإن الشريعة قد ثبت أنها تشتمل على مصلحة جزئية في كل مسألة، وعلى مصلحة كلية في الجملة، أما الجزئية، فما يعرب عنها دليل كل حكم وحكمته،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا إذا وسعه الترجيح، وإلا؛ فيخير بين أيهما شاء؛ لأن كلا القولين موجود بالفعل، معمول به عند قائله؛ فهو في سعة من الأخذ بأيهما أراد، بخلاف المجتهد إذا تعارض في نظره دليلان ولم يسعه الترجيح؛ فليس هناك قول موجود بالفعل حتى يكون في سعة من العمل به؛ فيلزمه التردد والتوقف كما نقل عن الشافعي في بضعة مسائل، وقد يستأنس لهذا بما قيل من جواز تقليد العامي المفضول من المجتهدين، مع وجود الفاضل، مع أنه لا يجوز للمجتهد الأخذ بالمرجوح من الأدلة مع وجود الراجح. "ف".
قلت: انظر: التقرير والتحبير" "3/ 351"، و"القسطاس المستقيم" "ص76" للغزالي، تحقيق محمد السمان ط دار الثقافة 1381هـ والمدخل للفقه الإسلامي لمحمد سلام مدكور "ص325"، و"عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق" للباني.
2 التخيير في حق العامي هو الذي صححه الرافعي والشيرازي في "اللمع"، واختاره ابن الصباغ فيما إذا تساوى المفتيان في نفسه، واختاره الآمدي مستدلًا بحادثة بني قريظة، وفي هذا الاستدلال نظر، كما قدمناه في التعليق على "3/ 407-409"، وقال الغزالي في "المحصول" "6/ 82": "منهم في خيره، ومنهم من أوجب الأخذ بقول الإعلم"، قال: "وهو الأقرب لمزيته"، وانظر: "البحر المحيط" "6/ 313"، وفيه: "وأغرب الروياني فقال: إنه غلط".
قلت: ودليل المصنف على التغليط قوي، وهو موافق للروياني، ونصره الفاسي في "تحفة الأكابر" كما في "رفع العتاب" "ص95".

 

ج / 5 ص -78-   وأما الكلية؛ فهي أن يكون المكلف داخلًا تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته؛ اعتقادًا، وقولًا، وعملًا؛ فلا يكون متبعًا لهواه كالبهيمة المسيبة حتى يرتاض بلجام الشرع، ومتى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة؛ لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبقَ لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة؛ فلا يصح القول بالتخيير على حال، وانظر في الكتاب "المستظهري" للغزالي؛ فثبت2 أنه لا اختلاف في أصل الشريعة، ولا هى موضوعة على [كون]3 وجود الخلاف فيها أصلا يرجع إليه مقصودًا من الشارع، بل ذلك الخلاف راجع إلى أنظار المكلفين وإلى ما يتعلق بهم من الابتلاء، وصح أن نفي الاختلاف في الشريعة وذمه على الإطلاق والعموم في أصولها وفروعها؛ إذ لو صح فيها وضع فرع واحد على قصد الاختلاف لصح فيها4 وجود الاختلاف على الإطلاق؛ لأنه إذا صح اختلاف ما صح كل الاختلاف وذلك معلوم البطلان؛ فما أدى إليه مثله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر منه آخر "الباب التاسع، في إقامة البراهين الشرعية على أن الإمام القائم بالحق الواجب على الخلق طاعته في عصرنا هذا.... ص120"، وفي النسخ المطبوعة و"ماء": "المستظهر" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، كما في "الأصل"، وفي "طبقات السبكي" "4/ 116": "المستظهري في الرد على الباطنية"، وانظر: "مؤلفات الغزالي" "رقم 22".
وقول المصنف السابق: "فإن الشريعة قد ثبتت أنها تشتمل على مصلحة.... إلخ" منه "ص59" مع تصرف وتغيير.
2 هذا واقع في مقابلة قوله في آخر الاعتراض على أصل القاعدة "يحمل على الاختلاف في أصل الدين لا في فروعه الذي جعله نتيجة للأدلة لأدلة المسألة، فلما أبطل أدلة المسألة واحدًا واحدًا؛ رتب عليه قوله؛ فثبت أنه لا اختلاف، وصح أن نفي الاختلاف جارٍ على الإطلاق في الأصول والفروع، كما هو أصل المسألة، وكما نبه إليه قوله آنفًا: "فكان ذلك عندهم عامًّا في الأصول والفروع حسبما اقتضته الظواهر... إلخ". "د".
3 ما بين المعقوفتين من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة كلها و"ط".
4 في "ط" و"م": "فيه".

 

ج / 5 ص -79-   فصل:
وعلى هذا الأصل ينبني قواعد، منها1 أنه ليس للمقلد2 أن تتخير3 في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: متى ثبت الأصل المتقدم، وهو أن الشريعة ترجع إلى قول واحد، لزم أنه ليس للمقلد أن يتخير؛ لأنه لا يكون ذلك إلا إذا كانت الشريعة موضوعة على تعدد الحكم واختلاف الرأي في  الشيء الواحد، إلا أن هذا الموضع نفسه تقدم له في معارضة المسألة، ثم رده وأقام الدليل على غرضه من عدم تخير المقلد، لكنه بسط الكلام عليه في هذا الفصل؛ فلهذا أعاده.
وقد ذكر الأصوليون في تخيير المقلد مسألة خلافية، وهي أنه هل للعامي أن يسأل من يشاء من المفتين، أم أنه لا بد من ترجيحه في سؤاله وأخذه عن الراجح منهم في نظره ويكفيه الشهرة؟ وهذا هو رأي أحمد بن حنبل وابن سريج والقفال من أصحاب الشافعي وجماعة من الفقهاء والأصوليين، مخالفين لرأي القاضي أبي بكر وجماعة من الفقهاء والأصوليين القائلين بالتخيير، سواء أتساووا أم تفاضلوا، واستدلوا بأن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول، وكان فيهم العوام، ولم ينقل عن أحد من الصحابة تكليف العوام بالاجتهاد في أعيان المجتهدين، ولو كان التخيير غير جائز؛ لما تطابق الصحابة على عدم إنكاره، قال الآمدي "في "الإحكام" "4/ 318" في نهاية المسألة: "ولولا إجماع الصحابة على ذلك؛ لكان القول بمذهب الخصوم أولى" ا. هـ. والظاهر أن هذا الدليل لا ينهض بإزاء موضوع المؤلف؛ فإن غاية ما أفاده الدليل تخيير العامي في استثناء أي صحابي شاء، أما إذا ذهب إلى صحابيين، فأفتياه بمختلف الأقوال؛ فليس في هذا الدليل ما يدل على التخيير فيه، وهو الذي يتكلم فيه المؤلف ويبرهن على عدم جوازه، وهو غير أصل المسألة المختلف فيها على ما نقلناه؛ فلا يأتي فيه دليل القاضي ومن معه، وليس محل إجماع الصحابة، وحينئذ فيتم فيه قول الآمدي: "إن مذهب الخصوم أولى"، ويتم للمؤلف مطلوبه. "د".
قلت: انظر في المسألة: "المحصول" "6/ 81"، و"البحر المحيط" "6/ 311"، و"التمهيد" "4/ 403"، و"المستصفى" "2/ 390"، و"البرهان" "2/ 1342-1344"، و"المنخول" "479"، و"الإحكام" "4/ 317" للآمدي، و"شرح تنقيح الفصول" "432"، و"تيسير التحرير" "4/ 351"، "فواتح الرحموت" "2/ 404"، و"إحكام الفصول" "ص729"، و"إرشاد الفحول" "271"، و"المسودة في أصول الفقه" "462، 518"، و"جمع الجوامع" "2/ 395 مع شرح المحلي"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 262 و20/ 202"، =

 

ج / 5 ص -80-   ..........................................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 204، 209، 213 و35/ 233"، و"آدب المفتي والمستفتي" لابن الصلاح "ص164-165"، و"روضة الطالبين" "11/ 117".
2 التقليد قبول رأي من ليس رأيه حجة دون أن تعرف حجته، فيخرج عنه العمل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم وبالإجماع ورجوع القاضي إلى الشهود؛ لأن هذه الثلاثة أدلة شرعية يؤخذ بها في الأحكام جماعًا؛ فهي حجة شرعية، فلا يعد الرجوع إليها تقليدًا، والمفتي في اصطلاحهم هو المجتهد، وقد يطلق على من يعرف الأحكام الشرعية ويتصدى لإجابة السائلين عنها وإن لم يكن مجتهدًا. "د".
3 في المسألة ثمانية أقوال، والتخيير لأكثر أصحاب الشافعي والشيرازي والخطيب والبغدادي والقاضي، والاجتهاد في الترجيح الذي اختاره المؤلف وبالغ في إثباته وشدد النكير على خلافه هو لابن السمعاني، كما يؤخذ من "إرشاد الفحول" "ص271" للشوكاني، وعليك بمراجعة الركن الثاني من أركان القضاء في "التبصرة" "1/ 45 وما بعدها"؛ فإن به فصولًا ممتعة جدًا في هذا الموضوع، وهي على الجملة تؤيد ما ذهب إليه المؤلف هنا، وفي "فتاوى الشيخ عليش" "1/ 57 وما بعدها" في باب مسائل أصول الفقه إفاضة واستقصاء في هذا الموضوع. "د".
وكتب "ف" ما نصه: "علمت أن الظاهر تخييره، ومن كان حكمه كذلك؛ فلا يلزم أن يكون أخذه بأحدهما متبعًا هواه، خصوصًا إذا تساويا بالنسبة إلى فرضه".
قلت: انظر ما قدمناه قريبًا في التعليق على "ص79"، و"إحكام الفصول" "ص729-730"، و"البرهان في أصول الفقه" "2/ 1350-1351".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نقل عنه هذا الزركشي في "البحر" "6/ 313" وغيره، وفي هذا نظر؛ فإنه قال في "الفقيه والمتفقه" "2/ 204": "فإن قال قائل: فكيف تقول في المستفتي من العامة إذا أفتاه الرجلان واختلفا؛ فهل له التقليد؟ قيل: له إن شاء الله، هذا على وجهين:
أحدهما: إن كان العامي يتسع عقله ويكمل فهمه، إذا عقل أن يعقل، وإذا فهم أن يفهم، فعليه أن يسأل المختلفين عن مذاهبهم، وعن حججهم؛ فيأخذ بأرجحها عنده، فإن كان عقله يقصر عن هذا، وفهمه لا يكمل له؛ وَسِعَهُ التقليد لأفضلهما عنده".
قلت: وهذا تفصيل حسن، وليس فيه التخيير؛ فتأمل.

 

ج / 5 ص -81-   الخلاف؛ كما إذا اختلف المجتهدون على قولين؛ فوردت كذلك على المقلد؛ فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيرا فيهما كما يخير في خصال الكفارة؛ فيتبع هواه وما يوافق غرضه دون ما يخالفه، وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين، وقواه بما روى من قوله عليه الصلاة والسلام: "أصحابي كالنجوم"1، وقد مر الجواب عنه، وإن صح؛ فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوًا فاستفتى صحابيا أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه، وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين؛ فالحق أن يقال: ليس بداخل تحت ظاهر الحديث؛ لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه؛ فهما صاحبا دليلين متضادين، فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى، وقد مر ما فيه؛ فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها2.
وأيضًا فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد فكما يجب على المجتهد، الترجيح أو التوقف كذلك المقلد، ولو جاز تحكيم3 التشهي والأغراض في مثل هذا؛ لجاز للحاكم وهو باطل بالإجماع.
وأيضًا؛ فإن في مسائل الخلاف ضابطًا قرآنيًا ينفى اتباع الهوى جملة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "4/ 452"، وهو حديث غير صحيح، وانظر تفصيلًا حول الجواب عن الاستدلال بهذا الحديث بما يؤيد قول المصنف في "رفع العتاب" "ص90-93".
2 مثل الأورعية أو كثرة الأدلة؛ كما تراه في "المحصول" "6/ 81"، و"جمع الجوامع" "2/ 436"، و"رفع العتاب" "ص65-66".
3 أي: فلا فرق بين أن يمنع المكلف من الحكم بين الناس بمحض اختياره قولًا من الأقوال المنسوبة للمجتهدين، وبين أن يأخذ لنفسه بمحض هذا الاختيار، فلما كان ممنوعًا من الأول إجماعًا كان ممنوعًا من الثاني، ومن يدعي الفرق عليه البيان، على أن القرافي نقل الإجماع على حرمة اتباع الهوى في الفتيا أيضًا كما نقله عنه ابن فرحون في "التبصرة" "1/ 51" في الركن الثاني من أركان القضاء، ونقل عنه فيه أيضًا أن الحكم والفتيا بالمرجوح خلاف الإجماع. "د".

 

ج / 5 ص -82-   وهو قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} [النساء: 59]، وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان؛ فوجب ردها إلى الله والرسول، وهو الرجوع إلى الأدلة1 الشرعية، وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة؛ فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول، وهذه الآية2 نزلت على سبب فيمن اتبع هواه بالرجوع إلى حكم الطاغوت، ولذلك أعقبها بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْك} [النساء: 60].
وهذا4 يظهر أن مثل هذه القضية لا تدخل تحت قوله: "أصحابي كالنجوم"5.
وأيضًا؛ فإن ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي، وقد حكى ابن حزم6 الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي الترجيح هنا. "د".
2، 3 الآتيان نزلت كل منهما على سبب خاص غير سبب نزول الأخرى؛ إلا أنهما مشتركان في نوع السبب، فعليك بالرجوع لكتب التفسير. "د".
قلت: انظر "لباب النقول" "72"، و"الصحيح المسند من أسباب النزول" "ص45".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "وهذا".
5 مضى تخريجه "4/ 452"، وهو حديث منكر.
6 قال في كتابه "مراتب الإجماع" "ص58": "واتفقوا على أنه لا يحل لمفتٍ ولا لقاضٍ أن يحكم بما يشتهي مما ذكرنا في قصة، وبما اشتهى مما يخالف الحكم في أخرى مثلها، وإن كان كلا القولين مما قال به جماعة من العلماء ما لم يكن ذلك الرجوع عن خطأ لاح له إلى صواب؛ بان له، ونقله عنه المحلي في "شرح جمع الجوامع" "2/ 442".
ونقل الإجماع ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 91، 92 - ط القديمة", والباجي كما سيأتي عنه، وابن الصلاح في "آداب المفتي" "ص125"، وحكاه عنهما ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الكبرى الفقهية" "4/ 204"، وانظر: "رفع العتاب" "ص76".

 

ج / 5 ص -83-   وأيضًا؛ فإنه مؤدٍّ إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها؛ لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء، ويترك إن شاء وهو عين إسقاط التكليف1، بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح2 فإنه متبع للدليل؛ فلا يكون متبعًا للهوى ولا مسقطا للتكليف.
لا يقال: إذا اختلفا، فقلد أحدهما قبل لقاء الآخر جاز3؛ فكذلك بعد لقائه، والاجتماع طردي؛ لأنا نقول: كلًا، بل للاجتماع أثر؛ لأن كل واحد منهما في الافتراق طريق موصل4 كما لو وجد دليلًا ولم يطلع على معارضه بعد البحث عليه جاز له العمل. أما إذا اجتمعا واختلفا عليه؛ فهما كدليلين متعارضين اطلع عليهما المجتهد، ولقد أشكل القول بالتخيير المنسوب إلى القاضي ابن الطيب، واعتذر عنه بأنه مقيَّد لا مطلق؛ فلا يخير إلا بشرط أن يكون في تخييره [في]5 العمل بأحد الدليلين قاصدا لمقتضى الدليل في العمل المذكور، لا قاصدًا لاتباع هواه فيه، ولا لمقتضى التخيير على الجملة؛ فإن التخيير الذى هو معنى الإباحة مفقود ههنا، واتباع الهوى ممنوع؛ فلا بد من هذا القصد.
وفى هذا الاعتذار ما فيه، وهو تناقض؛ لأن اتباع أحد الدليلين من غير ترجيح محال، إذ لا دليل له مع فرض التعارض من غير ترجيح؛ فلا يكون هنالك متبعا إلا هواه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر: "استدراك1".
2 في "ط" و"ف": "للترجيح" وصوب "ف" المثبت في الهامش، وكتب "م": "في "م" و"ت": فالترجيح".
3 أي: بدون حاجة إلى طلب أفضلية المجتهد على غيره، كما هو مذهب القاضي أبي بكر ومن معه للدليل السابق. "د".
4 في "ط": "متصل".
5 ما بين المعقوفتين سقط من "ف" و"ط"، وصوب "ف" وجوده في الهامش، وعند "م": "أن يكون التخيير في العمل..".

 

ج / 5 ص -84-   فصل:
وقد أدى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال؛ اتباعا لغرضه1 وشهوته، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق.
ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلًا عن زماننا كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعا للغرض والشهوة، وذلك فيما لا يتعلق به فصل قضية وفيما يتعلق به ذلك.
فأما ما لا يتعلق به فصل قضية، بل هو فيما بين الإنسان وبين نفسه في عبادته أو عادته؛ ففيه من المعايب ما تقدم وحكى عياض فى "المدارك"2: "قال موسى بن معاوية: كنت عند البهلول بن راشد إذ أتاه ابن فلان3؛ فقال له بهلول: ما أقدمك؟ قال: نازلة، رجل ظلمه السلطان فأخفيته وحلفت بالطلاق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بل أخرجوا الأمر عن كونه قانونًا شرعيًا، وجعلوه متجرًا، حتى بعض المؤلفين في فقه الشافعية ما نصه: "نحن مع الدراهم كثرة وقلة". "د".
قلت: ومن الطرائف ما حكاه ابن حزم في "الإحكام" "6/ 167" عن بعض الفقهاء في زمانه، قال: "قد يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من لا خير فيه، ومن لا علم عنده، ومن غيره أعلم منه، وقد شهدنا نحن قومًا فساقًا حملوا اسم التقدم في بلدنا وهم ممن لا يحل لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة، ولا يجوز قبول شهادتهم، وقد رأيت أنا بعضهم، وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا، وهو يتغطى الديباج الذي هو الحرير المحض لحافًا، ويتخذ في منزله الصور ذوات الأوراح من النحاس والحديد تقذف الماء أمامه، ويفتي بالهوى للصديق فتيا، وعلى العدو فتيا ضدها، ولا يستحي من اختلاف فتاويه على قدر ميله إلى من أفتى، وانحرافه عليه، شاهدنا نحن هذا منه عيانًا، وعليه جمهور أهل بلدنا، إلى قبائح مستفيضة لا نستجيز ذكرها؛ لأننا لم نشاهدها" انتهى.
2 "1/ 330 - ط بيروت".
3 أبهمه المصنف، وهو عبد الرحيم بن أشرس، على ما حكى القاضي عياض.

 

ج / 5 ص -85-   ثلاثًا ما أخفيته. قال له البهلول: مالكٌ يقول: إنه يحنث1 في زوجته. فقال السائل: وأنا قد سمعته يقول2: وإنما أردت غير هذا. فقال: ما عندي غير ما تسمع. قال: فتردد إليه ثلاثًا، كل ذلك يقول له البهلول قوله الأول، فلما كان في الثالثة أو الرابعة؛ قال: يابن فلان! ما أنصفتم الناس، إذا أتوكم في نوازلهم قلتم: "قال مالك"، "قال مالك"، فإن نزلت بكم النوازل طلبتم لها الرخص، الحسن يقول: لا حنث عليه في يمينه، فقال السائل: الله أكبر قلدها3 الحسن؟!" أو كما قال.
وأما ما يتعلق به فصل قضية بين خصمين؛ فالأمر أشد، وفى "الموازيَّة"4 كتب عمر بن الخطاب: "لا تقضِ بقضاءين في أمر واحد فيختلف عليك أمرك". قال ابن المواز: "لا ينبغي للقاضي أن يجتهد في اختلاف الأقاويل، وقد كره مالك ذلك ولم يجوزه لأحد5، وذلك عندي أن يقضى بقضاء بعض6 من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأن الخوف على النفس أو المال إنما يعد إكراهًا يرفع أثر الإيمان إذا كان الضرر عائدًا على الشخص الحالف نفسه أو ولده؛ حتى إن الأب والأخ مثلًا لا يعد الخوف عليهما إكراهًا يرفع أثر الإيمان، ولو تحقق الحالف حصول ما ينزل بغير نفسه وولده من الضرر؛ فلا يعد إكراهًا، وإن كان يطل منه اليمين شرعًا -ندبًا أو وجوبًا على الخلاف- لأجل سلامة ذلك الغير، ومحل الحنث إذا يَكُنْ: "ابن فلان"، هذا حلف اليمين خوفًا على نفسه هو من عقوبته على إخفائه، أما إذا كان كذلك؛ فهو داخل في الإكراه، ولا حنث في اليمين، وهذا رأي مالك وأصحابه جميعًا في الإكراه لا ينعقد به يمين ولا بيع ولا غيرهما من سائر العقود والالتزامات. "د".
2 في "م" و"ط": يقوله.
3 معناه أخذها في عنقه كالقلادة، أي أنه هو المسئول عنها ولست مسئولا؛ فأعمل بقوله والعهدة عليه، وتكبيره سرور منه بانفراج أزمته وحل مشكلته. "د".
قلت: وهو رد على "ف"، وتبعه "م" حيث قال: "أي: قلد الفتيا، وهو استغراب منه".
4 انظر عنها "دراسات في مصادر الفقه المالكي" "ص149-153 - ط دار الغريب".
5 انظر: "الذخيرة" "10/ 133"،
6 في "ط": "في بعض".

 

ج / 5 ص -86-   مضى، ثم يقضى في ذلك الوجه بعينه على آخر بخلافه، وهو أيضًا من قول من مضى، وهو في أمر واحد، ولو جاز ذلك لأحد لم يشأ أن يقضي على هذا بفتيا قوم ويقضي في مثله بعينه على قوم بخلافه بفتيا قوم آخرين إلا فعل؛ فهذا ما قد عابه من مضى وكرهه مالك ولم يره صوابًا".
وما قاله صواب، فإن القصد من نصب الحكام رفع التشاجر والخصام على وجه لا يلحق فيه أحد الخصمين ضرر، مع عدم تطرق التهمة للحاكم، وهذا النوع من التخيير في الأقوال مضاد لهذا كله.
وحكى أحمد بن عبد البر1 "أن قاضيا من قضاة قرطبة2 كان كثير الاتباع ليحيى بن يحيى، لا يعدل عن رأيه إذا اختلف عليه الفقهاء، فوقعت قضية تفرد فيها يحيى وخالف جميع أهل الشورى؛ فأرجأ القاضي القضاء فيها حياء من جماعتهم، وردفته قضية أخرى كتب بها إلى يحيى، فصرف يحيى رسوله، وقال له: لا أشير عليه بشيء؛ إذ توقف على القضاء لفلان بما أشرت عليه. فلما انصرف إليه رسوله وعرفه بقوله قلق منه، وركب من فوره إلى يحيى وقال له: لم أظن أن الأمر وقع منك هذا الموقع، وسوف أقضي له غدا إن شاء الله. فقال له يحيى: وتفعل ذلك صدقًا؟ قال: نعم. قال له: فالآن هيجت غيظي؛ فإني ظننت إذ خالفني أصحابي أنك توقفت مستخيرًا لله [متخيرًا]3 في الأقوال، فأما إذ صرت تتبع الهوى وتقضي برضى مخلوق ضعيف؛ فلا خير فيما تجيء به، ولا فيَّ إن رضيته منك، فاستعفِ من ذلك فإنه أستر لك، وإلا رفعت في عزلك". فرفع يستعفي فعُزِل.
وقصة محمد بن يحيى ابن لبابة أخو الشيخ ابن لبابة مشهورة، ذكرها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وعنه القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 539 - ط بيروت".
2 سماه أحمد بن عبد البر: "جميل المذهب".
3 سقط من "ط".

 

ج / 5 ص -87-   عياض1، وكانت مما غض من منصبه، وذلك أنه عزل عن قضاء البيرة لرفع أهلها عليه، ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه، وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زياد وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه2 بيته وأن لا يفتي أحدًا فأقام على ذلك وقتا، ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر3 من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر، فشكا إلى القاضي ابن بقي أمره وضرورته إليه لمقابلته متنزهه4 وتأذيه برؤيتهم أوان تطلعه من علاليه؛ فقال له ابن بقي: لا حيلة عندي فيه، وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس. فقال له: فتكلم مع الفقهاء فيه، وعرفهم رغبتي وما أجزله من أضعاف القيمة فيه؛ فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة.
فتكلم ابن بقي معهم، فلم يجعلوا إليه سبيلًا؛ فغضب الناصر عليهم، وأمر الوزراء بالتوجه فيهم إلى القصر وتوبيخهم؛ فجرت بينهم وبين الوزراء5 مكالمة ولم يصل الناصر معهم إلى مقصوده، وبلغ ابن لبابة هذا الخبر؛ فرفع إلى الناصر يغض من أصحابه الفقهاء، ويقول: إنهم حجروا عليه واسعًا، ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعاوضة وتقلدها وناظر أصحابه فيها، فوقع الأمر بنفس الناصر، وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى، ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة؛ فاجتمع القاضي والفقهاء، وجاء ابن لبابة آخرهم، وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم لأجلها وغبطة6 المعاوضة فيها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ترتيب المدارك" "2/ 399 - ط بيروت"، وذكرها المصنف في "الاعتصام" "2/ 684-685 - ط ابن عفان".
2 ف "ط": وألزمه".
3 كمنبر حوض لا يسقى فيه، وبالفتح: اسم مكان من الجشر -بالسكون-، وهو أن يخرجوا بخيلهم فيرعوها أمام بيوتهم، والمراد به مرتفق المرضى كالمستشفى. "ف" وتبعه "م".
4 في الأصل و"ف" و"م": "منزهة"، وكذا في "الاعتصام" "2/ 684"، وفي "ترتيب المدارك" "2/ 399": "منتزهه وباديته فيهم، وأن مطلعه من علاليه..".
5 في "ط": "بعض الوزراء".
6 كذا في الأصل و"ف" و"د" و"الترتيب" و"الاعتصام"، وفي "م": "ورغبه".

 

ج / 5 ص -88-   فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه، وابن لبابة ساكت؛ فقال له القاضي: ما تقول أنت يا أبا عبد الله؟ قال: أما قول إمامنا مالك بن أنس؛ فالذي قاله أصحابنا الفقهاء، وأما أهل العراق؛ فإنهم لا يجيزون1 الحبس أصلًا، وهم علماء أعلام يهتدي بهم أكثر الأمة، وإذ بأمير المؤمنين من2 الحاجة إلى هذا المجشر ما به فما ينبغي أن يرد عنه، وله في السنة فسحة، وأنا أقول فيه بقول أهل العراق، وأتقلد ذلك رأيا، فقال له الفقهاء: سبحان الله! تترك قول مالك الذى أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنه بوجه، وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه؟ فقال له3 محمد بن يحيى: ناشدتكم الله العظيم ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتهم4 فيها بقول غير مالك في خاصة أنفسكم وأرخصتم لأنفسكم؟5 قالوا: بلى. قال: فأمير المؤمنين؛ أولى بذلك فخذوا به مآخذكم، وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء؛ فكلهم قدوة. فسكتوا، فقال للقاضي: أنه6 إلى أمير

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في كتاب "البدائع" "6/ 218" في مذهب الخنفية: إنه ينبني على الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبه في جواز الوقف وعدمه، أنه لو بنى رباطًا أو خاناص للمجتازين أو سقاية للمسلمين لا تزول رقبة العين عن ملكه عند أبي حنيفة، إلا إذا أضاف الوقف إلى ما بعد الموت بأن قال: إذا مت فقد جعلت داري مثلًا وقفا على كذا، ومثله إذا حكم به حاكم، أما عند صاحبيه، فيزول الملك بدون توقف على الإضافة إلى ما بعد الموت وبدون حكم الحاكم. "د".
قلت: انظر في تفصيل المسألة: "المدونة الكبرى" "4/ 342"، و"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" "4/ 91"، و"التاج والإكليل" "6/ 42"، و"رسالة الحطاب في بيع الأحباس" "مخطوطة في دار الكتب المصرية، ق4، 5"، و"أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية" "2/ 32 وما بعدها".
2 في "ف": "في"، وفي "م": "وإذا كان بأمير المؤمنين في...".
3 في "ط": "فقال لهم".
4 في "د": "أخذتهم".
5 بعدها في "ط": "في ذلك".
6 أي: أبلغ.

 

ج / 5 ص -89-   المؤمنين فتياي. فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس، وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يأخذ له بفتيا محمد بن يحيى بن لبابة، وينفذ ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاكه بمنية عجب1، وكانت عظيمة القدر جدا تزيد أضعافا على المجشر، ثم جيء من عند أمير المؤمنين بكتاب منه إلى ابن لبابة هذا بولايته خطة الوثائق؛ ليكون هو المتولي لعقد هذه المعاوضة؛ فهنئ بالولاية، وأمضى القاضي الحكم بفتواه، وأشهد عليه وانصرفوا؛ فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة ست وثلاثين وثلاث مائة.
قال القاضي عياض2: "ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر؛ فقال: ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذى حل سجل السخطة إلى سجل السخطة؛ فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه. أو كما قال.
وذكر الباجي3 في كتاب "التبيين لسنن المهتدين" حكاية أخرى فى أثناء كلامه فى معنى هذه المسألة؛ قال: "وربما زعم بعضهم أن النظر والاستدلال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في زيادات "شرح القاموس" في مادة منية ما نصه: "والمنية بالكسر اسم لعدة قرى..." إلى أن قال: "مِنية عجب بالأندلس منها خلف بن سعيد المتوفي بالأندلس سنة 305"؛ فقوله في "الاعتصام" "2/ 686 - ط ابن عفان" في فصل أسباب الخلاف: "ويعوض من هذا المجشر بأملاك ثمنية عجيبة" لا يقتضي أن يكون هنا تحريف، بل قوله: "وكانت عظيمة القدر.... إلخ" يقتضي أنها كانت معروفة بأعيانها كما هو مقتضى كونها اسمًا لهذه البلدة بالأندلس. "د".
قلت: وهو رد على "ف" -وتبعه "م"- حيث قال: "لعله بأملاك ثمنية كما في "الاعتصام"" ا. هـ. قلت: الصواب "بمنية عجب" كما في "ترتيب المدارك" "1/ 402".
2 في "ترتيب المدارك" "1/ 204".
3 نقل عنه المزبور عند المصنف: ابن الصلاح في "آداب المفتي والمستفتي" "ص125"، وابن حمدان في "صفة الفتوى" "40-41".

 

ج / 5 ص -90-   الأخذ من أقاويل مالك وأصحابه بأيها شاء، دون أن يخرج عنها ولا يميل1 إلى ما مال منها لوجه يوجب له ذلك، فيقضى في قضية بقول مالك، وإذا2 تكررت تلك القضية كان له أن يقضي فيها بقول ابن القاسم مخالفا للقول الأول، لا لرأي تجدد له، وإنما ذلك بحسب اختياره".
قال: "ولقد حدثني من أَثِقُهُ3 أنه اكترى جزءا من أرض على الإشاعة، ثم إن رجلا آخر اكترى باقي الأرض، فأراد المكتري الأول أن يأخذ بالشفعة وغاب عن البلد، فأفتي المكتري الثاني بإحدى الروايتين عن مالك أن لا شفعة فى الإجارات، قال لي: فوردت من سفري، فسألت أولئك الفقهاء -وهم أهل حفظ في المسائل وصلاح فى الدين- عن مسألتي؛ فقالوا: ما علمنا أنها لك؛ إذ كانت لك المسألة أخذنا لك برواية أشهب عن مالك بالشفعة فيها. فأفتاني جميعهم بالشفعة، فقضي لي بها".
قال: وأخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا المصنف مشهور بالحفظ والتقدم أنه كان يقول معلنا غير مستتر: إن الذى لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه".
قال الباجي: "ولو اعتقد هذا القائل أن مثل هذا لا يحل له ما استجازه، ولو استجازه لم يعلن به ولا أخبر به عن نفسه".
قال: "وكثيرًا ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها: لعل فيها رواية؟ أم لعل فيها رخصة؟ وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة، ولو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ولا يلزم أن يكون ميله إلى أحد هذه الأقوال بمقتضى وجه ومرجح؛ إلا أنه يبقى الكلام في معنى كون هذا نظرًا واستدلالًا، وأي شبهة ولو ضعيفة لهذا الزعم مع قوله: "لا يميل.... إلخ"؟ "د".
2 في "ط": "فإذا".
3 في "د": "أوثقه"، وما أثبتناه من الأصل و"ف" و"م" و"ط".

 

ج / 5 ص -91-   كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ولا من سواي، وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به فى الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي فى دين الله إلا بالحق الذى يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه، وسخطه من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى فى حكمه؛ فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه، والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم}... الآية [المائدة: 49]؛ فكيف يجوز لهذا المفتى أن يفتي بما يشتهي، أو يفتي زيدا بما لا يفتي به عمرا لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الأغراض؟ وإنما يجب للمفتي أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق، فيجتهد في طلبه، ونهاه أن يخالفه وينحرف عنه، وكيف له بالخلاص مع كونه من أهل العلم والاجتهاد إلا بتوفيق الله وعونه وعصمته؟!".
هذا ما ذكره، وفيه بيان ما تقدم من أن الفقيه1 لا يحل له أن يتخير بعض الأقوال بمجرد التشهي والأغراض من غير اجتهاد، ولا أن يفتي به أحدًا2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المراد به غير المجتهد ممن يعرف أقوال المجتهدين؛ لأنه الذي تقدم الكلام عن الباجي في الإنكار عليه؛ فالمجتهد من باب أولى. "د".
2 قال ابن فرحون في "تبصرة الحكام" "1/ 51-52، 55-56" والقرافي في "الإحكام" "ص250" والنص له: "ولا ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف أن يفتي العامة بالتشديد، والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف، وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين، والتلاعب بالمسلمين، ودليل فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه، وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق! نعوذ بالله تعالى من صفات الغافلين".
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في آخر "إعلام الموقعين" "4/ 222" في الفصل الذي عقده لفوائد تتعلق بالفتوى: "الفائدة التاسعة والثلاثون: لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق، وحرم استفتاؤه، فإن حسن قصده =

 

ج / 5 ص -92-   والمقلد في اختلاف الأقوال عليه مثل هذا المفتي الذي ذكره؛ فإنه إنما أنكر ذلك على غير مجتهد أن ينقل عن مجتهد بالهوى، وأما المجتهد؛ فهو أحرى بهذا الأمر.
فصل:
وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية؛ حتى صار الخلاف في المسائل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة، لتخليص المستفتي بها من حرج جاز ذلك، بل استحب، وقد أرشد الله نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثًا، فيضرب به المرأة ضربة واحدة.
وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم بلالًا إلى بيع التمر بدراهم، ثم يشتري بالدراهم تمرًا آخر، فيتخلص من الربا.
فأحسن المخارج ما خلص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم، أو أسقط ما أوجبه الله وسوله من الحق اللازم، والله الموفق للصواب" انتهى.
ومن لطيف ما يذكر في جنب الترخص: ما قاله الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى عن نفسه، في كتابه "صيد الخاطر" "2/ 304"، وقد ترخص في بعض الأمور.
"ترخصت في شيء يجوز في بعض المذاهب، فوجدت في قلبي قسوة عظيمة، وتخايل لي نوع طرد عن الباب، وبعد وظلمة تكاثفت.
فقالت نفسي: ما هذا؟ أليس ما خرجت عن إجماع الفقهاء؟ فقلت لها: يا نفس السوء! جوابك من وجهين.
أحدهما: أنك تأولت ما لا تعتقدين، فلو استفتيت لم تفتي بما فعلت. قالت: لو لم أعتقد جواز ذلك ما فعلته. قلت: إلا أن اعتقادك هو ما ترضينه لغيرك في الفتوى.
والثاني: أنه ينبغي لك الفرح بما وجدت من الظلمة عقيب ذلك؛ لأنه لولا نور في قلبك ما أثر مثل هذا عندك: قالت: فلقد استوحشت بهذه الظلمة المتجددة في القلب. قلت: فاعزمي على الترك، وقدري ما تركت جائزًا بالإجماع، وعدي هجره ورعًا، وقد سلمت".

 

ج / 5 ص -93-   معدودا فى حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد فى جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف؛ فإن له نظرا آخر1، بل فى غير ذلك، فربما وقع الإفتاء فى المسألة بالمنع؛ فيقال: لم تمنع والمسألة مختلف فيها، فيجعل الخلاف حجة فى الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد متعمدا2 وما ليس بحجة حجة.
حكى الخطابي3 فى مسألة البتع4 المذكور فى الحديث عن بعض الناس؛ أنه قال: "إن الناس لما اختلفوا فى الأشربة، وأجمعوا على تحريم خمر العنب، واختلفوا فيما سواه؛ حرمنا ما اجتمعوا5 على تحريمه وأبحنا ما سواه".
قال: "وهذا خطأ فاحش، وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردُّوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول".
قال: "ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله فى الربا والصرف ونكاح المتعة؛ لأن الأمة قد اختلف فيها".
قال: "وليس الاختلاف حجة وبيان السنة حجة6 على المختلفين من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1: يأتي في الفصل الثامن وهو أنه يراعي الخلاف بعد الوقوع والنزول؛ لأنه حينئذ يتجدد نظرا واجتهادا آخر. "د".
2 في "د": "متعمدًا".
3 في "إعلام الحديث" "3/ 2091-2092".
4 بكسر فسكون: نبيذ يتخذ من عسل كأنه الخمر صلابة. "ف" وتبعه" "م".
5 عند الخطابي: لزمنا ما أجمعوا..".
6 أي: وقد بينت فيما اختلفوا فيه من مسكر غير العنب، وأنواع الربا ونكاح المتعة، والصرف، وغيرها؛ فلا يمكن الاحتجاج بالخلاف. "د".

 

ج / 5 ص -94-   الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِين}. هذا مختصر ما قال1.
والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه، لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد [له]2 من أن يكون ممتثلًا لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه.
ومن هذا أيضًا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع3 فى الأقوال، وعدم التحجير على رأي واحد، ويحتج فى ذلك بما روي عن القاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما مما تقدم ذكره4، ويقول: إن الاختلاف رحمة، وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر والذي5 عليه أكثر المسلمين، ويقول له: لقد حجرت واسعًا، وملت بالناس إلى الحرج، وما فى الدين من حرج، وما أشبه ذلك. وهذا القول خطأ كله، وجهل بما وضعت له الشريعة، والتوفيق بيد الله.
وقد مر من الدليل على خلاف ما قالوه ما فيه كفاية، والحمد لله ولكن تقرر منه ههنا بعضا على وجه لم يتقدم مثله، ذلك أن المتخير بالقولين مثلًا بمجرد موافقة الغرض، إما أن يكون حاكمًا به، أو مفتيًا، أو مقلدًا عاملًا بما أفتاه به المفتي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر المصنف في "الاعتصام" "2/ 870-871 - ط ابن عفان" نحو المذكور تحت هذا الفصل، وأورد مقولة الخطابي مختصرة، وقال: "وقد تقررت هذه المسألة على وجهها في كتاب "الموافقات"، والحمد لله".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "ماء". وفي "ط": "أبعد له عن".
3 في "ماء": "المتوسع".
4 في "ص67، 68".
5 في "د": "والذي".

 

ج / 5 ص -95-   أما الأول، فلا يصح على الإطلاق؛ لأنه إن كان متخيرًا بلا دليل لم يكن أحد الخصمين بالحكم له أولى من الآخر، إذ لا مرجح عنده بالفرض إلا التشهي؛ فلا يمكن إنفاذ حكم على أحدهما إلا مع الحيف على الآخر، ثم إن وقعت له تلك النازلة بالنسبة إلى خصمين آخرين؛ فكذلك، [أو بالنسبة إلى الأول؛ فكذلك]1، أو يحكم لهذا مرة ولهذا مرة، وكل ذلك باطل ومؤدٍّ إلى مفاسد لا تنضبط بحصر، ومن ههنا شرطوا فى الحاكم بلوغ درجة الاجتهاد، وحين فقد؛ لم يكن بد من الانضباط إلى أمر واحد كما فعل ولاة قرطبة حين شرطوا على الحاكم أن لا يحكم [إلا بمذهب فلان2 ما وجده3، ثم بمذهب فلان؛ فانضبطت الأحكام بذلك، وارتفعت المفاسد المتوقعة]4 من غير ذلك الارتباط، وهذا معنى أوضح من إطناب فيه.
وأما الثاني؛ فإنه إذا أفتى بالقولين معًا على التخيير فقد أفتى فى النازلة بالإباحة وإطلاق العنان، وهو قول ثالث5 خارج عن القولين وهذا لا يجوز له

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 هو ابن القاسم؛ كما قاله الباجي. "د".
3 في "ط": "وجدوه".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
5 فإن تخييره للسائل في الأخذ بأي القولين شاء إباحة له أن يعمل بأحدهما، وهو غير نفس القولين الدائرين بين النفي من قائل والإثبات من القائل الآخر، وإنشاء حكم شرعي كهذه الإباحة لا يصح قطعًا إلا من مجتهد بدليل، والفرض خلافه، وهذا أولى من قوله: "وإن بلغها... إلخ"؛ لأنه سلم أن الإباحة قول ثالث غير النفي والإثبات، وعليه لا يكون مانع يمنع المجتهد -إذا وقع له الدليل على الإباحة ومخالفة القولين- من إثباتها وتقريرها حكمًا شرعيًا، فليس الموضوع حينئذ موضوع قولين لمجتهد حتى يتأتى فيه الرد بما بسطه الأصوليون في مسألة أنه لا يصح أن يكون لمجتهد قولان في مسألة واحدة، بل هو حينئذ قول واحد بالإباحة، على أن الإباحة هنا ليست مقعولة؛ لأن الإباحة تخيير بين فعل شيء وتركه، والذي هنا ترديد بين الامتناع من فعل الشيء؛ لأنه حرام، وبين فعله؛ لأنه مباح، فليست تخييرًا بين الفعل والترك. "د".

 

ج / 5 ص -96-   إن لم يبلغ درجة الاجتهاد باتفاق، وإن بلغها لم يصح له القولان فى وقت واحد ونازلة واحدة أيضًا حسبما بسطه أهل الأصول.
وأيضًا، فإن المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه، إلا أنه لا يلزمه المفتي ما أفتاه به، فكما لا يجوز للحاكم التخيير؛ كذلك هذا.
وأما إن كان عاميًا؛ فهو قد استند فى فتواه إلى شهوته وهواه، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع؛ ولأن العامي إنما حكم العلم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب؛ فإن العبد فى تقلباته دائر بين لمتين: لمة ملك، ولمة شيطان1؛ فهو مخير بحكم الابتلاء2 فى الميل مع أحد الجانبين، وقد قال تعالى:
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7-8]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اللمة؛ بفتح اللام: المهمة والخطرة تقع في القلب، وفي حديث ابن مسعود؛ قال: "لابن آدم لمتان: لمة من الملك، ولمة من الشيطان، فأما لمة الملك، فاتعاد بالخير، وتصديق بالحق، وتطييب بالنفس، وأما لمة الشيطان؛ فاتعاد بالشر، وتكذيب بالحق، وتخبيث بالنفس"، قال ابن الأثير: "أراد إلمام الملك أو الشيطان به والقرب منه؛ فما كان من خطرات الخير فهو من الملك، وما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان". "ف".
قلت: أخرج الترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة البقرة، رقم 2991"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير، 1/ 279/ رقم 71"، وأبو يعلى في "المسند" "8/ 418/ رقم 4999"، وعنه ابن حبان في "صحيحه" "40 - موارد و997 - الإحسان"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 88" من طريق أبي الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن ابن مسعود مرفوعًا: "إن للشيطان لمة، وللملك لمة....." وإسناده ضعيف؛ عطاء اختلط، وسماع أبي الأحوج / 5 ص -واسمه سلام بن سليم- بعد الاختلاط، وباقي رجاله ثقات.
وأخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "1/ 109"، وابن جرير في "التفسير" "3/ 88، 89" من طريق أخرى بإسناد صحيح عن ابن مسعود قوله، وله حكم الرفع؛ إذ لا مجال للاجتهاد فيه، والله أعلم. وفي "ط": "لمة الملك ولمة الشيطان".
2 أي: لا بحكم التشريع، وإلا؛ فهو مطالب بمقتضى الأولى لا غير. "د".

 

ج / 5 ص -97-   {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3].
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن} [البلد: 10].
وعامة الأقوال الجارية فى مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات1، والهوى لا يعدوهما، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي؛ فهو قائل له: "أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق"؛ فلا يمكن -والحال هذه- أن يقول له: "فى مسألتك قولان؛ فاختر لشهوتك أيهما شئت؟". فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع2، ولا ينجيه من هذا أن يقول: ما فعلت إلا بقول عالم؛ لأنه حيلة من جملة الحيل التى تنصبها النفس، وقاية عن القال والقيل، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمي في عماية، وجهل بالشريعة، وغش فى النصيحة، وهذا المعنى جارٍ فى الحاكم وغيره، والتوفيق بيد الله تعالى.
فصل:
واعترض بعض المتأخرين على من منع من تتبع3 رخص المذاهب، وأنه إنما يجوز الانتقال إلى مذهب بكماله؛ فقال: إن أراد المانع ما هو على خلاف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: طلب الفعل أو الترك. "د".
2 نقله عن المصنف بتصرف محمد بن القاسم القادري "ت1331هـ" في كتابه "رفع العتاب والملام عمن قال العمل بالضعيف اختيارًا حرام" "ص64-65"، وهو مطبوع.
وانظر: في المسألة: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "10/ 472-473".
3 اختلفوا: هل يجب على العامي التزام مذهب معين في كل واقعة؟ فقال به جماعة، وقال الأكثرون: لا يلزمه، وبه قال أحمد، أما إذا التزم مذهبًا معينًا؛ فلهم في ذلك خلاف آخر، وهو: هل يجوز له أن يخالف إمامه ويأخذ بقول آخر في بعض المسائل؟ فمنعه بعضهم مطلقًا، وأجازه بعضهم =

 

ج / 5 ص -98-   الأمور الأربعة التي ينقض فيها قضاء القاضي1؛ فَمُسَلَّم، وإن أراد ما فيه توسعة على المكلف؛ فممنوع إن لم يكن على خلاف ذلك، بل قوله عليه الصلاة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= كذلك، وفصل بعضهم بين أن يكون بعد العمل أو الحكم أو قبلهما، أما لو اختار المقلد من كل مذهب ما هو الأخف والأسهل؛ فقال أحمد والمروزي: "يفسق"، وقال الأوزاعي: "من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام"، وتقدم نقل المؤلف عن ابن حزم الإجماع على تفسيق متتبع الرخص، وبهذا تعلم أنه لا تلازم بين منع تتبع الرخص وعدم الانتقال إلى مذهب إلا بكماله؛ فتتبع الرخص فسق، والأخذ بقول غير إمامه في بعض المسائل عرفت ما فيه من الخلاف، وعلى كل حال متى لم يكن تلاعبًا ولا تتبعًا للرخص لا حجر فيه على الصحيح ما لم يترتب عليه التلفيق، وإلا منع؛ فلا يصح جعل قوله: "وأنه إنما يجوز الانتقال... إلخ" عطف تفسير "من منع"؛ إلا على قول ضعيف، وسيأتي في الفصل بعده ما يقتضي أن تتبع الرخص أعم من الأخذ بغير مذهب إمامه ومن الأخذ بقول مرجوح في المذهب، وعليه؛ فلا يصح جعل قوله: "وإنه إنما يجوز.... إلخ" تفسيرًا؛ لأنه يكون تفسيرًا للشيء بما هو أخص منه. "د".
قلت: ومن الجدير بالذكر هنا ما أورده الذهبي في "السير" "8/ 90" متعقبًا مقولة من قال: "إن الإمام لمن التزم بتقليده: كالنبي مع أمته، لا تحل مخالفته"! قال: "قلت: قوله: "لا تحل مخالفته"! مجرد دعوى، واجتهاد بلا معرفة، بل له مخالفة إمامه إلى إمام آخر، حجته في تلك المسألة أقوى، لا بل عليه اتباع الدليل فيما تبرهن له، لا كمن تمذهب لإمام، فإذا لاح له ما يوافق هواه، عمل به من أي مذهب كان، ومن تتبع رخص العلماء، وزلات المجتهدين؛ فقد رق دينه، كما قال الأوزاعي أو غيره".
ثم قال: "8/ 93-94".
"ولا ريب أن كل من أنس من نفسه فقها، وسعة علم، وحسن قصد فلا يسعه الالتزام بمذهب واحد في كل أقواله؛ لأنه قد تبرهن له مذهب الغير في مسائل، ولاح له الدليل، وقامت عليه الحجة، فلا يقلد فيها إمامه، بل يعمل بما تبرهن، ويقلد الإمام الآخر بالبرهان، لا بالتشهي والغرض".
1 أي: إذا وقع على خلافها وهي النص الجلي والإجماع والقياس الجلي وقواعد للشرع، راجع "التبصرة" "1/ 56" لابن فرحون. "ف" ونحوه عند "م".
قلت: انظر أيضًا "الذخيرة" "10/ 134"، و"رفع العتاب" "ص58".

 

ج / 5 ص -99-   والسلام: "بُعِْثتُ بالحَنيفِيَِّة السَّمْحة"1 يقتضي جواز ذلك؛ لأنه نوع من اللطف بالعبد والشريعة لم ترد بقصد مشاقِّ العباد، بل بتحصيل المصالح، وأنت تعلم بما تقدم [ما]2 فى هذا الكلام؛ لأن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدًا بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها؛ فما قاله عين الدعوى.
ثم نقول: تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى؛ فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه، ومضاد أيضًا لقوله تعالى:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وموضع الخلاف موضع تنازع؛ فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة، وهي تبين الراجح من القولين فيجب اتباعه لا الموافق للغرض.
فصل:
وربما استجاز هذا بعضهم فى مواطن يدعى فيها الضرورة وإلجاء الحاجة، بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات؛ فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها، ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح أو الخارج3 عن المذهب، أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح فى المذهب فهذا أيضًا من ذلك الطراز المتقدم، فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر، ومحال الضرورات معلومة من الشريعة، فإن كانت هذه المسألة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "2/ 211".
2 ما بين المعقوفتين سقط من "ف"، وقال: الأولى: "ما في هذا الكلام"".
3 بناء على ما تقدم له من جعله من باب تتبع الرخص، وهو مبني على وجوب التزام مذهب معين في كل واقعة، وأنه إنما يجوز الانتقال إلى مذهب بكماله، وقد عرفت ما فيه. "د".

 

ج / 5 ص -100-       منها، فصاحب المذهب قد تكفل ببيانها أخذًا عن1 صاحب الشرع فلا حاجة إلى الانتقال عنها، وإن لم تكن2 منها، فزعم الزاعم أنها منها خطأ فاحش، ودعوى غير مقبولة.
وقد وقع فى "نوازل ابن رشد"3 من هذا مسألة نكاح المتعة.
ويذكر عن الإمام المازري4 أنه سئل: ما تقول فيما اضطر الناس إليه في هذا الزمان -والضرورات تبيح المحظورات- من معاملة فقراء أهل البدو فى سني الجدب؛ إذ يحتاجون إلى الطعام فيشترونه بالدين إلى الحصاد أو الجذاذ، فإذا حل الأجل قالوا لغرمائهم: ما عندنا إلا الطعام، فربما صدقوا فى ذلك؛ فيضطر أرباب الديون إلى أخذه منهم، خوفًا أن يذهب حقهم فى أيديهم بأكل أو غيره5 لفقرهم، ولاضطرار من كان من أرباب الديون حضريًا إلى الرجوع إلى حاضرته، ولا حكام بالبادية أيضًا، مع ما في المذهب في ذلك من الرخصة إن لم يكن هنالك شرط ولا عادة، وإباحة كثير من فقهاء الأمصار لذلك وغيره من بيوع الآجال خلافًا للقول بالذرائع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "من".
2 في "م": "يكن".
3 انظر: "فتاويه" المطبوعة "3/ 1537"، وهي النوازل على ما ذكر المحقق في أولها "1/ 39".
4 نقله عنه صاحب "المعيار المعرب" وعنه المسناوي في تآليفه في "الاستنابة"، وعنه صاحب "رفع العتاب والملام" "ص64".
5 هذه المسألة تنتهي في التفريع إلى أربع وخمسين مسألة، على ما فصله ابن رشد في "المقدمات" "2/ 526-536"، و"النوازل" أو "الفتاوى" "1/ 384-401"، وعنه التاودي في "حلي المعاصم" "2/ 322 وما بعدها"، وميارة في "شرح التحفة" "2/ 204"، والمواق في "التاج والإكليل" "5/ 59 وما بعدها"، وغيرهم.

 

 

ج / 5 ص -101-       فأجاب: إن أردت بما أشرت إليه إباحة أخذ طعام عن ثمن طعام هو جنس مخالف لما اقتضى، فهذا ممنوع1 فى المذهب، ولا رخصة فيه عند أهل المذهب كما توهمت.
قال: ولست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب مالك وأصحابه؛ لأن الورع قل، بل كاد يعدم، والتحفظ على الديانات كذلك، وكثرت الشهوات، وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه، فلو فتح لهم باب فى مخالفة المذهب؛ لاتسع الخرق على الراقع، وهتكوا حجاب هيبة المذهب2، وهذا من المفسدات3 التى لا خفاء بها، ولكن إذا لم يقدر على أخذ الثمن إلا أن يأخذ طعامًا؛ فليأخذه منهم من يبيعه على ملك منفذه4 إلى الحاضرة، ويقبض البائع الثمن، ويفعل ذلك بإشهاد من غير تحيل على إظهار ما يجوز.
فانظر كيف لم يستجز -وهو المتفق على إمامته- الفتوى بغير مشهور المذهب، ولا بغير ما يعرف منه بناء على قاعدة مصلحية ضرورية؛ إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى كما تقدم تمثيله؟ فلو فتح5 لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب، بل جميع المذاهب6؛ لأن ما وجب للشيء وجب لمثله، وظهر أن تلك الضرورة التي ادعيت في السؤال ليست بضرورة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه يؤول الأمر إلا بيع طعام بطعام نسيئة والثمن النقدي المتوسط ملغي، وهذا بناء على التزام يسد الذرائع كما هو المذهب. "د".
2 الأصوب أن يقول: "هيبة الشرع".
3 لأنه يكون تحكيمًا للهوى؛ فلا يسير إلا حيث يكون غرضه وشهوته، ولا يكون داخلًا تحت قانون شرعي يضبط به تصرفاته. "د".
4 في "م": "منقده" بالقاف، وفي الأصل و"ف" و"د" و"ط" بالفاء.
5 في "م": "صح"، وهو خطأ.
6 جمع أبو عبد الله محمد بن قاسم القادري الفاسي "ت1331هـ" كتابًا فيه نقل عن علماء المذاهب من الفتوى بغير المشهو في المذهب، وسماه "رفع العتاب والملام عمن قال العمل بالضعيف اختيارًا حرام"، واعتنى بذكر كلام المصنف "الشاطبي"، انظر منه: "ص35، 37، 57، 58، 65، 66، 80 وغيرها"، إذ هذا رأيه كما رأيت، وهو مطبوع عن دار الكتاب العربي بتحقيق محمد القاسم بالله البغدادي سنة 1406هـ.

 

ج / 5 ص -102-       فصل:
وقد أذكر هذا المعنى جملة مما في اتباع1 رخص المذاهب من المفاسد، سوى ما تقدم ذكره في تضاعيف المسألة؛ كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل2 إلى اتباع الخلاف، وكالاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالًا لا ينضبط3، وكترك4 ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم؛ لأن المذاهب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع "التحرير" لابن الكمال* في الأصول في باب التقليد؛ فقد أجاز تتبع رخص المذاهب، وقال شارحه: "لكن ما نقل عن ابن عبد البر: "لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا" إن صح احتاج إلى جواب، ويمكن أن يقال: لا نسلم صحة الإجماع، فقد روي عن أحمد عدم تفسيق متتبع الرخص في رواية أخرى وعن أبي هريرة أنه لا يفسق. "د".
قلت: انظر رسالة: "زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء"؛ ففيها جمع مستطاب في المنع من تتبع رخص المذاهب، والمفاسد المترتبة على ذلك.
2 كما يقول الله تعالى:
{فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ} الآية [النساء: 59] "د".
3 فلا يحجر النفوس عن هواها ولا يقفها عند حد. "د".
4 هذه المفسدة قاصرة على حالة ما إذا لم تعلم المسألة المقلد فيها بتفاصليها في المذهب الآخر، كما كان الحال في ذلك الزمان، أما الآن؛ فقد ترتفع هذه المفسدة. "د".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل ولعل صوابه: "لابن الهمام. الكلام....".

 

ج / 5 ص -103-       الخارجة عن مذهب مالك فى هذه الأمصار مجهولة، وكانخرام قانون السياسة الشرعية1، بترك الانضباط إلى أمر معروف، وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق2 إجماعهم، وغير ذلك من المفاسد التى يكثر تعدادها، ولولا خوف الإطالة والخروج عن الغرض لبسطت من ذلك، ولكن فيما تقدم منه كافٍ، والحمد لله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي الطرق العادلة التي تخرج الحق من الظالم وتدفع كثيرًا من المظالم، وإهمالها يضيع الحقوق، ويعطل الحدود، ويجرئ أهل الفساد، ويندرج فيها كل ما شرع لسياسة الناس وزجر المتعدين، وسواء منها ما كان لصيانة النفوس كالقصاص، أو صيانة الأنساب كحد الزنا، أو الأعراض كحد القذف، والتعزيز على السب، أو لصيانة الأموال كحد السرقة والحرابة، أو لحفظ العقل كحد الخمر، أو ما كان من الأحكام للردع والتعزيز؛ كجزاء الصيد للمحرم، وكفارة الظهار واليمين، وهجر المرأة وضربها في النشوز، وقصة الثلاثة الذين تخلفوا في غزوة تبوك، وما يتصل بذلك من الكشف عن أصحاب الجرائم بالتغليظ عليهم بالإرهاب، والضرب، والسجن، وتحليف الشهود، وسؤالهم قبل مرتبة السؤال، وتفريق الشهود عند أداء الشهادة، وتفريق المتهمين، وإيهام البعض بأن غيره أقر ليقر، وهكذا من الأمور التي توصل إلى معرفة الحقيقة بدون اقتصار على سماع البينات وتوجيه الأيمان، ولا يخفى أن القسم الأخير الذي قلنا فيه: "وما يتصل بذلك... إلخ" مختلف فيه، وإنما سبيله المصالح المرسلة أو شبيه بها، ففيه الخلاف باعتباره -وهو الذي ينبغي التعويل عليه- وعدم اعتباره، فإذا ورد هذان القولان فيه أو في شيء من الأنواع السابقة عليه، وحكمنا أو أفتينا كل واحد بما تشتهي، انخرم قانون السياسة الشرعية، ولم يكن هناك ضابط للعدالة بين الناس، وهذا مفسدة أي مفسدة تؤدي إلى الفوضى والمظالم؛ فتضيع الحقوق وتعطل الحدود، ويجترئ أهل الفساد. "د".
2 كما إذا قلد مالكًا في عدم نقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة، وأبا حنيفة في عدم النقض بمس الذكر، وصلى؛ فهذه صلاة مجمع منهما على فسادها، , وكما إذا قلد مالكًا في عدم النقض بلمس المرأة خاليًا عن قصد الشهوة ووجودها، والشافعي في الاكتفاء بمسح بعض الرأس؛ فوضوءه باطل، وصلاته كذلك، وكمن تزوج بلا صدق ولا ولي ولا شهود. "د".
قلت: انظر في المسألة الأخيرة وبيان سوء التلفيق فيها: "فتاوى رشيد رضا".

 

ج / 5 ص -104-       فصل:
وقد بنوا أيضً على هذا المعنى مسألة أخرى، وهى:
هل يجب الأخذ بأخف القولين، أم1 بأثقلهما2؟ واستدل لمن قال بالأخف بقوله تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْر} الآية: [البقرة: 185].
وقوله:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} [الحج: 78].
وقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا ضرر ولا ضرار"3.
وقوله:
"بعُثِْتُ بالحنيفيَّةِ السَّمحة"4.
كل ذلك ينافى شرع الشاق5 الثقيل، ومن جهة القياس أن الله غني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ف" و"م": "أو".
2 حكاه أبو منصور عن أهل الظاهر، وهذا القول ومقابله لا يصحان؛ لأن الواجب -كما قال المؤلف- الرجوع للدليل الشرعي لا غير، وسواء أقضى بالأخف أم بالأثقل، ثم في القول بالأخذ بالأخف مطلقًا ما تقدم من المفاسد التي أشيير إليها في الفصل السابق. "د".
قلت: والقائلون بالأخذ بأثقل القولين ذهبوا إليه للاحتياط!! ويرد عليهم بأن الاحتياط هو "الاستقصاء والمبالغة في اتباع السنة، وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، من غير غلو ومجاوزة، ولا تقصير، ولا تفريط، فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله" قاله ابن القيم في كتابه "الروح" "ص346". انظر في المسألة: "البحر المحيط" "6/ 322-323، 325-326"، و"البرهان" "2/ 1344"، و"شرح الكوكب المنير" "4/ 581"، و"المستصفى" "2/ 391"، و"روضة الناظر" "3/ 1026"، و"المسودة" "463-464"، و"تسير التحرير" "4/ 255"، و"إرشاد الفحول" "271"، و"جمع الجوامع" "2/ 392 - مع شرح المحلي"، و"إغاثة اللهفان" "1/ 162-163"، و"الاختلاف وما إليه" "103-104".
3 مضى تخريجه "2/ 72".
4 مضى تخريجه "2/ 211".
"5" في "ماء": "المشاق".

 

ج / 5 ص -105-       كريم، والعبد محتاج فقير، وإذا وقع التعارض بين الجانبين كان الحمل على جانب الغني أولى.
والجواب عن هذا ما تقدم1، وهو أيضًا مؤدٍ إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة؛ فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة، ولذلك سميت تكليفًا من الكلفة، وهي المشقة، فإذا كانت المشقة حيث لحقت فى التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل؛ لزم2 ذلك فى الطهارات والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير ذلك، ولا يقف عند حد إلا إذا لم يبق على العبد تكليف، وهذا محال، فما أدى إليه مثله؛ فإن رفع الشريعة مع فرض وضعها محال، ثم قال المنتصر لهذا الرأي3: إنه يرجع حاصله إلى أن الأصل فى الملاذ الإذن، وفى المضار الحرمة، وهو أصل قرره فى موضع آخر، وقد تقدم التنبيه على ما فيه فى كتاب المقاصد4.
وإذا حكمنا ذلك الأصل هنا؛ لزم منه أن الأصل رفع التكليف بعد وضعه على المكلف، وهذا كله إنما جره عدم الالتفات إلى ما تقدم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو أن سماحة الشريعة إنما جاءت مقيدة بما هو جار على أصولها، واتباع هوى النفوس وعدم الرجوع إلى الدليل ينافي أصولها. "د".
2 في الأصل: "فليزم".
3 المصنف ينقل عن "المحصول" "6/ 159-160" والعبارات السابقة مع الأدلة منه، ومراده بكلامه هذا صاحبه الرازي، ويؤكده بقوله: "وهو أصل قرره في موضوع آخر". وتجد ذلك في "المحصول" "6/ 107-108" أيضًا، وسيأتي كلام المصنف في المسألة الرابعة من الطرف الثاني من كتاب الاجتهاد أن الذي ينبغي للمفتي اختيار التوسط.
4 وتقدم في المسألة الثالثة عشر من كتاب الأدلة حيث قال هناك: "إنه تحكيم للهوى على الأدلة حتى تكون الأدلة تابعة لا متبوعة". "د".

 

ج / 5 ص -106-       فصل:
فإن قيل1: فما معنى مراعاة الخلاف2 المذكورة فى المذهب المالكي؟ فإن الظاهر فيها أنها اعتبار للخلاف؛ فلذلك نجد المسائل المتفق عليها لا يراعى فيها غير دليلها، فإن كانت مختلفًا فيها؛ روعي فيها قول المخالف، وإن كان على خلاف الدليل الراجح عند المالكي، فلم يعامل المسائل المختلف فيها معاملة المتفق عليها، ألا تراهم يقولون: كل نكاح فاسد اختلف فيه فإنه يثبت به3 الميراث، ويفتقر فى فسخه إلى الطلاق، وإذا دخل مع الإمام فى الركوع وكبر للركوع ناسيًا تكبيرة الإحرام؛ فإنه يتمادى مع الإمام مراعاة4 لقول

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رجوع إلى معارضة أصل المسألة، ولكن بشيء لم يتقدم له في أدلة المعارضة السابقة، وأفرده هنا لاحتياجه إلى مزيد بيان وتحقيق. "د".
2 انظر حوله: "تهذيب السنن" "1/ 60"، و"بدائع الفوائد" "3/ 257-259"، و"إغاثة اللهفان" "1/ 129-130 - ط الفقي" كلها لابن القيم، و"المعلم بفوائد مسلم" "1/ 71-72"، و"إيضاح السالك" "160" للونشريسي، و"ملء العيبة" "3/ 248" لابن رشيد و"المنثور في القواعد" للزركشي "2/ 127-134"، و"الأشباه والنظائر" "ص94-95" للسيوطي، وبهامشه "المواهب السنية على الفوائد البهية" "ص206-212" للجوهري، و"فتح الباري" "1/ 127"، و"الدين الخالص" "4/ 176، 182" لصديق حسن خان، و"الفواكه العديدة" "2/ 136"، و"تمام المنة" "159"، وما مضى عند المصنف "1/ 161 وما بعدها"، و"الاعتصام" "1/ 214 و2/ 146 - ط رضا، و2/ 647 - ط ابن عفان"، و"الاختلاف وما إليه" "ص79"، وما سيأتي "ص188-189".
3 لأنه بعد الوقوع تعلق به حق كل من الزوجين والأولاد ويتعلق به من المصلحة وأدلتها ما يرجع قول المخالف. "د".
قلت: انظر: الذخيرة" "4/ 446-447 - ط دار الغرب" للقرافي.
4 بعد الوقوع تعلق به دليل عدم جواز إبطال الأعمال، وهو يرجع دليل المخالف ويقويه في هذه الحالة. "د". قلت: انظر في المسألة: "قواعد ابن رجب" "ق18 - بتحقيقي"، و"الذخيرة" =

 

ج / 5 ص -107-       من قال: إن تكبيرة الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام، وكذلك من قام إلى ثالثة فى النافلة وعقدها يضيف إليها رابعة مراعاة لقول من يجيز1 التنفل بأربع بخلاف المسائل المتفق عليها؛ فإنه لا يراعي فيها غير دلائلها، ومثله جار فى عقود البيع وغيرها؛ فلا يعاملون الفاسد المختلف فى فساده معاملة2 المتفق على فساده، ويعللون التفرقة بالخلاف؛ فأنت تراهم يعتبرون الخلاف، وهو مضاد لما تقرر فى المسألة.
فاعلم أن المسألة قد أشكلت على طائفة، منهم ابن عبد البر؛ فإنه قال: "الخلاف لا يكون حجة فى الشريعة"3، وما قاله ظاهر؛ فإن دليلي القولين لا بد أن يكونا متعارضين، كل واحد منهما يقتضي ضد ما يقتضيه4 الآخر، وإعطاء كل واحد منهما ما يقتضيه الآخر أو بعض ما يقتضيه هو معنى مراعاة الخلاف، وهو جمع بين متنافيين كما تقدم5.
وقد سألت عنها جماعة من الشيوخ6 الذين أدركتهم؛ فمنهم من تأول

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "2/ 169 - ط دار الغرب" و"فتح الباري" "2/ 217-218"، وكتابنا "القول المبين" "ص266 - ط الأولى".
1 في "ط": "قال: يجيز".
2 البيع بيعًا فاسدًا مجمعًا على فساده يجب رده إن لم يفت؛ فإن فات مضى بقيمته إن كان مقومًا ومثله إن كان مثليًا، أما المختلف في فساده، فيجب رده إن لم يفت أيضًا بفسخ الحاكم أو من يقوم مقامه، فإن فات مضى بالثمن؛ فمحل الفرق بينهما عند الفوات؛ لأنه إذ ذاك يتعلق به حق لكل من المتبايعين، وهو يقوي النظر في اعتبار دليل مصحح
البيع المختلف فيه والبناء عليه، فيمضي بالثمن نفسه. "د".
3 جامع بيان العلم" "2/ 922 - ط دار ابن الجوزي".
4 في "د": "يقضيه"!!
5 أي: في أدلة أصل المسألة. "د".
6 انظر عنهم ما قدمناه في التعليق على "1/ 159-160".

 

ج / 5 ص -108-       العبارة ولم يحملها على ظاهرها، بل أنكر مقتضاها بناء على أنها لا أصل لها، وذلك بأن يكون دليل المسألة يقتضي المنع ابتداءً، ويكون هو الراجح، ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحًا لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف؛ فيكون القول بأحدهما فى غير الوجه الذى يقول فيه بالقول الآخر؛ فالأول1 فيما بعد الوقوع، والآخر فيما قبله، وهما مسألتان مختلفتان2؛ فليس جمعًا بين متنافيين ولا قولًا بهما معًا، هذا حاصل ما أجاب به من سألته عن المسألة من أهل فاس وتونس، وحكى لي بعضهم أنه قول بعض من لقي من الأشياخ، وأنه قد أشار إليه أبو عمران الفاسي، وبه يندفع سؤال اعتبار الخلاف، وسيأتي3 للمسألة تقرير آخر بعد، إن شاء الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل مراده بالأول تأويلها وحملها على غير ظاهرها، وبالآخر إنكار مقتضاها، وإلا؛ فحق العبارة العكس. "د".
قلت: وهو كلام مبني على كلام "ف"؛ حيث قال: "لعل صحته، فالأول فيما قبل الوقوع، والآخر فيما بعده، ولا يخفى ما في هذا التأويل من الضعف، وأنه ليس عامًا لصور مراعاة الخلاف المذكورة في كتب الفروع".
2 فحالة ما بعد الوقوع ليست كحالة ما قبله؛ لأنه بعده تنشأ أمور جددة تستدعي نظرًا جديدًا، وتجد إشكالات لا يتفصى عنها إلا بالبناء على الأمر الواقع بالفعل، واعتباره شرعيًا بالنظر لقول المخالف وإن كان ضعيفًا في أصل النظر، لكن لما وقع الأمر على مقتضاه، روعيت المصحلة، وتجدد الاجتهاد في المسألة من جديد بنظر وأدلة أخرى، وعليه؛ فبعد الوقوع تكون مسألة أخرى غيرها باعتباره ما قبله، وهو تأويل قوي جدًا كما ترى، وعليك باختيار مسائله، ولعلك لا تجد صورة يصعب فيها التطبيق كما أشرنا إليه في المسائل التي ذكرها؛ إلا في الشاذ؛ كما في ندب التسمية للمالكي في قراءة الفاتحة خروجًا من خلاف الشافعي، وسيأتي في هذا توقف المؤلف واعتراضه في تقريره الآتي، نعم، يوجد في مذهب مالك عبارة "هذا مشهور مبني على ضعيف"، ولكنه ليس من موضوع مراعاة الخلاف بعد الوقوع، الذي هو موضوع الكلام، بل هذا طريق آخر، يرشدك إلى هذا أنه ليس كل مشهور قويًا ومعتمدًا، فكثيرًا ما يقابل المشهور بالراجح. "د".
3 في فصل المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد، والواقع أن ما هنا يجب ألا يؤخذ على إجماله كما فعل المؤلف؛ لأنه لا يتوجه ويكون مقبولًا إلا إذا قرر على الطريقة الآتية، كما قررنا به أمثلته هنا، وعليه؛ فلا يظهر جعله ما يأتي تقريرًا يغاير هذا. "د".

 

ج / 5 ص -109-       على أن الباجي1 حكى خلافًا2 فى اعتبار الخلاف فى الأحكام3، وذكر اعتباره عن الشيرازي، واستدل على ذلك بأن "ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط، ولو قال الشارع4: إن كل ما لم تجتمع5 أمتي على تحريمه واختلفوا فى جواز أكله فإن جلده يطهر بالدباغ، لكان ذلك صحيحًا، فكذلك إذا6 علق هذا الحكم عليه بالاستنباط".
وما قاله غير ظاهر لأمرين:
أحدهما: أن هذا الدليل مشترك الإلزام، ومنقلب على المستدل7 به؛ إذ لقائل أن يسلم أن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط ثم يقول: لو قال الشارع: إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحليله واختلفوا فى جواز أكله، فإن جلده لا يطهر بالدباغ، لكان ذلك صحيحًا، فكذلك إذا علق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في كتابه "أحكام الفصول" "ص645-646/ رقم 6871".
2 أي: وهذا الخلاف يضعف من شأن المعارضة في أصل المسألة بمراعاة الحلاف. "د".
3 أي: بحيث يستند إليه [أي الخلاف] الحكم كما يستند إلى الدليل". "ف".
قلت: وسقط من "م": "في الإحكام".
4 في "الأحكام": "صاحب الشرع".
وكتب "ف" ما نصه: "بأن قيل الحمار أو البغل مثلًا يطهر جلده بالدباغ، أي: لكونه مما اختلف في جواز أكله".
5 في "الأحكام": "تجمع".
6 إشارة لمثال تكون فيه العلة في هذا الموضوع بالاستنباط وما قبله مثال لما تكون العلة فيه بالنص لو فرض حصوله من الشارع. "د".
7 فالاستناد إليه كما ينتج مدعاه نقيضه، وما كان كذلك لا يصلح دليلًا. "ف".

 

ج / 5 ص -110-       الحكم [عليه] بالاستنباط، ويكون هذا القلب أرجح؛ لأنه مائل إلى جانب الاحتياط، وهكذا كل1 مسألة تفرض على هذا الوجه.
والثاني2: أنه ليس كل جائز واقعًا، بل الوقوع محتاج إلى دليل، ألا ترى أنا نقول: يجوز أن ينص الشارع على أن مس الحائط ينقض الوضوء، وأن شرب الماء السخن يفسد الحج، وأن المشي من غير نعل يفرق بين الزوجين، وما أشبه ذلك، ولا يكون هذا التجويز سببًا فى وضع الأشياء المذكورة عللا شرعية بالاستنباط؛ فلما لم يصح ذلك دل على أن نفس التجويز ليس بمسوغ لما قال.
فإن قال: إنما أعني ما3 يصح أن يكون علة لمعنى فيه من مناسبة أو شبه، والأمثلة المذكورة لا معنى فيها يستند إليه فى التعليل.
قيل: لم تفصل أنت هذا التفصيل، وأيضًا؛ فمن طرق4 الاستنباط ما لا يلزم فيه ظهور معنى يستند إليه؛ كالاطراد والانعكاس ونحوه، ويمكن أن يكون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: سواء أكانت فيما فرضه هو من الطهارة بالدباغ أم في غيرها. "د".
2 منع للتقريب، أي: مع تسليم أن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط؛ فمجرد الجواز المذكور لا يفيد اعتبار الخلاف علة في الحكم، وإنما يفيده لو وقع كذلك، ألا ترى الأمثلة المذكورة؟ "ف".
3 بيان لتقريب الدليل بتقييد قوله: "ما جاز أن يكون علة.... إلخ"؛ أي: مما اشتمل على معنى فيه مناسبة أو شبه، والأمثلة المذكورة ليست كذلك. "ف".
4 أي: من مسالك العلة الطرد والعكس، وهو المسمى بالدوران، وقوله: "ونحوه"؛ أي: كالطرد الذي هو عبارة عن وجود الحكم في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع، والفرق بينهما أن الدوران يكون في صورة واحدة يوجد الحكم عند الوصف ويرتفع عند ارتفاعه، كالحرمة مع السكر في العصير، فإنه لما لم يكن مسكرًا حل، فلما حدث السكر حرم، فلما زال بالخلية حل، ولا تظهر فيهما المناسبة، أي المعنى الذي يتلقاه العقلاء بالقبول في ترتيب الحكم عليه، فما فرقت به غير تام. "د".

 

ج / 5 ص -111-       الباجي أشار فى الجواز إلى ما فى الخلاف من المعنى المتقدم1، ولا يكون بين القولين خلاف فى المعنى.
واحتج المانعون بأن الخلاف2 متأخر عن تقرير3، والحكم لا يجوز أن يتقدم على علته قال الباجي4: "ذلك غير ممتنع، كالإجماع، فإن الحكم يثبت به وإن حدث فى عصرنا".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو التأويل السابق الذي أجاب به من لقيه من علماء فاس وتونس، وإذا كان كذلك لا يكون بين القولين خلاف؛ فإن المانع يمنعه باعتبار ما قبل الوقوع، والمصحح يراعيه باعتباره ما بعد الوقوع؛ لأنه بعد الوقوع صالح للعلية بخلاف قبل الوقوع لما ذكرناه قبل هذا، وحمل كلامه على هذا أولى مما حمله عليه بعضهم من التقييد السابق بقوله: "لمعنى فيه"؛ لأنه لم يرض هذا الفرق ونقضه بالطرد ونحوه، أما الجواب السابق، فإنه سلمه، وقلنا: إنه سيقرره في المسألة العاشرة مع شرحه وتوجيهه، وضرب أمثلة كثيرة له هناك. "د".
قلت: يرد "د" في كلامه هذا على "ف"، حيث قال: "وهو التقييد المشار إليه بقوله لمعنى فيه.... إلخ، وحينئذ لا يكون بين القول باعتبار الخلاف علة والقول بعدم اعتباره خلاف في المعنى؛ لأن اعتباره إذا كان صالحًا للعلية وعدم اعتباره إذا لم يكن كذلك".
2 أي: الذي جعل علة للحكم. "د".
3 أي: بمتقتضى الأدلة المتلقاة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. "د".
4 في كتابه "إحكام الفصول" "ص646/ رقم 688"، والمذكور فيه تصرف من المصنف، ومنه تظهر مقدرته رحمه الله على تلخيص كلام العلماء بعبارات مختصرة ليس فيها حشو ولا زيادة، قارن ما ذكره بنص الباجي، وهذا لفظه: "أما هم -المانعون-؛ فاحتج من نص قولهم بأن الاختلاف حدث بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحكم ثبت في زمانه، والحكم لا يجوز أن يتقدم على علته.
والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون الاختلاف متأخرًا عن زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وثبتت به الأحكام، ألا ترى أن الإجماع حدث بعده صلى الله عليه وسلم، ويصح أن يحدث في عصرنا ويثبت به الحكم؟
وجواب آخر: وهو أن معنى قولنا "إنه مختلف فيه".... حاله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ثبت له هذا الحكم، فلم يتقدم على علته".

 

ج / 5 ص -112-       وأيضًا: "فمعنى قولنا: "إنه مختلف فيه"1 أنه يسوغ فيه الاجتهاد، وهذا كان حاله فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يتقدم على علته".
والجواب عن كلام الباجي أن الإجماع ليس بعلة للحكم، بل هو أصل2 الحكم، وقوله: "إن معنى قولنا مختلف فيه كذا" هى عين3 الدعوى.
فصل:
ومن القواعد4 المبنية على هذه المسألة أن يقال: هل للمجتهد أن يجمع بين الدليلين بوجه من وجوه الجمع، حتى يعمل بمقتضى كل واحد منهما فعلا أو تركًا5 كما يفعله المتورعون فى التروك6، أم لا؟ أما فى ترك العمل7 بهما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فإذا وقع التعليل بكون الشيء مختلفًا فيه؛ فمعناه ما ذكر، وحينئذ لا يكون متأخرًا عن الحكم. "ف".
2 أي أن الحكم الذي استند إلى الإجماع هو عين الحكم الذي تقرر من كل مجتهد أخذًا من الأدلة؛ فليس هناك علة ومعلول، بخلاف الحكم المستند إلى الخلاف، فإنه غير الحكم المتقدم، والخلاف علة في هذا الحكم الطارئ، فمثلًا التكبير للركوع ناسيًا تكبيرة الإحرام اختلف فيه بالإجزاء وعدمه؛ فبعد الوقوع يقول الثاني بالتمادي مراعاة للقول بالإجزاء؛ فالحكم المترتب على الخلاف مغاير للحكم المختلف فيه. "د".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 138-139".
3 لعل صوابه: "غير الدعوى"؛ لأن الدعوى أن الحكم الذي نقرره إنما جاء بسبب الخلاف، وقد بني عليه، وهذا غير المعنى الذي يدعيه من أنه لم يراع فيه إلا مجرد كونه محلًا للاجتهاد. "د".
4 في "ماء": "الفوائد".
5 بأن يصرف أحدهما إلى الآخر؛ فيرجع مقتضاهما إما إلى الفعل، أو إلى الترك، وقد يحمل أحدهما على الفعل في حال والآخر على الترك في حال. "ف".
6 أي عند ترجيح دليل الجواز على دليل المنع، فيراعون القول بالتحريم تنزهًا عن الشبهات، كما قال ابن العربي؛ القضاء بالراجح لا يقطع حكم المرجوح بالكلية، بل يجيب* العطف على المرجوح بحسب مرتبته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "واحتجبي منه يا سودة"، وهذا مستند مالك فيما كره أكله؛ فإنه حكم بالحل عند ظهور الدليل، وأعطى المعارض شيئًا من أثره؛ فحكم بالكراهة. "د".
7 محل البيان قوله: "وأما في العمل... إلخ"، وهذا زائد على المبين. "ف".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كذا في الأصل، ولعلها: "يجب".

 

ج / 5 ص -113-       معًا مجتمعين أو متفرقين1؛ فهو التوقف عن القول بمقتضى أحدهما، وهو الواجب إذا لم يقع ترجيح. وأما فى العمل، فإن أمكن الجمع بدليله؛ فلا تعارض، وإن فرض التعارض2؛ فالجمع بينهما فى العمل جمع بين متنافيين، ورجوع إلى إثبات الاختلاف فى الشريعة، وقد مر إبطاله، وهكذا يجري الحكم فى المقلد بالنسبة إلى تعارض المجتهدين عليه، ولهذا الفصل تقرير فى كتاب التعارض والترجيح إن شاء الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "أو متفردين".
2 في "م": "التعاون"!!

 

ج / 5 ص -114-       المسألة الرابعة:
محال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضح فى كل واحد منهما قصد الشارع فى الإثبات فى أحدهما والنفي فى الآخر؛ فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات.
وبيانه أن نقول: لا تخلو أفعال1 المكلف أو تروكه؛ إما أن يأتي فيها خطاب2 من الشارع، أو لا، فإن لم يأت فيها خطاب؛ فإما أن يكون على البراءة الأصلية أو يكون فرضًا غير موجود، والبراءة الأصلية فى الحقيقة راجعة3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سواء أكانت أفعال القلوب أم الجوارح ليشمل المعتقدات؛ فصح ذكره بعد للمشابهات الحقيقية التي لم يظهر للشارع فيها قصد ألبتة؛ فإنها إنما تظهر في المعتقدات. "د".
2 بأحد الأدلة الشرعية من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس أو غيرها من الأدلة المختلف فيها كلاستدلال؛ فليس بلازم أن يكون الخطاب في نص، بدليل أنه جعل ما لم يرد فيه خطاب، إما فرضًا صرفًا لا وجود له، وإما أن يكون من مرتبة العفو، وهذا وذاك لا يكون إلا عند عدم الأدلة رأسًا منصوصة وغير منصوصة؛ فلا ينافي ما يجيء في المسألة الخامسة من التفصيل بين الاستنباط من النصوص والاستتنباط من غيرها؛ فالتردد بين الطرفين عام في مسائل الاجتهاد. "د".
3 قال في "التحرير" و"شرحه": "نفي كل مدرك خاص للدليل الخاص حكمه الإباحة الأصلية؛ فلا تخلو وقائع عن حكم الشرع". وقال في "المنهاج" [ص246 - مع تخريجه الابتهاج]: "من الأدلة المقبولة فقد الدليل بعد التفحص البليغ، فيغلب ظن عدمه، وعدمه يستلزم عدم الحكم لامتناع تكليف الغافل"، وقال العضد شارح ابن الحاجب: "ولا نسلم بطلان خلو وقائع من حكم وإن التزم فالأقيسة والعمومات تأخذه؛ أي: فتكفي في جميع ما يحتاج فيه إلى المصالح المرسلة، وإن سلم أنها لا تكفي، فالحكم عند انتفاء المدرك هو نفي الوجوب والحرمة، وهو معنى التخيير، وتقدم للمؤلف إدراجه في مرتبة العفو التي أشير إليها في حديث سلمان الفارسي في الترمذي وابن ماجه: "وما سكت عنه؛ فهو مما عفا عنه" [مضى تخريجه "1/ 255"]، وبالجملة؛ فكل ما لم يرد فيه دليل شرعي يخصه أو يخص نوعه فيه الخلاف بالإباحة أو المنع أو الوقف، ولكل دليله وحجته، تراجع مسألة العفو السابقة في كتاب الأحكام وينزل على الخلاف ترديد المؤلف هنا. "د".

 

ج / 5 ص -115-       إلى خطاب الشارع بالعفو أو غيره، وإن أتى فيها خطاب؛ فإما أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي أو في الإثبات، أو لا فإن لم يظهر له قصد البتة؛ فهو قسم المتشابهات، وإن ظهر؛ فتارة يكون قطعيًّا، وتارة يكون غير قطعي، فأما القطعي؛ فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو في الإثبات، وليس محلا للاجتهاد، وهو قسم الواضحات؛ لأنه واضح الحكم حقيقة، والخارج عنه مخطئ قطعًا، وأما غير القطعي؛ فلا يكون كذلك1 إلا مع دخول احتمال فيه أن2 يقصد الشارع معارضه أو لا؛ فليس من الواضحات بإطلاق، بل بالإضافة إلى ما هو أخفى منه، كما أنه يعد غير واضح بالنسبة إلى ما هو أوضح منه؛ لأن مراتب الظنون في النفي والإثبات تختلف بالأشد والأضعف حتى تنتهي3؛ إما إلى العلم، وإما إلى الشك إلا أن هذا الاحتمال تارة يقوى في إحدى الجهتين، وتارة لا يقوى فإن لم يقو4 رجع إلى قسم المتشابهات، والمقدم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لا يكون غير قطعي إلا إذا دخل فيه احتمال أن الشارع قصد معارضة أو لم يقصده؛ فقوله أن يقصد معمول احتمال ولو حذف قوله أولًا لكان أولى. "ف".
2 هذه العبارة بدل من لفظ: "احتمال"، والاحتمال بمعنى التردد حينئذ لا بمعنى أحد الأمرين؛ فإذا جعل معمولا لاحتمال كان بمعنى أحد الأمرين تعين حذف كلمة "أولًا". "د".
3 أي: إلى المرتبة التي يليها العلم أو إلى المرتبة الضعيفة التي يليها الشك مباشرة، وليس المراد أن العلم أو الشك يكون من المراتب الظنون، وهو واضح ما دامت في انتهائها لم تخرج عن الموضوع، وأنها من الظنون، فإذا كان معنى انتهائها خروجها عنه؛ صح إجراء كلامه على ظاهره، ولكنه بعيد عن الفرض. "د".
4 قد فرض أنه واضح نسبي، وأنه من مراتب الظنون، وأن قصد الشارع فيه ظاهر؛ إلا أنه غير قطعي، فلا يظهر بعد ذلك فرض أنه لا يقوى في إحدى الجهتين، الذي معناه أن النفي والإثبات على حد سواء ليس قصد الشارع لأحدهما أظهر من قصده لمعارضة حتى يعد من المتشابهات، وما الفرق بينه حينئذ وبين الفرض الذي قال فيه: "فإن لم يظهر له قصد البتة في النفي والإثبات؛ فهو قسم المتشابهات"، لا فارق؛ لأن القطع بأنه لم يظهر قصده في النفي والإثبات يساوي قوله هنا: "لم =

 

ج / 5 ص -116-       عليه حائم حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وإن قوي في إحدى الجهتين؛ فهو قسم المجتهدات، وهو الواضح الإضافي بالنسبة إليه في نفسه وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين، فإن كان المقدم عليه من أهل الاجتهاد؛ فواضح في حقه في النفي أو [في]1 الإثبات إن قلنا: إن كل مجتهد مصيب، وإما على قول المخطئة؛ فالمقدم عليه إن كان مصيبًا في نفس الأمر فواضح، وإلا فمعذور.
وقد تقرر من هذا الأصل أن قسم المتشابهات مركب من تعارض النفي والإثبات؛ إذ لو لم يتعارضا لكان من قسم الواضحات، وأن الواضح بإطلاق لم يتعارض فيه نفي مع إثبات، بل هو إما منفيٌّ قطعًا وإما مثبت قطعًا، وأن الإضافي إنما صار إضافيا؛ لأنه مذبذب بين الطرفين الواضحين؛ فيقرب عند بعض من أحد الطرفين، وعند بعض من الطرف الآخر، وربما جعله بعض2 الناس من قسم المتشابهات، فهو غير مستقر في نفسه؛ فلذلك صار إضافيًّا لتفاوت3 مراتب الظنون في القوة والضعف، ويجري مجرى النفي في أحد الطرفين إثبات ضد الآخر فيه؛ فثبوت العلم مع نفيه نقيضان؛ كوقوع التكليف وعدمه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يقو في إحدى الجهتين"؛ أي: فهما سواء في عدم ظهور قصد أحدهما، وقد يقال: الفرق أن الأول هو المتشابه الحقيقي الذي لم يجعل سبيل إلى فهم معناه، ومهما نظر المجتهد في الشريعة لا يجد ما يدل له على مقصوده، والثاني الإضافي، وهو ما كان التشابه فيه ليس من جهة الدليل، بل من جهة المناط، ويساعد عليه قوله في مقابله: "هو الواضح الإضافي في نفسه، وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين"، الذي يفيد أن هذا المتشابه عدم وضوحه بالنسبة إلى نظر المجتهدين فقط؛ فينزل الكلام على ما قلنا حتى يندفع التنافي. "د".
1 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
2 أي: وهو من لم يظهر له قربه من أحد الطرفي. "د".
3 تعليل كونه واضحًا إضافيًا بتفاوت مراتب الظنون تعليل واضح، وكذا بناء التشابه عليه؛ لأنه إذا كانت الظنون مختلفة؛ فمنها ما يقف عند حد أنه لا فرق بين الطرفين في نظره؛ فيجيء التشابه. "د". وفي "ط": "ولتفاوت" بزيادة واو.

 

ج / 5 ص -117-       وكالوجوب وعدمه، وما أشبه ذلك، وثبوت العلم مع ثبوت الظن أو الشك ضدان؛ كالوجوب مع الندب، أو الإباحة، أو التحريم، وما أشبه ذلك1.
وهذا الأصل واضح في نفسه، غير محتاج إلى إثباته بدليل، ولكن لا بد من التأنيس فيه بأمثلة يستعان بها على فهمه وتنزيله والتمرن فيه إن شاء الله.
فمن ذلك أنه "نهى عن بيع الغرر"2، ورأينا العلماء أجمعوا على منع بيع الأجنة والطير في الهواء، والسمك في الماء3، وعلى جواز بيع الجبة التى حشوها مغيب عن الأبصار، ولو بيع حشوها بانفراده لامتنع، وعلى جواز كراء الدار مشاهرة مع احتمال أن يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين، وعلى دخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث، وعلى شرب الماء من السقاء مع اختلاف العادات في مقدار الري؛ فهذان طرفان في اعتبار الغرر وعدم اعتباره لكثرته4 في الأول وقلته مع عدم5 الانفكاك عنه في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كالأمر والنهي، والصحة والفساد، والشرط والمانع، وهكذا من المتقابلات المتضادة، يجري التقابل بينها كما يجري بين المتناقضات في طرفي النفي والإثبات. "د".
2 مضى تخريجه "2/ 522".
3 في حكاية الإجماع نظر؛ فذهب ابن حزم في "المحلى" "8/ 388" إلى جواز بيع الطير في الهواء إذا صحَّ الملك عليه قبل ذلك، وذهب عمر بن عبد العزيز -كما في "الخراج" "87" لأبي يوسف- وابن أبي ليلى -كما في "المبسوط" "13/ 11، 12"- إلى جواز بيع السمك في بِرْكة عظيمة، وإن احتيج في أخذه إلى مؤنة كثيرة.
وانظر في المسألة: "المغني" "4/ 152"، و"العناية شرح الهداية" "5/ 192"، و"البحر الرائق" "6/ 80"، و"المجموع" "9/ 311"، و"كشاف القناع" "3/ 162"، و"الفواكه الدواني" "2/ 137"، و"المعاملات" "259" لأحمد إبراهيم، و"نظرية الغرر في الشريعة الإسلامية" "1/ 438-447" لأستاذنا ياسين درادكة.
4 أي: مع إمكان الانفكاك عنه. "د".
5 أي: أنه لا يتأتى التحرز عنه؛ فهو ضرورة عمت بها البلوى، مع تفاهة التضرر من أحد المتعاملين في ذلك فيما لو ظهر على خلاف مصلحته، والأول جمع وصفين: الكثرة وإمكان التحرز منه، وما بينهما ما فقد أحد الوصفين؛ فأشبه بذلك كلًّا من الطرفين في وصف فجاء الاختلاف. "د".

 

ج / 5 ص -118-       الثاني؛ فكل مسألة وقع الخلاف فيها في باب الغرر فهى متوسطة بين الطرفين، آخذة بشبه من كل واحد منهما؛ فمن أجاز مال إلى جانب اليسارة1، ومن منع مالَ إلى جانب الآخر.
ومن ذلك مسألة زكاة الحلي، وذلك أنهم أجمعوا على عدم الزكاة في العروض وعلى الزكاة في النقدين2، فصار الحلي المباح الاستعمال دائرًا بين الطرفين؛ فذلك3 وقع الخلاف فيها.
واتفقوا على قبول رواية العدل وشهادته، وعلى عدم قبول ذلك من الفاسق، وصار المجهول الحال دائرًا بينهما؛ فوقع الخلاف فيه.
واتفقوا على أن الحر يملك وأن البهيمة لا تملك، ولما أخذ العبد بطرف من كل جانب اختلفوا فيه: هل يملك، أم لا؟ بناء على تغليب حكم أحد الطرفين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولم يقل: "عدم الانفكاك"؛ لأن اليسارة هي التي يتأتى فيها اختلاف الانظار بخلاف الانفكاك وعدمه، فإنه إلى الوضوح أقرب. "د".
2 لأنهما اجتمع فيهما كونهما معدين للتعامل والثمنية بخلقتهما، والعروض فقدت المعنيين؛ فاتفق على حكم كلٍّ، أما الحلي؛ فأخذ وصفًا واحدًا من النقدين، وهو أنه من الذهب والفضة، وباستعماله للزينة لا للثمنية فقد الوصف الآخر وشارك العروض في عدم قصده بالثمنية؛ فجاء فيه الخلاف. "د".
3 مع أسباب أخرى مذكورة في مظانها، والراجح وجوب الزكاة فيها، انظر في المسألة: "أحكام القرآن" "3/ 106، 107" للجصاص، و"المحلي" "6/ 76، 77"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 16-17"، و"إعلام الموقعين" "2/ 100، 110" -ولم ير ابن تيمية وتلميذه وجوب الزكاة في الحلي- و"فقه زكاة الحلي"، و"أقوى القولين في زكاة الحلي من النقدين"، و"القول الجلي في زكاة الحلي".

 

ج / 5 ص -119-       واتفقوا على أن الواجد للماء قبل الشروع في الصلاة يتوضأ ولا يصلي بتيممه، وبعد إتمامها وخروج الوقت لا يلزمه الوضوء وإعادة الصلاة، وما بين ذلك1 دائر بين الطرفين؛ فاختلفوا فيه.
واتفقوا على أن ثمرة الشجرة إذا لم تظهر تابعة للأصل في البيع، وعلى أنها غير تابعة لها إذا جذت، واختلفوا فيها إذا كانت ظاهرة، وإذا أفتى واحد وعرفه أهل الإجماع، وأقروا بالقبول فإجماع باتفاق، أو أنكروا ذلك؛ فغير إجماع باتفاق، فإن سكتوا2 من غير ظهور إنكار؛ فدائر بين الطرفين، فلذلك اختلفوا فيه، والمبتدع بما يتضمن3 كفرًا من غير إقرار بالكفر دائر بين طرفين؛ فإن المبتدع بما لا يتضمن4 كفرًا من الأمة، وبما اقتضى كفرا مصرحًا به5 ليس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: من صلى بالتيمم صلاة صحيحة ثم بعد تمامها وقبل خروج الوقت؛ وجد الماء. "د".
قلت: وتدخل في عبارة المصنف "وما بين ذلك" أيضًا رؤية الماء في الصلاة بتيمم، هل يبطلها بإبطال التيمم أم لا؟ قال أبو حنيفة: "يبطله"، وهذا مذهب أحمد، وقال الشافعي: "لا يبطله"، وهذا مذهب مالك، انظر بسط المسألة مع الأدلة في "الخلافيات" "2/ 449، 459/ رقم 26 مع تعليقي عليه"، والله الموفق.
ومنه تعلم دقة المصنف في عباراته.
2 أي: وكان ذلك قبل استقرار المذاهب، أي كان في العصر الذي فيه البحث عن المذاهب، أما إن كان بعد استقرارها؛ فالسكوت لا يدل على الموافقة قطعًا؛ إذ لا عادة بإنكاره حينئذ، فلم يكن إجماعًا ولا حجة قطعًا، أما قبل ذلك؛ فالعادة الإنكار عند عدم الموافقة، فجاء الخلاف، فالشافعي يقول: "لا هو إجماع ولا هو حجة"، والجمهور إجماع أو حجة وليس بإجماع قطعي، والجبائي إجماع انقراض العصر. "د".
3 في "د" و"ط": "بما لا يتضمن"!! والصواب حذف "لا".
4 كالابتداع في الفروع التي ليست قطعية ولا معلومة من الدين بالضرورة؛ فهذا باتفاق ليس بكفر. "د".
5 كغلاة الخوارج والروافض؛ كالخطابية من هؤلاء الذين يقولون: إن عليًا الإله الأكبر، والحسنان ابنا الله، وجعفر إله، لكن أبو الخطاب رئيسهم أفضل منه ومن عليٍّ؛ فهذا كفر باتفاق "د".
قلت: انظر عن الخطابية: "الفرق بين الفرق" "215"، و"الحور العين" "169"، و"البرهان" "38" للسكسكي، و"الغلو والفرق الغالية" "99".

 

ج / 5 ص -120-       من الأمة؛ فالوسط1 مختلف فيه: هل هو من الأمة، أم لا؟
وأرباب النِّحَل والمِلَل اتفقوا على أن الباري تعالى موصوف بأوصاف الكمال بإطلاق، وعلى أنه منزه عن النقائص بإطلاق، واختلفوا في إضافة أمور2 إليه بناء على أنها كمال، وعدم إضافتها إليه بناء على أنها نقائص، وفي عدم إضافة أمور إليه بناء على أن عدم الإضافة كمال، أو إضافتها بناء [على]3 أن الإضافة إليه هى الكمال، وكذلك ما أشبهها.
فكل هذه المسائل إنما وقع الخلاف فيها؛ لأنها دائرة بين طرفين واضحين؛ فحصل الإشكال والتردد، ولعلك لا تجد خلافًا واقعًا بين العقلاء معتدًّا4 به في العقليات أو في النقليات، لا مبنيًا على الظن ولا على القطع؛ إلا دائر بين طرفين [و] لا يختلف فيهما أصحاب الاختلاف [في الواسطة المترددة بينهما، فاعتَبِرْه تجده كذلك -إن شاء الله].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو المبتدع بما يتضمن كفرًا بغير تصريح؛ كالمجسمة، ومنكري الشفاعة، فهذا يختلف فيه بالتكفير وعدمه. "د".
2 أي من الصفات؛ كالقدرة والعلم.. إلخ على أنها صفات زائدة على الذات، وقوله: "وفي عدم إضافة أمور... إلخ"؛ أي: كالأفعال التي تعتبر شرورًا؛ فبعضهم يضيفها إليه؛ لأنه لا فاعل إلا هو، ولا تعتبر شرورًا إلا بنسبتها للعبد، والبعض لا يضيفها ويرى أن الكمال في ذلك؛ فلا تكرار في العبارة، ولا يمكن الاستغناء عن الثانية مع إفادة المعنى المقصود. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
4 في نسخة "م": "معتمدًا".

 

ج / 5 ص -121-       فصل:
وبإحكام النظر في هذا المعنى يترشح للناظر1 أن يبلغ درجة الاجتهاد؛ لأنه يصير بصيرًا بمواضع الاختلاف، جديرًا بأن يتبين له الحق في كل نازلة تعرض له، ولأجل ذلك جاء في حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا عبد الله ابن مسعود". قلت: لبيك يا رسول الله. قال: "أتدرى أي الناس أعلم؟". قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصرا في العمل، وإن كان يزحف في استِه"2؛ فهذا تنبيه3 على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المناسب: يترشح الناظر أن يبلغ؛ أي: يستعد لبلاغ درجة الاجتهاد. "ف".
2 أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" "3/ 402-403" - ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 807/ رقم 1500" - والطيالسي في "المسند" "25"، وابن جرير في "التفسير "27/ 138-139"وابن أبي عاصم في "السنة" "70"، والمروزي في "السنة" "ص16"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 480"، والطبراني في "الصغير" "1/ 223-224" و"الأوسط" "رقم 11، 21 - مجمع البحرين" و"الكبير" "رقم 10531"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 60-61"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1502، 1503" من طرق عن الصعق بن حزن عن عُقيل الجَعْديّ عن أبي إسحاق الهمداني عن سويد بن غفلة عن ابن مسعود.
قال الطبراني: "ولم يروه عن أبي إسحاق إلا عقيل، تفرد به الصعق"، وإسناده ضعيف جدًّا، فيه عقيل الجعدي، منكر الحديث، وانظر: "مجمع الزوائد" "1/ 90، 163".
وأخرجه الطبراني في "الكبير" "10/ 211/ رقم 10357"، وابن أبي حاتم -كما في "تفسير ابن كثير" "4/ 315"-، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 71"-، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1501"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 61" من طريق آخر عن ابن مسعود بنحوه.
وإسناده ضعيف، وفيه انقطاع؛ فالحديث ضعيف، وساقه المصنف في "الاعتصام" "2/ 745-746" بأطول من هذا، وفي "د": "في استه"، والصواب ما أثبتناه.
3 لأن هذه الدرجة الفضلى إنما تتحقق عند وجود الاختلاف ومعرفة الحق فيه، ولا يكون إلا بمعرفة مواقع الاختلاف؛ فصح أنه تحريض على هذه المعرفة. "د".
قلت: انظر في ضرورة معروفة الخلاف: "شرح تنقيح الفصول" "ص194"، و"أسباب اختلاف الفقهاء" "ص3-9، 104" لعلي الخفيف، وكثير من الأصوليين لم يذكروا هذا الشرط، واكتفوا بضرورة معرفة الإجماع؛ لأنه مقابل له، والأشياء تعرف بأضدادها.

 

ج / 5 ص -122-       المعرفة بمواقع الخلاف.
ولذلك جعل الناس العلم معرفة الاختلاف.
فعن قتادة: "من لم يعرف الاختلاف لم يشمَّ أنفُه الفقه"1.
وعن هشام بن عبيد الله الرازي: "من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ، ومن لم يعرف اختلاف2 الفقهاء فليس بفقيه"3.
وعن عطاء: "لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس؛ فإنه إن لم يكن كذلك رد4 من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه"5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 814، 815/ رقم 1520، 1522".
2 أي: المبني على اختلاف أدلتهم؛ لأنه بدون ذلك لا يمكن ترجيح جانب الحق في المسألة ما لم يقف على دليل كل. "د".
3 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 815-816/ رقم 1523".
4 يظهر هذا فيمن له القدرة على الترجيح، فإنه إذا لم يعلم اختلافهم وأدلة كل ربما كان ما في يده أضعف مدركًا مما لم يقف عليه، فإذا عرف الخلاف ومدرك كل أمكنه الترجيح، فلا يأخذ ضعيفًا ويترك قويًا، أما شبه العامي؛ فسيان عنده أن يعرف الخلاف وألا يعرف إن كان مثله يصح له أن يفتي؟! وفيه الخلاف المشهور. "د".
5 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 816/ رقم 1524" بسنده إلى ضمرة بن ربيعة عن عثمان بن عطاء عن أبيه.
قلت: أبوه هو عطاء بن أبي مسلم الخراساني، وعثمان فيه كلام، انظر: "تهذيب الكمال" "19/ 441".

 

ج / 5 ص -123-       وعن أيوب السختياني وابن عيينة: "أَجْسَرُ1 الناس على الفتيا أقلهم علمًا باختلاف العلماء". زاد أيوب: "وأمسكُ الناسِ عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء"2.
وعن مالك: "لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه، قيل له: اختلاف أهل الرَّأي؟ قال: لا، اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم"3.
وقال يحيى بن سلام: "لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إليَّ"4.
وعن سعيد بن أبي عروبة: "من لم يسمع الاختلاف، فلا تعده عالمًا"5.
وعن قبيصة بن عقبه: "لا يفلح من لا يعرف اختلاف الناس"6.
وكلام الناس هنا كثير، وحاصلة معرفة مواقع الخلاف، لا حفظ مجرد الخلاف، ومعرفة ذلك إنما تحصل بما تقدم من النظر؛ فلا بد منه لكل مجتهد، وكثيرًا ما تجد هذا للمحققين في النظر كالمازري وغيره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يوضح ما قبله. "د".
2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 816، 817، 1124/ رقم 1525، 1527، 2209"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "2/ 166".
3 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 818/ رقم 1529".
4 ذكره ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 819/ رقم 1534".
5 أخرجه عباس الدوري عنه في "تاريخه" "4/ 271"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 815، 819/ رقم 1521، 1536".
6 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 820/ رقم 1537".

 

ج / 5 ص -124-       المسألة الخامسة:1
الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص، فلا بد من اشتراط العلم بالعربية، وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن2 اقتضاء النصوص لها أو مسلَّمة من صاحب الاجتهاد في النصوص؛ فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية، وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع3 من الشريعة جملة وتفصيلا4 خاصة.
والدليل على5 عدم الاشتراط في علم العربية أن علم العربية إنما يفيد مقتضيات الألفاظ بحسب ما يفهم من الألفاظ الشرعية، وألفاظ الشارع المؤدية لمقتضياتها عربية، فلا يمكن من ليس بعربي أن يفهم لسان العرب، كما لا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة والتي بعدها تكميل للمسألة الثانية، يقيد بهما اشتراط الوصفين السابقين في الاجتهاد، ويبين أنهما قد يرتفعان معًا وقد يرتفع أحدهما ويبقى نوع من الاجتهاد، وأن اشتراطهما إنما هو في بعض أنواعه، ولو ذكرتا عقبها، لكان أجود صنعًا حتى لا يتوهم معارضتهما لها. "د".
قلت: قارن بما عند ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "7/ 286".
2 سيأتي تمثيله لذلك بالاجتهاد القياسي وبتوقيع المجتهدين الأحكام على النوازل، وسيأتي البحث معه فيها. "د".
3 في "ط": "الشارع".
4 أي: في الباب الذي فيه الاجتهاد إن قلنا: إن الاجتهاد يتجزأ، أو في سائر الأبواب إن قلنا: إنه لا يتجزأ. "د".
5 للمؤلف دعويان اشتراط العربية في الاجتهاد من النصوص، وعدم اشتراطها في الاجتهاد الراجخ للمعاني من النظر في المصالح والمفاسد، وقد أقام الدليل عليهما حسب ترتيبهما في سياقه، ففي العبارة سقط، والأصل هكذا: "والدليل على الاشتراط وعدم الاشتراط... إلخ" "د".
قلت: وكتب "ف" ما نصّه: "الأنسب: "على عدم اشتراط علم العربية فيه"، أي: في الاجتهاد المتعلق بالمعاني".
قلت: أثبتها "م": "عدم اشتراط علم...".

 

ج / 5 ص -125-       يمكن التفاهم [فيما] بين العربي والبربري أو الرومي أو العبراني حتى يعرف كل واحد مقتضى لسان صاحبه.
وأما المعاني مجرَّدة1؛ فالعقلاء مشتركون في فهمها، فلا يختص بذلك لسان دون غيره، فإذن2 من فهم مقاصد الشرع من وضع الأحكام، وبلغ فيها رتبة العلم بها، ولو كان فهمه لها من طريق الترجمة باللسان الأعجمي؛ فلا فرق3 بينه وبين من فهمها من طريق اللسان العربي، ولذلك يوقع المجتهدون الأحكام الشرعية على الوقائع القولية التي ليست بعربية، ويعتبرون4 [المعاني، ولا يتعبرون] الألفاظ في كثير من النوازل.
وأيضًا، فإن الاجتهاد القياسي غير5 محتاج فيه إلى مقتضيات الألفاظ إلا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مرتبط بقوله: "وإنما يلزم العلم... إلخ"؛ لتضمنه دعوى اشتراط العلم بمقاصد الشرع وعدم اشتراط العلم بالعربية، ولذلك شمله البيان وإن سبق دليله. "ف" و"م".
2 أي: فالفهم هو اللازم المعمول عليه، فهو المشترط في الاجتهاد المتعلق بالمعاني دون العلم بالعربية؛ إذ لا فرق بين أسلوبها وأسلوب غيرها بالنسبة لفهم تلك المعاني. "ف".
3 تأمل في وجه التوفيق بين هذا وبين ما سبق له، حيث قال: "يتوقف فهم الشريعة حتى الفهم على فهم اللغة العربية حق الفهم"، وقال فيما سبق أيضًا: "إن الاجتهاد يتوقف على وصفين: العلم بمقاصد الشريعة، والتمكن من الاستنباط، وهذا إنما يكون بواسطة معارف خاصة، وإن هذه المعارف وسيلة إلى معرفة المقاصد"، ثم قال: "إن أوجب الوسائط اللغة العربية... إلخ". "د".
4 أي: فيسألون عما تدل عليه في مجاري عرف أهلها مع أنه غير عربية، وبعد، فهل هذا عير تحقيق المناط؟ وسيأتي له في المسألة الثانية أنه لا يحتاج إلى واحد من الأمرين، لا فهم مقاصد الشريعة ولا اللغة العربية. "د". قلت: قوله مبني على سقط لاحق أثبتناه فقط من "ط".
5 إذا كان ثبوت العلة بالسبر والتقسيم أو المناسبة المسمى بتخريج المناط، فربما يسلم في بادئ الرأي، أما إذا كان ثبوتها في الأصل بالنص أو الإيماء في مراتبهما الكثيرة، فلا يظهر؛ لأنه لا بد من الرجوع إلى النص الذي أفاد ذلك، والتسليم في هذا ليس بكاف، وعلى فرض كفايته لا بد له من استقراء النصوص حتى يتمكن من دفع فساد الاعتبار وفساد الوضع، وهما أهم اعتراضات القياس، والرجوع للنص مستوجب لشرط العربية؛ لأنه لا يتم له إجراء القياس والمحافظة على نتيجة إلا بعدم مصادمته للنصوص مطلقًا في أي قياس كان، وهذا ما يعود على الأولين أيضًا بالتوقف كما أشرنا إليه. "د".

 

ج / 5 ص -126-       فيما يتعلق بالمقيس عليه وهو الأصل، وقد يؤخذ مسلمًا أو بالعلة1 المنصوص عليها أو التي أومئ إليها2، ويؤخذ ذلك مسلمًا، وما سواه فراجع إلى النظر العقلي.
وإلى هذا النوع3 يرجع الاجتهاد المنسوب إلى أصحاب الأئمة المجتهدين، كابن القاسم وأشهب في مذهب مالك، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن في مذهب أبي حنيفة، والمزني والبويطي في مذهب الشافعي، فإنهم على ما حكي عنهم يأخذون أصول إمامهم وما بنى عليه في فهم ألفاظ الشريعة، ويفرعون المسائل، ويصدرون الفتاوي على مقتضى ذلك.
وقد قبل الناس أنظارهم وفتاويهم، وعملوا على مقتضاها، خالفت مذهب إمامهم أو وافقته، وإنما كان كذلك؛ لأنهم فهموا مقاصد الشرع في وضع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يريد أنه إنما يحتاج الاجتهاد القياسي إلى اللغة العربية في شيئين: معرفة الأصل المقيس عليه، ومعرفة العلة إذا كانت منصوصة أو مومًا إليها، أما باقي أعمال القائس، فلا تحتاج إلى اللغة، والأصل والعلة إذا كانت كذلك يمكن أن يؤخذا مسلمين، وإذ ذاك؛ فلا يحتاج إلى اللغة أصلًا. "د".
2 في "ط": "لها".
3 أي: الثاني، وهو المتعلق بالمعاني والمصالح... إلخ، وقوله: "يأخذون أصول إمامهم"، أي: مسلمة لا بحث لهم فيها، إنما يبحثون في تفاريعها حتى فيما فرعه نفس الإمام صاحب هذه الأصول، وقد يخالفونه في تفريعه، بقي أنه يقتضي أنهم لا يرجعون إلى النصوص التفصيلية، وأن اجتهادهم منحصر في التفريع على تلك الأصول المسلمة؛ لأنهم لو رجعوا إلى النصوص لكان الواجب توافر شرط العربية؛ فهل الواقع كذلك، وأنهم لا يتعلقون بالنصوص مطلقًا في اجتهادهم؟ هذا يحتاج إلى استقراء، وقلما يثبته الاستقراء. "د".

 

ج / 5 ص -127-       الأحكام، ولولا ذلك، لم يحل لهم الإقدام على الاجتهاد والفتوى، ولا حل لمن في زمانهم أو من بعدهم من العلماء أن يقَّرهم على ذلك، ولا يسكت عن الإنكار عليهم على الخصوص، فلمًّا لم يكن شيء من ذلك؛ دل على أن ما أقدموا عليه من ذلك كانوا خلقاء1 بالإقدام فيه، فالاجتهاد منهم وممن كان مثلهم وبلغ في فهم مقاصد الشريعة مبالغهم صحيح، لا إشكال فيه، هذا على فرض أنهم لم يبلغوا في كلام العرب مبلغ المجتهدين، فأما إذا بلغوا تلك الرتبة فلا إشكال أيضًا في صحة اجتهادهم على الإطلاق2 والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م" و"ط" و"ف" بالفاء، وعلق "ف": "لعله بالقاف جمع خليق".
قلت: وهو كذلك في الأصل و"د".
2 ظاهره أن اجتهادهم في هذه الحالة مطلق؛ كالأئمة الأربعة، ولك أن تقول مطلق، أي شامل للاجتهادين وإن كانوا منتسبين إلى أئمتهم متقيدين بقواعدهم لعدم بلوغهم درجة تأسيس الأصول. "ف".

 

ج / 5 ص -128-       المسألة السادسة:
قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط، فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع، كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية؛ لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع1 على ما هو عليه، وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به2، من حيث قصدت المعرفة به، فلا بد أن يكون المجتهد عارفًا ومجتهدًا من تلك الجهة التى ينظر فيها ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى، كالمحدث العارف بأحوال الأسانيد وطرقها، وصحيحها من سقيمها، وما يحتج به من متونها مما لا يحتج به، فهذا يعتبر اجتهاده فيما هو عارف به، كان عالما بالعربية أم لا3، وعارفًا بمقاصد الشارع أم لا4، وكذلك القارئ في تأدية5 وجوه القرءات، والصانع في معرفة عيوب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: موضع الحكم على ما هو عليه، ومتى علمه كذلك، علم المناط في الجزئيات؛ لأنه منصوص شرعًا، وإنما النظر في تحقيقه ووجوده في جزئيات قد يخفى تحققه فيها على الوجه المطلوب. "ف".
2 خذ هذا المثال لزيادة الإيضاح: الحكم الشرعي أن من يعتريه المرض أو يتأخر برؤه بسبب استعمال الماء يرخص له في التيمم، فإذا أردنا معرفة الحكم الشرعي بالنسبة لمريض ليرخص له أو لا يرخص؛ فإننا لا نحتاج إلى اللغة العربية، ولا إلى معرفة مقاصد الشرع في باب التيمم فضلًا عن سائر الأبواب، إنما يلزم أن نعرف بالطرق الموصل: هل يحصل ضرر فيتحقق المناط، أم لا فلا يتحقق؟ ولا شأن لهذا بواحد من الأمرين، وإنما يعرف بالتجارب في الشخص نفسه، أو في أمثاله، أو بتقرير طبيب عارف. "د".
3 كيف هذا مع أن الترجيح بالمتن يكون بالمرجحات الراجعة إلى الألفاظ ككون ما دل بالحقيقة يحتج به ولا يحتج بما عارضه الدال بالمجاز، وهكذا؛ فلا بد في هذا النوع من علم العربية، أما الترجيح بالإسناد، فقد يسلم فيه عدم التوقف على شرط العربية. "د".
4 قد لا يسلم في بعض صور الترجيح بالحكم، كما يعلم من مراجعتها في مثل "المنهاج" للبيضاوي. "د".
5 لأنها ترجع للرواية الصرفة، أو إلى ضوابط تعين كيفية النطق بالكلمات مثلًا. "د".

 

ج / 5 ص -129-       الصناعات، والطبيب في العلم بالأدواء والعيوب، وعرفاء الأسواق1 في معرفة قيم السلع ومداخل العيوب فيها، والعاد2 في صحة القسمة، والماسح في تقدير الأرضين ونحوها، كل هذا وما أشبهه مما يعرف به مناط الحكم الشرعي غير مضطر إلى العلم بالعربية، ولا العلم بمقاصد الشريعة، وإن كان اجتماع ذلك كمالًا في المجتهد.
والدليل على ذلك3 ما تقدم من أنه لو كان لازمًا4 لم يوجد مجتهد إلا في الندرة، بل هو محال عادة، وإن وجد ذلك، فعلى جهة خرق العادة، كآدم عليه السلام حين علمه الله الأسماء كلها، ولا كلام فيه.
وأيضًا، إن لزم5 في هذا الاجتهاد العلم بمقاصد الشارع6 لزم في كل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ماء": "العرفاء بالأسواق".
2 في "ماء": "العادي".
3 أي: على عدم الافتقار إلى العلم بالأمرين. "د".
4 أي: لمن يجتهد في الأحكام الشرعية بأي نوع من أنواع الاجتهاد، سواء أكان تحقيق مناط أم غيره، لو كان لازمًا له أن يكون مجتهدًا في كل علم يتعلق به الاجتهاد أي تعلق كان، لم يوجد مجتهد... إلخ، هذا ما تقدم للمؤلف استدلالًا على غير هذا الموضع، ولا يخفى أن الكلام ها هنا ليس فيما يتوقف عليه مطلق الاجتهاد، بل في خصوص توقف تحقيق المناط على الوصفين، وقد تقدم له في تحقيق المناط العام أن ارتفاعه تتعطل بسببه التكاليف كلها أو أكثرها، فلو لزم الشرطان في تحقيق المناط، لتعطلت أكثر التكاليف، وهو باطل، فلو نحا هذا النحو في الدليل لكان ظاهرًا، ولا يتأتى أن يقال: إذا توقف الاجتهاد بأي نوع منه عليهما لم يوجد مجتهد، كيف وهما الركنان في أكثر أنواع الاجتهاد؟ "د".
5 في "ط": "لو لزم".
6 أي: والعربية بدليل قوله بعد: "ووجدت من الجهال بالشريعة والعربية"، أي: فضلًا عن مقاصد الشريعة، فقد أدرج العربية في الاستدلال، وهذا الدليل صالح لإقامته على الدعويين. "د".

 

ج / 5 ص -130-       علم وصناعة أن لا تعرف إلا بعد المعرفة بذلك، إذ1 فرض من لزوم العلم2 بها العلم بمقاصد الشارع، وذلك باطل؛ فما أدى إليه مثله، فقد حصلت العلوم ووجدت من الجهال بالشريعة والعربية، ومن الكفار المنكرين للشريعة.
ووجه ثالث أن العلماء3 لم يزالوا يقلدون في هذه الأمور من ليس من الفقهاء، وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلدوا فيه خاصة، وهو التقليد في تحقيق المناط.
فالحاصل أنه إنما يلزم في هذا الاجتهاد المعرفة بمقاصد المجتهد فيه، كما أنه في الأولين4 كذلك، فالاجتهاد في الاستنباط من الألفاظ الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد [العربية، والاجتهاد في المعاني الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد الشريعة، والاجتهاد في مناط الأحكام يلزم فيه المعرفة بمقاصد]5 ذلك المناط، من الوجه الذي يتعلق به الحكم لا من وجه غيره، وهو ظاهر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "إذا".
2 أي: وهو الذي قلنا: إنه يتوقف عليه تحقيق المناط. "د".
أما "ف"، فقال: "لعله من لازم العلم".
3 أي: مطلقًا مجتهدين ومقلدين. "د".
4 وهما الاجتهاد من النصوص ومن المعاني، واقتصر في تفريعه على الأول. "د".
5 سقط من جميع النسخ إلا من "ط".

 

ج / 5 ص -131-       المسألة السابعة:
الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان:
أحدهما: الاجتهاد المعتبر شرعًا، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا1 بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد، وهذا هو الذى تقدم الكلام فيه. والثانى: غير المعتبر وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه؛ لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض، وخبط في عماية، واتباع للهوى، فكل رأي صدر على هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره؛ لأنه ضد الحق الذى أنزل الله كما قال تعالى:
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم} [المائدة: 49].
وقال تعالى:
{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} الآية [ص: 26].
وهذا على الجملة لا إشكال فيه، ولكن قد ينشأ في كل واحد من القسمين قسم آخر فأما القسم الأول، وهي:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: تقووا واهتموا بمعرفة... إلخ، "وأصلها مأخوذ" من الضلاعة وهي القوة، يقال: أضلع بحلمه، أي: قوي عليه ونهض به. "ف" و"م".

 

ج / 5 ص -132-       المسألة الثامنة:
فيعرض فيه الخطأ في الاجتهاد، إما بخفاء1 بعض الأدلة حتى يتوهم فيه ما لم يقصد منه، وإما بعدم2 الإطلاع عليه جملة.
وحكم هذا القسم معلوم من كلام الأصوليين إن كان في [أمر] جزئي3، وأما إن كان [الخطأ] في أمر كلي4، فهو أشد وفي هذا الموطن حذر من زلة العالم، فإنه جاء في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير منها؛ فروي عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: "إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة". قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: "أخاف عليهم من زلة العالم، ومن حكم جائرٍِ، ومن هوىً متَّبع"5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1، 2 وقد يكون هذان من عدم بذل الوسع، ومن التقصير فيما هو واجب على المجتهد، وسيأتي الإشارة إليه بقوله: "وأكثر ما يكون ذلك عند الغفلة... إلخ". "د".
3 فينتقض حكم الحاكم فيه إذا صادم إجماعًا، أو نصًا قاطعًا، أو قياسًا جليًا، أو قواعد الشريعة، ويبطل أثر الفتوى أيضًا إن لم يكن حكم حاكم بل إفتاء. "د".
قلت: وما بين المعقوفتين ساقط في الأصل.
4 كتحريم الحلال وتحليل الحرام مصادمة لقاطع أيضًا، كحل المتعة والربا، وكتحريم الطيبات من الرزق، وهكذا. "د".
5 أي: فأما اتقاء زلة العالم، فطريقه أنكم إن ظننتم به الخير وأنه موفق، فلا تستسلموا له، فربما جره الاستسلام إلى الزيغ واتباع الهوى، وإن ظننتم به الخطأ والزيغ، فلا تظهروا له تمام الجفوة وشدة الغلظة؛ فربما جره هذا إلى التمادي في العناد، وخلع ربقة الحق في غير ما ظهر خطؤه فيه أيضًا، وشواهد هذا حاصلة الآن فيمن زل من المنسوبين للعلماء في زماننا هذا، فإنهم لما قرروا حذف اسمه من عدادهم أعانوا عليه إبليس، فصار ضد الإسلام ونبي الإسلام يهرف بفحش القول ولا رادع له، أعاذنا الله من زيغ القلوب بعد الهداية. "د".
قلت: ومضى تخريج الحديث "4/ 89".

 

ج / 5 ص -133-       وعن عمر: "ثلاث يهدمن الدين: زلَّة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون"1.
وعن أبي الدرداء: "إن مما أخشى عليكم زلة العالم، أو جدال المنافق بالقرآن، والقرآن حقٌّ، وعلى القرآن منارٌ كمنار الطريق"2.
وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كثيرًا: "وإياكم وزَيْغةَ الحكيم، فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وقد يقولُ المنافقُ الحقَّ، فتلقَّوا عمن جاء به، فإن على الحق نورًا". قالوا: وكيف زيغة3 الحكيم؟ قال: "هي كلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون ما هذه؟ فاحذروا زيغته، ولا تَصُدَّنكم عنه؛ فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "4/ 89".
2 مضى تخريجه "4/ 89". وفي "ط": "زلة عالم... منافق".
3 بفتح الزاي؛ أي: زلته وميله، يقال: زاغ فلان عن الشيء زيغًا "وزيغانًا" وزيوغًا "وذلك إذا" مال عنه. "ف" و"م".
4 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب لزوم السنة، 4/ 203/ رقم 4611"، ومعمر في "الجامع" "11/ 363-364/ رقم 20750"، والدارمي في "السنن" "1/ 67"، وابن وضاح في "البدع" "ص25، 26"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" "2/ 222، 320-322، 719"، والآجري في "الشريعة" "ص47، 48"، والفريابي في "صفة النفاق" "ص18-19، 19-20"، وابن بطة في "الإبانة" "1/ 22/ 2"، والبيهقي في "المدخل إلى السنن" "رقم 834"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 981/ رقم 1781"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 88-89، 89"، والذهبي في "السير" "1438" من طرق، وبألفاظ متقاربة، منها المذكور وسنده صحيح.
وذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 297"، وأبو شامة في "الباعث" "ص11"، والسيوطي في "الأمر بالاتباع" "ص57-58".
ووقع في "م": "أن يراجع الخلق".

 

ج / 5 ص -134-       وقال سلمان الفارسي: "كيف أنتم عند ثلاث: زَلَّة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم، فأما زلة العالم، فإن اهتدى؛ فلا تُقلَّدوهُ دينكم، تقولون: نصنع مثل ما يصنع فلان، وننتهي عما ينتهي عنه فلان، وإن أخطأ، فلا تقطعوا إياسكم منه، فتُعينوا عليه الشيطان"1 الحديث.
وعن ابن عباس: "ويلٌ للأتباع من عَثرات العالم. قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئًا برأيه، ثم يجدُ من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فيترك قوله ثم يمضي الأتباع"2.
وعن ابن المبارك: "أخبرني المعتمر بن سليمان، قال: رآني أبي وأنا أنشد الشعر، فقال لي: يا بُنّي! لا تنشد الشعر. فقلت له: يا أبت! كان الحسن ينشد، وكان ابن سيرين ينشد. فقال لي: أي بُني! إن أخذت بَشرٍّ ما في الحسن وبشرٍّ ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشرُّ كله"3.
وقال مجاهد والحكم بن عُتيبة4 ومالك: "ليس أحدٌ مِن خلق الله إلا يُؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم"5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "4/ 90".
2 مضى تخريجه "4/ 90".
3 سيأتي قريبًا وسليمان هو التيمي.
4 كذا في الأصل، وهو الصواب، وفي النسخ المطبوعة كلها: "عيينة"!! وهو خطأ، وانظر ترجمته في "طبقات الفقهاء" "ص82، 83" للشيرازي.
5 أسنده عن مجاهد أبو نعيم في "الحلية" "3/ 300"، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" "1/ 176"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 857"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 925، 926/ رقم 1762، 1763، 1764، 1765"، وإسناده صحيح.
وأسنده عن الحكم ابن عبد البر في "الإحكام" "2/ 925/ رقم 1761"، وابن حزم في "الإحكام" "6/ 883"، وإسناده صحيح.

 

ج / 5 ص -135-       وقال سليمان التيمي1: "إن أخذتَ برخصة كل عالم اجتمع فيك الشَّر كله"2.
قال3 ابن عبد البر: "هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا".
وهذا كله وما أشبهه دليل على طلب4 الحذر من زلة العالم، وأكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار5 مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذى اجتهد فيه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وذكر الغزالي في "الإحياء" "1/ 78" أنه من قول ابن عباس عند الطبراني، وكذا السبكي في "الفتاوى" "1/ 148"، وقال: "وأخذ هذه الكلمة من ابن عباس مجاهد، وأخذ منهما مالك رضي الله عنه واشتهرت عنه".
قلت: وأخذها أيضًا الشعبي، كما في "مختصر المؤمل" "رقم 185"، و"معنى قول الإمام المطلبي" "ص127 - ط دار البشائر".
ومقولة مالك صححها ابن عبد الهادي في "إرشاد السالك" "ق227/ أ"، وذكرها أحمد كما في "مسائل أبي داود" "ص276".
وانظر: مقدمة "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" "ص49 - ط المعارف وص24-25 - ط الرابعة عشر، المكتب الإسلامي"، و"الإيقاظ" "ص72" للفلاَّني.
1 في "م": "التميمي"، وهو خطأ.
2 أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "2/ 927/ رقم 1766، 1767" بإسنادٍ صحيح.
3 قاله في كتابه "بيان العلم" "2/ 827"، وفيه أن سليمان المذكور خاطب بهذا خالد بن الحارث، وكأن المؤلف يجعل هذه الرخص في المذاهب من زلات العلماء، ولولا أنها كذلك ما كانت شرورًا. "د".
4 ورد في الأصل -وهو خطأ-: "عدم الحذر".
5 أي: في غير تحقيق المناط؛ لأنه لا يحتاج إلى هذين كما سبق، وهو الموافق لقوله أيضًا أول المسألة: "وفي هذا الموطن -يشير إلى الأمر الكلي- حذر من زلة العلم"، وتحقيق المناط من الجزئي، وكأنه لم يعتد به زله -مع أنه كذلك-؛ لأن الذي يترتب على خلل تطبيق الأحكام الشرعية على مناطاتها من الفساد وضياع الحقوق أخف من الخطأ في الكليات؛ لأنها تعم وذلك يخص. "د".

 

ج / 5 ص -136-       والوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها، وهو وإن كان على غير قصد ولا تعمد وصاحبه معذور ومأجور، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم، وقد قال الغزالي: "إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرة وهي في نفسها صغيرة"، وذكر منها أمثلة، ثم قال: "فهذه ذنوب يتبع1 العالم عليها، فيموت العالم ويبقى شره مستطيرًا في العالم آماد2 متطاولة، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه"3، وهكذا الحكم مستمر في زلته في الفتيا من باب أولى، فإنه ربما خفي على العالم بعض السنة أو بعض المقاصد العامة في خصوص مسألته، فيفضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعًا يتقلد، وقولًا يعتبر في مسائل الخلاف، فربما رجع عنه وتبين له الحق فيفوته4 تدارك ما سار في البلاد عنه [ويضل عنه]5 تلافيه، فمن هنا قالوا: زلة العالم مضروب بها الطبل6.
فصل:
إذا ثبت هذا، فلا بد من النظر في أمور تنبني على هذا الأصل:
-منها: أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة7 ولا الأخذ بها تقليدًا له وذلك؛ لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عدت زلة، وإلا فلو كانت معتدًّا بها؛ لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير8، ولا أن يشنع عليه بها، ولا ينتقص

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "يتّسع".
2 كذا في "الإحياء"، وفي جميع النسخ بدلها: "أيامًا"!!
3 "إحياء علوم الدين" "4/ 33".
4 ولذلك كره مالك كتابة الفقه عنه. "د".
5 سقط من "م".
6 أسندها المعافي في "الجليس الصالح" "3/ 177" عن الخليل بن أحمد، وانظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 274".
7 في "ط": "جهته".
8 كيف هذا وقد جعل من أكثر أسباب هذا الخطأ الوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص، يعني: بحيث يصح أن يقال: إنه لم يبذل غاية الوسع والاجتهاد يتوقف عليه، فإذا لم يقم ببذل أقصى الوسع، ووقف عند حد كان يمكنه تجاوزه في البحث، يكون مقصرًا وغير آت بحقيقة الاجتهاد، فيكون ملومًا قطعًا، ويؤيد هذا قوله أول الفصل التالي: "لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد"، أما عدم التشنيع وعدم الانتقاض، فمسلمان للأدلة السابقة. "د".

 

ج / 5 ص -137-       من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة [بحتا]1، فإن هذا كله خلاف ما تقتضي2 رتبته في الدين، وقد تقدم من كلام معاذ بن جبل وغيره ما يرشد3 إلى هذا المعنى.
وقد روي4 عن ابن المبارك؛ أنه قال: "كنا في الكوفة فناظَرُوني في ذلك -يعني: [في]5 النبيذ المختلف فيه-، فقلت لهم: تعالوا فليحتج المحتج6 منكم عمن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة، فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة7 صحت عنه فاحتجوا. فما جاءوا عن واحد برخصة إلا جئناهم بشدة، فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود8 وليس احتجاجهم عنه في رخصة9 النبيذ بشيء يصح عنه. قال ابن المبارك: فقلت للمحتج عنه في الرخصة: يا أحمق! عُدَّ10 أن ابن مسعود لو كان ههنا جالسًا فقال: هو لك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المقعوفتين ساقط من الأصل، وشرحها "ماء": أي: خالصًا".
2 في "م": "تقتضي"، وفي "ماء": "تقتضيه".
3 وهو أن ذلك يكون إعانة للشيطان عليه، وذلك لا يجوز. "د".
قلت: ومضى كلام معاذ وتخريجه "ص133".
4 تأييد للبناء الأول "د".
5 سقطت من "ط".
6 أي: بالراوية والنقل عمن شاء من أصحابه صلى الله عليه وسلم النبيذ بأن يحكي عنه قولًا بإباحة شربه، فإن لم نبين الرد على ذلك المحتج برواية أخرى صحيحة عن ذلك الرجل تفيد القول بحرمته، فقد تم لكم ما أردتم. "ف".
7 مقابل للرخصة في كلامه. "د".
"8" انظر ما ورد عنه في "الأشربة" لابن قتيبة "ص21-22".
9 في "ط": "شدّة".
10 بضم أوله, وتشديد ثانيه، أي: هب أن ابن مسعود... إلخ. "ف" و"م".

 

ج / 5 ص -138-       حلال، وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة، كان ينبغي لك أن تحذر أو تحير أو تخشى. فقال قائلهم: يا أبا عبد الرحمن! فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام؟ فقلت1 لهم: دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال؛ فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن يكون منه زلة، أفلأحد أن يحتج بها؟ فإن أبيتم؛ فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة؟ قالوا: كانوا خيارًا. قال: فقلت: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدًا بيد؟ فقالوا: حرام. فقال ابن المبارك: إن هؤلاء رأوه حلالًا فماتوا وهم يأكلون الحرام، فبقوا وانقطعت حجتهم". هذا ما حكي2.
والحق ما قال ابن المبارك، فإن الله تعالى يقول:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} الآية [النساء: 59].
فإذا كان بينًا ظاهرًا أن قول القائل مخالف للقرآن أو للسنة، لم يصح الاعتدادُ به ولا البناءُ عليه، ولأجل هذا ينقض قضاء القاضي إذا خالف النص أو الإجماع، مع أن حكمه مبنيٌّ على الظواهر مع إمكان خلاف الظاهر، ولا ينقض مع الخطأ في الاجتهاد وإن تبين؛ لأن مصلحة نصب الحاكم تناقض3 نقض حكمه، ولكن ينقض مع مخالفة الأدلة؛ لأنه حكم بغير ما أنزل الله.
فصل:
-ومنها: أنه لا يصح اعتمادها خلافًا في المسائل الشرعية؛ لأنها لم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 استفهام إنكاري، أي: يلزم على رأيك أنهم كانوا يشربون المحرم. "د".
2 ذكر مناظرة ابن المبارك هذه للكوفيين مختصرة بسنده البيهقي في "السنن الكبرى" "8/ 289-299".
3 وإلا، لصح النظر في النقض أيضًا، وفي نقض النقض ويتسلسل، فلا ينفذ حكم، فتتعطل المصالح. "د".

 

ج / 5 ص -139-       تصدر في الحقيقة عن اجتهاده، ولا هي من مسائل1 الاجتهاد، وإن حصل من صاحبها اجتهاد، فهو لم يصادف فيها محلاّ، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد، وإنما يعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة، كانت مما يقوي أو يضعف، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء2 الدليل أو عدم مصادفته فلا، فلذلك قيل: إنه لا يصح أن يعتد بها في الخلاف، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، والمتعة، ومحاشي النساء3، وأشباهها من المسائل التى خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها.
فإن قيل: فماذا يعرف من الأقوال ما هو كذلك مما ليس كذلك؟
فالجواب: إنه من وظائف المجتهدين، فهم العارفون بما وافق أو خالف، وأما غيرهم، فلا تمييز لهم في هذا المقام، ويعضد هذا أن المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب، فمن الأقوال ما يكون خلافًا لدليل قطعي من نص متواتر أو إجماع قطعي في حكم كلي ومنها ما يكون خلافًا لدليل ظني والأدلة الظنية متفاوتة، كأخبار الآحاد والقياس الجزئية، فأما المخالف للقطعي؛ فلا إشكال في اطراحه4، ولكن العلماء ربما ذكروه للتنبيه عليه وعلى ما فيه، لا للاعتداد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنها ليست ظنية، بل من القطعيات التي لم تتردد طرفي النفي والإثبات. "د".
2 في "ماء": "خطأ".
3 جمع محشاة، وهي "في الأصل" مبعر الدواب أراد بها هنا أدبار النساء، وفي الحديث محاشي النساء حرام. "ف" و"م".
وقال "ماء": "أي: إتيانهن في أدبارهن".
4 قال الشافعي في "الرسالة" "ص560": "فإني أجد أهل العلم قديمًا وحديثًا مختلفين في بعض أمورهم، فهل يسعهم ذلك؟ قال: "الشافعي": فقلت له: الاختلاف من وجهين: أحدهما محرم، لا أقول ذلك في الآخر. قال: فما الاختلاف المحرم؟ قلت: كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصًا بينًا، لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه. وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياسًا، فذهب المتأول أو القياس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره، لم أقل: إنه يضيق عليه الخلاف في المنصوص".
قلت: وحدّه أدق مما ذكره المصنف، والله أعلم.

 

ج / 5 ص -140-       به، وأما المخالف للظني؛ ففيه الاجتهاد1 بناء على التوازن بينه وبين ما اعتمده صاحبه من القياس أو غيره.
فإن قيل: فهل لغير المجتهد من المتفقهين في ذلك ضابط يعتمده أم لا؟
فالجواب: إن له ضابطا تقريبيًا، وهو أن ما كان معدودًا في الأقوال غلطًا وزللًا قليل جدًّا في الشريعة، وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها، قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر، فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة، فليكن اعتقادك أن الحق [في المسألة] مع السواد الأعظم من المجتهدين2، لا من المقلدين.
فصل:
وقد عد ابن السيد3 هذا المكان من أسباب الخلاف، حين عدّ جهة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فطرحه رأسًا أو الاعتداد به خلافًا محتاج لاجتهاد المجتهد والموازنة... إلخ؛ فالمرجع في مثل ذلك للمجتهد. "د".
2 نعم، مخالفة الجماهير من العلماء المجتهدين مظنة الخطأ والزلل، ولكن لا يستلزم ذلك دائمًا، والعبرة بالحجة والدليل.
3 وهذا نص كلامه في كتابه "التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين" "ص165-166": "اعلم أن الحديث المأثور عن رسول الله وعن أصحابه والتابعين لهم رضي الله عنهم تعرض له ثماني علل: أولها: فساد الإسناد: والثانية: من جهل نقل الحديث على معناه دون لفظه، والثالثة: من جهة الجهل بالإعراب، والرابعة: من جهة التصحيف، والخامسة: أن ينقل المحدث بعض الحديث ويغفل نقل السبب الموجب له، أو بساط الأمر الذي جر ذكره، والسابعة: أن يسمع المحدث بعض الحديث ويفوته سماع بعضه، والثامنة: نقل الحديث من الصحف دون لقاء الشيوخ".

 

ج / 5 ص -141-       الرواية وأن لها ثماني علل: فساد الإسناد، ونقل الحديث على المعنى أو من الصحف1، والجهل بالإعراب، والتصحيف2، وإسقاط جزء3 الحديث، أو سببه، وسماع بعض الحديث وفوت بعضه، وهذه الأشياء ترجع إلى4 معنى ما تقدم إذا صح أنها في المواضع المختلف فيها علل حقيقة، فإنه5 قد يقع الخلاف بسبب الاجتهاد في كونها موجودة في محل الخلاف، وإذا كان على هذا الوجه، فالخلاف معتد به بخلاف الوجه الأول.
وأما القسم الثاني وهي:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ المطبوعة كلها: "المصحف"، وكتب "م" معلًَّقا": "أي: النقل من كتاب اشتهر بالتصحف".
قلت: الصواب ما أثبته، ووقع على الجادة في الأصل وفي "التنبيه" لابن السيد البطليوسي، انظر الهامش السابق.
2 التصحيف من الراوي غير النقل عن كتاب عرف فيه التصحيف، فهو علة أخرى. "د".
قلت: انظر الهامش السابق. وكتب "م": "المراد هنا الأخذ عن راوٍ يصحف فيما يرويه".
3 أي: أن الراوي مع علمه بباقي الحديث أو سببه لغرض صحيح في نظره، كأن يكون شاهده لما يدعيه يكفي فيه ما اقتصر عليه، وقد يكون في إسقاط السبب أو جزء الحديث ما يكون سببًا في خفاء المعنى المراد وتبادر خلافه، وهذا غير سماع بعض الحديث وفوات بعضه، فعذره في هذا أنه لم يسمع كل الحديث. "د".
4 أي: لأن الدليل الذي يوجد فيه شيء من هذه العلل لا يعد دليلًا معتبرًا، هذا إذا سلم وجودها في المحل، وقد لا يسلم فلا ترجع إلى ما تقدم، فيكون الخلاف الحاصل من اعتبار هذه الأدلة وعدم اعتبارها بناء على الخلاف في وجود هذه العلل فيها وعدم وجودها معتدًا به خلافًا، وهذا وجه كلام ابن السيد في عده هذا الموضع من أسبابه. "د".
5 بيان لعد ذلك من أسباب الخلاف. "د".

 

ج / 5 ص -142-       المسألة التاسعة:
فيعرض فيه أن يعتقد في صاحبه أو يعتقد هو في نفسه أنه من أهل الاجتهاد وأن قوله معتد به، وتكون مخالفته تارة في جزئي وهو أخف، وتارة في كلي من كليات الشريعة وأصولها العامة، كانت من أصول الاعتقادات أو الأعمال؛ فتراه آخذًا ببعض1 جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا راجع رجوع2 الافتقار إليها، ولا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وقد عرفت في كتاب الأدلة أنه يجب اعتبار الجزئيات بكلياتها، فلا ينقض جزئي قاعدة كلية، فمسألة العسل الذي لم يوافق الصفراوي الذي شربه لا ينقض مع قوله تعالى:
{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} القاعدة الكلية، وهي أن الشارع لا يخبر خبرًا يغاير المخبر عنه، ولا بد من رجوع* الدليل الجزئي إلى كلي آخر بأن يقيد هذه المطلق، ويقال فيه ما لم يكن صفراويًّا مثلًا أو يوكل فهمه إلى الله العالم بما أراد بهذه الجزئيات، مع أن الآية ليس فيها تعميم نفعه لجميع الناس، ومن الشاهد للمؤلف ما قاله بعض من يدعي لنفسه الفهم والاستنباط في الشريعة في هذا الزمان أنه لا يوجد حكم شرعي في غير العبادات إلا وهو قابل للتغيير، ويستدل على ذلك بأمور ككون الأحكام تتغير بتغير الزمان، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بشيء من أمور دنياكم، فإنما أنا بشر"**، وقولهم: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وهكذا أخذ بهذه الأمور على غير وجهتها، ولم يرجع إلى أهل العلم بها ليفهم معناها، فهدم بهذا الشريعة كلها، ولم يبق بيده من كلياتها سوى أن الشريعة وضعت للمصحة، وطبعًا المصلحة هي ما يوافق هواه، وما يظهر له ببادئ الرأي؛ لأنه لا يفهم مقاصد الشريعة إلا ما يزعمه هو مقصدًا ومصلحة. "د".
قلت: انظر في المعنى الذي ذكره المصنف هنا كتابه "الاعتصام" "2/ 712 - ط ابن عفان".
2 بل يرجع إليها رجوع الاستظهار بها على صحة غرضه في النازلة؛ فالمقصود إنما هو تنزيل الدليل على وفق غرضه، وتحكيم هواه في الدليل، فيكون الدليل تبعًا لهواه كما تقدم في المسألة الثالثة عشرة من كتاب الأدلة. "د".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في الأصل: "رجع".
** مضى تخريجه.

 

ج / 5 ص -143-       مسلم لما روي عنهم في فهمها، ولا راجع إلى الله ورسوله في أمرها كما قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59].
ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة في النفوس، الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل الواضح واطراح النصفة والاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الناظر ويعين على هذا الجهل بمقاصد الشريعة وتوهم بلوغ درجة الاجتهاد باستعجال نتيجة الطلب1، فإن2 العاقل قلما يخاطر بنفسه في اقتحام المهالك مع العلم بأنه مخاطر.
وأصل هذا القسم مذكور في قوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية [آل عمران: 7].
وفى "الصحيح" أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية، ثم قال:
"فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"3.
والتشابه4 في القرآن4 لا يختص بما نص عليه العلماء من الأمور الإلهية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: طلب العلم. "د".
2 أي: فهذا التوهم يجعله يفهم أنه لا يخاطر بعمله، ولو كان يفهم أنه يخاطر ما خاطر؛ لأن العاقل... إلخ. "د".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب
{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}، 8/ 209/ رقم 4547" عن عائشة رضي الله عنها.
4 أي: الأعم من الحقيقي والإضافي، وقوله: "بل هو من جملة... إلخ، أي: أن ما نصوا عليه من جملة... إلخ، ولذلك قال: "وأصل هذه المسألة مذكور في قوله تعالى"، أي: فالآية أصل عام شامل لما ذكر وما لم يذكر. "د".
قلت: انظر "الاعتصام" "1/ 71 و2/ 586، 737 - ط ابن عفان".

 

ج / 5 ص -144-       الموهمة للتشبيه، ولا العبارات المجملة ولا ما يتعلق بالناسخ والمنسوخ، ولا غير ذلك مما يذكرون، بل هو من جملة ما يدخل تحت مقتضى الآية؛ إذ لا دليل على الحصر، وإنما يذكرون من ذلك ما يذكرون على عادتهم في القصد إلى مجرد التمثيل ببعض الأمثلة الداخلة تحت النصوص الشرعية، فإن الشريعة إذا كان فيها أصل مطرد في أكثرها مقرر واضح في معظمها، ثم جاء بعض1 المواضع فيها مما يقتضي ظاهره مخالفة ما اطرد، فذلك من المعدود في المتشابهات التى يتقى اتباعها؛ لأن اتباعها مفض إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة، فإذا اعتمد على الأصول وأرجئ أمر النوادر، ووكلت إلى عالمها2 أو ردت إلى أصولها؛ فلا ضرر على المكلف المجتهد ولا تعارض في حقه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فمثلًا تنزيه الله عن متشابهة الخلق في الجسمية ولواحقها كالحركة أصل مطرد مقرر واضح، وجاء في الحديث قوله: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا... إلخ"، فهذا يتقى اتباعه، وإلا لأفضى إلى معارضة السابق المقرر، فإما أن نكل هذا إلى العالم سبحانه بمراده فنفوض، أو نؤوله ونرده إلى أصل آخر ثابت بتقدير مضاف أو غيره، وهذا في الأعمال كثير، فترى أحاديث ظاهرها مخالفة ما تقرر من أصول الأعمال، فيجرى فيها مثل هذا، لكن المغتر بما وصل إليه يستعمل هذه الجزئيات في نقض الكليات توصلًا إلى غرضه، وستأتي أمثلة كثيرة في الفصل التالي. "د".
قلت: قرر الشارح مذهب الخلف من التأويل أو التفويض، وهو ليس بصواب، على ما بيناه في التعليق على "4/ 11، 137".
2 إشارة إلى ما ذكره المؤلف في "الاعتصام" "2/ 587 - ط ابن عفان" عنه صلى الله عليه وسلم: "إن القرآن يصدق بعضه بعضًا، "فلا تكذبوا بعضه ببعض"، ما علمتم منه فاقبلوه، وما لم تعلموا منه فكلوه إلى عالمه". "د".
قلت: أخرجه أحمد "2/ 181، 185"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "4/ 192"، وابن الضريس في "فضائله"، وابن مردويه -كما في "الدار المنثور" "2/ 6"- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وإسناده حسن.

 

ج / 5 ص -145-       ودل على ذلك قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب} [آل عمران: 7]؛ فجعل المحكم -وهو الواضح المعنى الذي لا إشكال فيه ولا اشتباه- هو الأمُّ والأصلَ المرجوع إليه، ثم قال: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، يريد: وليست بأم ولا معظم، فهى إذا قلائل، ثم أخبر أن اتباع المتشابه منها شأن أهل الزيغ والضلال عن الحق والميل عن الجادة، وأما الراسخون في العلم، فليسوا كذلك، وما ذاك إلا باتباعهم أم الكتاب وتركهم الاتباع للمتشابه1.
وأم الكتاب يعم ما هو من الأصول الاعتقادية أو العملية2؛ إذ لم يخص الكتاب ذلك ولا السنة، بل ثبت في "الصحيح" عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"افترقتِ اليهودُ على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنين3 وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "لاتباع المتشابه".
2 هذا المقام وهو إثبات أن المتشابه لا يخص ما كان في قواعد الدين، بل يشمل الأعمال استوفاه "المصنف في" "الاعتصام" في المسألة الرابعة "2/ 709-712 - ط ابن عفان"، وقال هناك: "وقد تقررت هذه المسألة في كتاب "الموافقات" بنوع آخر من التقرير". "د".
3 على الشك، قال في "الاعتصام" في المسألة التاسعة "2/ 742 - ط ابن عفان": "الرواية الصحيحة في الحديث: إن افتراق اليهود كافتراق النصارى على إحدى وسبعين فرقة". "د".
4 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، 4/ 25/ رقم 2640" -وقال: "حديث حسن صحيح"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب شرح السنة، 4/ 197-198/ رقم 4596"-وهذا لفظه-، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، 2/ 1321/ رقم 3991"، وأحمد في "المسند" "2/ 332"، وأبو يعلى "10/ 317، 381-382، 502/ رقم 5910، 5978، 6117"، والآجرى في "الشريعة" "25"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 86، 128"، وابن حبان "14/ 140/ رقم 6247 - الإحسان و15/ 125/ رقم 6731 - الإحسان"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 66"، والمروزي في "السنة" "ص17"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 252"، وغيرهم عن أبي هريرة، وإسناده حسن.

 

ج / 5 ص -146-       وفي الترمذي تفسير هذا1 بإسناد غريب عن غير أبي هريرة، فقال في حديثه: "وأن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة". قالوا: من هي2 يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي"3.
والذي عليه النبي وأصحابه ظاهر في الأصول الاعتقادية والعملية على الجملة، لم يخص من ذلك شيء دون شيء.
وفي أبي داود:
"وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون، في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة"4، وهي بمعنى الرواية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ففيه تفسير الفرقة بالملة، وهي المناسبة للمقام. "د".
2 في "ط": "وما هي".
3 أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الإيمان، باب ما جاء في افترق هذه الأمة، 5/ 26/ رقم 2641" -وقال: "هذا حديث مفسر غريب، لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه"-، والآجرِّي في "الشريعة" "ص15، 16"، والمروزي في "السنة" "ص18"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 128"، وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" "ص85"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "2/ 262"، والأصبهاني في "الحجة في بيان المحجة" "رقم 16، 17"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 145-147" من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا.
وإسناده ضعيف، من أجل عبد الرحمن بن زياد الإفريقي؛ إلا أن للحديث شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن. انظر: "السلسة الصحيحة" "رقم 1348".
واستغرب المصنف في "الاعتصام" أيضًا "2/ 698 - ط ابن عفان" هذا الحديث، ولعل ذلك من أجل: "كلها في النار إلا واحدة"، كما حصل لابن الوزير في "العواصم والقواصم" "1/ 186 و3/ 172"، والصنعاني في "حديث افتراق الأمة" "ص95-97"، وللشوكاني في "فتح القدير" "2/ 56"، وغيره، ورد على ذلك بتفصيل حسن وعلى وجه قوي الشيخ صالح المقبلي في "العلم الشامخ" "ص414"، ونقل كلامه وأيده شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 204".
4 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب شرح السنة، 4/ 198/ رقم =

 

ج / 5 ص -147-       التي قبلها1.
وقد روى ما يبين هذا المعنى، ذكره ابن عبد البر بسند لم يَرضه2، وإن كان غيره قد هوَّن الأمر فيه، أنه قال: "ستفترقُ أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها3 فتنة الذين يقيسون الأمورَ برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال" فهذا نص على دخول الأصول العملية تحت قوله: "ما أنا عليه وأصحابي"، وهو ظاهر؛ فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 4597"، وأحمد في "المسند" "4/ 102"، والدارمي في "السنن" "2/ 158/ رقم 2521 "، والآجرى في "الشريعة" "ص18"، والمروزي في "السنة" "ص14، 15"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 1، 2، 65"، والطبراني في "الكبير" "19/ 376"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 128"، وابن بطة في "الإبانة" "رقم 245، 247"، والأصبهاني في "الحجة" "رقم 107"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "رقم 150"، وأبو العلاء الهمذاني في "فتيا وجوابها في ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف" "رقم 12" من طريق صفوان بن عمرو عن أزهر بن عبد الله الحرازي عن أبي عامر الهوزني عن معاوية مرفاعًا بألفاظ، والمذكور لفظ أبي داود، وهو قطعة من الحديث.
وإسناده حسن على أقل أحواله، وللحديث شواهد يصل بها إلى درجة الصحة، وحسنه ابن حجر في "الكافي" الشاف" "ص63"، وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" "1/ 118": "هذا حديث محفوظ"، وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء "3/ 230": "ولأبي داود من حديث معاوية، وابن ماجه من حديث حسن، وعوف بن مالك، "وهي الجماعة"، وأسانيدها جياد".
1 لأن التي تستحق اسم الجماعة هي التي اتبعت سبيله وسبيل أصحابه صلى الله عليه وسلم، وانظر تفسير كلمة "الجماعة" في المسألة السادسة عشر من "الاعتصام" "2/ 767-776". "د".
2 في "الاعتصام" "2/ 699-700/ ط ابن عفاف" أنه قدح فيه ابن عبد البر بهذه الرواية؛ لأن ابن معين قال: "إنه باطل لا أصل له"، قال بعض المتأخرين: روي عن جماعة من الثقات، وقد أشبع المؤلف الكلام على الحديث ورواياته في "الاعتصام" "2/ 699". "د".
قلت: الحديث منكر، وقد خرجناه وتكملنا عليه فيما مضى "1/ 98"، فانظره غير مأمور.
3 راجع المسألة الخامسة والعشرين من "الاعتصام" "2/ 795 - ط ابن عفان" لتبيين معنى القياس المذموم في الحديث. "د".

 

ج / 5 ص -148-       فصل:
وقد وجدنا في الشريعة ما يدلنا على بعض الفرق التى يظن أن الحديث شامل لها، وأنها مقصودة الدخول تحته، فإنه جاء في القرآن أشياء1 تشير إلى أوصاف يتعرف منها أن من اتصف بها، فهو آخذ في بدعة، خارج عن مقتضى الشريعة، وكذلك في الأحاديث الصحيحة، فمن تتبع مواضعها ربما اهتدى إلى جملة منها، وربما ورد التعيين في بعضها، كما قال عليه الصلاة والسلام في الخوارج: "إن من ضئضئ2 هذا قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية"3.
وفي رواية: "دعه -يعني: ذا الخويصرة-، فإن له أصحابًا َيحقُر أحدُكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ستأتي له في العلامات التفصيلية في الفصل التالي لهذا الفصل. "د".
2 الضئضئ؛ بكسر الضادين، وضمهما: الأصل والمعدن، وفي الحديث ان رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم، فقال له: اعدل؛ فإنك لم تعدل. فقال: "يخرج من ضئضئ هذا..." الحديث؛ أي: يخرج من أصله ونسله، والرمية: الصيد الذي ترميه، فتقصده وينفذ فيه سهمك، وقيل: كل دابة مرمية. "ف" و"م".
وقال "ماء": "ضئضئ، أي: خالص".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التوحيد، باب قول الله
{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه}، 13/ 415-416/ رقم 7432" -بنحوه-، والمذكور لفظ مسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2/ 741-742/ رقم 1064 بعد 143" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

 

ج / 5 ص -149-       يمَرقوُن من الإسلام...." الحديث إلى أن قال: "آيتُهم رجل أسودُ، إحدى عضُديه مثلُ ثَدْيِ المرأة أو مثل البَضْعةِ1 تَدَرْدَر2"..... إلخ3.
فقد عرَّف عليه الصلاة والسلام بهؤلاء، وذكر لهم علامة في صاحبهم، وبين من مذهبهم في معاندة الشريعة أمرين كُلِّيَّيْنِ:
أحدهما: اتبَّاع ظواهر القرآن على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده، والقطع بالحكم به ببادئ الرأي والنظر الأول، وهو الذي نبه عليه قوله في الحديث:
"يقَرءونَ القرآن لا يجُاوزُ حناجرهم"، ومعلوم أن هذا الرأي يصد عن اتباع الحق المحض، ويضاد المشي على الصراط المستقيم، ومن هنا ذم4 بعض العلماء رأي داود الظاهري، وقال: إنها بدعة ظهرت بعد المائتين، ألا ترى أن من جرى على مجرد الظاهر تناقضت5 عليه السور6 والآيات، وتعارضت في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البضعة، بالفتح، ومثلها الهبرة: القطعة من اللحم. "ف" و"م".
2 تددر، بفتح التاء، وسكون الراء، أي: ترجرج، وأصله تتدردر، فحذفت منه إحدى التائين. "ف" و"م".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" بنحوه "كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، 6/ 617-618/ رقم 3610، وكتاب الأدب ما جاء في الرجل "ويلك"، 10/ 552/ رقم 6163، وكتاب استتابة المرتدين، باب من ترك قتال الخوارج، 12/ 290/ رقم 6933"، ومسلم -والمذكور لفظه- في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2/ 744/ رقم 1064 بعد 148" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
4 في "الاعتصام" "2/ 784 - ط ابن عفان": "ومن البدع التي تتجارى بصاحبها كالكلب ما ذهب إليه الظاهرية، على رأي من عدها من البدع". "د".
قلت: انظر لزامًا ما قدمناه في التعليق على 3/ 420" عنهم، والله الموفق، لا رب سواه.
5 أي: فلا بد للناظر من التدبر والنظر في المقاصد حتى لا تتناقص السور والآيات عنده، والأخذ بالظاهر مؤد إلى هذا، فينطبق عليه الحديث. "د".
6 في "د": "الصور".

 

ج / 5 ص -150-       يديه الأدلة على الإطلاق والعموم.
وتأمل ما ذكره القتبي في صدر كتابه في "مشكل القرآن"1، وكتابه في "مشكل الحديث"2 يبين لك صحة هذا الإلزام، فإن ما ذكره هنالك آخذ ببادئ الرأي في مجرد الظواهر.
والثاني قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان على ضد ما دلت عليه جملة الشريعة وتفصيلها، فإن القرآن والسنة إنما جاءت للحكم بأن أهل الإسلام في الدنيا والآخرة ناجون، وأن أهل الأوثان هالكون، ولتعصم هؤلاء وتريق دم هؤلاء على الإطلاق فيهما والعموم، فإذا كان النظر في الشريعة مؤديا إلى مضادة هذا القصد، صار صاحبه هادمًا لقواعدها، وصادا عن سبيلها، ومن تأمل كلامهم في مسألة التحكيم مع علي بن أبي طالب وابن عباس3 وفى غيرها، ظهر له خروجهم عن القصد، وعدولهم عن الصواب، وهدمهم للقواعد، وكذلك مناظرتهم عمر بن عبد العزيز4، وأشباه ذلك.
فهذان وجهان ذكرا في الحديث من مخالفتهم لقواعد الشريعة الكلية اتباعًا للمتشابهات.
وقد ذكر الناس من آرائهم غير ذلك من جنسه، كتكفيرهم لأكثر الصحابة ولغيرهم ومنه سرى قتلهم لأهل الإسلام وأن الفاعل للفعل إذا لم يعلم أنه حلال أو حرام فليس بمؤمن، وأن لا حرام إلى ما في قوله:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر منه: "ص103-106".
2 انظر منه: "ص5-11 - ط الكتاب العربي"، ونقل كلامه المصنف في "الاعتصام" "2/ 760-764 - ط ابن عفان".
3 انظر تفصيل المناظرة عند المصنف في "الاعتصام" "2/ 696-698 - ط ابن عفان"، ومضى تخريجها "4/ 221-223".
4 انظر: "سيرة عمر بن عبد العزيز" "ص112-115، 147" لا بن عبد الحكم.

 

ج / 5 ص -151-       إِلَيَّ} الآية [الأنعام: 145]، وما سوى ذلك فحلال، وأن الإمام إذا كفر كفرت رعيته كلهم شاهدهم وغائبهم، وأن التقية لا تجوز في قول ولا فعل على الإطلاق والعموم، وأن الزاني لا يرجم بإطلاق، والقاذف للرجال لا يحد وإنما يحد قاذف النساء خاصة، وأن الجاهل معذور1 في أحكام الفروع بإطلاق، وأن الله سيبعث نبيا من العجم بكتاب ينزله الله عليه جملة واحدة ويترك شريعة محمد2، وأن المكلف قد يكون مطيعًا بفعل الطاعة غير قاصد بها وجه الله، وإنكارهم سورة يوسف من القرآن وأشباه ذلك3 وكلها مخالفة لكليات شرعية أصلية أو عملية.
ولكن الغالب في هذه الفرق أن يشار إلى أوصافهم ليحذر منها، ويبقى الأمر في تعيينهم مرجى كما فهمنا من الشريعة، ولعل عدم تعيينهم هو الأولى الذى ينبغي أن يلتزم ليكون سترًا على الأمة، كما سترت عليهم قبائحهم، فلم يفضحوا في الدنيا بها في الحكم الغالب العام، وأمرنا بالستر على المذنبين ما لم يبد لنا صفحة الخلاف، ليس كما ذكر عن بني إسرائيل أنهم كانوا إذا أذنب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يناقض قولهم سابقًا: إن الفاعل للفعل إذا لم يعلم أنه حلال أو حرام فليس بمؤمن، فلا يعذر بالجهل حتى ولا في الحكم بخروجه عن الإسلام، ولا يخفى أن ما سبق لهم في الفروع. "د".
قلت: العذر بالجهل في الفروع هو مذهب النجدات منهم، قاله البغدادي في "أصول الدين" "ص332".
2 هذا زعم اليزيدية، وإنكار سورة يوسف مذهب الميمونية منهم، أفاده البغدادي في "أصول الدين" "ص332-333"، وقال: "فهذه الفرقة منهم -أي: اليزيدية- مع الميمونية في أعداد المرتدين".
3 انظر: "أصول الدين" "ص332-333"، و"الملل والنحل" "1/ 114-138"، و"اعتقادات فرق المشركين" "51"، و"الفصل في الملل" "3/ 189"، و"التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع" "ص51".

 

ج / 5 ص -152-       أحدهم ليلًا1 أصبح وعلى بابه معصيته مكتوبة، وكذلك في شأن قرابينهم فإنهم كانوا إذا قربوها أكلت النار المقبول، منها وتركت غير المقبول وفي ذلك افتضاح المذنب، إلى ما أشبه ذلك، فكثير من هذه الأشياء خصت بها2 هذه الأمة، وقد قالت طائفة: إن من الحكمة في تأخير هذه الأمة عن سائر الأمم أن تكون ذنوبهم مستورة عن غيرهم، فلا يطلع عليها كما اطلعوا هم على ذنوب غيرهم ممن سلف.
وللستر حكمة أيضًا، وهي أنها لو أظهرت -مع أن أصحابها من الأمة-، لكان في ذلك داع إلى الفرقة والوحشة، وعدم الألفة التى أمر الله بها ورسوله حيث قال تعالى:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم} [الأنفال: 1].
"وقال:
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَات}3" [آل عمران: 105].
وقال:
{وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم: 31-32].
وفي الحديث:
"لا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "الاعتصام" "2/ 724" و"ط" فقط، وفي غيره: "أحدهم ذنبًا".
2 أي: بالستر فيها كما في "الاعتصام" "2/ 724 - ط ابن عفان". "د".
قلت: وفيه أيضًا: "وهذا الفصل مبسوط في كتاب "الموافقات" والحمد لله".
3 ما بين المعقوفتين سقط في "د". وهو مثبت في الأصل و"ف" و"م" و"ط"، وكذا في "الاعتصام" "2/ 725 - ط ابن عفان"، وما قبله وبعده فيه بحرفه ونصره.
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب ما ينهي عن التحاسد والتدابر 10/ 481/ رقم 6065، وباب الهجرة، 10/ 492/ رقم 6076"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة، باب تحريم التحاسد والبتاغض والتدابر، 4/ 1983/ رقم 2559" عن أنس رضي الله عنه.

 

ج / 5 ص -153-       وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين، وأخبر أن فساد ذات البين هي الحالقة، وأنها تحلق الدين1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد ذلك في أحاديث عديدة، منها:
ما أخرجه هناد في "الزهد" "رقم 1310" -ومن طريقه الترمذي في "الجامع" "أبواب صفة القيامة، 4/ 663/ رقم 2509"-، وأحمد في "المسند" "6/ 444-445"، والبخاري في "الأدب المفرد" "106"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأدب، باب في إصلاح ذات البين، 4/ 280/ رقم 4919"، والبيهقي في "الآداب" "رقم 130" عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ألا أخبركم بأفضل من درجة الصوم والصلاة والصدقة؟". قالوا: بلى. قال: "صلاح ذات البين، وإن فساد ذات البين هي الحالقة".
قال الترمذي: "هذا حديث صحيح، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين".
ثم أخرج برقم "2510"، وأحمد في "المسند" "1/ 165، 167"، والبزار في "المسند" "رقم 2002 - الزوائد"، وأبو يعلى في "المسند" "2/ 32/ رقم 669" عن الزبير مرفوعًا:
"دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفس محمد بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ أفشوا السلام". لفظ أبي يعلى.
وإسناده ضعيف، ولكنه حسن بشواهد، ولآخره:
"والذي نفسي بيده..." شاهد عن أبي هريرة، أخرجه مسلم في "صحيحه" "رقم 54"، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "رقم 260"، وزاد في آخره: "وإياكم والبغضة، فإنها هي الحالقة، لا أقول لكم: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين"، ولفظ الترمذي "رقم 2508" عنه مرفوعًا: "إياكم وسوء ذات البين، فإنها الحالقة".
وانظر: "غاية المرام" "414"، و"الإرواء" "2/ 239"، و"صحيح الأدب المفرد" "رقم 197".

 

ج / 5 ص -154-       والشريعة طافحة بهذا المعنى، ويكفي فيه ما ذكره المحدثون في كتاب "البر والصلة"، وقد جاء في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} الآية [الأنعام: 159]، أنه روي عن عائشة وأبي هريرة -وهذا حديث عائشة-، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة! إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، من هم؟". قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع، وأصحاب الضلالة من هذه الأمة، يا عائشة! إن لكل ذنب توبة؛ ما خلا أصحاب الأهواء والبدع، ليس لهم توبة، وأنا منهم بريء، وهم مني برءاء"1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطبراني في "الصغير" "1/ 203"، وأبو الشيخ -ومن طريقه الواحدي في "الوسيط" "2/ 342"-، وابن مردويه -كما في "تفسير ابن كثير" "2/ 204"-؛ وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 4"، وابن أبي حاتم في "العلل" "2/ 77/ رقم 2724"، الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" "ص209"، والبيهقي في "الشعب" "5/ 449-450/ رقم 7239 و7240"، وأبو نعيم في "الحلية" "4/ 137-138"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 144/ رقم 209" من طريق بقية ثنا شعبة أو غيره من مجالد عن الشعبي عن شريح عن عمر رفعه.
قال الطبراني: "لم يروه عن شعبة إلا بقية، تفرد به ابن مصفى"، وقال أبو نعيم: "هذا حديث غريب من حديث شعبة، تفرد به بقية".
قلت: إسناده ضعيف، فيه مجالد، ليس بالقوي، والحديث لم ينفرد به ابن المصفى كما قال الطبراني، وإنما تابعه جحدر بن الحارث كما قال الدارقطني في "العلل" "2/ 163"، وخالفهما وهب بن حفص الحراني -وكان ضعيفًا-، فرواه عن عبد الملك الجدي عن شعبة عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عمر، أخرجه ابن عدي في "الكامل" "7/ 5232" -وسقط متن الحديث من هذه الطبعة-، وقال: "رواه بقية عن شعبة عن مجالد عن الشعبي عن شريح عن عمر"، قال: "وجميعًا غير محفوظين".
وقال الدارقطني في "العلل" "2/ 164": "ولا يثبت عن شعبة ولا عن مجالد، والله أعلم"، ونقله ابن الجوزي وزاد: "أما بقية فكان يدلس، والظاهر أنه سمع من ضعيف فأسقط ذكره، فلا يوثق بما يروي"، وقال ابن كثير في "التفسير" "2/ 204": "وهو غريب أيضًا، ولا يصح رفعه"، وقال =

 

ج / 5 ص -155-       فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة والفرقة وترك الموالفة، لزم من ذلك أن يكون منهيًا عنه، إلا أن تكون البدعة فاحشة جدًّا كبدعة الخوارج، فلا إشكال في جواز إبدائها وتعيين أهلها، كما عين رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج وذكرهم بعلامتهم، حتى يعرفون ويحذر منهم. ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد، وما سوى ذلك، فالسكوت عن تعيينه أولى1".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الهيثمي في "المجمع" "1/ 188": "وفيه بقية ومجالد عن سعيد، وكلاهما ضعيف"، وهذا هو الصواب، فبقية مدلس، ولكنه قال "7/ 22": "وإسناده جيد"، وعاد في "10/ 189"، فقال: "وفيه بقية، وهو ضعيف"، وعزاه في المواطن كلها للطبراني في "الصغير"، وانظر: "مجمع البحرين" "1/ رقم 275 و6/ رقم 3320 ورقم 4712"، والحديث كما رأيت حديث عمر وليس حديث عائشة كما قال المصنف رحمه الله تعالى.
أما حديث أبي هريرة، فأخرجه ابن جرير في "التفسير" "8/ 105" من طريق بقية عن عباد ابن كثير عن ليث، والطبراني في "الأوسط" "1/ 384/ رقم 668" من طريق معلل عن موسى بن أعين عن سفيان الثوري عن ابن طاووس، كلاهما عن طاووس عن أبي هريرة به، ولفظه: "هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة"، وزاد عباد بن كثير: "وأهل الشبهات"، قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن سفيان إلا موسى، تفرد به معلل".
قال الهيثمي في "المجمع" "7/ 23": "ورجاله رجال الصحيح، غير معلل بن نفيل، وهو ثقة"، وقال ابن كثير في "التفسير" "2/ 203-204" عقب إسناد الطبراني: "هذا إسناد لا يصح، فإن عباد بن كثير متروك الحديث، ولم يختلق هذا الحديث، ولكنه وهم في رفعه، فإن سفيان الثوري عن ليث -وهو ابن أبي سليم- عن طاووس عن أبي هريرة في الآية، أنه قال: "نزلت في هذه الأمة"، وعزى الآلوسي في "روح المعاني" "8/ 68" حديث أبي هريرة أيضًا للحكيم الترمذي والشيرازي في "الألقاب" وابن مردويه".
1 قال في "الاعتصام" "2/ 726، 730": "إن التعيين يكون في موطنين: الأول ما أشار إليه هنا، والثاني: حيث تكون تلك الفرقة تدعو إلى ضلالتها وتزيينها في قلوب العوام، "ومن لا علم عنده"، فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس، "وهم من شياطين الإنس"، فلا بد من التصريح بأنهم من أهل البدعة والضلالة".
ولا يخفى عليك أن بدعة طائفة من أهل الأهواء في زماننا هذا كبعض محرري الصحف الأسبوعية قد جمعت الخستين: بدعة غاية في الشناعة والكفر، ثم الدعوة إليها بنشرها في الصحف وتزيينها بكل أنواع البهتان والزخرف، فلا حول ولا قوة إلا بالله. "د".

 

ج / 5 ص -156-       وخروج أبو داود عن عمرو1 بن أبي قرة، قال: "كان حذيفة بالمدائن، فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة، فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة، فيقول سلمان: حذيفة أعلم بما يقول. فيرجعون إلى حذيفة، فيقولون له: قد ذكرنا قولك لسلمان، فما صدقك ولا كذبك. فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة2، فقال: يا سلمان! ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب فيقول [في الغضب]3 لناس من أصحابه، ويرضى فيقول في الرضى لناس من أصحابه، أما تنتهي حتى تورث رجالًا حب رجال، ورجالًا بغض رجال، وحتى توقع اختلافًا وفرقة؟ ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب، فقال: "أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته [لعنة]4 في غضبي، فإنما أن من ولد آدم أغضب5 كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعاملين، فأجعلها عليهم صلاة يوم القيامة"6، فوالله لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في جميع النسخ المطبوعة: "عمر"، بضم العين، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، وكذا في "الاعتصام" "2/ 225 - ط رضا، و2/ 725 - ط ابن عفان" وفيهما: "ابن أبي مرة"، بالميم بدل القاف، وهو خطأ ثان، فليصحح.
2 أي: موضع البقل، وهو من النبات ما ليس بشجر. "ف" و"م".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
4 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
5 في "ط": "وأغضب".
6 أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في النهي عن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، 4/ 214-215/ رقم 4658"، وأحمد في "المسند" "5/ 437" عن عمرو بن أبي قرة، وإسناده صحيح. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"من أذيته فاجعله له زكاة ورحمة"، 11/ 171"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة، باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه أو دعا عليه، وليس هو أهلًا لذلك، كان له زكاةً وأجرًا ورحمة، 4/ 2008/ 2601" "91". وأخرجه مسلم من حديث عائشة وجابر وأم سلمة رضي الله عنهم.

 

ج / 5 ص -157-       فهذا من سلمان حسن من النظر، فهو جار في مسألتنا.
فإن قيل: فالبدع مأمور باجتنابها واجتناب أهلها والتحذير منهم والتشريد1 بهم وتقبيح ما هم عليه، فكيف يكون ذكر ذلك والتنبيه عليه غير جائز؟
فالجواب: إن النبي صلى الله عليه وسلم نبه في الجملة2 عليهم إلا القليل منهم كالخوارج، ونبه على البدع من غير تفصيل، وأن الأمة ستفترق على تلك العدة المذكورة، وأشار إلى خواص عامة فيهم وخاصة، ولم يصرح بالتعيين غالبًا تصريحًا يقطع العذر3، ولا ذكر فيهم علامة قاطعة لا تلتبس4، فنحن أولى بذلك معشر الأمة.
وما ذكره المتقدمون5 من ذلك فبحسب فحش تلك البدع، وأنها لاحقة في جواز ذكرها بالخوارج ونحوهم، مع أن التعيين إذا كان بحسب الاجتهاد، فهو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "والتشديد" بدالين!!
2 أي: تنبهًا إجماليًا لا تفصيليًا. "د".
3 حتى لا يسد عليهم باب التوبة بسبب العناد واليأس من رحمة الله. "د". وفي "د": "لقطع العذر".
4 أي: في غالبهم كما نبه عليه، أما مثل الخوارج، فقد تقدم له ذكر العلامة القاطعة "د".
5 من عد أهل البدع وتعيينهم بأسمائهم وإيصال هذه الفرق إلى اثنتين وسبعين فرقة، وقوله: "إذا كان بحسب الاجتهاد"، أي: كما هو الشأن في تعيين المتقدمين لهذه الفرق، أي فليس هذا التعيين جاريًا مجرى الحكم الفصل، وقد عقد في "الاعتصام" "2/ 718-720 - ط ابن عفان" مسألة خاصة لتعيين هذه الفرق الاثنتين والسبعين. "د".

 

ج / 5 ص -158-       ممكن أن يكون هو المراد في نفس الأمر أو بعضه، فمن بلغ رتبة الاجتهاد اجتهد والأصل ما تقدم من الستر، حتى يظهر أمر فيكون له حكمه، ويبقى النظر: هل هذ الظاهر من جملة ما يدخل1 تحت الحديث، أم لا؟ فهو موضع اجتهاد.
وأيضًا، فإن البدع المحدثة تختلف، فليست كلها في مرتبة واحدة في الضلال، ألا ترى أن بدعة الخوارج مباينة غاية المباينة لبدعة التثويب بالصلاة التي قال فيها مالك: "التثويب2 ضلال"؟
وقد قسم المتقدمون3 البدع إلى ما هو مكروه، وإلى ما هو محرم، ولو كانت عندهم على سواء، لكانت قسمًا واحدًا، وإذا كان كذلك، فالبدع التي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فيكون صاحبه في النار، وهل دوامًا أم كبقية عصاة المؤمنين؟ ويرجع ذلك إلى درجة البدعة وكونها مكفرة أو لا، وكونها صغيرة أو كبيرة. "د".
2 قال المؤلف في "الاعتصام" "2/ 556": "وقد فسر التثويب الذي أشار إليه مالك بأن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس، قال بين الأذان والإقامة: قد قامت الصلاة، حي على الفلاح! وهذا نظير قولهم عندنا: الصلاة رحمكم الله، وقيل: إنما عني بذلك قول المؤذن في أذانه: حي على خير العمل؛ لأنها كلمة زادها في الأذان من خالف السنة من الشيعة" اهـ. يعني: وأما جملة "الصلاة خير من النوم" في أذان الصبح، فهي مطلوبة داخلة في جمل الأذان المشروعة. "د".
وكتب "ف" -وتبعه "م"- في تفسير "التثويب" ما نصه: "أي: ترجيع المؤذن بالصلاة، وفي حديث بلال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أثوب في شيء من الصلاة إلا صلاة الفجر، وهو قوله: "الصلاة خير من النوم" مرتين من ثاب يثوب إذا رجع".
قلت: انظر بدع الأذان عن المصنف: "فتاوى الشاطبي" "ص217"، و"الاعتصام" "2/ 102-103/ ط رضا".
3 قال المصنف في "الاعتصام" "1/ 241": "وبسط ذلك القرافي "في الفروق" "4/ 202-205"، وأصل ما أتى به من ذلك شيخه عز الدين عبد السلام "في قواعد الأحكام" "2/ 172-174"، و"الفتاوى" "116"، وها أنا آتي به على نصه... وساقه".
انظر: "القواعد" للمقري" "2/ 438، القاعدة الرابعة والتسعون بعد المئة".

 

ج / 5 ص -159-       تفترق بها الأمة مختلفة الرتب في القبح، وبسب ذلك يظهر أنها كثيرة جدًا.
وما في الحديث محصور، فيمكن أن يكون بعضها غير داخل في الحديث، أو يكون بعضها جزءًا من بدعة فوقها أعظم منها، أو لا تكون داخلة من حيث هي عند العلماء من قبيل المكروه1، فصار القطع على خصوصياتها فيه نظر واشتباه، فلا يقدم على ذلك إلا ببرهان قاطع، وهذا كالمعدوم فيها، فمن هذه الجهات صار الأولى ترك التعيين فيها.
فإن قيل2: فالعلماء يقولون خلاف هذا، وإن الواجب هو التشريد3 بهم والزجر لهم، والقتل ومناصبة القتال إن امتنعوا، وإلا أدى ذلك إلى فساد الدين.
فالجواب: إن ذلك حكم فيهم [كما هو في سائر من تظاهر بمعصية صغيرة أو كبيرة أو دعا إليها أن يؤدب أو يزجر أو يقتل إن امتنع] من فعل واجب أو ترك محرم، كما يقتل تارك الصلاة، وإن كان مقرًا إلى ما دون ذلك، وإنما الكلام في تعيين أصحاب البدع من حيث هي بدع يشملها الحديث، فتوجه4 الأحكام شيء والتعيين للدخول تحت الحديث شيء آخر5.
فصل:
ولهؤلاء الفرق خواص وعلامات في الجملة، وعلامات أيضًا في التفصيل6.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فلا تدخل في الحديث الذي يجعل صاحب البدعة في النار. "د".
2 ترق في السؤال ووصول به فوق التعيين إلى القتل ومناصبة القتال، وجوابه فيما سبق يمنع التعيين، وكذلك هنا حيث يقول: إن دخولهم تحت الأحكام شيء ودعوى دخولهم تحت الحديث شيء آخر. "د".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "التشديد".
4 في الأصل و"ط": "فتوجيه".
5 أي: فهما مقامان لا يشكل أحدهما على الآخر. "د"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
6 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "19/ 114-116".

 

ج / 5 ص -160-       فأما علامات الجملة فثلاث:
إحداها: الفرقة التى نبه عليها قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].
وقوله:
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105].
وغير ذلك من الأدلة.
قال بعض المفسرين1: "صاروا فرقا لاتباع أهوائهم، وبمفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافترقوا، وهو قوله:
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159]، ثم برأه الله منهم بقوله: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، وهم أصحاب البدع [وأصحاب الضلالات] والكلام فيما لم يأذن الله فيه ولا رسوله".
قال: "ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين، ولم يفترقوا ولم يصيروا2 شيعًا؛ لأنهم لم يفارقوا الدين، وإنما اختلفوا فما أذن لهم من اجتهاد الرأي، والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصًّا، واختلفت في ذلك أقوالهم، فصاروا محمودين؛ لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به، كاختلاف أبي بكر وعمر [وعلي] وزيد في الجد مع الأم3، وقول عمر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "الاعتصام" "2/ 733 - ط ابن عفان": "قال بعض العلماء..." وساقه بنصه، وما بين المعقوفتين منه، وسقط من الأصل و"ط" في الأصل و"ط" وجميع النسخ المطبوعة.
وانظر في تفسير الآية: "الكشاف" "2/ 50"، و"تفسير القرطبي، "7/ 149-150"، و"نظم الدرر" "7/ 344-335"، و"روح المعاني" "8/ 68".
2 في "الاعتصام": "ولم يتفرقوا، ولا صاروا....".
3 وكذا في "الاعتصام" "2/ 734 - ط ابن عفان"، وفي هامش الأصل: "لعله "مع الإخوة""، وكذا أثبته "د"، وفصل "ف"، فقال: "لعله في الأخوة مع الجد إذ لا نعلم خلافًا بين =

 

ج / 5 ص -161-       .....................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= العلماء في إرث الجد مع الأم، وقد أجمعوا على أن الجد عاصب مع ذوي الفرائض يأخذ ما أبقته الفروض، فإذا انفرد مع الأم يرث الباقي بعد فرض الثلث لها، ولا يحجبه إلا الأب، واختلفوا في حجبه الأخوة أشقاء أو لأب، فذهب ابن عباس وأبو بكر رضي الله تعالى عنهما وجماعة من الفقهاء إلى أنه يحجبهم كالأب، وذهب آخرون ومنهم زيد وعلي وعمر رضي الله عنهم إلى إرثهم معه".
قلت: يتأكد هذا التصويب بأمور:
أولًا: هذا هو المثبت في كتب الأصول، انظر على سبيل المثال: "مختصر المنتهى" "ص199".
ثانيًا: وهذا هو المثبت في كتب التخريج، انظر على سبيل المثال: "تحفة الطالب" "ص437"، و"موافقة الخبر الخبر" "1/ 158-160".
ثالثًا: وهذا هو المثب أيضًا في كتب الحديث والرواية، وإليك ما يدل عليه: أخرج البيهقي في "الكبرى" "6/ 248" عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كتب إلى معاوية في شأن الجد، قال: "وجرى بيني وبين عمر كلام في الجد مع الأخوة، وكنت أرى يومئذ أن الأخوة أقرب حقًا إلى أخيهم من الجد، وكان هو يرى أن الجد أقرب".
وحسنه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" "1/ 160"، وأخرج الدارمي "رقم 2910، 2911" مذهب أبي بكر، وقال ابن حجر عنه: "هذا موقوف صحيح، وثبت عن أبي بكر من طريق أخرى من رواية ابن عباس وابن الزبير وأبي سعيد الخدري وغيرهم، وبعضها في البخاري".
قلت: قال البخاري في "صحيحه" "كتاب الفرائض، باب ميراث الجد مع الأب والإخوة 8/ 18 - مع الفتح": "وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير: الجد أب، وقرأ ابن عباس:
{يَا بَنِي آدَم} و{اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ولم يذكر أن أحدًا خالف أبا بكر في زمانه وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرون، وقال ابن عباس: يرثني ابن ابني دون إخوتي ولا أرث أنا ابن ابني". قال: "ويذكر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد أقاويل مختلفة".
قلت: انظرها مع الكلام عليها في "تغليق التعليق" "5/ 214-222"، وخلاصة ما في هذا الباب أن المال للجد ثابت عن أبي بكر، وتابعه عمر وعثمان وابن عباس وابن الزبير وغيرهم، ثم رجع بعضهم إلى القول بالمقاسمة، وهو قول الأكثر، وأما القول بحرمان الجد، فجاء عن زيد وعلي وعبد الرحمن بن غنم، ثم رجع علي وزيد إلى المقاسمة. =

 

ج / 5 ص -162-       وعلي في أمهات1 الأولاد، وخلافهم في الفريضة المشتركة2، وخلافهم في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وانظر في المسألة: "سنن سعيد بن منصور" "1/ 62-72 - ط الأعظمي"، و"المحلي"، "10/ 364-376"، و"إعلام الموقعين" "1/ 212"، و"المبسوط" "29/ 144، 180-181"، و"شرح الرحبية" "44"، و"تحفة الطالب" "ص438-440" لابن كثير، و"أحكام التركات والمواريث" "ص158 وما بعدها"، و"الميراث في الشريعة الإسلامية" "ص175-187"، و"عدة الباحث في أحكام التوارث" "32".
1 أي: في جواز بيعهن كما رأى بعض من كبار الصحابة، أو عدم جوازه كما هو رأي الجمهور. "د".
وكتب "ف" ما نصه: "هل يجوز بيعهن أولًا؟ فإن العلماء اختلفوا في أم الولد، فالثابت عن عمر رضي الله عنه أنه قضى بأنها لا تباع"، وأنها حرة من رأس مال سيدها إذا مات، وهو قول أكثر التابعين وجمهور فقهاء الأمصار، والثابت عن أبي بكر وعلي وابن عباس وابن الزبير أنهم يجيزون بيعها، وبه قال الظاهرية".
قلت: أخرج اختلاف عمر وعلي في ذلك: عبد الرزاق في "المصنف" "7/ 291-292/ رقم 13224" بإسناد صحيح، ومضى تخريج ذلك.
2 أي: التي ورد فيها: "هب أبانا كان حجرًا في اليم". "د".
وكتب "ف" ما نصه: "وهي امرأة توفيت عن زوج وأم وأخوة لأم وأخوة أشقاء، فكان عمر وعثمان وزيد بن ثابت رضى الله عنهم يعطون للزوج النصف وللأم السدس وللإخوة لأم الثلث فلا يبقى للإخوة الأشقاء شيء، فكانوا يشركونهم مع الإخوة للأم في الثلث: يقسمونه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وبه قال مالك والشافعي وجماعة من الفقهاء، وكان علي رضي الله عنه وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري لا يشركون الأشقاء مع الأخوة للأم في هذه الفريضة ولا يوجبون لهم شيئًا فيها، وبه قال أبو حنيفة وأبو ليلى وأحمد رضي الله عنهم".
قلت: أخرج سعيد بن منصور في "السنن" "رقم 20، 21 - ط الأعظمي"، وسفيان الثوري في "الفرائض" "رقم 22"، وابن أبي شيبة في "المصنف" "11/ 255" -وهذا لفظه-، وعبد الرزاق في "المصنف" "10/ 251"، والدارمي في "السنن" "2/ 251"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "6/ 256" بإسناد صحيح من طرق عن إبراهيم، قال: إن عمر وزيدًا وابن مسعود كانوا يشركون في زوج وأم وإخوة لأم وأب وأخوات لأم، يشركون بين الإخوة من الأب والأم مع الأخوة للأم في سهم، وكانوا يقولون: لم يزدهم الأب إلا قربًا، ويجعلون ذكورهم وإناثهم فيه سواء"، وعدم مشاركة علي في "سنن سعيد" "رقم 26" وفيه "برقم 28 و29" مذهب أبي موسى.

 

ج / 5 ص -163-       الطلاق1 قبل النكاح، وفي البيوع... وغير ذلك مما اختلفوا فيه، وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح [و] أخوة الإسلام فيما بينهم قائمة، فلما حدثت [الأهواء]2 المردية3 التى حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت العداوات، وتحزب أهلها فصاروا شيعًا، دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التى ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه".
قال: "فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها، ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة، علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز4 والقطيعة، علمنا أنها ليست

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: تعليق الطلاق على النكاح، كأن يقول: إن تزوجت فلانه فهي طالق، وفيها الأقوال الثلاثة لمالك وأبي حنيفة والشافعي. "د".
وكتب "ف" ما نصه: "أي: العقد مثل أن يقول: إن نكحت فلانه فهي طالق، فإن للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب: قول أن الطلاق لا يتعلق بأجنبية أصلًا عم المطلق أو خص، وهو قول الشافعي وأحمد وجماعة، وقول أنه يتعلق بشرط التزويج عمم المطلق جميع النساء أو خصص، وهو قول أبي حنيفة وجماعة، وقول أنه إن عم جميع النساء لم يلزمه وإن خص لزمه، وهو قول مالك وأصحابه، مثل أن يقول: كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو من بلد كذا فهي طالق، فإن هؤلاء يطلقن عند مالك إذا زوجن.
2 ما بين المعقوفتين سقط من "د" و"ماء".
3 في "د": "المرذية"، بالذال المعجمة، وكتب "د": "الذي في "الاعتصام" "2/ 734" بالدال المهملة، وكل له وجه، فإن الأهواء موقعة في الهلاك والردى، كما أنها مرذية جالبة للأرذاء والمضعفات، وفي الأصل: "حظر"، ولكن عليها علامة التوقف والشك".
قلت: وفي الأصل و"م" و"ف" و"ط" بالدال.
4 هو التعاير، فكل فرقة تعير غيرها بالمروق، وتسمى غيرها باسم ولقب تكرهه. "د".
وفي "ط": "التدابر"، وقال "ف": "لعله": "والتدابر" كما في "الاعتصام"". قلت: في "الاعتصام" "2/ 734": "... الاختلاف بينهم العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة".

 

ج / 5 ص -164-       من أمر الدين في شيء، وأنها التى عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية، وهى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159]، وقد تقدمت، فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، فإذا اختلفوا وتقاطعوا، كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى".
هذا ما قاله1، وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك، فخارج عن الدين.
وهذه الخاصية موجودة في كل فرقة من تلك الفرق2، ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبي عليه الصلاة والسلام في قوله:
"يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان"3، وأي فرقة توازي هذا إلا الفرقة التى4 بين أهل الإسلام وأهل الكفر! وهكذا تجد الأمر في سائر من عرف من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"الاعتصام" "2/ 735": "قاله"، وفي جميع النسخ المطبوعة و"ماء": "قالوه".
2 أي: المضمنة في الحديث كما في "الاعتصام" "2/ 735". "د".
3 مضى تخريجه "ص148"، وهو في "الصحيحين".
4 أي: هم وإن كانوا ينطقون، بكلمة التوحيد، ويصلون، ويزعمون أنهم مسلمون، إلا أن خاصيتهم التي ذكرها الحديث تجعل فرقتهم عن المسلمين لا يوازيها إلا فرقة الكفار عن المسلمين، فلا فرق بينهم وبين الكفار في الواقع، فكلمة "إلا" لازمة وإن كانت عبارة "الاعتصام" بدونها، ولكني ما رأيت كتابًا في مثل تحريف طبعة "الاعتصام" "الحالية". "د".
قلت: قال "ف": "لعله كما في "الاعتصام": "توازي هذه الفرقة التي..."، والمذكور آنفًا رد عليه".

 

ج / 5 ص -165-       الفرق أو من ادعى ذلك فيهم1.
والخاصية الثانية: هي التى نبه عليها قوله تعالى:
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَة} الآية [آل عمران: 7]، فجعل أهل الزيغ والميل عن الحق ممن شأنهم اتباع المتشابهات، وقد تبين معناه.
وقال عليه الصلاة والسلام:
"فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"2.
والخاصية الثالثة3: اتباع الهوى، وهي التى نبه عليها قوله:
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7]، وهو الميل عن الحق اتباعًا للهوى. وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّه} [القصص: 50].
وقوله:
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْم} الآية [الجاثية: 23].
إلا أن هذه الخاصية راجعة إلى كل أحد في خاصة نفسه؛ لأنها أمر باطن، فلا يعرفها غير صاحبها، إلا أن يكون عليها دليل في الظاهر، والتي قبلها راجعة إلى العلماء الراسخين في العلم؛ لأن بيان المحكم والمتشابه راجع إليهم، فهم يعرفونها ويعرفون أهلها بمعرفتهم لها، والتي قبلها تعم جميع العقلاء من أهل الإسلام؛ لأن التواصل أو التقاطع معروف للناس كلهم، وبمعرفته يعرف أهله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زاد في "الاعتصام" "2/ 735": "إلا أن الفرقة لا تعتبر على أي وجه كانت؛ لأنها تختلف بالقوة والضعف، وحيث ثبت أن مخالفة هذه الفرق في الفروع الجزئية، فإن الفرقة بلا بد أضعف، فيجب النظر في هذا كله".
2 مضى تخريجه "ص143"، وهو في "صحيح البخاري" وغيره.
3 يراجع الكلام في الخواص الثلاث في "الاعتصام" "2/ 732-742" في المسألة الثامنة من الجزء الثاني ليزيد اتضاحًا. "د".

 

ج / 5 ص -166-       وأما العلامات التفصيلية في [كل]1 فرقة، فقد نبه عليها وأشير إليها2، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}... إلى قوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء: 59-60].
وقوله:
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية [الأنعام: 116-117].
وقوله:
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] إلى آخرها.
وقوله:
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} الآية [التوبة: 37].
وقوله:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَه} الآية [يس: 47].
وقوله:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْف} [الحج: 11] إلى آخر الآيتين.
وقوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاء}... إلى قوله: {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُم} [المائدة: 101-105].
وقوله:
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا} الآية [الأنعام: 140].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سقطت من "د".
2 قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 742 - ط ابن عفان" "... فقد نبه عليها، وأشير إلى جملة منها في الكتاب والسنة، وفي ظني أن من تأملها في كتاب الله وجدها منبها عليها ومشارًا إليها، ولولا أنا فهمنا من الشرع الستر عليها، لكان في الكلام في تعيينها مجال متسع مدلول عليه بالدليل الشرعي، وقد كنا هممنا بذلك في ماضي الزمن، فغلبنا عليه، ما دلنا على أن الأولى خلاف ذلك".
قلت: يشير بقوله: "في ماضي الزمن" إلى صنيعه هنا.

 

ج / 5 ص -167-       وقوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْن}... إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 143-144].
إلى غير ذلك مما نبه عليه القرآن الحكيم.
وكذلك في الحديث، كقوله:
"إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا"1.
وكذلك ما تقدم ذكره في قسم زلة العالم وغيره مما في الأحاديث المختصة بهذا المعنى، وإنما نبه عليها لتنبيه الشرع عليها ولم يصرح بها على الإطلاق2 لما تقدم ذكره، فمن تهدى3 إليها فذاك، وإلا، فلا عليه أن لا يعلمها، والله الموفق للصواب.
فصل:
ومن هذا4 يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علمًا بالأحكام، بل ذلك ينقسم، فمنه ما هو مطلوب النشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص.
ومن ذلك تعيين هذه الفرق، فإنه وإن كان حقًّا فقد يثير فتنة، كما تبين تقريره فيكون من تلك الجهة ممنوعًا بثه.
ومن ذلك علم المتشابهات والكلام فيها، فإن الله ذم من اتبعها، فإذا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 97"، وهو في "الصحيحين".
2 تصريحًا يعين أصحابها تعيينًا تامًا بالأسماء والألقاب. "د".
3 في الأصل: "اهتدوا".
4 في "ط": "ومن هنا يعلم...".

 

ج / 5 ص -168-       ذكرت وعرضت للكلام فيها، فربما أدى ذلك إلى ما هو مستغنى عنه، وقد جاء في الحديث عن علي: "حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟"1.
وفى "الصحيح" عن معاذ أنه عليه الصلاة والسلام قال:
"يا معاذ! تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله..." الحديث إلى أن قال: قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا"2.
وفى حديث آخر عن معاذ في مثله قال: "يا رسول الله! أفلا أخبر بها فيستبشروا؟ فقال:
"إذن يتكلوا"3. قال أنس: فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الديلمي في "الفردوس" "2/ 129/ رقم 2656" عن الحسين بن علي مرفوعًا، وهو في "ضعيف الجامع" "رقم 2701"، وقال العزيزي في "السراج المنير" "2/ 223": "وهو في البخاري موقوف على علي، وإسناد المرفوع واهٍ، بل قيل: موضوع".
قلت: أخرجه موقوفًا على علي رضي الله عنه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا، رقم "127"، وانظر في معناه: "فتح الباري" "1/ 225"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 260، 261"، ومضى موقوفًا "1/ 124".
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب اللباس، باب إرداف الرجل خلف الرجل، 10/ 397-398/ رقم 5967"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/ 58-59/ رقم 30 بعد 49".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب من خص العلم قومًا دون قوم...، 1/ 226/ رقم 128 و129"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/ 61/ رقم 32 بعد 53" عن أنس رضي الله عنه.
4 كان معاذ بين عاملين: النهي عن كتمان العلم بإطلاق، والنهي عن تبليغ هذه المسألة من الرسول صلى الله عليه وسلم فلعله فهم عند موته أن النهي لم يكن تحتيمًا أو النهي في حال أو أن العلة غير محققة بل متوهمة، ويدل عليه حديث عمر بعده، فإن قوله فيه: "فخلهم" بعد الإذن لأبي هريرة وتبشيره بالفعل دليل على أن في الأمر فسحة بين الفعل والترك، وأن المصلحة الشرعية لا تتنافى =

 

ج / 5 ص -169-       ونحو من هذا عن عمر بن الخطاب مع أبى هريرة، انظره في كتاب مسلم والبخاري، فإنه قال فيه عمر: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك: "من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بشره بالجنة؟" قال: "نعم". قال: فلا تفعل؛ فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فخلهم"1.
وحديث ابن عباس عن عبد الرحمن بن عوف، قال: "لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل، فقال: إن فلانًا يقول: لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانًا. فقال عمر: لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= معهما، على أنه يمكن أن ينازع في إفادة قوله صلى الله عليه وسلم: "فخلهم" للنهي المطلق عن تبليغ هذه المسألة "د".
وكتب في "ف" ما نصه: "قوله "تأثمًا"، أي: تاجنبًا للإثم، يقال: تأثم فلان إذا فعل فعلًا يخرج به عن الإثم، ومعنى تأثم معاذ أنه كان يحفظ علمًا يخاف ذهابه بموته، فخشي أن يكون ممن كتم علمًا ولم يبلغ سنة فيأثم، فاحتاط وأخبر بهذه السنة خشية الإثم".
وقال "ماء": "أي: تخريجًا من الإثم".
1 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/ 59-61/ رقم 31 بعد 52" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وعزو المصنف الحديث للبخاري خطأ، ولم يعزه إلا لمسلم المزي في "تهذيب الكمال" "10/ 442/ رقم 14843"، والنووي في "رياض الصالحين" "ص306-307"، تحقيق شيخنا الألباني.
وكتب "د" في الهامش: "لفظ مسلم: "مستعينًا بها"".
قلت: في "صحيح مسلم": "مستيقنًا بها"، وفي النسخ المطبوعة من كتابنا "مستيقنًا به"، فلعل خطأ مطبعيًا وقع في تعليق "د"، ومراده تصويب "به"، والله أعلم.
2 كذا في الأصل و"ف" و"ط": "يريدون يغصبونهم"، وفي "د" و"م": "يريدون يغصبونهم"، وقال: "ف" وتبعه "م": "لعله" "يعصبونهم"، أي: يسودونهم ويملكونهم من التعصيب ويراجع". =

 

ج / 5 ص -170-       قلت: لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس ويغلبون1 على مجلسك، فأخاف أن لا ينزلوها2 على وجهها، فيطيروا بها كل مطير وأمهل3 حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة، فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، ويحفظوا4 مقالتك وينزلوها على وجهها. فقال: والله لأقومن [به]5 في أول مقام أقومه بالمدينة"6 الحديث.
ومنه حديث سلمان مع حذيفة، وقد تقدم7.
ومنه أن لا يذكر للمبتدئ من العلم ما هو حظ المنتهي، بل يربي بصغار

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قلت: الصواب ما أثبتناه، وهي رواية البخاري كما سيأتي، قال ابن حجر في "الفتح" "12/ 147": "وكذا في رواية الجميع بغين معجمة وصاد مهملة، وفي رواية مالك: "يغتصبوهم" بزيادة مثناة بعد الغين المعجمة، وحكى ابن التين أنه روي بالعين المهملة وضم أوله من "أعضب"، أي: صار لا ناصر له، والمعضوب: الضعيف، وهو من عضب الشاة: إذا انكسر أحد قرنيها أو قرنها الداخل وهو المشاشي، والمعنى، أنهم يغلبون على الأمر فيضعف لضعفهم، والأول أولى، والمراد أنهم يثبون على الأمر بغير عهد ولا مشاورة، وقد وقع ذلك بعد علي، على وفق ما حذره عمر رضي الله عنه.
1 في "صحيح البخاري": "يغلبون" من غير واو.
2 في "د": "ينزلها".
3 في "صحيح البخاري": "فأمهل".
4 في "صحيح البخاري": "فيحفظوا".
5 سقط من جميع النسخ، وأثبتها من "صحيح البخاري".
6 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم وما اجتمع، 13/ 303/ رقم 7323"، وهذا لفظه.
وأخرجه البخاري بنحوه في "صحيحه" "كتاب مناقب الأنصار، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، 7/ 264/ رقم 3928"، وكتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، 12/ 144/ رقم 6830"، وأحمد في "المسند" "1/ 55".
7 انظره وتخريجه: "ص156".

 

ج / 5 ص -171-       العلم قبل كباره، وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها وإن كانت صحيحة في نظر الفقه، كما ذكر عز الدين بن عبد السلام في مسألة1 الدور في الطلاق، لما يؤدي إليه من رفع حكم الطلاق، بإطلاق وهو مفسدة.
من ذلك سؤال العوام عن علل مسائل الفقه وحكم التشريعات، وإن كان لها علل صحيحة وحكم مستقيمة، ولذلك أنكرت عائشة على من قالت: لم تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة؟ وقالت لها: أحروية أنت2؟ وقد ضرب عمر بن الخطاب صبيغًا وشرد به لما كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل3، وربما أوقع خيالًا وفتنة وإن كان صحيحًا، وتلا قوله تعالى:
{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]. فقال: هذه الفاكهة، فما الأب؟ ثم قال: ما أمرنا بهذا4.
إلى غير ذلك مما يدل على أنه ليس كل علم يبث وينشر5 وإن كان حقًا وقد أخبر مالك عن نفسه أن عنده أحاديث وعلمًا ما تكلم فيها ولا حدث بها، وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل، وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صورتها أن يقول لزوجته: إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثًا. نص الشافعية على الخلاف فيها على ثلاثة أقوال:
1 لا يقع شيء للدور وهو منسوب لابن سريج عندهم، وتنبه كتبهم على ضعفه.
2 يقع الثلاث.
3 يقع المعلق عليه وهو المفتي به. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب لا تفضي الحائض الصلاة، 1/ 421/ رقم 321"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، 1/ 265/ رقم 335"، وسمى مسلم السائلة معاذة، وانظر: "تنبيه المعلم" "رقم 200 - بتحقيقي"، و"المستفادة" "16"، و"فتح الباري" "1/ 422".
3 مضى لفظه وتخريجه "1/ 51".
4 مضى لفظه وتخريجه "1/ 49".
5 في "ط": "ولا ينشر".

 

ج / 5 ص -172-       ذلك1، فتنبه لهذا المعنى.
وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها، فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ، فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية.
فصل:
هذه الفرق وإن كانت على ما هي عليه من الضلال، فلم تخرج من الأمة، ودل على ذلك قوله: "تفترق أمتي"1، فإنه لو كانت ببدعتها تخرج من الأمة لم يضفها إليها.
وقد جاء في الخوارج: "فى هذه الأمة كذا"2، فأتى بـ"في"3 المقتضية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما مضى عند المصنف "2/ 142-143".
2 مضى ذلك في أحاديث عديدة، منها المتقدم "ص145 وما بعدها".
3 انظر الهامش الآتي، وفي "ط": "يخرج في...".
4 مجرد ذكر "في" أو "من" كما في بعض الأحاديث لا يقتضي بقاءهم في أمة الإجابة، ألا ترى ما ورد في حديث مسلم:
"سيكون في أمتي ثلاثون كذابًا، كلهم يدعى أنه نبي وأنه خاتم النبيين"*، فهذه الظرفية في الحديث وما ماثلها فيما هو صريح في الكفر لا يصح أن يستدل بها. =

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أخرجه بنحوه البخاري في صحيحه كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام 7/ 616/ رقم 3606، وكتاب الفتن، باب منه 13/ 81/ رقم 1721، ومسلم في صحيحه كتاب الإمارة باب الناس تبع لقريش 3/ 1454/ رقم 1822، وكتاب الفتن باب لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة 4/ 2240/ رقم 157.

 

ج / 5 ص -173-       أنها فيها وفي جملتها.
وقال في الحديث:
"وتتمارى في الفوق"1، ولو كانوا خارجين من الأمة لم يقع تمار2 في كفرهم، ولقال: إنهم كفروا بعد إسلامهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأيضًا، فإن أبا سعيد الخدري في روايته يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج في هذه الأمة -ولم يقل منها-: قوم تحقرون صلاتكم...." إلخ "أخرجه البخاري في "صحيحه" "رقم 6931" وغيره"، قال ابن حجر "في "فتح الباري" "12/ 289": "لم تختلف الطرق "الصحيحة" على أبي سعيد في ذلك... قال النووي: وفيه دلالة على فقه الصحابة وتحريرهم الألفاظ، وفيه إشارة من أبي سعيد إلى تكفير الخوارج، وأنهم من غير هذه الأمة"، ولكن المؤلف رآه دليلًا لكونهم منها، والفرق جسيم، إلا أن يقال: "أمة الدعوة لا أمة الإجابة، ولكن هذا بعيد عن غرضه، ولا تترتب عليه فائدة. "د".
1 أي: حديث البخاري "في "صحيحه" "كتاب استتابة المرتدين، باب منه، 12/ 283/ رقم 6931": "فيتمارى في الفوقة"، قال ابن حجر "في "الفتح" "12/ 1290": "الفوقة: "موضع الوتر من السهم، قال ابن الأنباري": تذكر وتؤنث، أي: يتشكك هل بقي فيها من الدم شيء؟"، "وقال 12/ 300-301": "قال ابن بطال: ذهب جمهور العلماء إلى أنهم غير خارجين عن جملة المسلمين، لقوله:
"يتمارى في الفوق"؛ لأن التماري في الشك، وإذا وقع الشك -يعني: في التمثيل- لم يقطع عليهم بالخروج من الإسلام؛ لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج عنه إلا بيقين... ورد هذا برواية "سبق الفرث والدم"، والجمع بينهما أنه شك أولًا، ثم تحقق أنه لم يعلق بالسهم شيء. "د".
وكتب "ف" ما نصه: "صحته في الفوق بالضم، وهو موضوع الوتر من السهم والتماري في الفوق هو شك الرامي، هل فيه شيء من أثر الصيد، يعني نفذ السهم المرمي بحيث لم يتعلق به شيء ولم يظهر أثره فيه؟ فكذلك قراءتهم للقرآن لا يحصل لهم منها فائدة".
قلت: وجاء عنده وفي الأصل و"م" و"ماء": "الفرق بالراء، وهو خطأ.
2 أي: التماري في الكفر الممثل له في الحديث بالتماري في الفوق: هل علق به أثر من الفرث والدم؟ "د".

 

ج / 5 ص -174-       فإن قيل: فقد اختلف العلماء في تكفير أهل البدع، كالخوارج1، والقدرية2 وغيرهما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الخطابي*: "أجمع المسلمون على عد الخوارج -مع ضلالتهم- فرقة إسلامية أجازوا شهادتها وأكل ذبيحتها ومناكحتها" اهـ، لكن المؤلف نقل عنهم في هذه المسألة ما لا شك في كفرهم به، من إنكار سورة يوسف، وبعث نبي بعد محمد، وغير ذلك، فالذي ينبغي التعويل عليه في هذا الرجوع إلى مقالات هذه الفرق السبع من الخوارج التي ذكرت في "الاعتصام" "2/ 719 - ط ابن عفان"، وتعليقاته، فمن وصل منهم إلى إنكار مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، كمن يقول ببعث نبي أو ينكر سورة يوسف، وغير ذلك من الشناعات المنقولة عنهم، فهؤلاء كفار يقينًا**، ومن كان منهم باغيًا قاتل عليًّا وأنكر عليه التحكيم، وقاتل عمر بن عبد العزيز، وعمل من المعاصي والكبائر ما لم يصل إلى خروجه عن عقائد الدين الضرورية، فهذا لا نكفره، ونأكل ذبيحته، أما نقل الخطابي الإجماع، فلا يصح أن يحمل على الإطلاق، وإلا لم يكن هناك محل لباب الردة كله ولا إلى تشريع أحكام الكفار، ثم رأيت في "فتح الباري على البخاري" "12/ 283-302" في باب قتل الخوارج تلخيصًا حسنًا جدًّا في شأنهم، ورأيت فيه ما يوافق ما رأيناه من عدم إطلاق الكفر أو عدم الكفر عليهم، فإنهم طوائف: غلاة، وغيرهم. "د".
2 هم الذين يقولون: الخير من الله والشر من الإنسان، وأن الله لا يريد أفعال العصاة، سماهم الرسول صلوات الله عليه:
"مجوس هذه الأمة"، ونهى عن عيادة مرضاهم وشهود جنازتهم"***. "د".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* النقل بتصرف من "الفتح" "12/ 300".
** وهذا ما صرح به البغدادي في "أصول الدين" "ص332-333".
*** ورد ذلك في حديث ابن عمر، أخرجه أبو داود "رقم 4691"، والآجري في "الشريعة" "190"، وابن عدي في "الكامل" "3/ 1068"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 338"، وابن حبان في "المجروحين" "1/ 314"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 85"، والبيهقي في "الاعتقاد" "ص236"، وابن الجوزي في "الواهيات" "225"، وإسناده منقطع، لم يسمع أبو حازم من ابن عمر، وبهذا أعله المنذري في "مختصر سنن أبي داود" "7/ 58"، والعلائي -كما في "اللآلئ المصنوعة" "1/ 258"-، والذهبي في "الكبائر" ص128 - بتحقيقي"، وله طرق أخرى حسنه من أجلها ابن حجر في "أجوبته على مشكاة المصابيح" "3/ 1779، 1790"، وأنكره الإمام أحمد في "مسائل أبي داود" له "ص299".

 

ج / 5 ص -175-       فالجواب: أنه ليس في النصوص الشرعية ما يدل دلالة قطعية على خروجهم عن الإسلام، والأصل بقاؤه حتى يدل دليل على خلافه، وإذا قلنا بتكفيرهم فليسوا إذن من تلك الفرق، بل الفرق من1 لم تؤدهم بدعتهم إلى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من أين هذا وقد وقال: "كلهم في النار"؟ والحديث يحتمل التأبيد والتوقيت، ولم يقطع المؤلف بأحدهما في "الاعتصام" في المسألة الثامنة من الجزء الثاني. "د".
قلت: أخطأ الشارح في الإحالة، فالذي يصدق على كلامه هنا ما ذكره في "الاعتصام" "2/ 752-753 - ط ابن عفان، في المسألة الثانية عشر لا في المسألة الثامنة، 2/ 732 - ط ابن عفان"، وهي: "في خواص وعلامات أهل البدع".
والمتمعن في كلام المصنف يجزم بأنه لا يرى تكفير هذه الفرق على الجملة، وقد صرح بذلك في "المسألة السادسة، 2/ 714 - ط ابن عفان"، وكذا في "2/ 694"، وأيده وأكده بأنه عمل السلف قال: "وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى، ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم، والدليل عليه علم السلف الصالح فيهم"، ثم ذكر صنع علي في الخوارج، وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام، وكذا هجر السلف لمعبد القدري، ولم يقيموا عليه حد الردة، وصنيع عمر بن عبد العزيز مع الحرورية".
ثم قال "2/ 695 - ط ابن عفان": "ومن جهة المعنى: إنا وإن قلنا: إنهم متبعون للهوى ولما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق، ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه، ولو فرضنا أنهم كذلك لكانوا كفارًا؛ إذ لا يتأتى ذلك من أحد في الشريعة إلا مع رد محكماتها عنادًا، وهو كفر، وأما من صدق بالشريعة ومن جاء بها وبلغ فيها مبلغًا يظن به أنه متبع للدليل بمثله، لا يقال فيه: إنه صاحب هوى إطلاق، بل هو متبع للشرع في نظره، لكن بحيث يمازجه الهوى في مطالبه من جهة إدخال الشبه في المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحتله، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة.
وأيضًا، فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة على الجملة في مطلب واحد، وهو =

 

ج / 5 ص -176-       الكفر، وإنما أبقت عليهم من أوصاف الإسلام ما دخلوا به في أهله، والأمر بالقتل في حديث الخوارج1 لا يدل على الكفر؛ إذ للقتل أسباب غير الكفر، كقتل المحارب والفئة الباغية بغير تأويل، وما أشبه ذلك، فالحق أن لا يحكم بكفر من هذا سبيله، وبهذا كله يتبين أن التعيين في دخولهم تحت مقتضى الحديث صعب، وأنه أمر اجتهادي لا قطع فيه، إلا ما دل عليه الدليل القاطع للعذر وما أعز وجود مثله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الانتساب إلى الشريعة، ومن أشد مسائل الخلاف مثلًا مسألة إثبات الصفات، حيث نفاها من نفاها، فإنا إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين وجدنا كل واحد منهما حائمًا حول حمى التنزيه ونفي النقائض وسمات الحدوث، وهو مطلوب الأدلة، وإنما وقع اختلافهم في الطريق، وذلك لا يخل بهذا القصد في الطرفين معًا، فحصل في هذا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف الواقع في الفروع.
وأيضًا، فقد يعرض الدليل على المخالف منهم، فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده، كما رجع من الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه ألفان، وإن كان الغالب عدم الرجوع، كما تقدم في أن المتبدع ليس له توبه".
وقرر شيخ الإسلام ابن تيمية نحو هذا في "منهاج السنة النبوية" "3/ 19-70"، وفي "الرد على البكري" "ص256-260"، و"مجموعة الرسائل والمسائل" "5/ 199-204"، فانظر كلامه فإنه من النفائس، وقلما تعثر على مثله -بالاستطراط والتأصيل والتقعيد- في غيره.
وهذا -أعني: عدم التكفير- ما نحى إليه جماهير العلماء والباحثين، كما تراه في "الاقتصاد في الاعتقاد" "الباب الرابع: بيان من يجب تكفيره من الفرق" للغزالي، و"شرح مشكاة المصابيح" "1/ 147-148" للشيخ علي القاري، و"حديث افتراق الأمة" للصنعاني، وهو مطبوع عن دار العاصمة -الرياض، بتحقيق الشيخ سعد بن عبد الله السعدان.
1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب استتابه المرتدين، باب قتل الخوارج، 12/ 283/ رقم 6930" عن علي رضي الله عنه مرفوعًا:
"سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان..."، وفيه: "فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة".

 

ج / 5 ص -177-       المسألة العاشرة:
النظر في مآلات1 الأفعال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل2، مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة3 فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة لها ارتباط تام بالمسألة الرابعة في الأسباب، حيث يقول: "وضع الأسباب يستلزم قصد الواضع إلى المسببات"، أي: فالشارع إنما شرع الأسباب لأجل المسببات، أي: لتحصل المصلحة المسببة أو تدرأ المفسدة المسببة، وقوله: "موافقه أو مخالفة"، أي: مأذونًا فيها أو منهيًا عنها، وهذا غير ما سبق في المسألة الثالثة في الأسباب، حيث يقول: "يلزم من تعاطي الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات والقصد إليها، بل المقصود الجريان تحت الأحكام الموضوعة"، فلكل منها مقام، وهو ما يشير إليه هنا بقوله بعد: "ومر الجميع بين المطلبين"، إلا أنه زاد هنا تعارض المصلحة والمفسدة في العمل الواحد، ورتب عليه قوله: "وهو مجال للمجتهد"، وقال بعد: "وهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة، وأما في المسألة على الخصوص، فكثير"، ويؤخذ منه أن هذا الخصوص هو مقصود المسألة، فاستدل على الإجمال واعتبار المآل في ذاته، ثم انتقل لفرضه من اعتبار الراجح عند التعارض بالأدلة الآتية. "د".
وقال "ماء": "مآل: مرجع".
2 هنا سقط لا يستقيم الكلام بدونه يعلم من مقابله الآتي بعده، وأصله: "فقد يكون". "د".
قلت: سبقه إلى ذلك "ف"، فكتب: "لعله: "فقد يكون مشروعًا لمصلحة...".
3 أي: أو درء المفسدة به، ومثله يقال فيما بعده، حسبما يناسب كلًّا منهما لتكميل المقام. "د".

 

ج / 5 ص -178-       هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية1 وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب2، جار على مقاصد الشريعة.
والدليل على صحته أمور:
أحدها3: أن التكاليف -كما تقدم- مشروعة لمصالح العباد، ومصالح العباد إما دنيوية وإما أخروية، أما الأخروية، فراجعة إلى مآل المكلف في الآخرة ليكون من أهل النعيم لا من أهل الجحيم، وأما الدنيوية، فإن الأعمال -إذا تأملتها- مقدمات لنتائج المصالح، فإنها أسباب لمسببات هى مقصودة للشارع والمسببات هي مآلات الأسباب، فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب، وهو معنى النظر في المآلات.
لا يقال: إنه قد مر في كتاب الأحكام أن المسببات لا يلزم الالتفات إليها عند الدخول في الأسباب؛ لأنا نقول: وتقدم أيضًا أنه لا بد من اعتبار المسببات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الأصل من أبين الأدلة على استجابة الشريعة لما يقتضيه تطور الحياة بالناس، بما يلابس أوجه نشاطهم الحيوي فيها من ظروف، الأمر الذي يدعم صدق قضية عموم الشريعة وخلودها، بلا مراء. انظر: "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "1/ 23".
2 أي: العاقبة، وفيه "غب الصباح يحمد القوم السرى". "ف".
3 هذا يرجع إلى الدليل الثاني من أدلة المسألة الرابعة في الأسباب التي تتفق في المآل مع هذه المسألة، غايته أن الكلام هناك كان في وضع الشارع، وهنا في لزوم اعتبار المجتهد وملاحظته لذلك، وأيضًا هنا زيادة الخصوص الذي قرره بعد، وأشرنا إليه وإلى أنه هو المهم عنده الذي سيفرع عليه قواعد الفصل الآتي، ولم يتوصل للدليل هنا إلا توسيطه الأسباب والمسببات، وجعل المآلات هنا هي المسببات التي تقدمت هناك، وقوله: "هي مقصودة للشارع"، أي: بدليل ما سبق في المسألة الرابعة. "د".

 

ج / 5 ص -179-       فى الأسباب، ومر الكلام في ذلك والجمع بين المطلبين ومسألتنا من الثاني لا من الأول؛ لأنها راجعة إلى المجتهد الناظر في حكم غيره على البراءة من الحظوظ، فإن المجتهد نائب عن الشارع في الحكم على أفعال المكلفين وقد تقدم أن الشارع قاصد للمسببات في الأسباب، وإذا ثبت ذلك لم يكن للمجتهد بد من اعتبار المسبب، وهو مآل السبب.
والثانى: أن مآلات الأعمال إنما1 أن تكون معتبرة شرعًا أو غير معتبرة، فإن اعتبرت فهو المطلوب، وإن لم تعتبر أمكن أن يكون للأعمال مآلات مضادة لمقصود2 تلك الأعمال، وذلك غير صحيح، لما تقدم من أن التكاليف لمصالح العباد، ولا مصلحة تتوقع3 مطلقًا مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد.
وأيضًا4، فإن ذلك يؤدي إلى أن لا نتطلب مصلحة بفعل مشروع، ولا نتوقع مفسدة بفعل ممنوع، وهو خلاف وضع الشريعة كما سبق.
والثالث5: الأدلة الشرعية والاستقراء التام أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية، كقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "إنما"، والمثبت من الأصل و"ف" و"م" و"ط".
2 في "ط": "المقصد".
3 أي: يعتد بها ويلتفت إليها باعتبار مصلحة. "د".
4 مفرع على ما قبله، وقوله: "ألا نتطلب"، أي: لا يلزم أن نطلب من فعل شرعه الشارع مصلحة، بل قد تحصل مصحلة اتفاقًا، وقد لا تحصل، فإن هذا الذي يتفرع على قوله: "أمكن أن يكون... إلخ". "د".
5 وهذا بعينه هو الدليل الذي عول عليه في كون الشريعة وضعت لمصالح العباد في أول كتاب المقاصد، وساق هناك ضعف هذه الآيات، وقال: "المقصود هو التنبيه، ونحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة". "د".

 

ج / 5 ص -180-       وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 183].
وقوله:
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} الآية [البقرة: 188].
وقوله:
{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [الأنعام: 108].
وقوله:
{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} الآية [النساء: 165].
وقوله:
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية: [الأحزاب: 37].
وقوله:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} الآية [البقرة: 216].
وقوله:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179].
وهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة1.
وأما في المسألة على الخصوص، فكثير، فقد قال في الحديث حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه:
"أخاف2 أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بقطع النظر عن كونه فيه للعمل مآلان متعارضان يحتاجان إلى كد من المجتهدين ليترجح الطلب أو النهي الذي يتطلبه أحد المآلين، وقوله: "وهذا مما فيه... إلخ"، يصح توجهه للأدلة الثلاثة السابقة، وربما فهم من كلامه أنه ليس في الآيات من الدليل الثالث دليل الخصوص، مع أن آية:
{وَلا تَسُبُّوا} إلخ فيها هذا الخصوص؛ لأن سب الأوثان سبب في تخذيل المشركين، وتوهين أمر الشرك وإذلال أهله، ولكن لما وجد له مآل آخر مراعاته أرجح وهو سبهم لله -ملء ما بين السماوات والأرض سبًا في الأوثان لا يزن انحرافهم بكلمة واحدة في شأن الرب سبحانه- نهى عن هذا العمل المؤدي إليه مع كونه سببًا في مصلحة ومأذونًا فيه لولا هذا المآل. "د".
2 فموجب القتل حاصل، وهو الكفر بعد النطق بالشهادتين، والسعي في إفساد حال المسلمين كافة بما كان يصنعه المنافقون، بل كانوا أضر على الإسلام من المشركين، فقتلهم درء =

 

ج / 5 ص -181-       أصحابه"1.
وقوله:
"لولا قومك حديث عدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم"2. بمقتضى3 هذا أفتى مالك الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم، فقال له: لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله. هذا معنى الكلام دون لفظه4.
وفى حديث الأعرابي الذي بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه حتى يتم بوله وقال:
"لا تُزرِموه"5.
وحديث النهي عن التشديد على النفس في العبادة خوفًا من الانقطاع6.
وجميع ما مر في تحقيق المناط الخاص مما فيه هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعًا، لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة أو ممنوعًا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لمفسدة حياتهم، ولكن المآل الآخر -وهو هذه التهمة التي تبعد الطمأنينة عن مريدي الإسلام- أشد ضررًا على الإسلام من بقائهم، وعليك بالنظر في باقي الأمثلة. "د".
1 مضى تخريجه "2/ 467".
2 مضى تخريجه "4/ 428".
3 أي: من مراعاة القاعدة هنا، وإن كان المآل أمرًا آخر غير ما في الحديث لا أنه بالقياس على ما فيه من الامتناع عن ردة للقواعد -مع كونه مصلحة- خشية المفسدة، ولا يخفى أن المصلحة المتروكة فيهما محققة والمفسدة المتروكة من أجلها مظنونة، مع ذلك رجحت. "د".
4 مضى لفظه في "4/ 113".
5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، 10/ 449/ رقم/ 6025"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول...، 1/ 236/ رقم 284" عن أنس، قال إن أعرابيا بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم... وذكره، وقال: "ثم دعا بدلوٍ من ماء فصب عليه"، وكتب "ف" و"م" في تفسير "تزرموه" ما نصه: "بضم التاء، أي: لا تقطعوه يقال للرجل إذا قطع بوله "مخاطبًا إياه": قد أزرمت بذلك وأزرمه غيره قطعه".
6 انظر النصوص الواردة في ذلك في التعليق على "1/ 525 وما بعد".

 

ج / 5 ص -182-       لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة، وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها، فإن غالبها تذرع بفعل جائز، إلى عمل غير جائز فالأصل على المشروعية، لكن مآله غير مشروع، والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها، فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع، ولا معنى للإطناب بذكرها لكثرتها واشتهارها.
قال ابن العربي [حين]1 أخذ في تقرير هذه المسألة: "اختلف الناس بزعمهم فيها، وهي متفق عليها بين العلماء، فافهموها وادخروها".
فصل:
وهذا الأصل ينبني عليه قواعد:
- منها: قاعدة الذرائع التى حكمها مالك في أكثر2 أبواب الفقه؛ لأن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقطت من نسخة "ماء".
2 مثل لها في "إعلام الموقعين" "3/ 147-171" بتسعة وتسعين مثالًا، وقال: "إن سد الذرائع ربع التكليف؛ لأنه إما أمر، أو نهي، والأول مقصود لنفسه أو وسيلة إليه، والمنهي عنه مفسدة لنفسه أو وسيلة إليه، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام ربع الدين"، وجعل صورة البيع المذكورة هنا من أمثلة الذرائع، ثم ذكرها في مسألة الحيل بعد ذلك، وقال: "إن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فالشارع يسد الطريق إليها بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بكل حيلة، فأين من يمنع الجائز خشية الوقوع في المحرم ممن يعمل الحيلة في التوصل إليه؟"، ثم قال بعد ذلك: "ومن يبطل الحيلة كبيع العينة -يعني: كصورة البيع المذكورة هنا- يبطل العقد الأول بلا تردد، وبعضهم يجعل الخلاف في العقد الثاني يصحح الأول، وعلى هذا تكون من مسائل الذريعة لا من باب الحيل" اهـ.
ولعل ذلك؛ لأن الحيلة تكونت من مجموع العقدين، ولكن الذريعة إنما جاءت بالعقد الثاني، فأنت ترى المقام محتاجًا إلى قول فصل يتضح به الفرق بين حد الحيلة وحد الذريعة، وإن كان يظهر في الفرق أيضًا أن الذريعة لا يلزم فيها أن تكون مقصودة، والحيلة لا بد من قصدها =

 

ج / 5 ص -183-       حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة1 فإن عاقد البيع2 أولًا على سلعة بعشرة إلى أجل ظاهر الجواز، من جهة ما يتسبب عن البيع من المصالح على الجملة، فإذا جعل مآل ذلك البيع مؤديا إلى بيع خمسة نقدًا بعشرة إلى أجل، بأن يشتري البائع سلعته من مشتريها [منه]3 بخمسة نقدًا، فقد صار مآل هذا العمل إلى أن باع صاحب السلعة من مشتريها منه خمسة نقدًا بعشرة إلى أجل، والسلعة لغو لا معنى لها في هذا العمل؛ لأن المصالح التى لأجلها شرع البيع لم يوجد منها شيء، ولكن هذا بشرط4 أن يظهر لذلك قصد ويكثر5 في الناس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= للتخلص من المحرم، والحيلة تجري في العقود خاصة، والذريعة أعم، وتعريف المؤلف للذريعة يجعلها شاملة للحيل بتعريفها الآتي له، فيكون كل ما ذكرناه فارقًا بينهما، وقد أشبع الكلام في وجوب سد الذريعة ومنع الحيل ابن القيم في هذا الكتاب رحمه الله. "د".
قلت: انظر في سد الذرائع: "الذخيرة" "1/ 152-153 - ط دار الغرب"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص448-449"، و"القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" "2/ 786"، و"أحكام القرآن" "2/ 798" كلاهما لابن العربي، و"مجموع فتاوي ابن تيمية" "23/ 186-187"، و"إعلام الموقعين" "2/ 142 و3/ 147-171"، و"روضة المحبين" "ص93"، و"زاد المعاد" "3/ 88"، و"إغاثة اللهفان" "1/ 361-376"، و"تهذيب السنن" "5/ 102"، كلها لابن القيم، و"إحكام الفصول" "ص689-694" للباجي، و"البحر المحيط" "6/ 82-86"، و"تبصرة الحكام" "2/ 376-377"، و"تفسير القرطبي" "2/ 57 و3/ 252 و359-360 و7/ 61"، و"أصول الفقه وابن تيمية" "1/ 200 و2/ 479-507"، و"القواعد" للمقري "2/ 471-474، القاعدة الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين والثلاثون والحادية والثلاثون بعد المئتين"، و"الفروق" "2/ 32"، و"الإمام مالك" "ص405" لأبي زهرة، و"سد الذرائع" لمحمد هشام البرهاني، رسالة ماجستير.
1 في "ط": "التوسل إلى ما هو مفسدة بفعل ما هو مصلحة".
2 لعله: "عقد البيع" "ف". قلت: كذا أثبتها "م"، وفيه قبلها: "... التوسل إلى ما هو مصلحة، فإن عقد...".
3 سقطت من "د".
4 والصورة المذكورة من بيوع الآجال التي قد يظهر فيها قصد المتبايعين لهذا الممنوع، =

 

ج / 5 ص -184-       بمقتضى العادة.
ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعي1، فإنه اعتبر المآل2 أيضًا؛ لأن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقد لا يظهر، ولكنه كثر قصد الناس له بمقتضى العادة، فلذلك قالوا: إن السلف الذي يؤدي إلى منفعة المسلف ممنوع، ولو لم يقصد منفعة المسلف؛ لأنه كثير القصد من الناس عادة، فلا تنافي بين شرطيته للقصد وقول المالكية: إنه ممنوع، ولو لم يقصد بالفعل، فالمظنة كافية عندهم، بخلاف ما قل قصده لضعف التهمة كضمان يجعل كأن يبيعه ثوبين بدينار لشهر ثم يشتري منه عند الأجل أو دونه أحدهما بدينار، فيجوز، ولا ينظر لكونه آل الأمر لضمان أحد الثوبين له عند الأجل في مقابلة الثوب الآخر -مع أن الضمان لا يكون إلا لله- لقلة قصد الناس لمثله. "د".
قلت: انظر: في هذا: "الموطأ" "2/ 673"، و"المغني" "4/ 133-134" لابن قدامة.
5 عبارة المالكية: "يمنع ما أدى لممنوع يكثر قصده للمتبايعين، ولو لم يقصد بالفعل"1، وبالتطبيق عليها يكون عطف قوله: "ويكثر" على قوله: "يظهر لذلك قصد" عطف تفسير، وكأنه قال تصويرًا لذلك: بأن يكثر... إلخ، فهذه الكثرة هي الضباط والمظنة، ومقابلة ما لا يكثر، فلا يمنع كما تقدم مثال الضمان بالجعل. "د".
وكتب "ف" ما نصه: "لعله: أو يكثر في الناس تنزيلًا للكثرة منزلة القصد إشارة إلى أن القصد أعم من أن يكون حقيقة أو حكمًا؛ إذ مجرد القصد في المنع كثر أو لم يكثر؛ لأن البيع المتحيل به على دفع عين في أكثر منها سلف جر نفعًا، وهو غير جائز".
قلت: وأثبتها "م": "أو يكثر".
1 قال في "الإعلام" "3/ 200 - ط محمد عبد الحميد": "وأبو حنيفة وإن قال بالحيلة، إلا أن له مأخذًا آخر في منع العينة، وهي الصورة المذكورة هنا؛ لأن الثمن إذا لم يستوف لم يتم البيع الأول، فيصير الثاني مبنيًا عليه". اهـ. يعني: فليس للبائع الأول أن يشتري شيئًا ممن لم يتملكه، فالثاني فاسد، ورجع إلى خمسة في عشر لأجل، وهو ربا فضل ونساء معًا. "د".
2 يعبر عنه فقهاء الشافعية أحيانًا بـ"سلامة العاقبة"، وانظر: "المنثور في القواعد" "2/ 217-218" للزركشي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه عبارة الدردير في "شرحه الصغير" "3/ 117".

 

ج / 5 ص -185-       البيع إذا كان مصلحة جاز، وما فعل من البيع الثاني فتحصيل لمصلحة أخرى منفردة عن الأولى، فكل عقدة منهما لها مآلها، ومآلها في ظاهر أحكام الإسلام مصلحة، فلا مانع على هذا؛ إذ ليس ثم مآل هو مفسدة على هذا التقدير، ولكن هذا بشرط أن لا يظهر قصد1 إلى المآل الممنوع.
ولأجل ذلك يتفق الفريقان على أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان بإطلاق، واتفقوا في خصوص المسألة2 على أنه لا يجوز سب الأصنام حيث يكون سببًا في سب الله، عملًا بمقتضى قوله تعالى:
{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، وأشباه ذلك من المسائل التى اتفق مالك مع الشافعي على منع التوسل فيها.
وأيضًا، فلا يصح أن يقول الشافعي: إنه يجوز التذرع إلى الربا بحال، إلا أنه لا يتهم من لم يظهر منه قصد إلى الممنوع ومالك يتَّهم بسبب ظهور فعل اللغو3، وهو دال على القصد إلى الممنوع، فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة، وإنما الخلاف في أمر آخر4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ظهور القصد بوجود قرينة تحتف بالحادثة تدل على قصد المآل الفاسد الذي أدى إليه مجموع العقدين، أو بكثرة وقوع هذه العقود بين الناس. "ف" ونحوه عند "م".
2 أي: مسألة سد الذرائع؛ لأن إسقاط الشافعي لحكم الذرائع لا ينافي اعتبار بعض جزئياتها الخاصة التي ورد النص فيها، وسيأتي بين أن إسقاط حكم الذرائع [عند] ما لم يظهر القصد إلى الممنوع بقرينة خارجة عن العقدين، وإلا، فيتفق مع مالك على اعتباره. "ف" و"م".
3 لعل المراد باللغو هنا: العقد الصوري الذي يتخذ وسيلة إلى تحليل المحرم، كأن يبيعه شيئًا بمئة إلى أجل، ثم يشتريه منه بثمانين حالًا مثلًا، فيكون أقرضه ثمانين ليرد له مئة، وجعلا عقد البيع ذريعة لتحليل ذلك، أفاده مصطفى البغا في "أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي "ص575".
4 هو في الحقيقة اختلاف في المناط الذي يتحقق فيه التذرع، وهو من تحقيق المناط في الأنواع كما سبقت أمثلته، فمالك يجعل وجود اللغو في البيعة دليلًا على قصد التوسل =

 

ج / 5 ص -186-       ..............................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الممنوع، والشافعي يزيد في المناط دليلًا أخص من هذا، فلو صورت المسألة بأنه باع له حيوانًا بعشرة لأجل، ثم بعد شهر خرج إلى السوق ليشتري بدل الحيوان، فوجد المبيع معروضًا في السوق وقد حالت الأسواق مثلًا أو تغير، فاشتراه بخمسة نقدًا، فهذا ظاهر فيه أنه لم يقصد الممنوع، ولكنه بيع فاسد عند مالك ولو لم يقصد، كما قال الدردير في "شرحه الصغير" "3/ 117"، وقال ابن رشد: "إنه لا إثم على فاعله فيما بينه وبين الله، حيث لم يقصد الممنوع، يعني: وإنما ذلك الفساد لاطراد حكم الحاكم فقط. "د".
قلت: سبق المصنف إلى القول بنحو هذا القرافي في "الذخيرة" "1/ 152-153 - ط دار الغرب"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص448-449"، ورجحه الأستاذ أبو زهرة، فقال في كتابه "الإمام مالك" "ص216": "ونحن نميل إلى أن العلماء جميعًا يأخذون بأصل الذرائع، وإن لم يسموه بذلك الاسم".
قلت: أسهب الإمام الشافعي في كتابيه: "الأم" "3/ 34 و4/ 41"، و"إبطال الاستحسان" "7/ 267-270" في بيان موقفه من الذرائع، وأنكر القول به، وهذا مخالف لقول القرافي والمصنف، وقد حقق ذلك العطار في "حاشيته على شرح المحلي لجمع الجوامع" "2/ 364"، فقال: "وأما قاعدة سد الزرائع، فقد اشتهرت عند المالكية، وزعم القرافي أن كل أحد يقول بها، ولا خصوصية للمالكية، إلا من حيث زيادتهم فيها، قال: فإن من الذرائع ما يعتبر إجماعًا، كحفر الآبار في طريق المسلمين، وإلقاء السم في طعامهم، وسبب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله عند سبها، وتلغى إجماعًا، كزراعة، العنب، فإنها لا تمنع خشية الخمر، وما يختلف فيه كبيوع الآجال.
قال العطار: "قال المصنف -أي: ابن السبكي-: وقد أطلق هذه القاعدة على أعم منها، ثم زعم أن كل أحد يقول ببعضها، وسنوضح لك أن الشافعي لا يقول بشيء منها، وأن ما ذكر أن الأمة أجمعت عليه ليس من مسمى الذرائع من شيء، نعم، حاول ابن الرفعة تخريج قول الشافعي رضي الله عنه في باب إحياء الموات من الأم عند النهي عن منع الماء ليمنع به الكلأ: إن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذا ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله، فقال: في هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحرام والحلال تشبه معاني الحلال والحرام.
قال ابن السبكي: ونازعه الشيخ الإمام الوالد، وقال: إنما أراد الشافعي رحمه الله تعالى =

 

ج / 5 ص -187-       - ومنها: قاعدة الحيل، فإن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر1 الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، فمآل العمل فيها خرم2 قواعد الشريعة في الواقع، كالواهب ماله عند رأس3 الحول فرارًا من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= تحريم الوسائل لا سد الذرائع، والوسائل تستلزم المتوسل إليه، ومن هذا منع الماء، فإنه يستلزم منع الكلأ الذي هو حرام، ونحن لا ننازع فيما يستلزم من الوسائل، ولذلك نقول: من حبس شخصًا ومنعه من الطعام والشراب، فهو قاتل له، وما هذا من سد الذرائع في شيء.
قال الشيخ الإمام: وكلام الشافعي في نفس الذرائع لا في سدها، وأصل النزاع بيننا وبين المالكية إنما هو في سدها" اهـ.
وهذا التحقيق سديد ووجيه، فالقول بتحريم الوسائل التي تستلزم المحرم المتوسل إليه قائم على أساس يقرب من اليقين، بينما القول بسد الذرائع قائم -في أغلب صوره- على الظن والتوهم والتخمين، وشتان ما بينهما، ولذلك كان مسلك الشافعي رحمه الله تعالى في عدم أخذ الناس بالتهم وإفساد تصرفاتهم بالظن مسلكًا سليمًا وصحيحًا، يتفق مع ما دلت عليه نصوص الشريعة السمحة من أخذ المكلفين بظواهرهم، وترك سرائرهم إلى الله تعالى كما أثبت الشافعي فيما أشرنا إليه، وذلك كي تستقر للناس أحوالهم، ويطمئنوا إلى تصرفاتهم، طالما أنها لا تصادم الشريعة في ظاهرها، والله أعلم.
انظر: "اثر الألدلة المختلف فيها" "578-579".
1 في "ماء": "ظاهره".
2 جعل المفسدة في الحيل خرم قواعد الشريعة، خاصة كإبطال الزكاة وهدمها بالكلية، ولا يخفى أنه ممنوع، والهبة ذريعة إليه، فتكون الحيل أخص من الذريعة على ما يؤخذ من تعريفه لهما. "د".
3 المراد به قرب نهاية الحول، أما بعد تمام الحول، فقد وجبت الزكاة، ولا تفيد الحيلة وقبل تمامه اختلف محمد وأبو يوسف في استهلاك النصاب تحليلًا لدفع الوجوب، كأن أخرجه عن ملكه، فقال الثاني: لا يكره ذلك؛ لأنه امتناع عن الوجوب لا إبطال لحق الغير، وقال الأول: يكره؛ لأن فيه إضرارًا بالفقراء وإبطالًا، فكلام المؤلف مبني على رأي محمد، وأنه إذا قصدت الحيلة بإبطال الحكم صريحًا يكون ممنوعًا. "د".
وقال: "ف": "أي: ولو لم يتفق مع الموهوب له على رده بعد الحول أو قبله". وانظر لطيفة في هروب الفقهاء "ممن تخرج من مدرسة الكرخي والجصاص والخصاف"، وتحيله والرد عليه في "أحكام القرآن" "3/ 110" لابن العربي.

 

ج / 5 ص -188-       الزكاة، فإن أصل الهبة على الجواز، ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعًا، فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة، فإذا جمع بينهما على هذا القصد، صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة، وهو مفسدة، ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية.
ومن أجاز الحيل كأبي حنيفة، فإنه اعتبر المآل أيضًا، لكن على حكم الانفراد، فإن الهبة على أي قصد كانت مبطلة لإيجاب الزكاة، كإنفاق المال عند رأس الحول، وأداء الدين منه، وشراء العروض به، وغيرها مما لا تجب فيه زكاة، وهذا الإبطال صحيح جائز؛ لأنه مصلحة عائدة على الواهب والمنفق، لكن هذا بشرط أن لا يقصد إبطال الحكم، فإن هذا القصد بخصوصه ممنوع؛ لأنه عناد للشارع كما إذا امتنع من أداء الزكاة، فلا يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الأحكام صراحًا ممنوع، وأما إبطالها ضمنًا، فلا، وإلا امتنعت الهبة عند رأس الحول مطلقًا، ولا يقول بهذا واحد منهم.
ولذلك اتفقوا على تحريم القصد بالإيمان والصلاة وغيرهما إلى مجرد إحراز النفس والمال، كالمنافقين، والمرائين وما أشبه ذلك وبهذا يظهر أن التحيل على الأحكام الشرعية باطل على الجملة نظرًا إلى المآل، والخلاف إنما وقع في أمر آخر1.
- ومنها: قاعدة مراعاة2 الخلاف، وذلك أن الممنوعات في الشرع إذا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو تحقيق المناط كما سبق في سد الذرائع. "د".
2 مثاله استحقاق المرأة المهر، وكذا الميراث مثلًا عند مالك فيما إذا تزوجت بغير ولي، فمالك -مع كونه يقول بفساد النكاح بدون ولي- يراع في ذلك الخلاف عندما ينظر فيما ترتب بعد =

 

ج / 5 ص -189-       وقعت، فلا يكون إيقاعها من المكلف سببًا في الحيف عليه بزائد على ما شرع له من الزواجر أو غيرها، كالغصب مثلًا إذا وقع، فإن المغصوب منه لا بد أن يوفى حقه، لكن على وجه لا يؤدي إلى إضرار الغاصب فوق ما يليق به في العدل والإنصاف، فإذا طولب الغاصب بأداء ما غصب1 أو قيمته أو مثله، وكان ذلك من غير زيادة، صح، فلو قصد فيه حمل على الغاصب، لم يلزم؛ لأن العدل هو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الوقوع، فيقول: إن المكلف واقع دليلًا على الجملة وإن كان مرجوحًا، إلا أن التفريغ على البطلان الراجح في نظره يؤدي إلى ضرر ومفسدة أقوى من مقتضى النهي على ذلك القول، وهذا منه مبني على مراعاة المآل في نظر الشارع، فالمراد مراعاة الخلاف الواقع بين المجتهدين، والتعويل بعد وقوع الفعل من المكلف على قول وإن كان مرجوحًا عند المجتهد، ليقر فعلًا حصل منهيًا عنه على القول الراجح عنده، وأن له بعد الوقوع حكمًا لم يكن له قبله، وذلك نظر إلى المآل، وأنه لو فرع على القول الراجح بعد الوقوع، لكان فيه مفسدة تساوي أو تزيد على مفسدة النهي، فينظر المجتهد في هذا المآل، ويفرع على القول الآخر المرجوح باجتهاد ونظر جديد، لولا المآل الطارئ بعد الوقوع بالفعل ما كان له أن يفرع عليه وهو يعتقد ضعفه، ويدل على أن هذا غرضه لاحق الكلام، أما تمثيله بالغضب والزنا، فمن باب التمهيد والتوطئة لغرضه، ولا يتعلق به مقصوده. "د".
وكتب "ف" ما نصه: "أي: خلاف ما شرع له الحكم مما يعود عليه بالنقض، ومراعاته بالاحتراز عما يوجبه، كما في مثالي الغصب والزنا، فلا يحمل على الغاصب والزاني بالزيادة في استيفاء الحق والحد على القدر المشروع في حقهما لئلا يؤدي إلى مفسدة تساوي أو تزيد عن مفسدة الفعل المنهي عنه".
قلت: انظر في المسألة: "الاعتصام" "2/ 146 وما بعدها -ط رضا و2/ 645 وما بعدها -ط ابن عفان" للمصنف، و"البحر المحيط" "4/ 478 و6/ 324" للزركشي، و"إيضاح السالك" "ص160-161" للونشريسي، وما مضى "ص106".
1 إن كان بقي على حاله لم يتغير، وقوله: "أو قيمته"، أي: إن تغير في غير المثلي، وقوله: "أو مثله"، أي: إن تغير وهو مثلي، وقوله: "من غير زيادة" مفهومة أن الحمل عليه بالزيادة لا يصح، بأن كان غزلًا فنسجه الغاصب أو سبيكة فصكها نقودًا: فليس للغاصب أخذه، بل له القيمة فقط. "د".

 

ج / 5 ص -190-       المطلوب، ويصح إقامة العدل مع عدم الزيادة1، وكذلك الزاني إذا حد لا يزاد2 عليه بسبب جنايته؛ لأنه ظلم له، وكونه جانيًا لا يجني عليه زائدًا على الحد الموازي لجنايته، إلى غير ذلك من الأمثلة الدالة على منع التعدي3 [على المتعدي] أخذًا من قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
وقوله:
{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45].
ونحو ذلك.
وإذا4 ثبت هذا، فمن واقع منهيا عنه، فقد يكون فيما يترتب عليه من الأحكام زائد على ما ينبغي بحكم التبعية لا بحكم الأصالة، أو مؤد إلى أمر أشد عليه من مقتضى النهي، فيترك5 وما فعل من ذلك، أو نجيز6 ما وقع من الفساد على وجه يليق بالعدل، نظرًا إلى أن ذلك الواقع وافق7 المكلف فيه دليلًا على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا أصل للمحامين في مشروعية خصوماتهم عن موكليهم إن كانوا ظالمين، على أن تكون العقوبة الملحقة بهم أكثر من المقررة في الشرع.
2 أي: فلا يلزم بسكنى المزني بها مدة الاستبراء، ولا بنفقتها كذلك، ولا بإرضاع ولدها من الزنا ونفقته وهذا... لأن هذه زيادة عن الحد الذي رآه الشارع. "د".
3 المراد به الزيادة عن الحد المشروع في جزاء العدوان لا نفس العدوان. "د".
4 من هذا يفهم أن الكلام في الغصب والزنا تمهيد ليقاس عليه الكلام في مراعاة الخلاف، فكأنه يقول: إذا كان ما وقع ممنوعًا باتفاق لا يصح أن يكون سببًا للحيف، فما وقع ممنوعا عند المجتهد مخالفًا لغيره في منعه من باب أولى أن يراعي دليل صحته، وإن كان مرجوحًا عند هذا المجتهد، فلا يكون سببًا للحيف، بل ينظر للأمر الواقع وللمآل. "د".
5 أي: كما في مثال البائل الآتي. "د".
6 أي: كما يأتي في الأنكحة الفاسدة قبل الدخول، والمصححة بعد الدخول. "د".
قلت: في "الأصل" و"ف": "يحيز"، بالياء آخر الحروف في أوله. وقال "ف": "لعله" "أو نجيز" كما يدل عليه البيان بعد"، ونحوه عند "م"، وفي "ط": "يجبر".
7 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "واقع".

 

ج / 5 ص -191-       الجملة، وإن كان مرجوحًا، فهو راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه؛ لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي، فيرجع الأمر إلى أن النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع، ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع، لما اقترن [به] من القرائن المرجحة، كما وقع التنبيه عليه1 في حديث2 تأسيس البيت على قواعد إبراهيم، وحديث3 [ترك] قتل المنافقين، وحديث4 البائل في المسجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتركه حتى يتم بوله؛ لأنه لو قطع بوله لنجست ثيابه، ولحدث عليه من ذلك داء في بدنه، فترجح جانب تركه على ما فعل من المنهي عنه على قطعه بما يدخل عليه من الضرر، وبأنه ينجس موضعين وإذا ترك، فالذي ينجسه موضع واحد.
وفي الحديث:
"أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل باطل باطل"، ثم قال: "فإن دخل بها، فلها المهر بما استحل منها"5. وهذا تصحيح للمنهي عنه من وجه، ولذلك يقع فيه الميراث ويثبت النسب للولد، وإجراؤهم النكاح الفاسد مجرى الصحيح في هذه الأحكام وفي حرمة المصاهرة وغير ذلك دليل على الحكم بصحته على الجملة، وإلا كان في حكم الزنى، وليس في حكمه باتفاق فالنكاح المختلف فيه قد يراعى فيه الخلاف فلا تقع فيه الفرقة إذا عثر عليه بعد6 الدخول، مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجح

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: على الترك أو التصحيح وإن لم يكن مما نحن فيه مما فيه مراعاة الخلاف؛ لأن المواضع الثلاثة ليست منه، وإنما هي مما وقع مخالفًا للمطلوب وترك كما في بناء البيت على غير قواعد إبراهيم، أو وقع منهيا عنه قطعًا، كمسألة البائل في المسجد، وكترك قتل الكافر المنافق المؤذي للمسلمين، وقد تركه الجميع خشية حصول ضرر أشد من إزالة هذه الثلاثة. "د".
2 و3 مضى تخريجهما "4/ 428".
4 مضى تخريجه "ص181".
5 صحيح بمجموع طرقه، كما بيناه بتفصيل فيما مضى "3/ 48".
6 أي: كما في الأنكحة الفاسدة للصداق، كأن نقص عن ربع دينار، أو جعل الصداق خمرًا أو إنسانًا حرًا، أو وقع العقد على إسقاط رأسًا، فإنه إن عثر عليه قبل الدخول فسخ إن لم يتمه في الصورة الأولى وفي غيرها مطلقًا، وأما إن لم يعثر عليه إلا بعد الدخول، فلا فسخ بناء على الخلاف في الصداق داخل المذهب وخارجه. "د".

 

ج / 5 ص -192-       جانب التصحيح.
وهذا كله نظر إلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقض والإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة [مقتضى] النهي أو تزيد.
ولما بعد الوقوع دليل عام مرجح تقدم الكلام على أصله في كتاب المقاصد، وهو أن العامل بالجهل مخطئًا في عمله له نظران:
نظر من جهة مخالفته للأمر والنهي، وهذا يقتضي الإبطال.
ونظر من جهة قصده إلى الموافقة في الجملة؛ لأنه داخل مداخل أهل الإسلام ومحكوم له بأحكامهم، وخطؤه أو جهله لا يجني عليه أن يخرج به عن حكم أهل الإسلام، بل يتلافى له حكم يصحح له به ما أفسده بخطئه وجهله وهكذا لو تعمد الإفساد لم يخرج بذلك عن الحكم له بأحكام الإسلام؛ لأنه مسلم لم يعاند1 الشارع، بل اتبع شهوته غافلًا عما عليه في ذلك، ولذلك قال تعالى:
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة} الآية [النساء: 17].
وقالوا: إن المسلم لا يعصي إلا وهو جاهل، فجرى عليه حكم الجاهل، إلا أن يترجح جانب الإبطال بالأمر الواضح، فيكون إذ ذاك جانب التصحيح ليس له مآل يساوي أو يزيد، فإذ ذاك لا نظر في المسألة، مع2 أنه لم يترجح جانب الإبطال إلا بعد النظر في المآل وهو المطلوب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "لا يعاند".
2 أي: فلم يخالف القاعدة حينئذ. "د".

 

ج / 5 ص -193-       ومما ينبني على هذا الأصل قاعدة الاستحسان1، وهو -في مذهب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لهم في الاستحسان عبارات: منهم أنه العدول عن قياس إلى قياس أقوى، ومنها تخصيص قياس بأقوى منه، وعلى هذين لا يخالف فيه أحد، إلا انه ليس دليلًا شرعيًا زائدًا، ومنها دليل ينقدح في ذهن المجتهد يعسر عليه التعبير عنه، فإن كان بمعنى أنه مؤد إلى الشك فيه، فباطل أن يكون دليلًا، وإن كان على أنه ثابت متحقق، فليس بزائد عن الأدلة، ومنها العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس، كدخول الحمام، والشرب من السقاء، مما لا يحدد فيه زمان الانتفاع ولا مقدار المأخوذ من الماء، فقيل عليه: إن كانت العادة ثابتة في زمنه عليه السلام، فقد ثبت الحكم بالسنة لا بالاستحسان، وإن كانت في عصر الصحابة من غير إنكار منهم فإجماع، وإن كانت غيره عادة، فإن كان نصا أو قياسًا مما ثبتت حجيته، فقد ثبت بذلك كالأمثلة التي ذكرها المؤلف من القرض والعرية وجمع الصلاتين، وكذا سائر الترخصات التي وردت أدلتها بالنص أو القياس، وبه تعلم ما في قوله: "هذا نمط من الأدلة... إلخ"، وقوله: "وله في الشرع أمثلة... إلخ" الذي يفيد ظاهره أن هذه المواضع مما فيه تقديم الاستدلال المرسل على القياس، وليس كذلك إذ هي ثابتة بالنص، وأما إن كان شيئًا آخر لم يثبت حجيته، فهو مردود، قال الباجي1: "الاستحسان الذي ذهب إليه أصحاب مالك هو العدول إلى أقول الدليلين، كتخصيص بيع رطب العرايا من بيع2 الرطب بالتمر"، قال: "وهذا هو الدليل، فإن سموه استحسانًا، فلا مشاحة في التسمية"3، قال ابن الأنباري: "الذي يظهر من مذهب مالك القول بالاستحسان لا على المعنى السابق، بل هو استعمال مصلحة جزئية في قياس كلي، فهو يقدم الاستدلال المرسل على القياس، ومثاله لو اشترى سلعة بالخيار ثم مات فاختلفت ورثته في الإمضاء والرد، قال أشهب: القياس الفسخ، ولكنا نستحسن إذا قبل البعض الممضي نصيب الراد إذا امتنع البائع من قبوله أن نمضيه"، قال ابن الحاجب: "لا يتحقق استحسان مختلف فيه"، وتبعه على ذلك من بعده. "د".
قلت: انظر عن الاستحسان: "الاعتصام" "2/ 136-146 - ط رشيد رضا"، و"الإحكام" =

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "إحكام الفصول" "ص687" وقبله: "ذكر محمد بن خويز منداد من أصحابنا"، وفيه: "... القول بأقوى... مثل تخصيص..".
2 في الأصل: "منع"، والتصويب من "الإحكام" للباجي.
3 عبارته: "وإن كان يسميه استحسانًا على سبيل المواضعة".

 

ج / 5 ص -194-       مالك- الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي، ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس، فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة، كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرًا، إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى، أو جلب مفسدة كذلك، وكثير ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي والحاجي مع التكميلي، فيكون إجراء القياس مطلقًا في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده، فيستثنى موضع الحرج1، وكذلك في الحاجي مع التكميلي، أو الضروري مع التكميلي وهو ظاهر.
وله في الشرع أمثلة كثيرة كالقرض مثلًا، فإنه ربا في الأصل؛ لأنه الدرهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "4/ 137" للآمدي، و"الرسالة" للشافعي "505-507"، و"المحصول" "6/ 123"، و"البحر المحيط" "6/ 87 وما بعدها"، و"شرح اللمع" "2/ 973"، و"المسودة" "451 وما بعدها"، و"شرح تنقيح الفصول" "ص451"، و"الذخيرة" "1/ 155-156 - ط دار الغرب"، و"الحدود" "ص65" للباجي، و"شرح المحلي على جمع الجوامع" "2/ 353"، و"فتح الغفار شرح المنار" "3/ 30"، و"بدائع الفوائد" "4/ 32، 124-126" لابن القيم، و"المنخول" "ص374"، و"المستصفى" "1/ 137"، و"العضد على ابن الحاجب" "2/ 228"، و"شروح المنار" "811"، "والتمهيد" "4/ 93"، و"المعتمد" "2/ 840"، و"التبصرة" "494"، و"أصول السرخسي" "2/ 204"، و"كشف الأسرار" "4/ 3"، و"فتح الرحموت" "2/ 32"، و"تيسير التحرير" "4/ 78"، و"تفسير القرطبي" "4/ 106، 119".
1 هذا الاستثناء الذي فيه ترك القياس هو الأخذ بالاستحسان، وقد نص جمال الدين الحصيري في كتابه "التحرير" "1/ ق34" على قاعدة "إن ترك القياس في موضع الحاجة والضرورة جائز؛ لأن الحرج منفي، ومواضع الضرورات مستثناه عن قضيات الأصول" بواسطة "القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير" "ص205"، وانظر غير مأمور: "رد المحتار" "1/ 219" لابن عابدين، ففيه ربط هذه القاعدة بالاستحسان. وبعده في "ط" زيادة: "لرفع ذلك الحرج".

 

ج / 5 ص -195-       بالدرهم إلى أجل، ولكنه أبيح لما فيه من المرفقة والتوسعة على المحتاجين، بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين، ومثله بيع العرية1 بخرصها تمرًا، فإنه بيع الرطب باليابس، لكنه أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة إلى المعري والمعرى، ولو امتنع مطلقًا، لكان وسيلة لمنع الإعراء، كما أن ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه.
ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر2 وجمع المسافر، وقصر الصلاة والفطر في السفر الطويل، وصلاة الخوف، وسائر الترخصات التي3 على هذا السبيل، فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص، حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك؛ لأنا لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة، فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه، ومثله الإطلاع على العورات في التداوي، والقراض، والمساقاة، وإن كان الدليل العام يقتضي المنع، وأشياء من هذا القبيل كثيرة.
هذا نمط من الأدلة الدالة على صحة القول بهذه القاعدة، وعليها بنى4

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العرية عند المالكية: ثمر نخل أو غيره، ييبس ويدخر، يهبه مالكه ثم ثشتريه من الموهوب له بثمر يابس إلى الجذاذ المعروف أو دفع الضرر، وتجوز عندهم بشروط مبنية في كتب الفروع. "ف" و"م".
2 من لطيف استدلال ابن القيم على وجوب صلاة الجماعة بالجمع بين الصلاتين؛ إذ شرع في المطر لأجل تحصيل الجماعة،- مع أن إحدى الصلاتين وقد وقعت خارج الوقت، والوقت واجب، فلو لم تكن الجماعة واجبة، لما ترك لها الوقت الواجب، انظر ذلك مبسوطًا في: "بدائع الفوائد" "3/ 159-161"، وكتاب "الصلاة وحكم تاركها" "ص133-134".
3 في "م": "الترخيصات التي هي على...".
4 أي: فهذه المسائل فيها تخصيص الدليل على المنع بالمصلحة الجزئية، فبنى عليها مالك وأصحابه صحة ما يكون مثلها، وسموه بالاستحسان، فهذه المسائل ليست من باب الاستحسان؛ لأنها كلها منصوصة الأدلة. "د".

 

ج / 5 ص -196-       مالك وأصحابه.
وقد قال ابن العربي في تفسير الاستحسان بأنه إيثار1 ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثاء والترخص، لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته، ثم جعله أقسامًا، فمنه ترك الدليل للعرف كرد الأيمان إلى العرف، وتركه إلى المصلحة كتضمين الأجير المشترك، أو تركه للإجماع كإيجاب الغرم على من قط ذنب بغلة القاضي2، وتركه في اليسير لتفاهته لرفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق، كإجازة التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة، وإجازة بيع وصرف في اليسير.
وقال في "أحكام القرآن": "الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل3

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يجيء فيه ما تقدم من أن التخصيص بالعرف والعادة إن كانت في زمنه صلى الله عليه وسلم، فالدليل السنة، وإن كانت في عهد الصحابة... إلخ. "د".
قلت: وكلام ابن العربي في كتابه "المحصول في علم الأصول".
2 قال المصنف في "الاعتصام" "2/ 642 - ط ابن عفان": "يريدون غرم قيمة الداية، لا قيمة النقص الحاصل فيها، ووجه ذلك ظاهر، فإن بغلة القاضي لا يحتاج إليها إلا للركوب، وقد امتنع ركوبه لها بسبب فحش ذلك العيب، حتى صارت بالنسبة إلى ركوب مثله في حكم العدم، فألزموا الفاعل غرم قيمة الجميع، وهو متجه بحسب الغرض الخاص، وكان الأصل أن لا يغرم إلا قيمة ما نقصها القطع خاصة، لكن استحسنوا ما تقدم"، ثم قال: "وهذا الإجماع مما ينظر فيه، فإن المسألة ذات قولين في المذهب وغيره، ولكن الأشهر في المذهب المالكي ما تقدم حسبمًا نص عليه القاضي عبد الوهاب".
3 إن كان المراد ظاهر العبارة، فالعمل بأقوى الدليلين لا يخص هذين المذهبين، وإن كان المراد تخصيص النص العام والقياس بأي دليل كان، فيصح أن يدخله الخلاف الذي أشار إليه بعد، فمالك يخصص بالمصلحة -أي: بدليل المصالح المرسلة الذي يقول هو به، ويخالفه فيه =

 

ج / 5 ص -197-       بأقوى الدليلين، فالعلموم إذا استمر والقياس إذا اطرد، فإن مالكًا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان، من ظاهر أو معنى، ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة، ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أكثر الأصوليين-، وأبو حنيفة يخصص العام والقياس بخبر الواحد، وكل منهما يرى صحة القياس الذي نقضت علته ونقضها هو إبداء الوصف المدعى عليته في المحل بدون وجود الحكم فيه، ويعبر عنه بتخصيص الوصف، كقول الشافعي فيمن لم يبيت النية: "الصوم تعرى أوله عنها فلا يصح"، فجعل العلة للبطلان عرو أوله عنها، فيقول الحنفي: تنتقض العلة بصوم التطوع، فوجدت فيه العلة مع عدم الحكم وهو البطلان، قال الأصوليون: إن النقض إذا كان ورادًا على سبيل الاستثناء لا يقدح في القياس، وذلك بأن كان ناقضًا لجميع العلل، مخالفًا للقياس في جميع المذاهب، كبيع الرطب في العرية، فإنه ناقض لعلة حرمة الربا، التي هي الطعم أو القوت أو الكيل أو المال، ولا زائد على هذه الأربعة، وكل منها
موجود في بيع العرايا المذكور، ولم يحرم هذا البيع فيها، والإجماع على أن العلة لا تخرج عنها، فدلالته على العلية أقوى من دلالة النقض على عدم العلية، وأما إن لم يكن واردًا على طريق الاستثناء، ففيه أربعة أقوال: أولها يقدح في العلة، ويبطل القياس مطلقًا منصوصة أو مستنبطة، كان التخلف لمانع أو لغير مانع، وعليه أكثر أصحاب الشافعي والشافعي نفسه في أظهر قوليه، ولذلك قال بعض الحنفية: إن قياس الشافعي أقوى الأقيسة لسلامة علله من الانتقاض، وثانيها لا يقدح مطلقًا، وعليه مالك وأحمد وأبو حنيفة، وثالثها يقدح في المستنبطة دون المنصوصة، ورابعها لا يقدح إذا وجد مانع من تعميم القياس، واختار ابن الحاجب أنه لا يصح تخصيص المستنبطة إلا إذا وجد مانع، وإن كانت منصوصة، صح تخصيصها بالنص المنافي لحكمها، فيقدر المانع في صورة التخلف، ووجهه قياس تخصيص العلة على تخصيص العام جمعًا بين الدليلين، فإن احتجت للأمثلة، فعليك بكتب الأصول وبما حررناه على قاعدة الاستحسان أولًا وآخرًا يتضح المقام. "د".
قلت: اختلاف الأصوليين في كون النقض قادحًا في الوصف المدعي عليته أوسع مما ذكره الشارح، وأوصله الزركشي في "البحر المحيط" "3/ 271" إلى ثلاثة عشر قولًا، وانظر: "المعتمد" "2/ 1041"، و"المسودة" "412-415"، و"البرهان" "2/ 999-1001"، و"الإحكام" "3/ 208" للآمدي، و"نشر البنود" "2/ 210-211"، و"مسلم الثبوت" "2/ 277"، و"مباحث العلة في القياس عند الأصوليين" "555-573".

 

ج / 5 ص -198-       بخلاف القياس، ويريان معًا تخصيص القياس ونقض العلة، ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصًا، وهذا الذي قال هو نظر1 في مآلات الأحكام، من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام والقياس العام".
وفي المذهب المالكي من هذا المعنى كثير جدًا.
وفي "العتبية"2 من سماع أصبغ في الشريكين يطآن الأمة في طهر واحد فتأتي بولد، فينكر أحدهما الولد دون الآخر، أنه يكشف منكر الولد عن وطئه الذي أقر به، فإن كان في صفته ما يمكن فيه الإنزال، لم يلتفت إلى إنكاره، وكان كما لو اشتركا فيه، وإن كان يدعي العزل من الوطء الذي أقر به، فقال أصبغ: إني أستحسن هنا أن ألحقه بالآخر، والقياس أن يكونا سواء، فلعله غلب ولا يدري، وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا: "إن الوكاء قد يتفلت"3.
قال: "والاستحسان في العلم قد يكون أغلب من القياس، قال: وقد سمعت ابن القاسم يقول ويروي عن مالك أنه قال: تسعة أعشار العلم الاستحسان"4.
فهذا كله يوضح لك أن الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة، إلا أنه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا ظاهر بالنسبة لاستحسان مالك في التخصيص بالمصلحة، أما استحسان أبي حنيفة الذي يخصص بقول الواحد من الصحابة، فالتخصيص ليس فيه نظر للمآل، وإنما هو بالنص الجزئي في مقابلة القياس الكلي أو في مقابلة العام. "د".
2 "4/ 154-155/ مع "الشرح".
3 انظر المسألة في: "البيان والتحصيل" "4/ 155"، و"الاعتصام" "2/ 943 - ط ابن عفان"، ومذاهب الصحابة والتابعين في "مصنف عبد الرزاق" "7/ 359-361"، و"السنن الكبرى" "10/ 263-364" للبيهقي، و"نصب الراية" "3/ 291-292".
4 انظره وتعليق المصنف في "الاعتصام" "2/ 138 - ط رشيد رضا".

 

ج / 5 ص -199-       نظر إلى لوازم الأدلة ومآلاتها؛ إذ لو استمر على القياس هنا كان الشريكان بمنزلة ما لو كانا يعزلان أو ينزلان؛ لأن العزل لا حكم له إذ أقر بالوطء، ولا فرق بين العزل وعدمه في إلحاق الولد، لكن الاستحسان ما قال؛ لأن الغالب أن الولد يكون مع الإنزال ولا يكون مع العزل إلا نادرًا، فأجرى الحكم على الغالب1، وهو مقتضى ما تقدم فلو لم يعتبر2 المآل في جريان الدليل لم يفرق بين العزل والإنزال، وقد بالغ أصبغ في الاستحسان حتى قال: "إن المغرق في القياس يكاد يفارق السنة3 وإن الاستحسان عماد العلم"، والأدلة المذكورة تعضد4 ما قال.
ومن هذا الأصل أيضًا تستمد قاعدة أخرى، وهي أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضى شرعًا، فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج5، كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال: وهل مع وجود الغالب يصح أن يكون القياس التسوية، حتى يدعى أن هذا تخصيص للقياس بالمصلحة المبينة على النظر للمآل؟ أم الأحكام تبنى على العادة المستمرة أو الغالبة في مجرى عادة الله في خلقه، ولا محل لأصل التسوية هنا حتى تحتاج إلى الاستحسان؟ وبالجملة، فإنك تجد عند التأمل أن المؤلف تارة يبني كلامه على فهم أن الاستحسان تقديم الاستدلال المرسل على القياس، وتارة يجعله عامًا كما يعلم بتتبع عباراته من أول كلامه في الاستحسان إلى آخره. "د".
2 في "ط": "فلم يعتبر".
3 عزاه في "الاعتصام" "2/ 138 - ط رضا" لمالك، وفيه: "إن المفرق..." بالفاء، وكذا أيضًا في طبعة عفان "2/ 638".
4 عرفت ما فيه. "د".
5 الأمثلة المذكورة مختلطة، منها ما هو ضروري، ومنها ما هو حاجي، ومنها ما هو دون ذلك كشهود الجنائز، وكان قد فصل بين هذه المراتب في "1/ 181، 3/ 232-233". وانظر ما علقناه هناك.

 

ج / 5 ص -200-       واتساع أوجه الحرام والشبهات، وكثيرًا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز، ولكنه1 غير مانع لما يؤول إليه التحرز من المفسدة المربية2 على توقع مفسدة التعرض، ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا، لأدى إلى إبطال أصله وذلك غير صحيح.
وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها، وشهود الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى، فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها؛ لأنها أصول الدين وقواعد المصالح وهو المفهوم من مقاصد الشارع فيجب فهمهما3 حق الفهم، فإنها مثار اختلاف وتنازع، وما ينقل4 عن السلف الصالح مما يخالف ذلك قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها، فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء الله والحاصل أنه مبني على اعتبار مآلات الأعمال، فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: هذا اللازم غير مانع من النكاح، وقوله: "لما يؤول" تعليل لكونه غير مانع، وقوله "من المفسدة" بيان لما يؤول، وقوله: "ولو اعتبر" شرح للمفسدة التي يؤول إليها التحرز. "د".
2 أي: الزائدة على المفسدة التي تتوقع من التعرض، وذلك أنه يتوقع من نكاحه مفسدة هي التعرض للكسب الحرام، لكنا لا نمنعه من النكاح نظرًا لما يؤول إليه التحرز من تلك المفسدة، فإن التحرز منها يؤول إلى الوقوع في مفسدة أشد، وهي خشية الزنا، بل وإبطال أصل النكاح، وهو ضروري أو حاجي، فاغتفر الأول خشية الوقوع في هذا المآل الذي هو أشد ضررًا من التعرض. "د".
3 في "ط": "ها هنا فهمهما".
4 من أنهم كانوا يتركون الجنائز وأمثالها من فروض الكفاية، وبعضهم كان يترك الجماعات خشية المناكر التي تعترض في طريق القيام بها، كما يروى عن مالك أنه ترك الجماعات وغيرها للمناكر، ولكنه عند التحقيق ظهر أن تركها لسلس أصابه خشي منه على طهارة المسجد، فصارت بهذا قضيته العينية موافقة لما تقرر. "د".

 

 

ج / 5 ص -201-       المسألة الحادية عشرة:
تقدم الكلام على محال الخلاف في الجملة، ولم يقع هنالك تفصيل، وقد ألف ابن السيد كتابًا1 في أسباب الخلاف الواقع بين حملة الشريعة، وحصرها في ثمانية أسباب:
أحدها: الاشتراك الواقع في الألفاظ، واحتمالها للتأويلات، وجعله ثلاثة أقسام:
اشتراك في موضوع اللفظ المفرد2 كالقرء وأو3 في آية الحرابة.
واشتراك في أحواله العارضة في التصريف، نحو:
{وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ}4 [البقرة: 282].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعنوان: "التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم ومذاهبهم واعتقاداتهم"، وهو مطبوع.
2 وهذا القسم نوعان: اشتراك يجمع معاني مختلفة متضادة، واشتراك يجمع معاني مختلفة غير متضادة: انظر: "التنبيه" "ص12".
3 وهي قوله تعالى:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}؛ فإنه اختلف في حرف "أو" فيها: هل هو للتخيير، أو للتفصيل على حسب جناياتهم، أو "هي" للتخيير في البعض والتفصيل في البعض "الآخر". "ف" و"م".
وكتب "د" هنا ما نصه: "قال البناني محشي "جمع الجوامع": التحقيق أنها لأحد الشيئين أو الأشياء، وهذه المعاني إنما تأتي من السياق والقرائن، وعليه فلا اشتراك".
4 فإن الإدغام جعل الكلمة محتملة لأن يقع الإضرار من الكتاب بالنقص والزيادة بناء على أن الأصل "يضارر" بالكسر، وبه قرأ عمر، فنهوا عن ذلك، ويحتمل الفتح أي: لا يجوز أن يقع الإضرار عليهما بمنعهما عن أعمالهما وتعطيل مصالحهما، وبه قرأ ابن مسعود، أي: بالفك والفتح وما أجمل موقع هذا الإدغام الذي كان غاية الإيجاز بتضمنه المعنيين معًا، فلا محل لأن يكون الخلاف حقيقًا. "د".
قلت: انظر: "التنبيه" "ص32"، و"المحتسب" "1/ 148" لابن جني، و"مختصر الشواذ" "ص15" خالويه.

 

ج / 5 ص -202-       واشتراك من قبل التركيب، نحو: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه}1 [فاطر: 10].
{وَمَا قَتَلُوهُ2 يَقِينًا} [النساء: 157].
والثاني دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز، وجعله ثلاثة أقسام:
ما يرجع إلى اللفظ المفرد، نحو حديث النزول3،
{اللَّهُ نُورُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: فإنه لولا وقوع الضميرين في يرفعه قوله:
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وقوله: {وَالْعَمَل الصَّاْلِحُ} ما جاء الاختلاف في فاعل يرفع: هل هو الكلم، أم العمل؟ وكذلك ضميره البارز المفعول، هل هو الكلم، أم العمل؟ والكلم الطيب هو التوحيد على رأي الأكثر، والأعمال الصالحة الأقوال، والأفعال غير الإيمان، فأيهما يرفع الآخر ويقويه ويزكيه أو يجعله مقبولًا؟ وانظر في تسمية مثل هذا اشتراكًا مع أنه لا بد فيه من الوضع للمعنيين أو المعاني، فهل مجرد الاحتمال في الضميرين لوجود ما يقتضيهما في التركيب يسمى اشتراكًا؟ "د".
قلت: انظر "التنبيه" "38-39".
2 مثل سابقه، فقد تقدم قوله:
{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ}، وتقدم لفظ: "عِيْسَىْ"، فهل الضمير في قتلوه لعيسى كما هو الظاهر، أم للعلم؟ أي: ما قتلوا العلم يقينًا، من قولهم: قتلت العلم والرأي إذا بالغت فيه وهو مجاز كما في "الأساس" "ص355"، وأيضًا فلفظ "يقِينًا" قيد وقع بعد نفي ومنفي، فهل يرجع للنفي، أي النفي متيقن به، أم للمنفي؟ أي: القتل المتيقن ليس حاصلًا عندهم، بل هو ظن فقط، فيكون مؤكدًا لقوله: {إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنّ}، وما جاء هذا إلا من التركيب وكون القيد وقع فيه بعد أمرين صالحين لعوده إليهما. "د".
قلت: الجمهور يرون أن الضمير في "قَتَلُوهُ" عائد إلى المسيح عليه السلام، وقال الفراء وابن قتيبة: "الضمير عائد على العلم"، وانظر: "التنبيه" "ص49"، و"البحر المحيط" لأبي حيان "3/ 391"، و"الكشاف" "1/ 588".
3 مضى لفظه وتخريجه والتعليق عليه في "2/ 445"، وأنكر ابن السيد في "التنبيه" "ص =

 

ج / 5 ص -203-       السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}1 [النور: 35].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 66" هذه الصفة لله عز وجل، ونسب إلى مالك أنه قال في الحديث: "ينزل أمره في كل سحره"، وهذا تأويل مكذوب على الإمام مالك، والمحفوظ عنه خلافه، وانظر في تفصيل ذلك: "شرح حديث النزول" "182"، و"التمهيد" "7/ 143" لابن عبد البر، و"السير" "8/ 105"، و"مختصر الصواعق المرسلة" "2/ 261"، و"الردود والتعقبات" "93-97"، وصنيع المصنف عفى الله عنا وعنه في تلخيص كلام ابن السيد، وذكره هذا المثال والذي يليه على وجه الخصوص في التمثيل على دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز ينبئ على أشعريته في الصفات، وتقدم أمثلة كثيرة تدلل على ذلك أيضًا، وهذا يخالف ما كتبه أخونا الشيخ سليم الهلالي في تعليقه على "الاعتصام" "1/ 305" من أن "من تتبع عقيدة المصنف رحمه الله من سياق كتابه وجد ما يثلج صدره"!!
1 قال ابن السيد في "التنبيه" "ص74-75": "وما غلطت فيه المجسمة أيضًا قوله تعالى:
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، فتوهموا أن ربهم نور -تعالى الله عن قول الجاهلين-، وإنما المعنى: الله هادي أهل السموات والأرض، والعرب تسمي كل ما جلى الشبهات، وأزال الالتباس، أوضح الحق: نورًا".
قلت: كلام ابن السيد في تأويل هذه الآية شبيه بما قاله المازري في "المعلم بفوائد مسلم" "1/ 304"، والقاضي عياض في "إكمال المعلم" "806"، والنووي في "شرح صحيح مسلم" "3/ 12-13 و6/ 54"، وهذا التأويل قائم على أن النور من فعله سبحانه وتعالى، وإلا، فالنور الذي هو من أوصافه قائم به أيضًا، وحمل الآية عليه من باب أولى، وفي هذا يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية" "ص10": "سمى الله سبحانه وتعالى نفسه نورًا، وجعل كتابه نورًا، ودينه نورًا، واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه: نورًا يتلألأ، قال الله تعالى:
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} "النور: 35"، وقد فسر بكونه منور السماوات والأرض، وهادي أهل السموات والأرض، فبنوره اهتدى أهل السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعله، وإلا، فالنور الذي هو من أوصافه، قائم به، ومنه اشتق له اسم النور، الذي هو أحد أسمائه الحسنى، والنور يضاف إليه سبحانه على وجهين:
- إضافة صفة إلى موصوفها.
- وإضافة مفعول إلى فاعله.
فالأول كقوله عز وجل:
{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} "الزمر: 69"، فهذا إشراقها يوم =

 

ج / 5 ص -204-       وما يرجع إلى أحواله، نحو: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}1 [سبأ: 33] ولم يبين وجه الخلاف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور:
"أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني لا إله إلا أنت"، "أخرجه ابن جرير في "التاريخ" "2/ 345"، والطبراني في "الكبير" بإسناد رجاله ثقات، لكن فيه عنعنة ابن إسحاق، ومن أجلها وللإعضال الذي فيه ضعفه شيخنا الألباني في تخريجه لـ"فقه السيرة" "ص132"، وفي "معجم الطبراني" و"السنة" له، و"كتاب عثمان بن سعيد الدارمي" وغيرها عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه"، "أخرجه ابن منده في "الرد على الجهمية" "99".
وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها بأنه هادي السماوات والأرض، وأما من فسرها بأنها منور السماوات والأرض، فلا تتنافى بينه وبين قول ابن مسعود، والحق أنه نور السماوات والأرض بهذه الاعتبارات كلها" انتهى.
فقول ابن السيد رحمه الله وغيره: "ولا يصح أن يكون النور صفة ذات الله تعالى، وإنما هو صفة فعل" غير صحيح، والصواب ما ذكره ابن القيم آنفًا، من صحة إضافة "النور" إلى ذات الله عز وجل، دل على هذا القرآن في قوله سبحانه:
{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} "الزمر: 69".
وقد أحسن العلامة عبد الرحمن السعدي عندما قال في "تفسيره" "5/ 419" عند تفسير قوله:
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ما نصه: "الله نور السماوات والأرض، الحسي والمعنوي، وذلك أنه تعالى بذاته نور، وحجابه نور، الذي لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، وبه استنار العرش والكرسي، والشمس والقمر والنور، وبه استنارت الجنة، وكذلك المعنوي يرجع إلى الله، فكتابه نور، وشرعه نور، والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور".
ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه أسهب في إثبات هذه الصفة لله عز وجل، وبين أنها متعلقة بذاته عز وجل، فضلًا عن أفعاله، وأورد شبه المخالفين وفندها بما لا مزيد عليه في مواطن من "مجموع الفتاوى" له، انظر منها: "5/ 73-74، 6/ 374-379، 382-396، 20/ 468-469"، وكذا تلميذه ابن قيم الجوزية في كتابه البديع: "الصواعق المرسلة" "2/ 191 وما بعدها-مختصره"، و"التفسير القيم" "374".
1 أي: أن ما تقدم يظهر فيه كونه سببًا للخلاف، وهذا لم يبين فيه، وليس بظاهر سببيته =

 

ج / 5 ص -205-       وما يرجع إلى جهة التركيب، كإيراد الممتنع بصورة الممكن1، ومنه:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= للخلاف في مثل الآية، فسواء أكان من الإضافة للظرف أم للفاعل، فالمعنى لا يختلف إلا من جهة أنه حقيقة أو مجاز، فإن كان الأصل مكركم بناء في الليل والنهار، فحذف المضاف إليه وحل محله الظرف اتساعًا كان حقيقة، وإن كان الإسناد إلى الظرف، كان مجازًا علقيًّا، ولم يوجب الدوران اختلافًا في المعنى. "د".
قلت: انظر: "التنبيه" "ص80".
1 لعله سقط هنا لفظ: "وعكسه"، ويكون قوله: "ومنه"، أي: من العكس؛ لأنه إيراد للممكن في صورة الممتنع، أو أن قوله: "كإيراد... إلخ" مقدم من تأخير، وموضعه بعد قوله: "وعكسها" الراجع لسائر ما ذكره من أنواع ما يرجع إلى جهة التركيب، فيكون مثالًا لأول نوع من العكس، وهذا كله على حمل كلمة "قدر" على أنه من القدرة، فيكون مما استعمل فيه إن في مقام الجزم تجاهلًا للحيرة أو الخوف، أو مما نزل فيه المخاطب منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم، أما إن حملت على أنها بمعنى ضيق كما في قوله:
{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} "الأنبياء: 87"، أو أنه قدر المضاعف، فلا يكون مما نحن فيه. "د".
قلت: كلام ابن السيد في "التنبيه" "ص91 وما بعدها"، يدل على صحة السياق المذكور وعلى عدم وجود سقط فيه، فإنه قال "ص89": "وأما ورود الممتنع بصورة الممكن...". وذكر أمثلة، ثم قال: "ومن هذا قول الرجل المحرق لبنيه: "إذا أنا مت، فأحرقوني، ثم اذروا رمادي في اليم، فلعلي أضل الله، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً شديداً"، قال: "ألا ترى أنه قد أخرج ما قد تحقق أنه لا يكون مجرج ما يرجي أن يكون، تقللاً بذلك، واستراحة إليه".
ثم قال شارحًا الحديث: "فمعناه: فوالله لئن ضيق الله علي طرق الخلاص ليعذبني، وليس يشك في قدرة الله، ولو شك في قدرته لكان كافرًا، وإنما هو كقوله تعالى:
{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} "الأنبياء: 87"، وقوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} "الطلاق: 7"، أي: ضيق"، ثم قال: "ويجوز أن يكون من "القدر" الذي هو القضاء، فيكون معناه: فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني العذاب، فحذف المفعول اختصارًا"، ثم قال: "... وقد يجوز أن يكون قوله: "فوالله لئن قدر الله علي، من القدرة على الشيء...، فمعناه على هذا: فوالله إذا قدر الله علي ليعذبني عذابًا شديدًا"، وإنما جاز وقوع إن التي للشرط موقع إذا الزمانية؛ لأن كل واحدة منهما تحتاج إلى جواب".
قلت: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "11/ 409-410": "... =

 

ج / 5 ص -206-       "لئن قدر الله علي" الحديث1، وأشباه ذلك مما2 يورد من أنواع الكلام بصورة غيره، كالأمر بصورة الخبر والمدح بصورة الذم، والتكثير بصورة التقليل، وعكسها.
والثالث: دوران الدليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه كحديث3 الليث بن سعد مع أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة في مسألة البيع والشرط4،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ومن تأول قوله: "لئن قدر الله علي" بمعنى: قضى، أو بمعنى: ضيق، فقد أبعد النجعة، وحرف الكلم عن مواضعه، فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد، وقال: "إذا أنا مت، فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا. فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى، يدل على أنه سبب لها، وأنه فعل ذلك، لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقرًا بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل، لم يكن في ذلك فائدة به؛ ولأن التقدير عليه والتضييق موافقات للتعذيب، وهو قد جعل تفريقه مغايرًا لأن يقدر الرب".
والمقصود أن هذا الرجل دخل الجنة مع صدور الكفر منه، ولكنه عذر بالجهل، ومن تتبع الأحاديث الصحيحة، وجد فيها من هذا الجنس الكثير مما يوافقه، ولتفصيل هذا موطن آخر، وهو كتب العقيدة، وانظر: "من قصص الماضيين" "ص246-247".
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب أحاديث الأنبياء، باب منه، رقم 3481، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:
{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ}، رقم 7506"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى، رقم 2756"، ومالك في "الموطأ" "1/ 240" وغيرهم عن أبي هريرة.
وفي الباب عن أبي سعيد وحذيفة ومعاوية بن حيدة وأبي بكر الصديق وأبي مسعود الأنصاري وسلمان الفارسي، خرجتها في كتابي "من قصص الماضين" "ص239-243".
2 في "م": "بما".
3 سيأتي في المسألة الثالثة عشرة "ص231"، فإن كلا منهم أخذ بحديث لم يتبين فيه أنه مستقل بإنتاج حكم المسألة، أو محتاج إلى ضم غيره إليه حتى ينتج، فكان ذلك سببًا لاختلافهم. "د".
4 فقد وردت فيها أحاديث متعارضة، كحديث جابر: "ابتاع مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا، =

 

ج / 5 ص -207-       وكمسألة1 الجبر والقدر والاكتساب.
والرابع: دورانه بين العموم والخصوص، نحو:
{لا إِكْرَاهَ فِي2 الدِّين} [البقرة: 256].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وشرط ظهره إلى المدينة"، وحديث بريرة: "كل شرط ليس في كتاب الله تعالى، فهو باطل"، وحديث جابر في النهي عن بعض البيوع والترخيص في العرايا، وحديث النهي عن بيع وشرط، ولتعارضها اختلف العلماء في بيع وشرط، فأبو حنيفة والشافعي ذهبا إلى فساد البيع والشرط، وابن شبرمة ذهب إلى جوازهما، وابن أبي ليلى ذهب إلى جواز البيع وفساد الشرط، وفصل مالك في الشروط، فمنهما ما يوجب بطلان البيع والشرط، ومنها ما يصح معه البيع والشرط، ومنها ما يصح معه البيع دون الشرط، فكل دليل من هذه الأدلة أصبح محتملًا للاستقلال بالحكم وعدمه. "ف" و"م".
قلت: مضى تخريج بعض الأحاديث المشار إليها، وانظر حديث جابر: "ابتاع مني..." في "صحيح البخاري" "رقم 2097"، وحديث بريرة في "1/ 427"، وحديث جابر في الترخيص في العرايا في "صحيح البخاري" "رقم 2192"، وحديث النهي عن بيع وشرط في "1/ 469".
1 فكل قائل لشيء منها استند إلى دليل لم يلاحظ فيه دليل غيره، وهو ظاهر في دليل الجبريين والقدريين، أما الاكتساب، فقد لاحظ صاحبه سائر الأدلة. "د".
قلت: انظر "التنبيه" "ص134"، والكسب هو مذهب الأشاعرة، ومداره عندهم على الإرادة التى تحصل عند الفعل، وهو الاقتران العادي بين القدرة الحادثة والفعل، وأن الله سبحانه أجرى عادته بخلق أفعاله عند إرادة العبد، انظر: "شرح جوهرة التوحيد" "104"، و"أصول الدين "133-134" للبغدادي، و"روضة الطالبين وعمدة السالكين" "ص31-32، 34-35" للغزالي، وانظر رده في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "30/ 139"، و"ابن حزم وموقفه من الإلهيات" "421-423".
2 هل هو خبر حقيقي؟ أي: لا يتصور الإكراه فيه بعد دلائل التوحيد، وما يظهر إكراهًا، فليس في الحقيقة بإكراه، أم هو خبر بمعنى النهي؟ أي: لا تكرهوا في الدين وتجبروا عليه، وعليه فهو عام منسوخ بآية:
{جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} "التوبة: 73"، أو مخصوص بأهل الكتاب الذين قبلوا الجزية، والآية على الوجه الثاني صالحة للتمثيل بها للقسم الثالث مما يدور اللفظ فيه بين الحقيقة والمجاز، ولدورانه بين العموم والخصوص، ولدعوى النسخ وعدمه. "د".
قلت: انظر: "التنبيه" "ص155-156".

 

ج / 5 ص -208-       {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}1 [البقرة: 31].
والخامس: اختلاف الرواية، وله ثماني علل قد تقدم التنبيه عليها2.
والسادس: جهات3 الاجتهاد والقياس.
والسابع: دعوى النسخ وعدمه4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هل هي أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، أم اللغات، أم أسماء الله، أم أسماء الأشياء علوية وسفلية؛ لأنه الذي يقتضيه مقام الخلافة؟ فاللفظ صالح للعموم والخصوص، ولا يلزم أن يكون مجازًا عند الخصوص في هذا. "د".
قلت: كلام ابن السيد في "التنبيه" "ص156-157" له وجه آخر غير الذي ذكره المصنف والمعلق، قال رحمه الله: "ومن هذا الباب قوله تعالى:
{عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} "العلق: 5"، ذهب قوم إلى أنه خصوص، واختلفوا في حقيقة ذلك، فقال بعضهم: أراد آدم عليه السلام، واحتجوا بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} "البقرة: 31"، وقال بعضهم: أراد محمدًا صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بقوله عز وجل: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} "النساء: 113"، وقال آخرون: هي عموم في جميع الناس، وهو صحيح".
قلت: ومنه تعلم ما في صنيع المصنف من اجتزائه الآية المذكورة على وجه مخل من السياق المذكورة فيه، وكذا تكلف المعلق، والله الموفق.
2 انظر: "ص140-141".
3 الاختلاف في أصل القياس وشروطه وما يجري فيه الاجتهاد وما لا يجري فيه الاجتهاد، وما لا يجري فيه شهير، وينبني عليه الاختلاف في نفس الأحكام المستنبطة. "د".
قلت: لا يخرج ما عند ابن السيد في "التنبيه" "ص213" على المذكور هنا.
4 قال ابن السيد في "التنبيه" "ص217-218": "الخلاف العارض من هذا الموضع يتنوع أولًا نوعين:
أحدهما: خلاف عارض بين من أنكر النسخ ومن أثبته، وإثباته هو الصحيح، وجميع أهل السنة مثبتون له، وإنما خالف في ذلك من لا يلتفت إلى خلافه؛ لأنه بمنزلة دفع الضرورات وإنكار العيان. والنوع الثاني: خلاف عارض بين القائلين بالنسخ، وهذا النوع الثاني ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدهما: اختلافهم في الأخبار، هل يجوز فيها النسخ كما يجوز في الأمر والنهي، أم لا؟
والثاني: اختلافهم، هل يجوز أن تنسخ السنة والقرآن، أم لا.
والثالث: اختلافهم في أشياء من القرآن والحديث، يذهب بعضهم إلى أنها نسخت، وبعضهم إلى أنها لم تنسخ".

 

ج / 5 ص -209-       والثامن: ورود الأدلة على وجوه تحتمل الإباحة وغيرها كالاختلاف في الأذان والتكبير على الجنائز ووجوه القراءات1.
هذه تراجم ما أورد ابن السيد في كتابه، ومن أراد التفصيل فعليه به، ولكن إذا عرض جميع ما ذكر على ما تقدم تبين به تحقيق القول فيها، وبالله التوفيق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن السيد في "التنبيه" "ص221": "هذا النوع من الخلاف يعرض من قبل أشياء وسع الله فيها -عز وجل- على عباده، وأباحها لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، كاختلاف الناس في الأذان...".
قلت: وهذا يطلق عليه ابن قتيبة في "تأويل القرآن" "24، 33" وكذا ابن تيمية في "رفع الملام" و"مقدمة في أصول التفسير": "اختلاف تنوع"، وانظر ما قدمناه في التعليق على "ص59".

 

ج / 5 ص -210-       المسألة الثانية عشرة:
من الخلاف ما لا يعتد به في الخلاف، وهو ضربان:
أحدهما: ما كان من الأقوال خطأ مخالفًا لمقطوع به في الشريعة، وقد تقدم التنبيه عليه.
والثاني: ما كان ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك، وأكثر ما يقع ذلك في تفسير الكتاب والسنة، فتجد المفسرين ينقلون عن السلف في معاني ألفاظ الكتاب أقوالًا مختلفة في الظاهر، فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى1 على العبارة كالمعنى الواحد، والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل، فلا يصح نقل الخلاف فيها عنه، وهكذا يتفق في شرح السنة، وكذلك في فتاوي الأئمة وكلامهم في مسائل العلم، وهذا الموضع مما يجب تحقيقه، فإن نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها في الحقيقة خطأ، كما أن نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصح.
فإذا ثبت هذا، فلنقل الخلاف هنا2 أسباب:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يمكن التعبير عنها بعبارة واحدة كما هو شأن المعنى الواحد. "د".
قلت: انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "6/ 58، 390-391 و13/ 333، 340، 381-383 و19/ 139-140"، و"توجيه النظر" "1/ 44 - ط المحققة"، وفيه تفصيل لفائدة مثل هذا الاختلاف من رسوخ المسألة في النفس ووضوح أمرها ما لا يكون في العبارة الواحدة، على أن بعض العبارات ربما كان فيها شيء من الإبهام أو الإيهام، فيزول ذلك بغيرها، وقد يكون بعضها أقرب إلى فهم بعض الناظرين، فكثيرًا ما تعرض عبارتان متحدتان المعنى لاثنين، تكون إحداهما أقرب إلى فهم أحدهما، والأخرى أقرب إلى فهم الآخر، وهذا مشاهد بالعيان.
2 أي: لنقل الخلاف في الضرب الثاني الذي ليس في الحقيقة بخلاف أسباب أوقعت الناقلين في نقله خلافًا، فالعبارة جيدة لا تحتاج إلى زيادة لفظ كما قيل. "د".
قلت: وهو ما رد على ما قاله "ف": "لعله له أسباب".

 

ج / 5 ص -211-       أحدها: أن يذكر في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء أو عن أحد من أصحابه أو غيرهم، ويكون ذلك المنقول بعض ما يشمله اللفظ، ثم يذكر غير ذلك القائل أشياء أخر مما يشمله اللفظ أيضا، فينصهما المفسرون على نصهما، فيظن أنه خلاف، كما نقلوا في المن أنه خبز رقاق، وقيل: زنجبيل، وقيل: الترنجبين وقيل: شراب مزجوه بالماء، فهذا كله يشمله1 اللفظ؛ لأن الله من به عليهم، ولذلك جاء في الحديث: "الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل"2، فيكون المن جملة نعم، ذكر الناس منها آحادًا.
والثاني: أن يذكر في النقل أشياء تتفق في المعنى بحيث ترجع إلى معنى واحد، فيكون التفسير فيها على قول واحد، ويوهم نقلها على اختلاف اللفظ أنه خلاف محقق، كما قالوا في السلوى إنه طير يشبه السماني وقيل: طير أحمر صفته كذا، وقيل: طير بالهند أكبر من العصفور، وكذلك قالوا في المن: شيء يسقط على الشجر فيؤكل وقيل صمغة حلوة، وقيل: الترنجبين وقيل: مثل رب غليظ وقيل: عسل جامد، فمثل هذا يصح حمله على الموافقة وهو الظاهر فيها3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وإن كان أنواعًا متغايرة في المعنى، بخلاف ما قيل في المن في السبب الثاني، فإنه اختلاف في مجرد العبارة، والمعنى واحد. "د".
قلت: انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 343".
2 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب الأشربة، باب فضل الكمأة ومداواة العين بها، 3/ 1620/ رقم 2049 بعد 159" عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، وتتمته: "وماؤها شفاء للعين".
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}...  8/ 163/ رقم 4478، وباب {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا...} / 303/ رقم 4639، وكتاب الطب، باب المن شفاء العين 10/ 163/ رقم 5708" عنه مختصرًا بلفظ: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين".
3 انظر في هذا: "مجموع الفتاوى" "13/ 341-342 و19/ 139-140".

 

ج / 5 ص -212-       والثالث: أن يذكر أحد الأقوال على تفسير اللغة، ويذكر الآخر على التفسير المعنوي، وفرق بين تقرير الإعراب1 وتفسير المعنى، وهما معًا يرجعان إلى حكم واحد؛ لأن النظر اللغوي راجع إلى تقرير أصل الوضع، والآخر2 راجع إلى تقرير المعنى في الاستعمال، كما قالوا في قوله تعالى: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِين} [الواقعة: 73]، أي: المسافرين، وقيل: النازلين بالأرض القواء وهي القفر، وكذلك قوله: {تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَة} [الرعد: 31]، أي: داهية تفجؤهم3، وقيل: سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشباه ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وانظر لم أطلق على بيان المعنى الوضعي إعرابًا؟ "د".
قال: "ف": "لعله: "تقرير الإعراب"، وكذا ما بعده".
قلت: لأنه ورد في الأصل، وفيه وفي "ماء" و"ط": "تقدير".
2 هذا الآخر مبني على الأول، ففي المثال الأول المسافرون لازم عرفًا للنازلين بالأرض القفر ألجأتهم الضرورة إلى النزول فيها، فيكون بهذا الاعتبار مجازًا، وسيأتي في السبب الثامن، فإن كان على اعتبار معنى المسافرين تحقيق فيه الكلي، فيكون حقيقة، لكنه يكون من السبب الأول، وكذا المثال الثاني، فإن كان باعتبار أنه يلزم من وصول السرية إليهم قرعهم ورميهم بالأمر العظيم، فمجاز، وإن كان باعتبار أن السرية جزئي من القارعة تحققت فيه، فحقيقة، ويلزمهما ما، لزم سابقهما، فلم يأت بمثال يحقق أن هذا سبب ثالث مستقل عن الأسباب الأخرى، إلا أن يقال: إنه يقصد المعنى الاستعمالي الذي تقدم له في المسألة الثالثة من العموم والخصوص، وأن المعنى الاستعمالي الذي يفهم بواسطة القرائن والمقامات ومقتضيات الحال يكون حقيقة أشبه بالحقيقة الشرعية، وعليه يكون تقرير الكلام على أصل الوضع حقيقة، وتقريره بحسب المقاصد الاستعمالية حقيقة أيضًا، فيكون هذا السبب الثالث مغايرًا للأول وللثامن، راجع المسألة المشار إليه ليتضح غرضه ويستقيم كلامه. "د".
3 القارعة من القرع، وهو ضرب الشيء بالشيء، استعملت مجازًا في الداهية المهلكة، كما في قوله تعالى:
{الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ} "القارعة: " 1-2"، وفي "البيضاوي" "أي: داهية تقرعهم وتقلعهم"، فاللفظ محرف على كل حال!! "د".
قلت: وقع عنده وفي "ط" "تفجوهم" من غير همز، فقال: "محرف"، فتنبه.

 

ج / 5 ص -213-       والرابع: أن لا يتوارد الخلاف على محل واحد، كاختلافهم1 في أن المفهوم له عموم أولا، وذلك أنهم قالوا: لا يختلف القائلون بالمفهوم2 أنه عام فيما سوى المنطوق به، والذين نفوا العموم أرادوا أنه لا يثبت بالمنطوق به، وهو مما لا يختلفون فيه أيضًا، وكثير من المسائل، على هذا السبيل فلا يكون في المسألة خلاف، وينقل فيها الأقوال [على]3 على أنها خلاف.
والخامس: يختص بالآحاد في خاصة أنفسهم، كاختلاف الأقوال بالنسبة إلى الإمام الواحد، بناء على تغير الاجتهاد والرجوع عما أفتى به إلى خلافه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على رأي بعض الكاتبين هنا يكون خلافًا حقيقيا مبينًا على خلاف حقيقي، فمن يعتبر المفهوم دليلًا شرعيًا يقول: يعم، ومن قال: ليس بدليل شرعي، يقول: لا عموم ولا خصوص؛ لأن المفهوم غير معتد به، حتى يقال: إنه يعم أو لا يعم، ولكن كلام المؤلف ليس في الخلاف بين القائلين بجعل المفهوم دليلًا شرعيًا وبين غيرهم، بل الخلاف بين فريق القائلين باعتبار المفهوم دليلًا شرعيًا أنفسهم، كما قال العضد في "شرح ابن الحاجب" "2/ 120"، وعبارته هكذا: "الذين قالوا بالمفهوم اختلفوا في أن له عمومًا أم لا، فقال الأكثر: له عموم، ونفاه الغزالي، وإذا حرر محل النزاع لم يتحقق خلاف" اهـ. فقول المؤلف: "والذين نفوا العموم وأرادوا... إلخ"، أي: الذين نفوه ممن قالوا بالمفهوم كالغزالي، ووجه كون ذلك لا يتحقق به خلاف مبسوط في "شرح العضد" و"حواشيه"، فليرجع إليه. "د".
قلت: انظر الهامش الآتي والتعليق عليه.
2 أي: المتمسكون به في الاستدلال متفقون على عمومه فيما سوى المنطوق، بناء على أن العموم لا يختص بالألفاظ كما في قوله عليه السلام:
"في سائمة الغنم زكاة"، فلا زكاة عندهم في كل معلوفة، والنافون لعمومه يقولون بعدم اعتبار المفهوم في الاستدلال رأسًا، فالخلاف في عمومه، وعدمه لم يتوارد على محل واحد، وهو المفهوم المعتبر في الاستدلال نعم، الخلاف في كون المفهوم معتبرًا أو لا خلاف حقيقي. "ف".
قلت: انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "31/ 105-110"، و"المحصول" "2/ 401"، و"البحر المحيط" "3/ 163" للزركشي.
3 ما بين المعقوفتين سقط "من "م".

 

ج / 5 ص -214-       فمثل هذا لا يصح أن يعتد به خلافًا في المسألة؛ لأن رجوع الإمام عن القول الأول إلى القول الثاني اطراح منه للأول ونسخ له بالثاني، وفي هذا من بعض المتأخرين تنازع، والحق فيه ما ذكر أولًا1، ويدل عليه ما تقدم في مسألة أن الشريعة على قول واحد، ولا يصح فيها غير ذلك، وقد يكون هذا الوجه على أعم مما ذكر كأن يختلف العلماء على قولين ثم يرجع أحد الفريقين إلى الآخر، كما ذكر عن ابن عباس2 في المتعة وربا الفضل، وكرجوع3 الأنصار إلى المهاجرين في مسألة الغسل من التقاء الختانين، فلا ينبغي أن يحكى مثل هذا في مسائل الخلاف.
والسادس: أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم، كاختلاف القراء في وجوه القراءات، فإنهم لم يقرؤوا به على إنكار غيره، بل على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على تفصيل تراه في: "إعلام الموقعين" "4/ 223"، و"البحر المحيط" "6/ 266" للزركشي، و"الفتيا ومناهج الإفتاء" "ص137-142 - ط الدار السلفية" للشيخ محمد الأشقر، و"الاجتهاد في الإسلام" "ص215-216" لنادية العمري.
2 أنه رجع عن حلهما الذي كان مخالفًا فيه للجمهور إلى تحريمهما. "د".
قلت: انظر في رجوع ابن عباس عن ربا الفضل في: "المعرفة والتاريخ" "3/ 27"، و"مصنف عبد الرزاق" "8/ 118-119"، و"التاريخ الكبير" "1/ 2/ 487"، و"المطالب العالية" "1/ 388-389"، "شرح معاني الآثار" "4/ 64-65"، و"الكفاية" "ص28"، و"الفقيه" والمتفقه" "1/ 140-143"، كلاهما للخطيب، و"ذكر أخبار أصبهان" "1/ 230"، و"المعجم الأوسط" "رقم 1561" للطبراني، و"الاعتبار" "ص248، 250" للحازمي، و"التمهيد" "4/ 74"، و"تاريخ واسط" "ص93"، و"فتح الباري" "4/ 381-382"، و"المغني" "4/ 1-3"، و"تحفة الأحوذي" "4/ 442".
3 تقدم له في المسألة الثانية عشرة من كتاب الأدلة في فتوى زيد بن ثابت ورفاعة بن رافع وكلام عمر معهما. "د".
قلت: انظر تخريجها هناك "3/ 275".

 

ج / 5 ص -215-       إجازته والإقرار بصحته، وإنما وقع الخلاف بينهم في الاختيارات، وليس في الحقيقة باختلاف، فإن المرويات على الصحة منها لا يختلفون1 فيها.
والسابع: أن يقع تفسير الآية أو الحديث من المفسر الواحد على أوجه من الاحتمالات، ويبني على كل احتمال ما يليق به من غير أن يذكر خلافًا في الترجيح، بل على توسيع المعاني خاصة، فهذا ليس بمستقر خلافً؛ إذ الخلاف مبني على التزام كل قائل احتمالًا يعضده بدليل يرجحه على غيره من الاحتمالات حتى يبني عليه [دون غيره]، وليس الكلام في مثل هذا.
والثامن: أن يقع الخلاف في تنزيل المعنى الواحد، فيحمله قوم على المجاز مثلًا وقوم على الحقيقة، والمطلوب أمر واحد2، كما يقع لأرباب التفسير كثيرًا في نحو قوله:
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَي} [يونس: 31]، فمنهم من يحمل الحيات والموت على حقائقهما، ومنهم من يحملهما على المجاز، ولا فرق في تحصيل المعنى بينهما، ونظير هذا قول ذي الرمة:

وظاهر لها من يابس الشخت

وبائس الشخت وقد مر بيانه 3، وقول ذي الرمة4 فيه: إن "بائس" و"يابس" واحد، ومثل ذلك قوله: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيم} [القلم: 20]،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فلا يتأتى الاختلاف بينهم في المتواتر. "د".
2 أي: نحصل عليه على محمل، كما سيقول: "فلا فرق... إلخ". "د".
3 أي: في المسألة الرابعة من النوع الثاني في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للأفهام. "ف" و"م".
قلت: انظره والتعليق عليه "2/ 133".
4 أي: حيث سائل أنشدت البيت أولًا بلفظ: "يائس"، ثم بلفظ: "بائس". "ف" و"م".

 

ج / 5 ص -216-       فقيل: كالنهار بيضاء لا شيء فيها، وقيل: كالليل سوداء لا شيء فيها، فالمقصود شيء واحد وإن شبه بالمتضادين اللذين لا يتلاقيان.
والتاسع: أن يقع الخلاف في التأويل1 وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى ما دل عليه الدليل الخارجي، فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجه يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل2، وجميع التأويلات في ذلك سواء، فلا خلاف في المعنى المراد، وكثيرًا ما يقع هذا في الظواهر الموهمة للتشبيه، وتقع في غيرها كثيرًا أيضًا، كتأويلاتهم3 في حديث4 خيار المجلس بناء على رأي5 مالك فيه، وأشباه ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في تعين المراد، وإن اتفقوا على صرف اللفظ عن ظاهره إلى ما يساعد عليه الدليل، فالتأويل في كلامه بمعنى المآل كما في قوله تعالى:
{وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} "النساء: 59" "د".
2 هذا معنى التأويل عند المتأخرين بخلاف معناه عند السلف، انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "5/ 35-36 و13/ 278-291"، وكتاب محمد السيد الجليند "الإمام ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل".
3 وكيف لا يكون اختلاف الفهم الموجب لاختلاف الحكم الشرعي من مواضع الاختلاف الحقيقي؟ بل الوجه التاسع كله غير ظاهر في غرضه؛ لأنهم وإن اتفقوا على لزوم التأويل، إلا أنهم اختلفوا اختلافًا حقيقيًّا في المعنى المراد، ومجرد اتفاقهم على أصل التأويل لا يجعل نقل الخلاف خطأ كما يقول. "د".
4 وهو كم في "صحيح البخاري" "رقم 2107، 2109" عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار"، فالشافعية حملوه على التفرق بالأبدان، واعتمدوا عليه في إثبات خيار المجلس، والمالكية حملوه على التفرق بالأقوال، وهو الفراغ من العقد، فإذا تعاقدا، صح البيع، ولا خيار لهما إلا أن يشترطًا، وتسميتهما بالمتبايعين بمعنى المتساومين مجازًا، فلم يثبتوا خيار المجلس. "ف" و"م".
قلت: انظر تخريجه "1/ 425، 3/ 197".
5 لم يأخذ مالك بظاهر الحديث، مع أنه راو له في بعض طرقه ورفعه، وأخذ بإجماع أهل المدينة على ترك العمل به، ومثل مالك في ترك العمل به أبو حنيفة وأصحابهما، وقد توسع الزرقاني على "الموطأ" "3/ 420-423" في نقل أدلة الطرفين وأبحاثها فيه. "د".
قلت: وانظر ما مضى أيضًا حول هذه المسألة: "3/ 197".

 

ج / 5 ص -217-       والعاشر: الخلاف في مجرد التعبير عن المعنى المقصود وهو متحد1 كما اختلفوا في الخبر: هل هو منقسم إلى صدق وكذب خاصة، أم ثم قسم ثالث ليس بصدق ولا كذب؟
فهذا خلاف في عبارة2، والمعنى متفق عليه3، وكذلك الفرض والواجب يتعلق النظر فيهما مع الحنفية بناء على مرادهم فيهما.
قال القاضي عبد الوهاب4 في مسألة "الوتر أواجب هو؟": "إن أرادوا به أن تركه حرام يجرح فاعله به، فالخلاف بيننا وبينهم في معنى يصح أن تتناوله الأدلة، وإن لم يريدوا ذلك5، وقالوا: لا يحرم6 تركه ولا يجرح فاعله، فوصفه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "13/ 341-342".
2 يقولون في مثله: إنه خلاف في حال، وهو قسم ثالث غير الخلاف في العبارة المسمى خلافًا لفظيًا، فلعله أيضًا اصطلاح، والواقع أنه ليس خلافًا حقيقيًا على كل حال؛ لأنه لو نظر كل إلى ما نظر إليه الآخر لم يختلفا. "د".
3 إذ من جعل القسمة ثنائية أراد بالكذب ما قابل الصدق، ومن جعلها ثلاثية أراد به هو أخص من ذلك. "ف".
4 ونحوه له في "الإشراف" "1/ 106-107"، و"المعونة" "1/ 244"، و"التلقين" "1/ 79".
5 قلت: هكذا في الأصل و"د"، و"ف" و"م" و"ط": "لم يرد ذلك"، وكتب "ف": "لعله: "وإن لم يريدوا ذلك، وقالوا: لا يحرم..." إلخ، وعلى هذا، فلا فرق بين الواجب عندهم والمسنون عند غيرهم في المعنى، ويكون تقسيم المطلوب فعله أكيدًا إلى فرض وواجب كتقسيم غيرهم إله إلى فرض وسنة".
6 وعلى هذا الوجه يصح كونه مثالًا لا على الوجه الأول الذي هو المعروف عند الحنفية في الوتر؛ لأن الوتر عندهم واجب يأثم المكلف بتركه، بل هو فرض عملي يفوت الجواز -أي =

 

ج / 5 ص -218-       بأنه واجب خلاف في عبارة لا يصح الاحتجاج عليه".
وما قاله حق، فإن العبارات لا مشاحة فيها، ولا ينبني على الخلاف فيها حكم، فلا اعتبار بالخلاف فيها.
هذه عشرة أسباب لعدم الاعتداد بالخلاف، يجب أن تكون على بال من المجتهد، ليقيس عليها ما سواها، فلا يتساهل فيؤدي ذلك إلى مخالفة1 الإجماع.
فصل:
وقد يقال: إن ما يعتد به من الخلاف في ظاهر الأمر يرجع في الحقيقة إلى الوفاق1 أيضًا.
وبيان ذلك أن الشريعة راجعة إلى قول واحد كما تبين قبل هذا، والاختلاف في مسائلها راجع إلى دورانها بين طرفين واضحين أيضًا يتعارضان في أنظار المجتهدين، وإلى خفاء بعض الأدلة وعدم الإطلاع عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الصحة- بفوته، فلو شرع في الفجر ثم تذكر أن عليه الوتر، فسد الفجر، ووجب قضاء الوتر أولًا كما هو شأن الفرائض من حيث وجوب الترتيب للفوائت مع الحاضرة إذا كانت الفوائت ستًّا فأقل، والواجب الصرف عندهم هو ما ثبت بدليل ظني فيه شبهة، كقراءة السورة، وقنوت الوتر، وتكبيرات العيد، وهذه وأمثالها لا يفوت الجواز بفوتها، ولكن تركها عمدًا مؤثم، وسهوا مقتض لسجود السهو، فالخلاف بين المالكية وبينهم في الوتر خلاف حقيقي يصح أن تتناوله الأدلة. "د".
قلت: انظر تفويت الجواز بفوت الوتر عند الحنفية في: "المبسوط" "2/ 87"، و"حاشية ابن عابدين" "1/ 95"، و"المطالب المنيفة" "ص46-47 - بتحقيقي".
1 أي: بإثباته الخلاف في محل الإجماع. "د".
2 أي: في التحري عن مقصد الشارع وإن كان الحكم الذي قرره كل منهما يخالف الآخر. "د".

 

ج / 5 ص -219-       أما هذا الثاني، فليس في الحقيقة خلافًا؛ إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع1 عن قوله، فلذلك ينقض لأجله قضاء القاضي.
أما الأول، فالتردد بين الطرفين تحر2 لقصد الشارع المستبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين، واتباع للدليل المرشد إلى تعرف قصده، وقد توافقوا في هذين القصدين توافقًا لو ظهر معه لكل واحد منهم خلاف ما رآه لرجع إليه، ولوافق صاحبه فيه، فقد صار هذا القسم في المعنى راجعًا إلى القسم الثاني3، فليس الاختلاف في الحقيقة إلا في الطريق المؤدي إلى مقصود الشارع الذي هو واحد، إلا أنه لا يمكن رجوع المجتهد عما أداه إليه اجتهاده بغير بيان اتفاقًا، وسواء علينا أقلنا بالتخطئة أم قلنا بالتصويب، إذا لا يصح للمجتهد أن يعمل على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد وقع ذلك من مالك وغيره من المجتهدين، فكل مجتهد منهم لقي مجتهدًا آخر، واطلع على أدلة لم تكن عنده رجع عن رأيه، كما في مسألة تخليل أصابع الرجلين كان مالك يقول: "إنه تعمق في الوضوء"، فلما بلغه أنه عليه الصلاة والسلام كان يفعله رجع إلى استحبابه1، وكما اتفق لأبي يوسف مع مالك في المد والصاع حتى رجع لموافقة مالك، وكما سبق قريبًا عن ابن عباس وعن الأنصار أيضًا. "د".
2 لا يخفى أن التردد بين الطرفين وصف للفعل نفسه وليس من عمل المجتهد، والذي للمجتهد هو الرد على أحدهما، بتحريه الدليل المرشد إلى أخذ الفعل حكم أحد الطرفين دون الآخر، فالعبارة -كما ترى- فيها ركة ونبو عن هذا المقصود، ولو قال: "فالرد إلى أحد الطرفين تحر... إلخ"، لكان جيدًا، وقوله: "هذين القصدين" هما في الحقيقة قصد واحد، وهو الوصول إلى قصد الشارع باتباع الدليل المرشد إلى تعرفه. "د".
3 فإن مخالفة أحدهما لقصد الشارع في الواقع -بناء على اتحاد الحكم، وأن من أصابه، ومن أخطأه أخطأ- إنما ترتبت على استبهام الدليل وخفائه عليه. "د".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ذلك في: "مقدمة الجرح والتعديل" "ص31-32"، و"السنن الكبرى" "1/ 81" للبيهقي.

 

ج / 5 ص -220-       قول غيره وإن كان مصيبًا أيضًا، كما لا يجوز له ذلك إن كان عنده مخطئًا، فالإصابة على قول المصوبة إضافية1، فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار، فإذا كان كذلك، فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون.
ومن هنا يظهر وجه الموالاة والتحاب والتعاطف فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد2، حتى لم يصيروا شيعًا ولا تفرقوا فرقًا؛ لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع، فاختلاف الطرق غير مؤثر، كما لا اختلاف بين المتعبدين لله بالعبادات المختلفة، كرجل تقربه الصلاة، وآخر تقربه الصيام، وآخر تقربه الصدقة إلى غير ذلك من العبادات، فهم متفقون في أصل التوجه لله المعبود وإن اختلفوا في أصناف التوجه، فكذلك المجتهدون لما كان قصدهم إصابة مقصد الشارع صارت كلمتهم واحدة وقولهم واحدًا، ولأجل ذلك لا يصح لهم ولا لمن قلدهم التعبد بالأقوال المختلفة كما تقدم3؛ لأن التعبد بها راجع إلى اتباع الهوى، لا إلى تحري مقصد الشارع، والأقوال ليست بمقصودة لأنفسها، بل ليتعرف منها المقصد المتحد، فلا بد أن يكون التعبد متحد الوجهة، وإلا، لم يصح، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بالنسبة للمجتهد نفسه ولمن قلده من غير المجتهدين، لا للواقع، وإلا لما تعدد الصواب، وقوله: "إلى قول واحد"، أي: في هذا المقام، وهو أنه لا يجوز له أن يرجع عن اجتهاده مطلقًا إلا ببينة، لا لمجرد أن غيره مصيب على قول التصويب. "د".
2 ومن أحسن ما حكاه يونس الصدفي قال: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولقيني، وأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق، في مسألة؟". حكاه الذهبي في ترجمته في "السير".
3 في المسألة الثالثة، وهو أنه ليس للمقلد أن يتخير في الخلاف، ولا بد من الترجيح وتحري مقصد الشارع بأي طريق كان، كما أن المجتهد ليس له أن يأخذ بأحد دليلين بدون ترجيح "د".

 

ج / 5 ص -221-       فصل:
وبهذا يظهر أن الخلاف -الذى هو في الحقيقة خلاف1 - ناشئ عن الهوى المضل2، لا عن تحري قصد الشارع باتباع الأدلة على الجملة والتفصيل، وهو الصادر عن أهل الأهواء، وإذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصًا على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء، لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق3، وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى، وذلك مخالفة الشرع، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء، فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع، ضلال في الشرع ولذلك سميت البدع ضلالات، وجاء:
"إن كل بدعة ضلالة"4؛ لأن صاحبها مخطئ من حيث توهم أنه مصيب، ودخول الأهواء في الأعمال خفي5، فأقوال أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر في الشرع، فلا خلاف6 حينئذ في مسائل الشرع من هذه الجهة.
فإن قيل: هذا مشكل، فإن العلماء قد اعتدوا بها في الخلاف الشرعي، ونقلوا أقوالهم في علمي الأصول، وفرعوا عليها الفروع، واعتبروهم في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "استدراك2".
2 ذكر نحوه في "الاعتصام"، في "الباب التاسع: في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين، 2/ 683 وما بعدها -ط ابن عفان"، وكذا في المسألة الثامنة من الجزء الثاني "2/ 737".
3 بعدها في "ط": "فاتباعه مخالفة للشرع بإطلاق".
4 مضى تخريجه.
5 قد لا يشعر به صاحبه، فيتوهم أنه مصيب في اجتهاده الذي بعض مقدماته مبني على الهوى. "د".
6 أي: يلزم أن نخرج من الشريعة جميع الأقوال التي دخلها الهوى باتباع المتشابه، فلا تحسب منها، ولا يقال بالنسبة لها: إن هناك خلافًا. "د".

 

ج / 5 ص -222-       الإجماع [والاختلاف]، وهذا هو الاعتداد بأقوالهم.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم أنهم اعتدوا بها، بل إنما أتوا بها ليردوها ويبينوا فسادها، كما أتوا بأقوال اليهود والنصارى وغيرهم ليوضحوا ما فيها، وذلك في علمي الأصول معًا بين، وما يتفرع عنها1 مبني عليها.
والثاني: إذا سلم اعتدادهم بها، فمن جهة أنهم غير متبعين للهوى بإطلاق، وإنما المتبع للهوى على الإطلاق من لم يصدق بالشريعة رأسًا، وأما من صدق بها وبلغ فيها مبلغًا يظن به أنه غير متبع إلا مقتضى الدليل يصير إلى حيث أصاره، فمثله لا يقال فيه: إنه متبع للهوى مطلقًا، بل هو متبع للشرع، ولكن بحيث يزاحمه الهوى في مطالبه من جهة اتباع المتشابه، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما عليه دليل على الجملة.
وأيضًا، فقد ظهر منهم اتحاد القصد على الجملة مع أهل الحق في مطلب واحد، وهو اتباع الشريعة، وأشد مسائل الخلاف مثلًا مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها، فإنا إذا نظرنا إلى الفريقين وجدنا كل فريق حائمًا حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث، وهو مطلوب الأدلة، فاختلافهم في الطريق قد لا يخل بهذا القصد في الطرفين معًا2، وهكذا إذا اعتبرت سائر المسائل الأصولية.
وإلى هذا3، فإن منها ما يشكل وروده ويعظم خطب الخوض فيه، ولهذا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "عنها".
2 نحوه في "الاعتصام" "2/ 695" مبرهنًا به على عدم كفر أصحاب البدع والأهواء.
2 أي: يضاف إلى أنهم طالبون للحق في تنزيه الله تعالى -وإن لم يصادفوا صميم الحق في كثير من المسائل التي خالفوا فيها- أن هناك من مسائل خلافهم ما هو مشكل في ذاته، ويصعب الخوض في الكشف عن اليقين فيه، فربما كان لهم وجه في جانب هذه المشكلات، ولذلك لم يصرح الشارع بخروجهم... إلخ. "د".

 

ج / 5 ص -223-       لم يظهر من الشارع خروجهم عن الإسلام بسبب بدعهم.
وأيضًا، فإنهم لما دخلوا في غمار المسلمين، وارتسموا في مراسم المجتهدين منهم بحسب ظاهر الحال، وكان الشارع في غالب الأمر قد أشار إلى عدم تعيينهم، ولم يتميزوا إلا بحسب الاجتهاد في بعضهم، ومدارك الاجتهاد تختلف، لم يمكن1 والحال هذه إلا حكاية أقوالهم، والاعتداد بتسطيرها والنظر فيها، واعتبارهم في الوفاق والخلاف ليستمر النظر فيه، وإلا أدى إلى عدم الضبط2، ولهذا تقرير3 في كتاب الاجماع، فلما اجتمعت هذه الأمور، نقل خلافهم.
وفى الحقيقة، فمن جهة ما اتفقوا فيه مع أهل الحق حصل التآلف، ومن جهة ما اختلفوا حصلت الفرقة، وإذا كان كذلك، فجهة الائتلاف لا خلاف فيها في الحقيقة لصحتها واتحاد حكمها، وجهة الاختلاف هم4 مخطئون فيها قطعًا، فصارت أقوالهم زلات لا اعتبار بها في الخلاف، فالاتفاق حاصل إذن على كل تقدير.
فالحاصل من مجموع هذه المسألة أن كلمة الإسلام متحدة على الجملة في كل مسألة شرعية، ولولا الإطالة لبسط هذا الموضع بأدلته التفصيلية وأمثلته الشافية، ولكن ما ذكر فيها كافٍ، والله الموفق للصواب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "يكن".
2 أي: وعدم تميز حقهم من باطلهم، فيرد كل ما ينسب إليهم ولو كان حقًا، وذلك لا يصح. "د".
3 فقد اختلفوا: هل يشترط عدالة المجمعين، أم لا؟ والحنفية تشترط، وعليه يبتنى شرط عدم البدعة، إذا لم يكفر بها كالخوارج، والحنفية قالوا: يشترط عدم بدعته إذا دعا إليها، فإن لم يدع إليها، كان قوله في غير بدعته معتبرًا في انعقاد الإجماع. "د". قلت: انظر "ص275 والتعليق عليها".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "فهم".

 

ج / 5 ص -224-       المسألة الثالثة عشرة:
مر الكلام فيما يفتقر إليه المجتهد من العلوم، وأنه إذا حصلها، فله الاجتهاد بالإطلاق.
وبقي النظر في المقدار الذى إذا وصل إليه فيها توجه عليه الخطاب بالاجتهاد بما أراه الله، وذلك أن طالب العلم إذا استمر في طلبه مرت عليه أحوال ثلاثة: أحدها: أن يتنبه عقله إلى النظر فيما حفظ والبحث عن أسبابه، وإنما ينشأ هذا عن شعور بمعنى1 ما حصل، لكنه مجمل بعد، وربما ظهر2 له في بعض أطراف المسائل جزئيا لا كليا، وربما لم يظهر بعد، فهو ينهي البحث نهايته ومعلمه عند ذلك يعينه بما يليق به في تلك الرتبة، ويرفع عنه أوهامًا وإشكالات تعرض له في طريقه، يهديه إلى مواقع إزالتها [ويطارحه] في الجريان على مجراه، مثبتًا قدمه، ورافعًا وحشته، ومؤدبًا له حتى يتسنى له النظر والبحث على الصراط المستقيم.
فهذا الطالب3 حين بقائه هنا، ينازع الموارد الشرعية وتنازعه، ويعارضها وتعارضه، طمعًا في إدراك أصولها والاتصال بحكمها ومقاصدها، ولم تتلخص له بعد، لا يصح4 منه الاجتهاد فيما هو ناظر فيه؛ لأنه لم يتخلص له مسند4 الاجتهاد، ولا هو منه على بينة بحيث ينشرح صدره بما يجتهد فيه، فاللازم له الكف والتقليد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بسره وحكمته. "د".
2 أي: مفصلًا. "د".
3 وضع ناسخ الأصل فوق كلمة الطالب: "مبتدأ"، وفوق كلمة لا يصح. "خبر".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "مسند".

 

ج / 5 ص -225-       والثاني: أن ينتهي بالنظر إلى تحقيق1 معنى ما حصل على حسب ما أداه إليه البرهان الشرعي، بحيث يحصل له اليقين ولا يعارضه شك، بل تصير الشكوك -إذا أوردت عليه- كالبراهين2 الدالة على صحة ما في يديه، فهو يتعجب3 من المتشكك في محصوله كما يتعجب من ذي عينين لا يرى ضوء النهار لكنه استمر به4 الحال إلى أن زل محفوظه5 عن حفظه حكمًا، وإن كان موجودا عنده، فلا يبالي في القطع على المسائل، أنص عليها أو على خلافها أم لا.
فإذا حصل الطالب على هذه المرتبة6، فهل يصح منه الاجتهاد في الأحكام الشرعية أم لا؟ هذا محل نظر والتباس، ومما يقع فيه الخلاف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويكون ذلك بتمام علمه بالمراتب الثلاث: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات، ومكملاتها، واستقصاء انبثاثها في أبواب الشريعة، بحيث تكون ميزانًا يزن به كل ما يرد عليه من قواعد الشريعة وتفاصيلها المنصوص على أدلتها من كتاب وسنة... إلخ. "د".
2 لأن دفع الشكوك عن العقيدة بسهولة مما يزيد صاحب العقيدة ثباتًا ورسوخًا في اعتقاده، حيث إن ما يورد عليه فيها لا يجد صعوبة في دفعه. "د".
3 في "ط": "يعجب".
4 في الترقي لإدراك مقاصد الشريعة وأصولها، حتى صار تعلقه بتلك الكليات وكأن محفوظاته من النصوص الجزئية والقواعد الشرعية غابت عن حافظته، وإن كانت في الواقع لا تزال عنده، إلا أن همته منصرفة إلى التعويل على كليات المقاصد وأصول الشريعة، حتى إنه لا يبالي في استنباطه الحكم: أنص على دليله الخاص أم لا؟ بل لو نص على دليل خلافه، لكان حكمه عنده مقتضى الكليات ولو خالفت النص؛ لأنه لم يصل بعد إلى ملاحظة الخصوصيات مع الكليات، فهذه مرتبة متوسطة بين المرتبة الأولى والثالثة الآتية، ومثاله يأتي في إعمال ذي الرأي رأيه مطلقًا، حتى إذا خالفه نص جزئي رده إلى الكلي الذي اعتمده. "د".
5 أي: من الأدلة التفصيلية ومن القواعد الشرعية التي سماها سبابقًا جزئيًا إضافيًا. "د".
6 وليكن على البال أن الفرض أنه وصل لهذه المرتبة باستقصائه بنفسه موارد الشريعة، حتى صار مجتهدًا في الأصول، فمن عرف الأصول تقليدًا لغيره مهما قتلها خبرة، فليس من أهل هذه المرتبة. "د".

 

ج / 5 ص -226-       وللمحتج للجواز أن يقول: إن المقصود الشرعي إذا كان هذا الطالب قد صار له أوضح من الشمس، وتبينت له معاني النصوص الشرعية حتى التأمت وصار1 بعضها عاضدًا للبعض، ولم يبق عليه في العلم بحقائقها مطلب2، فالذي حصل عنده هو كلية الشريعة، وعمدة النحلة، ومنبع التكليف، فلا عليه أنظر في خصوصياتها المنصوصة3 أو مسائلها الجزئية أم لا؛ إذ لا يزيده النظر في ذلك زيادة؛ إذ لو كان كذلك، لم يكن واصلًا بعد إلى هذه المرتبة، وقد فرضناه واصلًا، هذا خلف.
ووجه ثان، وهو أن النظر في الجزئيات والمنصوصات إنما مقصوده التوصل إلى ذلك4 المطلوب الكلي الشرعي، حتى يبني عليه فتياه ويرد إليه حكم اجتهاده، فإذا كان حاصلًا، فالتنزل إلى الجزئيات طلب لتحصيل الحاصل، وهو محال.
ووجه ثالث5، وهو أن كلي المقصود الشرعي إنما انتظم له من التفقه في الجزئيات والخصوصيات وبمعانيها ترقى إلى ما ترقى إليه، فإن تكن في الحال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"ماء": "صارت".
2 فقد عرف الضروري والحاجي والتحسيني ومكملاتها في سائر الأبواب، وصار لا يخفى عليه من ذلك شيء، فصارت مقاصد الشارع في سائر الأبواب متميزة عنده كل التميز. "د".
3 أي: الوارد فيها الأدلة التفصيلية، وقوله: "أو مسائلها الجزئية"، أي: الإضافية، وهي القواعد المتعلقة بالأبواب الفقهية. "د".
4 تقدم بيانه بتوسع في المسألة الأولى من كتاب الأدلة في قوله: "فإن قيل: الكلي لا يثبت كليًا إلا من استقراء الجزئيات كليًا أو أكثرها، فالنظر بعد ذلك إلى الجزيئات عناء... إلخ". "د".
5 هذا الوجه لا يسلم أنه قطع النظر عن الجزئي، بل يقول: إنه منظور إليه وحاكم في الواقع، وما قبله يقول: لا مقتضى للنظر إليه بعد أن تكون الكلي من جزئياته، فالنظر فيه تحصيل حاصل. "د". وسقطت "وهو" من"ط".

 

ج / 5 ص -227-       غير حاكمة عنده لاستيلاء المعنى الكلي، فهي حاكمة في الحقيقة؛ لأن المعنى الكلي منها انتظم، ولأجل ذلك لا تجد صاحب هذه المرتبة يقطع بالحكم بأمر إلا وقامت1 له الأدلة الجزئية عاضدة وناصرة، ولو لم يكن كذلك لم تعضده ولا نصرته، فلما كان كذلك، ثبت أن صاحب هذه المرتبة2 متمكن جدًّا من الاستنباط والاجتهاد، وهو المطلوب.
وللمانع أن يحتج على المنع من أوجه:
- منها: أن صاحب هذه المرتبة إذا فاجأته حقائقها، وتعاضدت مراميها، واتصل له بالبرهان ما كان منها عنده مقطوعًا حتى صارت الشريعة في حقه أمرًا متحدًا ومسلكًا منتظمًا، لا يزل عنه من مواردها فرد، ولا يشذ له عن الاعتبار منها خاص إلا3 وهو مأخوذ بطرف لا بد من اعتباره عن طرف آخر لا بد أيضًا من اعتباره؛ إذ قد تبين في كتاب الأدلة أن اعتبار الكلي مع اطراح الجزئي خطأ كما في العكس، وإذا كان4 كذلك، لم يستحق من هذا حاله أن يترقي إلى درجة الاجتهاد حتى يكمل ما يحتاج إلى تكميله.
- ومنها: أن للخصوصيات5 خواص يليق بكل محل منها ما لا يليق بمحل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: وإن لم يتنبه إليها عند الاستنباط، وسيأتي للمانع أن ينازعه في اطراد هذا بالحجة الثانية والثالثة. "د".
2 في "ط": "الرتبة".
3 لعل هنا سقطًا حاصله: "لا يترك النظر إلى الجزئي"، وهو جواب إذا، أي إن صاحب هذه الرتبة متحقق بركن من أركان الاجتهاد، غير حاصل على الركن الآخر، وهو اعتبار الجزئي. "د".
4 هذه هي القضية الكبرى في الدليل، فهي بمنزلة قوله: "وكل من كان كذلك، لم يستحق درجة الاجتهاد. "د".
وكتب "ف": "إعادة للشرط قبله، وجوابه قوله: "لم نستحق... إلخ"".
5 في "ط": "للخصوصية".

 

ج / 5 ص -228-       آخر كما في النكاح مثلًا، فإنه لا يسوغ أن يجري مجرى المعاوضات1 من كل وجه، كما أنه لا يسوغ أن يجري مجرى الهبات والنحل من كل وجه، وكما في مال العبد2، وثمرة الشجرة، والقرض، والعرايا، وضرب الدية على العاقلة، والقراض، والمساقاة، بل لكل باب ما يليق به، ولكل خاص خاصية تليق به لا تليق بغيره، وكما في الترخصات3 في العبادات والعادات وسائر الأحكام.
وإذا4 كان كذلك -وقد علمنا أن الجميع يرجع مثلًا إلى حفظ الضروريات والحاجيات والتكميليات-، فتنزيل5 حفظها في كل محل على وجه واحد لا يمكن، بل لا بد من اعتبار خصوصيات الأحوال والأبواب، وغير ذلك من الخصوصيات الجزئية فمن كانت عنده الخصوصيات في حكم التبع الحكمي، لا في حكم المقصود العيني بحسب كل نازلة، فكيف يستقيم له جريان ذلك الكلي، وأنه هو مقصود الشارع؟ هذا لا يستمر مع الحفظ على مقصود الشارع.
- ومنها: أن هذه المرتبة يلزمها إذا6 لم يعتبر الخصوصيات ألا يعتبر محالها7 وهي أفعال المكلفين، بل كما يجري الكليات في كل جزئية على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مع أنهما من مرتبة واحدة، وهي مرتبة الحاجيات. "د".
2 هو وما بعده من المستثنيات من القواعد المانعة، وتقدو له أننا لو طردنا الباب في كل الضروريات لأجل ذلك بالحاجيات أو الضروريات، أما إذا اعتبرنا في كل رتبة ما يليق بها، فإن ذلك يكون محافظة على تلك الرتبة وعلى غيرها من الرتب، فلا بد إذن من اعتبار الجزئيات. "د".
3 وتقدم له أن الترخصات الهادمة للعزائم إعمال لقاعدة الحاجيات في الضروريات؛ لأن هذه الرتب يخدم بعضها بعضًا ويقيد بعضها بعضًا. "د".
4 في "د": "وإن".
5 في "ط": "فتنزل".
6 أي: يلزمها ما ذكر، فاللازم مضمون هذه الجملة الشرطية. "ف". وفي "ط": "أن صاحب هذه... يلزمه إذا...".
7 في "ط": "محلها".

 

ج / 5 ص -229-       الإطلاق يلزمه أن يجريها في كل مكلف على الإطلاق من غير اعتبار بخصوصياتهم، وهذا لا يصح كذلك على ما استمر عليه الفهم في مقاصد الشارع، فلا يصح مع هذا1 إلا اعتبار خصوصيات الأدلة، فصاحب هذه المرتبة لا يمكنه التنزل إلى ما2 تقتضيه رتبة المجتهد، فلا يستقيم مع هذا أن يكون من أهل الاجتهاد.
وإذا تقرر أن لكل احتمال مأخذًا، كانت المسألة بحسب النظر الحقيقي فيها باقية الإشكال3.
ومن أمثلة هذه المرتبة مذهب من نفى القياس جملة وأخذ بالنصوص على الإطلاق، ومذهب من أعمل القياس على الإطلاق ولم يعتبر ما خالفه من الأخبار جملة، فإن كل واحد من الفريقين غاص به الفكر في منحى شرعي مطلق عام اطرد له4 في جملة الشريعة اطرادًا لا يتوهم معه في الشريعة نقص5 ولا تقصير، بل على مقتضى قوله:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} [المائدة: 3].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: اعتبار خصوصيات المكلفين لا يصح معه إلا اعتبار خصوصيات الأدلة. "د".
2 وهو النظر في الجزئيات والخصوصيات وتفاصيل الأدلة. "د".
3 أي: فلا يمكن الحكم لصاحب هذه المرتبة أو عليه بأهليته للاجتهاد أو عدمها والمؤلف هنا تردد، ولكنه في المسألة الأولى من كتاب الأدلة جزم بالمنع، وقال "3/ 180": "فالحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها"، وضرب مثلًا بمسألة العسل الذي شربه الصفراوي مع الآية الكريمة، إلى أن قال "3/ 183": "فلا يصح إهمال النظر في هذه الأطراف، فإن فيها جملة الفقه، ومن عدم الالتفات إليها أخطأ من أخطأ "، وبالجملة إنما تتضح هذه المسألة تمام الاتضاح بمراجعة تلك المسألة، فراجعها. "د".
قلت: انظرها في "3/ 171 وما بعد".
4 أي: حتى وصل إلى كلية أصولية هي اعتبار القياس عند أحدهما وعند الثاني اعتبار الأدلة التفصيلية لا غير. "د".
5 في ماء: "نقض"، بالضاد المعجمة.

 

ج / 5 ص -230-       فصاحب الرأي يقول: الشريعة كلها ترجع إلى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم، وعلى ذلك دلت أدلتها عمومًا وخصوصًا، دل على ذلك الاستقراء، فكل فرد جاء مخالفًا فليس بمعتبر شرعًا؛ إذ قد شهد الاستقراء بما يعتبر1 مما لا يعتبر، لكن على وجه كلي عام، فهذا الخاص المخالف يجب رده وإعمال مقتضى الكلي العام؛ لأن دليله قطعي، ودليل الخاص ظني فلا يتعارضان.
والظاهري يقول: الشريعة إنما جاءت لابتلاء المكلفين أيهم أحسن عملًا، ومصالحهم تجري على حسب ما أجراها الشارع، لا على حسب أنظارهم2، فنحن من اتباع مقتضى النصوص على يقين في الإصابة، من حيث إن الشارع إنما تعبدنا بذلك وإتباع المعاني رأي، فكل ما خالف النصوص منه غير معتبر؛ لأنه أمر خاص مخالف لعام الشريعة، والخاص الظني لا يعارض العام القطعي.
فأصحاب الرأي جردوا المعاني3، فنظروا في الشريعة بها، واطرحوا خصوصيات الألفاظ، والظاهرية جردوا مقتضيات الألفاظ، فنظروا في الشريعة بها، واطرحوا خصوصيات المعاني القياسية، ولم تتنزل واحدة من الفرقتين4 إلى النظر فيما نظرت فيه الأخرى بناء على كلي ما اعتمدته في فهم الشريعة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو ما كان من مقاصد الشارع في المراتب الثلاثة. "د".
2 أي: التي من شأنها أن تختلف في الحكم على الشيء الواحد بأنه مصلحة أو مفسدة. "د".
3 أي: الأسرار والحكم والمصالح والمفاسد التي فهموها مقصدًا للشارع من استقرائهم لموارد الشريعة، أما الظاهرية، فلم يلتفتوا إلى الحكم والأسرار والتفتوا إلى مدلولات التراكيب، ووقفوا عندها ولو كانت في نظرها مخالفة لما يفهمونه مصلحة. "د".
4 في "ماء": "الفريقين".

 

ج / 5 ص -231-       ويمكن أن يرجع إلى هذا القبيل1 ما خرج ثابت في "الدلائل" عن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: "وجدت في كتاب جدي: "أتيت مكة، فأصبت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة، فأتيت أبا حنفية فقلت له: ما تقول في رجل باع بيعًا واشترط شرطًا قال: البيع باطل، والشرط باطل. وأتيت ابن أبي ليلى، فقال: البيع جائز والشرط باطل. وأتيت ابن شبرمة، فقال: البيع جائز. والشرط جائز، فقلت: سبحان الله! ثلاثة من فقهاء الكوفة يختلفون علينا في مسألة! فأتيت أبا حنيفة فأخبرته بقولهما، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط2، فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بقولهما، فقال: لا أدري ما قالا، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اشتري بريرة واشترطي3 لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق"4، فأجاز البيع وأبطل الشرط. فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بقولهما، فقال: ما أدري ما قالاه5، حدثني مسعود بن حكيم، عن محارب بن دثار، عن جابر بن عبد الله، قال: "اشترى مني رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة6 فشرطت حملاني، فأجاز البيع والشرط"7 اهـ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو مطلق الاعتماد على الكليات واطراح الجزئيات، وليس المراد أن هؤلاء الأئمة الثلاثة منهم من نظر إلى المعاني واطرح خصوصيات الألفاظ كأصحاب الرأي، ومنهم من نظر إلى مقتضيات الألفاظ كالظاهرية، كلا، بل جميعهم تمسك بدليل اللفظي في الأحاديث الثلاثة. "د".
2 مضى تخريجه "1/ 427".
3 في الأصل: "فاشترطت"، وكتب "ف": "أي: اقبلي منهم هذا الشرط والتزميه".
4 مضى تخريجه "1/ 427".
5 في "م" و"ط": "قالا" من غير ماء.
6 المعروف في قصة جابر: "جمل" لا ناقة. "د".
7 مضى تخريجه "ص206"، وأورد القصة المذكورة ابن السيد في "التنبيه" "ص115-117"، ومثال آخر على وزانه تجد الإشارة إليه في هامش "بذل المجهود" "12/ 297".

 

ج / 5 ص -232-       فيجوز أن يكون كل واحد منهم اعتمد1 في فتياه على كلية ما استفاد من حديثه، ولم ير غيره من الجزئيات معارضًا، فاطرح الاعتماد عليه، والله أعلم.
و[الحال] الثالث: أن يخوض فيما خاض فيه الطرفان ويتحقق بالمعاني الشرعية منزلة على الخصوصيات الفرعية، بحيث لا يصده التبحر في الاستبصار بطرف عن التبحر في الاستبصار بالطرف الآخر، فلا هو يجري على عموم واحد منهما دون2 أن يعرضه على الآخر، ثم يلتفت مع ذلك إلى تنزل3 ما تلخص له على ما يليق في أفعال المكلفين، فهو في الحقيقة راجع إلى الرتبة التي ترقى منها، لكن بعلم المقصود الشرعي في كل جزئي فيها عمومًا وخصوصًا.
وهذه الرتبة لا خلاف في صحة الاجتهاد من صاحبها، وحاصله أنه متمكن فيها، حاكم لها، غير مقهور فيها، بخلاف ما قبلها، فإن صاحبها محكوم عليه فيها، ولذلك قد تستفزه معانيها4 الكلية عن الالتفات إلى الخصوصيات، وكل رتبة حكمت على صاحبها دلت على عدم رسوخه فيها، وإن كانت محكومًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على رأيه يكونون مصححين للفتيا من رأس الكلية، وقائلين بأن النظر إلى الجزئي ليس بلازم، وهل يصح أن يأخذ كل منهم كليته من حديث واحد؟ إن هذا بعيد، والقريب أن يكون كل منهم استند إلى الحديث الذي رواه، ولم يعتمد على ما رواه غيره، إما لعدم روايته له، أو لعدم صحة الحديث عنده، أو لمرجع آخر من المرجحات الكثيرة عند تعارض الأحاديث في السند أو في المتن أو بخارج عنهما، وربما أيد الاحتمال الأول قول كل "لا أدري ما قالاه"، فالتمثيل بهذه القصة للمقام الذي هو بصدده غير ظاهر. "د".
قلت: قال ابن السيد قبل هذه القصة: "ومما اختلفت فيه أقوال الفقهاء لأخذ كل واحد منهم بحديث مفرد اتصل به، ولم يتصل به سواه".
2 كما سبق أن المرتب يخدم بعضها بعضًا، ويقيد بعضها بعضًا. "د".
3 أي: فلا بد في النظر في محال الخصوصيات، وأهي أفعال المكلفين، فلا يكونون عنده سواء، بل كل وما يليق به كما أشار إليه آنفًا في حجج المانع. "د".
4 أي: تخرجه تلك المعاني الكلية عن الالتفات إلى الخصوصيات. "ف".

 

ج / 5 ص -233-       عليها تحت نظره وقهره، فهو صاحب التمكين والرسوخ، فهو الذى يستحق الانتصاب للاجتهاد، والتعرض للاستنباط، وكثيرًا ما يختلط أهل الرتبة، الوسطى بأهل هذه الرتبة، فيقع النزاع في الاستحقاق أو عدمه، والله أعلم.
ويسمى صاحب هذه المرتبة: الرباني، والحكيم، والراسخ في العلم والعالم، والفقيه، والعاقل؛ لأنه يربي بصغار العلم قبل كباره، ويوفي كل أحد حقه حسبما يليق به، وقد تحقق بالعلم وصار له كالوصف المجبول عليه، وفهم عن الله مراده [من شريعته].
ومن خاصيته1 أمران:
أحدهما: أنه يجيب السائل على ما يليق [به]2 في حالته على الخصوص إن كان له في المسألة حكم خاص، بخلاف صاحب الرتبة الثانية، فإنه إنما يجيب من رأس الكلية من غير اعتبار بخاص.
والثاني: أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات، وصاحب الثانية لا ينظر في ذلك، ولا يبالي بالمآل إذا ورد عليه أمر أو نهي أو غيرهما، وكان في مساقه كليًا، ولهذا الموضع أمثلة كثيرة تقدم منها جملة من مسألة الاستحسان ومسألة اعتبار المآل، وفي مذهب مالك من ذلك كثير3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "خاصته"، وفي "ماء" بالحاء: "حاصيته".
2 سقط من "ط".
3 لما تقدم أنه يقول بالمصالح المرسلة التي يكون النظر فيها إلى جزئي في مقابلة الكلي. "د".

 

ج / 5 ص -234-       المسألة الرابعة عشرة:
تقدم التنبيه على طرف من الاجتهاد الخاص بالعلماء والعام لجميع المكلفين، ولكن لا بد من إعادة شيء من ذلك على وجه يوضح النوعين، ويبين جهة المأخذ في الطريقين.
وبيان ذلك أن المشروعات المكية وهي الأولية كانت في غالب الأحوال مطلقة غير مقيدة، وجارية على ما تقتضيه مجاري العادات عند أرباب العقول، وعلى ما تحكمه1 قضايا مكارم الأخلاق، من التلبس بكل2 ما هو معروف في محاسن العادات، والتباعد عن كل ما هو منكر في محاسن العادات، فيما سوى ما العقل معزول عن تقريره جملة من حدود الصلوات وما أشبهها3، فكان أكثر ذلك موكولًا إلى أنظار المكلفين في تلك العادات، ومصروفًا إلى اجتهادهم ليأخذ كل بما لاق به وما قدر عليه من تلك المحاسن الكليات، وما استطاع من تلك المكارم في التوجه بها للواحد المعبود، من إقامة الصلوات فرضها ونفلها حسبما بينه الكتاب والسنة، وإنفاق الأموال في إعانة المحتاجين، ومؤاساة الفقراء والمساكين من غير تقدير مقرر في الشريعة، وصلة الأرحام قربت أو بعدت، على حسب ما تستحسنه العقول السليمة في ذلك الترتيب، ومراعاة حقوق الجوار وحقوق الملة الجامعة بين الأقارب والأجانب، وإصلاح ذات البين بالنسبة إلى جميع الخلق، والدفع بالتي هي أحسن، وما أشبه ذلك من المشروعات المطلقة التي لم ينص على تقييدها بعد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يخفى موقع كلمة "تحكمه" التي تفيد أنه ليس المراد من المكارم ما يختلف فيها العرف والأزمان، فتكون مكرمة في زمن ثم تنسخ، فيكون ضدها مكرمة في زمن آخر، ويلوح إلى ذلك قوله بعد: "أو من كان عادة في الجاهلية... إلخ". "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "من كل"، وكتب "ف": "لعله: بكل، يقال: تلبس بالأمر، خالطه".
3 أي: من تفاصيل التعبدات. "د".

 

ج / 5 ص -235-       وكذلك الأمر فيما نهي عنه من المنكرات والفواحش، على مراتبها في القبح، فإنهم كانوا مثابرين على مجانبتها مثابرتهم على التلبس بالمحاسن.
فكان المسلمون في تلك الأحيان آخذين فيها بأقصى مجهودهم، وعاملين على مقتضاها بغاية موجودهم1، وهكذا بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وبعد وفاته وفى زمان التابعين. إلا أن خطة الإسلام لما اتسعت، ودخل الناس في دين الله أفواجًا ربما وقعت بينهم مشاحات في المعاملات، ومطالبات بأقصى ما يحق لهم في مقطع الحق، أو عرضت لهم خصوصيات ضروريات2 تقتضي أحكامًا خاصة، أو بدرت3 من بعضهم فلتات في مخالفة المشروعات، وارتكاب الممنوعات، فاحتاجوا عند ذلك إلى حدود تقتضيها تلك العوارض الطارئة، ومشروعات تكمل لهم تلك المقدمات، وتقييدات تفصل لهم بين الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات؛ إذ كان أكثرها جزئيات4 لا تستقل بإدراكها العقول السليمة، فضلًا عن غيرها، كما لم تستقل بأصول العبادات وتفاصيل التقربات، ولا سيما حين دخل في الإسلام من لم يكن لعقله ذلك5 النفوذ من عربي أو غيره، أو من كان على عادة في الجاهلية وضري6 على استحسانها فريقه ومال إليها طبعه وهي في نفسها على غير ذلك، وكذلك الأمور التي كانت لها في عادات الجاهلية جريان لمصالح رأوها وقد شابها مفاسد مثلها أو أكثر، هذا إلى7 ما أمر الله به

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مقدورهم. "ف".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "ضرورات".
3 كذا في "ط"، وفي غيره: "بدت".
4 أي: إضافية. "د".
5 في الأصل: "تلك".
6 بفتح فكسر: اعتاد، والفريق طائفة من الناس، أي: اعتاد قومه اسحسانها. "ف".
7 أي: فالجهاد تشريع مدني جديد، وليس تفصيلًا وتكميلًا لما سبق في مكة؛ لأنه لم يكن سببه قد تم في مكة وهو ظاهر وإن كان قد يتنافى مع ما سبق له في المسألة الثامنة1 من كتاب =
1 في الأصل: "الثانية"، وهو خطأ.

 

ج / 5 ص -236-       ......................

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأدلة حيث قال هناك "3/ 240": "والجهاد شرع بالمدينة فرع من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مقرر بمكة، كقوله:
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَر} "لقمان: 17"، وهو توجيه منه لتلك المسألة التي تقول "3/ 236": "كلما وجدت في المدنيات كلياً، فإنه جزئي بالنسبة إلى ما هو أتم منه أو تكميل لأصل كلي"، وقد يقال: لامنافاة؛ لأن ما قبل الجهاد في كلامه من أنواع المشروعات المكية كان مذكوراً بنفسه ومقرراً نوعه، إلا أنه قيد مثلاً، وبين وفصل بالمدينة أما الجهاد، فهو وإن كان مندرجاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنه اندراج أشبه بالاندراج الذهني المحض، الذي لم يتحقق في الخارج على أي وجه كان في مكة، بخلاف الأنواع السابقة، فإنها بنفسها شرعت مطلقة، فاحتاجت إلى التقليد والبيان... إلخ، فلذلك عد تشريع الجهاد في المدينة تشريعا جديدا، بخلافها، ولكن يبقى قوله: "وإلى الأمر بالمعروف... إلخ"، وعطفه على قوله: "إلى أمر الله" الذي يقتضي أنه شرع بالمدينة، وقد عرفت فيما نقلناه عنه آنفاً أنه مقرر في مكة كما ورد في سورة لقمان، إلا أن يقال: "إنه ليس عطفا مغايرا حتي يلزم منه أن يكون مطلق الأمر بالمعروف نوعا آخر تشريعه بالمدينة جديد، بل غرضه عطف التفسير وبيان منزلة الجهاد، وأنه أعلى مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكأنه قال: "الذي هو أعلى مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ليجتمع كلامه هنا وهناك.
ولنوسع الكلام بمقدار ما يتضح المقام: جاء في سورة العنكبوت:
{مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت: 6]، قال بعض المفسرين: جاهد جهاد النفس، وقال بعضهم: بل الأعم من جهاد الغزو، وجاء في آخر السورة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، قالوا: أطلق الجهاد ليعم الأمرين، ولم يشذ عن هذا إلا من قال: الجهاد في الآية الثبات على الإيمان، ومن قال: خاص بجهاد الغزو والسورة كلها مكية لم يشذ عن القول بمكيتها؛ إلا من قال: ما عدا الآيات العشر الأول، ومن قال: بل كلها مدنية، وينبني على هذا أن السورة إذا كانت كلها مكية أو إلا العشر الآيات التي منها {وَمَنْ جَاهَد}، وكان إطلاق الجهاد في آخرها ليعم الامرين؛ يكون تشريع الجهاد مكياً بالنص عليه بخصوصه لا بمجرد دخوله في آية الأمر بالمعروف غايته أنه مجمل من جهة الوقت، ولا يتمشى كلامه هنا وفيما سبق إلا على أحد وجهين: إما أن تكون السورة كلها مدنية، أو يكون معنى الجهاد لا يشمل الغزو، ولا يخفى ما في الوجهين من الضعف ومخالفة الجمهور. =

 

ج / 5 ص -237-       من فرض الجهاد حين قووا على عدوهم وطلبوا1 بدعائهم الخلق إلى الملة الحنيفية، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فأنزل الله تعالى ما يبين لهم كل ما احتاجوا إليه بغاية البيان: تارة القرآن، وتارة بالنسبة؛ فتفصلت تلك المجملات المكية، وتبينت تلك المحتملات، وقيدت تلك المطلقات، وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات ليكون ذلك الباقي المحكم قانونا مطردا وأصلا مستنا2، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وليكون ذلك تماماً

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= نعم، قال المفسرون: إن أول آية نزلت في الأمر بالجهاد آية:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]، وسورة الحج قيل: مدينة، وقيل: مكية، والأصح أنها مركبة من مدني ومكي، ولم يحققوا تمييز المكي من المدني فيها*، وقال بعضهم: أول آية نزلت في الأمر به: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] في سورة البقرة المدنية قطعاً؛ فكيف يجمع بين ما قالوه في الآيتين مع ما قولوه في آيات العنكبوت؟ فما قالوه في آيات البقرة يؤيد ما بنى عليه المؤلف كلامه هنا وفيما سبق، ويخالف ما قالوه في العنكبوت؛ فنقول: إن الجهاد قرر في مكة فضله؛ وأثنى عليه الثناء الذي يستلزم مشروعيته، ولوح ألى أنه سيكون نافذاً إذا جاء وقته، وكمل الاستعداد له، فلما جاء وقته رخص فيه بأية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]، وقد كانموا يجيئونه صلى الله عليه وسلم بمكة هذا مشجوج الرأس، وهذا مجروح، وهذا مهان؛ فيقول لهم: "لم يؤذن لي**، بل جاء النهي عنه في جملة آيات، ثم جاءت آيات البقرة بالطلب الأكيد بالقتال وتفاصيل أحواله، فلما كان الإذن والطلب الأكيد بالقيام به إنما جاء بالمدينة؛ قال المفسرون: إنه تشريع مدني، إلا انه كان الأولى للمؤلف هنا وفيما سبق أن يجعله من الكليات المشروعة في مكة بنفسه لا بمجرد دخوله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كنت عرفت وجه صنيعه. "د".
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "وطلبوا".
2 في "ط": "مستثنياً".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* انظر تحقيق ذلك وتفصيله عند الداني في: "البيان في عد آي القرآن" "ص189".
** قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" 2/ 388": "غريب جداً، وعزاه الواحدي في "الوسيط" "3/ 273"، للمفسرين، وقال ابن حجر في الكافر الشاف" "ص113": "لم أجده هكذا"، ثم قال: "وهو منتزع من أحاديث...". وبينها وهي مقطوعات، وانظر: "البداية والنهاية" "3/ 64".

 

ج / 5 ص -238-       لتلك الكليات المقدمة، وبناء على تلك الأصول المحكمة، فضلًا من الله ونعمة. فالأصول الأول باقية لم تتبدل ولم تنسخ؛ لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات وما لحق بها، وإنما وقع النسخ أو البيان على وجهه1 عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات.
وهذا كله ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية مع الأحكام المدنية، فإن الأحكام المكية مبنية على الإنصاف من النفس، وبذل المجهود في الامتثال بالنسبة إلى حقوق الله أو حقوق الآدميين.
وأما الأحكام المدنية، فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات، والرخص والتخفيفات وتقرير العقوبات -في الجزئيات لا الكليات، فإن الكليات كانت مقررة محكمة2 بمكة-، وما أشبه ذلك، مع بقاء الكليات المكية على حالها، وذلك3 يؤتى بها في السور المدنيات تقريرًا وتأكيدًا، فكملت جملة الشريعة والحمد لله بالأمرين وتمت واسطتها بالطرفين، فقال الله تعالى عند ذلك:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وإنما عنى الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزئيات التي هي مظان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "وجوهه".
2 كما في قوله تعالى:
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ}... إلخ "الأنعام: 160"، وكما في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ}... إلى قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا}... إلخ "هود: 106"، وكما في آيات: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} "الإسراء: 23"، والتذيلات التي جاءت عقبها، وقوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}... إلخ "النازعات: 37"، ومثله كثير في تقرير الجزاءات الكلية. "د".
3 كذا في "ط" -وفيه أيضًا: "... السور المدنية"- وفي غيره: "وذلك"، وكتب "د": "لعله: "ولذلك".

 

ج / 5 ص -239-       التنازع والمشاحة والأخذ بالحظوظ الخاصة، والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة، وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط الفصل بين ما أحل الله وما حرم، حتى لا يتجاوزوا ما أحل الله إلى ما حرم، فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة، حين صار التشاح ربما أدى إلى مقاربة الحد الفاصل، فهم يزعونهم عن [مقاربته ويمنعونهم عن] مداخلة الحمى، وإذا زل أحدهم يبين له الطريق1 الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم2 تارة بالشدة3، وتارة باللين4 فهذا النمط هو كان مجال اجتهاد الفقهاء، وإياه تحروا.
وأما سوى ذلك مما هو من أصول مكارم الأخلاق فعلًا وتركًا، فلم يفصلوا القول فيه لأنه غير محتاج إلى التفصيل، بل الإنسان في أكثر الأمر يستقل بإدراك العمل فيه؛ فوكلوه إلى اختيار المكلف واجتهاده؛ إذ كيف ما فعل فهو جار على موافقة أمر الشارع ونهيه، وقد تشتبه فيه أمور ولكن بحسب قربها من الحد الفاصل؛ فتكلم الفقهاء عليها من تلك الجهة فهو من القسم الأول، فعلى هذا كل من كان بعده من ذلك الحد أكثر كان اعراقه في مقتضى الأصول الكلية أكثر.
وإذا نظرت إلى أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله تبين لك فرق ما بين القسمين، وبون ما بين المنزلتين، وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من الكفارات وغيرها. "د".
2 الحجز؛ بضم، ففتح: جمع حجزة؛ بضم، فسكون، وهي موضع شد الإزارة، والمراد هنا التمسك والتعلق. "ف".
"3 و4" يحتاج إلى بيان؛ فإن ذلك إنما يظهر في مواطن الوعظ بالترغيب والترهيب، لا في الاجتهاد؛ إلا أن يقال: إن ذلك يظهر في الاجتهاد بمعنى تحقيق المناط الخاص لما سبق أنه يختلف باختلاف الأشخاص وما يناسبهم. "د".

 

ج / 5 ص -240-       بمقتضى تلك الأصول، وعلى هذا القسم عول من شهر من أهل التصوف، وبذلك سادوا غيرهم ممن لم يبلغ مبالغهم في الاتصاف بأوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأما غيرهم ممن حاز من الدنيا نصيبا فافتقر إلى النظر في هذه الجزئيات والوقائع الدائرة بين الناس في المعاملات والمناكحات؛ فأجروها بالأصول الأولى على حسب ما استطاعوا، وأجروها بالفروع الثواني حين اضطروا إلى ذلك؛ فعاملوا ربهم في الجميع، ولا يقدر على هذا1 إلا الموفق الفذ، وهو كان شأن معاملات الصحابة كما نص عليه أصحاب السير.
ولم تزل الأصول يندرس العمل بمقتضاها لكثرة الاشتغال بالدنيا والتفريع فيها؛ حتى صارت كالنسي المنسي، وصار طالب العمل بها كالغريب المقصى عن أهله، وهو داخل تحت معنى قوله عليه الصلاة والسلام:
"بدأ هذا الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء"2.
فالحاصل من هذه الجملة أن النظر في الكليات يشارك الجمهور فيه العلماء على الجملة، وأما النظر في الجزئيات فيختص بالعلماء واستقراء ما تقدم من الشريعة يبينه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "ذلك".
2 مضى تخريجه "1/ 151"، وهو صحيح، وفي "ف": "بدا" من غير همز، وكتب "روي مهمزًا وغير مهموز*، أي أنه كان في أول مره كالغريب الوحيد لقلة المسلمين، وسيعود غريبًا كان، أي: يقل المسلمون في آخر الزمان لفساد الناس، وظهور الفتن؛ فطوبى للغرباء أولًا وآخرًا؛ لصبرهم على أذى الكفار، ولزومهم دين الإسلام، وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغرباء؛ فقال: "الذين يحيون ما أمات الناس من سنتى"**، وطوبى لهم؛ أي: قرة عين وخير لهم"، وفي "ط": "بدأ الإسلام".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* انظر في هذا: "شرح النووي" على صحيح مسلم" "2/ 176"، و"التدوين في تاريخ قزوين" "1/ 139".
** ورد هذا التفسير في حديث عمرو بن عوف، أخرجه البزار "رقم 3287 - زوائده"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "رقم 1052، 1053"، والبيهقي في "الزهد" "رقم 207"، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" "ص23"، وابن عبد البر في "الجامع" "2/ 120"، وعياض في "الإلماع" "ص18-19" بإسناد واه، وقد صح تفسير الغرباء بـ"النزاع" من القبائل، كما مضى تخريجه"1/ 151".

 

ج / 5 ص -241-       فصل:
كان المسلمون قبل الهجرة آخذين بمقتضى التنزيل المكي على ما أداهم إليه اجتهادهم وإحتياطهم؛ فسبقوا غاية السبق حتى سموا "السابقين" بإطلاق، ثم لما هاجروا إلى المدينة ولحقهم في ذلك السبق من شاء الله من الأنصار، وكملت لهم بها شعب الإيمان ومكارم الأخلاق، وصادفوا ذلك وقد رسخت في أصولها أقدامهم فكانت المتمات أسهل عليهم؛ فصاروا بذلك نورا حتى نزل مدحهم والثناء عليهم في مواضع من كتاب الله، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقدارهم، وجعلهم في الدين أئمة؛ فكانوا هم القدوة العظمى في أهل الشريعة، ولم يتركوا بعد الهجرة ما كانوا عليه، بل زادوا في الاجتهاد وأمعنوا في الانقياد لما حد لهم في المكي والمدني معًا.
لم تزحزحهم الرخص المدنيات عن الأخذ بالعزائم المكيات، ولا صدهم عن بذل المجهود في طاعة الله ما متعوا به من الأخذ بحظوظهم وهم منها في سعة
{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105].
فعلى1 تقرير2 هذا الأصل من أخذ بالأصل الأول واستقام فيه كما استقاموا فطوبى له، ومن أخذ بالأصل الثاني فبها ونعمت، وعلى الأول جرى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا كالتلخيص لما سبق يبنى عليه مقصده في تفريع طريقة الصوفية عليه بقوله: "فعلى تقرير هذا الأصل من أخذ الأصل الأول... إلخ". "د".
2 في الأصل و"ف": "تقدير".

 

ج / 5 ص -242-       الصوفية الأول1، وعلى الثاني جرى من عداهم ممن لم يلتزم ما التزموه، ومن ههنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من نحلتهم المعروفة؛ فإن الذى يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورا لا توجد عند العامة، ولا هي مما يلزمهم شرعًا؛ فيظن الظان أنهم شددوا على أنفسهم، وتكلفوا ما لم يكلفوا، ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة.
وحاش لله! ما كانوا ليفعلوا ذلك وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة، لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول الإسلام، ونصوص التنزيل المكي [المحكم] الذى لم ينسخ، وتنزيل أعمالهم عليه؛ تبين لك أن تلك الطريق2 سلك هؤلاء، وباتباعها عنوا3 على وجه لا يضاد المدني المفسر.
فإذا سمعت مثلا أن بعضهم سئل عما يجب من الزكاة في مائتي درهم، فقال: "أما على مذهبنا؛ فالكل لله، وأما على مذهبكم؛ فخمسة دراهم"، وما أشبه ذلك؛ علمت أن هذا يستمد مما تقدم؛ فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله، ولم يبين فيه الواجب من غيره، بل وكل إلى اجتهاد المنفق، ولا شك أن منه ما هو واجب، ومنه ما ليس بواجب والاحتياط في مثل هذا4 المبالغة في الإنفاق في سد الخلات وضروب الحاجات، إلى غاية تسكن إليها نفس المنفق؛ فأخذ هذا المسئول في خاصة نفسه بما أفتى به، والتزمه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله: "الأول" تقييد لما عليه من ذمه منهم من المتأخرين؛ كما مضى "1/ 358"، والفرق بين الطائفتين العلم الشرعي المصفى؛ فالأوائل ممن لهم انقطاع إلى الله لم يفعلوا ذلك إلا بعد تحري الحق والصواب بالأدلة والبراهين.
2 لعله: "إن في تلك الطريق". "ف".
3 في ماء": "عللوا".
4 في "د": "في مثل هذه".

 

ج / 5 ص -243-       مذهبًا في تعبده، وفاء بحق الخدمة، وشكر النعمة وإسقاطا لحظوظ نفسه، وقياما على قدم العبودية المحضة حتى لم يبق لنفسه حظا وإن أثبته له الشارع اعتمادا على أن لله خزائن السموات والأرض، وأنه قال: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132].
وقال:
{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذريات: 57].
وقال:
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22].
ونحو ذلك؛ فهذا نحو من التعبد لمن قدر على الوفاء به، ومثله لا يقال في ملتزمه: إنه خارج عن الطريقة، ولا متكلَّف في التعبد، لكن لما كان هذا الميدان لا يسرح فيه كل الناس قيد في التنزيل المدني حين فرضت الزكوات؛ فصارت هي الواجبة انحتامًا، مقدرة لا تتعدى إلى ما دونها، وبقي ما سواها على حكم الخيرة؛ فاتسع على المكلف مجال الإبقاء جوازًا، والإنفاق ندبًا؛ فمن مقل في إنفاقه ومن مكثر؛ والجميع محمودون؛ لأنهم لم يتعدوا حدود الله، فلما كان الأمر على هذا استفسر المسئول السائل ليجيبه عن مقتضى سؤاله.
ومنهم من لا ينتهي في الإنفاق إلى إنفاذ الجميع، بل يبقى بيده ما تجب في مثله الزكاة حتى تجب عليه، وهو مع ذلك موافق في القصد لمن لم يبقِ شيئا، علما بـ"أن في المال حقا سوى الزكاة"1، وهو يتعين تحقيقًا، وإنما فيه الاجتهاد؛ فلا يزال ناظرا في ذلك مجتهدا فيه ما بقي بيده منه شيء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورد هذا اللفظ في حديث أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب الزكاة، باب ما جاء أن في المال حقًا سوى الزكاة" 3/ 48/ رقم 659، 660"، والدارمي في "السنن" "1/ 385" عن فاطمة بنت قيس بإسناد ضعيف، قال الترمذي: "هذا حديث إسناده ليس بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهو أصح"، انظر ما مضى "3/ 64".

 

ج / 5 ص -244-       متحملا1 منه أمانة لا ينفك عنها إلا بنفاذه، أو كالوكيل فيه لخلق الله، سواء عليه أعد نفسه منهم2 أم لا.
وهذا كان غالب أحوال الصحابة، ولم يكن إمساكهم مضادًا لاعتمادهم على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى إلا أن هذا الرأي أجرى على اعتبار سنة الله تعالى في العاديات، والأول ليس للعاديات عنده مزية في جريان الأحكام على العباد.
وأما من أبقى لنفسه حظا فلا حرج عليه، وقد أثبت له حظه من التوسع في المباحات على شرط عدم الإخلال بالواجبات، وهكذا يجب أن ينظر في كل خصلة من الخصال المكية حتى يعلم أن الأمر كما ذكر؛ فالصواب والله أعلم أن أهل هذا القسم3 معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ؛ فيجوز لهم ذلك، بخلاف القسمين الأولين، وهما من لا يأخذ بتسببه أو يأخذ به ولكن على نسبة القسمة ونحوها.
فإن قيل: فلم لا تقع الفتيا بمقتضى هذا الأصل عند الفقهاء؟
فاعلم أن النظر فيه خاص لا عام، بمعنى أنه مبني على حالة يكون المستفتي عليها، وهو كونه يعمل لله ويترك لله في جميع تصاريفه؛ فسقط له طلب الحظ لنفسه، فساغ أن يفتي على حسب حاله؛ لأنه يقول: هذه حالتي، فاحملني على مقتضاها، فلا بد أن يحمله على ما تقضيه4، كما لو قال أحد للمفتي: إني عاهدت الله على أن لا أمس فرجي بيميني، أو عزمت على ألا أسأل أحدا شيئًا، وأن لا تمس يدي يد مشرك، وما أشبه هذا؛ فإنه عقد [عقدًا]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ماء": "محتملًا".
2 في "د": "أمد نفسه منه".
3 في "د": "أهل هذا البلد".
4 في "د": "يحمله... تقضيه".

 

ج / 5 ص -245-       لله على فعل فضل، وقد قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91].
ومدح الله في كتابه الموفين بعهدهم إذا عاهدوا، وهكذا كان شأن المتجردين لعبادة الله؛ فهو مما يطلب الوفاء به ما لم يمنع مانع، وفي الحديث:
"إن خيرا لأحدكم أن لا يسأل من أحد شيئا"1؛ فكان أحدهم يقع له سوطه من يده فلا يسأل أحدًا أن يناوله إياه2.
وقال عثمان: ما مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم3. وقصة حَمِيِّ الدبر4 ظاهرة في هذا المعنى؛ إذ عاهد الله أن لا يمس مشركًا، فحمته الدبر حين استشهد أن يمسه مشرك، الحديث كما وقع5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مضى تخريجه "1/ 501".
2 مضى تخريجه "2/ 500".
3 أخرج الفسوي في "المعرفة والتاريخ" "2/ 488"، وابن قتيبة في "غريب الحديث" "2/ 72"، والطبراني في "الكبير" "1/ 85/ رقم 124"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" ص23، 24" من طرق عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو، عن أبي ثور الفهمي، عن عثمان؛ قال: "لقد اختبأت عند ربي عشرًا...."، وذكر منها: "ولا وضعت يميني على فرجي منذ بايعت بها حبي صلى الله عليه وسلم"، وذكره ابن جرير" في "التاريخ" "4/ 390"، والذهبي في "تاريخ الإسلام" "ص469 – عهد الخلفاء الراشدين"، وابن كثير في "البداية والنهاية" "7/ 210"، وغيرهم.
وأخرجه من طريق آخر بنحوه أبو يعلى في "مسنده" "7/ 45"، والخطيب في "تاريخه" "9/ 339"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "142-143 – ترجمة عمر بن الخطاب".
4 بفتح الحاء، وكسر الميم، وياء مشدده؛ أي: محميه، والدبر؛ بفتح الدال، وكسرها وسكون الباء: النحل والزنابير، وحمي الدبر هو عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري، من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، أصيب يوم أحد؛ فمنعت النحل الكفار منه، وقصته أن المشركين لما قتلوه أرادا أن يمثلوا به؛ فسلط الله عز وجل عليهم الزنابير الكبار تأبر الدارع، فارتدعوا عنه؛ حتى أخذه المسلمون، فدفنوه، وتأبر؛ بكسر الباء: تدفع بإبرتها. "ف".
5 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب منه 7/ 308-309/ رقم =

 

ج / 5 ص -246-       غير أن الفتيا بمثل هذا اختصت بشيوخ الصوفية؛ لأنهم المباشرون لأرباب هذه الأحوال، وأما الفقهاء؛ فإنما يتكلمون في الغالب مع من كان طالبًا لحظه من حيث أثبته له الشارع، فلا بد أن يفتيه بمقتضاه، وحدود الحظوظ معلومة في فن الفقه، فلو فرضنا أحدا جاء سائلا وحاله ما تقدم؛ لكان على الفقيه أن يفتيه بمقتضاه، ولا يقال: إن هذا خلاف ما صرح به الشارع؛ لأن الشارع قد صرح بالجميع، لكن جعل إحدى الحالتين وهى المتكلم فيها من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، ولم يلزمها أحدا؛ لأنها اختيارية في الأصل بخلاف الأخرى العامة؛ فإنها لازمة، فاقتضى ذلك الفتيا بها عموما كسائر ما يتكلم الفقهاء فيه.
فإن قيل: فإذا كانت غير لازمة؛ فلم تقع الفتيا بها على مقتضى اللزوم؟
قيل: لم يفت بها [على]1 مقتضى اللزوم الذى لا ينفك عنه السائل من حيث القضاء عليه بذلك، وإنما يفتي لها وهو طالب أن يلزم نفسه ذلك حسبما استدعاه حاله، وأصل الإلزام معمول به شرعًا؛ أصله النظر والوفاء بالوعد2 في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 3989، وباب غزوة الرجيع 7/ 378-379/ رقم 4086" عن أبي هريرة؛ قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عينًا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت، فانطلقوا..." وفيه أنه قتل و"بعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر؛ فبعث الله عليه مثل الضُّلَّة من الدبر، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء".
وأخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب في الرجل يستأسر 3/ 51/ رقم 2260" مختصرًا، وأحمد في "المسند" "2/ 294، 310-311"، وفي رواية ابن إسحاق: "كان عاصم بن ثابت أعطى الله عهدًا أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركًا أبدًا".
انظر: "فتح الباري" "7/ 384"، وعزاه في "الإصابة" "2/ 245" لـ"الصحيحين" بلفظ ابن إسحاق، وفي هذا نظر، وهو ليس في مسلم، وقول "ف": "يوم أحد" ليس بصحيح.
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "أصله النظر والوفاء بالعهد".

 

ج / 5 ص -247-       التبرعات، ومن مكارم الأخلاق ما هو لازم1؛ كالمتعة في الطلاق، وحديث: "لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره"2.
وكان عليه الصلاة والسلام يعامل أصحابه بتلك الطريقة ويميل بهم إليها؛ كحديث الأشعريين إذا أرملوا3.
وقوله:
"من كان له فضل ظهر؛ فليعد به4 على من لا ظهر له" الحديث بطوله5. وقوله: "من ذا الذى تألى6 على الله لا يفعل الخير؟"7.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ألف محمد بن محمد الحطاب المالكي "ت954هـ" كتابًا بعنوان: "تحرير الكلام في مسائل الالتزام"، وهو مطبوع، وفيه كلام تفصيلي على الفروع المذكورة عند المصنف.
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المظالم، باب لا يمنع جاره أن يغرز خشبة في جداره، 5/ 110/ رقم 2643"، وكتاب الأشربة، باب الشرب من فم السقاء 9/ 60/ رقم 5627"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب غرز الخشب في جدار الجار 3/ 1230/ رقم 1609" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
3 مضى لفظه وتخريجه "2/ 324"، و"أرملوا" أي: تقدمت أزوادهم، يقال: أرمل الرجل والقوم إذا ذهب زادهم. "ف" و"م".
4 "فليعد" –بالدال "المهملة": من عاد يعود، إذا رجع. "ف" و"م".
5 مضى تخريجه "3/ 63".
6 أي: حلف، يقال: تألَّى، يتألَّى، تألِّيًا، وائتلى يأتلي ائتلاء: "إذا" حَلِف. "ف" و"م".
7 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلح، باب هل يشير الإمام بالصلح 5/ 307/ رقم 2705"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب استحباب الوضع من الدين 3/ 1191-1192/ رقم 1557" عن عائشة؛ قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب، عالية أصواتهم، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء، وهو يقول: "والله لا أفعل". فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال:
"أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟" وأبهم مسلم شيخه فيه، انظر له: "غرر الفوائد المجموعة" "ص678-680 - بتحقيقي" لرشد الدين العطار.

 

ج / 5 ص -248-       وإشارته إلى بعض أصحابه أن يحط عن غريمه الشطر من دينه1.
وقد أنزل الله2 في شأن أبي بكر الصديق حين ائتلى أن لا ينفق على مسطح:
{وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} الآية [النور: 22]، وبذلك عمل عمر بن الخطاب في حكمه على محمد بن مسلمة بإجراء الماء على أرضه وقال: "والله؛ ليمرَّنَّ به ولو على بطنك"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب التقاضي والملازمة في المسجد 1/ 551-552/ رقم 457، وكتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض 5/ 73/ رقم 2418، وكتاب الصلح، باب هل يشير الإمام بالصلح 5/ 307/ رقم 2706، وباب الصلح بالدين والعين 5/ 300/ رقم 2710"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب المساقاة، باب استحباب الوضع من الدين 3/ 1192/ رقم 1558" عن كعب بن مالك؛ أنه تقاضى ابنَ أبي حدرد دينا كان له عليه، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد؛ فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف –أي: ستر- حجرته، ونادى كعب بن مالك؛ فقال:
"يا كعب!". فقال: لبيك يا رسول الله. فأشار إليه بيده أن ضع الشطر من دينك. قال كعب: قد فعلت يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم فاقضِهِ".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، 4/ 2129-2137/ رقم 2770" عن عائشة -ضمن حديث الإفك الطويل- وفيه: ".... قال أبو بكر -وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله تعالى:
{وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ}".
3 أخرجه مالك في "الموطأ" "746 – رواية يحيى، ورقم 2897 - رواية أبي مصعب، و358 – رواية محمد بن الحسن" -ومن طريقه الشافعي في "المسند" "2/ 135"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "6/ 157" و"معرفة السنن والآثار" "9/ رقم 12264"- ويحيى بن آدم في "الخراج" "رقم 353" من طريق عمرو بن يحيى المازني عن أبيه، وشط فيه يحيى؛ فقال: "أظنه عن أبيه، ولعله رواه من حفظه"، وإسناد رجاله ثقات؛ إلا أنه مرسل، كما قال البيهقي.
وله طريق أخرى أشار إليها البيهقي وابن عبد البر في "الاستذكار" "22/ 229/ رقم 32544"، ثم ظفرت بها في "الخراج" ليحيى بن آدم "رقم 348، 349، 350"، وهو مرسل أيضًا، أفاده البيهقي.

 

ج / 5 ص -249-       إلى كثير من هذا الباب.
وأخص1 من هذا فتيا أهل الورع إذا علمت درجة الورع في مراتبه؛ فإنه يفتى بما تقتضيه مرتبته، كما يحكى عن أحمد بن حنبل أن امرأة سألته عن الغزل بضوء مشاعل السلطان؛ فسألها: "من أنت؟ فقالت: أخت بشر الحافي. فأجابها بترك الغزل بضوئها"2.
هذا معنى الحكاية دون لفظها.
وقد حكى مطرف3 عن مالك في هذا المعنى؛ أنه قال: "كان مالك يستعمل في نفسه ما لا يُفتي به الناس"4، يعني: العوام، ويقول: "لا يكون العالم عالما حتى يكون كذلك وحتى يحتاط لنفسه بما5 لو تركه لم يكن عليه فيه6 إثم". هذا كلامه.
وفي هذا من كلام الناس والحكايات عنهم كثير والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "وأرخص".
2 ذكره القشيري في "الرسالة" "ص54".
3 نقله عن القاضي عياض في "ترتيب المدارك" "1/ 180 - ط بيروت"، وأسنده الخطيب البغدادي إلي في "الفقيه والمتفقه" "2/ 161".
4 في "تريب المدارك": "ما لا يلتزمه الناس".
5 أي: بفعل ما لو تركه لم يكن آثمًا، ولكن إنصاف من النفس، وإسقاط للحظ. "د".
6 سقطت "فيه" من "م"، وفي "ترتيب المدارك" "..... لو تركه لا يكون عليه فيه إثم".