الواضح في أصول الفقه فصل
في بيان معنى قولِنا: أُصولُ الفِقْهِ
فالفقهُ في الأصل اللغَويِّ: الفَهْمُ، وقيل: العلمُ، قال
سبحانه: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:
44]، وقولُه: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ ضَعِيفًا}
[هود: 91]، أي: لا نفهم، وقالَ - صلى الله عليه وسلم
-:"نَضَّرَ" (1) اللهُ امْرَأً سَمعَ مَقالَتِي فوعاها،
فأَدَّاها كما سَمِعَها، فَرُبَّ حامل فِقهٍ غيرُ فقيهٍ،
ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى مَنْ هو أفْقَهُ منه" (2).
وهو في عُرْفِ قومٍ: عبارةٌ عن فَهْم الأحكامِ الشَّرْعِيَّةِ
بطريق النًظَرِ.
وقال قومٌ: هو العِلْمُ بالأَحكام الشَرعةِ بطريق النَظَر
والاستنباطِ (3).
وأصولُه: هي ما تُبْنَى عليه الأحكام الفِقْهيَّةُ من
الأدلَّةِ على
__________
(1) كتبت في الأصل فوق السطر وتحتها: "رحم".
(2) أخر جه أحمد 4/ 80، 82، والدارمي 1/ 65، وابن ماجه (231)
والحاكم 1/ 87، والطحاوىِ في "مشكل الآثار" 4/ 283، وابن عبد
البر في "جا مع بيان العلم" 1/ 41، والطبراني في الكبير (1451)
و (1544) من حديث جبيربن مطعم.
وفي الباب عن زيد بن ثابت، وا بن مسعود، وأبي الدرداء، وأنس،
وابن عمر وغيرهم.
(3) - وقد ذكر الطوفي عدة تعريفات لمعنى الفقه اصطلاحاً، وما
يرد على كل تعريف، انظر "شرح مختصر الروضة" بتحقيقنا 1/ 133 -
175.
(1/7)
اختلافِ أنواعِها، ومراتِبها: كالكتاب
ومراتب أدلَّتِه؛ من نصٍّ، وظاهرٍ، وعمومٍ، ودليلِ خِطابه،
وفَحْوى خَطابهِ، وَالسُّنةِ ومراتبها، والقياسِ، وقولِ
الصَّحابىِّ- علَى الخلاف- واستصحاب الحالِ مع انقسامِه، فهذه
أصولٌ تَنْبَنِي عليها الأحكامُ (1).
ولا ينصرفٌ إطلاقُ الفقهِ إلى العلم جملةً، بدليل علمِ
النحْوِ، والطب، واللغة، والهَنْدَسةِ، والحِساب؛ فإن العلماءَ
المبرزين فيها لا يَقَعُ عليهم اسمُ الفقهاءِ، ولا علىَ
علومِهم اسمُ الفقهِ (2)، وكذلك العلماءُ بأصولِ الدين،
العارفون بالجواهر، والأعراضِ، والأجناسِ، والأنواع، والخاصةِ،
والفَصْلِ، والاستدلالِ بالشاهدِ على الغائبِ، لا يقعُ علَيهم
اسمُ فقهاءَ؛ لعدم علمِهم بأحكام الشرْع، ولا تسمَّى علومُهم
أصولاً للفقه.
وإن كانت الأدلة التي ذكرنا بالأصولِ تَنْبَنِي على العلوم
التي يُبْنى عليها إثباتُ أصولِ الدين؟ من حَدَثِ العالمِ،
وإثباتِ الضَانعِ، وأنه واحدٌ، وما يَجبُ له، ويجوزُ عليه، وما
لا يجوزُ عليه، وبعْثَةِ الرُّسُلِ وصِدْقِهم، إلى أمثال ذلك،
ولكنْ لمَّا كانت أخص بكَونها أصولًا للدِّين؛ لم يُطْلَقْ
عليها ما انْبَنى على ما دونها من الأصولِ، كما لا يقالُ في
اللغه أصولُ الذينِ، وإن كانتِ الأحكامُ الشرعيةُ مبنيةً على
الألفاظ اللغوية.
__________
(1) وهو ما قاله شيخه أبو يعلى، انظر "العدة"1/ 70، و "شرح
مختصر الروضة" 1/ 125 - 126، و"شرح الكوكب المنير" 1/ 41.
(2) انظر "شرح الكوكب المنير" 1/ 42.
(1/8)
لكنَّ العلماءَ علَّقوا الأسماءَ على
الأقرب والأخصَ دونَ الأبعدِ والأعمِّ، كما فعلوا ذلك في
الأنساب، والدَّلائَلِ، فلم يُحيلُوا بدَلالة الإِجماعِ على
الإِعجازِ الذي هو دليلُ صدقِ النُّبُوَّةِ، لكن احالوا
بحُجَّةِ الإِجماعِ على قولِ الصادق؛ لأنها أقربُ، دونَ
دَلالةِ صدق الصَّادقِ؛ لأنها أبعدُ.
فمَنْ قال: إنه الفهْمُ، تعلقَ بقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفْقهُ منه"، ولا شَكَّ أن
الحاملَ سَبَقَ المحمولَ إليه بالعلمِ بما نَقَلَهُ، لكنَّ
الأفقهَ خبَرَ منه بجودةِ فهمِه ما لم يَخبُرْه.
واعتلَّ من قال: إنه العلمُ- وهو المعوَّلُ (1) عليه عند
علمائِنا- بأن الفهمَ قد اشتركَ فيه العامِّيُّ والمجتهدُ،
وانفردَ أهلُ الاجتهادِ بكونهم علماءَ، وليس كلُّ فَهِمٍ
عالماً، وكل عالمٍ فَهِم، والله أعلم.
__________
(1) في الأصل: "المعمول".
(1/9)
فصل
في العلمِ وتحديدِه وأقسامِه
إذ حَدًدْنا الفقهَ بعلم الأحكامِ الشرعيَّةِ، فلابُدَّ أن
نُوَضحَ عن حقيقةِ العلمِ الذي حدَّدْنا به الفقهَ حسبَ ما
أوضحْنا من حقيقة الفقهِ، وقد اخْتبَطتْ فيها أقوالُ العلماءِ
على اختلاف مقالاتِهم وآرائِهم.
والكُل معترَضٌ بطريقين:
أَحدهما: بالخلاف فيما انْبَنى عليه التَّحديد.
والثاني: بطريق التَّحقيقِ، وأن في القَوْلِ فيه والتَحديدِ له
قصوراً عنه، وإِجمالًا (1) لا يَصْفو معه كشف حقيقتِه.
فقال قوم: معرفةُ المعلومِ على ما هو به (2).
وقال قومٌ: معرفةُ الشَيءِ على ماهو به (3).
فمَنْ قال: معرفة المعلوم. اعْتُرِضَ قولُه بأنه صَرفَ من
اللفظة قبلَ بيانِ معناها، وقولُنا: معلوَم، مصرف من عَلِمَ،
كمضروبٍ من
__________
(1) في الأصل: (إجمال).
(2) وهو ما اختاره الشيرازي في "شرح اللمع في أصول الفقه" 1/
84.
(3) أورد القاضي أبو يعلى عدة تعريفات للعلم، وذكر ما يرد على
كل منها. انظر "العدة" 1/ 76 - 79.
(1/10)
ضَرَبَ، ومن لا يعرفُ الأصلَ لا يعرفُ
المصرَّفَ منه، وما هذا إِلا بمثابةِ من حَدَّ السوادَ بما
سَودَ الجسمَ، ونحن لم نَعْلَمْ سواداً، فكيف نعرفهُ بما صُرفَ
منه؟!
ومن قال: معرفةُ الشيءِ. معترَض بأنه يَخرجُ منه العلمُ
بالمعدومِ، فإنه علمٌ، وليس بمعرفةٍ بشيءٍ، وإن بناه على ذلك
الأصلِ، فهو فاسدٌ بالأدلة القاطعةِ في أصول الدِّينِ. ولو كان
ذاتاً في العدَم، لكان مُستغنِياً بذاته عن القديمِ، وهذا نفسُ
القولِ بقِدَم العالَمَ، وموافقةٌ لأصحابِ الهوى، فهَذان
حدَّان متقاربان معترَضان.
وقال قوم: تَبَيُّنُ المعلوم على ماهو به (1). والحدُ للحقيقةِ
ينتظمُها شاهداً وغائباً، واللهُ سبحانه يَتعالى عن أن يوصفَ
بأنه متبيِّنٌ، لِمَا في طبعِ هذه الكلمةِ وجوهرها من العثورِ
على الشَّيءِ بعد خفائِه، والظهورِ بعد استبهامِه، وهو
بالعثورِ بعد الخفاءِ أخصُّ منه بالمعرفة المطلقةِ.
وقال قومٌ: اعتقادُ الشَيءِ على ما هو به مع سكونِ النفسِ إلى
معتقَدهِ (2). واعْتُرضَ بأن ما تعتقدُه العامةُ من الجهالاتِ،
وتَسْكُنُ إليه من التقاليدِ ليست علوماً، وسكونها إلى ما
تعتقدهُ تَبْعُدُ إزالتهُ بالتشكيك فيه بأنواعِ الحُججِ
والبراهينِ، فضلًا عن الإزاحةِ عنه، وقولهُم: الشَيء. قد
أفسَدْناه واعْتَرَضْناه بما دل على إفساد مقالةِ أهلِ
المعدومَ.
__________
(1) انظر "البرهان في أصول الفقه" للجويني 1/ 115.
(2) أورد أبو إسحاق الشيرازي هذا القول ونسبه للمعتزلة، وذكر
الاعتراضات التي ترد عليه. انظر "شرح اللمع" 1/ 84 - 86.
(1/11)
وقال قوم: إدراكُ المعلوم أو الشَيءِ على
ما هو به. وإدراك، لفظ عام يَشترك بين دَرْكِ الحواس والعلومِ،
والحدُ بالمشترَكِ لا يجوزُ، وإنما يُحَدُّ الشيءُ بخصيصة.
وقال قوم: الإِحاطةُ بالمعلوم. وهو معترَض بأن الإِحاطةَ
تشتَرِكُ أيضاً، يقالُ: أحطتُ به رؤيةً وسَماعاً.
وقال الشيخُ أبو القاسمِ بنُ بَرْهانَ (1): هو قضاءٌ جازم في
النًفْس.
والقضاءُ بالحكم أخص منه بالعلمِ.
واحسَنُ ما وجدتُه لبعضِ العلماءِ أنْ قال: هو وِجْدانُ النفس
الناطقةِ لامورِ بحقائقِها (2).
وقال بعضُ المتأخًرين: العلمُ هو ما أَوجبَ لمن قامَ به كونَه
عالماً (3). وهذا أبعدُ من الكلِّ؛ لما فيه من الِإحالةِ على
كون العالِم بما قامَ به عالماً، ونحن لم نعلمْ ما قامَ به،
وعن ذلك سُئِلَ، وكونُه عالماً اسمٌ، لكنْ لحقيقةٍ بَعْدُ ما
عَلِمْناها، وما ذلك إلا بمثابةِ مَنْ سُئِل عن السوادِ فقالَ:
هيئةٌ يصيرُ بها الجسمُ اسودَ (4)، وأسودُ مشتقٌّ من
__________
(1) عبد الواحد بن علي بن برهان، أبو القاسم العكبري، شيخ
العربية والنحو والأنساب، توفي سنة (456) هـ. "سير أعلام
النبلاء" 18/ 124.
(2) ذكر الطوفي هذا التعريف الذي اختاره ابن عقيل، وأورد عليه
اعتراضين. انظر "شرح مختصر الروضة" 1/ 169 - 170.
(3) ذكره الجويني، وصرح بنسبته لأبي الحسن الأشعري. انظر
"البرهان" 1/ 115.
(4) في الأصل: "أسوداً".
(1/12)
سوادٍ، فقد أحالَ على اسمٍ ما عَقَلْنا
بعدُ الحقيقةَ التي لأجلها سُمِّيَ أَسودَ، ويُفضي إلى
الدَّوْرِ، فيُعَرِّفُ السَّوادَ بالأسود، والأسود بالسَّوادِ،
وما عَرَفْنا الحقيقةَ التي صَدَرَ عنها إلا بتميينر.
وقال بعض المتاخَرين من المحقَقين (1): لا حَدَّ له عندى،
وإنما هذه كلُّهارسومٌ (2).
فإن قيل: فالحدود كلها تعطي حد الشَيءِ بنفسِه، فإن المعرفةَ
هي العلمُ، والتَّبَينَ هو العلمُ، والإِدراكَ هو العلم، فمن
قال: العلم المعرفةُ، كمن قال: العلمُ العلمُ.
قيل: أَجمعَ العلماءُ على أنه لا يجوز حَدُّ المحدودِ بغيرِه،
بل لا يُحَدُّ إلا بنفسِه؟ فالسائل عن حَدِّ الشَّيءِ لا يسألُ
إلا لجهالتِه بحقيقةِ ما سألَ عنه، فلو أتَيْنا عند سؤالِه عن
حقيقةِ الشيءِ بالغيرِ، جَهَّلْناه بحقيقتهِ، إذ أَشَعَرْناه
بغيره، وبَعَّدْناه عن مقصودِه، ولو أعدنا عليه ما سألَ عنه،
بأنْ يقولَ لنا: ما العلمُ؟ فنقولَ: العلمُ، لَمَا افَدْناه،
فقد نطقَ باسم ما عرفَ حقيقته، فإذا أعدنا عليه اللَّفظةَ لم
أَفِدْه شيئاً، فإذا بطلَ الأمران، لم يَبْقَ أن يكونَ الجوابُ
إلا الفَزَعَ إلى الأوجزِ عبارةً، وأخصِّ خصيصةً؛ لنكشفَ عن
حقيقتهِ بإيجازِها، وتخصُّصِها، وكشفِها عن جوهريَّتهِ
وطبيعتِهِ، فنكون بذلك مقرِّبين إلى فهمِه معنى ما سألَ عنه،
لا عادلين إلى غيرِه، ولا معيدين لِمَا سألَ عنه، بل موضِّحين
كاشفِين عن حقيقةِ ما سألَ عنه.
__________
(1) في الأصل:"المحقين".
(2) وهو ما قاله الغزالي في "المستصفى" 1/ 16 - 17.
(1/13)
يوضًحُ هذا: أن أهلَ العلمِ أجمعُوا على أن
للحدِّ حقيقةً، وهو قولُهم: حدُّ الحدِّ، فقالوا: هو قول وجيزٌ
يُنْبِىءُ عن حقيقةِ الشيءِ.
وقال بعضُهم: الجامعُ لجنسِ ما فَرَّقَه التَّفصيلُ.
وقال قوم: هو الجامعُ المانعُ.
وقال قوم: قولٌ وجيزٌ محيطٌ بالمحدودِ، دالٌّ على جنسِهِ.
وقيل: قولٌ وجيزٌ يدورُ على المحدودِ بالانعكاسِ، كقولك: كلُّ
جسمٍ فهو جَوْهَرٌ آخِذٌ في الجهاتِ، وكلُّ جوهرٍ آخذٍ في
الجهات فهو (1) جسم.
وقيل: الحدُّ ما أحاطَ بالمحدودِ، فمَنَعَ أن يَدْخُلَ فيه ما
ليس منه، أويَخْرُج عنه ما هو منه (2).
وقيل: الحدُ هو الجوابُ في سؤالِ ما هو؟ وأصلُه: المنعُ في
اللغة، ومنه سُمَّيَ البوَّابُ حَدّاداً لمنعِه، وسُميَ
الإِحدادُ في العِدَّةِ لمنع المرأةِ به التَّطَيُّبَ ودواعيَ
الجماع، وسُمِّىَ الحديدُ حديداً لمنع السِّلاحِ (3)، كما قال
سبحانه: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80]،وسمي
الحدُّ المشروعُ حدًّا لمنعِه من ارتكابِ الجرائمِ، وحدودُ
الدار والملكِ هو المانعُ من دخولِ ملكِ غيرهِ فيه، فهو
مشترَكٌ بين هندسيٍّ، وفلسفيٍّ، وفقهيٍّ، وأصلُه: الجَمْعُ
والمَنْعُ، وإن اختلفت
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "فهم".
(2) انظر فيما قيل في الحد "العدة" 1/ 74 - 75، وشرح اللمع "
1/ 81 - 82.
(3) عبارة أبي يعلى في "العدة" 1/ 75: "لأنه يمنع من وصول
السلاخ الى المتحصن به".
(1/14)
أنواعً المنعِ، فإذا كان للمنع تخصُّصٌ
بحقيقةِ الشَّيءِ، فلا يُنكرُ أن يًحَدَّ الشيءً بنفسِه؟ إذ
كان هو المخلِّصَ له عن غيرهِ، المانعَ من الشركةِ والاشتباهِ،
وهو خلاصةُ الحقيقةِ والخصيصةِ.
وقال قومٌ من الأصوليِّين: لا حاجةَ بنا إلى الحدودِ، ولا معنى
لها، لأن في الأسماءِ غَناءً عنها؛ لأنها أعلامٌ على
المسمَّياتِ.
وهذا باطلٌ؛ لأن في الحدودِ أكبرَ المنافعِ التي لا يُوجَدُ
مثلُها في الأسماءِ، فمن ذلك:
أن الاسمَ قد يُستعملُ على (1) جهةِ الاستعارةِ والمجازِ، فإذا
جاءَ الحدُّ بَيَّنَ الاستعارةَ والمجازَ من الحقيقةِ،
فتَعْظمُ المنفعةُ؛ لأن كثيراً منه قد يَلْتَبِسُ وُيشكِلً،
فيُحتاجُ فيه إلى نظرٍ واستدلالٍ.
ومن ذلك: أنه قد يَتَبَيَّنُ المحدودُ من طريقٍ آخَرَ، وهو أن
فيه ذكرَ العِلَّةِ والسَّبب الذي لأجله استَحَق الاسمَ
والصفةَ، فيظهرُ معناه بظهورِ عِلَّتهِ، مثل قَولِنا: حكيمٌ:
هو اسمٌ، فإذا طُلِبَ الحدُّ، ظهرَتْ حقيقةُ الحكمةِ، فكانت
كاشفةً للعِفَةِ، مثلُ قولِهم: هي صفةٌ للمرءِ (2) توجبُ
إتقانَ الأفعالِ الصادرةِ عنه.
__________
(1) في الأصل: "عن".
(2) غير واضحة في الأصل، ولعل صوابها ما قدرناه.
(1/15)
<رأس>فصل فيما يجبُ صيانةُ الحَدِّ
عنه</رأس>
واعلم أنه لا يجوزُ أن تأتيَ في الحدِّ بالمشترَكِ، كقولِك في
العلمِ: إدراكٌ، فيدخلَ فيه سائرُ دَرْكِ الحواسِّ، ولا بما لو
أسْقَطْتَه لم يَختلَّ الحدُّ؟ لأنه هو الحَشْو، والحدُّ
خُلاصةٌ لا تحتملُ الحَشْوَ، مع كونه مَشروطاً بإيجازِ
اللَّفْظِ، وذلك مثلُ قولك في حدِّ الإنسانِ: الكاتبُ
المتقلِّدُ السَّيْفَ، وفي العلم: الذي لا يتطرقُ عليه شكٌ ولا
شُبْهَةٌ، فهذه زيادةٌ في الحد تُنقصُ المحدودَ، فخرجَ بعضُ
الناس عن الحَدِّ، وتخرجُ بعضُ العلوم وهي: الاستدلاليَّةُ،
وُيخصُّ الحدُّ بعلم الضرورةِ، وعلمِ القديمِ (1) سبحانه.
وليس ذلك في كلِّ زيادةٍ؛ لأنك لو اتَيْتَ بالزِّيادةِ من
الأعم، مثل قولِك: جسمٌ منتصبُ القامَةِ ضَحّاكٌ بكاءٌ؛ فإنه
لا يَنقصُ، إذ ليس بعضُ الناسِ ليس بجسمٍ، بخلاف قولِك: كاتبٌ؛
لأن بعضَ الناسِ ليس بكاتبٍ، ولو قال: الكاتبُ بالقُوةِ، لم
يَفْسُدْ، لكنَه يطولُ، فيخرجُ عن الِإيجازِ.
ولا يجوزُ فيه الإِبهامُ، مثلُ قولِك: وما جرى هذا المَجْرى أو
مَجْرى ذلك، وما كان كذلك، حتى تَتبينَ من أيَ وجهٍ يكونُ.
__________
(1) القديم ليس من أسماء الله الحسنى، إنما هو من التسميات
التي جرت على ألسنة المتكلمين والفلاسفة، فالقديم في لغة
العرب: هو المتقدم على غيره، ولم يستعملوه فيما لم يسبقه عدم،
والصواب أن يستعاض عنه بما جاء في قوله تعالى: {هُوَ
الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3]،. فاتباع ما جاءت به
الشريعة أولى من اتباع ألفاظ أهل الكلام. خاصة فيما يتعلق
بصفات الله سبحانه "شرح العقيدة الطحاوية" 1/ 77.
(1/16)
ولا يجوزُ أن تأتيَ بالجنسِ الأعلى وأنت
تقدرُ على الأدنى، مثل، قولِك في حَدِّ الإنسانِ: جَوهرٌ أو
جسم، وأنت تقدرُ أن تقولَ: حيّ، ولا باللَّفظِ الأطولِ وأنت
تقدرُ على الأقصرِ، مثلُ قولِك: يمشي على رجلَيْنِ، ويَبطِشُ
باليَدَيْنِ، ولا بالأعمِّ وأنت تقدرُ على الأخَصِّ، مثلُ
قولِك: جسم. وأنتَ تَقْدِرُ على: حَيٌّ.
فصل
فإذا ثَبتَ حَدُّ العِلم، وبَيانُ معنى الحد، فما الأحكام التي
تميَّز بها حَد الفِقه في قولنا: العلم بالأحكام الشرعية؟ فهي
القضايا الشرعية، وذلك هو: الِإباحة، والحَظْر، والإِيجاب،
والنَّدب، والكَراهة، والتَّنْزيه، وقد أدخل قوم فيها: الشَّك،
والوقف.
ولا يَسْتَحِقُّ بِمَعْرفةِ هذه الأحكام والعلمِ بها اسمَ
الفقيه، إلا مَن عَلمها بطريقِ النَّظرِ في أدلَّةِ الشَّرع،
وأَسند كُل حُكم إلى دليله، واسْتَثارَه بمُثير.
فصل
والعلم الذي حَدَّدناه في الجُملة يَنقسم قِسمين: قَديمٍ،
ومُحدَثٍ.
فالقديم: عِلمُ الله سُبحانه، صِفة من صِفاته، ولازِم من
لَوازِم ذاتِه، دَلَّ على إثباتِهِ إتقانُ أَفْعَاله، ونَصُّ
كِتابه، وهو علمٌ واحِد يتعلق بالمعلومات على حَقائقها، لا
يَتعدَّد بتعددِ المعلومات، ولا يَتجددُ بتجُدِد المُحدَثات
(1)، ولا يُوصَفُ بكسْبِىٍّ ولا ضرورِي.
__________
(1) لعله يقصد: أن علم الله لا يزيد عند تجدد الحوادث، كما هو
الشأن في المخلوق، لأن علم الله أزلي.
(1/17)
والقسم الثاني: العِلمُ المُحدَث، وهو
ضَربان: ضروري، ومكتسب:
فالضروري: ما لَزِم نفسَ المخلوقِ لزوماً لا يمكن دَفعه
والخروج عنه، وقولنا: نفس المخلوق. تحرز عن العِلم القديم، وهو
ضربان:
بديهي لا يحتاج إلى مًقدمات، ولا سِياقات نَظرية، كالعلم
بنَفسه وأحوالها.
وما يحصل بوسائط ومُقدمات، كعلم الهَنْدسة ومَسائِلها.
وأما الاستدلا فيُ الكَسْبي: فهو العِلم المكتَسَب بالنَظر
والاستِدلال، كالاستدلال بالشاهد على الغَائب، والصَّنعة على
الصانع، فهذا الضرب من العلم هو الذي حَدَّدنا به الفقه،
فقُلنا: العِلم بالأحكام الشرعية. ومع ذِكْرنا للنَظَر فلا بد
أن نُحَقِّقه، وكذلك الاستِدلال.
فالنظر الذي هو طَريق العلم الاستدلالي، هو التأمل في حالِ
المنظور، كالنَّظر في دلائل العِبر.
والاستدلالُ: طَلبُ مَدلوله، وذلك إنما يَقع بالفِكر والبَحث
(1). والعلم الاستدلالي يَتَطرق عليه الشك والشبْهة.
واعلم: أن علم الاكتِساب كُلَه مَردود إلى علم الاضطِرار، وقد
يكون مَردوداً بمقدماتٍ أو مَراتبَ؛ فمِن ذلك أنّه قد يكون عشر
مُقدمات
__________
(1) انظر أقسام العلم عند أبي يعلى في "العُدة" 1/ 80 - 82،
والشيرازي في "شرخ اللمع" 1/ 86 - 87.
(1/18)
في عَشر (1) مَراتب، فَتُرَد العاشرة إلى
التاسعة، والتاسعة إلى الثامنة، والثامنة إلى السابعة، ثم على
ذلك إلى الأولى. مثاله: الاجتهاد مَردو إلى الإِجماع،
والإِجماع مَردود إلى النُبوة، والنبوة مَردودة إلى المعجزة،
والمعجزةُ مَردودة إلى أحدِ أمرين:
إما حكمة الله عزً وجل التي دل عليها إتقانُ صَنائِعِه
وشرائِعِهِ، فعندها تحصل الثقةُ بأنه لا يُؤيد بمعجزةٍ كذاباً،
ولا يزينُ قبيحاً، ولا يصد عن حق، ولا يَحول بين المكلف وبينه،
وإذا لم يجد الإِعجاز هذا المُستَنَد، لم تحصل دلالتهُ على
صدقِ مَن قام على يَدَيْه.
أو إلى حُكمه وإرادته المطلقة ومشيئته لملكه (2) على اختلاف
المذهبين: مذهب أهل السنة، ومذهبِ المعتزلة. فتتم العشرُة على
مذهبهم بردِّ حُكمه إلى غِناه عن القَبيح مع علمه به، وغناه عن
القبيح مع علمه به مردود إلى دِلالةِ أفعالِهِ، ودِلالة
أفعالِهِ مَردودة إلى التغير، والتغير ضرورةٌ.
ومِن شرفِ العلم أنه يَدَّعيه من لا يُحسنه، ويفرح إذا نُسب
إليه.
وقولنا: علم كَسبي، نسبةً إلى اكتساب المكتَسِب، وكذلك: علم
نَظري، منسوبٌ إلى النظر الذي هو التأمل، مثل قولك: رجل فارسي
ومَكّي؛ إذا نسبتَه إلى فارس ومكة.
فكذلك قولنا: علم ضروري، نسبته إلى الضرورة، وهو هجومه على
النَّفس بغير استدعاء من المضطر إليه، ولا اختيار لدخوله عليه.
__________
(1) في الأصل: "عشرة".
(2) في الأصل: "لملكته".
(1/19)
فصل
وطرق العلوم سِتَة لا سابع لها، منها: العلومُ الحاصِلةُ
بالمعلومات عن دَرْكِ الحواس، وهي خمس: حاسَّة البَصر، والسمع،
والشم والذوق، اللَّمس، والسادس من الطرق؛ ضَربان: هاجمٌ على
النفس، وهو الضروري. ومُستحضَر لها بالكسب، وهو الاستدلال (1)
بالمحسوس على غير المحسوس، وكل منها يُدرِك الشيءَ وضده إذا
كان له ضد، كحاسة البَصر تُدرك السواد والبياض وهما ضِدان،
وحاسَّة الشم تُدرِك الطيب والخبيث، وحاسةُ اللَّمس تدرِك
الناعِم والجَريش (2)، والحار والبارد، وحاسةُ الذَوق تدرِك
الحُلو والحامض. وما يحصل بطريق دلالة الحال من خَجل الخَجِل،
ووَجَل الوَجِل، وبِرِّ البارِّ، وعُقوق العاق وما شاكل ذلك.
وأما ما يحصل من غير طريق لكن يدخل على النفس هاجماً كوجود
الرِّي، والعَطش، والجوع، والشَبع، وما يجده الِإنسانُ من
نفسه، من صِحته وسقمه، ولَذته وألمه، قد (3) قدمنا ذكره في
الحصر، وهو السادس من الطرق.
فصل
وهذه العلومُ الحاصلة عن الطرق التي ذكرناها غيرُ مُتولدة من
هذه
__________
(1) في الأصل: "الاستدلالىِ".
(2) الجريش: الشيء الخشن، ومنه الدقيق الذي فيه غِلَظ. "اللسان
": (جرش).
(3) في الأصل: "وقد".
(1/20)
الطرق، وإنما هي حاصلة من اللهِ فعلَاَ
عقيبَ وجود الطرق التي ذكرناها، التي بَعضها كَسْبي؛ كالتأمل
والاعتبار، والبحوث، والأفكار، وبعضها تدخل دخول غَلَبة؛ مثل
العلم الحاصل عن أخبار التواتر، وما يدخل على العيان، وسائر
الحواس، فيُحدِث الله العلمَ عقيبه كما يُحدث الموتَ عقيب
الجراح، والجزعَ عند رُؤية الأسد، والمسرة عند تَجددِ الظَّفر،
وقُدوم الغائب، وإيلادِ الوَلد، إذ كان القول بالتولد (1)
قولًا يُضاهي قول أهلَ الطَّبع (2) الذي قامَ بفساده دليل
العقل، وكذبه الشرع. وذلك هو المانعُ لنا من القول بخلقِ
الأفعالِ مضافةً إلى غيرِ اللهِ سُبحانه، وكما قامت الدلالةُ
بفَساد قولِ أهلِ الطبْع، قامت بفسادِ القولِ بإثباتِ شريكٍ في
الخلق.
وإنما أنِس كثير من المُسْتَأْنِسِين بالحواس المحطوطِين عن
درجة النظر بجَري العادات، فأضافوا إلى غيرالله ما لا يكون إلا
من الله؛ كالولدَ يوجد عند الجماع، والزَرعِ يوجد عن فعل
الزرّاع، والموت يوجد عند جَرح الجارح، وذلك أثر وجد عنده
وعقيبه لا عَنه، وكذلك وجود الكون عند وجود الجوهر لا مَحالة،
وليس بمتولدٍ عنه بما ثبت لله تعالى من دلالة الوحدة في الصنع،
وهذا أصل كبير.
__________
(1) بسط ابن حزم القول في معنى التولد، والخلاف فيه في كتابه
"الفِصل" 5/ 181 - 182.
(2) هم الدهريون الطبيعيون الدين يقولون بالمحسوس ولا يقولون
بالمعقول. انظر "الملل والنحل " 2/ 3 - 4.
(1/21)
فصل
والعقل: ضرب من العلوم الضرورية، وبه قال جمهور المتكلّمين
(1).
وقال قوم: قوة غريزيةٌ يُفْصَل بها بين الحُسن والقُبح.
وقال قوم: يُفصل بها بين حَقائق المعلومات.
وقال قوم: هو مادَّة وطَبيعة.
وقال قوم: هو جَوهرٌ بَسيطٌ (2).
والجمهور من المتكلمين على ما ذكرنا، وأنه من العلوم الضرورية،
وإنما ذكرناه حيث أفضنا في ذكرِ العلوم ومُتعلقاتها وطرقها وهو
من جُمْلَتِها، وله بما ذكرنا تَعَلُّق من نَفي حكمَه بتحسين
وتَقبيح وبيان ما ينتهي إليه.
فالدلالة على فَساد القول بكونه جوهراً، أن الجواهر من حيث
كونُها جواهرَ جنسٌ واحد، فلو كان العقل جَوهراً لاستغنى
العاقل بوجود نَفسه عن عقلٍ لكونه جوهراً في نفسه، فلما لم يكن
عاقلًا بجوهرِ ذاته ونَفسه، كان من المحال كوُنه عاقلًا بجوهر
آخر هو من جنسه.
وأيضاً فإنه لو كان جَوهراً لصحَّ قيامه بنفسه إذ هذا خصيصة
الجوهر، ولما لم يصح قيامُهُ بنفسه عُلِمَ أنه مَحمول لغيره،
وهذا نعتُ العَرَض.
__________
(1) وهو اختيار شيخه أبي يعلى، انظر "العدة" 1/ 38.
(2) انظر الاختلاف في تعريف العقل في "العدة" 1/ 83 - 88،
و"شرح اللمع" 1/ 90 - 91، و"البرهان" 1/ 111.
(1/22)
ولأنه لو كان جوهراً، ويصحُّ أن يقومَ
بنفِسِهِ، لصَحَّ أن يحيا ويعقل ويكلَّف، فإذا ثبت أنه عَرَضٌ،
فالدلالة على أنه ليس بعَرضٍ غيرُ العلم؛ أنه لو كان عَرَضاً
غيرَ العلم، لصح وجود سائرِ العلومِ مع عدمِهِ حتى يكونَ
العالمُ بدقائقِ الأمور غيرَ عاقلٍ، أو وجودُه مع عدم سائرِ
العلوم، حتى يكون الكاملُ العقلِ غيرَ عالم بنفسه، ولا
بالمدرَكَات، ولا بشيء من الضروراتِ، إذ لا دليل يوجب تضمُّن
أحدِهما للآخر، وذلك نهاية الإِحالة، أوَ لا ترى أن سائرَ
أنواع الأعراضِ يجوز أن يكون كل واحدٍ منها في المحل، ولا يكون
بُدّا من حصول اتِّصافِ المحل بالعَرَض الآخر، بل إذا حَمَلَ
الجسمُ عَرضاً من جنسٍ امتنع من حمله لأخرَ من جنسه مما
يُضاده، فلما كان في مَسألتنا لا يصح أن يكون عالماً مَن ليس
له عَقلٌ، ولا عاقلاً من ليس له عِلم، عُلِمَ أنه نوع من
العلوم لا غير.
وأيضاً فإنه لو كان ليس من العلوم، لم يَخلُ أن يكون مثلَها أو
ضِدَّها وخِلافَها، أو خلافَها وليسَ بضدٍ لها. ومحالٌ كونه
مثلها لأنها مختلفة، والشيء لا يشبه أشياء مختلفة، ولأنه لو
كان مثلها لاستغنى بها عن وجوده؛ لأن المِثل يَسُدُّ مَسَد
المِثل، كالجوهر يَسدُّ مَسدَّ الجوهر، وَلَوجَبَ أن تكونَ
العلوم عقلاً إذ لا يُشابه العقل ما ليسَ بعقلٍ. وَيستحيل أن
يكون ضِدَّها وخلافَها؛ لأن ذلك يُفضي باستحالةِ
اجتماعهما-أعني العقل والعلم- وذلك باطل باتفاق. بل لا يصح أن
يكون عالماً إلا من كان عاقلاً. ومُحالٌ كَوُنه خِلافَها وليس
بضدٍ لها؛ لأنه لو كان ذلك كذلك لجاز وجودُ كلِّ واحدٍ منهما
(1) مع ضدٍّ صاحبه
__________
(1) في الأصل: "منها".
(1/23)
ووجود أحدهما مع ضدِّ الآخر، حتى يكون
العَقل موجوداً مع ضِدِّ العلم وهو الجهلُ بالضروريات
والمشاهدات، إذ العلم بالضروريات والدقائق موجود مع ضِدِّ
العقل من الخيال والاختلال، وذلك معلوم فساده في العقل، فثبت
أنه لا يجوز أن يكون جنساً مخالفاً لسائر العلوم.
فإذا ثبت هذا وأنه علم، فلا يجوز أن يكونَ كل العلوم
ضَروريِّها وكسبيِّها؛ لأننا قد علمنا عُقلاءَ عِدةً خالين من
العلوم الكَسبية النَظرية، ولا يجوز أن يكون كل العلوم؛ لأنه
لو كان كذلك لكانَ كلُّ مَن فقد العلمَ بالمُدرَكات بعدمِ
إدراكه لها غيرَ عاقل.
ولا يجوز أن يكونَ هو علمَ العالم بوجود نفسه وما عنده من لذةٍ
وألم، وصِحة وسقم؛ لأنه لو كان كذلك لكان الأطفالُ والبهائمُ
والمجانينُ عُقلاءَ لعلمهم بذلك من نفوسهم. فلم يَبق إلا ما
ذكرنا، وأنه بعض العلوم الضرورية، وهو علم بوجوب واجباتٍ،
واستحالةِ مُستحيلاتٍ، وجَواز جائزاتٍ (1)، فهذه العلوم التي
يَختص بها العقلاء.
وبيان هذه الجمل، مثل العلم بأن الضَدين لا يَجتمعان، وأن
الائنين أكثرُ من واحد؛ وأن المعلوم لا يَخرج عن أن يكون
مَوجوداً أو غيرَ موجودٍ، وأن الموجودَ لا يَنفك عن أن يكون عن
أولٍ أو لا عَن أولٍ، ومن ذلك حُصول العلم عن الأَخبار
المتواترة، فمن حَصَلت له هذه العلوم عُدَ عاقلًا.
__________
(1) "المنخول": 44.
(1/24)
فصل
والفَهم: العِلم بمعنى القول عند سَماعه، ولذلك لم يوصف
البارىء به؛ لأنه لم يَزل عالماً، وقد يُفهم الخطأ كما يُفهم
الصواب، وُيفهم الكذب كما يُفهم الصدق. ولا سَبيل إلى النقض
على المخالفين في الحق إلا بعد فَهم باطلهم، كما لا سبيل إلى
اتباع مذهب أهل الحق، إلا بعد فهمه من أنهم (1) على الحق.
فصل
وإذا ثبت أنه (2) من بعض العلوم، فلا يَقبلُ الزيادةَ
والنقصانَ؛ لأن العلم الكَسبي لا يقبل الزيادة، والضّروري أولى
أن لا يقبل الزيادة، وما ورد في ذلك، فإنما هو من باب قولهم:
فُلانٌ أعلم من فلان.
بمعنى أن معلوماته أكثر، كذلك أعقل؟ بمعنى أأن، تجاربه أكثر.
والتجارب قد تَجوزَ فيها قوم، فقالوا: هي (3) عقلٌ ثانٍ،
وقالوا في المشورة: عَقلُ غَيرك مُنضمٌ إلى عَقلك. فهذا مَجاز،
والحقيقة لا تَقبل التزايد، كقولنا: حَياة، وإرادة، وعِلم،
وأمر، وقيامٌ بالنفس، وحصولٌ في المكان، فهذا كله لا يَقبل
التزايد.
وكذلك العِلم والعَقل بعض العلوم، فلم يقبل ما لا تقبله
العلوم.
__________
(1) في الأصل: "أنفسهم ".
(2) أي العقل.
(3) في الأصل: "هو".
(1/25)
فصل
واختَلف أهلُ العلم في التَّحسين، والتَّقبيح، والِإباحة،
والحَظْر، هل هي من قضاياه؟.
فذهب أصحابُ الحديث وأهلُ السنة والفُقهاءُ إلى أن لا تَحسين
ولا تَقبيح، ولا إباحة ولا حظر، إلا من قِبَل الشرع، وذهبَ
كثير من المتكلّمين إلى، أن التَّحسين والتَّقبيح من قضايا
العقل (1)، وإليه ذهبَ أبو الحَسن التَّميمي (2) - من أصحابنا-
على ما حُكي عنه، والمُعوَّل على تَقبيح الشرعِ وتَحسينِهِ.
والعَقل محكومٌ عليه لا حاكم في هذه القضايا.
والدلالة على ذلك بحَسَب هذا الكتاب، وأنه أصولُ فِقه لا أصول
الدين، أنَّ القائلين بتَقبيح العقَل- كالبَراهمة (3) - قبحوا
إيلام الحيوان وإتعابه، وحَسنوا منه ما لا يمكن دفع الأضرّ عنه
والألم إلا به، وهو الأقل الذي يضطر إليه لدفع الأكثر،
كالفَصد، والحِجامة، وقَطع المُتآكلِ، وأجمعوا على تَقبيح ما
استغني عنه.
__________
(1) سيورد المؤلف في الصفحة (200) من هذا الجزء فصلَاً كاملًا
في الفرق بين مذهب أهل السنة والمتكلمين في ذلك. وانظر "شرح
مختصر الروضة" 1/ 402 - 409.
(2) عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث، فقيه حنبلي، صنف
كتاب "الأصول" و"الفرائض"، توفي سنة 371 هـ، "طبقات الحنابلة"
2/ 139.
(3) قوم من أهل الهند سُمّوا بذلك نسبة إلى رجل منهم يدعى:
براهم، وهم ينكرون بعثة الرسل والنبوات أصلاً. "الملل والنحل":
506.
(1/26)
ثم إن الشرع أباحَ الِإيلام لا مَوقوفاً
على هذا، إذ لا ضرورة إلى الِإيلام بل هو غني عنه، وأجمعنا على
أن الشارع يؤلم من غير حاجةٍ، وأن ذلك حَسن، فبطل تحسين العَقل
وتقبيحه.
فصل
ومحله القلب (1)، لقوله تعالى: ({أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ} [الحج: 46]،
وقال: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ} [الحج: 46]، وقال عُمر في ابنِ عباس: لَه لِسانٌ
سَؤولٌ، وقَلبٌ عَقول (2). وإضافَة العَرب الشيءَ إلى الشَيءِ
إما لكونه هُوَ هُو، أو مَكانَه، وليس القلبُ عقلاً بإجماع، لم
يَبْقَ إلا أنه مَحلُّ العَقل، بإضافَة الشيء إلى محله، ومن
خَلَقَ العقلَ أعلمُ بمحله {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}
[الملك: 14]، فلا الْتِفات إلى قولِ من يَقُول: [إن محلَّه في
الرأس] (3).
__________
(1) أي: محل العقل. قال أبو يعلى في "العدة" 1/ 89: "ذكره أبو
الحسن التميمي في كتاب العقل".
(2) أورده ابن عبد البر في "الاستيعاب" 3/ 1323، في ترجمة ابن
عباس.
(3) ورد هنا في الأصل طمس بمقدار أربع كلمات، وقد أثبتناها
اقتباساً مما ذكره أبو يعلى في "العدة" 1/ 84 - 89. وقد أُقحم
في الأصل بعد هذا ما نصه: "وحكم العلة والقياس قضاء الشرِع
المستنبط، فيمتاز عن أحكام الشرع الثابتة بالظواهر والنظر بهذا
الوصف" يشرد العبارة في مكانها الصحيح في الفصل التالي.
(1/27)
فصل
ولما حَدَّدنا الفِقهَ بعلم الأحكام الشرعية، فلا بُدَّ بَعد
بيان العلوم وطُرُقِها أن تُحَدَّ الأحكامُ جُملةً، ثم يُحَدَّ
كل واحدٍ على حِدته.
فالأحكام: القَضايا، فهي ها هنا قضايا الشرعِ.
وحكمُ العِلَّة والقِياس: قضاءُ الشرع المُسْتَنْبَط، فيمتازعن
أحكام الشرع الثابتة بالظواهر والنظر بهذا الوصف.
فمنها: الإباحة (1): إطلاق الشرع.
وقيل: إذنُ الشرع بالمباح المأذونِ فيه شَرعاً.
وقيل: إتمام مالَه فِعله، وكلُّ مُباحٍ حَسن.
وقيل: ما لا ثوابَ في فعله ولاعِقابَ على تركه.
الأولُ أصح؛ لأنه لا يدخل عليه فِعل الصبيان والمجانين، إذ لا
يوصَفُ الشرع بأنه أطلقَ أو اذنَ في أفعالهم.
والتحديد بنَفي العِقاب يَبطُل بفِعْلِ الصغار والمجانين، فإنه
لا ثوابَ فيه، ولا عقابَ عليه، وليسَ بموصوفٍ بالِإباحة، وكذلك
خَطا العقلاء وما يصدر عنهم غفلةً، ومعَ نزع ذهولٍ، وحالَ
الإِغماء.
والحَظْرُ: مَنع الشرع، فالمحظور (2): ما مَنعَ منه الشرع،
وأصله: المنع، ومنه سُمي المُحتَظِر: مُحتظراً؛ إذ جَعلَ حول
إبلهِ أو مَتاعه
__________
(1) "العدة" 1/ 167، و"شرح مختصر الروضة" 1/ 386، وانظر الصفحة
(131) من هذا الجزء.
(2) انظر المحظور وما ذكر من أسمائه في "المحصول" (1/ 101 -
102، وانظر الصفحة (132) من هذا الجزء.
(1/28)
- في الجملة- مانعاً من العَوْسَج (1).
وسُميت الحَظيرةُ بذلك من المَنع.
وقيل: ما في فِعله عقاب.
والواجب في أصل اللغه (2): الساقِط، من قولهم: وَجبَ الحائط،
ووَجبتِ الشمس. والِإيجابُ: الإِسقاط، وهو الإِلزام، وها هنا
هو إلزام الشرع.
وقد قيل: ما في فِعله ثَوابٌ، وعلى تركه عِقاب. ولا يُحتاج إلى
ذِكر الثواب، بل إذا رُسِم برَسْم كفى قولُنا: ما في تركه
عِقاب.
وقيل: ما لا يجوز تركه (3).
والحَدُّ هو الأول (4)، وهذه رسومٌ بِمُتَعلّقات وأحكام،
فالثواب والعقاب أحكام الواجب. والإِيجاب شَيء وأحكامه شئٌ
آخر، والتَّحديد بمثل هذا يأباه المُحقِّقون، حيث أبَوْا أن
يَحدّوا الأمرَ بما كانَ المُمْتَثِل له طائعاً، والمُتَأبِّي
عنه عاصياً، فإن هذه أحكام ومُتعلقات، وإنما حَدّوه باستدعاء
الأعلى من الأدنى فِعلاً.
والفَرضُ في أصل اللغة: التأثير، مِن فرْضَة القَوس، وفُرْضَة
__________
(1) وهو شجر من شجر الشوك. "اللسان": (عَسَج).
(2) انظر تحقيق معنى الواجب لغة في: "شرح مختصر الروضة" 1/ 266
- 267.
(3) انظر بقية تعريفات الواجب في "العدة" 1/ 159 - 160، و"شرح
الكوكب المنير" 1/ 345 - 349. والصفحة (124) من هذا الجزء.
(4) أي القول: بأنه إلزام الشرع.
(1/29)
النهر (1)، وهو ها هنا عِبارة عما ثَبت
إيجابُه بنَصٍ أو دليلِ قَطع (2).
والنَّدبُ، قيل: هُو الحثّ على الفِعل في الأصل. وها هنا: هو
الحثُّ على طاعةِ الله، ولا يَجوز أن يكونَ الحثُّ حَداً
للندب، وهو آكَدُ من الاسْتِدْعاءِ، ومُجرد الاستدعاء يَقتضي
الإِيجاب، فكيفَ يَقتض ي الحثُّ ما دونه، وهو النَّدب؟.
وقيل (3): ما في فعله ثواب، ولَيس في تركه عقاب.
ومن جعله أمراً حقيقة، قال: هو استدعاء أو اقتضاءُ الأعلى
الأدنى بالفعل على وَجه الأولى، أو على وجه لا ياثم بتركه.
وقيل (3): الاستدعاءُ يَتضمن التَخيير بينَ الفِعل والترك لا
إلى بَدل.
وأصله في الفُغة: الدُعاء. قال الشاعر:
لا يَسْألونَ أَخاهُم حينَ يَنْدُبُهمْ ... للنائِباتِ على ما
قَالَ بُرهانا (4)
وُيريد (5): حين يدعوهم. وهو بالحث أنصع تحديداً من الدعاء
__________
(1) فُرضة القوس: الحَزّ يقع عليه الوتر (أي: المحل الذي يشد
به الوتر في طرفي القوس)، وفُرضة النهر: مشرب الماء منه،
وثلمته التي منها يُستقى.
"اللسان ": (فرض).
(2) انظر الصفحة (125) من هذا الجزء.
(3) في الأصل: "ويسأل".
(4) البيت لقُرَيط بن أنيف من قصيدة يهجو بها قومه ويمدح بني
مازن. وهو في
"الحماسة" لأبي تمام 1/ 57، وفيه: "في النائبات" بدل:
"للنائبات".
(5) في الأصل: "ويريدون".
(1/30)
والاقتضاء، لكن لا بد من تَقييده
بالتَّخيير بين الفِعل والترك (1).
وأما الكَراهةُ، والمَكْروهُ: فإنه استِدعاءُ التركِ على وجهٍ
لا مَأْثَم في فِعله، وهو مِن مَرتبة النَهي المُطلق الحاظر
بمنزلة الندب من الإيجاب (2).
والمَشكوك: قيل: ليس بحكمٍ، وقيل: حُكم (3)، كما قال أبو
حنيفة، وأحمد في رِوايةٍ في الجِمار (4)، والصحيح عندي أنه
ليسَ بمذهب، وإنما هو مُترددٌ في النَفس بين أمرين لا يَرْجَحُ
إلى أحدهما، وها هنا يكون التَردد بين حُكمين، والمُتَردد في
طريق الطلب، والشاك في الجِمار، يَنبغي أن لا يكون له مَذهبٌ
فيه.
و"الوَقف": قيل: مَذهب. لأنه يُفتي به، ويدعو إليه، وُيناظِر
عليه، ويجب على القائل به إقامةُ الدليلِ عليه.
وقيل: الوقوف ليس بمذهب (5)، وإنما هو جُنوحٌ عن التَّمذهُب،
__________
(1) سيورد المؤلف بحث الندب باوسع مما هنا في الصفحة (126) من
هذا الجزء.
(2) وانظر أيضاً في تعريف المكروه: "شرح اللمع" 1/ 107، و
"البرهان" 1/ 310 - 312، و"شرح الكوكب المنير" 1/ 413 - 419.
(3) "شرح الكوكب المنير" 1/ 344.
(4) أي الشك في وقوع الجمار في مكان الرمي. قال المرداوي في
"الِإنصاف" 4/ 33: "يشترط أن يعلم حصول الحصى في المرمَى على
الصحيح من المذهب، وقيل: يكفي ظنه، جزم به جماعة من الأصحاب،
وذكر ابن البنا رواية في الخصال: أنه يجزئه مع الشك أيضاً، وهو
وجه أيضاً في المذهب وغيره"
(5) "المستصفى" 1/ 165.
(1/31)
والأول أصح.
فصل
ولما قَدَّمنا ذكر الأصول التي تَنبني عليها هذه الأحكام وَجب
بَيانها، وهي الأَدلة التي تَستند إليها.
فالدليل: هو المُرْشِدُ إلى المطلوب (1).
والدالُ: هو الناصِبُ (2) للدلالة.
والمُستَدِلُّ: هو الدالُّ، وقيل: الدالُّ هو الدليل.
والمُستَدِل: هو الناصب للدليل.
والاستدلال: طَلبُ المدلول (3).
وقال قوم: الدليل هو الفاعل للدلالة. وليسَ بصحيحٍ؛ لأن اللهَ
سُبحانه خَلقَ الدلائل، ولا يُطلق عليه اسم دَليل.
وقال قوم: الدليل: ما نُظر فيه، فأَوجب النَظرُ فيه العِلمَ،
فهو الدليل، وما أوجبَ النظرُ فيه ظَناً- والظنُّ: تَغليبُ أحد
المجوَّزَين، وقيل: العِلَّةُ لأحدِ المُجوَّزَين أو
المُترددَين في النًفس مِن غير قَطعٍ- فهو الأمارة، وفرقوا بين
(4) الأمارة والدلالة بموجباتها، فما أفضى بالناظر
__________
(1) وهذا تعريفه لغة، أما في الاصطلاح: فهو ما يمكن التوصل
بصحيح النظر
فيه إلى مطلوب خبري. انظر: "شرح الكوكب المنير" 1/ 51 - 52.
(2) في الأصل:" الباحث". وانظر "الكافية" للجويني: 46.
(3) هكذا ذكره المؤلف ها هنا، وسياتي في الصفحة (447):
الاستدلال: طلب الدلالة.
(4) تحرفت في الأصل إلى: "ومن قوانين".
(1/32)
فيه إلى الظن فهو أمارة، وما أفضى به إلى
العلم فهو دلالة.
فالأول من الأصول- وهي الأدلة التي انْبنَتْ (1) عليها أحكام
الفقه- هو: الكِتاب. ودلالته ستة أقسام: ثَلاثة من طَريق
النُّطق، وثَلاثةٌ من جهة المعقول من اللَّفظ، فالتي (2) من
جِهة النطق: نَصٌ، وظاهِرٌ، وعُموم. والمعقول: فَحوى الخِطاب،
ودَليل الخِطاب، ومَعنى الخطاب.
فالنص: ما بَلغ من البَيان غايته، مأخوذٌ (3) مق مِنَصَّةِ
العَروس (4).
وقيل: ما لا يَحتَمِل التَّأويل. وقيل: ما استَوى ظاهِرُه
وباطنه.
وقيل: ما عُرِف مَعناه من لَفظِه (5).
والظاهر: ما ترددَ بين (6) أمرين. وقيل: ما احتمَل أمرين، وهو
في أحدهِما أظهر (7).
__________
(1) في الأصل: "أثبت".
(2) في الأصل: "فالنص".
(3) في الأصل: "فمأخوذ".
(4) المِنصَّة: ما تُظهر عليه العروس لتُرى: "اللسان": (نصص).
(5) "العدة" 1/ 137، "البرهان" 1/ 412، "المستصفى" 1/ 157،
وسيكرر المؤلف هذه التعريفات في الصفحة (91).
(6) في الأصل: "من".
(7) قال الطوفي في (شرح مختصر الووضة) 1/ 558: ينبغي أن يقال:
"هو في أحدهما أرجح دلالة"، لئلا يصير تعريفاً للظاهر بنفسه.
(1/33)
والعموم: ما شَمل شَيئين فَصاعِداً شمولًا
واحداً.
وقيل: ما عَمَّ شيئين على وجهٍ واحدٍ. ولايجوز أن يقال في حَد
عموم: عَمَّ؛ لأنه مصرَّفٌ من اسمٍ بَعدُ ما علمناه، وقد
أفسدنا ذلك في قولِ من قال في عِلم: مَعرفة المعلوم (1).
فصل
فالنصُّ: كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}
[النور: 2]، وكقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]. وحُكمه
أنْ يُصارَ إليه ويُعملَ به، ولا يُترك إلا بنصٍّ يُعارِضه.
فصل
وأما الظاهر: فهو كل لَفظٍ تَردَّدَ بين أمرين، هو في أحدهما
أظهر.
فهو في الألفاظ بمنزلة الظنَ المتردد في النَفس بين أمرين، وهو
في أحدهما أظهر. وهو ضَربان: ظاهرٌ بوضع اللغة، وظاهرٌ بوضع
الشرع.
فالظاهر بوضع اللغة؛ كالأمر يَحتمل النَّدب والإِيجاب، لكنه في
الإِيجاب أظهر (2)، والنهي يحتمل التَنزيهَ والحظْرَ، وهو في
الحَظر أظهر، وكسائر الألفاظ المحتملة لمعنَيين وهو في أحدهما
أظهر.
__________
(1) انظر ما تقدم في الصفحة (10).
(2) مثل له القاضي أبو يعلى في "العدة" 1/ 141 بقوله تعالى:
{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ
اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}.
(1/34)
وحُكمه أن يُحمل على أظهر مُحتَمليه، ولا
يُصار إلى غيره إلا بدليل.
وأما الظاهرُ بِوَضْعِ الشرع؛ كالأسماء المنقولة من اللُّغة
إلى الشرع، على قولِ من أثْبَتَ نَقلها، كالصلاةِ في الأصل اسم
للدعاء، ونُقلت في الشرع إلى هذه الأفعال المخصوصة، والحجِ
اسمٌ للقَصد، وفي الشرع: اسمُ هذه المناسك والأفعالِ المعروفة،
وغير ذلك من الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع.
وحكمه أن يُحمل على ما نُقِل إليه في الشرع، ولا يُحمل على
غيره إلا بدليل.
وقال قوم: ليسَ في الأسماء شيءٌ منقول، بل كل اسم زِيدَ عليه
مَعاني مع بَقائِه على أصله (1)، كما زيدت الطهارة إلى الصلاة،
ولم تَصِر زيادةً على الصلاة بل مَضمومة إليها مَزيدة عليها.
فعلى هذا القول لا تُحمل على غير موضوعها من اللُّغه إلا
بدلالة (2).
فصل
فاما العموم؛ فألفاظه أربعة (3):
أسماء الجموع؛ كالمسلمين والمشركين والأبرارِ والفُجارِ.
والاسم المُفرد إذا عُرِّف بالألف واللام؛ كالرجل والمرأة،
__________
(1) وهو ما قاله القاضي أبو يعلى في "العدة" 1/ 190.
(2) انظر الصفحة (100) من هذا الجزء والصفحة (11) من الجزء
الثاني.
(3) انظر "شرح اللمع" 1/ 309 - 318.
(1/35)
والمسلم والمشرك.
وقال بعض العُلماء: لا يكون هذا من الفاظ العموم (1). والأول
أصح.
والأسماء المبهمة كـ"مَن" فيما يَعقل، و"ما" فيما لا يَعقل،
و"اي" في الجميع، و"حيث" و"أين" في المكان، و"متى" في الزمان،
والنَّفي في النكرات، كقوله: لا رَجلَ في الدار، ولا يُقتَل
مُسلم، ومارأيتُ رَجلًا، وما أشبهه، فحكمُ هذا أن يُعملَ به
وُيصارَ إليه ولا يُخص إلا بدليل (2).
وأما مَعقول اللَّفظِ؛ فثَلاثة أيضاً: فَحوى الخِطاب، ودليل
الخطاب، ومعنىْ الخطاب.
فأما الفَحوى؛ فقد اختلِف فيه، فجعله أصحابنا وجماعة من
الأصوليين من جُملة النُّطق.
وقال قومٌ: هو من مَعقول اللَّفظ؛ وهو أن يَنص على الأعلى،
وُينبه على الأدنى، كما نَبَّه على الائتمان على الدّينار
بالائتمان على القِنْطار، ونَبَّه بنفي الائتمان على القنطار
بنفي الائتمان على الدينار (3)،
__________
(1) لأنه يفيد الجنس لا الاستغراق، وهو قول الفخر الرازي، وأبي
هاشم الجبائي، انظر: "المحصول" 2/ 367، و"المعتمد" 1/ 227.
(2) في الأصل: "بذلك".
(3) في قوله تعالى في سورة آل عمران الآية 75: {وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ
إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}.
(1/36)
ونَبه بالنهي عن التَّأفيف على ما أدنى منه
من الأذايا (1)، وكنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن
التضحية بالعَوراء (2) تَنبيهاً على العمياء، فحكم هذا عندنا
حكم النَص على مامضى.
وأما دَليل الخِطاب: فهو تَعَلق الحكم على أحَدِ وَصْفَي
الشيء، وعلى شَرطٍ أو غاية، فَيدل على أن ما عَداه بخلافه؛
كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا
عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، وكقوله عليه السلام: "في سَائمةِ
الغَنمِ زَكاة" (3)، فَيدل على أن غيرَ الحامل لا نَفقةَ لها،
وغيرَ السائمة لا زَكاة فيها، وفي ذلك خِلافٌ يأتي إن شاء
اللهً في مَسائل الخلاف.
وأما معنى الخِطاب: فهو القِياس، وله مَوضغ يَخًصُّه، لكن
قَدمناه
__________
(1) في قوله تعالى في سورة الإسراء الأية 23: {فَلَا تَقُلْ
لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا}.
(2) أخرج أحمد 4/ 284 و289، والدارمي 2/ 76 - 77، وأبو داود
(2802)، والترمذي (1497)، والنسائي 7/ 214، وابن ماجه (3144)،
والبيهقي 5/ 242 و 9/ 274 من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربع لا تجوز في
الأضحى: العوراء البيَّن عورها، والعرجاء البين عرجها،
والمريضة البين مرضها، والكسير التي لا تُنقي".
(3) طرف من حديث أنس بن مالك في الصدقات، أن أبا بكر كتب له
هذا الكتاب لما وجهه الى البحرين:" بسم الله الرحمن الرحيم،
هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله على المسلمين .. "، وفيه:
"في سائمة الغنم الزكاة"، رواه أحمد 1/ 11 - 12، والبخاري
(1445)، وأبو داود (1567)، والنسائي 5/ 27 - 29، وابن ماجه
(1800)، والدارقطني 3/ 112 - 114، والحاكم في" مستدركه" 1/ 390
- 392، والبيهقي 4/ 85، 86.
(1/37)
مع ذكرنا الأدلة.
وحَدُه: هو جَمعٌ بَين مُشْتَبِهَيْن بالنظر لاستخراج الحكم.
وقيل: هو حَمْلُ فَرع على أصل بعلةٍ جامعة، وهذا فيه نَوعُ
تخصيصٍ بقياسِ العِلة.
والأَجْودُ أن يمال: شَرائطه مُؤثّرة، وإجراء حُكم الأصل على
الفَرع.
وهو على ضُروب يأتي ذكر ها في مَكانه إن شاء الله.
فصل
فأما السنَّة، فدلالتها من ثلاثة أوجه: قَول، وفِعل، وإقْرار.
فالقول ضَربان: مُبتدأ، وخارِج على سَبب.
فالمبتدأ ينقسم إلى ما انقسم إليه الكتاب من النَّص، والظاهر،
والعموم.
فالنص؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: "في أرَبعينَ شاةً، شاةٌ"
(1) وما أشبهه، فحكمه أن يُصارَ (2) إليه وُيعملَ به، ولا يترك
إلا لنص مثله.
وأما الظاهر؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: "حُتَيهِ، ثُم
اقْرُصِيه، ثم اغسِليه بالماء" (3)، "صُبوا على بَولِ الأعرابي
ذَنوباً مِن ماء" (4)، فَيُحمَلُ
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة تعليق (3).
(2) في الأصل: "يضاف".
(3) أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 60 - 61، والبخاري (307)، ومسلم
(291)، والترمذي (138) من حديث أسماء رضي الله عنها.
(4) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد 2/ 239، والبخاري (220) =
(1/38)
على الوجوب، ولا يُصرف إلى الاستحباب إلا
بدليل.
وأما العموم؛ كقوله: "مَن بَدَّلَ دينَهُ فاقْتُلوه" (1)،
فيُحمل على العُموم ممن يَعقل من الرجال والنساء، إلا ما خَضه
الدليل.
والخارج على سبب، ضَربان: مُستَقل (2) دون السبب؛ كقوله -
جَوابَ قَولهم: إنك تَتوضأ من بئر بُضاعة، وهي تُطرح فيها
المحائِضُ، ولحومُ الكلاب، وما يُنْجي الناسُ-: "الماءُ طَهورٌ
لا يُنجسه شَئ" (3). فحكمه أن يُصارَ إليه كما يصار إلى
المبتدأ، ولا يخص ولايُقصرعلى سَببه، وقد ذهب بَعض العلماءإلى
قَصْره على سَببه الذي وَرَد فيه (4)، وليسَ بشيء.
والضرب الذي لا يَسْتقل دونَ سَببه، كما رُوي: أن أعرابياً
قال:
__________
= و (6128)، والترمذي (147)، وأبو داود (380).
وأخرجه من حديث أنس بن مالك: البخاري (219) و (221) و (6025)،
ومسلم (284) و (285).
(1) أخرجه من حديث ابن عباس: أحمد 1/ 282 و283 و322، والبخاري
(3017) و (2922)، وأبو داود (4351)، والترمذي (1458)، والنسائي
7/ 104، وابن ماجه (2535)، وابن حبان (4475) و (5606)، والحاكم
3/ 538 - 539، والبيهقي 8/ 204 - 205.
(2) في الأصل: "مستقبل".
(3) أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري: أحمد 3/ 15 و 31 و86، وأبو
داود (66)، والترمذي (66)، والنسائي 1/ 174.
قولهم: "وما ينجي الناس"، أي: يلقونه من العذرة، يقال: أنجى،
اذا ألقى نجوه. "النهاية" 5/ 26.
(4) وهم بعض أصحاب الشافعي كما سيذكر المصنف في الصفحة (16) من
الجزء الثاني.
(1/39)
جامعتُ في نَهارِ رَمضان، فقال: "اعْتِقْ
رَقَبَة" (1)، فَنَصُّ قوله مع السبب كالجملة الواحدة، فكانه
قال: إذا جامعتَ فأعتِق رَقَبة.
فصل
وأما الفِعل، فَضربان:.
أحدهما: ما فَعله على غَيرِ وجه القُربة؛ كالمشي، والنوم،
والأكل، فيدل على الجواز، وهذا يُشير إلى أصل، وأن أَفعالَه في
الأصل الاقتِداءُ به، ولا تختص به إلا أن تَقومَ دِلالةُ
تخصيصِ ذلك به.
والثاني: ما فَعَله على وجه القُربة، فهو على ثَلاثةِ أضرب: أن
يكون امتثالًا لأمبر فيُعتبر بذلك الأمر، فإن كان واجباً فهو
واجب، وإن كان الأمر نَدْباً فالفِعل نَدب.
والضرب الثاني: أن يكون ما فَعله بياناً لِمجملٍ فيُعتبر
بالمُبَيّن، فإن كان واجباً، فهو واجب، وإن كان ندباً فهو
نَدب.
والثالث: أدأ يكون مُبتدأ، ففيه مذاهب:
أحدها: أنه يَقتضي الوجوب ولا يُصرف إلى غيره إلا بدليل.
والثاني: يَقتضي النَّدب، ولا يُصرف عنه إلا بدليل.
والثالث: أنه على الوقف، ولا يُحمل على واحدٍ منهما إلا بدليل.
__________
(1) أخرجه أحمد 2/ 208 و 241 و281، والد ارمي 2/ 11، والبخاري
(1936) و (1937) و (2600) و (5368) و (6087)، ومسلم (1111)،
وأبو داود (2390)، والترمذي (724)، وابن ماجه (1671)، والبيهقي
4/ 221.
(1/40)
فصل
وأما الِإقرار؛ فضربان: إقرارٌ على قَولء، وإقرارٌ على فِعل.
فالقول؛ مثل ما روي أنه سَمع رجلًا يَقول: الرجل يجد مع
امرأتهِ رَجلًا، إن قَتل قَتلتموه، وإن تكلَّم جَلدتمهوه، وإن
سكتَ سَكتَ على غَيظ، أم كيف يصنع (1)؟، فكأنَه لما سكتَ، قال
ذلك.
والثاني: أن (2) يَرى من يَفعل شيئاً، فيسكت عَنه، مثل ما روي
أنه رأى قَيسَ بن قَهْدٍ يُصلي رَكعتي الفَجر بعد الصبح، فلم
يُنكر عَليه (3)، فكأنه فعلَ هذا أو أجازه نطقاً. وقراره لأبي
بكرٍ الصديق على الاجتهاد بحضرته، وقوله: إن أقررتَ أربعاً
رَجَمكَ رسول الله (4).
وهذا، وإن كان قَولاً فَقد صَدَرَ عن اجتهادِ القَلب.
__________
(1) أخرجه من حديث عبد الله بن مسعود: أحمد 1/ 420 و448، ومسلم
(1495)، وأبو داود (2253)، وتمامه: فقال: " اللهم افتح" وجعل
يدعو، فنزلت آية اللعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} فابتلي
به ذلك الرجل من بين الناس، فجاء هو وامرأته إلى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فتلاعنا، فشهد الرجل أربعَ شهادات بالله:
إنه لمن الصادقين، ثم لعن الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من
الكاذبين، فذهبت لتلعن فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -
"مه"، فأبت، فلعنت، فلما أدبرا قال:" لعلها أن تجيء به أسودَ
جعداً"، فجاءَت به أسود جعداً.
(2) في الأصل: "أنه".
(3) أخرجه أحمد 5/ 447، وأبو داود (1267)، والترمذي (422)،
وابن ماجه (1154)
(4) أخرجه أحمد 1/ 8، وأورده الزيلعي في "نصب الراية" 4/ 77،
من حديث أبي بكر رضي الله عنه قال: كنت عند النبي - صلى الله
عليه وسلم - جالساً، فجاء ماعز فاعترف =
(1/41)
فصل
وأما الِإجماع: فهو اتّفاق فُقهاء العَصر على حكم الحادثة،
وقال قَومٌ: عُلماء. وذلك حَدٌ بالمشترك، فإنّ اتفاقَ النحاةِ،
وأهلَ اللغة، والمفسرين ليس بِحُجة، وإن كانوا عُلماء، ولايعتد
بقَولهم في حادثة (1).
والمُجمع على كونه إجماعاً: ما اتَفَقَت فَتْواهم فيه نطقاً.
واختلف العلماء في فَتوى بَعضهم أو فِعله، وسكوتِ الباقين من
غيرِ نكيرٍ، مع انتِشار ذلك فيهم. فقيل: حجة وليس بإجماع.
وقيل: هو إجماع (2).
وإنما أَخرتُ ذكر الِإجماع لأن ما تَقدم يَصلح أن يكونَ دليلاً
يَستند إليه الِإجماع، وإن كانَ بعضُ ما تقدمَ دون الإِجماع.
والإِجماعُ في رتبة النَّص، وإن كانَ حكمه أن يُعمل به ويُصار
إليه، فلا يَجوز تركه بحال، ويتأكد على النَّص بمرتبة؛ وهي (3)
أن
__________
= عنده مرة، ثم جاء فاعترف عنده الثانية، فرده، ثم جاء فاعترف
الثالثة، فرده، فقلت له: إنك إن اعترفت الرابعة رجمك، قال:
فاعترف الرابعة، فحبسه، ثم سأل عنه فقالوا: لا نعلم إلا خيراً،
فأمر به فرجم.
(1) ذكر الطوفي عدة تعريفات للِإجماع، وما يرد على كل منها:
"شرح مختصر الروضة" 3/ 6 - 8.
(2) وهو ما رجحه الفتوحي في "شرح الكوكب المنير" 2/ 212، وقال:
"اختاره أبو الخطاب من أصحابنا، وقطع به أبو إسحاق الشيرازي،
واختاره الغزالي في "المنخول"، وصرح به أبو الحسين البصري في
"المعتمد".
(3) في الأصل: "وهو".
(1/42)
النص وإن كانَ قول المعصوم في خَبره
وحُكمه، لكنه يَصح أن يَرِدَ مثله بحيثُ يُعارضه ويقضي عليه
بالنسخ؛ لأنه في عَصر نزول الوحي، فيقضي الأخرُ على الأول.
فأما الِإجماع، فإنه مَعصوم عن الخطأ، مَحفوظٌ عن المُعارضة
والنسخ، إذليس له مِثله فيَقضي عليه.
وأما تَخصيصُه بالصحابة، أو بأهلِ المدينة، أو بأهل البيت،
فَعلى خلافٍ بين الناس، وسَيأتي في مسائل الخِلاف من الكتاب
(1) إن شاء الله، ونُبَيَّنُ الصحيح عندنا في ذلك.
فصل
وأما قَولُ الصحابي الواحد إذا لم يَنتشِر بينَ الباقين، فهل
هُو حجة؟ على خلاف، فَبعضهم ذكر أنه حُجةٌ بنفسه، وبعضهم جَعله
حُجةً مع قياس ضَعيف، وبعضهم قال: ليس بحجةٍ، وإنه كقولِ واحدٍ
من سائر المجتهدين. وسياتي ذلك في الخلاف من الكتاب (1) إن شاء
الله.
وحكمه إذا قيل: حُجة، أن يُعمل به، وُيصار إليه، وهل يَجوز أن
يُخَصَ به العُموم، ويُصرفَ به ظاهر السنة والكتاب؟ على خلاف
بين الناس. وهو على قول من جَعله حُجة، مِمّا يَفتقر أن يَستند
إلى دلالةٍ، كالقياس لا بد له من دلالةٍ وشاهدٍ يَشهد بصحته.
والِإجماع أيضاً لا بُد أن يَستند إلى دلالةٍ من أحد الدلائل
المتقدمة، وإذا جاءَ
__________
(1) سياتي في الجزء الأخير من الكتاب.
(1/43)
قولُ (1) صحابي آخر بخلافه، رُنجَحَ بينهما
ترجيحُ الأدلة.
فصل
وأما استِصحاب الحال، فهل هو دَليلٌ أم لا؟ فالعلماءُ المحققون
على القول بأنه دليل، وخالف كونَهُ دليلاً بعضُ من لا يُعتمد
(2).
وهو ضَربان: استِصحابُ حالِ العَقلِ في إبراءِ الذمة، وإخلاءُ
الساحةِ من حقٍ لم تَقم به دِلالةُ الشرع، وهو دليل يَفزع إليه
المجتهدُ عند عدم الأدلة.
وصورته: قولُ المستدل في مَسالةِ نَفي وُجوب الديةِ الكاملةِ
في قَتل الكِتابي (3): الأصلُ براءةُ ذِمةِ هذا القاتل من
الزائد على الدية، فمُدعي الزيادةَ على هذا المقدار عليه
الدليل.
والضرب الثاني: استصحابُ حالِ الإجماعِ، وفيه خلافٌ بين
العُلماءِ، فبعضهم لا يجعلُهُ دليلاً، وبعضهم جعلَه دليلاً،
فمن لم يجعلْهُ دليلاً اعتمد على أن الخِلاف المسوغ مَنعَ مِن
بقاء الاجماع،
__________
(1) في الأصل: "جاء على قول "ولعل "على" زائدة.
(2) نسب الطوفي القول بعدم حُجيته إلى الأحناف وأبي الحسين
البصري وبعض المتكلمين. انظر "شرح مختصر الروضة" 3/ 148.
(3) اختلف في مقدار ديته؛ فهي ثلث دية الحر المسلم عند الشافعي
وإحدى الروايتين لأحمد، وهي نصف دية المسلم عند مالك، ومثل دية
المسلم عند أبى حنيفة. "العدة" 4/ 1269.
(1/44)
إذا لا يسُوغُ (1) اجتهاد مع الإجماع، ولا
سُلطان للإِجماع مع حدوث التَسويغ، فالبَقاء على حالٍ قد
استحالت لا وجه له.
ومثاله: قول من ذَهب إلى المنع من الخُروج عن الصلاة لرؤية
الماء (2): الأصلُ انعقاد صَلاته بالإجماع، فلا يزول عن القول
بصحتها إلا بدليل. فليس بتمسكٍ صحيح، لأن الإجماع انعقد على
انعقاد صلاةٍ لم يرَ فيها الماء، فلا يَبقى إجماع لموضع
الخِلاف (3).
__________
(1) في الأصل: "لا تشريع".
(2) هو قول الثافعي، انظر "الأم " 1/ 141.
(3) انظر تفصيل ذلك في "العدة" 4/ 1262. وسيورد المصنف ما
أورده هنا في الصفحة (68) من الجزء الثاني.
(1/45)
|