الواضح في أصول الفقه

فصول
في بيان حدود، ورسوم، وخصور، لا يُستَغنى عن بيانها، لحصولها مُبددة في الكتاب، واستناد الأبواب والفصول إليها، واعتمادنا في هذا الكتاب عليها.

فصل
في النظر: وهو الأصل في تَحصيل هذا الأمر، والطريق إليه. وهو: اسم مشترك يَقع على الرؤية بالبصَر، قال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23]، وعلى الانتظارِ للمنتَظِر، والتَّوقع له {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35].
وهو ها هنا: التأفُل والتفكُر والاعتبار بمعرفة الحق من الباطل، والفَصل بين الحجة والشُبهة، وهو فِكرة القلب، وتأمله، ونَظرهُ المطلوب به علمُ هذه الأمور، وغلبةُ الظنَ لبعضها، وقد يصيب الناظرُ فيها وقَد يُخطىءُ، وكِلاهما نظرٌ منه، وقد ينظر في شُبهٍ وفي دَليل، وقد يَصل بنظره إلى العِلم تارةً إذا سَلَكَ فيه المسلكَ الصحيحَ ورتّبه على واجبه ومقتضاه، وقد لا يَصل إليه إذا قَصَّر وغَلِط وخَلط فيه، أو نظر فيما هو شبهة وليس بدليل.

(1/46)


فصل
وللنظر آلة، وغَرض:
فالاَلة: هي المطلوب من أجل غيره.
والغَرضُ: هو المطلوب من أجله في نَفسه.
فالغرضُ، كالمعرفةِ باللهِ ورسولِه، فإنَّ حاجةَ المكلًفِ إلى ذلك مُناسبة، إذ كانَت المعرفة بالله ورسوله فَريضة واجبة، ولا يوصَل إليها إلا بالبُرهان، والبُرهان آلة يُتوصل به إلى حصول المعرفة.
والغَرض في الجدل- بعد النظر المختص بالِإنسان- هو إظهارُ الحق من الباطل، وتَحديدُ السؤال والجواب هو الآلةُ لذلك، وكذلك تَحديدُ الإِلزامِ والانفصالِ، وكذلك تحديدَ القِياس والبرهان، وكذلك علم الاتفاق والاختلاف.
والغرض في النحو: مَعرفة الصواب في تَصرّف الكلام والإِعراب، وتحصيلُ الشواهدِ آلةٌ لذلك، وكذلك الأصولُ المتفقُ عليَها، وكذلك القياسُ في النحو آلة.
والغَرض في الفقه: إصابةُ الحق في الفُتيا، ومعرفةُ الأصول من الكتاب والسُنة والِإجماع آلة.

وكذلك الغَرض في علمِ الكلام: إصابةُ الحقِّ في أصل الديانات (1)، وذلك خَمسةُ أَضْرُبٍ: مَعرفةُ اَلله تعالى، ثم مَعرفة ما يَجوز عليه مما لايجوز عليه، ثم مَعرفةُ الرسولِ، ثم معرفة ما يَجوز عليه مما لا يجوز، ثم معرفةُ أصل الفُتيا من الإجماع، والاجتهاد بِحُجَّةِ
__________
(1) هذه العبارة من المؤلف موهمة، ففيها مدح لعلم الكلام وإظهار الجانب الحسن =

(1/47)


العقل آلة لجميع ذلك.
وكذلك الجدَلُ آلة، وكل آلةٍ للجدل (1) آلة لعلم الكلام؛ من تَحديد السؤال والجواب، والِإلزام، والانفصال، والقياس، والبُر هان، والاتفاق، والاختلاف.
والغَرض في الجملة على ضَربين: إصابة نِفعٍ، وإزالةُ ضَرَر، وكلُّ لَذَّة ليسَ عليها تَبِعة في دُنيا ولا اَخرة؛ فهي غرض، وكل سَلامة من أَلمٍ (2) هي غَرض، إلا أن يؤدي إلى نفعٍ هو أوفر وأعظم، أو ألمٍ هو أشد وأكبر.

فصل
وقد يَظفَر الطالبُ- وهو الناظر- بدليلٍ هو آلة لحكيمٍ، ثم يكون على نَظره لطلب آلةٍ أُخرى في طَيِّ تلك الآلة تكون لغرض اَخر، وهو حكم تَعديةٍ للحكم.
مثال ذلك: ظَفرهُ بالنصِّ على تَحريم التَفاضل في (3) الأعيان الستة (4)، فَقد ظَفِر ببادِرة النُطق بتحريم التفاضل فيها، وينظر نَظراً ثانياً
__________
= منه، ولم يزل العلماء من أئمة السلف يذمون هذا العلم ويحذرون من الاشتغال به، والحق واضح في كتاب الله وسنة رسوله، فهمه السلف الصالح، دونما حاجة إلى علم الكلام.
(1) في الأصل: "الجدل"، ولعل ما أثبتناه أولى.
(2) في الأصل: "المرء".
(3) في الأصل: "من".
(4) وهي المذكورة في الحديث: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء، عيناً بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى".
أخرجه من حديث عبادة بن الصامت: الدارمي 2/ 259، ومسلم =

(1/48)


في عِلة ذلك الحكم لِيُعَدي إلى غَير الأعيان حكمَ الأعيان، فيكون طَلبه الثاني لعلّةِ الحكم، وتكون تَعديته بحسَب العِلّة، فإن كانَ الكيلَ عَدَّى إلى كل مَكيل، وإن كانَ الطُّعْمَ عَدَّى إلى كل مَطعوم، وإن كانَ القوتَ عَدَّى إلى كل مُقتات، وإن لم يَظهر له ما يَصلح أن يكونَ علَّته وَقف على المنصوص عليه، كوقوف أصحاب الشافعى رحمة الله عليه على الثَّمَنيَّةِ في الذهب والفِضةِ، فلم يَتعدَّواَ بالنص مَوزوناً غيرَهما مع ثبوت صِحة العِلَّة الواقفَةِ عِندهم، وأنه يكفي في التعليل إفادةُ العِلّة، وأنه ثبت مُعلَّلًا بعلةٍ تقف على المحل، والكلام في ذلك يأتي شافياً في مَسائل الخِلاف (1) إن شاء الله.

فصل
وتَتفاوت (2) أذهانُ المجتهدين في التَّعدية والجُمود على محلِّ النص، فقد يُقْدِم على التَّعدية مُقْدِم لقُصوره عن الخَصيصة التي توجب وقوفَ الحكم على مَوضعِ النص، وقد يَجمُدُ عن التعدية مُقَصر لَم يَنكشف له وجه التَّعدية والِإلحاق، وهذه مَزَلّة، قدام، وبيان مَقادير الرجال في إلحاق الأشباه بالأشباه، وقطع المُتَّحِدات عن التعدية والإِلحاق.
__________
= (1587) (80) و (81)، وأبو داود (3349)، والنسائي 7/ 274 وه 27، وابن ماجه (2254). ومن حديث أبي سعيد الخدري أخرجه مسلم 3/ 1211 (82).
(1) في الجزء الأخير من الكتاب.
(2) في الأصل: "وتَتَقارب".

(1/49)


مثال ذلك: قَطْعُ اصحاب أبي حَنيفة النَّبيذَ عن الخمر (1) ومرادَ الخمرِ بالتحريم عنها مع استوائَهما في الاشْتِداد والإِطراب (2).
ومثلُ قَطْع أصحابنا وأصحاب الشافعي للجماعِ في نَهار رمضان عن الأكلِ في إيجابَ التكفير (3)، مع استوائهما في الهَتك بالمقصود المَرغوب.
ومثلُ قَطْعِ أصحاب مالكٍ وأصحابِنا جِماعَ الناسي في رمضان عن أَكله وشربِه، مع تَساويَ إسقاط الحَرَج والمُؤاخَذة فيهما (4).
ومثلُ قَطْعِ أصحابِ أبي حَنيفةَ كَفارةَ الطهار، بنَفي اعتبار الإيمان في رَقبتها عن كَفارة القَتل، مع تساويهما في مِقدار الصوم وتتابُعهِ فيهما (5).
وقَطْعِ أصحاب أبىِ حَنيفة وأصحابنا- فىِ إحدى الروايتين- قَتلَ العمدِ عن قَتلِ الخَطأ فىِ إيجاب الكفَارة رَأساً (6).
__________
(1) في الأصل: "التمر"، وانظر "الدرر الحكام في شرح غرر الأحكام" 2/ 87.
(2) لأن الخمر عند الحنفية هي التي من عصير العنب إذا غلا واشتد وقذف الزبد، بخلاف نبيذ التمر والزبيب وإن غلا واشتد وسكن "الدرر الحكام في شرخ غرر الأحكام" 2/ 87.
(3) "المغني" لابن قدامة 4/ 365 - 366، و"الأم" 2/ 82.
(4) لا ينطبق ما ذكره المصنف على مذهب الإمام مالك لأنه يوجب القضاء على من أكل أو شرب أو جامع ناسياً في نهار رمضان بخلاف الحنابلة، حيث يوجبون القضاء على المجامع ناسياً دون الآكل والشارب. انظر "المدونة" 1/ 208، و "الكافي" 1/ 341، و" المغني" 4/ 374.
(5) "الدرر الحكام في شرح غرر الأحكام" 1/ 394، و"المغني" 11/ 81.
(6) "المغني" 12/ 13 و 21.

(1/50)


وما ذاك كله إلا لتفاوتهم في قوة النظر في الإلحاق والقَطع.

فصل
فالنظرُ الأول: في فَهم مخارج كلامِ الشارع.
والنظرُ الثاني: في استخراج العِلَل إن كانت، وإسقاط التعليل إن لم يكن.
والنظر الثالث: في الجَمْع والقَطع.
فالأول؛ مثل ما رَوى أصحابُ أبي حنيفةَ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا رِبا في دَارِ الحَرب" (1)، وادَّعَوا أن المُرادَ به نَفيُ حُصولِ الرِّبا. وفَهِم أصحابُنا، وأصحابُ الشافعي نَفيَ الحكم نَهياً لا رَفعاً إلحاقاً بقوله: "لا جَلَبَ ولا جَنَب ولا شِغَار" (2). وقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ}
__________
(1) أورده الزيلعي في "نصب الراية" 4/ 44، وقال: قلت: غريب، وأسند البيهقي في "المعرفة في كتاب السير" عن الشافعي، قال: قال أبو يوسف: إنما قال أبو حنيفة هذا لأن بعض المشيخة حدثنا عن مكحول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا ربا بين أهل الحرب"، أظنه قال: "وأهل الِإسلام"، قال الشافعي: وهذا ليس بثابت، ولا حجة فيه.
(2) أخرجه أحمد 4/ 429 و439 و443، والنسائي 6/ 111 و228، وأبو داود (2581)، والترمذي (1123)، والبيهقي 10/ 21 من حديث عمران بن حصين.
وقوله: "لا جلب": الجلب يكون في شيئين: أحدُهما: في الزكاة وهو أن يَقْدَم المصَدق على أهل الزكاة فينزل موضعاً، ثم يرسل من يجلب إليه الأموال من أماكنها ليأخذ صدقتها، فنهي عن ذلك، وأَمِر أن تؤخذ صدقاتهم على مياههم وأماكنهم. الثاني: أن يكون في السباق: وهو أن يَتْبَع الرجلُ =

(1/51)


[البقرة: 197]، وكأن المفهوم من مُراده: لا تَرفُثوا، ولا تَفسُقوا، ولا تجلبُوا ولا تجنبوا في حال السِّباق، ولا تشاغروا في باب النكاح، وكذلك: لا تُرْبوا في دارِ الحرب، وإنما خَضَها بالنهي لِئلا يَظنوا أنها دار إباحةٍ تُبيح المحظور من الرِّبا، وتَوهم أولئك: لا ربا، بمعنى دار إباحة، فلا يَحرم فيها الربا (1).
ومثال ذلك الثاني (2): استخرافي أصحابنا والشافعيةِ التعليلَ من النَّهي عن شُربِ الخمرِ، وإيجاب العُقوبَةِ عليها بأنها ذات شِدَّة مُطرِبة، وتَعديتُهم بهذه العلّة للحكم إلى ما قامت به الشَدة وهي الأنْبذة (3).
والنظر الثالث؛ في الجَمع والقَطع، وقد بانَ في الفصل الأول (4)،
__________
= فرسه فيزجره ويَجْلِب عليه ويصيح حثاً له على الجري، فنهي عن ذلك.
"النهاية" 1/ 281.
و"الجَنَب": أيضاً يكون في شيئين: الأول: في الزكاة: وهو بمعنى الجَلَب، أو أن يجنب رب المال بماله ويبعده عن موضعه حتى يحتاج العامل إلى الِإبعاد في اتباعه. والثاني: في السباق: وهو أن يَجْنُبَ الرجلُ فرساً إلى فرسه الذي يسابق عليه، فاذا فتر المركوب تحول إلى المجنوب. "النهاية" 1/ 103.
و"الشغار": هو النكاح المعروف في الجاهلية وهو: أن يقول الرجل لآخر: زوجني ابنتك أو أختك على أن أزوجك ابنتي أو أختي، على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى.
(1) انظر تفصيل ذلك في "حاشية ابن عابدين" 5/ 186، و"المغني" 6/ 98 - 99.
(2) أي النظر في استخراج العلل، وإسقاط التعليل.
(3) "المغني" 12/ 512 - 513، و"الأم" 6/ 130.
(4) انظر الصفحة: (49).

(1/52)


مثَلُ إلحاقِ الطعام بالمَنصوصات أو إلحاق المكيلات بها من حيث فى مَكيلات، وقَطع الطعام عنها، أو إلحاق المُقتات بها، وقَطع المكيلات والمَطعومات عن المُقتاتات.

فصل
والنظر الذي نحن فيه يُثمر العِلمَ إذا كان صَحيحاً واقعاً مَوقعه، مُستَوفاة شُروطه، لا من طَريق التولد، لكن من جهة جَرْي العَادة، بأن اللهَ يُحدث العِلم عَقيبه، على ما بَيَّنا مِن فَساد القَول بالتولد (1).

فصل
ولا نقول: إن النظرَ الفاسدَ يتضمنُ الجهلَ والشلك ولا يُثمرهما، وإنما يفعل الجاهل والشاكّ الجهلَ والشكَّ مبتدئاً به، لا عَن شيءٍ تَضمنه هو طريقٌ له. والدّلالة على ذلك أنه لو كان الفَاسد من النظر، أو النَّظر في الشبهة طَريقاً للجهل لم يَقع بَعده الشكّ والظنّ. ولو كان طريقاً للشكِّ والظنِّ لم يقعِ الجهلُ بل كان يَقعُ ما هو طريقٌ إليه خاصةً. ألا ترى أنَ النظرَ الصَّحيحَ لما كان طريقاً للعلم، لم يقع عقيبه أو بَعده الجهلُ، ولا غَيرٌ من أغيارِ العلمِ في الجملة. وأيضاً فإن العالم قَد يَنظرُ في الشبهةِ كما يَنظرُ فيها الجاهلُ، ولا يقع له الجهل، ولا يَخرج عن العِلم، وقد يَقصدُ إلى إفسادِ النَّظر فيقعُ فاسداً، كما يَقع ممن لايَقصد، فلا يتولَّد له جَهل ولاشكٌ، ولايخرج به عن كونه عالماً بحال المنظور فيه، فتبيانُ صحيحِ النظر في الأدلة طريقٌ للعلم،
__________
(1) انظر ما تقدم في الصفحة: (20 - 21).

(1/53)


وفاسدُ النظر في الشبهة ليسَ بطريقٍ للجهل والشك والظنِّ وغَلبةِ الظن.

فصل

والدلالةُ على صِحةِ النظرِ، وكونِهِ طَريقاً إلى العلم بحال المنظورِ فيه، قَولُه تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وَجميعُ آياتِ الحثِّ على النظر في دَلائل العِبَر، مثل قوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا} [العنكبوت: 20]، {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20 - 21]، وَمُحالٌ ان يُحيلَنا على النظر حَثاً لنا على إثبات ما وَراءَ المشاهدات، وليسَ بطريق العلم.
وأيضاً: فإن حُصول العلم بحالِ المنظور فيه عقيبَ صحيحِ النَّظر، دلالة على أنه طريق، إذ لو لم يكن طَريقاً لم يحصل عَقيبه.
وأيضاً: فإنه لا يَخلو أن يكون النَظر صَحيحاً أو فاسداً، فإن كانَ صَحيحاً فهو ما نَقوله، وإن كانَ فاسداً فلا يَخلو أن يكون فَساده مَعلوماً ضرورةً، فيجب أن يَشترك في ذَلك العُقلاء، إذ الضرورات من العلوم لا يَختلف فيها كل من تَتَجه نحوه العلوم الضرورية. أو يكون مَعلوماً بطريق الاستدلال والنظر، فقد صح لنا مَعرفةُ شيءٍ من المعلومات بالنظر، فما بالكم جَحدتم أن يكون النظر طَريقاً؛! وهذا إثبات لما نَفَيتُموه، وكُل أمر لا يمكن نَفيه إلا بإثباته واجب لا مَحالة.
فإن قيل: أتعلمون صحةَ النظر ضرورةً أم بدليل، فإن كان ضرورةً وَجب أن نَشْرَكَكُم في العلم وكل مَنْ خالفكم، وذلك باطل، وإن كانَ

(1/54)


بنَظرٍ فبماذا ثَبت صحة النظر الثاني؟
قيل: نَعلمه بحدوث العلم لنا بحال المنظور فيه عند صحيح النظر، وذاك أمرٌ بَيِّنٌ لكَ أيها السائل عند سؤالك لنا عن دَليلِ كلَ مَسألة تسألنا عنها، فنريك كيف دليل تلك المسألة، وكيف صَحَّ حصولُ العلم، فكلُّ نظرٍ حصلَ عنده علمٌ، فإنما حَصل لأنه نَظرٌ صحيحٌ، وطريقٌ إليه، وكلُّ ما لَيست هذه حاله فليسَ بصحيح.
وجواب ثانٍ: وهو أنّا نَعلم صِحة النظرِ بضربِ من النظرِ، داخل في جُملة النًظر، وهو النظر الذي به عَلمنا فسادَ قول من قال: لا أعلم شيئاً إلا بدَرْك الحاسًة، أو بالضرورة المبتدأة في النفس، وبالتًقليد، ولا وَجه سِوى ذلك إلا النَّظر، وهذا ليس بنَقضٍ لما أصلْناه، ومثلة نقضٌ لمذهبِهم إذ (1) استدلوا على فسادِ النظرِ بضَربٍ من النظر.

فصل
وهذا النظر واجبٌ بما قَدمناه من الأدلة السمعيةِ، وهي صالحة للِإيجاب حَسب ما صلحت لإِثبات صِحة النظر، ولأن الله- سبحانه- قد أوجب عَلينا اعتقادَ الحق واجتنابَ الباطل، فيما اختلف فيه أهل الِإسلام من الأحكام، وقد ثبتَ أنه لا يُعلم ذلك ضرورةً، لاختلافِ العقلاء فيه، والضّرورات يَتفق عليها العقلاء. فلا يُفزع إلا إلى العِلم بصحةِ الصحيح وفسادِ الفاسد، ولا طَريق إلى ذلك إلا النظر، وما لا يَحصل الواجبُ إلا به فَواجبٌ.
__________
(1) في الأصل: "إذا".

(1/55)


فصل
في بيان ما يَحتاج إليه النظرُ الذي هو طريقُ العلمِ بالمنظورِ فيه.
فأولُ ما يقال في هذا: إن النظر لا يكونُ طريقاً للعلم حتى يكونَ صحيحاً، ولا يكونُ صحيحاً حتى يكون واقعاً على وَجهين يحتاج إليهما، أحدهما يرجع إلى النَّظر نفسِهِ، والآخر يَرجع إلى صِفةِ فاعِلهِ.
فالوجه الذي يَرجع إليه؛ هو أن يكون نظراً في دليلٍ ليس بشُبهة (1)، وأن يكونَ نظراً في حكم غيرِ مَعلومٍ للناظرِ بضرورةٍ أو دَليلٍ؛ لأن ما حَصل مَعلوماً من أحد الوَجهين لم يَصحَّ طلبُ العلمِ به.
وَيسوغ أن ينظر في طَريق الأدلة عليه، وهل هي أدلة أم لا. ولكن ليسَ ذلك من طلبِ العلمِ بالمدلولِ عليه في شَيء.
وأما ما يَرجع إلى الفاعل للنظر، فأمران:
أحدهما: أن يَكون كاملَ العَقلِ (2)، وقَد سبق مِنا ذكر العقل وما هو (3)، وليس من كماله أن يكونَ موجباً وحاظِراً، ومُحَسناً ومُقبحاً كما يقول من خَالفَنا، وإن كانَ لأصحابنا فيه خلاف.
والأمر الآخر: أن يكونَ عالماً بحصول الدليل، وبالوجه الذي
__________
(1) "شرح اللمع" 1/ 94 - 95.
(2) في "شرح اللمع" 1/ 94: "أن يكون الناظر كامل الأدلة".
(3) انظر الصفحة (22).

(1/56)


بحصوله عليه صارَدليلًا ومتعلقاً بمدلوله، غيرَظانً ولا مُتوهمٍ لذلك (1)، فإنه إن لم يَعلم هذين الأمرين لم يصل بنظره إلى العِلم.

فصل
في بيان الوجوه التي مِنْ قِبَلها يَحصل خَطأ الناظرِ في نظره لتُجتَنب.
اعلم أن الخَطأ يَدخل علي النَاظرِ من وجهين:
أحدهما: أن ينظرَ في شبهةٍ ليست دليلًا، فلا يصلُ إلى العلم.
والآخر: أن يَنظر نظراً فاسداً، وفسادُ النظر يكون بوجوه: منها: أن لا يَستوفِيَه، ولا يَستقصيَ فيه، ولا يَستكمِلَة، وإن كان نَظراً في دليل.
ومنها: أنِ يَعدِل عن التَّرتيب الصحيح في نظره، فَئقَدَّم ما حَقه أن يُؤخَّر، وئؤخَّر ما مِن حَقِّه أن يُقَدم (2).
ومنها: أن يَجهل بعضَ صِفاتِ الدليلِ التي لا يَتم كوُنه دليلًا على الحكم إلا بحصولها، وحصولِهِ عليها، وحصولِ علم المستدلِّ بها.
ومنها: أن يَضم إلى وَصف الدليل وَصفاً يُفسده، نحو أن يقول: إنما يدل خَبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على تحريم الخَمر؛ لأنه خَبرٌ عن تحريم
__________
(1) في "شرح اللمع": 1/ 95: "أن يستوقي الدليل بشروطه ... لأنه متى لم يستوف الدليل بشروطه، بل تعلق بطرف الدليل أخطأ الحكم ولم يصل إلى المقصود".
(2) "شرح اللمع" 1/ 95.

(1/57)


الخمر. فإن ذلك يُؤدي إلى أن يكون خبرهُ عن تَحريم المَيْتةِ والدَّم ليسَ بدالٍّ على تَحريمها؛ لأنه ليس بخبرٍ عن تحريم الخَمر، ولو لمَ يَدل خَبره عن الميتة والدم على كونهما حَرامَين، لما دلَّ خبره (1) عن كونِ الخَمر حَراماً على كونهِ حراماً، ولبطلت دلالةُ جميعِ أخباره عن سائر الأحكام.
فهذه الزيادةُ وأمثالُها في أدلة العقلِ والسمعِ مُفسدةٌ للاستدلال (2)، وجَهلُ الناظرِ ببعض صفات الدليل التي يحتاج إلى عِلمها نُقصان مِنه، ومُفسدٌ للنظرِ فيه، وصورة ذلك أن يسمعِ المكلًفُ خَبرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تَحريم الخمر، ولا يعلمَ مع ذلك أنه خبر لرسولِ الله، فلا يَعلم- لجهله قَصدَ الله سُبحانه- كونه دَليلًا. وكذلك لو شاهدَ ما يظهر على يده من إحياء الميت، وقَلب العصا ثُعباناً، وفَلقِ البَحر، ولم يعلم أنه من فِعل الله سُبحانه مقصودَاً به إلى تَصديقه، لم يَعلم كونه دلالة على ثبوته في أمثال هذا. وهذه جملة ما يُدخِل الخَطأ والتخليطَ على الناظر.

فصل

في القول في أحوال الأمور المنظور فيها، والمُستَدلِّ [بها] (3) على الأحكام.
وهي على ضَربين:
__________
(1) في الأصل: "خبر".
(2) في الأصل: "الاستدلال".
(3) ليست في الأصل.

(1/58)


منظور فيها يوصِلُ النظرُ الصحيحُ فيها إلى العلمِ بحقيقةِ المنظورِ فيه (1)، وما هذه حالُه مَوصوف بأنه دليل على قَولِ جميع مُثبتي النظر، وباتفاق الأصوليين والفقهاء.
وقد دخل في ذلك جميعُ أدلة العقول المتوصل بها إلى العلم بحقائقِ الأشياءِ وأحكامِها، وسائر القضايا العقلية، ودخل فيه جميعُ أدلةِ السمْعِ الموجبة للعلم والقَطع من نصوصِ الكتاب والسنةِ، ومَفهومِها ولحنها، وإجماع الامة، والمتواتر من الأخبار، وافعالِ الرسول عليه الصلاة والسلام الَواقعةِ موقعَ البيان، وكل طريق من طُرق السمع يوصل النظر فيه إلى العلم بحكم الشرع دون غَلبة الظن.
والضرب الآخر: امرٌ يوصِل النظر فيه إلى الظن وغالب الظن، ويوصَفُ هذا الضرب بأنه أمارةٌ على الحكم (2)، وُيخَص بهذه التسمية للفَرق بينه وبين ما يُؤدي النظر فيه إلى العِلم والقطع. وهذا تواضع وليس من مُوجب اللغة؛ لأن أهلها لا يُفرقون بين الأمارة والدّلالة والسمة والعلامة (3).
ومرادنا بقولنا في هذا الضرب الذي يَقع عند (4) النظر فيه غالب الظن: إنه طريق للظن، أو موصل أو مؤدٍ إليه، أنه مما يَقع الظن عنده مبتدأً لا أنه طريق كالنظر في الدليل القاطع، الذي هو طريق للعلم
__________
(1) في الأصل: "منه".
(2) "العدة" 1/ 35.
(3) وهو ما ذكره القاضي في "العدة" 1/ 131.
(4) في الأصل: "عنده".

(1/59)


بمدلوله، وإنما نَتجوَّز بقولنا: يُوصل وُيؤدي، وإنه طريق للظن (1).
وهذا الضرب الذي يُؤدي النقر فيه (2) إلى الظن، ضَربان: فمنه: ما لا أصلَ له مُعين، نحو الظن والاجتهاد في جَزاء الصيد، وقِيَمِ (3) المِثْلِ، وأُروشِ الجنايات، وقِيمَ المُتلَفات، ونَفقات الزَوجات، والاجتهاد في عَدالة الأئمة والقُضاة والشهود وأمثال ذلك، مما لا أصل له مُعَين يُردُ إليه وُيقاسُ (4) عَليه، كقياس النبيذ على الخمر، والأرز في تَحريم التَّفاضل على البُر بعلةٍ جامعةٍ بينهما؛ لأن النَبيذ أصلاً هو الخَمر، والأرز أصلاً هو البُرُّ، بخلافِ ما نحن فيه.
ومُحقِّقو نُفاةِ القِياس يُقِرون بصحة هذه الأمارات، ووُجوب الحكم بما يُؤدي النظرُ والاجتهادُ فيها إليه.

فصل
واتفق أهل العلم أجمع على أن هذه الأمارات عَقلية من حيث كان الرجوعُ فيها إلى العادات المعقولة، وإلى القِيم المعروفة، وإلى مُماثلة الصور المنظورة، وقَدر الحاجات في الأقوات، وما يُعرف به من الأحوال عَدالةُ الأئمة والقُضاة والوُلاة والشهود ظاهراً، فكل هذا عَقلي، والحكم المعلَّق عَليه شرعي، من إيجاب النَّفقة، وقِيَم الأرش، وجَزاء الصيد، والحكم بالشّهادة، وما جَرى مجرى ذلك.
__________
(1) " المسودة": 505 - 506.
(2) في الأصل: "إليه".
(3) في الأصل: "فهم".
(4) في الأصل: "مقياس". وانظر "العدة" 1/ 135 - 136.

(1/60)


فصل
والضربُ الآخر: نَظرٌ فيما له أصلٌ مُعين، فمنه ما يوصَف بأنه قِياس، وهو الاستدلال على ثُبوت الحكم في الفرع بعلةِ الأصل بعد ثُبوته وقيام الدلالة على تَعليله، إما بنصٍ على علته يُوجب العلم بها، وإما استثارةٍ لها، تقتضي غلبة الظن لكونها علة، ثم وجوب الحكم بأنها علة الأصل بعدَ حصول الظن لذلك.
وقد تقدم تحديد القياس (1)، وهو نَفس حَمل الفرع على حكم الأصل (2) بالوجه الجامع بينهما من علةٍ أو دِلالة أو شُبهة، على خلافٍ يأتي ذكره إن شاء الله.
فالقياس نَتيجةُ الاستدلالِ على العلّة والعلم بها، وسنذكر في باب أحكام العلل (3) - إن شاء الله- تَفصيلَ طُرق الأَدلة والأمارات على صحة العلة من التقسيم والمقابلة والطَردِ والجَرَيان- عند من رَأى ذلك دَليلاً- إلى غير ذلك.
ومنه أيضاً: الاستِدلال بأصلِ مَعنىً مِن لُغةٍ أو حكمٍ ثابتٍ في الشرع على المراد، مثل قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، وقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، أنه زَمن الحَيض أو
__________
(1) انظر ما تقدم صفحة (38)، وما سيأتي صفحة (433).
(2) في "شرح مختصر الروضة" 3/ 219 "حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما".
(3) في الجزء الثاني، الصفحة 77 وما بعدها.

(1/61)


الطُّهر، وهل العَفو إلى الزوج أو الوَلي؛ وذلك من باب الاجتهاد الذي يَسوغ الاختِلاف فيه، وليسَ هو من باب حَمل الفَرع على الأصل بالعِلة.

فصل
وقد زعم قوم أن الاستِدلالَ على الحكم ومَوضع الحكم ليس بقِياس، وأنه استِدلال، وأنه لكونه استدلالًا جازَ إثباتُ الحدود والكَفارات به، لا مِن حيث كونه قياساً (1). وهؤلاء قوم امتنعوا من الاسم، وأعطوا المعنى، لأنه إذا حُقَقَ عليهم خَرج كلامهم المُسمى استدلالًا قِياساً مَحضاً.
ومثال ذلك: قولهم بوجوب الكفارة في رَمضان من الجنس الأَكل، لكن لاختصاصه بأنه تَناوله مقصود (2)، حصل به الهتك لصَوم عين رمضان، على وَجهٍ حصل به مأثمُ الإِفساد والهَتك، ولا شُبهة حصَلت قبل خُروجِ اليوم، مع كون الصوم مُسْتَحَقَاً وقت الإِفساد، ولا مَفْزَع لهم في جَميع ذلك ولا مُستند إلا إلى الوَطء، فاشبه -بهذه الخصائص- الأكلُ عامِداً الوطءَ (3)، فهل هذا إلّا محضُ القياسِ؟! ومَحصول هذا رَدُ الأكل إلى الوَطء بمعانٍ جامعةٍ وأوصافٍ مؤثرة.
وكذلك رَدُ الأرُزِّ على البُر، والنَبيذِ على الخَمر بالمعنى، فإن
__________
(1) نسب أبو الحسين البصري ذلك إلى الحنفية في "المعتمد" 2/ 264 - 267.
(2) هكذا وردت العبارة في الأصل، ولعل الأولى أن تكون:" قولهم بو جوب الكفارة في رمضان من الأكل، لاختصاصه بأنه تناول مقصود .. ".
(3) في الأصل: "للوطء".

(1/62)


التَحريم فيها لم يجب للجنس، وإنما وَجبَ لمعنىً يشتركان فيه، ولا فَضل بين (حمل)، (1) الأكل على الوَطء بهذه الخصائص، وبينَ حَمل الأرُزِّ علىِ البُر بالخِصيصة الجامعة بَينهما.
فقد بان هذا، وسَنُبين فيما بعد- إن شاء الله (2) أن المطلوب بطرق الاجتهاد في الشرعيات الظن- لثبوت الحكم- وغالب الظن، فإذا جازَ إثبات الحدود والكفارات بمثل هذا الاستدلال وهو مُوجب لغالب الظنّ دون العِلم بجواز الخِلاف والاجتهاد فيه، صَحَّ أيضاً وجازَ إثباتها بطريق القياس على العِلَّة، لأنه أقوى وأثبت من هذه الطريقة، فلا وَجهَ لفَرقِهم في ذلك بين استِدلالٍ (3) وقِياس يوجبان غالبَ الظنّ دون العِلم، ولا بقي فرقٌ سوى تسمية هذا قِياًساً وهذا استِدلالاً، ولا وَجه للتعويل في الفَرق على اختِلاف الاسم.
وأما قَولهم: إننا نُعمِل القِياس في مَوضعِ الحدِّ والكَفارة، ولا نُعمِله في إثباتهما. فإنه قَول خِلوٌ عَن مَعنى؛ لأن موضعهما إذا لم يَكن معلوماً بطريقٍ تُوجِبُ العلم، وصَح أن نَجعل القِياس موضعاً لهما، جازَ أيضاً أن نُثبتَهما بقياسٍ لا يُوجِب العلم، ونحنُ نَستقصي ذلك في مسائل القِياسَ الخِلافية لنا ولَهم (2)، إن شاء الله.
__________
(1) زيادة يتم بها المعنى.
(2) في الجزء الأخير من الكتاب.
(3) في الأصل: "الاستدلال".

(1/63)


فصل
وجميعُ أحكام الأمارات والعِلل الشرعية ثابتة بالسمع دونَ العَقل؛ لأن العقل لا يوجب حُكْماً من أحكام العبادات والعُقود على ما نَدُلُّ عليه من بَعدُ، إن شاء الله.

فصل
في شَرح ما يُعلَمُ بالعقل دون السمع، وما لا يُعلَم إلا بالسمع دون العَقل، وما يَصِحُّ أن يُعلم بهما جَميعاً.
اعلم أن جميعَ أحكام الدِّينِ المعلومة لا تَنفكُّ من ثَلاثة أقسام: قسم منها: لا يَصحُّ أن يُعلم إلا بالعَقل دون السمع.
القسم الثاني: لا يَصحُّ أن يُعلم بالعَقل، بل لا يُعلم إلا من جِهة السمع.
القسم الثالث: يَصحّ أن يُعلم عَقلاً وسَمعاً.
فأما ما لا يصحُّ أن يُعلم إلا بالعقل دون السمع؛ نَحو حُدوث (1) العالَم، وإثبات مُحدثِه سُبحانه، وإثبات وَحْدانِيّتِه سبحانه، وإثبات صِفاته الواجبة له (2)، وإثبات الرسالة وتَجويزها عليه سُبحانه، وكل ما يتعلق على هذه الجملة مما لا يصحُّ أن يُعلم التوحيدُ والنُبوةُ إلا به.
والدلالة على ذلك أن السَّمع إنما هو عِبارة عن كلام الله، وما هو مَرويّ عمّن يُعلم أنه رسولُه المُخبرُ عنه، وإجماع مَن أخبر رسوله أنه
__________
(1) في الأصل:"حدث".
(2) هذا غير صحيح، فإن الله تعالى نَبه على أن حدوث الحوادث دليل على وحدانيته سبحانه وقُدرته وإرادته، ووجود الخالق سبحانه دَل عليه السمع والعقل والفطرة، وأسماؤه وصفاته دَلّ العمل عليها إجمالاً، كما دل عليها السمع إجمالا وتفصيلاً، فهي ثابتة بالعقل والسمع، لا بالعقل وحده.

(1/64)


لا يُخطىء في قَوله، ولن يصح أن نَعرف أن القولَ قولُ اللهِ ورَسولِه وخَبره ممن لا يُخطىء إلا بَعد أن نعرفَ الله؛ لأن تلك الجُملَ كلَها فرعٌ لِإثبات، اللهِ سُبحانه، ومُحالٌ أن يعلَمَ وصفَ اللهِ أو رسولَ اللهِ مَن لا يَعرفُ الله، كما أن من المُحالِ أن يَعرفَ كلامَ زيدٍ ورسولَ زيدٍ من لا يعرفُ زيداً، فوجبَ أن يكونَ العِلمُ بالله وبرسولِهِ من المعلوم عَقلًا لاسَمعاً.
ولا يجوز أن يَقول قائلٌ: إنني أعرفُ اللهَ ورسولَه بسمعٍ عن قولِ الله وقولِ رسولِه. لأنه ليس لنا مُخبِرٌ نعلمُ صِدْقَهُ ضرورةً، لما ثَبت من الدلاله على أنه ليس للمُخْبِرِ طَريقٌ غيرَ الطريقِ التي تُثبت لنا العلمَ، ولا يَجوز أيضاً أن يكونَ صدقُهُم في الإِخبار عن التوحيد والنُّبوة مَعلوماً بدليلِ العَقل؛ لأنه يوجِب أن يكونَ ذلك الدليل، هو الدليل الذي به نعلم ثبوت التوحيدِ والنبوة، دون خَبر المُخبرِ عَنهما، وإنما يكون خبره عنهما تَنبيهاً عَليهما، وهي الدَلالةُ دون قولِهِ، فثبتَ أنَ العلم بهذه الجُملة وما لا يَتم ويَحصل إلا به مُدرَكٌ بقضية العقل من حيث لا مجالَ للسمع فيه.
على أن المخبِرَ عن ذلك لا يَخلو أن يكونَ عالِماً بصحة ما أَخبر عنه بنظر أو بخَبر؛ فإن كانَ يَعلمُهُ بالنظر صَحَ ما قُلناه، وإن كان يَعلمُهُ بخبرِ مُخبرٍ آخر ثم كذلك الثاني، وجب إثباتُ إخبار مُخبِرين لا نِهاية لهم، وذلك مُحال.

فصل
وأما ما يُعلمُ بالسمْعِ من حَيثُ لا مَساغَ للعقلِ فيه، فنحوُ العلم

(1/65)


بكون فعل التكليف حَسناً وقَبيحاً، أو حَلالَاَ وحَراماً، وطاعةً وعِصياناً، وقُربةً، واجباً ونَدباً؛ وعَقداً ماضياً نافِذاً، أو تَمليكاً صَحيحاً، وكونه (1) أداءً وقضاءً، ومُجزِئاً وغيرَ مُجزىءٍ، وتحريم كلِّ مُحرمٍ من فِعله على مراتبه، وسندل على ذلك في مَسائل الخلاف (2)، إن شاء الله.

فصل

فأما ما يصح أن يُعْلَمَ بالعقلِ تارةً وبالسمع أخرى؛ فهو (3) كل حكمٍ -وقَضية- عقلي، لا يُخِل (4) الجهلُ بهما بالعلم بالتوحيد والنُبوة، نحو العِلمِ بجوازِ رُؤية اللهِ سبحانه بالأَبصار (5)، وجوازِ الغُفران
__________
(1) في الأصل: "فكونه"
(2) في الجزء الأخير من الكتاب.
(3) في الأصل: "وهو".
(4) في الأصل: "يحل" بالحاء المهملة.
(5) رؤبة المؤمنين ربهم- سبحانه وتعالى- يوم القيامة ثابتة بالكتاب والسنة، فلا عبرة بقول من خالف في ذلك. يقول ابن أبي العز الدمشقي في "شرح الطحاوية" 1/ 207 وما بعدها: "المخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة ومَن تبعهم من الخوارج والِإمامية، وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة، وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون وأئمة الِإسلام المعروفون بالِإمامة في الدين، وأهل الحديث، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة ... وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابياً، ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائلها". وانظر "شرح أصول الاعتقاد" للالكائي 3/ 470 - 499، و"الشريعة" للآجري: 264 - 270.

(1/66)


للمذنِبِين غيرِ الكفار (1)، والعلم بصحة التَّعبد بالعَمل بخبر الواحد، والقِياس في الأحكام، وأمثالِ ذلك مما إذا جَهله المكلَّف صَحّ مع جَهله به أن يَعرف الله عَزَ وجلَّ ونُبوةَ رُسُله عَليهم السلام، وهذه جُملة كافية في هذا الباب، إن شاء الله.
__________
(1) انظر "شرح العقيدة الطحاوية": 451 وما بعدها.

(1/67)


<رأس>فصل في معنى التكليف، وقصدِ الفقهاءِ بوصفِ الشخصِ أئه مُكلَّف.
</رأس>
اعلم أن حَدَ التكليفِ: إلزام ما عَلى العَبد فيه كُلفَةٌ ومَشقَّةٌ، إما في فِعله أو تَركِه، كقول (1) القائل: كَلَّفتُك (2) عظيماً، وكلَّفتُ زَيداً أمراً شاقاً، وأمثال ذلك، والفقهاءُ يَستعملون ذلك على ثَلاثةِ معاني:
فوجهٌ منها: ما قُلناه وحَدَّدناه، وهو الأصل الجامع، وهو المطالبة بالفِعل أو الاجتناب له، وذلك لازمٌ في الفَرائض العامّة، نحو التَوحيد والنُّبوة والصلاة، ومَا جَرى مجرى ذلك، لكلِّ عاقلٍ بالغ مع اختلافِ فَرائضهم في أمورٍ لا يَعم فَرضها.
والوجه الثاني: أن يَقولوا للعبدِ: مُكَلفٌ ومُخاطَب، على تأويل أنَّ عليه فيما سَها ونامَ عنه ولَم يقع منه في حال السكرِ والغَلبة فرضاً (3) يلزمه، على تأويل أن طَلاقَه نافذٌ واقع، وحَدَّه واجبٌ، وضَمان جِنايَته في ذِمته لازمٌ، ومن ماله مأخوذٌ، وأمثال ذلك، وإنما يُخاطَب بذلك قبلَ زوالِ عقلِهِ وبَعدَه، فيقال له: إذا نَسيتَ صلاةً ونمتَ عنها في وقتٍ لو كنتَ ذاكراً لها (4) ويقظاناً لزمَتك، فقد وجب عليك قَضاؤها وفعل مِثلها،
__________
(1) في الأصل: "يقول".
(2) في الأصل: "كلفك".
(3) في الأصل: "فرض".
(4) في الأصل: "الله".

(1/68)


كما يقال للحائض: إذا طَفرتِ فعليكِ قَضاءُ الصيام الذي لم تُخاطَبي به بسببِ عَرَضٍ أزال تَكليفَه عَنك.
والوجه الثالث: أن يَقولوا: إن الطفل مُخاطَبٌ ومُكلَّف، وكذلك العَبد والمريض. يَعنون بذلك؛ أنهم إذا فَعلوا ما لا يَجب عليهم فِعله، نابَ مَنابَ ما يجب عليهم ووَقع موقعَه، ولذلك قالوا: المريض الذي يُجهدُه الصيامُ والقِيامُ إلى الصلاة ولا يَجب ذلك عليه، مخاطَبٌ بِهما إذا فَعلَهما. يعنون بذلك: أنهم إذا فَعلوا ما لا يَجب عليهم فِعله، نابَ مَناب ما يجب عليهم وَوقع مَوقِعَه. ويقولون: العبدُ مُخاطبٌ بالجُمَعِ إذا حَضرها وفَعلها. يَعنون بذلك؛ أنها نائِبةٌ مَناب ما يجب عليه وإن لم تكن مِن فَرضه. وكذلك من تَكلًف الحج باستطاعة بَدَنِه وإن لم يَجد زاداً ولا راحلةً، تكلًف الحج بمعنى أنه نائبٌ عن فَرضِهِ إذا وجد ذلك، وإن لم يكن ما فَعله من مُكلًفه، على قولِ من جَعل الاستطاعةَ: الزادَ والراحلةَ (1).
وكذلك قولهم: إن الطفل مُكلفٌ بالصلاة (2) إذا فَعلها بشروطها قبل البلوغ، وفي الوَقت. يَعنون بذلك: أنها نائبة مَناب ما يجبُ عليه، وإن لم تكن من فَرضه، فيجب تَنزيل فَرائِضِهم على هذه الوجوه.
فإن قيل: ليس يَنضبط الحدُّ بما ذَكرتم، فإنً إفطارَ العيد (3) من أيام التًشريق، والطيبَ، والاغتِسالَ، وأخذَ الزينةِ من اللِّباس للجُمع
__________
(1) انظر "المغني" 5/ 7 - 9.
(2) في الأصل: "للصلاة".
(3) في الأصل: "العبد".

(1/69)


والأعياد، وإزالة الأنْجاس، هذه كلها من جُملة تكاليف الشرع، وهي مُساعدةٌ للطبع، ومُلائمةٌ للنفْس، فلا تَكْلِفة (1) فيها، فَبطلَ أن يكونَ تكليفُ الشرع مأخوذاً من الكُلفَة والمشقَة.
قيل: لا يَخرج؛ لأن كل من أخرجَ الأمرَ والنهيَ عن مَشيئته المُطْلَقَة إلى دخولٍ تحت رسمٍ، فإنه (2) تكليف، حتى إنه يحْسُنُ أن يقول العربي: كنتُ بنِيّةِ الصوم، فَكَلَّفني صَديقي الإِفطارَ، وكنتُ على شَعث السفر فَكَلفني دخولَ الحَمام. فإلزامُ الرسم تَكليفٌ وإن وافَق الطبعَ، وإلزامُ الطبيب من جهة العِلاج أَكلَ (3) المُرُورَةِ وشُربَ الشَرْبَة الحُلوة، كتكليفِ الحِمية من حَيث إنه رسمٌ وحدٌّ يوجب الاتَباع.
واعلم- وفقك اللهُ- انَ أفعالَ العُقلاءِ على ضَربين: ضَربٌ منها: لا يصحُّ دخوله تحتَ التكليف، وهي ما يقع منهم حالَ الغَفلةِ والسَّهوِ والنومِ والغَلبةِ بالسُّكْر، وكلِّ ما يَقع عن عُزوب العقل (4) والتمييز.
وقال جماعة من الفُقهاء: إن العاقلَ مُكلَفٌ في هذه الأحوال تَكليفاً ما، ولربما كَشَفَ تحقيقُ الكلام بين من خالفَنا في ذلك عن عبارةٍ دونَ أن يكونَ تحتها معنى، مثل قولهم: يَلزمه عند إفاقته وتَذكُره
__________
(1) في الأصل: "يخلفه".
(2) في الأصل: "وإنه".
(3) في الأصل: "اتخذ".
(4) أي: عند غياب العقل، يقال: عزب عني فلان، أي: غابَ وبَعُد. "اللسان": "عزب".

(1/70)


قَضاءٌ وغُرمٌ وطَلاقٌ وحَدّ. وهذا فارغ من المعنى الذي قَصدناه.
والدلالة على إبطال القَول بتكليف العازِب العقل، أو الذِّكر من الساهي والذاهل، ما هو ساهٍ عنه، وذاهلٌ عنه؛ أنَ اللهَ سبحانه إنما كلَّف من كلَّفه فِعلاً، أنْ يقعَ ذلك الفعلُ منه على وَجه التَقربِ إليه والطاعةِ له، أو كلفه اجتناباً يقع منه على وَجهٍ بقصدِ التقرب، ولا يَصح أن يقعَ التقرُّبُ إليه بالفعلِ أو التَركِ إلا بَعد أن يَقَع وهو عَالمٌ به حتى يصح القَصدُ إليه دونَ غيره، والساهي لا يَصح أن يكونَ مع سهوهِ عالماً، فكيفَ يصحُ أن يكونَ بالفعلِ أو التَّركِ متقرباً؟ فثبتَ بهذا أنه غيرُ داخلٍ تحتَ التَكليف.
وأيضاً لو قيل للساهي: اقصِدِ التقرُّبَ بفعلِ ما أنتَ ساهٍ عَن فعله، أو التقربَ بالاجتناب له، لوجب أن يقصدَ إلى إيقاعِ ما يَعلمُ أنه ساهٍ عنه أو اجتنابهِ، وعَلمُه بأنه ساهٍ عنه ينقض كونه ساهياً عنه، ويعودُ فيخرجُ -بهذا- العلمُ عن كونه ساهياً عنه، ولو دَفعه وخرج عنه، لاستحال كونه ساهياً عنه مع كونِه عالماً به.
وأما الدلالة على إحالةِ تكليفِ النائمِ والسكران، والمغلوب على عقلِهِ بالإِغماء، فهو الدليل الذي دل على نَفي تكليف البهيمة، وَالطفل الذي لا يعقل، والمجنون، لاشتراكِ جميعهم في زوال العقل والتمييز، بل قد عُلِم أن الطفلَ والمجنون والبهيمة، أقربُ إلى العِلم والقصد إلى كثيرٍ من الأفعال من المغلوب والنائم والسكران، فإن الطفلَ والمجنونَ يَظهر من قُصودهم واتباعِ ماَ يُرام منهم بالمُداراةِ والإِشارةِ، فِعلاً لما

(1/71)


يُصوَّب لهم، وتَرْكاً لما يُنهون عنه بنوعِ من اللُّطف والسَّوق إلى ما يُراد، كالترغيب لهم في بعضِ الأفعالِ؛ كالأخذِ والتناولِ والحَبْو والمشي، والاجَتناب، مثل: تزهيدهم في الرضاع وقُربان الثَدي عند الفِطام.
والبهائم فمعلوم تعليمُها وتَلَقّفُها كل صِناعة تَصلح لها بحسبها، كتعليم الجَوارحِ الاقتِناصَ، والكلب الاصطيادَ، والِإمساكَ علينا والاشْتِلاء إذا اشْلَيناه (1) والكَف إذا زَجًرناه، وحيوانِ الحرثِ والسَّقي كالبَقَر والجِمال. كلُّ ذلك تَلقُفٌ للأعمال وإثباتُ صُوَرِها في القُلوب حِفظاً وذِكراً، وهذا معدوم في حق النائم والمغلوب والسكران، فإذاً قد بانَ أنهما سَواء، فوجب تساويهما في نَفي التكليف لقيام العِلّة فيهما، وهي زوال العقل والتمييز. نعم وفي الطفل والمجنون والبهيمِ من التجنُّب والتحرُّزِ من المُضارِّ، ما ليسَ في السَّكران والنائم، فقد تحقَّق الأولى في نفي تكليف السكران والمغلوب والنائم.
فإن قيل: إلا أنَّ الناسيَ يُذكًر، والغافلَ يُنَبه، والنائمَ يوقَظ، وذاكَ القَدْر من الإِيقاظِ والتنبيه الذي يَحسُنُ من غيره له لأجل تَهيُّئه لذلك وكون محله قابلًا، فلا يُنكَر أنْ يُخاطبَ هو ان يفعلَ في نَفسِهِ من الإِيقاظِ والتذكرِ ما يفعلُهُ غَيرُه فيه.
قيل: هذا باطِلٌ بالصبي يُؤمَرُ وليُّه بأمرِهِ بالصلاةِ وضَربهِ، ولا يدل على أنً المعنى الذي فيه لقبول الأدب يوجبُ عليه ويكلفَ في نَفسه ما كلّفه الوليُّ في حَقه، ولأن الولًى مُتَيقظٌ لأمرِهِ، والساهي والنائمُ
__________
(1) أشليت الكلب: إذا أغريته بالصيد. "اللسان": (شلا).

(1/72)


والناسي غيرُ مُتَيقظٍ لأمره.
<رأس>فصل في ذكر ما تعفَق به مَن أدخلهم في التكليف من الفُقهاء.
</رأس>
قالوا: كيف تُخرجونهم من التكليف، وقَد أجمعت الأمة من الفقهاء- وهم العُمدة في هذا- على أنَ أفعالَهم وتروكَهم في حكمِ أفعالِ العقلاءِ، وهم ماخوذون بها ومؤاخَذون عليها أخذَ التَكليف؛ من ذلك: إيجابُ قَضاءِ الصلواتِ على السكرانِ والنائمِ، وقَضاءِ الصوم على الذاهلِ عن نِيّته والناسي لها في وقتِها (1) المأخوذِ عليه، علىَ اختِلافهم فيه، ومؤاخذتُهم بغرامات ما يقعُ منهم من الجنايات، وهذا هو حُكم التكليف والدخول تحته، فبمَ ينفصلون عن هذا؟
قيل: قد بَينا أنهم في زوال العقل كالمجانين والأطفال والبهائم، وأنهم أسوأ حالًا، فامتنع التكليف.
وأما وجوب الغَرامة والقَضاء، فذلك وجب بفرض مبتدأ، ولله سُبحانه أن يبتدىءَ خِطابَ العاقلِ ويلزِمَه ما شاء من العبادات، فما يُحقَق التكليف إلا عند عودتهم (2) إلى إفاقتهم (2) وعقلهم (2)، وإيجابُ ذلك في حالِ إفاقتهم (2) لا يوجب تكليفَهم (2) حالَ زوالِ عقلهم (2)، ولو أننا لم نجعل فَواتَ الصلوات وإتلافَ المالِ حالَ السُّكر والإِغماءِ سَبباً لِإيجاب ما وجب حال إفاقتهم (2)، لكان جائزاً صحيحاً بإجماعِنا،
__________
(1) وهو تبييتها من الليل عند المالكية والشافعية والحنابلة. انظر "المغني" 4/ 333 - 335.
(2) جميع هذه الضمائر وردت في الأصل بالتثنية، والصواب ما أثبتنا، فهي تعود على: النائم، والناسي، والسكران، والمغمى عليه.

(1/73)


فَعُلم بذلك أَنَّ التكليفَ حصل بعد عَودِ العقلِ وحصولِ الإِفاقة.
وقد تكون التكاليفُ بعد حُصول أسبابِ سبقت، لا من جهةِ المكلفِ ولا من فِعله رأساً، ولا كَسْبَ له فيها؛ كَإيجاب الاغتسال على الحائضِ بعد انقِطاعِ الدم، وإن كانَ جريُ الدمِ ليس من كَسبها، فأوجبَ (1) الغُسلَ مستنداً إلىَ ذلك، وكذلك وجوبُ قَطع القُلْفَة التي وُجدت من خَلقِ اللهِ سبحانه، فتناولَ التكليفُ إزالتَها وقَطعَها بعد البلوغِ بنفسِهِ، وقبلَ البلوغِ خِطاباً لوليّه، فَلسنا نمنعُ أمثالَ هذا، وإنما نمنعُ الخِطاب لهم (2) في حالِ الغَيْبة، وزَوالِ العقلِ.
ولأنه قد يكونُ فِعلُ البهيمة، وقَتلُ الخطأ، وحُكم الحاكم، وفُتيا المُفتي، أسباباً لوجوب أفعالٍ على غيرِ الفاعلينَ لها، لا لأن فعلَ البَهيمةِ وفعلَ قاتل الخطإِ داخلانِ تحتَ تكليفِ العاقلةِ وصاحب البهيمةِ، لكن جاءَ الشرعُ بذلك تحكماً منه، ولم يلجئنا (3) ذلك أَن نقولَ بدخولِ هذه الأفعالِ تحت التكليفِ، فبطلَ أن يكونَ وجوبُ القَضاءِ لحكايةِ ما مضى من العباداتِ الواجبةِ في الأزمانِ الماضيةِ في حالِ الغَلبَة والسّكر والصَغر، وجوباً يدل على تَقدم التكليف.
فأما توهّم من تَوهم أن حدَّ السكران إنما وَجب عليه بسببِ أَدْخَلَه على عقلِهِ وهو السُّكر، فإنه باطلٌ، لأن السّكر من فِعل اللهِ تعالى وليس من كَسْبِ العَبْدِ وَمقدوراتِه مباشَراً ولا مُتولداً (4)، فأما استحالةُ ابتدائِهِ
__________
(1) في الأصل: "ووجب".
(2) في الأصل: "لهما".
(3) في الأصل: "يلجنا".
(4) بل الأفعال إنما تنسب إلى فاعليها سواء كانت خيراً أم شراً، والله خلق هذه الأفعال وأصحاب الأفعال، وأقدرهم على فعلهم، فهم لهم قدرة وإرادة حقيقية فهي من كسبهم.

(1/74)


لفعلِ السُّكر في نفسهِ فباطلٌ باتفاقٍ، وأما امتناعُ كونِهِ مولِّداً لفِعل السُّكرِ بسببِ كان منه فظاهرُ البطلانِ، لأنه لم يكن منه إلا الشرب، وشُربه للماء وسائرِ المائعاتِ من جنسِ شُربه الخمرَ العَتيق، فلو ولَّد أحدُ الشُربين لولد الآخر، لأن الشيء إذا ولدَ عند أصحاب التولُّد وَلَد مثله، ولو ساغ القولُ بأن الشرب يُولَد السُّكرَ، لساغ أن يقال: إن الأكلَ والشربَ يولدان الشَبعَ والريَّ، وأن الوَجْبةَ (1) تولَد الموتَ، وكل هذا باطل.
وأصلُ القول بالتوليد عند أهلِ السنةِ باطل، خِلافَ المعتزلةِ (2) وأهلِ الطبع، فإنه لا تَوتُدَ في فعلِ اللهِ سبحانه ولا فعلِ الخلقِ، فسقط ما طلبوه، ولا يسُوغ أيضاً لأحد أن يقولَ: إن السُّكْر إنما وجب وتولَّد عن ذاتِ الشراب؛ لأنه جِسم من الأجسام، والأجسامُ لا تُولَد شيئاً، ولأنه لو تولَد السُّكر عن ذات الشراب، لكاَنَ فِعلًا لله سبحانه؛ لأنه فاعل الجِسم الذي هو الشرابُ، وإذاً لم يُحد السكرانُ لسببٍ كانَ منه وأمرٍ أدخله على نفسه.
ولو قيل: إنما حُدَّ لأنه شَربَ، وانه قد أجرى اللهُ العادةَ بفعل السكرِ عندَ تَناولِهِ. لكان ذلك أولى، إلا أنه لم يكن محدوداً إلا على
__________
(1) أي السقطة مع الهَدَّة. "اللسان": (وجب).
(2) تنسب هذه الفرقة إلى واصل بن عطاء الذي خالف الحسن البصري في القدر، وأن الفاسق في منزلة بين منزلتين لا كافر ولا مؤمن، ولما طرده الحسن البصري من مجلسه اعتزل عند سارية من سواري المسجد وانضم اليه عمرو بن عبيد، وسُموا مع من تبعهما بالمعتزلة. انظر "الملل والنحل" 1/ 43 - 85، و"الفرق بين الفرق": 114 - 202، و"نشأة الأراء والمذاهب": 200 - 209

(1/75)


شَيءٍ فعله مع العقل لا مع زوال العقل، لأنه يَشرب وهو عاقل مُميز.

فصل
ومما تَعلَّقوا به علينا في نَفي تَكليف السكران، قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، ونهيه للسكارى عن الصلاةِ وقُربانِها، إثباتُ تَكليفٍ لهم وصَرفُ خطابِ إليهم، وذلك مُبطل لما أصلتم من نَفي الخِطاب لهم والتَكليف.
قيل: إذا تأملتُم الأدلّةَ التي تَقدَمت، رأيتم أنها صارفةٌ لها عن ظاهرها، ووجبَ بتلك الأدلةِ أن نتاولها على وجهٍ يوافقُ تلك الأدلةِ الصحيحةِ، والتأويلُ لها ينصرفُ إلى وجوهٍ عدة:
منها: أن السكْر الذي صَحَ صرفُ الخطاب نحو صاحبهِ؛ هو السُّكر الذي يحصلُ معه نَوعُ تخليطٍ في الكلامِ، ولا يُزيل العقلً زَوالًا يمنع فَهم الخطاب، وذلك ليسَ بمانعٍ عندنا، فهو كالنُعاس بالإِضافةِ إلى النوم، ولا يَمنع شيئاً من التَكليف، ولهذا علامة نَذكُرها؛ وهي (1) نَشوةٌ يتحرك مَعها بتصفيق وإنشادٍ ورَقصٍ، كانَ يتماسك عنه حالَ صَحوهِ قبل النَشوة، ويراه قَبيحاً من نَفسِه وغيرِه، فهذا إذا نُبه تَنبه، وإذا فُزِّع فَزِع، وَيجتنِبُ المضارَّ ويَتطلَّبُ المنافعَ، فهذا يَحسُن أن يُقال له: يا هذا، لا تقرب المسجد ولا تَدخل في الصلاة، حتى تَتماسكَ وتَصحو عن هذه النَشوة.
ويحتمل: لا تَشربوا شُرباً يؤدي بكم إلى حالٍ تدخلوا بها
__________
(1) في الأصل: "وهو".

(1/76)


المساجد والصلوات، مثل قول القائل: لاتَدخل الصلاةَ ذاهلًا ولا ساهياً. بمعنى: تَيقَظ وادخُلْ، ولا تَدخل الصلاةَ عَطشاناً. أي: اشرب وادخُل. كذلك ها هنا، المراد به: لا تَشرب شُرباً يؤدي بك إلى التَخليط وتَدخل الصلاة. فكأنه قال: لا تشربوا شُرباً يؤدي بكم إلى التَّخليط. وهذا كان في أوقات الشُرب قبل النَسخ.
وقد قيل: لا تَقربوا الصلاةَ وأنتُم سُكارى من النوم والاستثْقال (1)، حتى تَستيقظوا استيقاظاً يَزول معه ثِقَل النوم، ويكمُلُ مَعه تَمييزكُم لما تَقولون، ونَشاطكم فيما تَعملون.
ويحتمل أنه قال للصُحاة: لا تَقربوا الصلاةَ وقد شَرِبتم شُرباً، عساكم تجوزون تَخليطَ الأقوال في صَلاتكم (2).
وقد قيل: إن رَجلاً تَقدم في الوَقت الذي كانت مُباحة، فَخلَّط في سورةِ الكافرين، وأقام الفاتِحة وأعمال الركعة، فَنزلت (3). ومن أقامَ أكثرَ أقوالِ الصلاةِ وأفعالِها لا يكونُ خارجاً عن حَيِّز التكليف (4).

فصل
واعلم أن المُكره داخلٌ تحت التَكليف، على أنَ فيه اختلافاً بينَ الناس؛ وذلك أنَّ المكره لا يَكون مُكرهاً إلا على كَسبه وما هو قادرٌ
__________
(1) "تفسير الطبري" 5/ 96.
(2) فصَّل الطوفي هذه المسالة في "شرح مختصر الروضة" 1/ 190 - 193.
(3) أورده الطبري في "تفسيره" 5/ 95، وذكر أن الرجل هو علي بن أبي طالب أو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما.
(4) في الأصل: "التكلف".

(1/77)


عليه؛ نحو المكره على الطَلاق والبَيعِ وكلمةِ الكُفر، وكل ذلك إذا وَقع فهو كَسبٌ لمن وَقع منه، وواقع مع عِلمه به وقَصده إليه بِعَينه، فيصحّ لذلك تَكليفه، كتكليف ما لا إكراه عليه فيه.
وزعمت القَدَريًة (1) أنه لا يصحُ دخولُهُ تحتَ التكليف؛ لأنه لا يَصح منه غير ما أكره عليه.
وهذا قولٌ باطلٌ من وجهين:
أحدهما: أنه قَد يصح منه خِلاف ذلك؛ لأنه عندهم قادرٌ على ما أكره عليه وعلى ضِده وتَركه، فلو شاءَ فَعَلَ ضِده والانصرافَ عنه، ولتحمل الضرر وكفَّ عنه، فسقط ما قالوه. وغاية ما فيه أنه يشق عليه، ويتكلًف ما يُضاده ويَثقل، وهذا مما يجانسُ التَكليفَ، فأما أن يُضادّه فلا؛ لأن التكلفَ أبداً إنما هو لفعلِ ما يَثقل وَيشق.
الوجه الثاني: أنه ليس كل من لا يَصح منه الانصراف عن الفِعل يمتنع تَكليفُه؛ لأن القادرَ عندنا على الفِعل من الخَلق لا يصحُ منه الانصرافُ عن الفعل في حال قدرتِهِ عليه، لوجوب وجودِها مع الفعل وإن كان ذلك يصح منه، بمعنى صحِة نيته (2)، وأنه لا يصح كوُنه قادراً على ضِده بدلاً منه، ومع ذلك فإن تكليفَه صَحيح.
__________
(1) هم القائلون بأن كل عبد خالق لفعله، وليس الله تعالى فيه صنع ولا تقدير. انظر "الفرق بين الفرق": 18، و"نشأة الآراء والمذاهب والفرق": 167 - 174.
(2) في الأصل: "تبيينه".

(1/78)


فصل
وذهبَ كثير من الفقهاء إلى نَفيِ دخولِ فِعل المكرَه تحت التكليف، واعتلّوا بأنه واقع من فاعِله بغير إرادةٍ له ولا قصد إليه، فصار بمنزلةِ فعلِ النائمِ والمغلوبِ اللَّذين لا قَصد لهما، وهذا باطلٌ باتفاق الأصوليين؛ لأن مُطَلَق زَوجته وقاتلَ غيرِه عند إكراهه على ذلك، عامدٌ لما يَفعله، عالمٌ به، قاصدٌ إليه، مختار له على وقوع المكروه به من جهة مُكرِهِه، مُرجَح لأسهلِ الأمرينِ عنده على أصعبهما، وهو طلاق زوجته وقَتلُ غيره توقيةً لنفسه التي هي أعزُ عِنده من زَوجته ونفْسِ غيره.
والذي يدلُّ على قَصدِه ودخولِ فِعله تحتَ التكليف؛ مَنعُ الشرعِ له من قَتل البريء المكرَه على قَتله، وإلحاق الوعيد به على إيقاع القَتل به، وبهذا النهي والوعيد والتأثيم قد بان أن اللهَ سبحانه يصحّ أن يُكلفنَا تركَ كل ما نُكره على فعلِه، حسبما كلًفنا تَرْكَ قَتلِ البريء، وإنما رَخَّص لنا قولَ كلمة الكُفر تَسهيلاً منه علينا ورفقاً بنا (1)، وليسَ دخولُ الرِّفق رُخصةً وسُهولةً مما يمنعُ دخولَ التكليف، كما رَخص لنا في المَرَضِ الإِفطارَ، ولم يمنع ذلك تَكليفَه لنا الانزجار عن التداوي بما حَرم علينا، وأمْرَه إيانا بالصلاةِ بحَسْبِ الطاقة.
فإن قيل: فكيفَ يجتمع الإِكراهُ والقصدُ وهما ضِدان أو كالضدين، ولذلك لا يَحسن أن تَقول: ما أردتُ كلمةَ الكفر لكن
__________
(1) وذلك قوله سبحانه وتعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}. سورة النحل، [الآية: 106].

(1/79)


قَصدتُ كلمة الكفرِ حال إكراهي. وما الفَرق بينَ المكره والمُختار إذا جَعلتَ المكرَه قاصداً والمختارَ قاصداً؟
قيل: هذا أمرٌ غامضٌ عند أكثر الناس، مُشتبه عليهم، ونحن نكشفه ونُخرجه إلى حَيِّز الوضوح بعون الله، فنقول: إنَّ المُكرهَ قاصدٌ دفْعَ المكروه بالفِعل والقول الذي أكره عليه، وهو غير مُطلَق الدواعي والإِرادات، بل مقصورُ الدواعي، وقد يكره على قَتل من يَودُّ وُيؤْثِر أنَه لا يقتلُهُ، وأنه لو وَجد خلسةً أو طريقاً للتخلص من قَتله لسلكه مبتدراً، وطار إليه هارباً، وطباعه تبكي على ذلك الشخص، ثم إنه يشهد ما يلحقه من الضرر، وَيزِنُه بالضرر الحاصل بالحزن على المُكرَهِ على قَتله، فَلجأ إلى دَفع أعظم الضررين، وهو إزهاق نَفسه وتعذيبها بالجراح، وقَبِل (1) الارتفاقَ بأيسرِهما؛ وهو مَضرتُهُ بغَمِّه وخزنه الداخِلَيْن عليه بالإِضرار بمن لا يَستحق الِإضْرار.
ولنا دواخل من هذا الجنس يتحير مَعها العقلُ، مثل رَوم تناولِ الدواءِ المُر الكَريهِ ريحُهُ وطَعمُهُ وفعلُهُ في النفس، لما يَلحظه المَتداوي من الخَوْفِ على نَفسِهِ من الأمراضِ الممتدةِ الآلام، ولربما كانَت مُزهقةً للنفسِ، فهو مُريدٌ لشربهِ لا لِعَينه، لكن متحَملاً كُلفةَ الألمِ والضرَرِ اليَسير، لدفعِ الألم والضرر (2) الكثير، فهذا وأمثائه من بَطَ الدُبَيلة (3)، وقَطعِ اليدِ المتَأَكِّلةِ، تَتحير العقول مَعه بالبادرة، وتَنتهي إلى
__________
(1) في الأصل: "قبل"، بدون الواو.
(2) في الأصل: "الضرر والألم الكثير".
(3) البَط: الشق. والدبيلة: دمّل كبير تظهر في الجوف فتقتل صاحبها غالباً. "اللسان": (بطط) و (دبل).

(1/80)


اختيارِ دفعَ الآعلى من الضررين بالأدنى.

فصل
قال المُحققون: ولا فَرق بين الِإلجاء والِإكراه من جهة اللغة. وقال قومٌ: الِإلجاءُ أبلغ، وهو أنه ما خيف مَعه القتل، والإِكراه: ما يكون مَعه الخوف فيما دون النَّفس.
وقال بعض القَدَرية: الإِلجاء: ما لا يكون معه إلا داع واحدٌ إلى فعلٍ واحدٍ. والإِكراه: ما يَصح أن يكونَ معه داعٍ إلى الًفعل وإلى خِلافه وضِده.
وأهلُ اللغة لا يَفصلون بين الِإلجاءِ والإِكراه، والقَهرِ والإِجبارِ، والاضطهادِ والحمل، كُل ذلك عندهم بمعنىً واحدٍ؛ وهو البعثُ على اكتساب ما يُكره وقوعُه، ولو تُركَ وسَوْمَ دَواعيه لما فَعله، بل كانَ معه في النفَسِ زاجرٌ يزجُرُه عنه، فلا وجه للافتِئات على أهلِ اللسانِ في الأسماء الموضوعةِ، وهم الأصل فيها.
فأما المعنى؛ فما يُنكِرُ أحدٌ أن يكون فيما يُخَوّف به المكرَه، وهو خَوف على النفس، وعلى ما دونها من مالٍ أو عِرضٍ أو طَرفٍ أو وَلد.
ومنه ما يكون مَعه داعٍ واحدٌ، ومنه ما يكون مَعه دواعي مختلفةٌ ومُتفاوتةٌ ومُتَرجِّحةٌ، فلاطائل في خِلاف ما هذا حكمه (1).

فصل

وحَدُ الِإكراه على التقريب: هو البَعث على اكتِساب ما لو لم يُبعَث
__________
(1) ورد في هامش الأصل ما نصه: "آخر الثالث من الأصل".

(1/81)


عليه لم يَكتسبه.
وقيل: ما أباحَ الشرعُ إيقاعَ الفعل عنده، من كل ضَرر يَخاف به الِإنسانُ على النفسِ وما دونَها مما لا يُحتمل مثلُه في اطِّراد العادة، وذلك مَوقوف على ما يَرد به السمعُ، أو يَحصلُ بالاجتهادِ إن لم يَرِد به سَمع، وقد كان يجوزُ ورودُ التعبُّد بالامتناع من إيقاعه، وإن استَضرَّ في نفسِهِ وما دونَ نفسِهِ، وإنما لطف الشرع بتَجويز دفعِ الضررِ عن النفسِ وما دونَها باكتِسابِ ما أُلجىء إلى الإِتيان به.
وامتنعَت المُعتَزلة من تَجويزِ سِوى ما يَصح أن يُباح وُيطلق من القَبائح ابتداءً من غَير إكراه. فأما الِإكراه فلا يُبيحُ ما يَقبُحُ (1) الابتداءُ به، ولاَ يُبيح إلا ما لا يَقبح الابتداءُ به، بناءً منهم على القَول بتحسينِ العقلِ وتَقبيحه، وهذا لا يَصحُّ، لأن الأمَّة أجمعت على قُبحِ كُفران النِّعمة، والكُفرِ بالمُنعِم، وقد أجمعت على أنَّ اللهَ مُنعمٌ، وأجمعوا على إباحةِ الشرعِ لكلمةِ الشِّرك والكفرِ باللهِ لأجلِ الإِكراه، سِيما في حقِّ مَن لا يَتهدَّى إلى المَعاريضِ (2) ولا يُحسنُها، فإنه يصرِّح بالكفرِ والشركِ من حيثُ الإِطلاقِ والِإباحةِ لأجلِ دَفعِ ضَررِ الإِكراهِ عنه.
__________
(1) في الأصل: "يبيح".
(2) المعاريض: كلام يشبه بعضه بعضاً في المعاني، كالرجل تسأله: هل رأيت فلاناً؟ فيكره أن يكذب وقد رآه فيقول: إن فلاناً ليُرى. وهي التورية بالشيء عن الشيء. "اللسان": (عرض).

(1/82)


فصل
واختلف الناس في صِحَّةِ (1) الِإكراهِ على الزنى في حَق الرجلِ (2)، فقال قوم: لا يَصح. واعتلّوا بأنه لا يفعل إلا مع الشهوة والِإنعاظ، وقُوة الدواعي، وانشراحِ الصدرِ، وانتشارِ النَّفسِ. والإِكراه ثَمرهُ التخوفُ على النفسِ، وذلك يحصر النفسَ، ويَجمع الأعضاء عن الانبساط، وُيخمد نيران الشهوة عن التَّوثب.
وقال قوم: يَصح. واعتلّوا بأن الإِنسان يجد من نفسِهِ صحةَ التركِ لفعلِ ما يَشتهيه، وإقدامِه على ما يَكره، مع فَرَطِ الشهوة لما يَتركه، وفَرط الكراهةِ لما يُقدمُ على فعله، فإذا ثبت هذا جاز أن يَحملَ نفسَه على ما يَكره، وما لولا الإِكراه لتركه، كما يتكلَف شُربَ الدواءِ المر، وقَطعِ يده المُتأكَلة، وقَد كلف اللهُ إبراهيمَ ذبحَ ولدِه -وإن كانَ التكليفُ أقلَّ حالًا من الِإكراهِ- وقتلُ الولدِ لا يُساعدُه طبع، والزنى يُساعده الطبعُ.

فصل
ولا خلاف بين الناسِ فىِ صحةِ إكراهِ المرأةِ على إيقاعِ الفعلِ فيها بالوَطءِ (3)؛ لأنها محل لإِيقاع الفعل، والذي يصح الإِكراهُ عليه إنما هو أفعالُ الجوارحِ الظاهرةِ المَشاهَدَةِ التي يتسلطُ عليها التصريفُ
__________
(1) في الأصل: "حجة".
(2) انظر تفصيل ذلك في "المغني" 12/ 348.
(3) "المغني" 12/ 347 - 348.

(1/83)


في المُراداتِ مِن الافعال، فتقع أفعالُها بحسْبِ الِإلجاء إلى احدِ الدواعي.
فأما الِإكراه على ما غابَ وبَطَن من القلوب، فلا، فعلى هذا لا يَصحُّ أن يُكره الإِنسانُ على اعتِقادِ مذهبٍ، أو علمٍ بمعلومٍ لم يَعلمْه، أو بظنٍ مما لم يتحصل له طريقهُ، أوَ عزمٍ على ما لا يعرف، أو الجهل، قال سبحانه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106]، يعني: من اعتقد الكفر، وإنما لم يُعف عن أعمالِ القلوب ها هنا، لأن الإِكراه لم يتسلَّط عليها، ويَلحق بهذا أنَّ العلمَ والجهلَ والظنَ وغيرَ ذلك من أعمالِ القلوب كالمحبة والبُغضِ والألفةِ والإِعجاب والخَوْفِ والحَزَنِ والمسَرَّة والغَم لاَ يَتحصلُ بالاستمالةِ كما لم يتحصَلْ بالإِكراهِ، فالإِنسانُ لا يجهلُ ما عَلِمه، ولا يَعلم ما يجهلهُ بالرِّشوة والاستمالة، لكن يَتَبع في القَول، وُيقلد بالنًّطقِ من يَستميله، والقلب بحاله لا يُغيره إلّا المَعاني التي يَصلُ عملُها إليه، كالأدلةِ والبراهينِ أو الشَّبَه وما شاكل ذلك.

فصل
وعندي أن كُلَّ فعلٍ من أفعالِ القُلوب صَحَّ دخولُه تحت التكليف، صح الإِكراهُ عَليه، كالعلوم الاستدلالية يَصح التكليفُ لتَحصُّلها بطريقها، وهو النظر والعزم (1) واَلنَّدم، هذا كلّه داخلٌ (2) تحت التكليف، فيصحُ الِإكراهُ على تَحصيلِهِ بطريقِه.
__________
(1) في الأصل: "العزوم".
(2) في الأصل: "دخل".

(1/84)


فصل

في أحكامِ الأفعالِ الداخلةِ تحتَ التكليفِ، وما ليس بداخلٍ تحته.
اعلم أنَّ احكامَ جميعِ الافعالِ لا تخرجُ عن حُكمين: عقلي وشَرعي، لا ثالثَ لهما، فأما الأحكامُ العقليةُ الثابتة لها، فهي التي يكون عليها في ذواتِها من الأحكام والصفاتِ، إما لأنْفُسِها وما هي عليه في أجناسِها التي خَلَقَها الأالله عزَ وجل عليها، أو بمعانٍ تتعلقُ بها ضَرباً من التعليق:
فالأول: نحو؛ الفِعلُ، حركة وسكوناً، وإرادةً وعِلماً، ونَظراً، وأمثال ذلك.
والثاني: نحو؛ كونُ الفعلِ مَقدوراً ومعلوماً، ومُدرَكاً ومُراداً ومذكوراً وأمثالُ ذلك مما يُوصفُ به، لتعلقِ العلمِ والإِرادةِ والقدرةِ والذكر بها.
وكذلك وصفُها بأنها أعراضٌ، وحوادثُ، وموجودةٌ، وعينٌ ثابتةٌ، ونحوُ هذا، إنما هي أحكامٌ عقليةٌ، فلا يجوز أن يثبتَ لها حكمٌ عقلي لمعانٍ تُوجد بها، وتختصُّ بذواتِها، لكونها أعراضاً يَستحيلُ حملُها لأمثالِها من الأعراضِ، وذلك نحو استحالةِ وصفِها بأنَها مُتحركةٌ وساكنةٌ وحَية وعالمةٌ مريدةٌ، وأمثال ذلك.
وعلى هذه الأحكام التي قدمنا ذكرَها أحكام عقليةٌ غيرُ شرعيةٍ، ومعنى إضافتِها إلى العَقَلِ: أنَّها مما يُعلمُ كونُ الفعلِ عليها بقَضيةِ العقل المنفردِ عن السمع، وقَبل مَجيء السمع.
فكل حُكمٍ لفعلٍ عُلم من هذا الطريقِ مما ذكرناه وأضربنا عن

(1/85)


ذكرِهِ، فإنه حُكمٌ عقلى ليس بشرعي، ولا نعني بذلك أنه لا يصحُ أن يَرِدَ السمعُ بالإِخبار عن كونِها كذلك، وتأكيد أدلةِ العقلِ على أحكامِها، وإنما نَعني أنها مما يُعلم عقلاً وإن لم يَرد السمعُ، وقد دخل في هذه الجملةِ سائرُ أفعالِ العِبادِ المتكلَف منها (1) وغيرِ المتكلَف، وأفعالُ سائرِ الحيوان كلُها، لأنها لا تَنفك كلُها من الأحكامِ التي ذكرناها.

فصل
والضرب الثاني من أحكامها: أحكامٌ شَرعية وهي التي تختصُ بها أفعال المتكلّفين من العِباد دون غيرها، وذلك نحو كون الكسب حَسناً وقبيحاً، ومُباحاً ومحظوراً، وطاعة وعصياناً، وواجباً وندباً، وعبادةً لله سبحانه وقربةً، حلالاً وحراماً، ومكروهاً ومستحباً، وأداءً وقضاءً، ومجزئاً، وصحيحاً وفاسداً، وعقداً صحيحاً أو باطلًا أو فاسداً، فكلّ هذه الأحكامِ الثابتةِ للأفعالِ الشرعيةِ شَرعيةٌ لا سبيل إلى إثباتِ شيءٍ منها والعلم به من ناحية قَضية العقل (2)، وهذا هو معنى إضافتها إلى الشرعِ، لا مَعنى له سوى ذلك، غير أنه لا يمكن أن يَعرفَ أحكامَها هذه الشرعية إلا بتأملِ العقلِ، ويَستدل بعقلهِ على صحةِ السمعِ، وصدقِ موردِهِ، وتَلَقّي التوقيفِ على هذه الأحكام من جهتِهِ أو مِن جهةِ مَنْ خَبَّر عنه، ولولا وُرودُ السَّمع بها، لما عُلم بَالعَقلِ شيءٌ منها لما نُبينه وندل عليه فيما بعد إن شاء الله.
__________
(1) في الأصل: "منهم".
(2) انظر ما تقدم في الصفحة (65) و (66).

(1/86)


فإن قيل: إذا صحَّ عندكم وُرودُ السمعِ بالِإخبارِ عن هذه الأحكامِ العقليةِ، وكونهُ طريقاً إلى العلمِ بها، أو إلى تأكيدِ العلم بها كما يصحُّ أن تُعلم عقلاً، فلمَ قلتم: هي عَقلية. دون أن تقولوا: هيَ أحكامٌ شرعية. أوتقولوا: هي عَقلية شَرعية لحصولِ العلمِ بها من الطريقين؟
قيل له: أما مَن قال: لا تُعلم أحكامُها هذه بالسمع، وإنما يجب أن تُعلمَ عقلاً، وإنما يردُ السمعُ بتأكيدِ أدلةِ العقلِ. فقد سقطَ عنه هذا الِإلزامُ؛ لأنه يجعلُ معنى هذه الِإضافةِ إلى ما يُعلمُ الحكمُ به، وإن لم يكن سُمع.
وإذا لم نقل نحن ذلك، قلنا: إنما وَجه إضافتِها إلى العقلِ دون السمع أمران:
أحدُهما: أنها أحكامٌ معلومةٌ بالعقلِ قبل ورودِ السمعِ، ولو لم يَرد السمعُ أصلًا، فكان إضافتُها لذلك إلى العقلِ أولى.
والوجهُ الآخرُ: أنها تُعلمُ بالعقلِ لو لم يَردِ السمعُ، ولا يصحُّ أنْ تُعلمَ بالسمعِ لو لم تَثبت بالعقل، فصارت إضافتُها لأجل ذلك إلى العقلَ أولى.
فأمّا قولُ المطالِب: فهَلا قُلتم: إنها عَقليةٌ شَرعيةٌ. فإنْ أراد به أنها (21)، لا تُعلم إلَّا بأمرين: العَقل والسمع، أو بكل واحدٍ منهما وإن لم يحصل الاَخر، فذلك باطلٌ، لأنها تُعلم وإن لم يَقترنا، وتُعلم بمجرد العقل لو فُقد السمع، ولا يصحِ أن تُعلم بالسمع لو فُرض عدم العقل.
وإن أراد بذلك أنها تُعلم عقلَا، ويَصح أن تعلم سَمعاً أو يؤكد السمعُ الأدلةَ العقليةَ عليها، كانَ ذلك صحيحاً، ولا مُعتبرَ با العباراتِ

(1/87)


والِإطلاقات.

فصل
واعلم أن جَميعَ أفعالِ المكلًفِ الداخلةِ تحتَ التكليف- دون ما يقع منه حالَ الغَلبة وزوالِ التكليف- ينقسم قسمين لا ثالث لهما، ولا واسطة بينهما:
أحدهما: ما للمكلّفِ فعله.
والآخر: ما ليسَ للمكلًفِ فعله.
ولا يجوز أن يقال: إنَ منها ما لا يقال له فعله، ولا ليس له فعله، وذلك معلومٌ بضرورةِ العقلِ، كما يُعلم بأدلتِهِ (1)؛ أن المعلومَ لا يخرجُ عن عدمٍ أو وُجودٍ، وأن الموجودَ لا يخرج عن قِدمٍ أو حُدوث.
والذي له فعله منها حَسنٌ كله، وهو يَنقسم إلى: مُباحٍ وندبٍ وواجبٍ، وسنذكر حدودَ ذلك وحدودَ غيره مما يحتاج إليه في هذا الكتابَ- إن شاءالله- في فصل مفردٍ جامعٍ لكل ما يحتاج إليه من الحُدود (2).
والذي ليس له فعلُهُ: هو القَبيح المحرمُ الِإقدامُ عليه.
وكل مُكلَف له فِعلُ شيءٍ مما ذكرنا، فلايجوزأن يكون له بحق
__________
(1) في الأصل: "بأول فيه".
(2) أنظر الفصل التالي.

(1/88)


الملكِ والاختراعِ وإنشاءِ الأعيانِ، كالذي لله سبحانه من التصرفِ فيها بحق الربوييةِ، واستحقاقِ العِبادة، وإنما يكون للمكلَف الفعلُ على وجهِ ما حده له مالكُ الأعيان، وَأذِن له فيه. ومتى قيل: إن للمكلف وغيرهِ من الخَلق شيئاً من الذوات نحو الأمةِ والعَبد والدارِ والثوب، فإنما معنى ذلك أنه له التصرف فيه، والانتِفاع به بقدَر ما أذِنَ له المالك للأعيان عزَ وجل، وما عدا ذلك ظُلم وعُدوان ومحظورٌ عليه.

(1/89)