الواضح في أصول الفقه

فصل
يجوزُ إثباتُ الإجماع بخبرِ الواحدِ، قال أبو سفيانَ مِن أصحابِ أبي حنيفةَ: قالَ بعضُ شيوخِنا: لا يجوزُ إثباتُ الإجماع بخبرِ الواحدِ، فهذا على ما يقع لي خلاف في عبارة وتحتها اتفاق، (1فَلا ضَيْرَ1)، في الاختلاف (1في العبارة؛ لأنه لا يقود إلى الاختلاف في عين المقصود، فان خبر الواحد لا يُعطي علماً ولكن يفيد ظناً 1) ونحن إذا قُلْنا: إِنَّ خبرَ الواحدِ يَثبُتُ به الإجماعُ، فلسْنا قاطِعينَ بالاجماع ولا بحصولِهِ بخبرِ الواحدِ، غير أَنا ظانِّينَ له، وإنَّما القطعُ للحُكمِ الذي يثبتُ أَنَّ الإجماعَ انعقدَ عليهِ.
والذي حكاهُ لهم أبو سفيانَ مِنَ الشُّبهةِ: أنَّ الإجماعَ دليلٌ قطعيٌّ، وخبر الواحدِ دلالة ظنية، فلا يجوزُ أنْ يثبت بخبر الواحدِ دليل قطعيّ.
__________
(1 - 1) طمس في الأصل، واستُدرك من "المسودة": 345.

(5/232)


وهذا تَوهُّم منْهم أنّا نقولُ: إنَّ القطعَ يحصلُ لنا بخبر الواحدِ، وليسَ كذاكَ، بلْ نقولُ: إنَّ الإجماع بخبرِ الواحدِ حصلَ لنا ظَنَّا لا قطعاً، وما أجمعوا عليهِ مِنَ الحكمِ يوجب القطعَ إذا ثبتَ بطريقهِ القطعيِّ، أَلاَ ترى أَنَّ خبرَ الواحدِ يَثْبُت به قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سائرِ الأحكامِ، لكنْ لا نقولُ: إنَّ خبرَ الواحدِ معصوم، حيثُ كانَ مستندُهُ روايةً عَنْ معصومٍ، فخبرُ الواحدِ مظنون وأثبتْنا به قولَ المعصومِ، لكنْ ثبوتاً بحَسَبِهِ، وهوَ أَنا نظنُّ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَهُ وحَكَمَ به، فقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في نفسِهِ قول معصومٌ، وخبر مقطوع بصدقِهِ، والطريقُ إلى إثباتِهِ خبرُ واحدٍ مظنون صدقُهُ، غيرُ مقطوع به، وعلى هذا نحنُ نعلمُ أَنَّ الإجماع قطعيّ، ومستندُهُ اجتهادُ الأُمةِ، وذلكَ رأيٌ وهوَ القياسُ، والقياسُ في نفسِهِ مظنونٌ، ونَصوغُه قياساً، فنقولُ: إنَّ الإجماع دلالةٌ قطعيةٌ، أو قول معصوم، فجازَ أنْ يكونَ طريقُ إثباتِهِ خبرَ الواحدِ، كقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولأَنَّ التّاريخَ الذي يترتبُ عليهِ النسخُ في ترتبِ نص على نصِّ يثبت بخبرِ الواحدِ، رتَّبنا على التاريخ الثابتِ بخبرِ الواحدِ النسخَ الذي هو النًصُّ القاطعُ الرافعُ للحكمِ الأوَّلِ، وإن لم يثبتِ النسخُ بخبرِ الواحدِ، فإنا نُثبت الإجماع القاطع بخبرِ الواحدِ، وكذلكَ الإحصانُ يثبت بشهادةِ رجلين، وإن لم يَجُزْ إثباتُ الزِّنى بشهادَةِ رجلينِ.

فصل
إذا حَدَثَت حادثةٌ بحضرةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -[و] سكتَ عَنِ الحكمِ فيها، ولم يحكمْ فيها بشيء، قالَ أصحابُنا: يجوز أنْ نحكمَ في نظيرِها باجتهادِنا، وقالَ بعضُ المتكلمينَ: لا يجوزُ الحكمُ في نظيرِها بشيءٍ، بلْ نُمْسِكُ كما

(5/233)


أمسكَ - صلى الله عليه وسلم -
وهذا عندِي على وجهٍ: وهو أَنْ يكونَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - له في نظيرِها حكم يَصِحُّ استخراجُه من معنى نُطقِه، فأمَّا إذا لم يكن في قوَّةِ ألفاظِ السُّننِ، ولا في كتابِ الله سبحانَه، فلا وجهَ لرجوعِنا إلى طلبِ الحكم مع إمساكِه عنه.
نعم، ولا وجهَ لإمساكِه عن الحكمِ في وقتِ الحاجةِ، لأننا أجمعنا على وجوب (1) البيانِ في وقتِ الحاجة، فمتى لم يكن لله حكم في نِظْرِ (2) هذه الحادثةِ، استحالت المشقةُ.
فوجه قول أصحابنا: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد يمسكُ عن بعضِ الأحكامِ ويَكِلُها إلى اجتهادِنا مع إمكانِ التنصيصِ على الحكمِ، لكن يقصدُ بذلك ما قصدَه الله سبحانَه حيثُ لم ينصَّ على سائرِ الأحكامِ، بل تركَ لنا ما نُعمِلُ فيه أفكارَنا وبحوثَنا، ونجتهدُ ليحصلَ لنا ثوابُ الاجتهادِ، فكذلكَ إمساكُه عن حكمِ الحادثةِ.
يوضِّحُ هذا: أنَّهَ لايجوزُ أن تخلوَ حادثةٌ عن حكمِ الله سبحانَه، ولا يجوزُ أن يثبت الحكمُ إلا بدليل، فإذا عُدِمَ النصُّ لم يبقَ إلا الاجتهادُ.
وللمخالف أن يقولَ: إذا كان هذا دليلَكم، فقولوا بجوازِ اجتهادِكم
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "ركوب".
(2) النِّظر: لغة فِى النظير، كالنِّد والنديدِ.

(5/234)


في عَينِ الحادثةِ التي أمسك عنها، واجعلوا حُجَّتَكم هذه لتجويزِ الاجتهادِ، وإن أمسكوا وكل الاجتهادُ إليكم في عين الحادثة، ولما لم يُوجِب (1 ذلك جوازَ الاجتهاد في عين الحادثة1) التي حدثت بحَضْرته وأمسك عنها (1 فكذلك في نظيرتها، على أنه مستلزمٌ لتأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو غيرُ جائز1) عليه، ولايجوزُ أن يكونَ عَلِمَ وأمسكَ، لأنَّ هذا هو عين تركِ البيانِ والتبليغ الذي أمرَه الله به، وقال له: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ} [المائدة: 67] وقال {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وإن كانَ لعُزوبِ الحكمِ عليه، فما عَزَبَ على النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - الحكم فيه لا يُشَكُّ أنَّ الأصلحَ أو الإرادةَ بتَرْكِ بيانِه، إذ لو أرادَ الله سبحانَه بيانَه، لمَا طواه عن نبيِّهِ وأوقعه للأمَّةِ من غير طريقهِ وبيانِه.
ومعلومٌ أنَّ المجتهدَ لابدَّ له من أصلٍ يستمدُّ منه اجتهادَه، وذلكَ الأصلُ هو ما كانَ في كتابِ اللهِ أو سنَّةِ رسولهِ، فإن كان ذلكَ موجوداً، فلا يجوزُ للنبيَّ تركُه، ولايجوز عزوبُه عنه، وإن لم يكن له أصلٌ، فهو حكمٌ بالواقع والنهي، وذلكَ ليسَ بطريقٍ، فلا وجهَ للاجتهادِ في نِظْرِ ما سكتَ النبيَّ عن الحكمِ فيه.
فإن قال مَنْ نصرَ جوازَ إلاجتهادِ (2): قد يجوز أن يقعَ لبعضِ الأُمّةِ ما
__________
(1 - 1) مطموس في الأصل، واستُدرِك من "المسودة" 345.
(2) انظر "العدة" 4/ 1214.

(5/235)


لا يقعُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعد موتِه كما كانَ في حالِ حياتِه، فإنَّ عمرَ أصابَ الرَّأيَ يوم بدرٍ، ونزلَ القرآنُ بما قال (1)، ولم يكن ذلك من رأي النبيَّ وأبي بكر، وكذلكَ لمَّا سأل عمرُ عن الكلالةِ، قال له النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -:"تُغنِيك آيةُ الصَّيف" (2)، ووكَلَ ذلك إلى اجتهادِه.
فيقال: لسنا نمنعُ من ترك النصِّ والايماء إلى الظاهر، أو إحالةِ المجتهدِ على المنطوقِ في حكمِ المسكوتِ إذا كانَ في النّطقِ علةٌ تَصلُحُ لتعديةِ الحكم، وإنما منعنا أن يكون لله حكمٌ في حادثة، ثم إنه يَعزُب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويَتبيَّنُ لمن بعدَه (3 .................. 3).
__________
(1) تقدم ص 138.
(2) أخرجه أحمد (89)، وابن سعد 3/ 335، والحميدي (10) (29)، والبزار (315)، وابن حبان (2091)، بلفظ: "تكفيك آية الصيف" وهى الآية- الأخيرة من سورة النساء.
(3 - 3) طمس في الأصل. بمقدار ثلاثة أسطر.

(5/236)


فصول التقليد
وحدُّ التقليد: الرُّجوعُ الي قولِ الغيرِ بغيرِ حُجَّةٍ، مأخوذٌ من تقليده بالقلادةِ وجعلِها في عُنقِه، وهو طريقُ العاميِّ مع المجتهدينَ من العلماءِ في مسائلِ الفروع التي يسوغُ الاجتهادُ فيها.

فصل
فأمّا مسائلُ الأُصولِ المتعلِّقة بالاعتقادِ في الله، فيما يجوزُ عليه وما لايجوزُ، وما يجبُ له، وما يستحيلُ عليه، وما يجب نفيه عنه، فهذا لايجوزُ التَّقليدُ فيه.
وحكيَ عن عُبيدِ الله (1) بن الحسن العنبري أنه يجوز ذلك.
وسمعتُ الشَّيخَ أبا القاسم بن التبَّان يقول: إذا عَرَف الله، وصدَّق رسله، وسكن قلبُه إلى ذلكَ واطمأنَّ به، فلا علينا من الطريقِ، تقليداً كان أو نظراً أو استدلالاً، حتى إنَّ الطريقَ الفاسد إذا أدَّاه إلى معرفةِ الله كفى، فلو قالَ: أنا أعرفُ الله سبحانَه من طريقِ أنِّي دعوتُ الله يوماً في غرضٍ لي فكان ذلكَ الغرضُ، وما دعوتُ سواه، فدلني ذلك على إثباتِه، وكذلك
__________
(1) في الأصل: "عبد الله"، وهو عبيد الله بن الحسن بن حصين بن أبي الحرِّ مالك بن الخشخاش، العنبري.
ولد سنة مئة، ويقال سنة: ست ومئة، قال ابن سعد: ولي قضاء البصرة، وكان ثقة، محموداً، عاقلاً من الرجال. مات سنة ثمانٍ وستين ومئة. "تهذيب التهذيب" 3/ 7.

(5/237)


لو قال: قد سَكَنَت نفسي إلى جميع ما جاءت به الأنبياءُ- صلوات الله عليهم- من الوعدِ بالبعثِ وغيرِه، فقيل له: بماذا سكنت نفسُكَ إلى تصديقهم؟ فقال: لأن واحداً منهم مع ما ظهر على أيديهم من الأفعالِ الإلهية، لم يدَّع الإلهيةَ كعيسى أو موسى، وقد ادَّعاها من لم يَبلُغْ مَبلَغَهم، كفِرعونَ بمجرَّدِ القدرةِ على المالِ قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 51]؛ فإنّ إيمانَه مقبولٌ، ودليلَه على ذلك مدخولٌ.

فصِل
في أدلتنا
فمنها: أنَّ الله سبحانَه ذمَّ التقليدَ في كتابه بمثل قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22 - 23] ....... (1).
(2 ومنها: أن في تقليد المقلّد 2) رجوع إلى خبرِه، وخبرُه يتردَّدُ بين الصِّدقِ والكذبِ، فلا يجوز تركُ دلالةٍ قاطعةٍ لقولٍ يتردَّدُ بين شك وظن.

فصل
في شبههم
فمنها: أنّه لما كانَ التقليدُ طريقا لمسائِل الفروع، كذلكَ جازَ أن
__________
(1) طمس في الأصل: وانظر "التبصرة" 401.
(2 - 2) مكانه طمس في الأصل.

(5/238)


يكونَ طريقاً لمسائِل الأصولِ؛ من حيثُ إنَّ كلَّ واحدٍ منهما يتعلق بالتكليف من جهةِ اللهِ سبحانه، وكما كلَّفَنا اعتقادَ الأحكامِ فقَلَّدْنا، كذلكَ إذا كلَّفَنا اعتقادَ الأصولِ قفدنا العلماءَ بها.
ومنها: أنَّ الغرضَ سكونُ القلبِ إلى المعتَقَد، فلا علينا من الطريقِ، وهذه شبهة الشَّيخ أبي القاسمِ بن التبَّان.
ومنها: أنَّ أدلةَ الأصولِ بها من الغموضِ ما لا يكادُ يقفُ عليه العوامُّ وأكثرُ العقلاءِ، فإذا جازَ التقليدُ في الفروع مع (1) سهولةِ أدلتها، فلأَن يجوز التقليدُ فِى الأصولِ مع (2 الغموض والخَفاءِ2) المستمرِّ، أَوْلى.

فصل
فى الأجوبة عنها
أمَّا الفروع، فإنَّ طرقَها الكتابُ والسنّهُ والإجماعُ والاستنباطُ، وذلكَ بحرٌ عظيم لو كُلِّفَ العوامّ سلوكَه لانقطعوا عن أشغالِ الدنيا، فجعلْنا ذلكَ إلى أهلِ الاجتهادِ [وهم] آحاد بَذَلوا نفوسَهم لذلك، وأسقطناه عن العوام، لما ذكرنا من المشقةِ الفادحةِ.
فأمّا الأصولُ، فإنَّ أداتَها العمَولُ، والناس مشتركونَ فيها، فلا يشقُّ عليهم النظر والاستدلال على ما تؤدي إليه من المعتقداتِ، فصار العامة
__________
(1) في الأصل: "تبع".
(2 - 2) في الأصل: "العرض ولحوق".

(5/239)


و (1 الخاصة متساوين في طريق الوصول إليها، وهو النظر، وإنما أوجبه الله تعالى على المكلف ليُثابَ عليه 1)، ولو كان المقصودُ المجرفةَ بغير طريقِ النّظرِ لخصَّ الله بها أنبياءَه- صلواتُ الله عليهم-الهاماً، لكنّه ينزِّهُهم عن تفويت مراتب النظرِ والاستدلالِ، وإعمال جواهرِهم في اعتقاداتهم، ألم تسمعْه يقولُ: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 75 - 76] فدرَّجَ الرسلَ في مقاماتِ النَّظرِ ليحصلَ ثوابُه بذلك، ولو كانَ بالإلهام لسقطَ ثوابُ النًظرِ والاجتهادِ في تحصيلِ الاعتقادِ، فبطل دعواه أن الغرضَ المعرفةُ فقط، بل الطرَّيقُ أكبرُ التعبدين، إذ هو رأسُ العملِ في تحصيلِ العلمِ.
قالوا: فقد بيَّنَ الله سبحانه أنه خص بعضَ أنبيائه بالاعتقادِ به من غيرِ نظرٍ ولا استدلالٍ، وما ذلكَ مسقطاً حكمَ اعتقادِه لإعدام طريقِ الاعتقادِ من الاجتهادِ، فقال في حقِّ عيسى: {آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)} [مريم: 30] وقال في حقِّ يحيى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)} [مريم: 12]، فبطلَ اعتبارُ النْظرِ واشتراطُه، وبانَ أنَّه بالالهامِ كافٍ، فكذلكَ سكونُ النفسِ إلى المعتَقدِ بطريقِ التقليد كافٍ.
فيقالُ: الجوابُ عنه من وجوهٍ:
أحدها: أنَّ ذلكَ مُنطَقٌ ومُجرىً على لسانِه الكلامُ، لا أنَّه صدرَ عن
__________
(1 - 1) غير واضح في الأصل، وإنظر "قواطع الأدلة" للسمعاني 5/ 112 - 115.

(5/240)


فهمٍ وقصدٍ، بل على طريقِ الإعجازِ أو الكرامةِ لأمِّهِ لتبرئتها مما رُمِيَت به من الزِّنى، كمن نطق من الأطفالِ المرويِّ نطقُهم في بني إسرائيل كجُرَيج لما اتُّهم بالزنى فنطقَ الحملُ بأنَّه ابنُ راعي غنم (1)، ولما اتهم موسى الكليم بالزِّنى (2)، فنطق الحملُ. بما نطق، وإلى أمثال ذلك، على أنه .......
(3 الثاني: أن قوله: {آتاني الكتاب} إخبارٌ عن مستقبل حاله، كقول القائل ليوسف عليه السلام: {إني أراني أعصر خمراً} 3) [يوسف: 36]، يعني: عصيراً يؤول إلى الخمر، وتقولُ العربُ في الولودِ: يهنيك الفارس، يوضّح هذا قوله: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 31]، ومعلومٌ أنه لم يكلَّف في تلك الحال صلاةً، فلم يبقَ إلا أنه أخبرَ عن مستقبَلِ حالِه.
وجوابٌ ثالث: لو كانَ ذلكَ في حقِّ عيسى، لكانَ مخصوصاً به وإطْلاعاً له في تلكَ الحالِ ذلك القدرَ، فيكونُ كما أُطلِعَ نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ المعراج، فخرجَ بذلكَ عن حيِّزِ التكليفِ للإيمان به بطريقِ الاستدلالِ، إذ ثبتَ أنه يقظةً لامناماً، وهو الصَّحيحُ عندَنا، ولا يبقى تكليفُه بأن يؤمنَ بأنَّ في السَّماءِ ملائكةً مسبِّحين، ولا أنَّ للهِ جنَّةً وناراً مخلوقتين؛ لأنَّ عِيانَه - صلى الله عليه وسلم - أبطلَ حكمَ التكليفِ له في ذلك، وصارَ في حقه بعد تلكَ الليلةِ كالسَّماءِ ونجومِها، والأرضِ وجبالِها، لا يدخلُ إثباتُها تحتَ تكليفِه،
__________
(1) أخرجه البخاري (1206) (2482) (3436) (3466)، ومسلم (2550) (7) و (8).
(2) انظر "الدر المنثور" 5/ 136 للسيوطي.
(3 - 3) طمس في الأصل.

(5/241)


كذلكَ تلكَ اللحظة التي تكلمَ فيها عيسى، إنْ كانت عن شيءٍ وَقَرَ في صدرِه من اعتقادٍ قبلَ أوانِ الاعتقادِ، كما نطقَ لسانُه قبل أوانِ النّطقِ، كانَ بذلك مخصوصاً، وذلك لايُسقطُ طرقَ المعارفِ في حقِّ بقيَّةِ المكلفين.
قالوا: أليسَ الله سبحانَه لما استخرجَ ذريَّةَ آدمَ من ظهرِه وأشهدَهم على أنفسِهم وأخذَ عليهم الميثاقَ، كانَ بغيرِ نظرٍ ولا استدلالٍ، لكن بمجردِ الاستنطاقِ والإلهامِ، وجعلَه حجَّةً حيث قال: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]؟
فيقال: إنَّ الإخراج هو بالتناسل، والإشهادَ بعد تكاملِ العقل للنظرِ والاستدلال ......... (1 كما خلقَ لنا الحيوان لنَنْتفعَ 1) بِلبنهِ وسِخالِه ولحمانِه، فهو بينَ مركوب ومحلوب، وحابسٍ وحارس، ومترنِّم ومترسِّل، كلُّ ذلكَ دليلٌ على صانعِه وخالقِه، وآيات (2) من القرآن تدلُّ على أنه إنما أرادَ بالإشهاد ما أشرنا إليه، من ذلك قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25 - 26] {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِ جَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)} [النبأ: 12 - 16]، {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات: 20 - 21]، {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ
__________
(1 - 1) في الأصل طمس، وانظر "العدة" 4/ 1223 و 1224.
(2) تحرفت في الأصل إلى: "ونفات".

(5/242)


وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37] {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10 - 11]، {أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9]، {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 19]، {سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [إبراهيم: 32]، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [النحل: 14]، {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} [الرعد: 4] الى قوله: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]، {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الجاثية: 12] {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 20 - 21] {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10].
فهذا وأمثالُه هو الإشهادُ للعقلاءِ البالغينَ، بدليلِ قولِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: "رُفِعَ القلمُ عن ثلاث" (1) وذكر الصبَّي والمجنون.
وأجمعت الأمَّةُ على أنَّ الخطابَ لايتوجَّهُ إلاَّ إلى العاقلِ الكاملِ، وأجمعَ أهلُ السُّنةِ أن بَعْدَ العقل والبلوغ لا يكون خِطابٌ ولا تكليف إلا بالرسالة، (2 ......... 2) القرآن بعضه بعضاً.

فصل
إذا استفتى العاميُّ عالماً في حكمِ حادثةٍ فأفتاه، ثمَّ حدثَ مثلُها،
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 118.
(2 - 2) طمس في الأصل.

(5/243)


وجبَ عليه أن يحدثَ لها اجتهاداً ثانياً، ولا يفتي. مما أفتى أوَّلاً، فيكونُ مقلِّداً لنفسه، كما إذا اجتهدَ في القِبلةِ فأدَّاه اجتهادُه إلى حهةٍ ثم حضرت صلاةٌ اخرى، فإنه يُحدِثُ لها اجتهاداً ثانياً إذا كانت القبلةُ على الخفاءِ، ولايستقبلُ الجهةَ الأولى لأنَّ الاجتهادَ قد يتغيرُ، فلا يُؤمَن أن يكونَ الحقُّ فيما يتجدَّدُ من الحكمِ باجتهادِه الثاني، وفارَق أدلةَ السَّمع، فإنّها لا تتغيَّرُ إلاّ بنسخٍ ورفعٍ، وذلكَ قد امتنع.

فصل
ولا يجوزُ للعالمِ تقليدُ عالمٍ، سواءٌ كان مثلَه أو أفضلَ منه، وسواءٌ كانَ الوقتُ يضيقُ عن الاجتهادِ أو يتسعُ، حاكماَّ كَان أو لم يكن حاكماً، هذا ظاهرُ كلامِ أحمدَ (1)، وبهذا قال إسحاقُ والشافعي (2).
وقالَ أبو حنيفةَ ومحمدُ بنُ الحسنِ: يجوزُ له تقليدُ العالم (3).
وحكيَ عن محمد اُنه قيَّدَ ذلك بأن يكون أعلمَ منه، ولايجوز تقليدُ مثله.
وذهب ابنُ سُرَيج إلى جوازِ ذلك في ضيقِ الزَّمان.

فصل
في أَدلتَّنا
فمنها: قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}
__________
(1) انظر "العدة" 4/ 1229.
(2) انظر "التبصرة" 403.
(3) انظر "الفصول" 3/ 362.

(5/244)


[النساء: 59]، والمرادُ به كتابُ اللهِ وسنَّةُ رسولِه، والتقليا للعالمِ ليس واحداً منهما.
وقولُه تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ولا علمَ للمقلِّد فيما أفتى به العالمُ.
ومنها: "اجتهدوا فكلّ مُيسَّر لما خُلِقَ له" (1) ولم يفصِّل بين الأعلم وغيره، والعالم وغيره، وعند ضيق الوقت وسَعَتِه.
ومنها: أنَّ معه (2 آلةً يتوصَّل بها إلى الطلوب، فوجب أن لايجوز له التقليدُ فيه 2).
(3 ....... 3) بالتقليد يُفضي إلى إبطالِه، لأنَّه إذا جازَ التَّقليدُ للغيرِ في حكمٍ من الأحكامِ، جازَ تقليدُ من يفتي بضدِّ ذلك الحكمِ، وذلكَ يبطلُ ذلكَ الحكمَ.

فصل
في الأسئلة
فمنها: أنَّهم قالوا: إنَّ تقليدَ العالم حكمٌ من أحكامِ اللهِ بطريقِ
__________
(1) أخرجه البخاري (6596)، ومسلم (2649)، وابن حبان (333) من حديث عمران بن الحصين.
(2 - 2) مكانه طمس في الأصل، واستدركناه من "العدة" 4/ 1231.
(3 - 3) طمس في الأصل. بمقدار سطر.

(5/245)


الاجتهادِ منه، ولهذا كان ردّ العاميِّ إليه وتقليدُه له لايمنعُ من كونِه تابعاً للآية.
ومنها: أنَّ قوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، هذا قد قَفَا ما له به علمٌ، وهو ما أدَّاه إليهِ الاجتهادُ.
ومنها قولُهم: لايمتنُع أن يكونَ معه آلةٌ يتوصَّل بها إلى المطلوبِ، ثمَّ يجوزُ تركُه إلى غيرِه، ألا ترى أنَّ من يمكنُه أن يسمَع الحكمَ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، يجوز له تركُ السَّماع منه والعدولُ إلى سماع خبرِ المخبِرِ عنه.

فصل
في الأجوبةِ عن الأسئلة
فأمّا قولُهم: إنه على حكمِ اللهِ بتقليدِ العالم، فليس بصحيح، لأنه إذا تركَ ما يقتضيه ظاهرُ الكتابِ أو ظاهرُ السُّنةِ وقلدَ غيرَه، فقد تركَ حكمَ الله ولم يعمل به.
وأما قوله: التقليد للعالم قَفْو للعِلم، فليس بصحيح، لأنَّ العالمَ المقلد لا يعلمُ صحَّةَ ما أفتى به مَن قلده.
وأمّا قولُهم: يجوزُ أن يتركَ ما يتوصَّل له ويعدلَ إلى غيرِه (1)، كما جازَ الأخذُ باجتهادٍ والنبىُّ حيٌّ، وقبولُ خبرِ غيرِه عنه مع القدرة على خبرٍ منه ناطق، فأمَّا ما ذكروه من أنه تركُ قولِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فليسَ ذلكَ تركاً له إلى
__________
(1) في الأصل: "غيرها".

(5/246)


غيره، انما هو تركُ الطريق إلى طريق غيره، كأن يلوحَ له دليل في المسألةِ يقتضي حكماً، فيتركه (أويسلك طريق دليلٍ آخر يقتضي ذلك الحكم 1).
(2 ............... 2) كالعقلياتِ، ولايُلزمُ عليه العامِّي حيث لم يقلِّد مثلَه، ويقلدُ العالمَ؛ لأنَّ العامِّي لا يساوي العالِمَ، ولمَّا ساواهُ في العقلِ الذي هو أداةُ النظرِ والاستدلالِ في الأُصولِ لا جرمَ لم يقلدْه.
فإن قيل: الفروعُ طريقُها الظنُّ، والأعلمُ يغلبُ على الظنِّ إصابتُه للحقِّ، فجازَ لمن هو دونَه تقليدُه، ويصيرُ مَن دونه كالعاميِّ بالإضافةِ إلى العالمِ.
قيل: العالِمُ وإن كان دونَ طبقةِ الأعلمِ، لكنه على يَقِينٍ من نظرِه واجتهادِه، وعلمٍ وإحاطةٍ من ظنِّه، وعلى حُسنٍ من غيرِه الأعلم وظنه لا على إحاطةٍ ولا يقينٍ، ولاخلافَ بيننا أنَّه يجوزُ تركُ اجتهادِ غيره، والتعويلُ على اجتهادِ نفسِه، وإن كان الغيرُ أعلمَ، وإذا جازَ له تركُ اجتهادِ الأعلمِ لاجتهادِ نفسه، وجازَ للعاميِّ اجتهادُه وتركُ اجتهادِ الأعلم، علمنا أنَّ تقليدَه لا يجوز.

فصل
في شبهاتِ من لم يفصّل بل أطلق الجواز
فمنها: قوله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
__________
(1 - 1) طمس في الأصل، واستدرك من "التبصرة": 405.
(2 - 2) طمس في الأصل.

(5/247)


[النحل: 43]، وهذا قبلَ أن يجتَهد لايعلم حكمَ الحادثةِ، فجازَ أن يسألَ بظاهرِ الآيةِ.
ومنها: قوله تعالى؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 9] ولم يفصل بينَ العالِمِ وغيرِه.
ومنها: أنَّ الصَّحابة رجعت إلى تقليدِ بعضِهم لبعض، وإن كانوا كلُّهم علماءَ، وقال عبد الرحمن، لما بايعَ علياً وعثمان، بدأ فعرض على [علىِّ] (1) سيرةَ الشَّيخين، وعرضَ على عثمانَ ذلك وبايعه عليه، وعثمان دخل على ذلك، وذلك بمحضر من جِلةِ الصَّحابةِ فصار كالإجماع.
وروي عن عمرَ أنَّه قال: إنِّي رأيت في الجدِّ رأياً فاتبعوني (2)، فهذه دعوةٌ منه إلى التقليد، إذ لو لم يكن جائزاً لما دعا إليه.
وروي: [أنَّ أمرأة ذكِرت عند عمر بالفاحشة، فوجَّهْ إليها فأَجهَضت ذا بطنها من الفزع، فاستشار الصَّحابة، فقال عثمان وعبد الرحمن: إنك مؤدِّبٌ، ولا شيء عليك، وعليٌّ ساكت، فقال له عمر: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأ، وإن لم يجتهدا فقد غشَّاك، عليك الدية، فقال عمر: عَزَمتُ عليك لتقسمنَّها على قومك] (3).
__________
(1) ليست في الأصل، والخبر تقدم تخريجه ص 117.
(2) أخرجه عبد الرزاق (19052)، والدارمي (2916).
(3) ما بين معقوفين مكانه مطموس في الأصل، واستدركناه من "العدة" 4/ 1233. وهذا الأثر تقدم تخريجه ص 205.

(5/248)


ومنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يفتي. مما يُنزِّلُ الله عليه من القرآنِ، وبما يدلّ عليه الاجتهادُ، وللعالِم طريقٌ إلى معرفةِ ذلكَ من طريقِ الاجتهادِ، ويجوز له تركُ اجتهادِه والعملُ. بما سمعَه من النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، كذلكَ ها هنا مثلُه.
ومنها: أنه إذا جازَ تقليدُ الأُمَّةِ فيما أفتوا به، وإنْ لم يُعلم الطريقُ الذي أفتَوا به، فكذلكَ تقليدُ آحادِها من العلماءِ.
ومنها: أنه لو كانَ التَّقليدُ لايجوزُ لجوازِ الخطأ عليه، لوجبَ أن لا يجوزَ الرُّجوعُ إلى خبرِ الواحدِ لجوازِ الخطأ على ناقلِه.
ومنها: أنَّ الاجتهادَ من فروضِ الكفاياتِ كالجهاد، ثم يجوزُ الاتكالُ ممَّن له آلةُ الجهادِ وتكاملت فيه شروطُه لقيامِ آخرين به، كذلكَ في الاجتهادِ.

فصل
في شبهات أصحاب أبي حنيفة
فمنها: قصَّةُ الشُّورى، وأنَّ عبدَ الرحمن دعا علياً إلى تقليدِ أبي بكرٍ وعمرَ رضى الله عنهما.
ومنها: أنَّ اجتهادَ الأعلمِ له مزيةٌ بكثرةِ علمِه، وحُسنِ معرفتِه بطريقِ الاجتهادِ، واجتهادُ مَنْ دونَه له مزيَّةٌ من وجهٍ آخر؛ وهو أنه على ثقةٍ وإحاطةٍ من جهةِ الدَّليلِ وما يقتضي الحكمَ، وليسَ على ثقةٍ من اجتهادِ الأعلم، فتساويا، فيخيَّر بينهما.

(5/249)


فصل
في الأجوبة عن شبهاتهم
أمَّا قولُه سبحانَه: {فاسآلوا أهلَ الذِّكْر} فإنما انصرفَ إلى العامَّةِ؛ يشهد لذلك شيئانِ:
أحدهما: أنَّه أمرَ بالسّؤال، والعالِمُ لايجبُ عليه السُّؤالُ، بل له العملُ باجتهادِه والفتيا (1 التي أفتى بها، والذي يجب عليه السؤال هو العامي.
الثاني: أنه أَمرَ بسؤال أهل الذكر، وهذا يقتضي أن يكون الخاطب بالسؤال غير أهل الذكر، فيجب أن تكون الآية خاصةً في العامّة، فلم يكن فيها حُجة 1).
وأمَّا قولُ عبدِ الرَّحمنِ لعلي وعثمانَ: في سنة الشَّيخين، فإنما قصدَ بذلك في حراسةِ الأمَّةِ، وسياسةِ الرَّعيَّةِ، وكفِّ النُفوسِ عن مالِ السلمين، والزَّهادةِ والقنوع باليسيرِ، والتحنُّنِ على الرَّعيةِ، والإشفاقِ، فأبى عليٌّ ذلكَ لعلمه بأنه لا يمكنُ ذلكَ لأمورٍ تجدَّدت، وشروطٍ عُدِمت، ودخلَ عثمانُ على ذلكَ وما أطاق.
والذي يدلُّ على أنَّ المرادَ به ذلك، أنَّ اتباعَهما في المجتهَداتِ وأحكامِ الحوادثِ، لايمكنُ، لاختلافِهما في أحكامٍ كثيرةٍ، فهذا كانَ يرى التسويةَ في العطاءِ، وهذا بعده كان يرى المفاضلةَ في العطاءِ، ومختلفان لا يمكن اتباعُهما.
__________
(1 - 1) طمس في الأصل واستدرك من "التبصرة" 406.

(5/250)


على أنَّ ظاهرَ اللفظِ يقتضي أن تكونَ سنّتُهما العملَ بالنُّصوصِ والطواهِر، والاجتهادَ فيما لانصَّ فيه ولاظاهرَ من كتابٍ ولا سنة.
وأمَّا قولُ عمر في الجدِّ: "اتبعوني" فإنّما أرادَ اتباعَه في الدَّليلِ، كما يدعو بعضنا بعضاً إلى ما نعتقده من المذهبِ والدليلِ، دونَ التَّقليد، ولأنَّ عليّاً خالفهم فِى ذلك، لأنه قال: أجتهدُ رأي جُهدي وطاقتي.
وأمَّا قولهم: يسوغُ فيه الاجتهادُ فأشبهَ تقليدَ العامي، فلا (1) يصحُّ؛ لأنَّ العاميَّ لاطريقَ له إلى إصابةِ حكمِ الحادثةِ؛ لأنه ليس معه آلةُ الاجتهادِ الموصلِ إليه، فلذلكَ كان فرضُهُ التقليدَ، ولهذا يجبُ عليه السُّؤالُ، ولا يجبُ على العالِمِ السُّؤالُ، بل له الاجتهادُ، والعاميُّ لايصحُّ تقليدُ غيرِه له بخلافِ العالم، فلو كان العالمُ مثلَه لوجبَ عليه التقليدُ.
وأمَّا تعلُّقهم بترك اجتهادِه وتعويلِه على العملِ بما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك في مسألتنا، فبعيدٌ؛ لأنَّه (2 لو كان. ممنزلة ما سمعه من النبي- صلى الله عليه وسلم - لوجب أن لا يجوز له تركه بالاجتهاد، كما لا يجوز له ترك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأنَّ 2) قولَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حجةٌ مقطوعٌ بصحَّتِها؛ لأنه إنْ كانَ عن (3) وحي فهو مقطوعٌ بصحَّتِه، وإن كان عن اجتهادِه، فاجتهادُه معصومٌ، لأنَّه لايُقرّ على الخطأ، بخلافِ ما يقضي به العالمُ، فإنَّه غيرُ مقطوع
__________
(1) في الأصل: "لا".
(2 - 2) طُمس في الأصل واستدرك من "التبصرة" 409.
(3) في الأصل: "غير"، انظر "التبصرة" 409.

(5/251)


بصحَّتِه، فلم يجُز للعالِم تركُ اجتهادِه الذي يثقُ إليه والرجوعُ إلى مَنْ يجوزُ عليه الخطأ، ولايثقُ إلى إصابتِه الحقَّ في اجتهادِه.
وأمَّا قولُهم: إذا جازَ تقليدُ الأمَّة جازَ تقليدُ الواحدِ. فهذا بعيد جداً؛ لأنَّ الأمَّةَ معصومة لاتجتمعُ على خطأ ولاضلالةٍ، بدلائلَ قد سبقت فِى بابِ الإجماع، ولهذا يجبُ تقليدُ الأمَّةِ، ولايجوزُ العملُ باجتهادِه مع إجماع الأمَّةِ، والواحدُ من العلماءِ يجوزُ عليه الخطأ، ويجوزُ الاجتهادُ في حكمِ الحادثةِ، والعدولُ عن حكمِه.
وأمَّا قولُهم: لمًا جازَ الرُّجوعُ إلى خبرِ الواحدِ مع تجويز الخطأ، كذلكَ جازَ الرُّجوعُ إلى العالِم مع تجويزِ الخطأ. فغيرُ لازم؛ لأنَّ خبرَ الواحدِ إذا ظهرَ من غيرِ نكيرٍ، فهو بمنزلةِ قولِ الواحدِ من الصَّحابةِ إذا انتشر من غير خلافٍ عند قوم، وهو عندنا حجةٌ لايجوزُ الاجتهادُ معها، وأعنا على أنَّ الاجتهادَ من العالمِ مع وجودِ عالمٍ يجوزُ، فبانَ الفرقُ بينهما.
فوِزان ما ذُكرَ من الخبرِ. بمسألتِنا، أن يتعارضَ خبران، فلا يكونُ أحدُهما أولى من الآخرِ فِى المصيرِ إليه والعملِ به.
ولأنا لو أوجبنا عليه البحثَ عن الرُّواةِ وجهةِ سماعِهِ حتى يساويَ الراويَ فِى طريقِه، لأدَّى إلى المشقةِ العظيمةِ، وربما تعذرَ ذلك عليه بتعذر الطريقِ بينَه وبينَ الرَّاوي عنه أو موتِه، فسقط عنه ذلك، كما (1 سقط عن العاميِّ الاجتهادُ، وليس كذلك ها هنا، فإنَّ العالمَ لامشقَّة عليه في إدراك الحادثة باجتهاده، والنظر فيها كما نظر المقلد، فلزمه الاجتهاد والنظر.

(5/252)


وأما قولهم: الاجتهاد فرض من فروض الكفايات، كالجهاد ثم يجوز في الجهاد أن يتكل البعض على البعض، إذا حصلت الكفاية، فكذلك في الاجتهاد.
قلنا: لانسلِّم أنَّ مع الاختلاف 1) كفاية، وإنّما الكفايةُ مع الاتفاقِ، فوزانُه من الجهاد أن يضعف القيِّمُ منهم بأمرِ الحرب، فلا يجوزُ للباقين الاتكالُ عليه، بل يلزمُهم مساعدتُه وتقويته على الجهاد.

فصل
وأمَّا شبهاتُ أصحابِ أبي حنيفةَ:
فمنها: أنْ قالوا: إنَّ أصحابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في الشُّورى دَعَوْا علياً إلى تقليدِ أبي بكرٍ وعمرَ، ودعَوا عثمانَ إلى ذلك، وكان الداعي لهما عبدَ الرحمن، بمحضَر من أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تكاثرِهم، وما كانت إجابةُ عثمان إلا لكونِه دونَهما في العلمِ.
ومنها: أنَّ الأعلمَ أقوى اجتهاداً في استخراخ حكمِ الحادثةِ، لشدَّةِ معرفتِه بطرقِ الاجتهاد، ومَنْ دونَه أضعفُ في ذلك القام، وهو على يقينٍ من ظنِّه وإفراغ وُسعِه في استخراج الحكمِ، فتوازيا وتساويا، فكانَ مخيَّراً بينَ العملِ باجتهادِه، أو تقليدِ الأعلمِ لأجلِ التَّساوي.
فأمَّا الجوابُ عن الأوَّلِ، فقد سبقَ من الوجوهِ التي قدَّمناها، وأنَّ القومَ لم يدعوا [إلا] إلى التقليدِ في (2) السياسةِ، والتوفيرِ على النظرِ، والزهدِ
__________
(1 - 1) طمس في الأصل، وأستدرك من "التبصرة" 410.
(2) في الأصل: "إلى".

(5/253)


والتبتلِ بحقوقِ الرعايا، وشدةِ الإشفاق، فأمّا الاجتهادُ فى الأحكامِ فلا، بدليل ما قدّمنا.
وأمّا الثاني وتعلقُهم بالمزيةِ وموازنتُها. ممزيةٍ مثلها، فباطلٌ. بمن تَقدمت صحبتُه، وكثُرت مخالطتُه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنّه لايُجعَلُ ذلكَ مؤثراً في جوازِ تقليدِ من دونَه فى ذلك المقام في الأحكام.
وكذلك الحال من أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مع المجتهد من التابعين لايُجعَل (1) .................................... ، ....................