الواضح في أصول الفقه فصل
لا يُعدُّ اتفاقُ الخلفاءِ الأربعةِ إجماعاً بحيثُ يمنعُ
الاعتداد بخلافِ غيرِهم لهم مِنَ الصَّحابةِ في إحدى
الروايتينِ عن أحمدَ (1)، وهو اختيارُ الجُرجانيِّ مِنْ أصحابِ
أبي حنيفةَ.
والرِّوايةُ الثَّانيةُ عَنْ صاحبِنا: أَنهُ لا يعتدُّ بخلافِ
مَنْ خالفهم، ويُجعلُ قولُهم كالإجماع، وهو اختيارُ أبي خازمٍ
(2) مِنْ أصحابِ أبي حنيفةَ، رويَ
__________
(1) انظر "العدة" 4/ 1198.
(2) هو عبد الحميد بن عبد العزيز السكوني، أبو خازم- وقيل: أبو
حازم، بالحاء، الفقيه القاضي، ولي قضاء الشام والكوفة والكرخ،
توفي سنة (292) هـ. "سير أعلام النبلاء" 13/ 539، "المنتظم "
13/ 38.
(5/220)
عنه أَنَّهُ لم يعتدَّ بخلافِ زيدِ بنِ
ثابت في توريثِ ذوي الأرحامِ، وحكمِهِ بردِّ الأموالِ التي
كانت حصلتْ في بيتِ المال آَيامَ المعتضدِ وجعلِ ذوي الأرحامِ
أَوْلَى من بيتِ المالِ، فقبلَ ذلكَ منه المعتضدُ، وأمر
بردِّها على ذوي الأرحامِ.
فصلٌ
في الدّلالةِ على الرّوايةِ الأُولي
فمنها: ما رويَ عَن النَبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:" أصحابي
كالنُّجوم، بأيِّهم اقتديتُمُ اهتديتُم" (1)، وذلك يعمُّ
الخلفاءَ وغيرَهم مِمَّنْ يقعُ عليهِ اسمُ الصَّحابيِّ.
ومنها: أَنَّ غيرَ الخلفاءِ ساوى الخلفاءَ في الاجتهادِ الذي
لا يزادُ بالولايةِ، بلْ قدْ يُفضَّلُ بالاجتهادِ غيرُ الوالي
على الوالي، لأسيَّما إذا لم يُعتَبرْ أَن يكونَ الإمام
الأفضلَ واخترْنا ولايةَ المفضولِ، على أَنَّهُم لوكانوا أفضلَ
فإنَّ المجتهدَ عندَنا لا يجوزُ لَهُ تقليدُ الأَعلمِ، سواءٌ
كانَ الوقتُ ضيِّقاً أو واسعاً، وقدْ دلَّلْنا على ذلكَ
الأصلِ.
ومنْها: أَنَّ الإمامة رتبةٌ فلا يقدَّمُ بها ولأجلِها القولُ
في بابِ الاجتهادِ، كالقربى والإمامةِ في السَّرِيَّة
والرِّمالةِ والقضاءِ، وبيانُ ذلكَ أنَّ النبيَّ - صلى الله
عليه وسلم - لوْ أَمَّرَ أميراً على سَرِيَّةٍ، أو أرسلَهُ في
رسالةٍ، أوْ ولأَهُ القضاءَ، لم يوجب ذلكَ تقديمَهُ في
الاجتهادِ بعد موتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بلْ هوَ
وغيرُهُ
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 280.
(5/221)
سواءٌ، لا سيَّما والخلافة ثَبَتتْ بعدَة
بالاختيار تارةً وبالنَّصِّ أخرى، والرسالة والقضاء والإمارة
ألتي كانت حالَ حياته كانت بالنصِّ منه - صلى الله عليه وسلم
-.
ومنْها: أَنَّ الأربعةَ يجوزُ عليهمُ الخطأ، إذْ لا دلالةَ على
عصمتِهمْ، وإنَّما الإجماعُ مِنْ علماءِ العصرِ وَرَدَ فيهِ ما
وَرَدَ مِنَ الدَّلائلِ، وبقي ما عدا ذلكَ على حكمِ الأصل منْ
تجويزِ الخطأِ، وإذا جازَ الخطأ عليهمْ لم يُمنَعْ مِنَ
الاعتدادِ بقولِ غيرِهمْ معهم، كما ذكر [من] أمر أمراءِ
السَّرايا والحكام والرّسلِ الذينَ قدَّمْنا ذكرَهمْ.
فصل
في شبهة المخالف
من قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:"عليكم بسنتي وسنة
الخلفاءِ الرَّاشدينَ من بعدي" (1)، فكما لا يعتدّ بخلافِ سنة
النبيَّ، لا يعتدُّ بخلافِ سنة الخلفاءِ.
فيقال: إنْ كانَ الاحتجاجُ بالقرينةِ فليستْ حجَّةً، إذْ لا
خلافَ أنَّ سنَّةَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
مقدَّمةٌ على قولِ كلِّ قائلٍ، وأَئة لا يَسُوغُ الأخذُ
بالرَّأيِ معَ السُّنةِ بخلافِ أقوالِ الخلفاءِ، على أن قوله:
"الخلفاء" (2) لم يَخُصّ به قوماً دونَ قومٍ، وأَنتمْ لا
تقولونَ بعمومِهِ، فإذا أضمرْتُمْ خلفاءَ مخصوصينَ حملْناهُ
على الاقتداءِ المخصوصِ، والخطابِ لقومٍ مخصوصينَ،
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 280.
(2) في الأصل: "والخلفاء".
(5/222)
وهمْ غيرُ المجتهدينَ مِن أصحابِ رسولِ
اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يُوضِحُ هذا أَنَّ اتباعَ
الأربعةِ معَ اختلافِهمْ لا يمكنُ (1)، فلمْ يبق إلاّ ما
ذكرْنا، وأَنهُ لا يُسقِطُ هذا خبرَنا، وهو قولُهُ: "أصحابي
كالنُّجومِ، بأيِّهمُ اقتديتمُ اهتديتم" (2)، فيتعارضانِ،
وليسَ في خبرِكمْ ما يُسقِطُ خبرَنا، وفي خبرِنا زيادةٌ وهي
اسمُ الصَّحابةِ.
فصلٌ
ولا يختلفُ ظاهر قولِ صاحبِنا: أَنَّ الواحدَ مِنَ الخلفاءِ
يسوغُ خلافهُ، ولا يُمنعُ بقيةُ الصَّحابةِ مِنْ خلافِهِ،
وبهذا قالَ جميع العلماءِ، وحكيَ عَن بعضِ الشَّافعيةِ: أَنهُ
حجةٌ لا يجوزُ مخالفتُهُ، وقد أَومَأَ إليهِ صاحبُنا في قولِ
ابن عباسٍ: أَنَّهُ إذا انقطعَ دمُها في الحيضةِ الثَّالثةِ
فقدْ بانَتْ منه، وهوَ أصحُّ في النظر، قيلَ لَهُ: فلمَ لا
تقولُ به؛ قالَ: قدْ قالَ عمرُ وعليٌّ وابن مسعود، فأنا
أَتَهيَّبُ أَنْ أُخالفهم (3).
وروى ابن منصورٍ ما هو أصرح من هذا، قالَ ابنُ منصورٍ: قلت
لَه: قولُ ابنِ عباسٍ في أموالِ أهلِ الذِّمَّةِ العفوُ؟ (4)
فقالَ أحمدُ: عمرُ جعلَ
__________
(1) بعدها في الأصل ت "اتباعه".
(2) تقدم تخريجه 1/ 280.
(3) انظر الآثار في ذلك في "سنن سعيد بن منصور" (216) وما
بعده.
(4) أخرجه عبد الرزاق (10122).
(5/223)
عليهم ما قدْ بَلَغَكمْ. فعَدَلَ عن هولِ
ابنِ عباسٍ لقولِ عمرَ (1).
فصل
في الدلالةِ على المذهبِ الأوَّل
إنَّ الواحدَ مِنَ الأئمَّةِ ليسَ بمعصومٍ، بلْ مجوَّزٌ عليَهِ
الخطأُ، مقرٌّ على الخطأ، فهوَ كآحادِ المجتهدينَ، وغيره منَ
الصَّحابةِ مجتهدٌ، فلا يجبُ عليهِ بلْ لا يجوزُ لَهُ تقليدُهُ
كالإمامِ بعدَهُ لا يلزمُهُ العملُ بقولِهِ في الحادثةِ؛ كذلكَ
بقيَّةُ المجتهدينَ، وقد دلَّ على هذا قولُ علي- رضي اللَة
عنه- في أمَّهاتِ الأولادِ ما قالَ، وأَنهُ رأى بيعَهُنَّ بعدَ
أَنْ كانَ رآيه ورأيُ أبي بكرٍ وعمرَ أَنْ لا يبيعهنَّ،
وقولُهم لَهُ في البيعةِ: وسيرة الشَّيخينِ، فقالَ: أجتهدُ
رأيي (2)، ونَزَعَ يدَهُ.
فصل
في شبهة المخالف
من قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:"عليكم بسنتي، وسنةِ
الخلفاءِ الرَّاشدينَ مِنْ بعدِي" يعطي اتِّباعَ كلِّ واحدٍ
منهمْ.
قالوا: ولأَنَّ مخالفَتَهُ افتئاتٌ عليهِ.
فيقال: أَمَّا أمرُهُ باتِّباع سنتِهم، فإنَّ المرادَ بهِ
التقليدُ، فأمَّا أَنْ يكونَ
__________
(1) انظر "العدة" 4/ 1203.
(2) تقدم ص 117.
(5/224)
الخطابُ لأهل الاجتهادِ، فلا يوضحُ هذا
أَنَّ اتِّباعَ الأربعةِ لا يمكنُ معَ اختلافِهمْ في الحكمِ،
واتباع واحدٍ لا يتعين معَ خلافِ الآخرِ لَهُ، ولأَنهُ
يعارضُهُ قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -:"أصحابي كالنُّجومِ،
بأيِّهمُ اقتديْتُمُ اهتديْتُمْ ".
وأمَّا دعواهم الافتئاتَ عليهِ، فلا وجهَ لَهُ؛ لأَنَّ حكمَهُ
لا يُعتَرضُ عليهِ، فأمَّا بابُ الاجتهادِ فلا يتخصَّصُ به،
وإذا لم يتخصَّصْ به لا يكونُ افتئاتاً، بلْ يكونُ إِيضاحاً
لحجَّةِ اللهِ، كروايتِهِ حديثاً خَفِيَ على الإمامِ في
حادثةٍ، وهذا يساعدُ على بيانِ حكمِ اللهِ، والمساعدةُ لا
تكونُ أفتئاتاً، وكما لا تكونُ مشاورتُه إزراءً عليهِ، كذلك لا
تكونُ مخالفتُهُ افتئاتاً، ولأنَهُ يقابل مراعاةَ ما ذكرتَ من
الافتئات (1 التًقديمُ للأنفع من الحكمين، فإذا تقابلا 1)، كان
الأكثرُ نفعاً هوَ المقدَّمَ، والنفع ببيانِ حجَّةِ اللهِ نفعٌ
عامٌّ، فلا يُتركُ لتعظيمِ خاصِّ.
فصلٌ
قالَ أصحابُنا: إذا عقدَ بعضُ الأئمةِ الأربعةِ عقداً، لم يجزْ
لِمَنْ بعدَهُ مِنَ الخلفاءِ نقضُهُ ولافسخُهُ (2)، نحوُ
ماعقَدَه عمرُ -رضيَ الله عنهُ- مِنْ صلح بني تَغلِبَ (3)،
ومِن خراج السَّوادِ والجزيةِ (4)، وِما جرى هذا المجرى خلافا
للرَّأفضةِ؛ لأَنَّ قولَهمْ: للأئمةِ مِن أهلِ البيتِ نقْضُ
ذلكَ.
__________
(1 - 1) طمس في الأصل.
(2) نظر "العدة" 4/ 1206.
(3) أخرجه أبو عبيد في "الأموال" (70).
(4) أخرجه أبو عبيد في "الأموال" (143) (146) (147) (151).
(5/225)
والدلالة عليهِ: أَنَّ ذلكَ عقْد حصلَ
باجتهادِهِ فلا يملك غيرُهُ نقضَهُ كسائرِ العقودِ، ولأَنَّ في
ذلكَ افتئاتاً على الأئمةِ فلا يجوزُ، كما إذا حكمَ بشيءٍ مِنَ
الأحكامِ حالَ حياتِهِ، فإنهُ لا يملكُ أحد تغييرَهُ (1)،
كذلكَ بعدَ موتِهِ.
وعندي أَنَّ لقائلٍ أَنْ يقولَ: إنَّ في المنع مِنْ تغييرِ
أحكامِ الخليفةِ الأولِ حصراً ومنعاً (2) للخليفةِ الذي بعدَهُ
عَنِ الحكمِ باجتهادِهِ، وهذا لا يجوز؛ لأَنَّ المصالحَ تختلفُ
باختلافِ الأزمنةِ، وإلي هذا أشارَ عليٌّ - رضي الله عنه- حيث
قالَ: أجتهدُ رأيي (3). ولهذا جازَ لمَنْ بعدَ عمرَ الزِّيادةُ
في الجزيةِ بحسَب.
وقالَ عثمانُ ما قالَ في ردِّ طريدِ رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - الذي نفاهُ- وهوَ الحَكَمُ (4)، كانَ يحكي مِشْيَةَ
رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كالتّعييب (5) لَهُ- وما
كانَ ذلك [إلاَّ] لِمَا رآه مِنَ الأصلح.
وقال علىّ: كانَ رأي في أمَّهاتِ الأولادِ ورأيُ أبي بكرٍ
وعمرَ أنْ لا
__________
(1) في الأصل "تغيره".
(2) في الأصل: "حصر ومنع".
(3) تقدم ص 117.
(4) الحكم بن أبي العاص الأموي، من مُسلمة الفتح، نفاه رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف، ورده عثمان، رضي الله
عنه، إلى المدينة، وقال: كنت قد شفعت فيه إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوعدنى برده. انظر
"الإصابة" 2/ 28، "أسد الغابة" 2/ 33.
(5) في الأصل: "كالتعيب".
(5/226)
يُبعْنَ، وأَرى الآنَ بَيْعَهُنَّ (1). فلا
يُردُّ اجتهادُ حيِّ لميتٍ.
ولأَنَّ الأصوليينَ والفقهاءَ اختلفوا في تقليدِ العاميِّ
لقولِ ميتٍ مِنَ السَّلف [إن] لم يبقَ مجتهدٌ في العصر يُفتى
بقولِهِ، هلْ يجوزُ أمْ لا؟ فذهبَ قومٌ إلى أَنهُ لا يجوز
تقليدُ مذاهب الموتى، فكيف يُمنع الاجتهادُ في حقِّ الأحياءِ
مِنَ الخلفاءِ المجتهدينَ لأجلِ الموتى؟! (2 ولأنَّ رأي 2)
الماضي ليس بمقطوعِ على إصابتِهِ، بلْ يجوزُ عليهِ الخطأُ،
وهذا الموجودُ (3) يجوزُ أَنْ يصيبَ باجتهادِهِ الحقَّ الذي
عندَ اللهِ سبحانَهُ، فلا يجوزُ أَنْ نمنعَ طريقاً يجوزُ أَنْ
يوصلَنا إلى الصَّوابِ، لأجلِ قولِ قائلٍ يجوزُ أَنْ يكونَ
ماتَ على الخطأِ، فهذا عَيْنُ حملِ المجتهدِ على التقليدِ
ومنعه مِنَ الاجتهادِ، وتعطيل الاجتهادِ لأجلِ الاجتهادِ لا
يجوزُ.
فصلٌ
إذا اختلفَ أصحابُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ورضيَ
عنهم، على مذهبينِ، ولم يُنكِرْ بعضُهمْ على بعضٍ قولَهُ، لم
يَجُزْ لمن بعدَهم مِنَ المجتهدينَ الأخذ بأحدِ المذهبين مِنْ
غيرِ دليل، بلْ يجبُ أنْ يتبعَ ما يؤدِّيهِ إليهِ الدَّليلُ
أيَّ القولينِ كانَ، بلْ لا يُحدِث قولاً ثالثاً، نص على هذا
(4).
__________
(1) تقدم ص 143.
(2 - 2) غير واضح في الأصل.
(3) في الأصل: "للوجود".
(4) انظر "العدة" 4/ 1208.
(5/227)
وقالَ بعض أصحابِ أبي حنيفةَ فيما حكاهُ
السَّرخسيُّ- أعني أبا سفيانَ-: أَنهُ إذا كانَ قولاً ظهرَ
وانتشرَ، ولم ينكرْهُ منكرٌ، جازَ للمجتهدِ الأخذ بِهِ،
واختاره. وحكيَ عَنْ بعضِ المتكلِّمينَ: إنْ كانَ ذلكَ قبلَ
وقوع الفُرقةِ بينَهمْ وانتشارِهمْ في الأمصارِ، جازَ للمجتهدِ
الأخذ بِهِ مِنْ غيرِ دليلٍ، وإنْ كانَ بعدَ الانتشارِ
والفرقةِ لم يجزِ الأخذُ به إلاّ أَنْ يدلَّ دليل على صحَّتِهِ
(1).
فصل
في دلاِئلنا
فمنها: أَنَّ الصَّحابةَ إذا اختلفوا، فقد سوَّغوا الاجتهاد
لمن خالفهم، ومَنْ خالف فإنما سوَّغوا لَهُ ذلكَ لأجلِ
اجتهادِهِ واتباع الدليلِ، فلا يجوزُ لمَنْ بعدَهمْ أنْ يسوغَ
له القولُ بغيرِ دليلٍ، ففي ذلكَ تقليدٌ وتعطيلٌ للاجتهادِ.
ومنْها: أنَّ هذا القائلَ قدْ منعَ الأخذَ بقولِ إحدى (2)
الطائفتينِ إذا جرى بينَ الطَّائفتينِ إنكارٌ.
فنقولُ: إنهما قولانِ للصَّحابةِ، فلا يجوزُ للمجتهدِ تقليدُ
أحدِهما، كما لوْ أنكرتْ إحدى الطائفتين على الأُخرى، وأنكرتْ
الأُخرى عليها،
__________
(1) انظر "أصول السرخسى" 2/ 113.
(2) في الأصل: "أحد".
(5/228)
يوضح هذا أَنَّ المخالفةَ نوعٌ مِنَ
الإنكارِ، لأنَّ المخالفةَ ردٌّ للقول السابق بالاجتهاد، وفي
الردِّ ما في الإنكار.
ومنها: أَنَّ اعتبار الإنكار في الردِّ، وترك الإنكار في جوار
الأَخْذ بالقولِ لا وجهَ له، فالمخالفةُ تَمنَعُ إِجماعَهمْ،
كما أَنَّ الإنكارَ يمنعُ إجماعَهمْ، ولأَنَّ تركَ الإنكارِ
إنَّما حصلَ لأَنَّ مسائل الاجتهادِ يسوغُ فيها المخالفةُ، فلا
وجهَ للإنكارِ، فيصيرُ تركُ الإنكارِ لمقالةِ المخالفِ للتسويغ
لا للموافقةِ.
ومنها: أَنَّ كلَّ طائفةٍ مساويةٌ للأُخرى في تجويزِ الخطأِ
والإِصابةِ، فالاتباعُ لأحدِهما مِنْ غيرِ ترجيح نفسُ
التقليدِ.
فنقولُ: هذا مجتهدٌ، فلا يجوزُ له التقليدُ، وتركُ الترجيح مع
قُدرتِهِ عليهِ، كما لو لاحَ له دليلانِ: خبرانِ أو قياسانِ،
فإِنَّه لا يتخيَّرُ بل يُرجِّحُ، كذلكَ هاهنا.
ومنها: أَنَّهُما مجتهدان، فلا يجوزُ لأحدِهما الأخذُ بقولِ
الآخرِ بغيرِ دلالةٍ، كالمجتهدين مِنَ الصًّحابةِ والمجتهدين
مِن أهلِ الأَعصارِ بعدَ الصَّحابةِ.
فصلٌ
في شبههم
فمنها: أَنَّهُ إذا لم يَحصُلْ منهمُ الإنكاَرُ، دلَّ على
كونِهِ صواباً، لأَنَّهُ لو كانَ خطأً لم يُمسِكوا عن
إنكارِهِ.
ومنها: أنَّ الصَّحابةَ رجعَ بعضُهم إلى قولِ بعضِ، مثلُ رجوع
عمرَ
(5/229)
إلى قولِ علي في التزامِ دِيَةِ جنينِ التي
أَجهَضَتْ ذا بطنِها مِن فَزَعِه (1)، ومثلُ قَبول عثمانَ
البيعةَ على سنة أبي بكرٍ وعمرَ (2)، فَمَنْ بعدَهم ودونَهم
أَوْلَى أنْ يَتَبعَ إحدى الطائفتينِ منهم.
فصلٌ
في الأجوبةِ عنْها
أمَّا التعلُّقُ بِأنَّهُ لم يحصلِ الإنكارُ، فلا يدلُّ على
الموافقةِ حيثُ حصلتِ المخالفةُ، والتسويغُ يمنعُ الاعتراضَ،
وليس يلزمُ مِنَ التسويغ التصويب، كسائرِ الفقهاءِ، بعضُهم لا
يمنعُ بعضاً في عصرِنا، وأما رجوعُ بعضِهِم إلى قولِ بعضٍ، فلم
يكن إلا لدليلٍ قد دلَّ على الموافقةِ، لا اتِّباعاً لأجل
القائلين، ولا لمجرَّد (3 اشتباه، ولو كان لمجرَّد اشتباه 3)
لم يَحصُل بينهم خلافٌ، كما (3 خالفوا في كثير بما ذكرنا فيما
سبق 3).
فصلٌ
يجوزُ تركُ ما ثبتَ وجوبُهُ بالإجماع إذا تغيَّرت حالُه، وذلك
مثل الاجماع على جوازِ الصَّلاةِ بالتيممِ، فإذا وُجِدَ الماءُ
في أثنائِها جازَ الخروجُ منْها، بل وَجب، وبه قالَ أصحابُ أبي
حنيفة خلافاً لبعضِ أصحابِ
__________
(1) تقدم ص 205.
(2) تقدم ص 117.
(3 - 3) غير واضح في الأصل.
(5/230)
الشافعيِّ: لا يُنتقل عن الإجماع إلا
بإجماع مثلِهِ (1).
فصِلٌ
في أدلتنا
فمنها: أَنَّ سلطانَ الإجماع قدْ زالَ، وذلكَ أَنَّهُ إذا
تجدَّدَ وجودُ الماء، تجدَّد التسويغُ بعد أن كان الخروجُ منها
لا يَسُوغ، وإذا زالَ سلطانُهُ لم يُحتَجْ إلى إجماع يزيلُهُ
وقدْ زالَ.
ومنها: أَنَّ تجدد وجودِ الماءِ ليسَ هوَ حالَ الصلاةِ معَ
عدمِ وجود الماءِ، فما تركْنا الأصلَ الأولَ، ولا هذا هوَ
المجمعُ (2) عليهِ.
فصل
في شبههِم
فمنها: أَنهُ لوْ جازَ تركُ المجمَع عليهِ بغيرِ الإجماع،
لأدَّى ذلكَ إلى قيامِ دلالةٍ تخالفُ الاجماعَ مَعَ كونِهِ
معصوماً، فلا يجوزُ ذلكَ لما فيهِ مِنْ إخراج الإجماع عن
موضوعِهِ.
ومنها: أَنها دلالةٌ قطعيةٌ فلا يجوزُ تركُها بالاجتهادِ،
كنصِّ القرآنِ ونصِّ السُّنةِ.
__________
(1) انظر "العدة" 4/ 1211.
(2) في الأصل: "الجمع".
(5/231)
فصل
في الجوابِ عنْها
أَمَّا الأولى: فإنَّ المجمعَ عليهِ بتغيرِ الحالِ خرجَ عنِ
الإجماع، لأَنَّ إجماعَهم على صحَّةِ الصَّلاةِ بالتيممِ
ووجوبِ المضيِّ فيها معَ عدمِ الماءِ، فلمَّا وُجدَ الماءُ
عُدِمَ الإجماعُ في هذه الحادثةِ وصارَتْ كسائرِ الحوادثِ
المُجتَهَدَاتِ، فكفى في حصول حكمِها دليل ليس بقطعي، وكذلكَ
الجوابُ عنِ الثانيةِ، لأَنَّ الدّلالةَ إَنما كانت في
المتيمِّمِ العادمِ للماءِ، فأَمَّا الواجدُ فلا. |