الواضح في أصول الفقه فصل
إجماعُ أهلِ المدينةِ ليسَ بحجَّةٍ، بل هم وغيرُهم سواء، فمتى
اتفقوا على حكمٍ، ثُمَّ خالفَهم غيرُهم، لم يعد معَ مخالفةِ
ذلكَ المجتهدِ إجماعاً،
(5/183)
ذكرَهُ أحمدُ، وبِه قالَ الفقهاءُ، وأهلُ
الأصولِ.
وقالَ مالكٌ: إنه حجةٌ، واختلفَ أصحابُه، فقالَ قوم: أرادَ بِه
روايتَهم، وقالَ بعضُهم: أرادَ بِه أصحابَ رسولِ اللهِ - صلى
الله عليه وسلم - (1).
فصلٌ
في أدلتِنا
فمنها: قولُه تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]، وليسَ
أهل المدينةِ كلَّ المؤمنينَ، والآية تقتضي لحوقَ الوعيدِ
بالمؤمنينَ المعهودينَ المعروفينَ بإضافةِ السَّبيلِ إليهم،
والتعويل في الاجتهادِ والفُتيا عليهم، وليسَ يقفُ ذلك على
أهلِ مكانٍ بعينه، فالمخصِّصُ يحتاجُ إلى دليلٍ.
ومنها: قولُه [تعالى]: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وذلكَ
كتابُ اللهِ وسنةُ رسوله، فالمضيفُ إلى ذلكَ أهلَ المدينةِ
يحتاجُ إلى دليلٍ.
ومنها: قولُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "أمتي لا تجتمعُ
على الخطأِ"، ورويَ: "على ضلالةٍ" (2)، وليسَ أهلُ المدينةِ
كلَّ أمتهِ.
وقولُه: "أصحابي كالنّجومِ، بأيِّهم اقتديتُمُ، اهتديتُم" (3)
وهذا يعمُّ
__________
(1) انظر "العدة" 4/ 1142 وما بعدها، "البحر المحيط" 4/ 483 -
493.
(2) تقدم تخريجه ص 106.
(3) تقدم تخريجه 1/ 280.
(5/184)
أصحابَه أينَ كانوا، وحيثُ كانوا.
ومنها: أنَّ ما ذهبَ إليهِ المخالفُ يؤدِّي إلى مُحال، وهو أنْ
يكونَ قولُهم حجَّةً ما داموا بالمدينةِ، فإذا خرجوا منها، لم
يكنْ قولُهم حجَّةً، وهذا منْ أبعدِ الأقوالِ (1)، أنْ يكونَ
الشَّخصُ بمكانِه، لا بعلمِه، ولا اجتهادِه، ولو جازَ ذلك،
لجازَ أنْ يصيرَ قولُ العاميِّ حجَّةً، إذا صارَ فيها، أو كانَ
فيها.
ومنها: أنْ يقالَ: لا يخلو أنْ تكونَ الفضيلةُ الموجبةُ لكونِ
أقوالِهم حجَّةً، راجعةً إلى البقاع، أو إلى فضائلِ الرجالِ
لأجلِ ما اكتسبوهُ مِن العلومِ، أولهما؛ فإنْ كانَ لأجلِ
البقعةِ، فلا وجهَ لذلكَ؛ لأنَّ العامَّةَ ومَنْ لا اجتهادَ له
هو في البقعةِ، ولم يُجعلْ قولُهم حجَّةً، وإنْ كانَ لأجلِ
الفضلِ، فأصحابُ رسولِ اللهِ كابنِ مسعودٍ وثلاثِ مئةٍ مِن
الصَّحابةِ ونيِّفٍ انتقلوا إلى العراقِ، وما كانَ مَن بقيَ
بالمدينةِ بأكثَرَ مِنهم علماً، ولا أوفى فضلاً، فلا وجهَ
لإِسقاطِ حكمِ خلافِهم، وإخراج قولِهم عن الحجَّة، وجعلِ مَن
أقامَ بالمدينةِ حجَّةً عليهم، معَ التَّساوي في أدواتِ
الاجتهادِ.
فصل
في شبههم
فمنها: ما رُويَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه
قَالَ: "إنَّ المدينةَ تنفي خبثَها، كما
__________
(1) في الأصل: "قول".
(5/185)
ينفي الكيرُ خبثَ الحديدِ" (1)، والخطأ مِن
الخبثِ، فكانَ منفياً عنها.
وقولُه عليهِ الصلاةُ والسَّلام: "إنَّ الإسلامَ يَأرِزُ إلى
المدينةِ، كما تَأرزُ الحيَة إلى جحرِها" (2).
وقوله عليهِ الصلاةُ والسلامُ: "لا يُكايدُ أحدٌ أهلَ المدينةِ
إلا انماعَ كما ينماعُ الملحُ في الماءِ" (3).
ومنها: أنْ قالُوا: المدينةُ مُهَاجَرُ النبيِّ - صلى الله
عليه وسلم -، وموضعُ قبرهِ - صلى الله عليه وسلم -، ومهبط
الوحى، ومستقرُّ الإسلامِ، ومجمعُ الصَّحابةِ، فلا يجوزُ أنْ
يخرجَ الحقُّ عنْ قولِ أهلِها.
ومنها: أنّ روايةَ أهلِ المدينةِ مقدَّمةٌ على روايةِ غيرِهم.
ومنها: أنّ أهلَ المدينةِ شاهدوا التنزيلَ، وحمعوا التأويلَ،
فكانَ إجماعُهم حجَّةً لا يخرجُ الحقُّ عنْها، ويستقلُّ أهلُها
به دونَ غيرِهم.
فصلٌ
في الأجوبةِ عن شبههم
أمّا السُّننُ الواردةُ بفضلِها وحفظِها، فإنهُ رَاجعٌ إلى
كونِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) أخرجه أحمد بنحوه (7232)، والبخاري (1871)، ومسلم (1382)،
والنسائى في "الكبرى" (11399)، وابن حبان (3723) من حديث أبي
هريرة.
(2) أخرجه أحمد (7846) و (9471) و (10440)، واليخاري (1876)،
ومسلم (147)، وابن ماجه (3111) من حديث أبي هريرة.
(3) أخرجه البخاري (1877) من حديث سعد بن أبى وقاص.
(5/186)
بها، فكانت محفوظةً بِه - صلى الله عليه
وسلم -، وبكونِها دارَ الهجرةِ، وموطنَ الصَّحابةِ بعدَهُ -
صلى الله عليه وسلم -، وذلك لا يمنعُ مِن كونِ بمجموع منْ فيها
وفي غيرِها [عُلَماء] (1) تخصيصاً للمزية التي ذكرْناها.
ولأَنَّ مكةَ ممدوحةٌ بكونِها قبلةً للخلقِ، وموضعَ المناسكِ،
ومولد رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ومبعثهُ، ومولدَ
إسماعيلَ، ومنزلَ إبراهيمَ، ولم يدلَّ ذلكَ على أنَّ قولَ
أهلِها حجةٌ، بل الاعتبارُ بعلمِ العلماءِ، واجتهادِ
المجتهدينَ، سواء كانوا فيها، أو في غيرِها، والذي يوضحُ هذا،
وأنَّه عادَ إلى الخصوصينَ مِن أهلِها لخصائصِهم مِن العلمِ،
لا لها، ولا لعصمتِها: أنَّ الله سبحانَه اُخبَرَ عن كون
المنافقينَ مِن أهلِها، فدلَّ ذلكَ على اُن الحفظَ والعصمةَ
والتبجيلَ، عادَ إلى ساكنٍ أو نازلي مخصوصٍ بالعلمِ، والعملِ
بِه.
وأمّا قولُهم: إن المدينةَ مجمعُ الصَّحابةِ، ومهبطُ الوحي،
وبها قبرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلعمري لكنْ لو
جَمَعتِ المجتهدينَ مِن الأُمَّةِ (2)، لتخصَّصتْ، لكنها جمعت
قوماً، وفارقَها قومٌ، على ما حفظوهُ مِن النقلِ، وفقهوهُ مِن
المعاني، فلا يجوزُ أن يخرجوا عَنِ اتفاقِ أهلِ الاجتهادِ،
واعتبارهم في الوفاق، والاعتداد بخلافهم في الخلافِ، فإنَّ
الذي حَظُوا (3) به فيها لم يزايلهم، ولم ينسلخ عنهم، ولو زال
عنهم العلمُ بنسيانٍ أو ذهول معَ مقامِهم بها، لم
__________
(1) طمست في الأصل.
(2) في الأصل: "الامة".
(3) في الأصل: "حظيوا".
(5/187)
يُعتبرْ وفاقُهم، ولا اعتُدَّ بخلافِهم.
وأمّا تعلّقُهم بتقديمِ روايتهم على روايةِ غيرِهم، فدعوى لا
دليلَ عليها، ولا علَّةَ تجمعُ بينَ الرِّوايةِ والدرايةِ، على
أنّ الأخبارَ قدْ ترجحُ. بما لا يترجَّح به الاجتهادُ؛ بدليلِ
أنّ روايةَ الجماعةِ ترجَّحُ على روايةِ الواحدِ، ولا توجِبُ
ترجيحَ قولِ جماعةٍ مِن المجتهدينَ على قولِ الواحدِ، على
أنّهم لمّا قَرُبوا مِن الحوادثِ التي جرتْ وسمعوا الأجوبةَ،
كانوا أحقَّ بالنقلِ؛ لأنّهم أقربُ إلى الحفظِ والضبطِ، وطريقُ
الأخبارِ السماعُ للحفظِ، والقربُ يؤكِّدُه، فقُدِّموا فيهِ؛
لأَنّهم الحُفظُ، فأمّا الاجتهادُ فإنّ طريقَه النظرُ، والبحثُ
بالقلبِ، والاستدلالُ على الحكمِ، وذلكَ لا يختلفُ بالبعدِ
والقربِ.
فصل
لا يكفي في انعقادِ الإجماع اتفاقُ أهلِ البيتِ معَ خلافِ
غيرِهم، خلافاً للإماميةِ: هو حجةٌ بنفسِه.
فصِّلٌ
في أدلتِنا
فمنها: قولُه تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] الآية
وذلكَ يعمُّ كافّةَ أهلِ الاجتهادِ مِن أقاربِ النبيِّ - صلى
الله عليه وسلم - وغيرِهم، فلا وجهَ لتخصيصٍ.
ومنها: قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أمتي لا تجتمعُ
على ضلالةٍ" وروي: "لا
(5/188)
تجتمعُ على خطأٍ"، وذلك يعمُّ ولا يخصُّ
أهلَ البيتِ. وما رويَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
أنّه قال: "أصحابي كالنُّجومِ بأيِّهم اقتديتُمُ اهتديتُم"،
وهذا يدلُّ على أنّ الاقتداءَ بغيرِ أهلِ البيتِ مِن
الصَّحابةِ، كالاقتداءِ بأهلِ البيتِ مِن ألاهتداء.
ومنها: أنّ أهلَ البيتِ لا يتخصَّصونَ بأكثَرَ مِن القرابةِ
والنسبِ، وذلك لا وَقْعَ له في الاجتهادِ، إنّما يحصُلُ
الاجتهادُ بأدواتِه وهو العلمُ، فأمّا الشَّرفُ والنَّسبُ فلا
أثَرَ لَه في الاجتهادِ في الأحكامِ واستخراج عللها، ونصب
الأدلةِ عليها، فإنْ حصلتِ الإشارةُ في ذلك، وأجمعوا على
المخالفةِ لوقوفهم على التنزيلِ وأفعال رسولِ الله - صلى الله
عليه وسلم - وأقوالِه، فذلك لا يختصُّ بهم، بل زوجاتُه وأصحابه
سواء على اختلاف أحوالِهم مَعَه، فالزوجاتُ في بيته - صلى الله
عليه وسلم -، والأصحابُ في مجالسِه وأسفارِه، قدْ كانوا
يتحفًظونَ مِن أقوالِه، ويَلحَظونَ مِن أفعالِه ما قدْ يَفُوت
بعضَ أهلِ بيتِه، فلا وجهَ لإخراج مَن ساواهم عن الاعتدادِ
بوِفاقِه لهم وخلافِه.
ومنها: أنّ أحدَ طرقِ هذا الوجودُ، وقد كانَ عليٌّ رضي الله
عنه خولفَ في عدّةِ مسائلَ، خالَفَه عليها الصَّحابةُ، فلمْ
يُحفَظ عنه أنّه قالَ لواحدٍ منهم: إنّ قولي حجةٌ عليكم.
فصل
في الشُّبهِ التي تعلَّقُوا بِها
فمنها: قولُه تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
(5/189)
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]
ومِن الرِّجسِ الضَّلالُ والخطأ، فإذا أخبرَ الله تعالى
بذهابِه عنهم، كانوا مخصوصينَ بالعصمةِ عنِ الخطأِ. قالوا:
وأهلُ البيتِ: عليٌّ، وفاطمة، والحسنُ والحسينُ، بدليلِ ما
رويَ أنها لمَّا نزلت أدارَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -
الكساءَ على هؤلاءِ، وقال: "هؤلاءِ أهل بيتي" (1).
ومنها: قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي تاركٌ
فيكمُ الثَّقلينِ، فإنْ تمسَّكتُم بهما لم تضلُّوا: كتابَ
اللهِ وعِتْرتي" (2)، وإذا خصَّ التمسكَ بهما، لم تقفِ
الحجَّةُ على غيرِهما، ولا يشترط لها غيرُهما.
ومنها: أنّ أهلَ البيتِ اختصّوا بأنّهم أهل بيتِ الرِّسالةِ،
ومَعدِن النّبوةِ، واختصوا بالعصمةِ.
فصل
فى الأجوبةِ عنْ شُبَهِهم
أمّا قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ}
[الأحزاب: 33] فإنّه عائدٌ إلى زوجاتِه، فإنَّه قال: {يَا
نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ
اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ
الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، ونسق الكلام في
خطابينِ إلى قولِه: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
__________
(1) أخرجه أحمد 6/ 298، والترمذي (3871)، والطبري في "تفسيره"
22/ 7 من حديث أم سلمة. وحسَّنه الترمذي.
(2) تقدم تخريجه ص 122.
(5/190)
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33]
محالٌ أنْ (1 يقصدَ غيَرهنَّ 1) بعدَ قولِه: "يا عائشةُ بنتَ
أبي بكرٍ، ويازينبُ، ويا صفيَّةُ بنتَ حُيَيِّ بنِ أخطبَ، ويا
فلانةُ وفلانةُ، إنَّما يريدُ الله ليذهبَ عنكمُ الرِّجسَ، يا
عليُّ ويا حسنُ ويا حسينُ" (2)، فلم يَبْقَ إلاَّ عَودُ
الخطابِ بأهلِ البيتِ إليهنَّ.
فإنْ قيل: فإنْ تعلَّقتُم بخطابِ التأنيثِ في قولِه:
{وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، تعلَّقنا عليكم بقوله:
{لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ} ولو أرادَ الزَّوجاتِ لقالَ: عنكنَّ.
قيلَ: الجوابُ عن هذا، وقولهم: إنّ النبيَّ - صلى الله عليه
وسلم - أدارَ الكساءَ على علي وفاطمةَ وولديهما وقالَ: "هؤلاءِ
أهلُ بيتي": أنَّنا لسْنا نُخرِجُ مَن ذكرْتم عَن أهلِ البيتِ،
والجمعُ إذا اشتملَ على ذكورٍ وإناثٍ غلبَ جمعُ التذكيرِ،
وإنَّما نقولُ: إنَّ نساءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
يدخلْنَ ولا يجوزُ خروجُهنَّ، معَ كون أوَّلِ الخطابِ لهنَّ
فأفردَهنَّ في الأَولِ بالخطابِ، كما كلفَهنَّ وتواعدَهنًّ على
المخالفةِ، ثمَّ لما خاطبَهنَّ بأهلِ البيتِ، أدخل معهنَّ
غيرَهُنَّ مِن الذكورِ، وجاءَ بخطابِ التذكيرِ، ولا وجهَ
لإخراج النساء مِن أهلِ البيتِ،
__________
(1 - 1) غير واضح لا الأصل.
(2) لم نقف عليه بهذا اللفظ، وأخرج الطبراني في "الكبير" 8/
7890 عن أبي أمامة أنه لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] قال رسول الله:"يا عائشة بنت
أبي بكر، ويا حفصة بنت عمر، ويا أم سلمة، ويا فاطمة بنت محمد،
ويا أم الزبير عمة رسول الله اشتروا أنفسكم من النار، واسعوا
في فكاك رقابكم، فإني لا أطلب لكم من الله شيئاً، ولا أغني ...
".
(5/191)
كما قالَ سبحانَه في حقِّ زوجةِ إبراهيمَ:
{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ
يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا
عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ
(72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ
اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 71
- 73] فعادَ ذلكَ إلى إبراهيمَ وإليها وجميع مَن حَوَاهُ بيتُ
إبراهيمَ مِن ذكرٍ وانثى.
والرجسُ فِى الآيةِ التي تعلقوا بها لا يجوزُ أنْ يعودَ إلى
الخطأِ في الاجتهادِ، لأنّه قال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ
وَلَا تَبَرَّجْنَ}، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ}، فدلَّ على أنه أراد دفع (1 التهمة عنهنَّ
1)، وامتداد العيون بالنظر إليهنَّ، فأمَّا الاجتهادُ فلمْ
يجرِ لَه ذكر، فلا يجوزُ أنْ نَعْدِلَ عَن رجس شهدَ لَه نطقُ
الآيةِ ونَرُدَّهُ إلى خطأٍ في اجتهادٍ لم يَجْرِ له ذِكر في
الآيةِ؛ ولأَنَّ ما تعلَّقُوا به مِن التفسيرِ فخبرُ واحدٍ،
وعندَهم لا يُحتجُّ به، فكيفَ وهوَ مخالفٌ لظَاهرِ القرآنِ؟!.
وأمّا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي تارك فيكمُ
الثَّقلينِ" (2) إلى أخر الخبرِ، فإنّه مِن أخبارِ الآحادِ،
وهو عندَهم ليسَ بحجَّةٍ، وعندنا هوَ حجَّة، لكنْ قدْ روىَ
"كتابُ اللهِ وسُنَّتي" (3)، ولو كانَ ما ذكرْتُم لما ضرَّنا
فيما قصدناهُ؛ لأنّه يجوز أنْ يعودَ إلى الرِّوايةِ عنه،
وروايتُهم حجَّة، وخصَّهم بذلك، لأنهم (4)
__________
(1 - 1) طمس في الأصل.
(2) تقدم تخريجه ص 122.
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 93 من حديث أبى هريرة.
(4) في الأصل: "لأنه".
(5/192)
أخبرُ. بما قالَ وفعلَ.
ويحتمل أنّه أرادَ بِه إذا وافقَ قولُهم الصَّحابةَ، وخصَّهم
بالذكر تبجيلاً، كما قال: "أصحابي كالنُّجومِ، بأيِّهمُ
اقتديْتُمُ اهتديْتُم" (1) ولمْ يُخرِجْ ذلك أهلَ بيتِه عليهمُ
السلامُ، وكما قالَ: "اقتدوا باللَّذَينِ مِن بعدِي أبي بكرٍ
وعمر" (2)، "عليكم بسُنَّتي وسنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدينَ مِن
بعدِي" (3) ولم يمنعْ ذلكَ دخولَ غيرِهم معَهم في الاعتدادِ
بإجماعِهم، ويصرفُ ظاهرُ اللفظِ إلا هذا التأويلِ بِما تقدَّمَ
مِن الدليلِ.
وأمّا ما ذكروه من التخصص به، وقربهم منه - صلى الله عليه وسلم
-، فإنَّ ذلك أمرٌ لم ينفردوا بِه، بلْ لزوجاتِه فيما يشاهَدُ
منه - صلى الله عليه وسلم - مِن الأفعالِ البَيْتيَّة (4) التي
تتعلَّقُ عليها الأحكامُ كغُسْلِه مِن الجنابةِ، ووضوئِه،
ولبسِه، وأكلِه، وشربه، وصلاة النَّفْل بالليل، وما يجتنِبُه
مِن المتعةِ في حالِ حيضِهِنَّ، وما يُقدِمُ عليهِ، كلُّ ذلك
(5 هنَّ فيه أعلمُ من بقيَّةِ أهلِه 5) ... وإذا لم يتخصص أهلُ
بيته بذلكَ، فلا وجهَ لتخصيصِهم بالإجماع دونَ مَن شاركَهم في
__________
(1) تاقدم تخريجه 1/ 280.
(2) تاقدم تخريجه 2/ 182.
(3) تافدم تخريجه 1/ 280.
(4) في الأصل: "البتينة".
(5 - 5) غير واضح في الأصل، ووقع في هذا الموضع أيضاً اضطراب
في الكلام نتيجة ما أصاب الأصل من التلف.
(5/193)
طرق الإجماع سيَّما الاجتهادُ، وجَوْدةُ
النظرِ، والاستدلالُ بالرأيِ (1) لا يقفُ على القريبِ، أَلا
ترى أنّ معاذَ بنَ جبلٍ لما بَعُدَ عنه إلى اليمنِ قالَ:
أجتهدُ رأيى، فكانَ رآيه مَعَ بُعدِه كالرأيِ ممَّن قَرُبَ
منْه - صلى الله عليه وسلم -، وليسَ فيما ذكروهُ بحِدَتِه مِن
القربِ ما يوجب العصمةَ، وإنما غايةُ ما تحصلُ به العصمةُ
اتفاق أهلِ الاجتهادِ على حكمِ الحادثةِ، وليسَ في القربِ ما
يُقَوِّي الاجتهادَ إلى الحدِّ الذي ينفي الخطأَ، وفي إجماع
أهلِ العلمِ ما ينفي، كما أنَّ جماعةً يحصلُ بخبرِهم المتواترِ
(2) [ما] يوجبُ العلم (3)، ولا يوجبُ العلم روايةُ جماعةٍ
دونَهم لهم (4) تخصُّص بما رووه وقُربٌ ممن رووا عنْه.
فصل
في التًابعيِّ إذا أدركَ عصرَ الصَّحابةِ وهو من أهلِ
الاجتهادِ، فيه روايتانِ: إحداهما: لا يعتدُّ بخلافِه، نصرَها
شيخُنا في "العدَّة" (5)، والثانيةُ؛ يعتدُّ بخلافِه، وهي
الأصحُّ عندِي.
وبالثانية قالَ المتكلمونَ وأكثرُ أصحابِ أبي حنيفةَ (6)،
وأصحاب
__________
(1) في الأصل: "الذي".
(2) في الأصل: "المتواهم"، وباسقاط "ما".
(3) في الأصل: "العمل".
(4) في الأصل: "له".
(5) انظر "العدة" 4/ 1152.
(6) انظر "أصول السرخسى" 2/ 114.
(5/194)
الشافعيِّ (1)، إلاّ أنّ أصحابَ أبي حنيفةَ
(2) قالوا: إنْ كانَ مِن أهلِ الاجتهادِ عندَ حدوثِ الحادثةِ،
كانَ معتدّاً بِخلافِه، وإنْ لم يكنْ مجتهداً في ذلك الوقتِ،
لكنَّهُ صارَ مجتهداً قبلَ انقراضِ العصرِ، فأظهرَ الخلافَ، لم
يُعتَدَّ بخلافِه، خلافاً على ما حكاهُ أبو سفيانَ، وأصحابُ
الشافعيِّ يجعلونَ خلافَهُ معتدّاً بِه إذا صارَ مجتهداً قبلَ
انقراضِ عصرِ الصَّحابةِ.
فصلٌ
في أدلَتنا على نصرة الثَّانية
فمنها: أنَّ الصحابةَ سوَّغتْ للتابعينَ الذينَ أدركوهم
الاجتهادَ معَهم فيما حدَثَ في عصرِهم مِن الحوادثِ، كسعيدِ
بنِ المسيّبِ، وشريح القاضي، والحسنِ البصريِّ، ومسروق، وأبي
وائلِ، والشعبيِّ، وغيرِ هم، بدليلِ أنَّ عمرَ وعلياً- رضيَ
الله عنهما- ولَّيا شريحاً القضاءَ، ولم يعترضا أحكامَهُ
بالنسخ مَعَ إظهارِهِ الخلافَ عليهما في كثيرٍ مِن المسائلِ،
وكتبَ عمرُ -رضيَ الله عنْه- إليهِ: فإن لم تَجِدْ في
السُّنَّةِ فاجتهدْ رأيَكَ (3)، ولم يأمرْهُ بالرُّجوع إليهِ
ولا الحكمِ بقولِه، وخاصمَ عليٌّ -رضيَ الله عنْه- إلى شريحِ
ورضيَ بحكمِه حينَ حكمَ عليهِ بخلافِ رأيِه (4).
__________
(1) انظر "التبصرة " 384.
(2) انظر "فصول الأصول" 33413.
(3) انظر "أخبار القضاة" لوكيع 2/ 189.
(4) انظر "سنن البيهقي" 10/ 136.
(5/195)
ورويَ عن أبي سلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ
عوفٍ أنه قالَ: تذاكرتُ أنا وابن عباسٍ وأبو هريرةَ في عدَّةِ
الحاملِ المتوفى عنها زوجُها، فقالَ ابن عباسٍ: أبْعدُ
الأجلينِ. وقلتُ أنا: عدَّتُها أنْ تضعَ حملَها، وقالَ أبو
هريرةَ: أنا معَ ابن أخي. فسوَّغَ ابن عباسٍ لأبي سلمةَ أن
يخالِفَه ومعهُ أبو هريرة (1).
ذكر إبراهيمُ عن (2) مسروقٍ أنّه قالَ: كان ابن عباسٍ إذا
قدِمَ عليهِ أصحابُ عبدِ اللهِ صنعَ لهم طعاماً ودعاهم، قالَ:
فصنع لنا مرةً طعاماً فجعلَ يسألُ ويفتي، فكانَ يخالفُنا، فما
يمنعُنا أنْ نردَّ عليهِ إلاَّ أنَّا على طعامِهِ.
وسُئلَ ابن عمرَ عن فريضةٍ، فقالَ: سَلُوا سعيدَ بنَ جبيرٍ،
فإنَّه أَعلمُ بها مني (3). وسُئِلَ الحسينُ بنُ علي عن مسألةٍ
فقالَ: سلوا مولانا الحسنَ (4)، يعني البصريَّ.
وإذا ثبتَ أنَّها قد سَوَّغتْ للتابعينَ ذلك، لم يَجُحزْ تركُ
الاعتدادِ بأقوالِهم، وِفاقاً لصحَّةِ الإجماع، واعتداداً
بخلافِهم لمنع الإجماع وأنخرامِه.
ومنها: أنّ معَه آلةَ الاجتهادِ في وقتِ حدوثِ الناَّزلةِ،
فكانَ معتدّاً
__________
(1) أخرجه البخاري (4909)، ومسلم (1485).
(2) في ألأصل: "ومسروق". انظر "العدة" 4/ 1166.
(3) أخرجه أبن سعد 6/ 258.
(4) أخرجه أبن سعد 7/ 167.
(5/196)
بخلافِه أوْ بقولِه، فوقفَ انعقادُ الإجماع
على وفاقِه كالصَّحابيِّ.
ومنها: أنّ الاعتبارَ بالاجتهادِ لا بالصُّحبةِ، والدليلُ
عليهِ: أنَّه لوْ كانَ صحابي عامياً في عصر التَّابعينَ، لجازَ
لَه تقليدُ فقهائِهمُ المجتهدينَ، ولم يعتدَّ بِقول
الصَّحابيِّ لعدمِ الاجتهادِ، وإذا كان الاعتبارُ بِه، بطلَ
قولُ مَن أخرجه مِن جملةِ المعتبرينَ في انعقادِ الإجماع.
ومنها: أنّه لو كانَ انحطاطُ التابعيِّ عن رُتبةِ الصَّحابةِ
يسقِطُ الاعتدادَ بخلافِه، لكانَ انحطاطُ بعضِ الصَّحابةِ عن
الخلافةِ، وعن كونِه مِن المهاجرينَ الأولينَ والبدريينَ يمنع،
لأنَّه قد صرَّح القرآنُ بتفضيلِهم بقولِه: {لَا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ
أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ
بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10]، وقال: {وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة:
100] كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "خيارُكم القرنُ
الذينَ بُعِثتُ فيهم ثُم الذينَ يَلُونَهم ثُمَّ الذينَ
يَلُونَهم" (1)، ولما لم يَخرج الأدنى عن اعتبارِ وِفاقِه
للأعلى والاعتدادِ بخلافِه من أصحابِ رسولِ الله، كذلكَ
التابعونَ.
فصلٌ
في أسئلةِ المخالفِ
فمنها: قولهم على الدليلِ الأوَّلِ: لعلَّهم إنَّما سوَّغوا
اجتهادَهم فيما
__________
(1) أخرجه أحمد (7123) و (1318) (10211)، ومسلم (2534)،
والطيالسى (2550)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2468) من حديث
أبي هريرة.
(5/197)
اختلفو! فيهِ ولم يُجمِعوا عليهِ، وفد رويَ
عن أبي هريرةَ ما يدلُ على ذلكَ وهو قولُه: أنا معَ ابنِ أخي،
يعني أبا سلمةَ.
ومنها: أنْ قالوا: لا يمتنعُ أنْ يكونَ لَه الاجتهادُ ويكونُ
متعبّداً بغيرِه، كما كانَ مجتهداً ويتعبّدُ بخبرِ الواحدِ.
ومنها: أنَّ الصّحابةَ مُيِّزوا بصحبةِ رسولِ اللهِ - صلى الله
عليه وسلم -.
فصلٌ
في الأجوبةِ عنِ الأسئلةِ
أمّا قولُهم: إنَّ التسويغَ للتابعينَ كانَ فيما اختلفت فيه
الصّحابةُ، فكلُّ من اعتُدَّ بقولِه في الخلافِ لم يكنْ معَ
مخالفتِه اعتدادٌ بالوفاق، بل لا يعدُّ وفاقُ مَن عداهُ
وفاقاً.
وأمّا قولهم: إنَّ الاعتدادَ بقولِهم لا يمنعُ التعبُّدَ بغيرِ
قولِهم، كالخبرِ، فغلطٌ؛ لأنَّ الخبرَ دليل متَّبعٌ وسنةٌ هي
أصل، فيسقِطُ حكم الرأيِ، ورأي الرجال يتقابلُ.
وأمّا المزيَّةُ بالصحبةِ، فلا وجهَ لتقديمِ الشَّخصِ بها في
بابِ الاجتهادِ، كالمزيّةِ بالقرابةِ على الصحبةِ، والخلافةِ
على الرَّعايا.
فصلٌ
في شبههم -أعني مَن نصر الرواية الأخرى-
فمنها: قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "اقتدُوا
باللّذينِ مِن بعدِي أبي بكرٍ
(5/198)
وعمرَ" (1)، وقولُه: "عليكم بسنتي وسنَّةِ
الخلفاءِ الراشدين مِن بعدِي عَضوا عليها بالنَواجذِ" (2).
ومنها: أنّ قول الصَّحابيِّ حجةٌ على قولكم وقول أبي حنيفة,
مقدم على القياس, وعلى قول الشافعي, ومن كان قوله حجة لم يجز
لأهل عصره مختلفة, كالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: أنّ علياً- كرَّمَ الله وجهَه- نقض على شريعِ حكمَه في
ابنَي عم، أحدُهما أخ لأُمِّ، لمّا جَعَلَ المالَ كلَّه للأخ
مِنهما (3). ورويَ عن عائشةَ- رضيَ الله عنها- أنَّها قالت
لأبي سلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ: مثلُكَ مثلُ الفروج يسمعُ
الديكةَ تصيحُ، فصاحَ بصياحِها (4). وهذا إنكارٌ عليه الدخولَ
معَ الصَّحابةِ في الاجتهادِ.
ومنها: أَنّ الصّحابيَّ له مزيَّةُ الصُّحبةِ، وشهودُ
التنزيلِ، وسماع التأويلِ، وزادَ بالاجتهادَ.
فصلٌ
في الأجوبةِ عَن شبههم
أمّا قولُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -:"اقتدوا بِهم"
فأَمرُه بَالاقتداءِ يرجع إلى المقلِّدين
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 182.
(2) تقدم تخريجه 1/ 280.
(3) أخرجه البيهقي 6/ 239 - 240.
(4) أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 46.
(5/199)
دونَ المجتهدين، بدليلِ أنَّه إنَّما خاطبَ
أهلَ عصرِه، ولا يجوز أنْ يأمرَ مجتهداً أنْ يقتديَ بهم،
ويتركَ اجتهادَهُ، لأنَّ ذلكَ مِن التقليدِ الذي نهى عنه وأمرَ
بالاجتهادِ، ومعلومٌ بأنَّ هذه الأخبارَ لم تَمنَعْ خلافَ غيرِ
الخلفاءِ مِن أصحابِه - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً، كذلكَ لا
تمنعُ المجتهدَ مِن التابعينَ مِن خلافِهم.
وأمَّا قولُهم: إنّ قولَ الصّحابيِّ حجةٌ، فلنا فيهِ روايتانِ،
كهذهِ المسألةِ ولا فرق.
وأمّا نقضُ علي على شريح حكمَه، فليسَ على ظاهرِه، بلْ يجوزُ
أن يكونَ يقضي. بمعنى رَدَّه بالاستدلالِ، كما يُقالُ: نقضَ
فلانٌ كتابَ فلانٍ، بمعنى ردَّه عليهِ، ويحتملُ أنْ يكونَ معَ
علي- عليهِ السلامُ- نصٌّ واجبٌ نَقَضَ حكمَه، أوْ لأَنَّه
الإمامُ فرأى ذلكَ مصلحةً، كما أنَّ عمرَ- رضيَ الله عنه- نهى
زيدَ بنَ ثابتٍ أنْ يفتيَ بالماءِ مِن الماءِ بعدَ ما أنفذَ
إلى عائشةَ فسألَها، فروتْ لَه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه
وسلم - كانَ يغتسلُ. وإنَّ فعله لا يقضي على قوله، بل يجوز أن
يكون اغتسل تنظفاً، أو تطوُّعاً، أو لانتقال المَنِيِّ، ومعَ
زيدٍ حديثُ: "الماءُ مِن الماءِ" (1)، ومعَ عائشةَ: أنَّ
النبيَّ كانَ يغتسلُ (2)، ومعَ تقابلِ الخبرينِ منعَ زيداً
وتهدَّدَه.
وأمّا تَمَيُّزُ الصَّحابةِ بِما تميَّزُوا بِه، فلا (3) يمنعُ
الاعتدادَ بخلافِ من
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 36.
(2) تقدم تخريجه 3/ 103.
(3) في الأصل: "لا".
(5/200)
دونَهم في الرتبةِ لأجْلِ مساواتِه لهم في
الاجتهاد (1)، كغيرِ الأئمةِ مع الأئمة، وغيرِ الأهلِ
والقرابةِ معَ الأهلِ، وغيرِ الزوجاتِ معَ الزوجاتِ.
فصلٌ
إذا قالَ بعضُ الصَّحابةِ قولاً، فظهرَ للباقينَ وسكتوا عن
مخالفتِه والإنكارِ عليهِ، كانَ إجماعاً، هذا ظاهر كلامِ
أحمدَ، وبه قالَ الأكثرونَ مِن أصحابِ أبي حنيفةَ (2) فيما
حكاهُ أبو سفيانَ السَّرخسيُّ والجُرْجانيُّ، وهو قولُ
الأكثرينَ من أصحابِ الشّافعيِّ (3).
وبعضُ أصحابِ أبي حنيفةَ يقولُ: إنّه حجةٌ إلاّ أنّه لا يكونُ
إجماعاً، حكاهُ الجرجانيُّ، ومِن أصحابِ الشّافعيِّ مَن قالَ:
يكونُ حجَّةً مقطوعاً بها، ولا يكونُ إجماعاً؛ لأنَّ
الشّافعيَّ قالَ: لا يُنسبُ إلى ساكتٍ قولٌ.
وقالَ قومٌ مِن المتكلمينَ (4): لا يكونُ حجَّةً، وحكيَ ذلك عن
قومٍ مِن المعتزلةِ (5) والأشعريةِ (6)، وحكيَ ذلك عن داود
(7).
__________
(1) في الأصل: "الجهاد".
(2) انظر "التقرير والتحبير"، 3/ 101 و"تيسير التحرير" 3/ 246.
(3) انظر "التبصرة" 391.
(4) انظر "المحصول" 4/ 216، و"المستصفى" 1/ 191.
(5) انظر "المعتمد" 2/ 539.
(6) انظر "التبصرة" 392.
(7) انظر "الإحكام" لابن حزم 4/ 531 - 542.
(5/201)
فصِلٌ
في أدلِتنا
فمنها: أنّ الصّحابيَّ إذا قال قولاً، (1 وانتشر في الصَّحابة
1) فسكتوا عن إنكاره، فلا يخلو من خمسة أحكام:
[الأول]: أن كانوا ما اجتهدوا.
الثاني: أنْ يكونوا قد اجتهدوا وما أدَّاهم ذلك إلى قولِ شيءٍ
يجبُ عليهم اعتقادُهُ.
الثّالثُ: أنْ يكونوا اجتهدوا وأدَّاهمُ اجتهادُهم إلى خلاف
القولِ (2) الذي ظَهَرَ.
الرابعُ: أنْ يكونَ أدّاهم اجتهادُهم إلى وِفاقِه.
الخامسُ: أنْ كانوا في تَقِيَّةٍ.
فلا يجوزُ أن يكونوا لم يجتهدوا، لأنّ ذلك إهمال لحكمِ اللهِ
فيما حدثَ، وذلك لا يليقُ بمنصبِهم، فإنّه غايةُ ما يوجب ذمَّ
المجتهدينَ مِن أهلِ التديُّنِ، وما هوَ إلاّ بمثابةِ دخولِ
وقتِ صلاةٍ فيهملوا الشُّروعَ في تحصيلِ شروطِ أدائِها.
ولا يجوزُ أنْ يكونوا اجتهدوا فلم يذهبْ بهم الاجتهادُ إلى
حكمٍ
__________
(1 - 1) غير مقروء في الأصل، واستدركناه من "العدة" 4/ 1172.
(2) في الأصل: "قول".
(5/202)
أصلاً، فبعيدٌ أيْضاً؛ لأنَّ على حكمِ
اللهِ في كلِّ حادثةٍ دلائلَ وأماراتٍ، ولكلِّ ذي قريحة وطلب
إعمالُ النظرِ (1) والبحث إلى أن يَهجُمَ به نظرُه على إثبات،
أو نفى تحريمٍ، أو حظرِ إيجابٍ، أو إسقاطٍ، فأمَّا أَنْ لا
يهجمَ به على حكمٍ، فهوُ. بمثابةِ القولِ بأنَّ الصَّحيحَ
البصيرَ يجوزُ أنْ يحدِّقَ ويحقِّقَ التأملَ نحوَ ما تصحُّ
رؤيتُه، ولا يدركُ شيئَاَ ولا يراهُ، ولوْ جازَ ذلكَ على كلِّ
واحدٍ على الانفرادِ لجازَ على جماعتِهم، فيفضي إلى خلوِّ
العصرِ عنْ حكمِ اللهِ في الحادثةِ.
ولا يجوزُ أنْ تكونَ التقية مَنَعَتْهم، لأَنَه يفضي إلى سوءِ
ظنِّ في السَّاكتِ والمفتي، أمّا المفتي فإنّه لا يخافُ ويتقي،
إلاّ أنْ يكونَ على حالٍ يأبى النُّصِحَ والإصغاءَ إلى الحقِّ،
ويستكبرُ عنِ المشاورةِ، ويتعجرفُ بالأذيةِ على مَن فتحَ لَه
باباً إلى الإصابةِ، والساكتُ المفتي حابى في دينِ اللهِ،
وقصَّرَ في البيانِ معَ كونِه وارثَ النُّبوةِ، والبلاغُ على
النبيِّ واجبٌ، والعلماءُ ورثتُه، فبيانُ دليلِ اللهِ على (2
العلماء واجبٌ أيضاً 2)، على أنّا إذا تأمَّلْنا السِّيرةَ
وجدْنا بعضاً من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - لا يَستنكِف عن
سؤالِ بعضِهم، ووَجَدْناهم (2 في خلافهم لو نظرَ أحدهم 2) فلاح
له دليلٌ أسرع النَّاس رداً على من تنكَّب [طريق] (3) الحقِّ،
والشريعةُ مملوءةٌ مِن ذلكَ بما نُقلَ عنهم في مسألة الجَدِّ،
والحَرَام، والإكسال والإنزال، والعَوْل، ودِيَة
__________
(1) في الأصل: "للنظر".
(2 - 2) مطموس في الأصل. انظر "العدة" 4/ 1174 - 1175، و"مختصر
الروضة" 3/ 80 - 81.
(3) طمس في الأصل.
(5/203)
الجنين وغير ذلك، على أنّا متى عملنا على
التقيَّةِ لم يبقَ لنا ثقةٌ بقولِ مِن
أقوالِهم، ولا فتوى مِن فتاويهم، وبهذا ردَدْنا على الشِّيعةِ
قولَهم في التَقيَّةِ التي ادَّعَوها في حقِّ أهلِ البيتِ في
مبايعتِهم لأبي بكرٍ وعمرَ وعثمان، وقبول أحكامِهم، والعملِ
بأوامرِهم، فإنّها تسدُّ علينا بابَ الثقةِ بجميع ما حكيً
عنهم؛ ولأَنَّ ذلكَ يؤدي إلى جوازِ إجماعِهم على الخطأِ،
القائل والسّامع، إذ كانَ القائلُ مخوفاً، والسامع محابياً،
فمتى يظهرُ الحقُّ بينَ هؤلاءِ معَ تجويزِ ذلكَ؟! وإذا بطلتْ
هذهِ الأقسام، لم يبقَ إلاّ أنّهم سكتوا وِفاقاً.
فصلٌ
في سؤالهم
قالوا: قدْ أخللْتم بأقسامٍ منها (1): الذي يمنعُ الحكمَ
بوفاقِهم، وهو أن يكونوا أمسكوا للارتياءِ والنًظرِ، ومعلومٌ
مراتب النَّاسِ فِى ذلك، فقسم: يبادرُ فيصيبُ، وبعضُهم يبادرُ
فيخطئ، وبعضُهم يتوقفُ في النظرِ فيبطئ.
وقسم ثان: أنْ يكونَ المفتي إماماً فيقولُ ذلك، إمّا حَكَماً،
فلا سبيلَ إلى الاعراضِ علىً حكمِه فيما يسوغ، أو يفتي فيحتشمُ
ويخافُ المعترض مِن أنْ يكونَ افتئاتاً عليهِ، كما رويَ فيما
قيلَ عن عمرَ: هبتُه، وكانَ امرأً مَهِيباً (2).
وقسمٌ ثالثٌ: أنْ يكونَ السّامعُ يعتقدُ أنّ الحقَّ في جهاتٍ،
وأنّ كلَّ
__________
(1) في الأصل: "هو".
(2) تقدم تخريجه 2/ 30.
(5/204)
مجتهدٍ مصيبٌ.
فصلٌ
في الجوابِ عمّا وجَّهوُه مِن سؤالهم
أمّا الارتياءُ، فلا يجوزُ أنْ يمتدَّ ويتطاولَ إلا انقراضِ
عصرِ الصَّحابةِ، فإنّ مَن بلغَ إلي هذا الحدِّ مِن إبطاءِ
الاجتهادِ كانَ حكمُه حكمَ الوافقِ (1 إذ أنّ 1) مهلةَ النظرِ
معلومة عندَ المجتهدينَ.
وأمّا محاباةُ الإمامِ فكانوا يعتقدونَه غِشًّا، ويعدُّونَ
الكلامَ نصحاً لا افتئاتاً، مِن ذلك قولُ عليِّ في الدِّيةِ
التي أوجَبَها في حقِّ عمرَ في التي أنفذَ إليها فأجهضتْ (2).
وقولُ معاذٍ لعمرَ لمّا همَّ يحلدِ الحاملِ: إنْ جعلَ الله لك
على ظهرِها سبيلاً، فما جَعَلَ لك على ما في بطنِها سبيلاً.
وقولُه: لولا معاذٌ هلكَ عمرُ (3).
وقولُه في حقِّ الحجر الأسودِ وتقبيلِه: إنّك لحجرٌ لا تضرُّ
ولا تنفعُ (4). وقولُ علي: إنّ الله حينَ [أخذ] العهدَ على بني
آدمَ، جعلَه في هذا الحجرِ، ولهذا يُقالُ: ايمانٌ بكَ، ووفاءٌ
بعهدِكَ. (5 [فقال له عمر:] 5) لا
__________
(1 - 1) غير واضحة تماماً في الأصل.
(2) أخرجه عبد الرزاق (18010).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 88.
(4) أخرجه البخاري (1605)، ومسلم (1250) من حديث ابن عمر.
(5 - 5) ليس في الأصل.
(5/205)
عِشْتُ بأرضٍ لستَ بها يا أبا الحسنِ (1).
وقول عَبيدةَ السَّلْمانيِّ لعلي- رضي الله عنه- لمّا ذكرَ
أنّه قدْ تجدَّدَ لَه رأي في بيع امَّهاتِ الأولادِ: رآيكَ معَ
الجماعةِ أحبُّ إلينا مِن رأيِك وحدَكَ (2).
فالقوم لم يكونوا قاطعينَ على الأحكامِ، بلْ ظانينَ بأدلةٍ
مظنونة، فلا وجهَ لإكثارِ الرَّدِّ عليهم، والتلويح بِما يقع
لغيرِهم مِن دليلٍ عساهُ يعزُبُ عنهم. نعم، وقدْ كانَ يمكنُ
إخراجُ القولِ على وجهٍ لا يحصلُ به الافتئاتُ.
ولا يجوزُ أنْ يمَنعَهم القولُ بأنّ كلَّ مجتهدٍ مصيب؛ لأنّ
هذهِ مقالة لم تكنْ في زمنِ الصَّحابةِ، وإنّما هو قول حادث،
على أنّ مَن ذهبَ إليهِ لا يسكتُ عنْ بيان دلالةٍ، فإنّ من لَه
مذهبٌ وسمعَ خلافَهُ، لا يتأتى مِنه السّكوتُ، لا سيِّما
مِمَّنْ يُثبِتُ الأشبهَ عند اللهِ سبحانَه.
فصل
في شبهِهم
فمنها: قولُهم: إنّ سكوتَ الباقينَ يجوزُ أنْ يكونَ لأنّهم في
مهلةِ النظرِ، ويجوز أنْ يكونَ لاعتقادِهم إصابةَ كلِّ مجتهدٍ،
لكونِ الحقِّ عندَهم لا تَتَّحِدُ جهته، ويحتمل أنْ يكونَ
تَقيَّةً لبعضِ الولاةِ، أو حشمةً لَه كما
__________
(1) أخرجه بطوله الحاكم 1/ 457 وسكت عنه، وقال الذهبي: فيه أبو
هارون، ساقط. وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 144،
والمتقى الهندي في "الكنز": (12521).
(2) تقدم تخريجه ص 145.
(5/206)
قالَ ابنُ عباسٍ في عَوْلِ الفريضةِ: أولُ
مَن أعالَ الفرائضَ عمرُ بنُ الخطابِ، وايمُ اللهِ لو قَدَّمَ
مَن قَدَّمَه الله وأخَّرَ مَن أخرَه الله ما عالتْ فريضةٌ،
فقال له ابنُ أوسٍ: فما مَنَعَكَ أنْ تشيرَ بهذا الرَّأيِ على
عمرَ، فقالَ: هِبْتُه، وكانَ امرأً مهيباً (1). وإذا تردَّدَ
السُّكوتُ بينَ هذهِ الوجوهِ، لم يَجُزْ صرفُه إلى الموافقةِ
وقصرُه على الرِّضا.
فصلٌ
في الجوابِ عمّا ذكروهُ
أنّ مهلةَ النظرِ لا تمتدُّ بالمجتهدِ مِن حينِ حدوثِ الواقعةِ
إلى آخرِ العصرِ لمعنيينِ:
أحدُهما: أنّ المجتهدَ قدْ جمعَ شروطَ الاجتهادِ، ومنها
الفهمُ، والعلمُ، وسرعةُ الإدراكِ لمعاني الكتابِ والسُّنَّةِ
والاستنباطُ منهما.
والثاني: أنّ الأدلَّةَ واضحةٌ، فمَن نظرَ فيها بإنصافٍ لم
يلبثْ أنْ يهجمَ بِه النظرُ على حقيقةِ الحكمِ المطلوبِ.
وأمّا احتمالُ أنْ يكونوا اعتقدوا أنّ الحقَّ في جهاتٍ، فإنّه
لم يكنْ ذلك في عصرِ الصَّحابةِ، لكنْ هذه مقالةٌ مُحدَثَةٌ،
ولو كانَ ذلك فيهم، لظهرِ كما ظهرَ خلافُهم في كلِّ حادثةٍ
اختلفوا (2) فيها.
__________
(1) تقدم تخربِحه 2/ 30.
(2) في الأصل: "واختلفوا".
(5/207)
وأمّا الاتقاءُ، فلا وجهَ لَه؛ لأنّ
التَّطاولَ على الذاكرِ لدليلٍ أو شبهةٍ والإنكارَ عليهِ لم
يكنْ، بل كانَ الصغيرُ ينبسطُ على الكبيرِ في المذاكرةِ
والشورى، ولا كانَ فيهم مَن يستجيز الكَتْمَ لِما يعلمه في
دينِ اللهِ، وقدْ قدَّمْنا طَرَفاً مِن ذلك، كتجرُّؤِ عَبِيدةَ
السَّلمانيِّ على علي- رضي الله عنه - في خلافتِه، وقولِ
الحارثِ بنِ حوطٍ لعليِّ وهو على المنبرِ: أتظن أنّا نظنُّ أنّ
طلحةَ والزبيرَ كانا على باطل؛ قال: يا حارِ، إنّه ملبوسٌ
عليكَ، إنّ الحقَّ لا يُعرفُ بالرِّجالِ، اعرفِ الحقَّ تعرفْ
أهلَه (1). وكيفَ يُظنُّ منهم كتمُ العلمِ معَ الوعيدِ
الصَّادرِ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"مَن كَتَمَ
علماً نافعاً، ألجمَه الله بلجامٍ مِن نارٍ" (2)، ولأنّ هذا
القولَ يسدُّ علينا بابَ الثِّقةِ بأقوالِهم، فإنَّ السكتَ على
مثلِ هذا على سبيل الاتقاءِ والهيبةِ، يجوزُ عليهمُ الموافقةَ
بالقولِ لأجلِ الاتقاءِ والهيبةِ، وتجويزِ التقِيُّة، فعدمْنا
الثقةَ بجميع قضاياهم ورواياتِهم، وذلك باطل- أعني عدمَ
الثِّقةِ بِهم- فما أدَّى إليهِ باطلٌ.
فصل
ولا فرفَ بينَ أنْ يكونَ القولُ فتيا أو حكماً. وقال ابنُ أبي
هريرةَ (3) مِن أصحابِ الشّافعيِّ: إنْ كانَ حكماً لم يكنْ
إجماعاً، وإنْ كانَ فتيا كانَ
__________
(1) انظر "البيان والتبيين" 3/ 211.
(2) أخرجه الترمذي (2649)، وأبو داود (3658)، وابن حبان (95)
(96)، والحاكم 1/ 102.
(3) هو: الحسن بن الحسين، أبو علي ابن أبي هريرة الشافعي،
الفقيه، القاضى مات سنة (345) هـ. انظر "تاريخ بغداد" 7/ 298،
و "طبقات الشافعية" 3/ 256.
(5/208)
إجماعاً (1).
فصل
في حجَّتِنا
إنّ قولَ الحاكمِ: حكمتُ بكذا، قولٌ صدرَ عنِ اجتهادٍ، فكانَ
تركُ مخالفتِه أو السكوت عنه، موافقةً لَه، دليله فتوى المفتي.
فصلٌ
في شبهةِ المخالفِ
أنّ الحاضرَ مجالسَ الحكَّامِ يحضُرُ على بصيرةٍ مِن خلافِهم
في الأحكامِ، ولا ينكِرُ، لأنّ الإنكارَ افتئاتٌ عليهم، ولأنَّ
حكمَهم يقطعُ الخلافَ، ويسقط الاعتراضَ، بخلافِ المفتي، فإنّه
لا تلزِم فتواه ولا تقطع الاجتهادَ.
فيقالُ: إنّ مِن عادةِ الحكّامِ المشاورةَ لذوي الاجتهادِ في
الأحكامِ، والأئمةُ مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه
وسلم - تُعترَضُ أحكامُهم، حتى إنّ امرأةً قالَتْ لعمرَ بنِ
الخطابِ لما نهى عن المغالاة في صَدُقات النساءِ: أيعطينا الله
ويمنعُنا عمرُ، والله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ
قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]
فقالَ عمرُ: امرأةٌ خاصَمَتْ عمرَ فخصمَتْهُ (2). وعليٌّ - رضي
الله عنه- يقولُ لعمرَ في جنينِ التي أجهضت لما أفتاه عثمان
وعبدُ الرحمنِ
__________
(1) انظر "البحر المحيط" 4/ 499.
(2) أخرجه البيهقى في "الكبرى" 7/ 233.
(5/209)
بأنْ لا ضمانَ عليهِ: أرى عليكَ الدِّيةَ،
فقالَ: أقسمت عليكَ لا تَقمْ حتّى تقسمَها على قومِكَ بني
عَدِي (1). فمتى كانَ اعتراضُ المجتهدينَ افتئاتاً؟! ومتى
كرهَه أحد مِن السَّلفِ في حكمٍ أو قضيةٍ أو فتوى؟ فإِمَّا أنْ
يُجعلَ السكوتُ فيهما وفاقاً، أو لا يُجعلَ السكوتُ عنهما
جميعاً وفاقاً، فأمّا الفصلُ بينَهما، فلا وجهَ لَه.
فصلٌ
اختلفتِ الروايةُ عن صاحبِنا في قولِ الصَّحابيِّ في مسائلِ
الاجتهادِ والحوادثِ: هل هو حجةٌ؟ على روايتينِ:
أصحُّهما عندِي: ليسَ بحجَّةٍ، والقياسُ مقدَّمٌ عليهِ (2)،
وهو مذهبُ الدَّهماء مِن الأصوليينَ المعتزلةِ والأشعريةِ،
وبعضِ أصحابِ أبي حنيفةَ، وهو الكَرخىُّ ومَن تابَعَه، والقول
الجديدُ للشّافعيِّ: إذا لم ينتشرْ قولُ الصَّحابي.
والرِّوايةُ الأخرى: أنّه حجةٌ مقدَّم على القياسِ، وهذه
الرِّوايةُ موافقة لإسحاقَ، ومالكِ بنِ أنسٍ، ولجماعةٍ مِن
أصحابِ أبى حنيفةَ، البَرْذعىِّ والرازيِّ، والقولُ القديمُ
للشّافعىِّ.
ولا خلافَ أنّ قولَ بعضِهم على بعضٍ ليسَ بحجَّةٍ، سواء كانَ
أعلمَ أو كانَ مماثلاً، إماماً كانَ أو حاكماً أو مفتياً.
__________
(1) تقدم تخريجه ص (205).
(2) انظر "العدة" 4/ 1178، وما بعدها.
(5/210)
فصل
في أدلَّتنا
فمنها: أن الله سبحانَه أحالَنا عندَ وقوع الاختلافِ إلى
كتابه، وسنَّةِ نبيهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: {وَمَا
اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}
[الشورى: 10] {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وأمر بالاستنباطِ
والاعتبارِ فقالَ: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}
[الحشر: 2]، فإذا ثبتَ أن المرجعَ أدلَّة الشَّرع التي بها
يستدلُّ أصحابُ رسولِ اللهِ، كما أن إليها مرجعَ كلِّ مجتهدٍ،
لم يكنْ لتقديمِ قولِهم وجه معَ اتفاقِهم وإيَّانا على
الرُّجوع إلى هذهِ الأدلةِ، فكيفَ نتركُ الدليلَ ونرجعُ إلى
قولِ بعضِ المستدلينَ؟ وما الذي يوجبُ تقديمَ مستدلِّ على
مستدل؟
ومنها: أن نقولَ: إن القياسَ عَلَمٌ على الحكمِ، ودليلٌ مِن
أدلًةِ الشَّرع، فلا يُقدَّمُ عليهِ قولُ مَن يجوزُ عليهِ
الخطا، كخبرِ الواحدِ.
ومنها: أن هذا قول صادر عنِ اجتهادِ مَن يجوزُ عليهِ الخطا،
ويُقرّ على (1) الخطأ، فكان القياسُ مقدَّماً عليهِ، أو نقولُ:
فلم يقدَّم على القياسِ، كقولِ التّابعيِّ وآحادِ المجتهدينَ
في كلِّ عصرٍ.
ومنها: أن الصَّحابيَّ والتابعيَّ شخصانِ مِن أهلِ الاجتهادِ،
أو نقولُ: اتَّفَقا في الاجتهادِ، فلا يجوزُ لأحدِهما تقليدُ
الآخرِ، كالصحابيَّينِ والتابعيَّينِ.
__________
(1) في الأصل: "عليه".
(5/211)
ومنها: أنَّ القياسَ يخصُّ به عموم القرآن،
ويُصرفُ به عن ظاهرِه، فلا يُقدَّمُ عليهِ قولُ الصّحابيِّ،
كالخبرِ.
ومنها: أنّه لو كانَ قولُه حجَّةً، لكانَ يدعو التّابعيَّ إلى
اتباعِه، كالخبرِ عن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لمّا
كانَ حجَّةً دعا إلى اتباعِه.
ومنها: أنَّ التابعيَّ المجتهدَ إذا دعاهُ الصَّحابيُّ إلى
متابعتِه فطالبَه بالدليلِ، كانَ على الصَّحابيِّ إقامتُه،
فلوْ كانَ قولُه حجَّةً بدلالةٍ أَوجَبتْ كونَ قوله حجّةً لمَا
ملكَ أحدٌ أنْ يُطالبَه بالحجَّة على الحكمِ، كالنبيَّ - صلى
الله عليه وسلم - والمجمِعينَ مِن علماءِ الأمةِ، لمّا كانَ
قولُهم حجَّةً لم يَلزمْهم بيانُ الدلالةِ على الحكمِ إذا
طولِبوا بها.
ومنها: أنّه لوْ كانَ حجَّةً لكانتْ حجج اللهِ متقابلةً،
فإنّهم اختلفوا في عدةِ حوادثَ كلفظةِ الحرامِ (1)، وفيها
ستَّة مذاهبَ، وليس فيهِ حجَّتانِ متقابلتانِ بلْ حجةٌ واحدةٌ،
والباقي شبهةٌ، فلا يفزعُ المجتهدُ معَ هذا الحالِ إلاّ إلى
الرَّأي، والذي يفزعُ إليهِ هو الحجَّةُ دونَ أقوالِهم.
فصلٌ
فى شبههم
فمنها: قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ} [آل
__________
(1) يعني قول الرجل لامرأته: أنتِ عليَّ حرام. وانظر "العدة"
4/ 1115 و "الغني" 10/ 396.
(5/212)
عمران: 110]، وإذا كانَ ما تأمرونَ بِه
معروفاً بنصِّ القرآنِ وَجَبَ قَبُوله والمصيرُ إليهِ، لأنه
إذا كانَ الأمر بالمعروفِ واجباً فقبوله أَوْلَى.
ومنها: قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أصحابي
كالنّجومِ، بأيِّهمُ اقتديتم اهتديتم" (1)، وقولُه: "أقتدوا
باللّذَينِ مِن بعدِي أبي بكرٍ وعمرَ" (2)، ولا يجوزُ أنْ
يكونَ راجعاً إلى العامَّة، لأنَّه يسقط ميزةَ التخصيصِ، فلمْ
يبقَ إلاّ أنه عادَ إلى فقهاءِ التّابعينَ وجميع أهلِ
الاجتهادِ ممَّن ليس مِن أصحابِه.
ومنها: أنَّ الصّحابيَّ إن قالَ قولاً، وأفتى بِه عن توقيفٍ،
فهو حجةٌ مقدَّمّ على القياسِ، وإنْ كانَ عنِ اجتهادٍ
فاجتهادُه مقدَّمٌ على اجتهادِنا، لأنَّه شاهَدَ التنزيلَ،
وعرفَ دلائلَ الأحوالِ، وخَبَرَ التأويلَ، ووقفَ مِن مرادِ
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -[على] ما لا يقف عليهِ
التّابعيّ، فكانَ التّايعي معه. بمثابةِ العامِّيِّ معَ
المجتهدِ.
ومنها: أن قالوا: كلُّ مَن كانَ قولُه حجَّةً إذا وافقه، أو
كانَ معَه قياسٌ صحيحٌ، كانَ قولُه حجَّةً وإنْ لم يكن معَه
قياسٌ، كالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: أنّه صحابيٌّ، فكانَ قولُه مُقدَّماً على قولِ
التابعيِّ المجتهدِ، كما لو كانَ معَه قياسٌ ضعيفٌ.
ومنها: مَن كانَ قولُه حجَّةً إذا أنتشرَ، كانَ قوله حجَّةً
وإنْ لم ينتشرْ، كالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ورُبَّما
قالوا: كلّ مَن لوِ انتشرَ قولُه أوجبَ العلمَ، قُدِّمَ قولُه
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 280.
(2) تقدم تخريجه 2/ 182.
(5/213)
على القياس كالأصلِ.
ومنها: أنْ قالوا: القياسُ وقولُ الصَّحابىِّ جنسانِ، يترَك
أقواهما للأَقوى الآخرِ، فَيتركُ أضعفُهما للأضعفِ الآخرِ،
ثُمّ الخبرُ لو عارضَه أقوى القياسينِ لا ينقضه، ولو عارض قولَ
الصَّحابيِّ أقوى القياسينِ قُدِّمَ القياس عليهِ، فإذا عارضه
أضعفهما قدِّمَ عليهِ.
فصلٌ
في الأجوبةِ عنْ شُبههم
أمّا الأمَّةُ فإنّ الله شهدَ لهم. بما شهدَ مِن الخَيرِ
والأَمرِ بالمعروفِ، وهذا إشارةٌ إلى جماعتِهم، ونحن قائلون
بوجوبِ اتباع ما أجمعوا عليهِ وكونِه حجَّةً يجب المصير إليها،
ووجوبِ ما يجمعون على الأمرِ به.
وأمّا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "أصحابى كالنّجومِ"،
"واقتدوا باللذينِ مِن بعدِي"، فنحنُ قائلونَ به، وهو أنّ
الاقتداء بهم في حقِّ العامةِ التقليد، وفي حقِّ العلماءِ
القضاءُ باجتهادِهم في كل حادثةٍ حسَبَ ما كانوا عليهِ مِن
العملِ في الحوادثِ، وهو إعطاء الاجتهادِ حقه مِن الفرع إلى
القياسِ فيما لا كتابَ فيهِ ولا سنة، ولو حملناه على العامَّةِ
بدلائلِنا لم يكنْ بذلك بأس، فإنّ الاقتداءَ تقليداً إنما يؤمر
بِه العوامُّ دونَ أهلِ الاجتهادِ.
وأمّا قولهم: إنه عن توقيفٍ، فلا وجهَ لَه، لأنَّه لو كانَ
توقيفاً لروَوْة، فإنه مِن العلمِ النافع، وقدْ قالَ النبيُّ -
صلى الله عليه وسلم -:"مَن كَتَمَ علماً نافعاً ألجمة الله
(5/214)
بلجامٍ مِن نارٍ" (1)، ولأنَّ الكتْمَ
التوقيف، وإظهارُ الفتوى يوهم أنّه رأى فيحمل النّاسَ على
الاجتهادِ معَ وجودِ النصِّ، وهذا إفسادٌ لتراتيبِ أدلَّةِ
الاجتهادِ، فلا يحلُّ للصَّحابيِّ فعلُ ما يؤذي، فصارَ الظاهرُ
أنه أفتى من غيرِ توقيف.
وأمّا تعلُّقُهم بفضيلةِ الصُّحبةِ، ومشاهدةِ التنزيلِ، وقوةِ
الاجتهادِ، فذلك لا وجه له؛ لأنّه قد يكون الصحابيُّ دونَ غيره
في الاجتهاد والفقه، وإلى هذا أشارَ النبيُّ - صلى الله عليه
وسلم - حيث قالَ: "ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى مَن هو أفقهُ منْه"
(2)، والقربُ لا يوجب القوَّةَ، بدليلِ أنَّ الأئمَّةَ والأهلَ
مِن الصَّحابةِ لا يقدَّمون على مَن دونَهم في الاجتهاد، وإنْ
كانَ لَهم رتبةُ استحقاقِ الإمامةِ، بفضائلَ اختصُّوا بها،
وقربٍ مِن رسولِ اللهِ، وكانَ يجبُ أنْ يتأخّرَ مَن قلتْ
صحبتُه في بابِ الاجتهادِ عمَّن طالتْ صحبتُه، ولمّا لم يجبْ
ذلك في طبقاتِ الصُّحبةِ، كذلك لا يجبُ فيما يتعلقُ بمَن بعدَ
الصَّحابةِ مِن التابعينَ.
وأمّا قياسهم على صحابيِّ معَه قياسٌ ضعيف، فلا نُسلِّمُه،
فإنّه وغيرُه مِن أهلِ الاجتهادِ سواءٌ، والقياسُ مقدَّمٌ
عليهِ؛ ولأنَّ الظّاهرَ أنّه إنّما صارَ إلى ذلك القياسِ،
فالقياسُ مقدَّم على قياسِه الضَّعيفِ، والرِّجالُ يعتبرونَ
(3)
__________
(1) تقدم تخريجه ص (208).
(2) تقدم تخريجه 1/ 7.
(3) في الأصل: "تصرون".
(5/215)
بالأدلَّةِ، فأمّا أنْ يقوَّى القياسُ
الضَّعيفُ بالرِّجالِ فلا، بدليلِ قولِ علي- رضي الله عنه-:
إنّ الحقَّ لا يعرفُ بالرِّجالِ (1).
وأمّا قولهم: إذا انتشرَ قوله وظهرَ أوجبَ العلمَ، فلا نسلِّم،
بل لا يوجب العلمَ إلاّ موافقةُ الجماعةِ له، وإنْ سلَّمنا على
ما نصرْنا في إمساكِ مَن سمع ذلك، فإنَّه إذا انتشرَ يخالفُ
حكمَ ما لم ينتشرْ بدليلِ قولِ التّابعيِّ، فإنه لوِ انتشرَ
أوجب العلمَ، ثمَّ لا يقدَّمُ على القياسِ مِن غيرِ انتشارٍ.
وأمّا قياسُهم لَه على الخبرِ، فإنَّه لوْ كانَ كالخبرِ لوجبَ
إذا عارضَه خبرٌ أنْ يتعارضا، أو نُسِخَ أحدهما بالاَخرِ
كالخبرِ إذا عارضَه خبر.
وأمّا قولُهم: إنّ قولَ الصَّحابيِّ والقياسَ جنسانِ يُتركُ
أقواهما لأقوى الآخرِ، ويُتركُ أضعفُهما لأضعف الآخرِ،
كالشَّبهِ والقياسِ، فإنه يبطُلُ بقولِ التّابعيِّ معَ
القياسِ، فإن أقواهما يتركُ لأقوى الآخرِ، وأضعفَهما لايتركُ
لأضعفِ الآخر، ثُمَّ الخبرُ لو عارضَه أقوى القياسينِ لأسقطَه
الخبرُ، ولو عارضَ قولَ الصَّحابيِّ أقوى القياسينِ قُدِّمَ
القياسُ عليهِ، فإذا عارضَه أضعفُهما قُدِّمَ عليهِ.
فصل
إذا قالَ الصَّحابىُّ قولاً يخالفُ القياسَ، فإنّه لا يكونُ
ذلك توقيفاً، وبهذا قالَ أصحابُ الشّافعيِّ (2).
__________
(1) تقدم ص 208.
(2) انظر "التبصرة" 399.
(5/216)
وذكرَ شيخُنا في كتابِ "العدَّة" (1):
أنَّه يكونُ لَه حكمُ التوقيف والسُّنَّةِ، وهو قولُ أصحابِ
أبي حنيفةَ (2).
ومثالُ ذلك: قول عمرَ: في عينِ الدّابةِ ربع قيمتِها (3)،
وقوله فيمَن فَقَأَ عَيْنَ (4) نفسِه خطأً: تحملُه عاقلتُه
(5).
وقولُ ابنِ عباسٍ فيمَن نَذَرَ ذبحَ ولَدِه: يذبحُ شاةً (6).
وما شاكلَ ذلكَ.
فصل
في الدلائل على أنَّه لا يكونُ توقيفاً
فمنها: أنّ هذا سوءُ ظنٍّ بأصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه
وسلم -، ومعَ مِدْحةِ اللهِ لَهم لا يجوزُ أنْ نُلْحِقَ بِهم
ما يوجب الوعيدَ، مهما أمكنَنا حَمْلُ أحوالِهم وأفعالِهم على
السَّلامةِ، وقدْ قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"مَن
كتَمَ علماً نافعاً، ألجمَه الله بلِجام مِن نارٍ" (7)، ولا
علمَ أنفعُ مِن حديثٍ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) انظر "العدة" 4/ 1196.
(2) انظر "أصول السرخسي" 2/ 105.
(3) أخرجه عبد الرزاق. (18418)، وابن أبي شيبة 4/ 275.
(4) في الأصل: "نفا عن"، والتصحيح من "العدة" 4/ 1193، ومن
"المصنف".
(5) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (17827).
(6) أخرجه عبد الرزاق (15905)، والبيهقي 10/ 73.
(7) تقدم تخريجه ص (208).
(5/217)
رويَ في وقتِ الحاجةِ إليهِ، وحدوثِ
الواقعةِ، والصحابةُ تتكلمُ فيها بآرائِها: هلْ للجدَّةِ أمِّ
الأمِّ شيءٌ مِن الميراثِ؟ فهذا يقولُ: لا شيءَ لَها، لأنّ أبا
الأُمِّ لا شيءَ لَه، فأمُّها كذلك، بخلافِ أبِ الأبِ، وهذا
يقولُ: أُنثى تدلي بالأمِّ فورثت السُّدسَ كبنتِ الأمِّ، وهم
في ذلك [سواء] (1)، وهذا (2) يقولُ: لها السّدسُ، ولا يذكرُ
سبباً، ويكونُ معَه عنِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه
أطعمَها السُّدُسَ، فلا يرويهِ، ويتركُهم عادلينَ عنِ الحقِّ؟!
ما بهذا وَصَفَهم الله سبحانَه، نعم، ويترُكُهم مستدلِّينَ
بطريقٍ، لا يكونُ الاستدلالُ بِه إلاّ بعدَ أنْ تُعدمَ
السُّنَّةُ.
ومنها: أنّ الصَّحابيَّ غيرُ معصومٍ عنِ الخطأِ والزللِ، وإذا
قال ما يخالفُ القياسَ، تردَّدَ قولُه بينَ أنَّه أخطأَ أو (3)
تعلقَ بشبهةٍ ضعيفةٍ، ويحتملُ أنَّه كانَ توقيفاً فلا تثبتُ
السُّنةُ بالشَّكِّ.
ومنها: أنَّه لو ثبتَ بقولِهِ المخالفِ للقياس (4) سُنةٌ لثبتَ
بقولِ التابعيِّ، ولمَّا لم يَثبُتْ بقولِ التابعيِّ المخالفِ
للقياسِ سُنة كذلكَ الصَّحابيُّ.
ومنها: أنَّه لوْ كانَ قولُهُ المخالفُ للقياسِ سنَّةً، لكانَ
إذا عارضَهُ خبرٌ يَرِدُ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
بحكمٍ يخالف حكمَه أن يَتعارَضا، ولمَّا قدَّمَ الخبرَ بطلَ
أَنْ
__________
(1) ليست في الأصل.
(2) في الأصل: "وهو".
(3) في الأصل: "و".
(4) في الأصل: "القياس".
(5/218)
يكونَ له منزلةُ التوقيفِ.
فصل
في شبهةِ المخالفينَ
قالوا: الظَاهرُ مِنَ الصَّحابيِّ معَ كونِهِ عارفاً بطرقِ
الاجتهادِ والثِّقةِ بهِ في معرفةِ القياسِ، أَنهُ لم يعدلْ
عَنِ القياسِ الصَّحيح إلاَّ لتوقيفٍ عَرَفَهُ في الحادثةِ
عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
فيقالُ: هذا ظاهرٌ لا يُسلمُ، بلِ الظاهرُ غيرُهُ، وهو أَننا
نقرِّرُ أنْه معَ حسنِ الظنِّ بهِ وثقتهِ، لا يجوزُ أَنْ يكتمَ
روايةً هاديةً عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى
الحقِّ، كاشفةً لحكم الله في حادثة أبهمَ أمرُها، ويقول قولاً
لايَشهدُ له القياسُ، فيُحدِث بذلك جَلَلَينِ عظيمين، أحدهما:
كَتْم العِلم النافع مع كون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد
حَث على حِفْظِ صيغةِ كلامِهِ، خوفاً مِنْ خَفَاءِ الفقهِ
فيها، وإلى ذلكَ أشارَ بقولِهِ: "فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرُ
فقيهٍ، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى مَنْ هوَ أفقهُ منْهُ" (1)، وهذا
في الأَداءِ كما سُمِعَ وهوَ وَصْفٌ، فقد نبَّه على أصلِ
الرِّواية لاتضيع فيضيع أصلُ الفقهِ، ويفزَعُ النَّاسُ إلى
آرائِهم.
الثاني: أَنَّهُ لم يقنعْهُ المدحُ على تحرِّي الصِّيغةِ حتَّى
تواعَدَ على كَتْمِ العلمِ فقالَ: "مَنْ كتمَ علماً نافعاً
ألجَمهُ الله بلجامٍ مِنْ نارٍ" (2)، فمعَ هذهِ
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 7.
(2) تقدم تخريجه ص 208.
(5/219)
الحالِ الطاهرُ خِلافُ ما ذكرْتُم، فلمْ يَبْقَ إلا حملُهُ على
ما يجوزُ عليهِ مِنْ وقوفِهِ على قياس ضعيفٍ يخطئُ فيهِ،
وليْسَ هُوَ مِمَّنْ لا يُقوّ على الخطأِ إذا أخطأَ، بلْ يجوز
عليهِ الخطأ، ويجوزُ إقرارُهُ على الخطأِ، فلا وجهَ لإحالةِ
الحكمِ على ما لَمْ يَرْوِهِ عَن رسول اللهِ - صلى الله عليه
وسلم -، ولأنَهُ لوْ جازَ ذلكَ في حقِّ الصَّحابيِّ، لجازَ في
حقِّ التَّابعيِّ أيضاً؛ ولأَنهُ لو كان الظاهرُ التوقيفَ،
لَمْ يقدَّمْ عليهِ خبر واحدٍ، ويكون خبر الواحدِ إذا خالفَ
قاومَهُ وقابلَهُ قولُ الصَّحابيِّ إذا كانَ الظَّاهرُ أَنَّهُ
توقيفٌ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وجميعاً ظاهرانِ:
الذي عَمِلَ به الصَّحابي، والاَخر الذي رواه الصَّحابي،
ولمَّا قُدِّمَ خبرُ الواحدِ عليهِ، بطلَ تقدِيرُ الرِّوايةِ. |