الواضح في أصول الفقه

فصلٌ
في الترجيح بكونِ أحدِ الراويينِ أتقنَ؛ مثل أنْ يكونَ أحدُ الراويين
__________
(1) في الأصل: "ممنزلة".
(2) لمانه كان زوج المرأتين، حيث قال: كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فقتلتها وجَنينها، فقضى النبي فِى جنينها بِغُرة عبدٍ، وأن تُقتل.
أخرجه أحمد (3439)، وأبو داود (4572)، وابن ماجه (2641)، وابن حبان (6021) من حديث ابن عباس.

(5/80)


مالكاً أو سفيانَ، والراوِي للحديث الآخرِ المقابلِ زائدةَ أوعبدَ العزيز بن أبي حازم، فإنَّ حديث مالكٍ وسفيانَ مقدَّمانِ على حديثِ زائدةَ (1) وعبدِ العزيزِ (2)، قالَ أحمدُ: المُتَثبتُونَ في الحديثِ أربعة: سعيدٌ وسفيانُ وزائدةُ وزهير (3).
وقالَ أيضاً: المشهورُ بالروايةِ أَولَى، ووجهُ ذلكَ أَن الأتقنَ والأحفظَ، النفسُ إلى روايَتهِ أسكنُ، والظنُّ بصحَّتِها أغلَبُ؛ لأَنَّهُ يكونُ عن السَّهوِ والشّبْهةِ أبعدَ.
__________
(1) هو: ابن قدامة التقفي، أبو الصلت، الكوفي، روى عن: أبي إسحاق السبيعي، والأعمش، وأبي الزناد، وغيرهم. روى عنه: ابن المبارك، وابن مهدي، وابن عيينة، وغيرهم. قال أحمد: إذا سمعت الحديثَ عن زائدة وزهير فلا تبال أن لا تسمعه من غيرهما إلا حديث أبى إسحاق. وثقه غير واحد، مات سنة ستين أو إحدى وستين ومئة، وقيل غير ذلك. "تهذيب التهذيب" 1/ 620 - 621.
(2) هو: عبد العزيز بن أبي حازم عن سلمة بن دينار الخزومى، أبو تمام المدني الفقيه. روى عن: أبيه وهشام بن عروة، ويزيد بن الهاد وغيرهم، روى عنه: ابن مهدي، وابن وهب، والقعنبي، وغيرهم. وهو ثقة. مات سنة أربع وثمانين ومئة، وقيل غير ذلك.
"تهذيب التهذيب" 2/ 583.
(3) انظر كلام الإمام أحمد هذا في "تهذيب الكمال" 9/ 276، وزهير هو: ابن معاوية بن حديج بن الرُّحيل بن زهير بن خيثمة الجعفى، أبو خيثمة الكوفي، سكن الجزيرة.
روى عن: أبى إسحاق السبيعي، وزُبيد، وعاصم، وغيرهم. روى عنه: ابن مهدي، والقطان، وعلي بن الجعد، وغيرهم. قال أحمد: كان من معادن الصدق. وثقه غير واحد. مات سنة اثنتين وسبعين ومئة، وقيل غير ذلك. "تهذيب التهذيب" 1/ 640 - 641.

(5/81)


فصل
فإنْ [كان] أحدُ الراويينِ مباشراً لما رواهُ، كانَ مقدَّماً مرجَّحاً على روايةِ غير المباشرِ، وذلكَ مثلُ روايةِ أبي رافع: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نكحَ ميمونةَ وهوَ حلالٌ (1)، فإنّهُ أَولى من روايةِ ابنِ عباسٍ: أَنَّهُ نكحَها وهوَ حرامٌ (2)، لأَنَّ أَبا رافع كانَ السَّفيرَ بينَهما، والقابلَ لنكاحِها لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فهوَ بذلكَ أَخبرُ مِمَّنْ لم يلابسِ الأمرَ ولَمْ يباشِرْهُ.

فصلٌ
فإنْ كانَ أحدُ الراويينِ صاحبَ القصَّةِ، كما رَوَتْ ميمونةُ: "تزوَّجَنيْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ حلالانِ" (3)، فإنَّه تُقدَّمُ روايتُها على روايةِ ابنِ عباسٍ؛ لأَنها أعرفُ بِعَقْدِهِ وَحَالِهِ حينَ عَقَدَ مِنْ غيرِها، لاهتمامِها بِهِ ومراعاتِها لحالِهِ ووقتِهِ.
وخالفَ في ذلكَ الجُرْجانىُّ منْ أصحابِ أبي حنيفةَ، وقالَ: قدْ يكونُ غيرُ المُلابسِ أعرفَ بحالِ رسولِ اللهِ وأقربَ. وهذا بعيدٌ مِنَ القولِ؛ لأنَّ البعدَ منَ القصَّةِ يُبعدُ عن فهمِها وفهمِ حال مُلابِسِها في غالبِ الأحوال، فلا عبرةَ بما يَندُرُ.
__________
(1) أخرجه أحمد 6/ 392، والترمذي (841)، وقال: حديث حسن.
(2) أخرجه أحمد (2393)، ومسلم (1410)، والطحاوي 2/ 269، وابن حبان (4133)، وابن سعد 8/ 135.
(3) أخرجه أحمد 6/ 332 - 333 - 335، ومسلم (1411)، وأبو داود (1843)، والتر مذي (845)، وابن ماحه (1964).

(5/82)


فصلٌ
فإنْ كانَ موضعُهُ أقربَ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فيكونُ أسمعَ لكلامِهِ ممن بَعُد عنه، فإنَّه تُرجَّحُ روايتُه على (1) روايةِ مَنْ بَعُدَ، مثل ما رُوِيَ في إحرامِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وروى قومٌ أَنَّهُ قَرَنَ (2)، وروى ابنُ عمرَ أَنَّه أفردَ، ثمَّ ذكرَ أَنَّهُ كانَ تحتَ ناقته حينَ لبَّى - صلى الله عليه وسلم -، وأَنَّهُ سَمِعَ إحرامَهُ بالإفرادِ (3)، فكانَ ذلكَ مقدِّماً ومرجِّحاً لروايتهِ على روايةِ مَنْ لم يكنْ مثلَهُ، وعلى حالِهِ مِنَ القُربِ.

فصلٌ
فإنْ كان أحدُ الراوينِ من كبارِ الصَّحابةِ، والآخرُ من صغارِهم، فإنَّ الكبارَ أقربُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّهُ كانَ يقولُ: "لِيَلِيَني منكم أُولو الأحلامِ والنّهى" (4).

فصلٌ
وإنْ كانَ أحدُهما سَمِعَ مِنْ غيرِ حجابٍ، والآخرُ سَمِعَ مِنْ وراءِ حجابٍ، فإنَّ الذي سمِعَ منْ غيرِ حجاب أَوْلى ممَّنْ سمع من وراءِ حجاب،
__________
(1) في الأصل: "عن".
(2) انظر "مسند الإمام أحمد" (11958).
(3) أخرجه أحمد (5719)، ومسلم (1231) (184)، والدارقطني 2/ 238، والبيهقي في "الكبرى" 5/ 4.
(4) أخرجه أحمد (4373)، ومسلم (432) (123)، وأبو داود (675)، والترمذي (228)، من حديث عبد الله بن مسعود.

(5/83)


وذلكَ مثلُ حديثِ عروةَ بنِ الزبيرِ والقاسمِ بنِ محمدٍ عَنْ عائشةَ -رضيَ الله عنهَا-: أَنَّ بَرِيرةَ أُعتقتْ، وكانَ زوجُها عَبْداً (1). فيقدمُ على حديثِ أَسْودَ عن عاثشةَ: أَنَّ زوجَها كان حُرًّا (2)، لأَنَّهما سَمِعَا مِنْها مِنْ غَيرِ حجابٍ، لأَنَّها خالةُ عروةَ و [عَمَّة] القاسمِ، ومَنْ يسمعُ مِنْ غيرِ حجابٍ يشهدُ معَ النّطقِ الإشارةَ الدالةَ على المرادِ به.

فصلٌ
وإنْ كانَ أحدُهما يروي عن كتابٍ، والآخر عنْ غير كتابٍ، فالراوي عَنْ غيرِ كتابٍ مقدَّم ومُرجَّح (3)، وظاهرُ كلامِ صاحِبِنا أَنَّهما سواءٌ، فوجهُ قول صاحِبنا: إنَّ كتابَ رسولِ اللهِ كنُطْقِهِ؛ لأَنهُ جعلَ كتابَهُ بلاغاً قضى به حقَّ البلَاغ الذي أُمِرَ بهِ بقولِهِ: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].
وقَدْ جَعَلَ أحمدُ الكتابَ الواردَ إلا جهَينة (4) يَنْهاهُمْ عَنِ استعمالِ جلودِ الميتةِ بعدَ الدباغ كقولِهِ (5)، وحَكَمَ بنسْخ ألفاظِهِ في الدباغ بالكتابِ.
__________
(1) أخرجه أحمد 6/ 213، والبخاري (2563)، ومسلم (1504) (9)، وأبو داود (2233)، والترمذي (1154).
(2) أخر جه أحمد 6/ 186، والبخاري (2536)، وأبو د اود (2916)، والترمذي (1256)، والنسا ئي 6/ 163.
(3) في الأصل: "ويرجح".
(4) في الأصل:"مزينة".
(5) أخرجه أحمد 4/ 310 - 311، وأبو داود (4127) و (4128)، والترمذي =

(5/84)


ووجهُ مَنْ قدَّمَ الألفاظ ورجَّحَها -وهو الجرجانيُّ الحنفيّ- أنَّ كتابَ القاضي إلى القاضي لا يعمل عملَ الشَّهادةِ باللَّفظِ في العقوباتِ، والألفاط تعمل لأَنَّ التغييرَ يتطرَّقُ على إلخَطِّ كالتزويرِ (1)، والألفاظُ لا يتطرق عليها ذلكَ.

فصل
فإنْ كانت إِحدى الرِّوايتينِ مضطربةَ الألفاظِ والأخرى غيرَ مضطربةٍ، فغيرُ المضطرَبِ أَوْلى؛ لأَنَّه يدلُّ على ضبطٍ وحفظٍ وثباتٍ في القلبِ على ما نَطَقَ بِهِ اللِّسانُ. واضطرابُ اللَّفظِ يدلُّ على اضطرابٍ في الحفظِ، ومثال ذلكَ كثيرٌ في الأخبارِ.

فصل
فإنْ كانت روايةُ أحدِها قد اخَتلَفتْ والأُخرى ما اختَلَفَتْ، فالتي لَمْ تختلفْ مقدَّمةٌ، ومِنَ الناسِ مَنْ قَالَ: ما اتَفَقا فيه يتساويانِ فيما اتفقا فيهِ، ويسقطُ ما اخْتَلَفا فيهِ.
ومِنْهم مَنْ قَالَ: تتعارضُ الرِّوايتانِ وتسقطُ، ويعملُ بروايةٍ لم تختلفْ.
وجهُ تقديمِ التي لم تختلفْ: أَنَّها دالةٌ على الضَّبطِ حسبَ ما قُلْنَا في التي لم تضطربْ.
__________
= (1729)، وابن ماجه (3613) من حديث عبد الله بن عكيم.
(1) في الأصل: "والتزوير".

(5/85)


فصلٌ
فإنْ كانَ أحدُهما مُسنَداً والآخرُ مرسَلاً، فالمُسندُ أَولى، وقالَ الجرجانيُّ: المرسَلُ أَولى.
وجهُ تقديمِ المسنَدِ: أَنَّ المرسَلَ مختلفٌ في كونهِ حجةً، ولا مستَدَلَّ على عدالةِ راويهِ (1) العَدْلِ الذي أَرْسَلَهُ، والسنَدُ معلومٌ عدالةُ رواتِهِ بِنفوسِهم، واعْتَلَّ الجرجانيُّ بأَنَّ المرسَلَ شَهِدَ راويهِ بقولِ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شهادةَ قاطعِ، فقالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فكانَ هذا أشدَّ ثقةً وآكدَ ممَّنْ عَزَاهُ إلى راويه تفويضاً إِليه، وتعويلاً عليه فِى حكاية القولِ عَنِ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم -.

فصل
فأمَّا إنْ كانَ أحدُ الراويين ممَّنْ تقدَّمَ إسلامُه، والآخرُ ممَّنْ تأَخَّرَ إسلامُه، فإنَّهُ لا تُقدَّمُ روايةُ متقدِّم الإسلامِ، وذهبَ بعضُ الشَّافعية إلى تقديم روايةِ المتقدم إسلامُهُ. مثلُ خبرِ قيسِ بنِ طلقٍ معَ خبرِ أبي هريرَة في الوضوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ (2).
__________
(1) في الأصل "رواية".
(2) أمَّا قيس بن طلق فقد روى عن أبيه طلق بن علي قال: خرجنا وفداً حتى قدمنا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه وصلينا معه فلما قضى الصلاة جاء رجل كأنه بدوي فقال: يا رسول الله، ما ترى في رجل مس ذكره في الصلاة؛ قال: "وهل هو إلا مضغة منك، أو بضعة منك". أخرجه أحمد 4/ 23، وأبو داود (183)، والتر مذي (85)، والنسائى 1/ 101، وابن ماجه (483)، والبيهقى في "الكبرى" 1/ 134 - 135، ونقل البيهقي عن =

(5/86)


والدلالةُ على أَنَّه لا يرجحُ بذلكَ أَنَّ سماعَ الكافرِ مِنَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا يمنع روايتَهُ حالَ إسلامِهِ، فلا وجه لترجيح رِوايةِ المتقدِّمِ إسلامُهُ.

فصلٌ
في الترجيحِ في متنِ الحديثِ (1)
وذلكَ مِنْ وجوهٍ:
أحدُها: أَنْ يكونَ أحدُ الحديثينِ قَدْ جَمَعَ بينَ النُّطقِ ودليلِهِ، كما قَدَّمْنا مِنْ قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "الشُّفعةُ فيما لم يُقسَمْ، فإذا وقعتِ الحدودُ، وصُرفتِ الرُّقُ، فلا شفعةَ" (2) فهذا آكدُ وأَقضى في البيانِ، لأَنَّه جمع بينَ إثباتِهَا في المشاع ونفيِها في المقسومِ، فهوَ آكدُ من خبرٍ يتضمَّنُ إِثباتَها في المشاع ويسكتُ فيهِ عَنِ المقسومِ.

فصلٌ
والاَخر: أنْ يكونَ أحدُهما قَوْلاً، والآخرُ فِعْلاً، فالقولُ أبلغُ في
__________
= يحيى بن معين أنه قال: قد أكثر الناس في قيس بن طلق ولا يحتج بحديثه.
وأما أبو هريرة رضى الله عنه فقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر، فقد وجب عليه الوضوء". وأخرجه أحمد (8404)، والطحاوي 1/ 74، وابن حبان (1118)، والبيهقى في "الكبرى" 1/ 133.
(1) انظر "العدة" 3/ 1034 و "شرح اللمع" 2/ 395 - 397.
(2) تقدم تخريجه في 2/ 167.

(5/87)


البيانِ؛ لأَنَّ لَهُ صيغةً، ولا صيغةَ للفعلِ.

فصلٌ
والآخرُ: أن يكون أحدُهما قَوْلاً وفعلاً، والآخر قولاً، فيكون اجتماعهما أَوْلى.

فصلٌ
والآخرُ: أَنْ يكونَ أحدُهما لم يدخلْهُ التخصيصُ، والآخرُ دخلَهُ التخصيصُ، فيكونُ ما لَمْ يدخلْهُ التخصيصُ أَولى لأَنهُ أَقْوَى؛ لأَنَّ دُخُولَ التخصيصِ تضعيفٌ للْفظِ، ولهذا ذَهَبَ بعضُ النّاسِ إلى اُنَّهُ يصيرُ مجازاً.

فصلٌ
والآخرُ: أَنْ يكونَ قَدْ قُضِيَ بأحدِهِما على الآخَرِ في موضعِ، واختَلَفا في غيرِهِ، فيكونُ الذي قُضِيَ بهِ أَوْلى؛ لأَن القَضاء يدعم بحكمِهِ فيقوى بالعملِ.

فصلٌ
والآخرُ: أَنْ يكونَ أحدُهما مُطلَقاً والآخرُ وارداً على سببٍ، فإنَّهُ يُقصَر على سببهِ ويقدَّمُ المطلقُ عليه؛ لأن الوارد على سبب قَدْ ظهرتْ فيه أمارةُ التخصيص، فيكونُ أولى بإلحاقِ التخصيص بهِ.

(5/88)


مثالُه: قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بدَّل دينَه فاقتلوه" (1)، فإنّه تقدَّم منه النَّهيُ عن قتلِ النِّساءِ، لأنَّ النهيَ واردٌ في الحربية، والأمر بالقتل قائمٌ في حقِّ التاركينَ للأديانِ.

فصلٌ
والآخرُ: أنْ يكونَ قَصَدَ بهِ بيانَ الحكمِ المختلفِ فيهِ فيكون أَولى، كما قدَّمنا قولَهُ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] على قولِهِ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] في تحريم الجمع بينَ الأختينِ في الوطءِ. مملكِ اليمينِ، لأنَّ قولَهُ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قصد به الزَّوجَ دونَ بيانِ الحكمِ.

فصل
والآخرُ: أَنْ يكونَ أحدُ المعنيينِ أظهرَ في الاستعمالِ، كما ذَكَرْنا في الحُمْرَةِ وأَنها أَظْهَر في الشَّفَقِ (2).

فصلٌ
الآخر: أَنْ يكونَ أحد التأويلينِ موافقاً لَفْظَة مِنْ غيرِ إضمارٍ، كما قُلْنَا في قولِهِ - صلى الله عليه وسلم - للمُرتَهِن: "ذهبَ حقّكَ" (3) يعني مِنَ الوثيقةِ دونَ الدَّيْنِ،
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 39.
(2) تقدم في 2/ 563 و 3/ 234.
(3) أخرجه ابن أبى شيبة 7/ 183، وأبو داود في "المراسيل" (188)، والطحاوي
4/ 102، والبيهقي 6/ 41، من حديث عطاء مرسلاً، وفي الإسناد إليه ضعف.

(5/89)


ولم نحملْهُ على الدَّين؛ لأن حملَهُ على الدينِ يحتاج إلى إضمارٍ، وهو إذا كانَ بقدر قيمةِ الرَّهنِ.

فصل
الآخرُ: أَنْ لا يكونَ أحدهما يوجبُ تخطئةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الباطنِ، والآخرُ يتضمَّنُ إصابتَة في الظاهرِ وتخطئَتَهُ [في الباطن]، فالأولُ مقدَّمٌ ومرجَّحٌ؛ لأَنَّهُ تبعيدٌ له عن الخطأ، وهو الأَليقُ به وبحالِهِ - صلى الله عليه وسلم -.
كما وَرَدَ في ضمان عليٍّ- رضي الله عنه- دينَ الميتِ، وقوله: هما عليَّ (1)، وأنه ابتداء ضمانٍ، وأَنَّ النبيَّ امتنعَ مِنَ الصَّلاةِ، [وكان] وقت الامتناع مصيباً فِى امتناعِهِ، فكانَ مقدماً على حملِهِ على الإخبارِ عن ضمانٍ سابقٍ يكشفُ عن أنَّه كانَ امتنعَ من الصَّلاةِ في غَيرِ موضِعِهِ باطناً.

فصل
الاَخرُ: أَنْ يكونَ أحدُهما إثباتاً والآخر نفياً، فيكون الإثباتُ أولى، كما قدَّمنا روايةَ بلالٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت وصلَّى (2)، على رواية اُسامة وأنَّه لم يصلِّ (3)، لأنَّ المثبت معه زيادةُ علم وإفادة ليست عند
__________
(1) أخرجه عبد بن حميد (893)، والدارقطني 3/ 78، والبيهقي 6/ 73، من حديث أبي سعيد الخدري. وهو حديث أسانيده ضعيفة انظر "التلخيص الحبير" 3/ 47.
وأخرجه البيهقي 6/ 73، من حديث علي بن أبي طالب.
(2) أخرجه البخاري (397)، ومسلم (1329) من حديث عبد الله بن عمر.
(3) أخرجه البخاري (398)، ومسلم (1330) من حديث ابن عباس.

(5/90)


النَّافي، فهو كَمَنْ يروي والآخر لم يروِ، وابن عمر يقولُ: لم يقنتِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (1)، وغيره يقول: قنت (2)، وروى أنس: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يخَضِب ولم يأنِ أنْ يخضبَ (3)، وغيره يقول: قد خَضَب (4)، فالذي يشهد على النبي ليس كمَنْ لم يَشهَدْ.

فصل
والآخرُ: أَنْ يكونَ أحدُهما زائداً، كما قدمنا روايةَ الصَّاعِ على روايةِ مَنْ روى نصفَ صاعٍ، وروايةَ مَنْ روى خبر التكبيرِ سبعاً (5) في صلاةِ العيدِ على غيره أنَّه كبَّر أربعاً (6).

فصلٌ
الآخرُ: أَنْ يكونَ أحدهما متأخراً والآخر متقدِّماً؛ لأنَّ ابنَ عباسٍ قالَ:
__________
(1) أخرجه بنحوه عبد الرزاق (4954)، والطحاوي 1/ 148، عن ابن عمر موقوفاً.
(2) أخرجه أحمد 3/ 113، والبخاري (1001)، ومسلم (677) (301)، وأبو داود (1444)، والنسائي 2/ 200، وابن ماجه (1184) من حديث أنس.
(3) أخرجه البخاري (3550) ومسلم (2341) (104).
(4) أخرجه أحمد 6/ 296، والبخاري (5896) (5897) (5898)، وابن ماجه (3623) من حديث أم سلمة.
(5) أخرجه أبو داود (1149) (1151)، وابن ماجه (3629) (3630) مند حديث عائشه.
(6) أخرجه أحمد 4/ 416، وأبو داود (1153) من حديث أبي موسى وحذيفة.

(5/91)


كُنَّا نَأنخُذُ مِنْ أَمْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالأحدت فالأحدثِ (1)، وإِنَّما كانَ كذلكَ لأنَّ الآخِرَ هُوَ الذي يَنسَخ دونَ الأولِ.

فصل
الآخرُ: أَنْ يكونَ أحدُهما يوجبُ احتياطاً للفرضِ وتبرئةَ الذمةِ، والآخرُ يوجبُ نفيَ الاحتياطِ، فالموجبُ للاحتياطِ مرجَّحٌ، لأنَّهُ يوجَبُ لأكبرِ المقاصدِ.

فصلٌ
الآخرُ: أنْ يكونَ أحدُهما حاظراً والآخرُ مبيحاً، فالحاظر مقدَّمٌ ومرجَّحٌ، أشارَ إليه أحمدُ في الأَخْذِ بالذي هو أهنأ وأهدى؛ وبِهِ قالَ الكرخيُّ والرازيُّ مِنْ أصحابِ أبي حنيفةَ، وذهبَ عيسى بنُ أبانَ إلى أنَّهما سواءٌ ويسقطان، ويرجعُ إلى حكمِ الأصلِ، لأنَّ في الحظرِ احتياطاً، لأنَّ تركَ المباح لا مأثمَ فيهِ، وفي ملابسةِ المحظورِ مأثمٌ، ولأَنهُ إذا اجتمعَ في العينِ الواحدةِ حظرٌ وإباحةٌ، قُدِّمَ الحظرُ، بدليلِ المتولِّدِ عن ما يؤكلُ وما لا يؤكلُ، وإذا اختلطَ المباحُ بالمحظورِ غلبَ الحظرُ.

فصل
في شبهة المخالف
منها (2): أنَّ تحرج المباح كإباحة المحظور في باب الاعتقاد، فإنَّ كلَّ
__________
(1) تقدم في 2/ 355.
(2) انظر "العدة" 3/ 1042.

(5/92)


واحدٍ منهما يوجبُ كفرَ المعتقِدِ لما استقرَّ في الشَّرعِ خلافه، فلا وجهَ لتقديمِ أحدِهما ولا ترجيحِهِ.
ومنها: أَنَّ الشَّيءَ الواحدَ يستحيلُ أَنْ يكونَ محظوراً على الواحدِ في وقتٍ، مباحاً له في ذلكَ الوقتِ، كما يستحيلُ اجتماعُ الضِّدَّينِ في المحلِّ الواحدِ، ولو شَهدَ شاهدانِ بأَنَّ فلاناً قَتلَ زيداً بمكَّةَ يومَ النحرِ، وشهِدَ آخرانِ أنَّه قتل عَمْراً ذلك اليومَ ببغدادَ، فإنَّ الشَّهادتينِ تسقطانِ لاستحالةِ اجتماع القتلينِ من الواحدِ في ذلك اليومِ، كذلكَ إذا رَوَى الواحدُ خَبَراً يعطي إباحةَ عين، وروى الآخرُ خَبَراً يقتضي تحريمَ تلكَ العينِ، وَجَبَ سقوطُهما.
ومنها: أَنَّه لو أخبر واحدٌ بنجاسةِ الماءِ، وأَخْبَرَ آخَرُ بطهارةِ ذلكَ الماءِ، لم يُجْعَلْ لأحدِهما مَزِيَّة على الآخرِ، بل يسقطانِ ويبقى الماءُ على أصلِ الطَّهارةِ، كذلكَ هاهنا.

فصلٌ
في الأجوبة عن شبهاته
أَمَّا ما عوَّل عليه مِنَ ألاستواءِ في الاعتقادِ، فإنَّ ذلكَ بعد ثبوتِ التَّحريمِ في المحظورِ، والإباحةِ في المباح، ولَعَمْري إنهما بعدَ الثّبوتِ صارَ كلُّ واحدٍ منهما شرعاً للهِ سبحانه، فإذا اعتقَدَهُ على خلافِ ما هُوَ بهِ كفر.
فأمَّا عِنْدَ التقابلِ فلا يستويانِ؛ لأَنَّ الحاظرَ والمبيحَ منَ الألفاظِ عندَ

(5/93)


التقابلِ كالمحظورِ والمباح عندَ الاختلاطِ، ولو اختلطتِ الأَعيانُ، بعضها مباحٌ وبعضُها محظورٌ، غلبَ التجنبُ على الإقدامِ والحظر على الإباحةِ؛ ولأَنَّ الحظرَ إذا كانَ مشروطاً، والمباحُ مشروطاً، فوجِدَ بعضُ شروطِ الإباحةِ، لم تحصل الإباحةُ، ولو حصلَتْ بعض شروطِ الحظر كَفَى في تحصيلِهِ، كالبيع يحرمُ ويبطُلُ بشرط، ولا يباح ويصحُّ إلا بجميع شروط الصحة، والطّهارة تبطل بأحدِ أسباب إبطالها، ولا تصحُّ إلاَّ بكمالِ شروطِها، والجمعة كذلك.
وأَمَّا قولُهُ: يستحيلُ اجتماعُ الحظرِ والإباحةِ كما يستحيل اجتماعُ الضِّدَّين، واستشهادُهُ بالشَّهادةِ، فَلَعمري إنَّه كذلك، لكن ليس يَقِف التقديم للحظرِ على اجتماعِهما، لكنَّ التجويزَ للحظر يوجبُ الحظرَ، ويكفي فيه مجرَّدُ التجويزِ، لأنَّ الحظرَ كالاحتراز والاحتياطِ، والتجويزُ كافٍ في وجوبه، أعني: وجوبَ الاحتراز، والإباحةُ إقدامٌ، ولا يكفي في الإقدامِ تجويزُ السَّلامةِ من الاستضرار بالتبعة أو غيرها من الضَّررِ، والشَّهادة إنما كانت على حقيقةِ فعلٍ لا يمكنُ وقوعه على الوجه الذي ذكرته، بل يستحيل، وهاهنا إخبارٌ عن إيجابِ تجنّبٍ، وإخبارٌ عن إيجابِ إقدامٍ وتجويزه، وتجويز الضَّرر في الإقدام يوجبُ الإحجامَ، كما وَجَبَ في العقلِ منَ التحرُّزِ من الضَّمانِ، وبما وَجَبَ في الشَّرع وفرق بينَهما، بدليل أنَّه لَوِ اشتبهَ علينا مَنْ هو القاتلُ، لم يثبتِ القاتلُ، فكيفَ إذا كانت الشَّهادةُ. بمستحيلٍ، فأمَّا في الأعيان والأحكام، فإنّها إذا اشتبهت محظورُها بمباحِها غُلِّبَ الحظرُ.

(5/94)


وأَمَّا تعلّقهم بإخبارِ اثنينِ، أحدُهما بطهارةِ الماء، والآخرُ بنجاسَتِهِ، فإنْ كانَتْ بسببٍ يوجبُ النَّجاسةَ، غَلَبَ خبر النجاسةِ وحكمنا بنجاستِهِ، وإنْ لَمْ يخبِرْ بالسببِ بل قالَ: هو نَجس، فذلكَ غيرُ مسموعِ أَصْلاً، لجوازِ أنْ يكونَ نَجِساً عندَهُ، إمَّا لجهله إنْ كانَ عامِّيّاً، أو كانَ عالِماً والنَّاسُ مختلفونَ في النجاسةِ، فعلى كلا الأمرينِ لا يُقبلُ مِنْ غيرِ بيانِ السَّببِ، لا مِنَ العالمِ ولا العامِّي، ويبقى الماء على طهارةِ أصلِهِ لا يقدحُ فيه الخبر بالنَّجاسةِ، ولا يؤكدُ طهارتَه خبرُ مَنْ أخبرَ بالطَّهارةِ، فلم يتحققْ لك حُجَّة مِنْ هذهِ الصّورةِ.

فصلٌ
فإنْ تعارضَ خبرانِ في الحدِّ، فإنَّهُ لا يقدَّم المسقِط للحدِّ، بل الموجِب لَهُ، فإنَّ صاحبَنا أَخَذَ بحديثِ عبادة في اجتماع الجلدِ والرَّجمِ (1)، ولم يقدِّم عليه حديثَ ماعزٍ (2) وأُنَيس (3) في إسقاطِ الجلدِ.
ولأصحابِ الشَّافعي وجهانِ: أحدهما يقدَّم حديث إسقاطِ الحدِّ.
__________
(1) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مئةٍ وتغريب عامٍ، والثيب بالثيب جلد مئةٍ والرجم" تقدم تخريجه 1/ 193.
(2) أخرجه أحمد (41)، وابن أبي شيبة 10/ 72، من حديث أبي بكر الصديق.
وأخرجه البخاري (6815) (6825) ومسلم (1691) (16)، والترمذي (1428) من حديث أبى هريرة.
(3) أخرجه البخاري (6827) (6828)، وأبو داود (4445)، والترمذي (1433)، والنسائي 8/ 240، من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد.

(5/95)


لنا: أنَّ روايةَ إيجابه إثبات له، وإثباتُ التشريع مقدَّم على النَّفي، والأَصل الإسقاطُ، فلا يجوزُ أن يَيْقَى على الأصلِ مع وجودِ خبرِ العدل الناقلِ عَنِ الأصلِ، وكما لوْ قامتِ البيِّنةُ بإثباتِ سببِ الحدِّ، وشهدت أخرى بنَفيه.

فصل
وتَعلق المخالف في ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ادرَؤوا الحدودَ بالشُّبهات، وادرَؤوا ما استطعْتمْ" (1).
والجواب: أنَّ خبرَ الواحدِ العدلِ عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ليس بشبهةٍ؛ بدليلِ أنَّه ينتقلُ بِهِ عَنْ حُكْمِ الأَصْلِ، والذِّمم لا تُشغَل بالشمبهاتِ.

فصلٌ
فإنْ كانَ أَحَدُ الخبرينِ يثبتُ نقصاً لصحابىٍّ (2) كخبرِ القهقهةِ (3)، والآخرُ لا يُثبتُ نقصاً (4)، فَنَفْيُ النقصِ مقدَّمٌ؛ لأنه إذا أَوجَبَ نقصاً
__________
(1) تقدم تخريجه ص (40).
(2) في الأصل: "بقضاء الصَّحابى".
(3) عن أبي موسى الأشعري: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى بالناس، إذ دخل رجل، فتردى في حفرة كانت في المسجد -وكان في بصره ضرر- فضحك كثير من القوم، وهم في الصلاة، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -من ضحك أن يعيد الوضوء، ويعيد الصلاة". تقدم تخريجه في 2/ 143.
(4) في الأصل: "بقضاء".

(5/96)


وقَدْحاً، قابَلَتْهُ مِدحةُ اللهِ سبحانَه لهم بالعدالةِ وأنَّهم خيرُ أمةٍ أُخرجت (1).

فصل
فإنْ كانَ مَعَ أحدِهما قرينةٌ تَدلُّ على الحكمِ، فإنه يترجَّحُ بها، مِثَالُه (2).

فصلٌ
فإنْ كانَ أحدُهما يجمعُ بَيْنَ الحكمينِ، والآخرُ يُسقِطُ أحدَهما، فالجامع يقدَّمُ، لأَنَّهُ لا يُسْقطُ حكمًا مِنْ أحكامِ الشرع.

فصول التراجيح التي تعودُ إلي غيرِ الإسنادِ والمتن، لكن تعود إلا غيرِهما
فصلٌ
من ذلك: أن يكونَ أحد الخبرينِ مُوافِقاً لظاهرِ القرآنِ أو السُّنةِ، فيقدَّمُ، مثلُ حديثِ التغليسِ (3) يرجَّحُ على خبرِ الإسفار (4)، لوافقَتِهِ لظاهر
__________
(1) انظر "المستصفى" 2/ 480، باب: فيما ترجح به الاخبار.
(2) سقط المثال من الأصل، ولعله أراد قوله تعالي: {أوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] حَمْله على لمس اليد أَوْلى من الجِماع، لأنه قرن ذلك بالمجيء من الغائط، وذلك يوجب الطهارة الصغرى. انظر "العدة" 3/ 1045.
(3) يعني حديث عائشة رضي الله عنها: كنَّ نساءُ المؤمنات يشهدنَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر متلفعات. بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغَلَس. أخرجه البخاري (578).
(4) أخرج ابو داود (423)، والترمذي (154)، والنسائي 1/ 218، من حديث =

(5/97)


القرآنِ، مثلُ قولِىِ: {سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، وقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أوَّلُ الوقتِ رضوانُ اللهِ" (1)، وقولِهِمْ: أَيُّ الأعمالِ أفضلُ؛ فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّلاةُ لأَوَّلِ وقتها" (2). ومثلُ قوله: "لا نكاحَ إلاَّ بولي" (3) مرجّحٌ على خَبَرِهمْ: "لَيْسَ للوليِّ معَ الثيب أمر" (4) بحديث عائشةَ عن النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -:"أيما امرأةٍ نكحت نفسَها بغيرِ إذن وليِّها، فنكاحُها باطلٌ" (5)، لأَنَّ ظاهرَ القرآن والسُّنَّةِ حجةٌ في أنفسهما، فأوْلى أن يرجَّح بهما الخبرُ.

فصلٌ
فإنْ كانَ مَعَ أحدِهما ظاهرُ القرآن، ومَعَ أحدِهما ظاهرُ سنةٍ اخْرى، فايهما أَولى؟
ظاهرُ كلامِ أحمدَ: أَنَّ الحديثينِ إذا تعاضَدَا كانا مقدَّمَيْنِ على حديثٍ مَعَهُ ظاهرُ القرآنِ، وهذا يَنْبَنِي على أَصلٍ اختَلفَ مذهبُه فيهِ، وهوَ إذا
__________
= رافع بن خديج أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر". ويُحمل الاسفار على إطالة القراءة حتى يخرج من الصلاة مسفراً. انظر "فتح الباري" 2/ 55.
(1) أخرجه الترمذي (172) من حديث ابن عمر، وقال: حديث غريب.
(2) أخرجه الترمذي (170) والحاكم 1/ 189، من حديث أم فروة.
(3) تقدم تخريجه في 3/ 308.
(4) أخرجه أبو داود (2100)، والنسائي 6/ 85، وابن حبان (4089).
(5) تقدم تخريجه 2/ 147.

(5/98)


تَقابل لفظُ السُّنَّةِ ونطقُ القرآنِ آُيهما أَوْلى؟ فيه خلافٌ عَنه، فرُوِيَ أَنَّ السُّنَّةَ مقدَّمةٌ، لأَنَّها تَبْيينُ القرآنِ وتفسيرُهُ، والثَّاني: نُطقُ القرآنِ أَوْلى، لأنَّه مقطوعٌ بطريقِهِ (1).

فصلٌ
فإنْ كانَتْ ألفاط أحدِ الخبريْنِ مختلفةً، والآخرُ ألفاظُهُ غير مختلفةٍ، بَيِّنٌ، لفظُه واحدٌ، فيحتمل أَنْ يكونَ غيرُ المختلفِ مقدَّماً ومرجحاً (2)؛ لأَنَّه يدلُّ على ضبطِ رواتِهِ لعدمِ الاختلافِ فيهِ، ويحتملُ أَنْ لا يرجحَ؛ لأَنهُ يجوزُ أنْ يكونَ اختلافُ الألفاظِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَهُ في مواضعَ مختلفةٍ بَيْدَ أنَّه لا يختلفُ والمعنى، ويحتملُ أَنْ يكونَ رواهُ بعضُهم بالمعنى والآخرُ باللَّفظِ، فاختلفتْ ألفاظُهُ مِنْ هذا الوجهِ، وذلكَ مثلُ خبرِ التقديرِ للماءِ في حملِ النَّجاسةِ.

فصلٌ
فإنْ كانَ أحدُهما موافقاً للقياسِ، والآخرُ يخالف القياسَ، فالموافقُ للقياسِ أَولى، وذلكَ مثلُ قولهِ عليه الصلاةُ والسلامُ: "ليسَ على المسلمِ في عبدِهِ ولا في فرسِهِ صدقةٌ" (3)، فيُقدَّمُ على حديث غُورك السَّعدي (4)،
__________
(1) "المسوَّدة": 311 - 312.
(2) في الأصل: "المتخلف مقدم ومرجح".
(3) أخرجه البخاري (1463) (1464)، ومسلم (982) من حديث أبي هريرة.
(4) ضعَّفه الدارقطني، وخبرُهُ: أخرجه البيهقي في "الكبرى" 4/ 119 من طريقه عن =

(5/99)


وموافقتُه القياسَ لخبرِ نفىِ الصَّدقةِ في الخيلِ، وهوَ أَنَّ ما لا تجبُ الزكاةُ في ذكورِهِ لا تَجبُ في ذكورِهِ وإِناثِهِ، كالبغالِ والحميرِ وسائرِ الحيواناتِ غيرِ الأنعامِ، ولا تَجبُ الزكاةُ فيه من جنسِهِ.

فصلٌ
فإنْ كانَ مع أحدِهِما حديثٌ مرسلٌ، فإنهُ يقدَّمُ على ما لَيْسَ معه حديثٌ آخرُ مرسلٌ ولا غيرُهُ؛ لأنَّ المرسلَ معَ المسندِ يقويه؛ لأنَّهُ جاءَ مِنْ طريقَيْنِ.

فصل
فإنْ كانَ أحدُهما عَمِلَ بِهِ الأئمةُ الأربعةُ [فيُقدَّم ويُرجَّح]، كما رَوَيْنا في تَكْبيراتِ العيدينِ سبْعاً وخَمْساً، وقدَّمنَاهُ على روايةِ مَنْ روى أَرْبَعاً كأربع الجنائزِ؛ لأنه عَمِلَ بِهِ أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ، وقدْ نَصَّ أحمدُ على هذا في عِدَّةِ مواضع في حديثِ الوضوءِ ممَّا مست النَّارُ (1)، وروي أَنَّهُ أنتهَس عَظْماً، وصلى ولم يتوضأ (2)، نَظَر إلى أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ
__________
= جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "في الخيل السائمة في كل فرسٍ دينار". قال البيهقي: تفرد به غورك هذا.
(1) أخرجه أحمد (7605)، ومسلم (352)، والنسائي 1/ 105، وابن حبان (1147) من حديث أبي هريرة. بلفظ: "توضؤوا بما مسَّت النار".
(2) أخر جه أحمد (1988)، والبخاري (207)، ومسلم (354)، وأبو داود (187)، من حديث ابن عباس نحوه.

(5/100)


وعليٍّ، لم يتوضؤوا مِمَّا مَسَّتِ النّارُ، وإنَّماَ رجَّحْنا بعملِهمْ وقولِهمْ، لأَنَّ هذا أَمْرٌ طريقُهُ غلبةُ الظَنِّ، ولا شَكَّ أَنَّ الأئمةَ والخلفاءَ الذينَ بَلَغُوا مِنَ الإسلامِ المبلغَ الذي حازُوا به الفقهَ ولَمْحَ أَقْوَالِه - صلى الله عليه وسلم - وأفعالِهِ، يقوى الظَّنُّ فيما تضمنَه الخبرُ مِنَ الحكمِ إذا كانوا بِهِ عاملينَ وقائلينَ، ويُرجَّحُ على حديثٍ لَمْ تَعضُدْهُ أقوالُهم وأفعالهم.

فصلٌ
ولا يُرجحُ أحدُهما بعملِ أهلِ المدينةِ خلافاً لأصحابِ الشَّافعيِّ في قولِهم: يُقدَّمُ ما عملَ بِهِ أهلُ المدينةِ، وذكروا ذلكَ في حديثِ الترجيع في الأَذانِ (1)، وأنَّه يُقَدَّمُ على غيرِهِ.
وكذلكَ لا يُرجَّحُ أحدُ الخبرينِ على الآخرِ بعملِ أهلِ الكوفةِ، خلافاً لأصحابِ أبي حنيفةَ فيما حكاه الجُرْجَاني في "أصوله": أنَّه يقدَّم بعمل أهل الكوفة إلى زمن أبي حنيفة قبلَ ظهورِهِ، قالوا: لأَنَّ أُمراءَ بني مروان [غلبوا] (2) على المدينة والكوفة، وكانَ منهم تغييرٌ للسُّنن.

فصلٌ
والدلالةُ على أَنَّه لا يرجَّحُ بقولِ أهلِهما: أَنَّه لا يجوزُ أنْ تكونَ المراعاة
__________
(1) أخرجه أبو داود (499)، والترمذي (191)، والنسائى 2/ 6، وابن ماجه
(708) (709) من حديث أبي محذورة.
(2) ليست في الأصل، انظر "العدة" 3/ 1052 - 1053.

(5/101)


لنفع البلدِ وعينه، لم يبقَ إلاَّ أَنهم نظروا إلى مصيرِ ألصَّحابةِ إليهما، وتوفرِهم (1) فيهما، وذلكَ خطأٌ في القولِ، إصابةٌ في المعنى، فإنْ كانَ لعملِ الصَّحابةِ فليقولوا ذلكَ، فإنَّ الخبرَ الذي عملتْ بِهِ الصَّحابةُ حيتُّ كانوا مِنَ البلادِ مقدَّمٌ عندَ كلِّ عالمٍ بالحديثِ، ونقدرُ موافقَتَهم، ولو كانَ بغيرِ المدينةِ والكوفةِ من أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بمتابعتِهِ للحديثِ، ومعَ انتشارِ الصَّحابةِ في البلادِ لا معنى لاطراح من لم يكنْ بهذينِ البلدينِ.

فصلٌ
فإنِ اقترنَ بأحدِ الخبرينِ تفسيرُ الراوي بفعلِهِ أو قولِهِ، كانَ مرجَّحاً ومقدَّماً على ما لم يقترنْ بِهِ تفسيرُهُ، مثلُ ما روى جابرٌ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أيما رجل أُعمِرَ (2) عُمْرَى له ولِعَقِبِه، فإنها للذي (3) يُعطَاها، لا ترجِعُ إلى الذي أَعطاها؛ لأَنَّهُ أَعطى عَطاءً وقعت فيهِ المواريث" (4)، فَقُدِّمَ على روايةِ مَن روى: "مَنْ أُعمِرَ عُمرى فهيَ لَه ولِعَقِبِهِ يرثُها مَنْ يَرِثهُ مِنْ عَقِبِهِ" (5)، كَما رَوى معمرٌ عنِ الزُّهريِّ عنْ أبي سلمةَ عنْ جابرِ بنِ عبدِ
__________
(1) في الأصل: "وتوقيرهم".
(2) في الأصل: "عمر".
(3) في الأصل: "والذي".
(4) أخر جه أحمد 3/ 360، ومسلم (1625)، وأبو داود (3553)، والترمذي (1350)، وابن ماجه (2380).
(5) أخرجه أبو داود (3551)، والنسائي 6/ 275.

(5/102)


اللهِ أَنّهُ قالَ: "إنما العُمرى التي أجازَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يقولَ: هيَ لكَ ولعَقِبِكَ، فأمّا إِذا قال: هيَ لكَ ما عِشْتَ، فإنّها ترجعُ إلى صاحبِهِا" (1).
ومثلُ خبر التفرقِ في خيارِ المجلسِ، حَمَلَهُ على التفرفِ بالبَدَن لما رويَ عنِ ابنِ عمرَ أَنّه كانَ إِذا أَرادَ أَنْ يوجب البيعَ مشى قليلاً ثم رجع (2)، وقال أبو بَرْزةَ: لا أُراكُما تفرقتُما (3).
وكذلكَ رجع أَحمدُ في صومِ يوم شك بالغيمِ إلى تفسيرِ ابنِ عمرَ "فاقْدُرُوْا له" (4)، وأَنَّه كانَ يتراءَىَ الهلالَ، فإنْ كانَتِ السَّماءُ ذاتَ غيمٍ أصبحَ صائماً، وإنْ كانَت مصحيةً أصبحَ مفطراً.
__________
(1) أخرجه مسلم (1625) (23).
(2) أخرجه مسلم (1513) (45)، وهو عند البخاري (2107) بنحوه.
(3) أخرجه أحمد 4/ 425، رأبو داود (3457)، وابن ماجه (2182).
(4) أخر جه أحمد (5294)، والبخاري (1906) (1607)، ومسلم (1080) (3)، والنسائي 4/ 134.
وأخرجه أحمد (4488)، ومسلم (1080) (6).

(5/103)


فصولُ الإجماع (1)
وقَدْ قدَّمنا حدَّهُ ورَسْمَه في الحدودِ والعقودِ التي افتتَحْنا بها كتابنا هذا (2).

فصلٌ
والإجماعُ حجةٌ ماقطوعٌ بها، فإذا اتفَقَ الفقهاءُ على حكمِ حادثةٍ، كانَتْ حجَّة معصومةً ودلالةً قطعيةً متبعةً، نصَّ عليه صاحبُنا أحمدُ بنُ حنبلٍ. ورويَ عنه ما يدلُّ على استبْعادهِ لِلإحماع فقالَ: مَنِ ادَّعى الإجماعَ فهوَ كذابٌ، لعلَّ النَّاس قَدِ اختلفُوا، هذِهِ دعوى بشْر المَريسِي والأصمِّ، ولكن يقولُ: لا نعلمُ النَاسَ اختلفُوا، أَو لم يبلغني أَنًّ الناسَ اختلفُوا.
وقَالَ أَيضاً: كيفَ يجوزُ للرَّجلِ أنْ يقولَ: أَجْمَعُوا؟ إذا سمعتَهم يقولونَ: أَجْمعوا، فانهَهُمْ، لو قالَ: إني لم أعلمْ مخالفاً جازَ.
وهذا منْهُ على طريقِ الورعَ، أو أنَّ الغالبَ أنَهُ لا يحيط علماً. بمقالةِ المُجْتهدينَ في الأَقطارِ معَ تباعُدِها وكثرةِ المجتهدينَ، وكيفية قولهم في الحادثةِ، وعدمُ الثقةِ ببقاءِ المفتي على فتواهُ، معَ تجويزِ أنْ يكونَ رجعَ فيما أفتى به أوَّلاً، فهذا وأمثاله أوجبَ استبعادَهُ لإطلاقِ الاجماع، وإنما تأوَّلنا هذه الرواية؛ لأَنَّه (3) قد حُقِّقَ الإحماعُ في عدَّةِ مواضعَ، وبهذا قالَ أكثرُ
__________
(1) انظر "العدة" 4/ 1057 وما بعدها.
(2) انظر ما تقدم في 1/ 42.
(3) في الأصل: "أنه".

(5/104)


الفقهاءِ والمتكلمينَ
قالتِ الإماميةُ: ليس بحجَّةٍ، لكن فيه حجةٌ وهو الإمامُ المعصومُ، وإن خُولِفَ لم يُعتدَّ بخلافِ مَنْ خالفه. وقالَ إبراهيمُ النَّظَّام (1): ليس بحجةٍ، ويجوزُ اجتماعُ الأمَّةِ على الخطأ، ولا معصوم بعد موتِ النبي - صلى الله عليه وسلم -.

فصلٌ
في أدلَّتِنا السَّمعية
فمنها: قولُهُ تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
والسَّبيلُ هاهنا هو الطرَّيقُ، ولا طريقَ يحصلُ الوعيدُ على سلوك غيره إلاَّ ما أَوْجَبَة اجتهادهم، إذْ كانَ ما أوجَبَهُ نصُّ القرآنِ، أو تواتُر السُّنَّةِ، فذاكَ سبيل اللهِ ورسولِهِ، أخصَّ به من الإضافة إليهم. والمؤمنونَ هاهنا هُمُ العلماءُ، إذ قَدْ أَجْمَعْنا على أنَّ العوامَ والجهَّال لا سبيلَ لهم يُتَّبَعُ، فلم يبقَ إلاَّ العلماءُ، وقد تواعدَ على اتِّباع غيرِ سبيلهم، فثبتَ أنَّ سبيلَهم حقٌّ متَّبعٌ ودليلٌ مرشدٌ، والمخالفُ له مستحقٌّ للعقابِ بالوعيدِ المنصوصِ في الآيةِ، إذْ ليسَ بينَ سبيلِهمْ وبَيْنَ سبيلِ غيْرِهم قسمٌ ثالثٌ، فتعيَّنَ اتباعُ سبيلِهم حيثُ حصلَ الوعيدُ على اتباع غيرِ سبيلِهِمْ.
__________
(1) هو: إبراهيم بن سيَّار بن هانئ النظام، البصري، المعتزلي، له آراء شاذة وأتباع سُموا بالنظامية، وكان ذا ذكاء وفصاحة. انظر "تاريخ بغداد" 6/ 67.

(5/105)


ومنها: قولهُ تَعالى؛ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] يعني: عدولاً بدليلِ قولِهِ سبحانه: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)} [القلم: 28]، وقال الشَّاعرُ:
همُ وَسَطٌ ترضى الأنَامُ بحكمِهمْ .... إذا نَزَلَتْ إحدى الليالي بمُعظِمِ (1)
فوجهُ الدلالةِ أَنهُ عَدَّلَهُمْ، وجعلَهُمْ حجَّةً على النَّاسِ في قبولِ أقوالِهم، كما جَعَلَ الرَّسولَ - صلى الله عليه وسلم - حجَّةً علينا في قبولِ قولِهِ علينا.
ومنها: جهةُ السُّنَّةِ: ما رويَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه قالَ: "أُمَّتي لا تجتمع على ضلالة"، ورويَ: "لا تجتمعُ أمتي على ضلالةٍ" (2) وروي: "على الخطأ"، ورويَ عنْهُ - صلى الله عليه وسلم -: "لم يكنِ الله ليجمعَ هذه الأمة على الخطأ" (3)، وروي عنه في:"ما رآه المسلمون حسناً فهوَ عندَ اللهِ حسنٌ، وما رآهُ السلمونَ قبيحاً فهوَ عندَ اللهِ قبيحٌ" (4)، وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ فارقَ الجماعةَ
__________
(1) البيت لزهير وهو في معلقته المشهورة، لكنْ صدرُه يختلف هاهنا، ورواية العلقة (شرح المعلقات للزوزنى طبعة دار صادر) ص 85:
لحيِّ حِلال يعصمُ الناسَ أمرهم ... إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم
وانظر: "البيان والتبيين" 3/ 225، وأساس البلاغة (وسط).
(2) تقدم تخريجه 2/ 211.
(3) هو حديث حسن. بمجموع طرقه، انظر "السنة" لابن أبي عاصم (82 - 85) و (92) بتخريج الألباني.
(4) أخرجه أحمد (3600) من حديث عبد الله بن مسعود موقوفاً. وإسناده حسن.
وروي مرفوعاً بإسناد تالف من حديث أنس عند الخطيب في "تاريخه" 4/ 165، وأورده ابن الجوزي في "العلل التناهية" (452) وقال: هذا الحديث إنما يعرف من كلام ابن مسعود.

(5/106)


قِيدَ شبرٍ، فقدْ خلعَ رِبْقةَ الإسلامِ منْ عنقِهِ" (1)، ورويَ أَنَّه نهى عنِ الشُّذوذِ، وقالَ: "مَنْ شَذَّ شَذَّ في النارِ" (2)، وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "عليكمْ بالسوادِ الأعظمِ" (3). وروفيَ عنهُ - صلى الله عليه وسلم -: "عليكمْ بالجماعةِ فإنَّ الذِّئب يطلبُ -ورويَ: يأكلُ- شاردة الغنمِ"، ورويَ: "يأكلُ القاصيةَ من الغنمِ" (4)، ورويَ: "عليكم بسُنَّتي وسنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدينَ منْ بعديِ" (5).
فهذهِ أخبار وردتْ منْ طرقٍ كثرة كلُّها دالٌّ على وجوبِ اتِّباع العلماءِ إذا أَجْمعوا على حكمٍ منَ الأحكامِ.

فصلٌ
يجمع الأسئلة لهم على أدلَّتنا
فمنها: ما وَجَّهُوْهُ على الآية الأُولى.
قالوا: نحنُ نقولُ: بأَنَّ الوعيدَ لاحقٌ بِمَنْ شاقَقَ الرَّسولَ، ويتبعُ غيرَ سبيلِ مَنِ اتَّبَعَهُ، فالوعيدُ لَحِقَ بهما، فلا يعلمُ أنَّهُ يلحقُ. ممَنْ أفردَ اتباعَ غيرِ
__________
(1) أخرجه أحمد 5/ 180، وأبو داود (4758) وابن أبي عاصم في "السنة" (892) من حديث أبى ذر.
(2) أخرجه الترمذي (2167) من حديث ابن عمر.
(3) أخرجه ابن ماجه (3950) من حديث أنس.
(4) أخرجه أحمد 5/ 196، وأبو داود (547)، والنسائي 2/ 83 من حديث أبي الدرداء.
(5) تقدم تخريجه 1/ 280.

(5/107)


سبيلِ المؤمن عن مشاقَّةِ الرَّسول.
ومنها: أَنَّهُ يحتملُ الوعيدُ أَد يكونَ عادَ الي مشاقَّةِ الرَّسو واتباع غيرِ سبيلِ المؤمنينَ في موافقتِهِ وترك مشاقَّتِهِ، هذا هوَ الظاهر كما إذا قالَ القائل: منْ يشاققِ الأميرَ أوِ الملكَ ويتبعْ غيرَ سبيلِ جندِهِ (1)، فعليهِ كذا، يرجعُ إِلى أَنَّ الوعيدَ لحقَ. بمشاقتِهِ وعدمِ الدُّخول فيما دخلَ فيهِ أهل طاعتِهِ، فيعودُ الكلُّ إِليهِ.
والدليلُ عليهِ: أَنَّ مُشاقَّةَ الرَّسولِ على انفرادِها -ولوْ لم نكُنْ نؤمِنُ- يلحق الوعيدُ بها، فدلَّ على أَنَّ الوعيدَ رجعَ إليها خاصَّةً، وذُكِرَت مشاقَّةُ الؤمنينَ تبعاً.
ومنها: أَنْ قالوا: لا حجَّةَ في الآيةِ لإثباتِ الإحماع حجَّة، لأنه شَرَطَ في الآيةِ لِلُحوقِ الوعيدِ: {مِنْ بعدِ ما تبيَّنَ لَهُ الهُدى} [النساء: 115]، والهُدى لا يتبيَّن إلاّ بدليلٍ، وفي الدليلِ حجةٌ كافيةٌ لوجوبِ الاتباع ولحوقِ الوعيدِ بالعدولِ عنهُ وتركِ الاتباع لَهُ، وإنما كانَ الوعيدُ حجَّةً لترك الإجماع إذ لَوْ لَمْ يَبِن الهُدى إلاَّ بالإجماع، فأمَّا إذا كانَ بيانُ الهُدى بغيرِ الإجماع، فلم يَبْقَ للإجماع عمل في الدلالة والحجة.
ومنها: أنَّ قوله: {ويَتَّبِعْ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ} [النساء: 115] يرجعُ إلى ما كانوا بهِ مؤمنينَ، والذي كانوا بهِ مؤمنينَ إِنَّماَ هوَ الاعتقادُ وكلمةُ الإسلامِ، ونحنُ قائلونَ بلحوقِ الوعيدِ الَذي تضمَّنَتْهُ الآيةُ. ممَنْ عَدَلَ عَنِ
__________
(1) في الأصل: "سبيل المؤمنين جنده".

(5/108)


اتِّباع السَّبيل الذي كانوا بِهِ مؤمنينَ، وهوَ الإيمانُ.
يدلُّ على ذلكَ: أَنَّهُ لَوْ قالَ: مَنْ لم يتبعْ سبيلَ أهلِ العدالةِ أوِ الخيرِ، ولَّيْنَاهُ ما تَوَلَّى، رجعَ إلى سبيلهِم في الخيرِ والعدالةِ، كذلكَ يجب رجوع الاتباع هاهُنا فيما كانوا بِهِ مؤمنينَ، لا بما آمنوا بِهِ مِنَ الفروع.
ومِنْها: أَنْ قالوا: المؤمنون (1) لا معرفةَ لنا بأعيانِهم، ولا بالاعتقاداتِ التي يكونون (2) بها ولأجلها مؤمنينَ، فلمْ يبقَ أَنْ تكونَ الحَوَالة إلاَّ على مشاقَّةِ الرَّسولِ الذي وَضَحَتْ دلالتُهُ، وبانَ برهانُهُ بالمعجزاتِ الباهرةِ.
ومنها: أَنْ قالوا: إنَّ الله تعالى إنَّما أَلْحقَ الوعيدَ. بمتبع غيرِ سبيلِ المؤمنينَ، وغيرُ المؤمنينَ هُمُ الكفَّار، فكأَنَّه قالَ: مَنْ يُشاققِ الرَّسولَ ويكفُرْ، نولِّهِ ما تَوَلَّى، وليسَ فِى الآية سوى هذا نطقاً، ونحنُ قائلونَ به.
ومنها: أَنَّ الوعيدَ إِنَّما أضافَهُ إلى مَنِ اتَبعَ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ كلِّهم، وذلكَ يَعُمُّ كل مؤمنٍ إلى يومِ القيامةِ، وذلكَ لا يتحققُ حجَّةً في عصرٍ منَ الأَعصارِ، فلم تتحقَّق مِنَ الآيةِ دلالةٌ.
ومنها: أَنَّة لَوْ كانَ المرادُ بالوعيدِ مخالفةَ كلِّ مَنْ هوَ مؤمنٌ حقيقةً، لعَمَّ العالِمَ والعاميَّ، فلما لَمْ يعمَّ عُلِمَ أَنَّه لم يَعُدِ الوعيدُ إلى الإجماع الذي ذهبتَ إليهِ، إذْ ليس بعضُ المؤمنينَ بحكمِ لفظِ الآيةِ أَوْلى مِنْ بعضٍ.
__________
(1) في الأصل: "المؤمنين".
(2) في الأصل: "يكونوا".

(5/109)


ومنها: قولهم: إنَّ الآيةَ لا حجَّةَ علينا بها؛ لأَنَّها دليل خطابٍ، لأَنّه إنَّما واعدَ على اتباع سبيلِ غيرِ المؤمنينَ، فاستدلَلْتُمْ بِهِ على وجوبِ اتِّباع المؤمنينَ، ولا يجوزُ التعلُّقُ بدليلِ الخطابِ في مثلِ هذا الأصلِ العظيمِ، وليسَ بحجةٍ عنْدَنا.
ومنها: قولُهم: إنَّ سبيلَ المؤمنينَ في الحوادثِ الاجتهادُ (1) دونَ التقليدِ، وما مِنْ علماءِ العصرِ أحدٌ صارَ إلى قول غيرِهِ، بلِ اجتهدَ فصارَ منها إلى ما أَدَّاهُ اجتهادُه إليهِ، وهذا يعطي الحجةَ مِنَ الآيةِ عليكم لا لكم.
والذي يشهدُ لهذا أَنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ -رضيَ الله عنْهُ- لمَّا قيلَ لَهُ: وسنة الشيخينِ، نَزَعَ يَدَهُ وقال: بل أجتهد رأيي (2)، كلُّ ذلك نفوراً من التقليد الذي لا يحلّ لمجتهدٍ سلوكه.
ومنها: سؤالُ الشيعة: إننا قائلون بالآية، فإنَّ مِنْ جملةِ المؤمنينَ الأئمَّة المعصومينِ، وهم الحجَّةُ (3).
ومنها: ما وجَّهوهُ على الآيةِ الأخرى: أَنَّ شهادةَ القرآنِ لهم بأَنهم عدولٌ، لا تُوجبُ أَنْ يكونَ قولُهم حجةً معصومةً، كما لا توجبُ كونَهم معصومينَ مِنَ الصَّغائرِ.
ومنها: أَنَّ المرادَ بهِ شهادتُهم يومَ القيامةِ، لأَنَّ الرَّسولَ إنَّما يكونُ
__________
(1) في الأصل: "والاجتهاد".
(2) انظر "مسند الإمام أحمد (557)، و "فتح الباري" 13/ 197.
(3) في الأصل: "المؤمنين الإمامين المعصومين وهو الحجة".

(5/110)


شْهيداً على الأمةِ يومَ القيامة، فلا يعطي هذا كونَ اتباعهِم واجباً، ولا قولَهم في الدنيا حجَّةً.
ومنها: ما وجَّهوهُ على الأَخبارِ مِنَ الأسئلةِ: أَنَّ هذه أخبارُ آحادٍ لا يثبتُ بمثلِها إجماعٌ، كما لا يثبتُ بها بعثة نبي، ولا تثبتُ بها هذهِ الأصولُ.
ومنها: أَنَّها مختلفةُ الأَلفاظِ.
ومنها: أَنَّ معنى قولِهِ: "أُمتي لا تجتمعُ على ضلالةٍ" يعني: على كفرٍ، كما اجتمعت النَّصارى على عبادةِ عيسى، واجتمعتْ بنو إٍ سرائيلَ على عبادةِ العجلِ، بل خصَّ الله هذهِ الأمةَ بأنَّ فيها طائفةً مُحِقة، كما قالَ: "واحدةٌ ناجيةٌ من نيِّفٍ وسبعينَ فرقةً" (1).

فصلٌ
في الأَجوبةِ عَنِ الأسئلةِ على أدلَّتنا السَّمعيةِ
أَمَّا الأوَّلُ: فحملُهم الوعيدَ على مشاقَّةِ الرَّسولِ خاصةً فغيرُ صحيح؛ لأنَّ الذَّمَّ والوعيدَ إذا عُلِّقا (2) على شيئينِ اقتضى أَن يكون كلُّ واحدٍ منهما مشاركاً للآخرِ في الذمِّ إلى أنْ تقومَ دلالةُ التَّخصيصِ، كما إِذا
__________
(1) أخرجه بنحوه أحمد في "المسند" (12208) -طبع مؤسسة الرسالة- من حديث أنس بن مالك. وانظر تمام تخريجه هناك.
(2) في الأصل: "علق".

(5/111)


انتظَم لفظُ العمومِ أشخاصاً، شَمِلَهم حكمُ العمومِ ما لم تخرِجْ دلالةُ التخصيصِ أحد الأشخاصِ، وكذلكَ إذا انتظَمَ الأمرُ أفعالاً استدْعَاها الآمرُ وجَمَعَ بَينها في استدعائِهِ، كأنتْ على حكمِ الآمرِ إيجاباً أو نَدْباً، إلاّ أَنْ تقومَ دلالةُ تخصيصِ أحدِ المستدعَياتِ مِنَ الأفعالِ بإخراجِها عن مُقْتَضَى إطلاقِ الأمرِ، ولهذا لمَّا قالَ سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] كانَ الوعيدُ لاحقاً بالجميع وبكلِّ واحدٍ من ذلكَ على الانفرادِ.
وأمَّا قولُهم: يحتملُ أنْ يكونَ اتباع غيرِ سبيلِ المؤمنينَ الي مشاقَّةِ الرَّسولِ، فسبيلُ المؤمنينَ معَ النبيِّ الموافقةُ، وغيرُ سبيلِهم المشاقةُ لَهُ في تركِ اتِّباعِهِ، فليسَ بصحيح؛ لأَنَّ الظَّاهرَ أَنَّ الثانيَ غير الأوَّلِ، فحملُهُ على الأوَّلِ يُسقِطُ فائدةَ ذِكرِهِ للثاني؛ إذْ كان قولُكم: الكلُّ راجع إلى مشاقَّةِ الرَّسولِ، على أنَّ هذا تخصيصٌ بغيرِ دليل.
وأمَّا قولُهمْ إنَّه شَرَطَ في لحوقِ الوعيدِ أَنْ يكونَ منْ بعدِ ما تبيَّنَ لَهُ الهُدى، والهُدى لا يتبيَّنُ إلأ بدليل، وذلكَ حجةٌ كافيةٌ قبلَ الاجماع، وحاصلَةٌ مِنْ غيرِ إجماع، فغيرُ لازمٍ؛ لأَنَّ تبيُّنَ الهُدى بدليلٍ بعدَ الوعيدِ (1) [يرجع] إلى تركِ الحكمِ الثَّابتِ بذلكَ الدليلِ، فلا يكونُ لعَودِهِ إلى اتِّباع غيرِ سبيلِ المؤمنينَ وإلى تركِ سبيلِ المؤمنينَ معنى؛ لأنَّ مَنْ تَرَكَ حكمَ
__________
(1) في الأصل: "الوعد".

(5/112)


الدليل لحِقَهُ الوعيدُ، سواءٌ كانَ سبيلاً لأحدٍ أو لم يكنْ، ولأَنَّه إنَّما شرط تبيُّن (1) الهُدى مشاقَّةِ اْلرّسولِ، ومشاقَّةُ الرَّسولِ لا تكونُ مُستَحَقًّا عليها الوعيدُ إلاَّ بعدَما تبيَّنَ بالدليلِ أَنَّه رسولٌ، وأَمَّا في تركِ سبيلِ المؤمنينَ واتباع سبيلِ غيرِهِم، فقدْ أطلقَ الوعيدُ، فوجَبَ أَنْ يتعلَّقَ الوعيدُ بمخالفتِهم بكلِّ حالٍ.
وأمَّا قولهم: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] يرجعُ إلى ما كانوا بِهِ مؤمنينَ -وهوَ الإيمان-، فتخصيصٌ (2) لعمومِ الاتباع بغيرِ دليلٍ، واللَّفظُ يعمُّ كلَّ سبيلٍ مِنْ مذهبٍ ودينٍ، أَلاَ تَرَى أَنه إذا قالَ: اتبعْ سبيلَ المؤمنينَ، عمَّ الأمرُ باتِّباعهم جميعَ ما ذهبوا إليهِ مِنَ السُّبلِ، وكذلكَ إذا قالَ: اتبعْ سبيلَ العلماءِ، رجعَ إلى ما كانوا بِهِ علماءَ وما لَمْ يكونوا بِهِ علماءَ؛ ولأنَّ السَّبيلَ الذيْ كانوا بهِ مؤمنينَ، قدِ استُفِيْدَ تحريمُ تركِهِ والوعيدُ عليْهِ مِمَّا استفيدَ مِنْ مشاقَّةِ الرًّسولِ؛ لأَنها بنفسِها كفرٌ.
وأمَّا قولُهم: فالمؤمنونَ لا معرفةَ لنا بأعيانِهمْ، فغيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ الإيمانَ وإنْ كانَ عَنَّا غائباً إلاَّ أَنَّ له شواهدَ علَّقَ الشَّرعُ عليها أحكامَ الإِيمانِ، بشواهدِ الأَقوالِ والأفعالِ التي عليها بنينا حكمَ العِتقِ في كفَّارةِ القتلِ والظِّهارِ، وعليها ينبني الحكمُ بتَبَعيَّةِ الأَولادِ في الإيمانِ، وغيرِ ذلكَ مِنَ الأحكامِ، ولم نُكَلَّفِ العلمَ بالباطنِ إِلاَّ بهذا الطريقِ.
__________
(1) في الأصل: "تبيين".
(2) في الأصل: "تخصيص".

(5/113)


وأما قولُهم: إنَّما أُلحِقَ الوعيدُ. بما تضمَّنهُ النّطقُ: وهو اتباعُ غيرِ سبيلِ المؤمنينَ وهمُ الكفارُ، فكأنَّهُ قالَ: [مَن] يشاققِ الرَّسولَ (1 ويكفُرْ نُوَلِّه1) ما تَوى ونُصْلِه جهنمَ، فغيرُ صحيح؛ لأنهُ لو أرادَ ذلكَ فقطْ منْ غيرِ إيجابِ اتِّباع سبيلِ المؤمنينَ، لقَنِعَ بذكرِ مشاقةِ الرَّسولِ، ففيها الكفر، والوعيدُ يكفي في ذلكَ، فلمَّا عطفَ اتباعَ غيرِ سبيلِ المؤمنينَ على مشاقَّةِ الرَّسولِ، عُلِمَ أنَّه أمرٌ يستحقُّ الوعيدَ عليه (2).
وأمَّا قولُهم: إنه أضافَ الوعيدَ إلى مَنِ اتَّبعَ غيرَ سبيلٍ المؤمنينَ كلِّهم، وذلك يعمُّ كلَّ مؤمنٍ إلى يومِ القيامةِ، وذلك لا يتحققُ في عصرٍ من الأَعصارِ، فغيرُ لازمٍ؛ لأنَّ الوعيدَ إنَّما لحق. بمخالفةِ ما يمكنُ مخالفَتُهُ، واتباع سبيلِ المؤمنينَ الذين لم (3 يُخلَقُوا غير ممكن، وخلافهم أيضاً غير ممكنٍ لأنه لا يُعلم، فتسمية ... غير المخلوق مؤمناً لا تصحُّ 3)، وإنْ سُمِّيَ كانَ مجازاً، فلا يتحققُ الإيمانُ إلاً في أهلِ العصرِ وهم بعضُ المؤمنينَ، فأمَّا جميعُهم فلا يدخلُ اتباعُهم تحتَ الإِمكانِ.
وأما قولُهم: إنَّهُ عادَ الوعيدُ إلى اتِّباع سبيل كلِّ المؤمنينَ، وذلكَ يدخلُ فيهِ العوامُّ معَ العلماءِ، فغيرُ لازمٍ؛ لأنَّ الآيةَ تقتضي أَنْ يكونَ المؤمنونَ مقسَّمينِ قسمينِ: قِسْماً تابعاً، وقسماً متبوعاً. ولو دخلَ العوامُّ
__________
(1 - 1) في الأصل: "ويكفي قوله".
(2) في الأصل: "غير".
(3 - 3) غير واضح في الأصل. وانظر "العدة" 4/ 1068، و"الستصفى" 1/ 354.

(5/114)


معَ العلماءِ لمْ يبقَ تابعٌ ولمْ يتحقَّقْ لنا متبوعٌ أَيْضاً؛ لأنَّ التبوعَ مَنْ لَهُ تابعٌ، لأَنهُ مِن بابِ المتضايفاتِ فلا بدَّ للمتبوع مِن تابعٍ، فإذا كانَ العامِّيُّ والعالمُ متبوعَينِ فأين التَّابعُ؟ وإذا لم يكن تابعٌ فأينَ (1) حقيقَةُ المتبوع؟!
وأمَّا قولُهم: إنَّ هذا استدلالٌ بدليلِ الخطابِ وليسَ بحجَّةٍ عندَنا، ولا يثبتُ بِهِ مثلُ هذا الأصلِ، فليسَ بدليلِ خطابٍ، بلِ استدلالُنا منه تحريمُ تركِ سبيلِ المؤمنينَ بإلحاقِ الوعيدِ بتركِهِ، وعندَكم لا يحرمُ أتباعُ غيرِ سبيلِهمْ، بلْ يجوزُ أَنْ يتَّبعَ ما دلَّ عليهِ اجتهادُ المجتهدِ وإنْ خالفَ سبيلَهم، ولأَنه لمَّا ذَمَّ وتواعدَ التبِعَ غيرَ سبيلِهم، لم يبقَ ما يُتبَعُ ويجبُ اتباعُهُ إلا سبيلُهم، إذْ لا سبيلَ ثالث؛ لأَنَّه لا يتحقَّقُ سبيلٌ لا هُوَ سبيلُهم ولا غيرُ سبيلِهِم.
وأمَّا قولُ الإِماميةِ: إنًا قائلونَ بالآيةِ إذا كانَ فيهم الإمامُ، فليسَ بصحيحٍ؛ لأَنَّ الآيةَ تقتضي لحوقَ الوعيدِ بِمَنْ خالفَ جماعةَ المؤمنينَ، وعندَهم إذا خالفَ الكلَّ لحِقهُ الوعيدُ بمخالفةِ الإمامِ وحدَهُ، ولوْ كانَ القصدُ الإمامَ وحدَهُ لَمَا كانَ لذِكْرِ المؤمنينَ معنًى، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لمَّا. كانَ لذكرِ المؤمنينَ معنًى عَطَفَهم على الرَّسولِ في إلحاقِ الوعيدِ. بمشاقتِهِ، ولم يقْنعْ بذكر الرَّسولِ وحدَهُ، ولا بذكْرِ المؤمنينَ على حِدَتِهم، لعِلمِهِ سبحانَهُ بأَنهُ ستحدثُ حوادثُ بعدَه يحكمُ فيها المؤمنونَ، فإذا أَجْمعوا كانَ إجماعُهم بعدَهُ في إلحاقِ الوعيدِ بِمَنْ خالَفَهُ كحكمِهِ - صلى الله عليه وسلم - حالَ حياتِهِ،
__________
(1) في الأصل: "فان".

(5/115)


وإلحاق الوعيد. بمشاقَّتِهِ، فلو كانَ الإمامُ هو المعمولَ بقولِهِ خاصَّةً، لما أُغفِلَ ذكرُهُ، فلمَّا دخلَ في عمومِ المؤمنينَ دلَّ على أَنَّ حكمَهُ حكمُ واحدٍ منهم، إذْ يبعد أَنْ يغْفِلَ المتبوعَ ويكرَ الأَتباعَ، أَلاَ تَراهُ كيفَ قَدَّمَ ذكرَ الرَّسولِ عليه الصلاةُ والسلامُ، فلو كانَ الإمامُ هو المعتبرَ، لَذَكَرَهُ مُمَيَّزاً ومخصوصاً، لا في جملةِ أَتباعِهِ، كَمَا لم يَقنَعْ (1) بذكرِ النّبيِّ في جملةِ عمومِ المؤمنينَ.
وأمَّا قولُهم: إنَّ سبيلَ المؤمنينَ -وهم الفقهاءُ- إنَّما هوَ الاجتهادُ في الحوادثِ إِذا عَرَضَتْ، فأَمَّا التقليدُ فلا، وإذا كانَ كذلكَ كانتِ الآيةُ حجَّةً لنا، حيثُ أوجبْنا الاجتهادَ في الحادثةِ التي اتفقوا على حكمِها والقولَ بما يؤدِّي الاجتهادُ إليه، وإنْ خالف ما اتفقوا عليه، ليتحقّقَ الاتباعُ الواجبُ بالآيةِ، وأَمَّا المصيرُ إلى قولِهم معَ كونِ اجتهادِ المجتهدِ يؤدي إلى حكمٍ يخالف ما ذهبوا إليه، فليْسَ باتِّباعٍ لهم، إذْ ليسَ ذلكَ طريقَ بعضِهم معَ بعضٍ، ولا طريقَ كلِّ واحدٍ منهم. فهذا من أجودِ ما وردَ فيهِ نظرٌ، إذ (2) لم أجدْ ما أرتضي سطرَه منَ الجوابِ.
والذي توجَّه لي أنَّ الصَّحابةَ -رضوانُ اللهِ عليهم- حيثُ تحرَّجوا البيعةَ على عليٍّ قبلَ عثمانَ، قالوا لَهُ: نبايعك على كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِهِ وسيرةِ الشَّيخينِ، فقالَ: بلْ أجتهدُ رأيي (3). فوجْهُ الدلالةِ أنَّه عَقَلَ
__________
(1) في الأصل: "يتبع".
(2) في الأصل:"إذا".
(3) انظر "تاريخ الطبري" 5/ 38 - 41.

(5/116)


منَ الاتباع الاقتدَاءَ بهما، والصَّحابةُ، حين (1) قالَ: بلْ أجتهدُ رأيي، لم يقلْ أحدٌ منهم: فهذا هوَ سيرتُهما، بلْ عَدَلُوا عنْهُ إلى عثمانَ، فدلَّ على أَنَّ الاجتهادَ برأيه لم يكن هُوَ الذي دَعَوْهُ إليهِ من سيرةِ الشَّيخينِ، ولي في السّؤالِ نظرٌ.
وأَمَّا سؤالُهم على الآيةِ الأُخرى وأَنَّ شهادتَهُ لهمْ بالعدالةِ لا توجبُ اتباعَهم، ولا أَنَّ قولَهم (2 حجةٌ معصومةٌ، لا يجوز عليه الخطأ، كما لا يوجب أنه لا يجوز 2) عليهمُ الصَّغائرُ منَ الذنوبِ، فغيرُ صحيحٍ؛ لأَنَّ العدالةَ توجبُ الرجوعَ إلى قولِهم ونفيَ الارتيابِ فيما أَخبروا بِهِ، كما جعلَ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنْ لَمْ يوجِبْ ذلكَ نفيَ الصَّغائرِ عنْهُ.
وأمَّا قولُهم: هذا يرجعُ إلى شهادتِهم يومَ القيامةِ، فغيرُ صحيحِ؛ لأَنَّ (3) الله سبحانَهُ جعلَ الرَّسولَ شهيداً علينا، وجعلَنا شهداءَ على النَّاسِ، فالشَّهادتانِ عامَّتانِ، فلا وجهَ لتخصيص أحدِهما بغيرِ دليلٍ، والآية التي تختصّ بالقِيامةِ (4) قولُهُ تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، فأمَّا هذهِ فلا ذكرَ للآخرةِ فيها إلاً مِنْ طريقِ العمومِ، وعمومُها يَشمَلُ الدنيا والآخرةَ في حقِّنا، كما
__________
(1) في الأصل: "حيث".
(2 - 2) غير واضح تماماً في الأصل.
(3) في الأصل: "ان".
(4) في الأصل: "القيامة".

(5/117)


شَمِل في حقِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وأمَّا ما وجَّهوهُ من الأسئلةِ على الأخبارِ، وقولهم: إنْها أخبارُ آحادٍ توجبُ الظنَّ، وإنَّ كلامَنا في أصلٍ يقتضي القطعَ، فليسَ بصحيح؛ لأَنَّ هذه الأخبارَ مُتلقّاةٌ بالقَبولِ، ومعَ كثرتِها وسلامة طرقها لا يجوزُ أَنْ تكونَ كذباً، أو هي تواترٌ منْ طريقِ المعني، فهيَ كشجاعةِ علي، وسخاءِ حاتمٍ (1)، وفصاحةِ قُس (2)، وفَهَاهَة باقِلِ (3)، وبُخْلِ مادِرٍ (4)، فإنَّ ما ورد في حقِّهم من أخبار صارَ بكثرتِهِ تواتراً في الجملةِ، وإنْ كانَ آحاداً في التفصيلِ.
__________
(1) هو: الطائى، انظر ما تقدم في 2/ 139.
(2) في الأصل: "قيس"، وقُس: هو: ابن ساعدة الإيادي، انظر ما تقدم في 2/ 139.
(3) في الأصل: "باقيل"، وانظر ما تقدم في 2/ 139.
(4) هو رجل من بني هلال بن عامر بن صعصعة، سار به المثل في البخل، وحمي مادراً لانه سقى إبله فبقي في أسفل الحوض شيء من الماء، فبخل به أن ينتفع به غيره فسلح فيه ومدر الحوض بالسَّلح، أي لطخه وطلاه. "شروح سقط الزند" 2/ 535.
ولقد أجاد المعريُّ في قوله:
إذأوصف الطائىَّ بالبخل مادرٌ ... وعيَّر قُسًّا بالفهاهة باقلُ
وقال السُّها للشمس أنت خفيَّةٌ ... وقال الدجى يا صبح لونك حائلُ
وطاولت الأرضُ السمَّاءَ سفاهةً ... وفاخرتِ الشُّهبَ الحصى والجنادلُ
فيا موتُ زر إنَّ الحياةَ ذميمةٌ ... ويا نفسُ جدِّي إنَّ دهركِ هازلُ
"شروح سقط الزند" 2/ 533 - 538.

(5/118)


ولأَنَّ هذا الأصلَ ليس يتخصَّصُ بأدلةِ القطع، بلْ يُستدلُّ فيهِ بظاهرِ الآى وأخبار الآحاد وإلاستدلالات الظَّنِّيَّة، ولهذا لم نبدع المخالفَ فيه، ولم نفسِّقْهُ، بخلافِ أصولِ الدِّينِ.
وأمَّا قولُهم: قدِ اختلفتْ ألفاظُها، فهيَ وإنِ اختلفَتْ إلاَّ أَنَّ المعنى واحدٌ، وهو عِصْمةُ الأُمَّةِ وتبعيدُ الخطأِ عنهم، وإيجابُ اتِّباعِهم، وذمُّ المنفردِ الشَّاذِّ عن الحكمِ الذي اتًفقوا عليهِ.
وأمَّا ما أفردُوهُ منَ السُؤالِ على قولِهِ: "لا تجتمعُ أمَّتي على ضلالة" (1)، وأَنهُ أرادَ بِهِ في الاعتقادِ، كما اجتمعتِ النَّصارى، بلْ في الأُصولِ، (2 فلا يَخْلُو زمانٌ 2) من طائفةٍ قائمةٍ بالحقِّ، مبطلة بالحجج شُبَه (3) أهلِ الزيغ والبدع والضلالِ، كما وردَ في السنَنِ والآثارِ، كما قالَ: "لا تزالُ طائفةٌ منْ أُمتي قائمةً بالحقِّ لا يضرُّهم مُناوَأةُ مَنْ ناوَأَهُم" (4)، فهذا تأويلٌ يعطي تخصيصَ الحديثِ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نفى عَنْهم الاجتماعَ على الباطلِ أُصولاً وفروعاً، ونفيُهُ الخطأَ والضَّلالَةَ يدلُّ على نفى ذلكَ أصلاً وفَرْعًا، فأفْرَدَ للأُصولِ نفيَ الضَّلالِ، وللفروع نفيَ الخطأِ،
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 211.
(1 - 1) غير واضح في الأصل.
(3) غير واضحة في الأصل.
(4) أخرجه بنحو هذا اللفظ أحمد 4/ 93، ومسلم1524 (174) من حديث معاوية بن أبى سفيان.
وروي نحوه عن غير واحد من الصحابة، انظر حديث أبي هريرة في "المسند" (8274).

(5/119)


وورودُ الأَخبارِ التي رَوَوْها في الطائفةِ القائمةِ بالحقِّ، وورودُ الآحادِ لا يختصُّ الأُصولَ أيضاً، بلْ قيامهم بالحقِّ في الفرع والأصلِ جميعاً، ولا يضرُّهم مناوأة مَنْ خرج عن مقالتِهم، وشذَّ عنِ اجتماعِهم حيث لا يعتدُّ بقولِهِ، ولا يُبْنَى على فُتياه.

فصلٌ
في الدلالةِ على مذهبنا منْ غيرِ السمع
أَن الله سبحانَهُ لمْ يُخلِ شريعةً مِن الشَّرائع مِنْ معصومٍ، فإذا مَضَى معصومٌ بَعَثَ نبياًّ معصوماً يُحيى ما أَمَاتَ المبطلونَ مِنْ شريعتِهِ، ويجدِّدُ أحكاما بحسْبِ العصرِ الآخرِ ومصلحةِ أهلِهِ، وأَنَّ الله سبحانَهُ لمَّا جعلَ نبينا خاتمَ الأَنبياء لم تخلُ أمتُهُ بعدَهُ مِن معصومٍ ترجعُ إليْهِ، يُؤمَنُ عليهِ الخطأ، فجعلَ اللَّه سبحانَهُ إجماعَ علماء الأُمَّةِ على الحكمِ حجة معصومةً مأموناً عليها مِنَ الخطأِ، هى خَلَفُ النبيِّ لمعصومِ، وقدْ أَشارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلكَ حيثُ قالَ: "العلماءُ وَرَثَةُ الأَنبياءِ، إنَّ الأنبياءَ لم يُخلِّفوا ديناراً ولا درهماً، وإنما خلفوا العلمَ " (1).
__________
(1) أخرجه أحمد 5/ 196، وأبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وابن حبان (88) من حديث أبي الدرداء.
قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" 3/ 164: ضعَّفه الدارقطني في "العلل"، وهو مضطرب الاسناد، قاله المنذري، وقد ذكره البخاري في صحيحه بغير إسناد.
وذكر الحافظ أيضاً في "فتح الباري" 1/ 160 أن حمزة الكناني حسنه، وأن له شواهد يتقوى بها.

(5/120)


فصلٌ
فيما وجَّهوُه مِنَ الاعتراضِ عليهِ
فمنها: أَنَّهُم قالوا: نحنُ قائلونَ بِهِ، وإنَّ كتابَ اللهِ باقٍ معصومٌ من التبديلِ والتًغْييرِ، فعصمته (1) التي فارق بها سائرَ الكتبِ أَغْنَتْ عَنِ المجتهدينَ وإِجماعِهم، وقد أَشارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلِكَ بقولِهِ: "إنِّي مُخلِّفٌ فيكمُ الثَّقلينِ: كتابَ اللهِ وسنَّتي" (2).
ومنها: أَنْ قالوا: قدْ أَجْمَعْنَا على أَنَّ طلبَ العصمةِ في الحوادثِ بعدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ونصبَ جهةٍ معصومةٍ، يُزيلُ رخصةً عظيمةً، وفسحةً نافعةً، وهيَ ما أَشارَ النبيُّ- صلى الله عليه وسلم -[إليه] بقولِهِ: "أصحابي كالنّجومِ، بأيِّهِمُ اقتديْتُمُ اهتديْتُم" (3)، وقولِهِ: "إذا اجتهدَ الحاكمُ فأصابَ فلَهُ أجرانِ، وإذا اجتهدَ فأخطأَ فلَهُ أجرٌ" (4)، وهذا توسعةٌ ورخصةٌ لَهُمْ لم تكنْ في زمنِهِ - صلى الله عليه وسلم - ولا كانتْ لَهُ، فلا يجوزُ أَنْ نحرصَ على أَنْ نزيلَها بأنْ نجعلَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خلفًا يمنعُها، كما يمنَعُها كونُه - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) في الأصل: "فصمته".
(2) أخرجه الحاكم 1/ 93 من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن عباس.
(3) تقدم تخريجه 1/ 280.
(4) تقدم تخريجه 1/ 294.

(5/121)


ومنها قولُ الإِماميةِ: نحنُ قائلونَ. بمُقْتَضَى الدَّليلِ بإثباتِ الإِمامِ المعصومِ، المغني إثباتُهُ عَنِ إجتهادِ المجتهدينَ، وهو الأَشْبهُ؛ لأنهُ واحدٌ [قامَ] مقام واحدٍ، وقدْ نصَّ على ذلكَ بقولِهِ: "إني مخلِّفٌ فيكم الثقلين: كتابَ اللهِ وعِتْرَتى، أهلَ بيتي" (1)، والمرادُ: الأَئمةُ.

فصلٌ
في الأَجوبةِ عنِ الأسئلةِ
أمَّا قولُهم: كتابُ اللهِ كافٍ وهوَ معصومٌ مِنَ التبديلِ، فليس في كتابِ اللهِ ما يعطي أحكامَ الحوادثِ كلها، بدليلِ أَنهُ قد تَجَدَّدَ ما لم يوجد في كتابِ اللهِ لَهُ حكمٌ كالخُنَاثى والمُعتَقِ بعضُه، والحملِ في باب ارْث (2) الجَدَّةِ وميراثِ الإخوةِ معَ الجدِّ، وعددِ جلدِ الشَّاربِ، وتوريثِ الغرقى والهدمى بعضِهم مِن بعض وأمَّا الاجتهادُ فإِنهُ باقٍ أبداً؛ لأنَّ القرائحَ باقية ببقاءِ أربابِها، ومتجددة بتجدُّدِ أهلِها.
وأمَّا قولُهم: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذكرَ أَنَّهُ مخلِّف الثَّقلينِ، فقد أدخلَ في جملةِ سنتِهِ ما أَشَرْنا إليهِ مِنَ الإحماع فقالَ: "عليكمْ بسُنتي وسنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدينَ مِنْ بعدِي" (3)، وسنَّةُ الخُلفاءِ هيَ الإحماعُ.
__________
(1) أخر جه أحمد 4/ 371، والطحاوي في "المشكل" (3463)، وصححه الحاكم 3/ 109 و 148 من حديث زيد بن أرقم.
(2) في الأصل: "الإرث".
(3) تقدم تخريجه 1/ 280.

(5/122)


وأمَّا قولُهم: إنَّ طلبَ العصمةِ يزيلُ رخصةَ الاجتهادِ، فلا فائدةَ في
طلبِ معصومٍ بعدَهُ - صلى الله عليه وسلم - ينقطعُ مَعَهُ الاجتهادُ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يمنعْ
وجودُه الاجتهادَ، بلْ أَقَرَّ على الاجتهادِ معَ وجودِهِ، بدليلِ قولِهِ لمعاذٍ: "فإنْ لم تجدْ (1)؟ " قالَ: أجتهدُ رأيي، فحمدَ الله على توفيقِهِ. ولم يوقِفِ القضايا والأحكامَ على مكاتبتِهِ وسؤالِهِ، وليسَ في إثباتِ الإجماع ما يضيّق على المكلفينَ، ولا يمنعُ اجتهادَ المجتهدينَ، لا سيَّما معَ اعتبارِنا انقراضَ العصرِ فِى حصولِ الإجماع، فإنَّهُ زمان يتعسعُ لاجتهادِ أَهلِهِ إلى حينِ انقراضِهمْ، وإنَّما نَمْنَغ الخلافَ كما مَنَعْنا اجتهادَ المخالفِ نصَّ الرَّسولِ، ولم نَمْنَعْ مِنَ الاجتهادِ فيما لم يوجدْ فيه نصٌّ مِنَ الرَّسولِ.
وأمَّا قولُ الشِّيعةِ: إنَنا قائلونَ بذلكَ بإثباتِ الإمامِ المعصومِ، فأَغْنانا إثباتهُ عَنِ الإجماع؛ فإِنهُ إثباتُ معصومٍ لم تقمِ الدَّلالةُ على عصمتِهِ، والإجماعُ قدْ قامتِ الدّلالةُ [عليه] بما ذكرْنا، ولأَننا إِنَّما دَلَّلْنا على إثباتِ معصومٍ في الجملةِ على مَنْ لم يُثبتْ معصوماً من إمامٍ ولا غيرِهِ، فأمَّا الشِّيعة فإنَّ كلامَنا مَعَهم ودلالتَنا عليهم في عينِ المعصومِ، وليسَ هذا موضِعَة.

فصل
في جمع شُبَههم
فمنها: قولُهُ تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وهذا يمنعُ مِنْ أَنْ نكونَ محتاجِينَ إلى الإجماع.
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 5.

(5/123)


ومنها: قولُهُ تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}
[النساء: 59]، واقتصر على الكتابِ والسُّنةِ، وهذا يمنعُ الرَّدَّ الى الاجماع.
ومنها: بما رويَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ لمعاذٍ لما بعثَ بِهِ إلى اليمنِ: "بمَ تحكمُ؟ " قالَ: بكتابِ اللهِ. قالَ: "فإنْ لمْ تَجد؟ " الَ: بسنَّةِ رسولِ الَلّهِ. قالَ: "فإنْ لم تجِدْ؟ " قالَ: أجتهدُ رأي، ولا آَلُو (1). ولم يذكر الإِحماعَ.
ومنها: ما رويَ عَنِ النبيِّ- صلى الله عليه وسلم - أَنهُ قالَ: "لا تَرجِعُوا بعدِي كفَّاراً يضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ" (2)، وقالَ: "لتركَبنَّ سَنَنَ مَنْ كان قبلكم حَذْوَ القُذَّة بالقذّة" (3)، وهذا يدلّ على جواز الضَّلالِ عليهم، وعلى سلوكِهمْ سننَ الأُممِ مِنْ قبلِهم، وإذا كانَ كذلكَ بطلَ دعوى عصمتِهم وثبوت الحجَّةِ مِنْ قولِهم.
ومنها: أَنهُ شهدَ على أواخرِ هذهِ الأمةِ بأسبابِ الذمِّ فقالَ: "تُمَّ تبقى حفالةٌ، أو حثالةٌ، كحثالةِ التمرِ لا يعبأ الله بهمْ" (4)، "ثمَّ يفشو الكذب،
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 5.
(2) أخرجه أحمد (5578)، والبخاري (6166) (6868) (7077)، ومسلم (66) (119) (120)، وأبو داود (4686)، والنسائي 7/ 126، وابن ماجه (3943) من حديث ابن عمر.
(3) أخرجه أحمد (17135)، والبغوي في "الجعديات" (3459)، والطبراني في "الكبير" (7140)، وابن عدي في "الكامل" 4/ 1357 من حديث شداد بن أوس بنحوه.
(4) أخرجه أحمد (17728) و (17729) و (17730)، والبخاري (6434) من حديث مِرداس الأسلمي.

(5/124)


فيشهدُ الرجلُ قبلَ أَنْ يُستشهدَ، ويحلف قبلَ أَنْ يُستحلف" (1)، "يكون النّاس فيهِ ذئاباً" (2)، "لا تقومُ السَّاعة إلا على شرارِ النَّاسِ" (3)، "كيفَ بِكمْ إذا كانَ كذا، ثمَّ تَكونُ فِتَنٌ كقطع الليلِ المظلم، يصبحُ الرجلُ فيها مؤمناً ويمسي كافراً" (4) وإلى أمثالِ ذلكَ مِنْ ذمِّ أهلِ آخرِ الزَّمانِ، وهذا ضدُّ ما تعلقتُمْ بِهِ مِنْ مدح البارئ للأمَّةِ بالعدالةِ ونفى الضَّلالةِ، وكونِهِم حجَّةً معصومةَ، فلمْ يَبْقَ إلاَّ أنْ يكونَ ذلكَ المدحُ وُالتعديل راجعاً إلى أصحابِ رسولِ اللهِ والقرون الثَّلاثةِ: الصَّحابةِ والتَّابعينَ وتابعي التابعينَ، بحكمِ الرِّوايةِ والثِّقةِ فيها، فأَمًّا الإجماعُ الذي تُشيرونَ إليهِ فَلا، وأَنْتم تجعلونَ القرنَ الأخيرَ كالأَوَّلِ في الحجَّةِ والعصمةِ في إِجماعِهم.
ومنها: أَنْ قالوا: أُمة مِنَ الأممِ، فلا يكونُ إِجماعُها حجَّةً كسائرِ اللأُمَمِ.
ومنها: أَنْ قالوا: لمَّا جازَ على كلِّ واحدٍ منهمُ الخطأُ والضَّلالُ، جازَ على جماعتِهم، إذْ ليس جملَتهم إلاَّ آحادَهم.
ومنها: أَنَّ الأمَّةَ معَ تفرّقِها في الآفاق، وبُعدِ بعضِها عنْ بعض ما بين
__________
(1) أخرجه أحمد (114) و (177) - طبعة مؤسسة الرسالة- من حديث عمر بن الخطاب. وانظر تمام تخريجه فيه.
(2) أخرجه بنحوه الطبراني في "الأوسط" (740) من حديث أنس بن مالك. قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 89: فيه من لم أعرفه.
(3) أخرجه أحمد (3735)، ومسلم (2949) من حديث عبد الله بن مسعود.
(4) أخرجه أحمد (8030)، ومسلم (118) من حديث أبي هريرة.

(5/125)


المغربِ والمشرقِ، تعذر تجميعُ (1) أقوالِها وتحصيلُ إجماعِها، والله سبحانَه لا يوقِفُ حكماً مِنْ أحكامِهِ على ما لا يتحصَّلُ مِنَ الأَدلةِ.
ومنها: أن قالوا: ما لا يصحّ إثباتُهُ إلاَّ بالدليل، لا يُجعلُ قولُ أهلِ العصرِ حجَّةً ودليلاً لإثباتِهِ، كالتَّوحيدِ، وما يجبُ للهِ مِنَ الصِّفاتِ، ونفى ما لا يجوزُ عليه، وتجويزِ ما يجوزُ عليه.

فصل
يجمعُ الأجوبةَ عن شبههم
فأمَّا قولُهُ تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فهوَ كما قالَ سبحانَهُ، وليسَ في إثباتِ الاجماع ما يمنع من كونِ الكتابِ تبياناً لكلِّ شيءٍ، لأنَّ الاَيَ الذي استدْلَلْنا بِهِ على الإجماع مِنْ كتابِ الله (2)، والاَيَ التي أثبتْنا بها القياسَ وفحوى الخطابِ وغيرَ ذلكَ مِنَ الأدلةِ؛ فما مِنْ دليلٍ إلا والقرآنُ أصلٌ لَهُ.
وأما قولُهم في خبرِ معاذٍ: لم يذكرِ الإجماعَ، فلأَنَّ الإجماع لا يتحققُ شرطُهُ، فإنه لا يكونُ حجَّةً معَ وجودِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يتحققُ بعدَ موتِهِ - صلى الله عليه وسلم -[لذَلك] لم يذكُرْهُ معاذٌ، ولا انتقلَ إليه بعدَ السّنة.
وأمَّا قولُهم: إنَّ النبيَّ جَوَّز على الأمةِ الضلالَ والكفرَ، فنحنُ لا نمنعُ
__________
(1) في الأصل: "جميع".
(2) في الأصل: "من كتاب الله على الاجماع".

(5/126)


مِنْ ذلكَ، ولا جَعْلُ الإجماع حجَّةً مانعٌ (1) مِنْ كونِ الأمَّةِ يجوزُ عليها الضَّلالُ، فيُجمعُ بين الأمريْنِ والخبرين: المِدْحة (2) وذكرُ العدالةِ، والذمُّ على اتِّباع غيرِ طريقِهم، فالمذمُومونَ: العوامُّ، وفساق العلماءِ، وأهلُ البدع، لا يدخلونَ في أهلِ الإجماع، لأنَّ أهلَ الاجتهادِ العدولَ المتبعينَ للسُّنةِ همُ الذينَ يُعتدُّ بأقوالِهم في الاجماع، فالمدحُ عادَ إلى مَنْ كمُلتْ فيه صفات الاجتهادِ، والذمُّ عادَ إلى الفساقِ وأهلِ البدع. وكما أَنة ذَمَّ فساقَ أهلِ آخرِ الزمانِ فقدْ مدحَ خيارَهم حيثُ قال: "واشوقاه إلى إخواني"، قالوا: يا رسول الله، ألسنا إخوانك؛ قال: "أنتُم أَصحابي، وإخواني قومٌ يأتونَ مِنْ بعدِي" (3)، وقال: "فهم النُّزَّاعُ من القبائل" (4)، وقال: "فهم الهُرَّأب بدينهم من شاهقٍ إلى شاهق"، وقال: "فَهُم الذينَ يَصْلُحون إذا فَسَدَ الناس" (5)، فما كانَ مِن الذّمِّ عادَ إلى أهلِهِ مِمَّنْ فسقَ مِنْهُم أو ابْتَدعَ، وما كانَ مِنْ مَدْحِ عادَ إلى مَنْ بَرَّ وعَدل. وأهل الإجماع إنما يكونونَ في غالِبِ الأحوالِ عدداً يسيراً، وهذا لا يضادُّ قولَه في خبرِنا:
__________
(1) في الأصل: "مانعاً".
(2) في الأصل: "فالدحة".
(3) أخرجه بنحوه أحمد (7993)، ومسلم (249) من حديث أبي هريرة. وأحمد (12579) من حديث أنس بن مالك.
(4) أخرجه أحمد (3784)، والترمذي (2629)، وابن ماجه (3988) من حديث عبد الله بن مسعود.
(5) أخرجه اللالكائي في "السنة" (173)، والطحاري فى "شرح مشكل الآثار" (689)، والبيهقى في "الزهد" (200) من حديث جابر.

(5/127)


"امَّى لا تجتمِعُ على ضَلالةٍ" (1)، وهذا يعطي أنَّه قد يكونُ فيهم ضلال، فأمَّا أَنْ يُعْطيَ أنْ ليسَ فيهم هُداةٌ ولا أعلامٌ فلا.
وأما قولُهِم: إنَّ هده أمَّةٌ مِن الأمَمِ فأشبَهتْ مَنْ تَقَدَّمَهُم، فيحتملُ أنْ لا نسلِّمَ، بل نقُول: إِنَّ سائرَ الامم إجماعُ عُلمائِها معصوم، وقد ذهبَ إليهِ جماعةٌ مِنَ العلماءِ مِنْهُم: أبو إِسْحاقِ الإِسْفَرايِيني مِنْ أَصْحابِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ الله عنهما، ويحتملُ أنْ نُفَرِّقَ بينهما، بأنّ سائرَ الامم يَتَطَرَّقُ عليها النسخُ بَعْدَ نبيِّها، ويَتَجَدَّدُ نَبِيٌّ بعدَه، فلا تخلُو الأمة مِنْ معصومٍ يُزيلُ ما اختلَّ مِنَ الشّريعةِ الأولي، ويُجدِّدُ علىِ يَديهِ ما تصلُحُ به الأمَّةُ الأخرَى، وامَّتُنا هذه لا نبيَّ بعدَ نبيِّها، ولا نسخ، فلمْ يَكُ بُدٌّ مِنْ خَلَفٍ معصومٍ يحفَظُ قولَ نبيِّها، وتَجري مجرى نبيِّها فِى العِصمةِ عن الضّلالِ والخطأِ.
وأما قولُهم: لمَّا جازَ الخطأ على آحادِهم جازَ على جماعتِهم، فليسَ بلازمٍ؛ لأَنَّ هذا جمعٌ بينَ ما فرَّقه الشَّرْعُ، لأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِاتباع الجماعةِ، ونَهى عنْ مُفارقتِها وعَن الشُّذوذِ، وذمَّ الانفرادَ، فلا يُجمعُ بينَ ما فرَّقَه الشَّرعُ.
وأمَّا مِنْ طريقِ المعنى: فإِنَّ الانفرادَ يُضْعِفُ، والإجماعَ يقوِّي ويحصُلُ به التَّضافُرُ، ويتَجدَّدُ بالإحماع ما ليسَ للانفرادِ، بدليلِ أخبارِ التَّواتُرِ بالإضافةِ إلى أخْبارِ الآحادِ، وأنَّ أحَدَهُما يوجب القطعَ، والآخَرَ يوجِبُ الظنَّ، والواحدُ مِنَ الشُّهودِ لا توجِبُ شهادتُه الحقوقَ والحدودَ،
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 211.

(5/128)


وبمجموع الشهودِ يحصُلُ ثُبوتُ الأحكامِ والحدودِ.
وأمَّا قولُهم: إنَّ الإجماع يتعذّرُ العلمُ بحصولِه لتفرُّقِ العلماءِ في البلادِ المتباعدةِ، فليسَ بصحيحٍ لوجوهٍ: أحدُها: أنّه لوْ كانَ هذا هو العِلَّة، لوَجَبَ إذا انحصَرُوا فكانوا في بَلَدٍ واحِدٍ، كأصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قبل انتشارِهم، أنْ يكونَ حجةً، فلمَّا لم يكنْ حجَّةً وإن انضبطوا، بَطَلَ التَّعلُّقُ في نفْي، الإحماع بتعذُّره (1)، لأنّه لو كانَ التَّعذُّرُ علةَ النْفي، لكانَ عدمُ التَّعذُّرِ يوجِبُ الإثباتَ. ولأَنَّ أهلَ الاجتهادِ أعلامٌ في البلادِ، وأخبارُهم سائرةٌ مشهورةٌ، ولا تكادُ تَخفى، لأَنَّ العلمَ معظَّم في النُّفوس، وبلاغ العالِمِ إلى الاجتهادِ لا يحصلُ إلاَّ في الزَّمان الطويلِ، فلا يكادُ ينطوِي ذلكَ ولا يخفى. ولأنَّنا نتكلَّمُ على حصولِهِ ونعلِّقُ الحكمَ على ثبوتِهِ، فإذا تعذَّرَ العلمُ بهِ لنوع عذرٍ، لم يخرجْ عنْ كونِهِ حجةً، كقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّه الحجّةُ المعصومةُ، فإذا منعَ مِنَ العلمِ بِهِ مانعٌ لم يخرجْ عنْ كونِهِ حجَّةً معصومة.
وأمَّا اعتبارُهم الإجماع على الحكمِ في الحادثةِ بالتوحيدِ، فغير صحيحٍ؛ لأنَّ التوحيدَ لا يثبت عنْ أصلٍ قبلَهُ، وهذا يثبت عن أصل قبله، فهوَ كالنُّبوّةِ التي تثبتُ عنْ أصلٍ قبلَها، (2 وهو المعجزُ الدالُّ 2) على صحتها، فكانَ قولُ أهلِ الإجماع كقولِ النبي- صلى الله عليه وسلم - ولأنَّ التوحيدَ لا يتبعُ فيه
__________
(1) في الأصل: "بعذره".
(2 - 2) غير واضح في الأصل.

(5/129)


العاميُّ العالمَ ولا يقلدُ فيهِ، وإنما يرجعُ فيهِ إلى دلالةٍ يشتركُ بها الكُلُّ وهيَ أدلةُ العقولِ، ولهذا لم يمتَزْ فيها العالمُ المجتهدُ على العاميِّ المقلِّدِ، فإذا افترقا في بابِ الآحادِ والإفرادِ، لم يجز اعتبارُ أحدِهما بالآخرِ حالَ الإجماع.
مسألة: لا يختصّ الإجماعُ الذي علَّقْنا عليه العصمةَ في الحُجَّةِ بأصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بلْ إجماعُ أهلِ كلِّ عصرٍ حجَّة، وبه قالَ جماعة الفقهاءِ (1) والمتكلمينَ (2)، وقالَ داودُ وأهلُ الظاهرِ (3): لا اعتبارَ إلا بإجماع الصحابةِ. وعن أحمدَ مِثْلُهُ، وصَرَفَ شيخُنا كلامَ أحمدَ عنْ ظاهرِهِ في الروايةِ الموافقة لداودَ بغيرِ دلالةٍ (4).

فصل
في الأَدلةِ على الروايةِ الأُولي
فمنها: قولُه تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]، وقولُه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، {وَكَذَلِكَ
__________
(1) انظر "فصول الأصول" للجصاص 3/ 164، و"أصول السرخسي" 1/ 313.
(2) انظر "المعتمد" 1/ 482، و"التبصرة" 359، و"الإحكام" للآمدي 1/ 208، و "المستصفى" 1/ 189.
(3) انظر "الإحكام" لابن حزم 4/ 494.
(4) انظر "العدة" 4/ 1090 - 1091، و "شرح مختصر الروضة" 3/ 47.

(5/130)


جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وذلك هم الصّحابةُ وغيرُهم، فلا يخرجُ علماءُ كل عصرٍ عنِ العموم إلا بدليلٍ صالح لتخصيصِ العمومِ.
ومنها: الأحاديثُ المرويَّة عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في مسألةِ الإجماع التي احتجَجْنا بها على إبراهيمَ النطام: "أمتي لاتجتمعُ على ضلالةٍ" (1)، "عليكم بالسّواد الأعظمِ " (2)، "إيّاكم والشّذوذَ" (3)، "من فارقَ الجماعةَ ولو قِيدَ شبرٍ فقدْ خلعَ رِبْقَةَ الإسلامِ مِنْ عُنقِه" (4)، ولا يجوزُ قَصْرُ هذا على أصحابه- صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّ جميعَ خطابِ القرآنِ والسّنّةِ بلاغٌ، وقد قالَ الله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19].
ومنها: أنّ العصرَ الثانيَ والثّالثَ ومَن بعدَهم يشتركون في خطابِ الآيِ والأخبارِ، وٍ كلُّ ما كانَ حجةً على الأوائلِ مِن كتابِ اللهِ وسنّةِ رسولِه كانَ حجّة على مَن بَعْدَهم (5) كذلك الإجماعُ لمّا كانَ حجَّةً على العصرِ الأول كان حجة على الثاني.
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 211.
(2) تقدم تخريجه ص 107.
(3) لم نجده بهذا اللفظ، وروي معناه من حديث ابن عمر عند الترمذي (2167) بلفظ: "مَن شذ شذ في النار".
(4) تقدم تخريجه ص 107.
(5) في الأصل: "تقدمهم".

(5/131)


ومنها: أنّ العلّة التي لأجلها كانَ إجماعُ الصحابةِ حجَّةً معصومةً، أنَّ بالأمَّةِ حاجةً إلى ذلكَ بعدَ نبيِّها - صلى الله عليه وسلم -، إذْ لا نبيَّ بعدَهُ، وهذا في الأواخرِ موجودٌ كما في الأوائلِ، بلِ الأواخرُ أحوجُ إلى حجّةٍ معصومةٍ.
ومنها: أنَّ آحادَ العُلماءِ في بابِ جواز تقليدِ العامّةِ لهم، والتسويغ لاجتهادِهم في الحوادثِ، كآحادِ الصحابةِ رضوانُ الله عليهم، ولم يختصَّ آحادهم بالتسويغ في الاجتهادِ وجوازِ التقليدِ، كذلكَ جماعتُهم يجبُ أنْ يُساووا جماعةَ الصحابةِ في عصمةِ (1) اتفاقهم عن الخطأِ، لئلاْ يخلوَ عصرٌ مِن حجّةٍ معصومةٍ، كما لم يخل عصرٌ مِنْ مجتهدٍ مُتبَع فيُرجَعُ إلى فتياهُ وحكمِهِ.
ومنها: أنّه اتفاقُ علماءِ العصرِ على حكمِ الحادثةِ، فكانَ إجماعاً كاتفاقِ الضحابةِ.
ومنها: أنّ رواية الصّحابةِ لم تختصَّ بالقَبُولِ دونَ مَن بعدَهم، فكذلك يجبُ أنْ يكون، في بابِ الاجتهادِ.

فصل
في شُبَهِ المخالفِ
فمنها: قولُه تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، وهذه صفاتُ الصّحابةِ، فكانَ
__________
(1) في الأصل: "العصمة".

(5/132)


الخِطالب مصروفاً إليهم، والعصمة موقوفةٌ علي إحماعِهم، إذْ لا طريقَ لنا إلى العصمةِ إلاً بالسمع، والسمغ إنّما وردَ فيهم، فأمَّا أهل الأعصارِ المتأخرةِ فإنّما وردتِ السّنّةُ بذمِّهم بقولِه: "ثُمَّ يَفشو الكذبُ" (1) ثمّ ذكرَ الفتنَ، وأنّ الرّجلَ يصبحُ مؤمناً، ويمسي كافراَ، وأنّ ألواحدَ منهم يحلف على ما لا يعلمُ، ويشهدُ قبلَ أنْ يستَشهدَ، وأنّ النّاسَ يكونونَ ذئاباً (2)، إلى أمثال ذلك (3 بما ينافي ما ذُكِرَ 3) من صفتِهم بالعِصْمة (4).
ومنها: أنّ (5 المعوّلَ عليه هو قول 5) الصادق المؤيدِ بالمعجِزِ، لكنْ وردتِ السّنّةُ بقولِه - صلى الله عليه وسلم -:"أصحابي كالنجومِ بِأيِّهمُ اقتديتُم اهتديتم" (6)، "عليكم بسُنتي وسُنّةِ الخلفاء الرَّاشدينَ مِنْ بعدي" (4)، فرجعنا إلى أقوالِهم لأجلِ السُّنّةِ، وبقيَ مَنْ عداهم على حكمِ الأصلِ.
ومنها: أنّ فقهاءَ الأعصارِ لا يمكنُ حصرُهم ولا العلمُ باتفاقِهم لتباعدِ الأقطارِ، وما لا يمكن تحصيلُه لا يكونُ حجةً مِن حجج الشّرع، بخلافِ الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم، لأنهم كانوا محصورينَ معلومينَ.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 125.
(2) انظر هذه الأخبار قريباً ص 125.
(3 - 3) طمس في الأصل.
(4) انظر "العدة" 4/ 1092 - 1093.
(5 - 5) طمس في الأصل، انظر "العدة" 4/ 1093.
(6) تقدم تخريجه 1/ 280.

(5/133)


فصل
في الأجوبةِ عَن شبهةِ المخالفِ
فأمّا دعواهم أنّ الآيةَ خطابٌ للصحابةِ فغيرُ صحيحةٍ، بل الخطابُ لسائرِ الأمّةِ وأهلِ جميع الأعصارِ مِن المسلمينَ مِمَّن تشتمل عليهم الصفاتُ المذكورةُ، كالخطابِ مِن اللهِ سبحانَه بالعباداتِ، يوضحُ هذا أنّه لو كانَ مَقصوراً على أهلِ العصرِ الذي نزلتْ فيهِ، لكانَ مقصوراً على المبلّغ وقتَ نزولِها، فلمّا عمّت مَن كانَ بالغاً ومن بلغَ بعدَ نزولِها بزمانٍ، علِمَ أنّها شاملَةٌ عامّةٌ غيرُ مقصورةٍ على مَن نزلتْ في عصرِهِ (1).
وأمّا دعواهم أن المِدحةَ بالعصمةِ تختصّ الصحابةَ، فلا (2) وجهَ لها معَ كونِ ما مُدِحت الصحابةُ لأجلِه موجوداً في آحادٍ مِن أهلِ الاجتهادِ في كلِّ عصرٍ، لا يُخلي الله منهم عصراً مِن الأعصارِ، وقد وردتِ المدحةُ فيهم خاصةً بقولِه: "واشَوْقاهُ إلى إخواني"، فقال أصحابُه: ألسْنا إخوانَك؛ فقال: "أنتم أصحابي، وإخواني قومٌ يأتونَ مِن بعدي يؤمنونَ بي ولم يرونِي" (3)، وقالَ فيهم فِى متونِ الأحاديثِ والمسُّننِ: "الذينَ
__________
(1) انظر "شرح مختصر الروضة" 3/ 49 - 50.
(2) في الأصل: "لا".
(3) تقدم تخريجه ص 128.

(5/134)


يَصلُحونَ إذا فسَدَ النَّاسُ" (1).
وأمّا قولُهم: إنّ فقهاءَ الأعصارِ لم يمكنْ ضبطُهم، فهذ! قولُ مَن إذا تصوّرَ ذلك بحصرِهم وقلّة عددِهم كانَ قولُهم حجةً، وهذا لا يختلفُ باختلافِ الأعصارِ، وإنّما هذا بحسبِ الكثرةِ والقلّةِ.

فصل
إذا خالفَ الواحدُ والاثنانِ حكماً اتفقَ عليهِ الجماعةُ، لم يُعَدَّ ذلكَ إجماعاً في أصحِّ الروايتينِ، وهوَ قولُ الجماعةِ، وفيه روايةٌ أُخرى: يكونُ إجماعاً، ولا يؤثرُ خلافُ الواحدِ والاثنينِ، وإلى هذا المذهب ذهب محمدُ ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ (2) صاحبُ "التاريخ"، وحُكيَ عن أبي بكرٍ الرازيِّ (3) أيضاً، حكاهُ أبو سفيانَ.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 128.
(2) هو: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير، أبو جعفر الطبري، صاحب التصانيف البديعة، من أهل آمُل طبرستان، ولد سنة أربع وعشرين ومئتين، أكثر الترحال، وكانَ من أفراد الدهر علماً قَلَّ أن ترى العيون مثله. كان ثقة، صادقاً، حافظاً، رأساً في التفسير، إماماً في إلفقه والاجماع والاختلافِ، علامة في التاريخ وأيام الناس، عارفاً بالقراءات، وباللغة، وغير ذلك. توفي سنة عشر وثلاث مئة. "سير أعلام النبلاء" 14/ 267.
(3) انظر "أصول السرخسي" 1/ 316، و"كشف الأسرار" 3/ 245، و"التقرير والتحبير" 3/ 93.

(5/135)


وقال أبو عبد الله الجُرْجانيُّ (1): إنْ سوَّغتِ الجماعةُ الاجتهادَ في مذهبِ ذلكَ الواحدِ كانَ خلافُه معتدّاً به، مثل خلافِ ابنِ عباسٍ في العَوْل، وإن أنكرت الجماعة على الواحد لم يُعتدَّ بخلافه، مثل قول ابن عباس في المتعةِ والصَّرفِ (2).

فصل
يجع أدلَّتنا للرّوايةِ الأولى
بأنه (3) لا ينعقدُ الإجماعُ معَ خِلافهَما.
فمنها: قولُه تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، ومع الخلاف فالتنازعُ حاصل، فوجبَ أنْ يُردَّ إلى اللهِ سبحانَهُ، وهو الرجوعُ إلى كتابِه وسُنّةِ رسولِهِ دونَ قولِ أحدِ المتنازعينِ.
ومنها: أنّه فد جرى ذلك في عصرِ الصحابةِ، فعمِلوا بما ذكرنا دونَ ما ذهبَ إليهِ ابنُ جريرٍ، فمِن ذلك ما رُويَ: أنّ الصحابةَ خالفوا أبا بكرٍ في قتالِ أهلِ الرِّدَّةِ وناظروهُ وحاجُّوهُ بالسُّنةِ، وأجابَهم عن ذلك (4)، ولا أحدَ منهم قالَ: إنّ اتفاقَنا حجّة مانعة لكَ مِن المخالفةِ لنا، فصارَ ذلك
__________
(1) انظر "البحر المحيط" للزركشى 4/ 478.
(2) سيأتي تخريجه في الصفحة 140.
(3) في الأصل: "فإنه".
(4) تقدم تخريجه 4/ 273.

(5/136)


إجماعاً منهم على قولِنا، وكذلك ابنُ عباسٍ وابنُ مسعودٍ انفردا عَنْ جميع الصحابةِ بمسائلَ معروفةٍ، ولم يمنعوا مِن الخوضِ في الخلافِ، ولا قيلَ لهما: قدْ حجَّكم الإجماع، فأمسِكوا عنِ المخالفةِ.
ومنها: أنّه لو ثبَتَ هذا المذهبُ عدِمنا الثِّقةَ بالإحماع؛ لأنَّ كلّ واحدٍ مِن المجتهدينَ إذا عَلمَ أنّه لا يعوَّلُ على قولِه في الإجماع ولا يختلُّ بخلافِه، صانَ نفسَهُ عَنْ إسقاطِه؛ لأنّه فاسدٌ، وتحريرُ هذا يُسْقِطُ الثّقةَ بالموافقةِ.
ومنها: أنّه إنّما أثبتْنا العصمةَ والقطعَ بقولِ الجماعةِ لأجلِ أنّ الشّرعَ نَطَقَ بذلكَ، فقالَ: "أمّتي لا تجتمعُ على خطأٍ"، ورُويَ: "على ضلالةٍ"، فإذا لمِ يكنْ لنا إجماعٌ بلْ كانَ الخلافُ واقعاً، بقينا على الأصلِ وأنْ لا عصمة.
ومنها: أنّه لو قلَّ أهلُ الاجتهادِ فلمْ يبقَ إلاّ الواحدُ والاثنانِ، لوباءِ عَرَضَ، أو لِفِتنةٍ استوعبتْهم -والعياذُ باللهِ- كما قلَّ القرّاءُ في قتالِ أهلَ الرِّدَّةِ بكثرةِ مَنْ قُتلَ مِن قُرّاءِ السلمينَ، كان مَن بقيَ مِن المجتهدينَ مستقلاً بالإحماع، ولم ينخرمِ الإجماع لعدَمِ الكثرةِ، وإذا كانَ هذا العدد القليلُ يصلُحُ لإثباتِ أصلِ الإجماع المقطوع بهِ، فأَوْلى أنْ يصلُحَ لفلِّ الإجماع واختلالِه. بمخالفتِه.
ومنها: أنّا لا نأمَنُ أنْ يكونَ الحقُّ في البلدِ ومع العددِ اليسير، كما كشفتِ الحالُ عَنْ إصابةِ أبي بكرٍ فيما توحَّدَ بهِ مِن الرّأيِ بذمِّ الرِّدَّةِ، حيثُ صارَ الكلُّ إلى قولِهِ، وكما كشفَ الوحيُ عنْ إصابةِ عمرَ في

(5/137)


الأسرى يوم بدرٍ (1)، وإذا كانَ كذلك فلا يؤمنُ أنْ يكونَ الحقُّ معَ المخالفينَ للحكمِ الذي اتفقَ عليهِ الأكثرونَ، فلا يجوزُ مع هذا الاعتدادُ بقولِ الأكثرينَ إجماعاً مع هذه الحالِ وهذا التجويزِ.
ومنها: أنّه قولٌ بالتحكُّمِ لم يتفقْ عليه فقهاءُ العصرِ، فلا يُقطعُ به، كما لو كانَ المختلفون في العددِ سواءً.
ومنها: أنّ الواحدَ والاثنينِ عددٌ لا وجهَ لتخصيصِه بتركِ الإحفالِ بهِ دونَ أنْ يكونَ الأربعةُ والخمسةُ كذلك (2)، فلما كانَ الأربعةُ والخمسةُ بالإضافةِ إلى الكثرةِ يُعبَأُ بهم، ولا تُهملُ فتواهم، ولا ينعقدُ إجماعُ الأكثرينَ دونَهم، كذلك الواحدُ والاثنانِ، ولهذا جازت فتواهم، وسُوِّغ اجتهادهم، ولم يجزْ لهم تقليدُ مَن خالفَهم.

فصل
يجمعُ شُبَه المخالفِ في الرِّوايةِ (3) لنا
فمنها: قولُ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -:"عليكم بالسوادِ الأعظمِ" (4)، "عليكم
__________
(1) عندما أشار بضرب أعناق الأسرى، وأشار غيره بفدائهم، فنزلت الآية: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]، انظر "تفسير الطبري" 14/ 58 وما بعدها، وانظر ما تقدم في 3/ 419.
(2) في الآصل: "لذلك".
(3) في الآصل: "والرواية".
(4) تقدم تخريجه ص 107.

(5/138)


بالجماعةِ" (2)، "يدُ الله على الجماعةِ" (1)، وقولُه: "اثنانِ فما فوقَهما جماعةٌ" (2)، "إيّاكم والشذوذَ" (3)، والواحدُ، والاثنان بالإضافةِ إلى الجماعةِ شُذوذ، وقد نهانا عنِ الأخذِ بقولِهم.
ومنها: أنّا أجمعنا على تقديمِ الخبرِ المتواترِ وألغيْنا خبرَ الواحدِ والعددِ اليسيرِ، فكذلك فِى بابِ الاجتهادِ، وما ذلك إلاّ لأنّ الخطأَ يبعُدُ عَنِ الجماعةِ، ويقرُبُ مِنَ الآحادِ.
ومنها: أنّ الأخبارَ تُرجّحُ بكثرةِ عددِ الرّواةِ، فيجبُ (4) أنْ يقدّمَ فِى بابِ الرّأيِ الأكثرُ، ويُسقَط حكمُ الأقلِّ.
ومنها: أنّ خلافةَ أبي بكرٍ لما اجتمعَ عليها الأكثرونَ، وشذ مَن شذَّ مِن الأنصارِ وأهلِ البيتِ، لم يعوِّل الصحابةُ على خلافِهم لأجلِ القِلةِ والشّذوذِ، وبنوا أمر الخلافةِ على الكثرةِ والغالبِ، وكذلك لمّا خالف ابنُ عباسٍ الجماعةَ فِى المتعةِ (5) وبيع الدرهمِ بالدرهمينِ (6)، أنكر عليه ابنُ الزبيرِ
__________
(1) أخرجه الترمذي (2167)، وابن أبي عاصم في "السنة" (80)، والحاكم 1/ 115 - 116 من حديث ابن عمر. وأخرجه الترمذي أيضا (2166) من حديث ابن عباس.
(2) تقدم تخريجه 3/ 430.
(3) انظرص 125 تعليق (4).
(4) في الأصل: "يجب".
(5) أخرجه مسلم (1406) (27).
(6) أخرجه أحمد 5/ 200، 204، 206، 208، 209، ومعسلم (1596) (102)، والنسائي 7/ 281، والبيهقي 5/ 280.

(5/139)


المتعةَ، وأنكرت الجماعةُ ربا الفَضْل، وإنّما كانَ ذلكَ لوَحدتِه في المذهبِ.
ومنها: أنّه لمّا جاز أنْ يكونَ في الجماعة المتفقينَ مَن يخالفُ، ويُسِرُّ الخلافَ، ولم يمنع ذلك انعقادَ الإجماع، كذلك إذا أظهرَ الواحدُ والاثنانِ الخلافَ يجبُ أنْ لا يمنعَ انعقادَهُ.

فصلٌ
في جميع الأجوبةِ عَنْ شُبَههم
فأمّا الخبرُ (1 في مَدْح ا) الجماعةِ والحثِّ علىَ اتباعِها، فإنّ المراد بهِ الإجماعُ الذي لا يشذّ عنهُ أحدٌ مِن أهلِهِ، ولهذا لو كانَ المجتهدُ واحداً أو اثنينِ، كانَ الحثّ على اتباعهما واتباعُه داخلاً تحتَ هذا الخبرِ.
ومَن شذّ، إنما المراد به مَنْ عَدَلَ لا باجتهادٍ، وإنّما شذّ عناداً ومخالفةً، لا بدلالةٍ، بدليلِ أنّه مأمور بالاجتهادِ، فمحال أنْ يُذَمَّ على ما أمِرَ بهِ، أو يؤمرَ بتقليدِ غيْرِهِ مع تلوح الدليلِ لهُ في الحكمِ الذي صارَ إليهِ.
وأمّا قولُهم: "اثنانِ فما فوقَهما جاعةٌ" (2) فإنّما الرادُ بهِ جماعة الصلاةِ، وأمّا تقديمُ خبرِ التواترِ وإسقاطُ خبرِ الواحدِ إذا تقابلا، فلأنّ خبرَ التواترِ يوجبُ العلمَ القطعيّ، ولا يجوزُ عليه الكذبُ، وخبرُ الواحدِ
__________
(1 - 1) غير واضح في الأصل.
(2) تقدم تخريجه ص 139.

(5/140)


والآحادِ لا يُقطَع بصدقِهِ، ويجوزُ عليهِ الكذبُ، فأمّا في مسألتِنا، فإنَّ كل واحدٍ مِن الفريقينِ يجوزُ عليهِ الخطأُ، ولا يقطع بصوابِه، ولأنّ الأخبارَ تُقدّمُ وتُرجح بكثرةِ العددِ، ولا يرجح إلاجتهادُ بكثرةِ العددِ، بل ببلوغ الحدِّ المعصومِ، والمعصومُ هو: ما لايختلفُ علماء العصرِ فيهِ، ولا عصمةَ مع الخلافِ، كما لا قطعَ بصدقِ الرّواةِ مع عدمِ التواترِ.
وأما قولُهم: الأَخبارُ تُرجح بالأعداد، كذلكَ ها هنا نرجِّحُ الأكثرينَ مِنَ المجتهدينَ على الواحدِ والاتنينِ، فليسَ ممَّا نحنُ فيهِ بشيءٍ؛ لأَنَّ أقوالَ المجتهدينَ لا ترجَّحُ بكثرةِ العددِ، فما (1) تعلَّقوا بِه مِن التَّرجيح ليسَ. بمؤثر في مسألتِنا.
فأمَّا خلافَةُ أبي بكرٍ، فإنها انعقدت بمن بايَعَ منهم، وليسَ مِن شرطها الإجماعُ، ثم إنَّ إجماعَهم لوْ كانَ مشروطاً كانَ من شرطِهِ حضورُهمِ، ولأوفَوْها حالةً واحدةً ومجلساً واحداً، وقدْ دخلَ النَّاس في بيعته أرسالاَ، وجاءَ أهلُ البيتِ راضينَ (2 ببَيعَتِه، مُقبلين 2) على مبادَرَتِه معتذرينَ عَنْ تخلفِهم بشُغلِهم. بمصابِهم برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فاعتذرَ كلّ منهم إلى صاحبِه، وأجمعتِ الأمة عليهِ. وأمّا الأنصارُ فكانت لهم جولة قبلَ سماع ما رُويَ لهم مِن قولِ النبيِّ- صلى الله عليه وسلم -: "الأئمةُ من قريشٍ" (3)، [ثم] زالَ خلافُ الأنصارِ
__________
(1) في الأصل: "فيما".
(2 - 2) غير واضح في الأصل.
(3) تقدم تخريجه 37614.

(5/141)


ورضيَ سعدٌ، ومَن تخلفَ عن بيعتِه تخلفصَ عناداً، أو تَقِيَّةً، أو لارتيابِ، أو لشبهةٍ عَرَصَت لَه إلى أنْ زالتْ.
وأمّا ابنُ عباسٍ فإنّهم لم ينكروا عليهِ اجتهادَه باجتهادِهم، وإنما رَوَوْا له الأخبارَ المرويَّةَ في رِبا الفضلِ، ولم يكن عندَه إلا ما رُويَ في ربا النَّسيئةِ، وكذلكَ رووا لَه نسخَ المتعةِ والرواياتِ التي تضمَّنتْ نسخها، فلزِمَهُ الرُّجوعُ إلى السُّنةِ، فأمَّا الاجتهادُ فلا، على أنَّ الإنكار الذي كان يجري بينهم لا يدلُّ على لزوم المذهب الذي دعا كلٌّ منهم إليه، فإنَّ مسائلَ الاجتهادِ كان كلٌّ منهم ينطق بحجَّتِهِ، ويجعلُ الإنكارَ لمخالفةِ الحجةِ، فهذا يقولُ: ألا يتقي الله زيدٌ؟ ايجعلُ ابنَ الابنِ ابناً، ولا يجعلُ أبا الأبِ أباً؟ (1) وهذا يقولُ: مَن شاءَ باهلني باهلته، والذي أحصى رملَ عالجٍ عدداً، ما جعلَ الله في الفريضةِ نصفاً ونصفاً وثلثاً (2)، وإلى أمثالِ ذلكَ.
وأمّا دعواهم جواز إسرار الخلاف في حقِّ بعضِ المتفقينَ، فلا نُسَلِّمُهُ، لأَنَّ تجويزَ ذلكَ يمنع الثقة، ويزيلُ القطعَ والعصمةَ، وما ذلكَ إلابمثابةِ تجويزِ إسرارِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لبعض ما أُوحيَ إليهِ وشُرِعَ له.

فصل
انقراضُ العصر معتبر لصِحَّة الإجماع واستقراره، فإذا تراجعَ بعض
__________
(1) تقدم 2/ 37.
(2) تقدم تخريجه 2/ 30.

(5/142)


الصَّحابةِ أو جميعهم عن حكمٍ تقدَّمَ إجماعُهم عليهِ، انحلَّ الإحماع، (1ولو أدركَ 1) بعضُ التابعينَ عصرَ الصَّحابةِ وهو مِن أهلِ الاجتهادِ، اعتُدَّ بخلافِهِ، ذكرَهُ أحمدُ.
واعتدَّ بخلافِ عليِّ رضي الله عنه في بيع أُمهاتِ الأولادِ بعدَ اتَفاقِهم على منع بيعِهنَّ (2)، وحدِّ عمرَ الشَّاربَ ثمانينَ بعدَ أن ضربَ أبو بكرٍ أَربعينَ، وضَرَبَ عليٌّ في خلافةِ عثمانَ أربعين (3)، فاعتدَّ بخلافِ مَن خالف بعدَ الاتِّفاقِ.
وإليهِ ذهبَ بعضُ أصحابِ الشَّافعيِّ (4).
وذهبَ المتكلمونَ مِنَ المعتزلة، والأشعريةِ، وأصحابِ أبي حنيفة فيما حكاهُ أبو سفيانَ، وبعض أصحاب الشافعي إلى أن انقراض العصر ليس بشرطٍ (5).
__________
(1 - 1) فِى الأصل طمس انظر "العدة" 4/ 1095.
(2) أخرجه عبد الرراق (13224)، وابن أبى شيبة 6/ 436 - 437، والبيهقي 10/ 348.
(3) أخرجه مسلم (1707) (38).
(4) زاد في الأصل بعد هذا: "إلى أن انقراض العصر ليس بشرط" وهو خطأ ناتج عن انتقال نظر مما بعده.
(5) انظر "المعتمد" 2/ 502، و "البر هان " 1/ 693، و "أصول السرخسي" 1/ 315، و "التقرير والتحبير" 3/ 86.

(5/143)


وقد ذهب بعض إصحابِ الشافعيِّ (1) إلى تفصيلٍ فقالوا: إن كان القول منهم مطلقاً، لم يُعتَبَر انقراضُ العصر، وإن كان مقيداً، فإن قالوا: هذا قولنا، ونحنُ نجوِّزُ أَنْ يكونَ الحقّ غيرَ ما ذكرْنا، وإنِ اتَّضحَ الحق في غيرِهِ صِرْنا اليهِ، لم يكنْ إجماعاً (2).
وقيلَ: إنَّ التفصيلَ في الوجهِ الثَّالثِ: إنْ كانَ قولاً من الجميع، لم يعتَبرْ فيهِ انقراض العصرِ، [و] إنْ كانَ قولاً مِن البعضِ وسكوتاً مِن الباقينَ، يُشترطُ فيه انقراضُ العصرِ.
وفائدةُ الخلافِ: أنَّ مَن قالَ باشتراطِ انقراضِ العصرِ، يجعلُ (3) رجوعَهم أو رجوعَ بعضِهم مزيلاً رافعاً للاجماع، ويكونُ التسويغُ بحالهِ، ومَن قالَ: لا يكونُ شرطاً، يقولُ: إنَّ إجماعَهم التقدمَ يُحَجّ به كلُّ راجع، فلا يُلتفتُ إلى خلافِهِ.

فصل
في جمع أدلِننا
فمنها: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ
__________
(1) يشير بهذا إلى قول الجويني. انظر "البرهان" 1/ 694.
(2) وهذا رأي الأستاذ أبى إسحاق الإسفراييني وأبي منصور البغدادي، وقال فيه القاضي الباقلاني: إنه قول أكثر الأصحاب. انظر "البحر المحيط" 4/ 512، و"البرهان" 1/ 693. و "العدة" 4/ 1097.
(3) في الأصل: "يحصل".

(5/144)


عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، فوجه الدَّلالةِ أَنَّه جَعَلَهم شهداءَ على غيرِهم، فأمَّا على أنفسِهم فلا، وأنتم تجعلونَهم حجَّةً على أنفسِهم.
ومنها: ما احتجَّ بهِ صاحبُنا مِنْ أقوالِ الصَّحابةِ، فمنها: ما رُوِيَ عن على أنَّه قالَ: كان رأيَ مَعَ رأيِ أميرِ المؤمنينَ عمرَ: أنْ لا تباعَ أمَّهاتُ الأَولادِ، وأرى الآنَ أَن يُبَعْنَ، فقالَ له عَبيدةُ السَّلْمانيُّ: رآيك معَ الجماعةِ أحبُّ إِلينا مِنْ رأيِكَ وحدَكَ (1).
وإظهارُ علي للخلاف بعدَ الاتفات يكفي، فكيفَ وقدْ أقرَّهُ الجماعةُ، وغايةُ ما نطقَ بِهِ عَبيدةُ ترجيحاً لأحدِ الاجتهادينِ وهو الأَوَّلُ. وروى عطاء عَنِ ابنِ عباس أنَّه قالَ: واللهِ ما هيَ إلاَّ بمنزلةِ بعيرِكَ وشاتِكَ (2).
وكانَ عبدُ اللهِ بنُ الزبيرِ يبيحُ بيعَ أمَّهاتِ الأَولادِ (3).
ومنها: أنّه قولُ معصومٍ، أو قولُ مَنْ جعل الشَّرعُ قولَه حجَّةً، فلم يستقرَّ إلاَّ بموتِهِ، كالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: أنَّ ما ذهبَ إليهِ المخالفُ يجعل قولَ الإنسانِ عَنِ اجتهادِهِ مانعاً لَهُ عِن اجتهادِهِ، وهذا فاسدٌ؛ لأَنَّ الرأيَ أبداً عندَ المراجعةِ والتحيّر وتكرارِ النَّظرِ يكونُ أصحَّ، ولهذا قالَ الله سبحانَهُ: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا
__________
(1) تقدم تخريجه في أول الفصل السابق. ص 143.
(2) أخرجه عبد الرزاق (13218).
(3) أخرجه عبد الرزاق (13228)، (13229)، والبيهقي 1/ 3430.

(5/145)


{الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] فجعلوا باديَ الرَّأيِ مطعناً، فلا يجوزُ أَنْ يُجعل اَلرَّأيُ الأوَّلُ محكماً على الرأيِ الثاني ومانعاً منْهُ، سيَّما مِن شخْص واحدٍ، ولا سيَّما وأدلةُ الاجتهادِ ظنٌّ صادِرٌ عنْ أمارةٍ، فإذا بان له أنَّ الأولَ خطأٌ، زالَ ما كانَ يظنّهُ دليلاً، [وِ]، ليس بدليل لكنه شبهةٌ حصرته (1) عن صحَّةِ التأملِ، وصارَ كرجلٍ بانتْ له القِبلةُ بأمارةٍ صحَّتْ عندَهُ، بعدَ أَنْ كانَ عندَهُ أَنَّ القِبلةَ إلى جهةٍ غيرِها بأمارةٍ بانَ له فسادُها، وكذلك الوحيدُ في الاجتهاد يرجِعُ إلى اجتهادِهِ الثَّاني، حتى إنَّهُ لوْ حكمَ في حادثةٍ، وبانَ له في مثلِها خلافُ الأَوَّلِ، صارَ إليهِ، تعويلاً على ثاني اجتهاديهِ دونَ أوَّلِهما.
ومنها: لأصحابِ الوجهِ الثالثِ، وهو التفصيلُ، أَنَّ المجتهدَ قَد يسكتُ، لأَنهُ في رَوِيَّةِ النظرِ، فلا يُقطعُ عليهِ. بموافقةٍ حتى يمضيَ زمانُ اجتهادِهِ بوفاتِهِ.

فصل
في الأسئلةِ على أدلَّتنا
فمنها: أَنَّ الآيةَ تقتضي أَنْ يكونوا شهداءَ على الناسِ، وليسَ فيها نفيُ شهادتِهم على أنفسهم، بلْ رُبَّما كانَ إثباتُ شهادتِهم على غيرِهم تنبيهاً على قَبولِ قولِهم على أَنفسِهم، فإنَّ الإقرارَ يُقبلُ على مَنْ لا تُقبلُ شهادتُهُ على غيرِهِ، وهمْ غيرُ العدولِ، ولأنَّ ذلكَ عائد إلى يومِ القيامةِ.
__________
(1) في الأصل: "حصرناه".

(5/146)


ومنها: أَنَّ قولَ علي يعطي اتفاقَهُ معَ عمر فقطْ، وهذا قولُ اثنينِ اتَفقا يرجعُ أحدُهما إلي رأيٍ خالف بِهِ الرأيَ الذي وافَقَ بِهِ، وليسَ هذا بإجماع ولا مِمَّا نحنُ فيهِ بشيءٍ.
ومنها: قولُهم: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما كانَ قولُه الثَّاني هو المعمولَ بِهِ وعليهِ، ولم يستقرَّ قولُهُ إلاَّ بموتِهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأَنَّ النسخَ مِنَ اللهِ سبحانَهُ مُتَرَقب، والنَّسخ إنَّما هو بقول غيره لا بقول نفسه، وبقول مَنْ لا يقولُ: إنَّ الأَوَّلَ خطأ، وإنَّما يقول: إنَّ الأول صوابٌ ومصلحةٌ إلى الآنَ، والآنَ قَدْ كانتِ المصلحةُ إزالةَ ذلكَ الحكمِا الأَولِ، وها هنا يفضي إلى تخطئةِ الاجتهادِ في الحكمِ الأَولِ، ولا يجوزُ تخطئةُ الجماعةِ، ولو جُوِّزَ تخطئَتُهم لا حصلتِ الثِّقةُ بإجماعِهم.
ومنها: سؤالُ مَنْ قالَ بالتفصيلِ مِنْ أصحابِ الشَّافعي: أنَّ الظَّاهرَ مِن سكوتِهِ موافقتُهُ، وفي سكوتِهِ نوعُ احتمالٍ، فإذا قالَ بعدَ ذلكَ كانَ القولُ الأولُ صريحاً يقضي على الظَّاهرِ، فأمَّا إذا وافقَ قولاً فَلَمْ يبقَ احتمالٌ، فكانَ إجماعاً قطعياً لا يجوزُ أَنْ يؤثرَ فيه خلافٌ.

فصل
في الأجوبةِ عَنْ أسئلئهم
فأمَّا قولُهم على الاَيةِ: ليْسَ فيها أَنَّهم ليسوا حجَّةً على أنفسِهم، ففيها ذلكَ، لأَنهُ غايَرَ بينَ أنفسِهم وبينَ غيرِهم، فجعلَهم شهداءَ على النَّاسِ وجعلَ الرَّسولَ عليهم شهيداً، فأفادَ ذلكَ أَنَّ الشَّهيدَ عليهمُ الرَّسولُ

(5/147)


خاصَّةً دونَ أنفسِهم، كما أنهمْ شهداءُ على النَّاسِ دونَ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم - واعتبار عدالتهم يدل غلي ان شهادتهم على غيرهم، فأمَّا قولهم علي أنفسِهم، فلا (1) يشترطُ له العدالة كإقرارِهم.
وأمَّا قولُ علي رضي الله عنه، فإنَّ اعتراضَ عَبيدة عليهِ يعطي أنَّهُ كانَ رايهُ معَ الجماعةِ، وقدْ روِيَ: أجمع رأيي ورأيُ الجَماعةِ أَنً أمهاتِ الأولادِ لا يُبَعْنَ (2)، فإذا كانَ قولُهُ: رآيكَ مَعَ الجماعة، عُلِمَ أنه كانَ إجماعاً، فلم يبقَ إلاَّ ذكرُ علي لعمرَ وحدَهُ، فكانَ ذلكَ لأنَّهُ الإمامُ، فاستغنى بذِكْرِهِ عن ذِكْر مَنْ تابَعَهُ؛ لأَنَّهُ الإمامُ المتَّبَعُ، ولو كان عمرُ وحدَهُ لم يكنْ لترجيحِهِ عليهِ معنىً؛ لأَنَّ قولَ عمرَ ليسَ بمقدَّمٍ على قولِ علي في الاجتهادَ ولا الرِّوايةِ، ولا نوع مِنَ الأَنواع، لا سيَّما بعدَ موتِ عمرَ وحياةِ علي وولايتهِ.
وأَمَّا اعتذارُهم عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بإنَّه يرجع إلى النَّسخ ويتوقَعُه مِنْ جهةِ اللهِ؛ فإنْ كانَ يتوقعُ النَّسخَ، فالمجتهدُ أيضاً تَعرِضُ لَهُ دَلالة شرعية بعدَ أَنْ كانَ على شبهةٍ، وليسَ بمعصوم في نفسِهِ ما دامَ حياً، فهوَ مِنْ أهلِ النَّظرِ يتلقّى ما يأتي مِن قِبَلِ الله تعالى، فإنهُ مِنْ وجوهِ الاستدلالِ، وما بينَهما فرقٌ أكثرُ من [أنَّ] الدلالةَ الناسخةَ قطعيةٌ، والدلالةَ العارضةَ للمجتهدِ ظنِّيَّةٌ، وحالتُهُ الثَّانيةُ إنْ لم تترجَّحْ على رأيِهِ الأوَّلِ بالبادرةِ،
__________
(1) في الأصل: "لا".
(2) تقدم في الصفحة 143.

(5/148)


فليسَ تنقصُ عنه، فلا إجماعَ مع انخرامِ اتِّفاقِهم. بما عَرَضَ مِن اختلافهم.
وأمَّا سؤالُ أصحابِ الشَّافعيِّ على التفصيلِ، فليس بصحيح؛ لأنَّ قولَهم بعدَ السُّكوتِ وبعدَ التلوُّمِ فإنَّما قضيَ بِه، لأنهُ رأي صدرَ عنِ اجتهادٍ، فإنْ ترجَّحَ بالقولِ على الإمساكِ، فقدْ ترجحَ الثَّاني على الأَوَّلِ بطولِ التأمُّلِ ومراجعةِ الرأيِ، وما زالَ العقلاءُ يبنونَ على الرأيِ المتأخِّرِ المختَمِرِ لِمَا يحصلُ فيهِ مِنْ طولِ المُهلةِ، وكلُّ رأيٍ فَطيرِ وإنْ كانَ من جماعة، فالمختمرُ أَوْلى، وإن كالت مِن دونِهم عدداً. ولا رَأينا قولاً كان حجَّةً على قائِلِهِ، معَ كونِهِ صادراً عن رأيِهِ، يَحجُزُه عَنِ العملِ برأيِهِ الثَّاني.
فإن قيلَ: بلْ قدْ يمنعُ الأوَّلُ العملَ بالثاني فيما طريقُهُ الاجتهادُ، ويكون قولُ الواحدِ الأوَّلِ مانعاً مِن نفوذِ قولِه الثَّاني، بدليلِ أنَّ الحاكمَ إذا حكمَ في حادثةٍ باجتهادِهِ ثُمَّ بانَ لَهُ باجتهادِه، الثًاني أنَّ (1) الحكمَ الأَولَ خطأ، فإنَّه لا ينقضُ الحكمَ، ولا يمنعُ نفوذَهُ تجَويزُ حدوثِ اجتهادٍ مِنَ الحاكمِ بعدَ الأَولِ.
قيلَ: الحكمُ هوَ الحجَّةُ عليكم، لأنَّ (2 مَن حَكَم 2) في قضيةٍ بحكم لشخصينِ تحاكما إليهِ ثُم جاءا يتحاكمان عنده في تلك القضية، وجب أن يقضيَ فيها باجتهادِهِ الثاني، حتَّى إذا كانَ قد تَغيَّرَ اجتهادُه حكمَ في
__________
(1) في الأصل: "لأن".
(2 - 2) طمس في الأصل.

(5/149)


القضيّةِ الثّانيةِ باجتهادِهِ الثّاني، وإن كانا في الصُّورة سواءً، وإنَّما لم نَنقضِ القضيَّة بعينها، لاننا لو نقضْنا اجتهادَه باجتهادِ غيره ممن هو أَعلم منه، لكانت (1) الأحكام لا تَستِقرُّ، وليس كذلك ها هنا، فإن توقيتَ الاجماع بانقِرَاضِ العصر لا يُخِلُّ بالإجماع.
نعم، ولنا مندوحةٌ عن القَطْع في الحادثة؛ لأن الحُكْم فيها قد يَحصُل بالاجتهاد المُسوَّغ، ولا تَقِف الأحكام على الإجماع، فأمَّا الحكمُ فلا بُدَّ لكل حادثةٍ من حكم نافد، ومتى لم يكن كذلك اختَفتِ الأحكام، ووَقَفَت الحوادثُ.

فصل
في شبههم
فمنها: قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115]، وهذا عامٌّ في العصر وبعد انقِراضِه، وفيمن خالَفَهم من بعدِهم، ومن خالفهم من جُملَتِهم.
ومنها: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:"امَّتي لاتجتمعُ على الخطأ، ولا تجتمعُ على ضَلالةٍ" (2).
ومنها: أنه قولُ معصومٍ فكان حُجَّةً موجودةً من غير مُهلةٍ ولا تَراخٍ،
__________
(1) في الأصل: "فكانت".
(2) تقدم تخريجه ص 106.

(5/150)


قالوا: فلم يَقِفْ على انِقراضِ عصرٍ، كالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: أن قولكم يُفضِي إلى أن تَزُولَ خَصِيصةُ الإجماع، فإنَّ خَصِيصَته وسُلْطانه هو أنه لا يجوزُ عليه الخطأُ، فإذا قلتُم بأنهم إذا رَجَعُوا بانَ خطؤُهم، فلا ثِقةَ إلى قولهم، إذ قد أَجمَعُوا على رأيٍ واحدٍ فبانَ أنهم كانوا فيه على خطأ، ومثلُ هذا لا يجوز كالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يجوز أن يقولَ قولاً، أو يَحكُمَ بحكمٍ شرعي (1ويقعُ خطأً، بل 1) لا يَقَعُ إلا صواباً، فإن جاء نَسخُ ذلك من قِبَلِ الله سبحانه، كان (2 حكمُه الأولُ 2) صواباً، والثاني صواباً أيضاً.
ومنها: أنه اتفاقُ فقهاءِ العصرٍ على حُكْم الحادثة، فكان حُجَّةً مقطوعاً بها، أو فكان حُجَّةً معصومة كما لو انقَرَضَ العصرُ.
ومنها: أن ما ذهبتُم إليه يُفضي إلى أن لا يَستقِرَّ لنا إجماع، والإجماع دليلٌ من أدلةِ الشرع نائب عن النبوَّة، فكلُّ قولِ ومذهب يُؤَدِّي إلى تعطيلِه باطلٌ في نفسه، قالوا: ووجه دَعْوانا عليكمَ عدمَ استقرارِه: أن العصر لا يَنقرِضُ حتى يَتجدَّدَ قومٌ من أهل العصر الثاني، وهم من أهل الاجتهاد، وكذلك العصرُ الثالث، وعلى هذا فيتسلسلُ الخِلافُ، ولا يستقرُّ إجماع.
ومنها: أن من كان قولُه حُجَّةً لم يَقِفْ كونُه حجةً على موته، كالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1 - 1) طمس في الأصل.
(2 - 2) غير واضح في الأصل.

(5/151)


فصل
في الأجوبة عن شبههم
أما الآية فلا حُجَّةَ فيها؛ لأن مع المخالفة يكون السبيلُ سبيلَ بعض المؤمنين، والاَية تقتضي اتِّبَاع غيرِ سبيل المؤمنين أَجمعَ.
فإن قيل: فإذا كان مُقتَضَى الآية كلَّ المؤمنين، فالوعيدٌ لا يتَأتى، ولا يبقى مَن ينصرفُ إليه.
قيل: بل يَبقَى من ينصرفُ إليه؛ غيرُ المجتهدين، أو من يتحرَّفُ عن إجماع المجتهدين وهو مجتهدٌ، لكن يَترُكُ ذلك مُحاباةً أو عصبيةً أو تقليداً، وأَدْواءُ الأهواءِ كثيرةٌ، وأحقُّ ماصُرِفَ الوعيدُ إليها دونَ انصرافِه إلى الاجتهادِ.
وأما قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -:"امَّتي لا تَجتَمعُ على الخطأ، ولا تجتمعُ على ضَلاَلةٍ" (1)، فنحن قائلونَ به، وإذا اجتَمَعَت ومهما كان فيهم مُخالِف، فما اجَتَمَعت، لكنها اختَلَفَت.
وأما تعلّقهم بقول النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فغيرُ حُجَّةٍ من وجهٍ، و [هو] أن الحكم لا يستقرُّ إلا بعد انقطاع الوحي بموت - صلى الله عليه وسلم -، وعَدَمِ تَرقُّب النسخ، وإنما وَجْهُ أن يكون حجة من غير مُهلةٍ: لأن ما يَصدُر عنه لا يَصدُر عما يجوزُ عليه الرجوعُ، ولا تحصل إصابةُ الحق فيه بالتأمُّل والفكر، لكن بالوَحْي
__________
(1) تقدم تخريجه ص 106.

(5/152)


عن الله سبحانه، فما يُبادِرُ به حقّ، وما يَتعقبه من النسخ فإنما يكون للمُستَقبَل، ولا يُعتَرض على الأول بالإبطال والتخطئة، بخلاف مسألتِنا، فإنه يَصدرُ عن رأي واجتهادٍ، وقد يَضِل الرأيُ في الأول وَيَتضحُ في الثاني لإدْمان الفِكْر والبحث، والنبيُّ لا يقول: الأولُ خطأٌ، وهذا المجتهدُ يقول: الرأي الأولُ خطأ، وكان التعلّقُ (1) فيه بشُبْهةٍ، والآن قد وَضَحَ الدليلُ، وبانَتِ الحُجَّة، فالردُّ لرأيه الثاني مع صِدْق اجتهاده كرَدِّ خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما وَرَدَ إليه من النَّسْخ مع صِدْق خبره، فكما لا يجوزُ ذلك لا يجوزُ هذا.
وأما قولهم: بأن ما ذهبتُم إليه يُفْضي إلى أن لا يتَحقًقَ إجماعٌ لتَسَلسُل الخِلاف، ولحُوقِ خلاف المجتهدين في عَصْرٍ بالعصر الذي قبلَه، فإن هذا يَنبَنِي على أصلٍ: وهو أن التابعيَّ إذا عاصَرَ الصحابةَ وهو من أهل الاجتهادِ، هل يُعتَدُّ بخِلافِه (2)؟ ففيه روايتانِ عن صاحبِنِا، فإن قلنا: لا يكون مُعتَدًّا بخلافِهِ. لم يُفْضِ إلى ما أَلْزَمُونا من التسلسسل، بل يَنقَطِعُ عصرُ الضابعين عن عصر الصحابة.
والثاني: يُعتَدُّ به، فعلى هذا يصيرُ التابعيُّ المجتهد كآحاد الصحابةِ، فإذاكان مُجمِعاً معهم على قولِ، كان كإجْماع الصحابة، لا يَجُوزُ لمن تَجدَّدَ من التابعين في العصرَ الثاني خلافُ إجماعهم؛ لأنه ما عاصَرَ الصحابةَ وإنما عاصَرَ من عاصرهم، وإنما يَسُوغُ الخلافُ لمن عاصرهم،
__________
(1) في الأصل: "التعليق".
(2) ستأتى المسألة بالتفصيل في الصفحة 194.

(5/153)


فأمَّا من عاصرَ من عاصَرَهم فلا يجوز، وحصولُ الشخص من أهل الاجتهادِ ليس بأمرٍ يَتجدَّدُ فَيتَسلسلُ ويتلاحقُ، لأن (1) ذلك في الثمار إذا بَدَا الصلاحُ بها تلاحَقَتْ، فأمَّا أن يلحقَ التابعيُّ بالصحابي، وتابعيُّ التابعي بالتابعيِّ فبعيد حصولُه، وما يَبعُدُ ويَندُرُ حصولُه لا يُوقِفُ حصولَ الاجماع ولا يَتعذَّر به.
وأما قولهم: إنَّ هذا يُفضي إلى زَوَال خَصيصةِ الإجماع: وهي العِصْمة ونَفْيُ الخطأ عنهم، فإذا جَوَّزتُم رجوعِ جماعتهم عما كانوا اتفَقُوا عليه من الرَّاي، لم يَبْقَ لأجماعهم عِصْمةٌ، ألا ترَى أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما خُصَّ بالعِصْمة لم يرجع عن قول قاله، ولا يجوزُ عليه تخطئةُ حكمٍ حَكَمَ به، فهذا أجودُ ماتعلقوا به وأَشكلُه.
فيقال: إنَّ الاجماع عندنا مشروطٌ، فإذا لم يُوجَدْ شَرطُه لا يكون إجماعاً، فلا يكون تخطئةً لما ضَمِنَ الشرعُ عِصمتَه، والشرط بقاءُ اعتقادِهم مع اجتهادهم إلى حينِ وفاتِهم، لأنَّ الرأي مختلف جداً، لا سيَّما إذا كان عليه أَمَارات تختلفُ، فما دامَ المجتهدُ باقياً، والأَماراتُ لائحةً، وأدواتُ الاجتهاد صالحةً (2)، فالاعتدادُ بها واقع، وتخصيصُ (3) عَيْن الرأي لا وجهَ له، على أنه ليس صَرْفُ الصِّيانة عن الخطأ والضلال [عن] الرأي الأول
__________
(1) غير واضحة فِى الأصل.
(2) في الأصل: "لائحة".
(3) في الأصل: "تخص".

(5/154)


وإجماعهم المبتدأ بأَوْلَى من صرفِه عن الثاني، بل الثاني هو المتخمِّرُ الذي تَحقَّقَ بطول المُهْلةِ، وجَوْدة التأمُّل، والمتحقِّقُ أبداً هو الثاني دون البادِئ.
وأمَّا قياسُهم المجرَّد وقولُهم: اتفاقُ فقهاء العصر أَشبه ما بعدَ انقِراضِه، فليس تَعلّقُك باتفاقهم الأَوَّل بأَوْلَى من تَعلُّقِنا باتفاقهم الثاني، فنقول: اتفق علماء العصرِ على حكمِ الحادثةِ فكان التعويلُ عليهِ، أو فكان حجّةً معصومةً، أَو حجّةً مقطوعاً بها كالاتفاق الأول (3 قد وُقِفَ عليه وبَقي مدةً1)، ثم بان للثاني رأي حَتْم بعد التخمير وطولِ البحثِ والجِدِّ والتشميرِ.
وأمّا قياسُهم على النبيَّ- صلى الله عليه وسلم - فقد سَبَقَ الكلامُ عليهِ.

فصلٌ
إذا اختلفتِ الصحابةُ على قولينِ، ثُمَّ أجمعَ التَّابعون على أَحدِ قوليِ الصّحابةِ، لمْ يرتفع الخلافُ، وساغَ لكلِّ مجتهدٍ الذّهابُ إلى القولِ الآخرِ، نصَّ عليه أحمد، وبهذا قالَ أبو الحسنِ الأشعريُّ.
وقالَ أصحابُ أبي حنيفةَ (2) فيما حكاهُ أبو سفيان، والمعتزلةُ (3): يرتفعُ الخلافُ، فلا يجوزُ الرّجوعُ إلى القولِ الآخرِ. وإنّما قالوا هذا، إذا كان إجماعُ التابعينَ على أحدِ القولينِ بعدَ انقراضِ أهلِ القولِ الآخرِ.
__________
(1 - 1) طمس في الأصل.
(2) انظر "أصول السرخسي" 1/ 320، و "التقرير والتحبير" 3/ 88.
(3) انظر "المعتمد" 2/ 497 - 517.

(5/155)


واختلفَ أصحابُ الشَّافعىّ (1) على وجهينِ: أحدُهما كمذهبنا، وعليه الأكثرونَ منهم، والآخر كمذهبِ مَن حكينا خلافَهُ.

فصل
في أدلّتنا
فمنها: قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ولم يفرّق بينَ وجودِ إِجماع التّابعين وعدمِه.
ومنها: ما رويَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:" أصحابي كالنجومِ، بأيهمُ اقتديتُم اهتديتم" (2)، ولم يفرّق بين أنْ يُجمِعَ التّابعونَ بعدَ ذلكَ، أو لم يُجمِعُوا.
ومنها: أنَّ اختلافَ الصّحابةِ في المسألةِ على قولينِ إجماعٌ منهم على تسويغ الاجتهادِ، وجوازِ تقليدِ كلِّ واحدٍ منَ الفريقينِ وإقرارِه عليهِ، وإذا ثَبَتَ إجماعُهم على التسويغ، فهو إجماعٌ منهم على حكمٍ شرعي، فلمْ يُعتدَّ بإحماع التّابعينَ، كما لو أجمعوا على حكمٍ واحدٍ مِنْ تحريمٍ أو إباحةٍ، فأجمعَ التّابعونَ على خلافِه، فإنّه لا يُعْتدُّ بإجماعِهم.
ومنها: أنّه لا خلافَ أنّ الإجماعَ إذا حصلَ واستقرَّ، لم يَجُز أنْ يتغيّرَ بالاختلافِ، كذلك إذا حصلَ الاختلافُ واستقرُّ وجبَ أنْ لا يتغيّرَ
__________
(1) انظر "البرهان" 1/ 780، و"المستصفى" 1/ 203، و"الأحكام" 1/ 248.
(2) تقدم تخريجه 1/ 280.

(5/156)


الإجماعُ بالاختلافِ (1كي لا 1) يؤدي إلى إبطالِ الإجماع، والمستقرّ مِنْ إجماع الصحابةِ هوَ تجويزُ تقليدِ كلِّ واحدٍ مِن الفريقينِ وتسويغ قولِه، فلا يجوزُ أنْ يزولَ هذا المستقرُّ بإجماع التّابعينَ.
ومنها: أنّ كلَّ واحدٍ مِن الفريقينِ كالحيِّ الباقي في كلِّ عصرٍ، ولهذا تُحفظُ أقوالهم بعدَهم ويحتجُّ بها، وإذا كانوا بمنزلةِ الأحياءِ وجبَ أنْ لا يعتدَّ بالإجماع مع خلافِهم.
ومنها: أنّ هذا الحكمَ كان يسوغُ فيهِ الاجتهادُ، ولا يجوزُ نقضُ الحكمِ على مَن حَكَمَ بِه بخلافِ الإجماع، وهذا نسخ بعدَ انقطاع الوحي، وذلكَ لا يجوزُ.
ومنها: أنّه اختلافٌ حصَلَ مِن الصحابةِ فلا يزولُ بإجماع التّابعينَ، كما لوِ اختَلَفت الصحابةُ على قولينِ وأجمعَ التّابعونَ على قولٍ ثالثٍ.
ومنها: أنّه لوْ كانَ إجماعُ التّابعينَ على أحدِ القولينِ مُسقِطاً لِما تقدَّمَ مِن الخلافِ، لَوَجبَ أنْ يُنقَضَ كلُّ حكمٍ حُكِمَ بِه في عهدِ الصّحابةِ بخلافه؛ لأنّه مقطوعٌ ببطلانِه، كما إذا حَكَمَ الحاكِمُ ثُمَّ بانَ لهُ فيما حَكَمَ بِه إجماعٌ أو نصٌّ يخالفُ ما حَكَمَ بِه، فإنّه ينقضُ حكمه، فلما لم ينقض ها هنا عُلمَ بطلانُ كونِه إجماعاً، فإنْ قالوا بذلكَ وارتكبوهُ فقدْ أَبطلُوا، وذلكَ أنّ الصحابةَ أجمعوا على صحّةِ ذلك وبقَّوهُ، وكلّ حكمٍ اجتمعتِ الصّحابةُ عليهِ لم يَجُزْ للتّابعينَ الإجماعُ على خلافِه كسائرِ الأحكامِ.
__________
(1 - 1) غير واضحة فِى الأصل.

(5/157)


ومنها: أنّ هذا القولَ يفضي إلى أن الصّحابةَ قدْ ذهبَ عنهم، وخفيَ ما في هذا الحكمِ الذي أجمعَ عليهِ التّابعونَ مِن الحكمِ القطعيِّ، وهذا عينُ الخطأِ والضلال عنِ الحقِّ الذي نفاهُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عُلماءِ أمَّتِه، ولا سيَّما أصحابُه، وما أَفضى إلى الباطلِ باطل.
ومنها: أنّ ما ذهبَ إليه المخالفُ يؤدِّي إلى أنْ يكونَ إجماعُ الصّحابةِ على تسويغ الخلافِ مشروطاً بعدمِ دليلٍ قاطعِ يجوز وجودُه، ويُترقّبُ كونُه [ناسخاً] (1)، وهذا يقطعُ عَنِ الثقةِ بإجماعِهم، ويُخرِجُه عن كونِه مقطوعاً به.
ومنها: أن إجماعَ [الصّحابة] (2) أعلى وأقوى مِن إجماع غيرِهم عند التأمُّلِ، وذلك أنّ آحادَهم حجّة عند كثيرٍ مِن الأصوليينَ، وليسَ لغيرِهم مِن المجتهدينَ هذه الرّتبةُ.
ومنها: أن النّاسَ اختلفوا في إجماع غيرِهم ولم يختلفوا في إجماعِهم، سِوى مَن شذَّ ممَّنْ لا يُعَوَّلُ على خلافِه، وإذا ثَبَتَ هذا فقدْ حصَلَ إجماعُهم على تسويغ كلِّ ذاهبٍ ذهبَ إلى أحدِ المذهبينِ، فإذا جاءَ إجماعُ التّابعينَ، وهو أضعفُ على ما قرّرنا، فأزالَ التسويغَ وجعلَ أحدَ المذهبينِ مقطوعاً على خطئِه، كانَ إجماعُهم الأدنى الأضعفُ مُزيلاً لإجماع الصّحابةِ، وهذا لا يجوزُ، كما لا يجوزُ أنْ يقضيَ الظاهرُ على النصِّ.
__________
(1) ليست في الأصل. انظر "العدة" 4/ 1108 - 1109.
(2) ليست في الأصل. انظر "العدة" 4/ 1108.

(5/158)


فصلٌ
في جمع الأسئلةِ على أدلَّتنا
فمنها: أنْ قالوا: قدْ عوَّلتم على إجماعِهم على تسويغ الاجتهادِ حيثُ انقسموا على مذهبينِ، وليسَ يمتنعُ أن يتفقوا على تسويغ الاجتهادِ اتفاقاً مشروطاً بأنْ لا يظهرَ إجماعٌ، فإذا ظهرَ إجماعٌ سقطَ ذلكَ الاتفاقُ، كما أنّهم اتفقوا على أنّ فرضَ العادمِ للماءِ التيممُ ما لم يجدِ الماءَ، فإذا وجدَ الماءَ زال حكمُ ذلكَ الإجماع.
ومنها: أنْ قالوا: لو كانوا كالأحياءِ لوجَبَ أن لا ينعقدَ الإجماع بعدَ موتِهم في شيءِ مِن الحوادثِ، لأنَّه لا تعرفُ فيه أقوالُهم، ولوجبَ أنْ يجوزَ تقليدُهم كَما يجوزُ تقليدُ الأحياءِ.

فصل
في الأجوبةِ عنْ أسئلتهمِ
فأمّا قولُهم: إنّه يجوزُ أنْ يكونَ اتفاقاً مشروطاً كاتفاقِهم على جوازِ الصّلاةِ بالتيممِ، فهذا غيرُ صحيحِ، لأنّ القومَ سوّغوا بإجماعِهم الاجتهادَ في تلكَ الحادثةِ على الإطلاقِ، ودعوى أشتراطِ معنى الإجماع دعوى بغيرِ دليلٍ، وإنّما هي (1زيادة من 1)، أنفسكم وفارَقَ اتفاقَهم على جواز الصّلاةِ
__________
(1 - 1) طمس في الأصل.

(5/159)


بالتيممِ، فإنّها مشروطةٌ نطقاً بقولِه: "الترابُ كافيك ما لمْ تجدِ الماءَ" (1)، والإجماعُ فيمَنْ لم يجد الماء، فليس مكان الإجماع مكان الخلاف، فالإجماع على مَن لم يجد الماء، والخلاف فيمَن وَجَدَه، وهنا إجماعُهم حصلَ على تسويغ الخلافِ في الحادثةِ على الإطلاقِ.
وأمّا قولُهم: ليسوا كالأحياءِ، بدليلِ ما ذكروهُ مِن جوازِ حدوثِ خلافٍ في حوادثَ، فإنّما هم كالأحياءِ عندنا فيما أفتَوا فيهِ، فأمّا فيما لم يفْتوا فيهِ وحَدَثَ بعدَهم [فلا]، وهذا كما نقولُ: إنّهم إذا أجمعوا على قولِ واحدٍ، ثُمّ ماتوا، عُمِلَ بأقوالِهم بعدَ الموتِ، فوجبَ المصيرُ إليهِ كما لو كَانوا أحياءً فأفتوا بذلك ثُمّ لم يُجعلوا كالأحياءِ فيما يحدث بعدَهم (2) مِن الحوادثِ، فكذلكَ ما اختَلفُو افيهِ مثله.

فصل
في شُبَهِ المخالفينَ
فمنها: قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
ومنها: ما رويَ عنِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "أمتي لا تجتمعُ على خطأٍ،
__________
(1) أخرجه أحمد 5/ 146، وأبو داود (332) (333)، والترمذي (124)، والنسائي 1/ 171، من حديث أبى ذر.
(2) في الأصل: "بعده".

(5/160)


وعلى ضلالةٍ" (1)، وهذا إجماعُ أهلِ العصرِ، فدخلَ تحت الآية والخبرِ حسبَ دخولِ إجماع الصّحابة.
ومنها: أنّه اتفاقُ علماءِ العصرِ على حكمِ الحادثةِ، فكانَ إجماعُهم حجّةً مقطوعاً بها، كما لو لم يتقدّمْها خلاف.
ومنهاة أنّه إجماعٌ تعقَّبَ خلافاً فأسقطَ حكمَ الخلافِ، كما لو اختلفتِ الصّحابةُ على قولينِ ثُمّ أجمعوا على أحدِهما.
ومنها: أنّ الإجماع حجّةٌ، والاختلافَ ليسَ بحجّةٍ، فلا يتركُ ما هو حجّةٌ لما ليسَ حجةً كالكتابِ والسُّنَّةِ.
ومنها: أنّ كلّ حكمٍ لا يجوز لعامَّة عصرِ التابعين العملُ بِه، لم يَجُزْ لِمَن بعدَهم العملُ به، كالنّسوغ مِن أحكامِ الشّرع.
ومنها: أنّه إذا تعارضَ خبرانِ سمّ اتّفقَ أهلُ العصرِ على تركِ أحدهما والقولِ بالآخرِ، سقطَ المتروكُ منهما، كذلك ها هنا في القولينِ إذا تركَ جماعة علماء العصرِ أحدَهما وعملوا بالآخرِ.
ومنها: أَنّ إجماعَهم معنىً يُسقطُ الخلافَ ويرفعُه فيما بعدُ، فَرَفَعَهُ فيما تقدَّمَه كالسّنًةِ.

فصلٌ
في أجوبتنا عنْ شُبههم
أمّا الآيةُ، فلنا منها مثلُ ما لهم، ونحنُ بها أسعدُ، والصّحابةُ إلى
__________
(1) تقدم تخريجه ص 106.

(5/161)


حكمِها أسبقُ، وهم بِه أليقُ؛ لأنّ الصّحابةَ أحقُّ بالحثِّ على اتباعِهم، والوعيدِ على اتباع غيرِ سبيلهم، لأنّ لهم مزيّةَ السَّبقِ إلى التصديقِ والاتباع والاجتهادِ، وقدْ أجمعوا على حكمٍ هو التسويغُ، فلا وجهَ لاتِّباع سبيلٍ هو غير سبيلِهم، وهوَ رفعُ التسويغ الذي أجمعوا عليهِ.
وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -:"أمتي لا تجتمع على ضلالةٍ، ولا على خطأ"، فينفي الخطأَ عنِ الصّحابةِ فيما أجمعوا عليهِ مِن تسويغ الاجتهادِ.
وأمّا قولُهم: إنّه اتفاقُ علماءِ العصرِ على حكمِ الحادثةِ، فقدْ سبَقَه اتفاقُ علماءِ العصرِ الأشرفِ، والقرنِ الأفضلِ على تسويغ المجتهدِ في حكمِ الحادثةِ، ولا يجوزُ اعتبارُ إجماع تقدَّمَه إجماع قبلَه بإجماع لم يتقدَّمْه إجماع قبلَه، ألا ترى أنّ الاختلافَ فيما لم يتقدَّمْه إجماع على حكمٍ واحدٍ، جائزٌ سائغٌ، والاختلافَ فيما تقدَّمه إجماع لا يجوزُ إحداث قولٍ آخرَ، ويُعتَبر المعنى بقولهم: إجماعٌ تقدَّمه خلاف لا يدفع المعصوم، وهو أنّه إجماع تقدّمهُ إجماع في الحقيقةِ، وهو إجماعُهم على التسويغ (1 لإجماع لم يَتَقدَّمه 1) اختلاف رأساً، فإنّه اتفاقٌ لا يفضِي إلى مخالفةِ اتفاقٍ قبلَه، وها هنا بخلافِه.
وأمّا قياسُهم على إجماع الصّحابةِ على أحدِ قولينِ اختلفوا فيهما؛ فلأنّ من شرطِ الإجماع انقراضُ العصرِ، وهم ما داموا أحياءً في مهلةِ النظرِ، والإجماعُ منهم ما استقرَّ؛ لأنّهم كانوا في طلبِ الدليلِ، فلا يُجعَلُ
__________
(1 - 1) طمس فِى الأصل.

(5/162)


قولُهم الأوّلُ مانعاً مِنْ قولِهم الثّاني معَ تخمُّرِ الرأيِ، وتحقيقُه على ما قدّمْنا وبيَّنا.
وأمّا قولُهم: إنّ الإجماع حجّة، والاختلافَ ليسَ بحجّةٍ، فلا نسلِّم أنّ الإجماع بعدَ الخلافِ حجّةٌ، وإنّما يكونُ حجّةً إذا لم يتقدّمْه خلافٌ، وليسَ يمتنعُ أنْ يكونَ حجّةً بشروطٍ: بأنْ لا يعارضَه ما هو أقوى منهُ كالقياسِ معَ نصِّ القرآن أوِ السُّنةِ، ولأنّكم إنْ راعيْتُم فيهِ إحماعَ التّابعينَ، كانتْ مراعاتُنا لإجماع الصّحابةِ على التسويغ أَوْلى؛ لأنه إجماعٌ مِن الصّحابةِ، ثُمَّ إنّه سابقٌ فلا يعتدُّ بإجماع يزِيلُه، ولو كانا سواءً لكفى، لأنّه مُوقِفٌ دليلَهم؛ إذْ ليسَ مراعاةُ إجماعٍ بأَوْلى مِن مراعاةِ إجماعٍ آخرَ.
وأمّا دعواهم: أنّه لا يجوزُ لعامَّةِ التَّابعينَ العملُ بأحدِ قوليِ (1) الصحابة، فلا نسلِّمُ، بلْ يجوزُ العملُ به في عصرِ التّابعينَ.
وأمّا قياسُهم على الخبرينِ إذا تعارضَا، واتَّفقَ أهلُ العصرِ على هِجْرانِ أحدِهما والعملِ بالآخرِ، فإنّما أسقطْنا المتروكَ؛ لأنّه لم يذهبْ إليهِ أحدٌ فكانَ ظاهرُ ذلكَ أنّه منسوخٌ، وليسَ كذلكَ القولانِ ها هنا؛ لأنّه قدْ عملَ بِه فريقٌ مِن الصّحابةِ، فلا يجوزُ إسقاطُ عملِهم، فوِزَانُه أنْ لا يكون بهذا المذهبِ عاملٌ، ولا به قائلٌ، ووزانُ مسألتِنا مِن الخبرينِ أنْ يكونَ قد رَوى أحدَهما بعضُ الصحابةِ وردَّه بعضُهم، فلا يؤثرُ إجماعُ التّابعينَ على هِجرانِه وتركِه.
__________
(1) في الأصل: "قول".

(5/163)


مسألةٌ: إذا اختلف الصّحابةُ على قولينِ لم يَجُز لِمَن بعدَهم إحداثُ قولٍ ثالثٍ، نصَّ عليهِ أحمدُ. وبه قالتِ الجماعةُ، خلافاً لبعضِ الرّافضةِ وبعض الحنفيةِ (1): يجوزُ إحداثُ مذهبٍ ثالثٍ.
فصل
في أدلتنا
منها: أن اختلافَهم على قولينِ اتفاقٌ منهم على إبطالِ قولٍ ثالثٍ، وذلك حكمٌ أجمعوا عليهِ، فلا يجوزُ إحداثُ غيرِه لِمَن بعدَهم، كاتفاقِهم على قولٍ واحدٍ، فإنّه لا يجوزُ للتّابعينَ إحداثُ ثانٍ، كذلك ها هنا.
ومنها: أنّه لو جَوَّزْنا إحداثَ مذهبٍ ثالثٍ لجوّزْنا عليهم الخطأَ في اقتصارِهم على مذهبينِ، كما أنّهم إذا أجمعوا على قولٍ واحدٍ، وجوَّزنا إحداثَ مذهبٍ ثانٍ، كانَ تجويزاً للخطأِ عليهم في ذلك اقتصارُهم على القولِ الواحدِ.
يُوضحُ هذا: أنّ الناس اتفقوا على حصرِ المذاهبِ، فكما أنّ حصرَهم مَنَعَ مِن الزِّيادةِ عليهِ، فكانَ اجتماعُهم هنا على المنع مِن إحداثِ مذهبٍ ثالثٍ.

فصلٌ
في شبهِ المخاِلفِ
فمنها: أن قالوا: طريقُ هذا الوجودُ، وقدْ وُجِدَ ذلكَ في التّابعينَ، فمِن
__________
(1) "مسلم الثبوت " 2/ 235، "تيسير التحرير" 2/ 250، "والاحكام " 1/ 249، "والتمهيد" 3/ 311.

(5/164)


ذلك ما رويَ مِن خلافِ الصّحابةِ في زوج وأبوينِ وزوجةٍ وأبوينِ، فقالَ ابنُ عباسٍ وحدَه: للأمِّ ثلث الأصلِ بعدَ نصفِ الزّوج وربع الزّوجةِ، وقال الباقونَ مِن الصّحابةِ: للأمِّ ثلث الباقي بعدَ نصفِ الزّوج وربع الزوجة (1)، ثمّ جاء التّابعونَ فأحدثُوا قولاً ثالثاً، فقالَ بقولِ ابنِ عباس في زوجةٍ وأبوينِ بعض التّابعينَ وهو ابنُ سِيرِينَ، وبقولِ الباقينَ في زوجِ وأبوينِ بعض التّابعينَ، فلمْ يُنكِرْ عليهم مُنكِرٌ.
وكذلك اختلفتِ الصّحابة في لفظةِ الحرامِ (2) على ستةِ مذاهبَ، فأحدثَ مسروق قولاً سابعاً فقالَ: لا يتعلَّقُ بها حكم. وقال (3): ما أُبالي حَرَّمتُها أو قَصْعةً منْ ثريدٍ (4). فأقرُّوهُ على هذا ولم يُنكِروا عليه.
ومنها: أنَّ اختلافَهما على قولينِ جوّزَ تسويغَ الاجتهادِ، وإحداث ثالثٍ قولٌ صدرَ عن الاجتهادِ، فصارَ. بمثابةِ ما قبلَ استقرارِ الخلافِ.
ومنها: أنْ قالوا: أَجمَعْنا على أنّ الصّحابةَ لو انقرضَ عصرُهم، وماتوا عَن دليلينِ في مسألةٍ لا ثالثَ لهما، جازَ للتّابعينَ أنْ يُحدِثوا دليلاً ثالثاً، كذلكَ إحداثُ قولٍ ثالثٍ ولا فَرْقَ، وهذا صحيح، لأنّه إذا جازَ أنْ يُبيَّنَ بإحداثِ دليلٍ ثالثٍ خفاء الدَّليلِ الثّالثِ عنهم وعثور التابعينَ به، كذلك
__________
(1) أخرجه البيهقي 6/ 227 - 228.
(2) أي: في قوله لامرأته: أنتِ عليَّ حرامٌ. وانظر "العدة" 4/ 1115.
(3) في الأصل: "فقال".
(4) أخرجه عبد الرزاق (11375)، والبيهقي 7/ 352.

(5/165)


جازَ أنْ يَخْفَى عليهم مذهب ثالث يعثرُ عليهِ التابعونَ.

فصلٌ،
في الأجوبةِ عنْ شُبَهم
فأمّا دعواهم وجودَ ذلك مِن بعضِ التابعينَ، وإقرار الباقينَ عليهِ، فلا يمكنُ تحصيلُ ذلك، وأنّهم عرفوا وأقرّوا، ثمّ نحنُ لا نقرُّه على ذلك، بل يكونُ محجوجاً بإجماع الصّحابةِ، ولا يُقبلُ منه هذا القولُ؛ ولأنّ ابنَ سيرينَ عاصرَ الصّحابةَ، والتّابعيُّ إذا عاصرَ الصّحابةَ وهو مِن أهل الاجتهادِ [فهو من أهل الإجماع] (1) لا سيَّما معَ قولِنا باشتراطِ (2) انقراضِ العصرِ لانعقادِ الإجماع.
وأمّا قولُهم: إنّ اختلافَهم على مذهبينِ إجماع منهم على تسويغ الاجتهادِ، فَلَعَمْري إنّ اختلافَهم على قولينِ تسويغ للاجتهادِ في طلبِ الحقً مِن أحدِهما، فأمّا مِن غيرِهما فليسَ ذلكَ في اختلافِهم، وهذا كما لو أجمعوا في حادثةٍ على إبطالِ حكمٍ فيها، فينقطعُ الاجتهاد في ذلك الحكمِ، ثُمّ لا يمنعُ ذلك مِن الاجتهادِ فيها في غيرِ ما أحمعوا على إبطالِه، كذلكَ ها هنا، ويفارقُ هذا إذا لم يستقرًا لخلافُ؛ لأنَّ الإجماع قبلَ الاستقرار لا يمنعُ مِن الخلافِ، وبعدَ الاستقرارِ يمنعُ، كذلك الاختلافُ بمثلِهِ.
__________
(1) ليس في الأصل.
(2) في الأصل: "في شتراط".

(5/166)


وأمّا قياسُهم قولاً ثالثاً على إحداثِ دليلٍ ثالث، فليسَ بصحيح؛ لأنّ إجماعَهم على دليلٍ واحدٍ لا يمنعُ غيرَهم مِن استخراج دليلٍ آخرَ، وإجماعُهم على مذهبٍ واحدٍ وحكمٍ واحدٍ يمنعُ مِن إحداثِ مذهبٍ ثانٍ، ولأنّ إحداثَ دليلٍ ثالثٍ يؤيِّد الحكمَ الذي أجمعتْ عليه الصّحابةُ ويؤكِّدُه، وإحداثُ قولٍ ثالثٍ يخالفُ ما أجمعوا عليهِ، فافترقَا.

فصل
يجوزُ أنْ ينعقدَ الإجماع عنِ القياسِ، وقالَ ابنُ جَريرٍ (1)، والشِّيعةُ، وداودُ، وكلُّ مَن نفى القياسَ: لاينعقد الإجماع عنِ القياسِ، إلاّ أنّ نفاةَ القياسِ لم يسندوا الأجماع إليهِ؛ لأنه ليسَ بحجّة عندَهم، وأمّا ابنُ جريرٍ فإنّه لم يُنبِّه على هذا.
فصل
في دلائِلنا
فمنها: مِن طريقِ الوجودِ وأنّ ذلكَ قد وُجدَ؛ لأنّ الصّحابةَ أجمعتْ على خلافةِ أبي بكرٍ الصِّدّيقِ من طريقِ الاجتهادِ والرأيِ، وأخذِ إمامةٍ وتقديمِ مرتبةٍ مِن إمامةٍ وتقديمٍ في رتبةٍ، فقالتْ جماعة منهم: رَضِيَهُ رسول اللهِ لديننا، وقالَ بعضُهم: نَظرنا فإذا الصّلاةُ عمادُ ديينا، فرضينا لدنيانا مَن رضِيَهُ رسولُ اللهِ لديننا (2)، ومنهم مَن أستدلَّ بقولِه: "إنْ تُوَلُّوا أبا
__________
(1) انظر "البرهان" 1/ 721، و "التبصرة" 372، و "الاحكام" 1/ 239.
(2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 183 عن علي بن أبي طالب.

(5/167)


بكرٍ تجدوهُ قويّاً في أمر اللهِ، ضعيفاً فِى بدنِه" (1)، ومنهم مِن رضِيَهُ فعَقَد (2) له.
ومِن هذا القبيلِ أيضاً وهو الوجودُ: أن المسلمينَ أقرُّوا خالدَ بنَ الوليدِ في مؤتةَ بموضعِ كانوا فيه باجتهادِهم (3)، فصوّبَ [النبي صلى الله عليه وسلم] ذلك وأقرَّهم عليهِ.
(4 وكذلك اتفقوا 4) على قتالِ مانعي الزّكاةِ مِن طريقِ الاجتهادِ، واختلفتْ آراؤُهُمْ فيهِ قياساً على الصلاةِ، فقال أبو بكرٍ (5): واللهِ لا فرقتُ بينَ ما جمعَ الله قالَ الله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] وأجمعوا على تحريمِ شحمِ الخنزيرِ قياساً على لحمِه، وأجمعوا على تقويمِ عتقِ الأَمَةِ في عتقِ الشريكِ قياساً على العبدِ، وأجمعوا على إراقةِ الشَّيْرَج (6) والدبسِ السلسِ والخلِّ قياساً على السَّمْنِ إذا ماتت فيه فأرةٌ، وعلى
__________
(1) أخرجه أحمد 1/ 109 (859)، والبزار (783)، والحاكم 3/ 70 من حديث علي بنحوه، وإسناده ضعيف.
(2) في الأصل: "بعقد"، انظر "العدة" 4/ 1126.
(3) وذلك بعد استشهاد أمراء الغزوة الثلاثة، فاصطلح الناس على خالد. انظر "سيرة ابن هشام" 2/ 373 وما بعدها.
(4 - 4) طمس في الأصل، واستدرك من "العدهَ" 4/ 1127.
(5) انظر الحديث رقم (67) من "مسند الامام أحمد" طبع مؤسسة الرسالة.
(6) معرب من شيره، وهو دهن السمسم، وربما قيل للدهن الأبيض وللعصير قبل أن يتغير: شَيْرَج، تشبيهاً به لصفاته، وهو بفتح الشين. "المصباح المنير" (شرج).

(5/168)


أخذِها وما حولَها مِن جامدِ هذه المائعاتِ قياساً على جامدِ السَّمنِ.
ومنها: لا مِن طريقِ الوجودِ، لكن مِن طريقِ جوازِ ذلك: أنّ القياسَ على الأحكامِ الشّرعيةِ أو أمارةٍ دالَّةٍ على الأحكام، فجازَ اجتماعُ المجتهدينَ على الحكمِ استدلالاً بها وتعويلاً عليها، أو نقولُ: فجازَ انعقاد الإجماع بجهتِه كالكتابِ والسُّنَّةِ.

فصلٌ
في الأسئلةِ على أدلَّتنا
فمنها: أنْ قالوا: إنّ الصّحابةَ عَوَّلوا على النصوصِ فيما ظَهَرَ لنا وفيمالم يَظهَرْ لعلّ نصاً وقعَ إليهم.
فمما (1) ظهرَ: قولُهم لأبي بكرٍ: قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرت أنْ أُقاتلَ النّاسَ حتّى يقولوا: لا إلهَ إلاّ الله، فإذا قالوها عصَموا مِني دماءَهم وأموالَهم" (2) قالَ لهم أبو بكرٍ: أليسَ قدْ قالَ: "إلاَّ بحقِّها" والزّكاةُ مِن حقِّها، وقولُه: قالَ الله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110]، وقال الآخرونَ: آُيكم يَطِيب نفساً أنْ يتقدَّمَ قدمينِ قدَّمَهما رسولُ اللهِ (3).
وهذا استدلالى بقولِه - صلى الله عليه وسلم - وفعلِه، وأمّا بقيَّةُ ما ذكرتُم فيجوزُ (1 أن يكونوا
__________
(1) في الأصل: "فيما".
(2) تقدم تخريجه 1/ 190.
(3) قاله عمر رضي الله عنه، أورده المتقى الهندي في "كنز العمال": (14127).

(5/169)


قد 1) ذهبوا فيه إلى نصوصٍ أيضاً.
ومنها: أنْ قالوا: إنّ قياسَكم إثباتُ إجماع بالقياسِ، وفيهِ خولفتُم، على أنّ الأصلَ الذي قسْتُم عليهِ، وهو الكتابُ والسُّنةُ، طريقُهما السّمْعُ، ويجوز أنْ يتَّفقَ الكلُّ في سماعِه والاستجابةِ له، فأمّا القياسُ فطريقُه الرأيُ، والرأي أبداً يختلف ويبعُدُ أنْ يتفقَ عليه الجماعةُ.

فصل
في الأجوبةِ
أمّا قولهم: الخلافُ في الاحتجاج بالقياسِ فكيفَ استدللْتُم به، فهذا غيرُ ممتنع، لأنّ الدّليلَ لا يُترَك لأجلِ المخالفةِ فيهِ، كما لم يمتنع مِن الاستدلالِ بأدلّةِ العقولِ على السوفسطائيةِ ونفاةِ الحقائقِ، ومِن الاستدلالِ بدليلِ الخطابِ على مَن أنكرَه، وبالإعجازِ على مَن أنكرَ النبوّاتِ.
وأمّا قولُهم: إنّ الكتابَ والسُّنةَ طريقُهما (2) السّمعُ، والقياسَ طريقُه الرأيُ إلاّ أنّ على معانيه أماراتٍ تدلُّ عليهِ، وما كانَ عليهِ أمارات ظاهرةٌ يصيرُ في جوازِ الاتفاقِ عليهِ كالسّمع، بدليلِ القِبلةِ طريقُها الرأيُ والاجتهادُ ثُمّ جازَ اتفاقُ الجميع عليها.
وأمّا قولُهم: احتجوا بالنّصوصِ، فقد أجابَ بغيرِ النّصِّ وما أنكروه؛
__________
(1 - 1) طمس في الأصل.
(2) في الأصل: "طريقه".

(5/170)


وهو قولُه: لا أُفرِّقُ بينَ ما جمعَ الله، وقولُهم: نظرْنا فإذا الصّلاة عماد ديننا فرضِينا لدنيانا مَن رضِيَهُ رسولُ اللهِ لديننا، والصّلاةُ مَقِيسٌ عليها الإمامةُ وهي (1) غيرها.
وأما قولُهم: يجوزُ أنْ يكونَ معَ الصّحابةِ نصٌّ، فلا يجوزُ أنْ يكونَ ذلك؛ لأنّه لو كانَ معهم نصٌّ لما احتجُّوا بالقياسِ، لأنّ العاقلَ لا يترك الدليلَ الأقوى ويَعدِلُ عنه إلى ما دونَه، ولا كانَ بحيثُ يخفى على غيرِهم.

فصل
في شُبههم
فمنها: أنّ الاتفاق غيرُ حاصلٍ على القياسِ، لأنّه ليسَ مِن عصرٍ إلاّ وفيهِ قوم من نُفاةِ القياسِ، فلا يُتَصوَّر اجتماعٌ ينعقدُ مِن طريقِ القياسِ معَ اختلافهم فيهِ.
ومنها: أنّ القياسَ طريقُه الظّنُّ، واختلاف النّاسِ في الظّنونِ يمنعُ اتِّفاقَهم على مُقتضى الظنِّ، وذلكَ. بمثابةِ الأمزجةِ لمّا اختلفت تعذَّرَ إجماعُ الكلِّ على حبِّ الحموضةِ أو الحلاوهِ بحيثُ لا يختلفونَ.
ومنها: أنْ قالوا: طريقُ القياسِ غامضٌ، ومسالِكُه دقيقةٌ، والنّاسُ على غايةِ الاختلاف في مداركِ الظّنونِ، فلا يكادُ يتحصَّلُ اتفاقُهم على مُقْتضاهُ.
__________
(1) في الأصل: "ونعى"

(5/171)


ومنها: في إسنادِ الإجماع: وهو دلالةٌ قطعيَّةٌ، إلى القياسِ: وهو أمارةٌ ظنيَّةٌ ضَعيفةٌ، خروجٌ عن سَمْتِ وضْع الأصولِ شرعاً وعقلاً، ويشهدُ لضعفِ القياسِ: أنَّ مخالف القياسِ لا يُفَسَّقُ ولا يُبدَّعُ، ومَن خالفَ الإجماعَ فسِّقَ وبُدِّعَ، فلا يجوزُ أنْ يستندَ ما هذهِ حالُه في القُوَّةِ إلى ما تلكَ حالُه في الضعفِ، بل دأبُ الأصولِ استنادُ الأضعف إلى الأقوى، كاستنادِ الإجماع إلى قولِ الصَّادقِ: "أمتي لا تجتمعُ على ضلالةٍ"، وإلى كتابِ اللهِ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]،، ويستند قولُ الرَّسولِ إلى دلالةِ المعجِزِ الدالِّ على صدقِه، وتستندُ دلالةُ المعجزِ إلى ما دلَّ العقلُ عليهِ مِن إثباتِ صانع حكيمٍ لا يؤيد كذاباً بالعجِز، فأمّا أنْ يوجدَ في الأصولِ دلالةٌ قطعيةٌ تستندُ إلى أمارةٍ ظنِّيةٍ [فلا] (1).
ومنها أنْ قالوا: الإجماع أصلٌ، والقياسُ فرع، والاجماعُ معصوم عنِ الخطأِ، والقياسُ عُرضةُ الخطأِ، ولهذا قُدِّمَ عليه خبرُ الواحدِ المجوَّزُ عليهِ الكذبُ، فلا يجوزُ أنْ يستندَ الأصلُ إلى الفرع، والمعصومُ إلى المجوَّزِ عليه الخطَأُ.
ومنها: أنّ القياسَ لا يُقطَعُ على إصابتِه، ولا يقطعُ على تخطئةِ مخالفِهِ، ولهذا يكونُ بدخولِه في الرأيِ عُرْضةً للرجوع (2) والنزوع عمّا ذهبَ إليهِ بالرأيِ والقياسِ، والإجماعُ لمجبُ أنْ يكونَ قطعياً، فكيفَ يستندُ ما لا
__________
(1) ليست في الأصل.
(2) فِى الأصل: "الرجوع".

(5/172)


نزوع عنهُ إلى ما يتردَّدُ بينَ المقامِ عليهِ والنزوع عنه؟!

فصل
في الأجوبةِ عنْ شُبههم
فأمّا قولُهم: إنّ الاتفاقَ غيرُ حاصلٍ علىَ القياسِ، وأنّه ما مِن عصرٍ إلاّ وفيهِ نفاةٌ له، فلا (1) نسلِّمُه، بل لم يكنْ في عصرِ الصّحابةِ منكِرٌ له، ولا نافٍ للاستِدْلالِ به، وإنّما حدثَ ذلك فيمن لا يُعتَدُّ بخلافِه؛ إذ لا يُعملُ (2) بخلافِ مَن خالفَ بعدَ إجماع الصّحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم.
على أنّ هذا باطلٌ عليهم بخبرِ الواحدِ، فإنّ أخبارَ الآحادِ لا اتفاقَ على قَبولِها، ومعَ ذلكَ فقد أجازوا إسنادَ الإجماع إلى أخبارِ الآحادِ.
وأمّا قولُهم: إنّ القياسَ طريقُه الظّنُّ، ولا يتفقُ النّاسُ في الآراءِ والظّنونِ كما لا يتفقونَ في الأمزجةِ والشهواتِ والميلِ، فغيرُ صحيح، لأنّ الأماراتِ على الحكمِ إذا وَضَحَتْ، والآراءَ إذا اتفقتْ على طلبِ إصابةِ الحكمِ عندَ اللهِ مع عدمِ الميلِ والهوى والتقليدِ، لم يَبعدِ اتفاق العقلاءِ المنصفينَ على جهةٍ، كجهة القِبْلة إذا اتفقوا على طلبها بأماراتها ودلائلها، لم يَتعَذَّر اتفاقهم على جهة بأنّها هي القِبلةُ، على أنّ هذا باطلٌ بخبرِ الواحدِ، فإنّ عدالته غيرُ معلومةٍ، لكنّها مظنونةٌ. بما يصحبها مِن أماراتَ
__________
(1) في الأصل: "لا".
(2) في الأصل: "يجعل".

(5/173)


عدالتِه وأسبابِ تزكيته، والنّاس مختلفونَ أيضاً في أسبابِ التزكيةِ والأفعالِ القادحةِ في المخبرِ، ولم يمنَعْ ذلك عندَهم بناءَ الإجماع على خبرِه، وحصولَ الاتفاقِ على الحكمِ الذي جاءَ بِه، على أنّه إذا جازَ اتفاقُ العددِ الكثيرِ والجمِّ الغفيرِ على شبهة مثل (1) اليهودُ والنصارى- وهما أُمَّتانِ عظيمتانِ- يستند اعتقادُهم لشُبْهةٍ ظاهرةِ العَوَارِ، فلا وجهَ لاستبعاد اجتماع العدد الكثيرِ، واتفاقِ أهلِ الإجماع على أمارةٍ، ومعلومٌ ما بينَ الأمارةِ والشبهةِ، وفارَقَ ما ذكروه مِن مثلِ الطِّباع والأمزجةِ، فإنّ الطّباعَ مع اختلافِها في أصلِ الخلقةِ مطلقةٌ لا معيقَ لها عن الاختلافِ، ولا داعيَ لها إلى الاتّفاقِ.
فأمّا فِى مسألتنا، فإنّ الأمارةَ الظاهرةَ تدعو إلى مدلولِها، وذلك وجهٌ للاجتماع والاتفاقِ، فيصيرُ كاتِّفاقِهم على جهةِ القِبلةِ وحضورِ الأعيادِ والجُمَع، لما كانَ هناكَ داعٍ -وهو الأمارةُ الدّالةُ- جمعت العددَ الكثيرَ.
وأمّا قولُهم: إنّ طريقَ القياسِ غامضٌ، ومسالكُه دقيقةٌ، فلا يكادُ يتفقُ النّاسُ على مقتضاهُ، فغيرُ صحيح، لأنّ أهلَ الإجماع هم أهلُ اجتهادٍ، ومعلومٌ ما نعتبرُه في أهلِ الاجتهادِ مِن العقلِ والدّينِ، ثُمّ الفهمِ والبحثِ، وبناءِ الأدلّةِ بعضِها على بعضٍ، وإلحاق الشيءِ بنظيرِه، فلا يكاد يشتبِهُ الأمرُ مع هذه الصفاتِ على أنْ يُلقى الَحكمُ مِن جهةِ السَّمع، فمعَ كونِ السَّمع مختلفاً بينَ تخليصِ المجازاتِ عنِ الحقائقِ والفحاوى، ودلائلِ
__________
(1) في الأصل: "وهم". وانظر "العدة" 4/ 1128.

(5/174)


الخطابِ، وتقابلِ الألفاظِ في الظّاهرِ مع اتّفاقِها في المعنى وغريبِ الألفاظِ والمقدَّراتِ المحذوفةِ، وغيرِ ذلك مِن الاشتباهِ يختلف فيهِ أهلُ الاجتهادِ غايةَ الاختلافِ، ولم يَمنَعْ ذلكَ مِن إسنادِ الإجماع إليها وبنائِه عليها.
وأمّا استبعادهم إسنادَ الإجماع: وهو دليلٌ قطعيٌّ، إلى القياسِ: وهو ظنيٌّ، فلا وجهَ لهذا الاستبعاد، لأنّ خبرَ الواحدِ غيرُ مقطوع بصدقِ راويهِ، وغايةُ ما يوجبُ الظنَّ، ومع ذلك يستندُ إليهِ الإجماعُ المقطوعُ بِه وينعقدُ عليهِ، على أنّا قائلونَ. بموجبِ الدليلِ، فإن الأمَّةَ إذا اتفقتْ على حكمٍ بقياسٍ، اتّفقوا على ثبوتِ الحكمِ به، سبقَ إجماعُهم على الحكم إجماعَهم على دليلِ الحكمِ وهو القياسُ، فلا يكونُ القياسُ الذي اتفقوا عليهِ ظنياً، ولا بأسَ بتقديمِ هذا الجوابِ قبلَ المناقضة لهم بخبرِ الواحدِ، وكونُه في الابتداءِ مُجوَّزاً عليه الخطأُ، لا يمنعُ مِن انتهائه إلى القطع، كآحادِ الرُّواة في المتواترِ يجوزُ على آحادِهم الخطأُ، وينتهي خبرُهم عند تكاملِ العددِ المعتبرِ إلى القطع، فصارَ القياسُ الذي اتّفقَ عليه المجتهدودنَ، كتعللِ صاحب الشّريعة بقياسٍ (1) عن رأيٍ معصومٍ.
وأمّا كونُ القياسِ فرعاً، فهوَ فرعٌ لغيرِ الإجماع، لكنّه فرعٌ للكتابِ والسنةِ، وكونُه فرعاً إذا أتّفقَ على كونِه أمارةً دالةً على الحكمِ، قَويَ بالاتفاقِ على كونه أمارةً دالَّةً، فأُعطيَ حكمَ القطع، وبَطَلَ النّظرُ إليهِ بعينِ أنّه فرعٌ، فلا تبقى الاسميةُ فارغةً توهمُ الضعف، على أنّ كونَه فرعاً
__________
(1) في الأصل: "قياس".

(5/175)


ليسَ بأكثر مِن أنّه ضُعِّفَ بكونِه مبنياً على غيرِه، وهذا لا يمنعُ إسنادَ الإجماع إليهِ كخبرِ الواحدِ دلالةٌ ظنِّيةٌ، فجُوِّزَ على راويها الكذبُ، ولم يمنعْ كونها ضعيفةً أن يستندَ الاجماع إليها.
وأمّا قولهم: القياسُ منزوع عنه وغيرُ مقطوع به، فقد تقدَّم أنه ليس فِى هذا القياس المجمع على كونِه أمارةً للحكمِ المتفًقِ عليه، فإنه زالَ عن كونِه متردداً، وإنما ذلك القياسُ في الأصلِ، فهوَ كخبرِ الواحدِ مظنون في كلِّ خبرٍ على انفرادِهِ، فإذا انتهتْ آحاده إلى عددِ التواترِ، خرجَ عن الظنِّ إلى القطع، على أنّه يَبطُلُ بخَبَر الواحدِ، فإنّه قد يَنزِع عنهُ الراوي ويردّه المرويُّ له لنوع مان وعارضٍ، أو غامض تأويلٍ يصرفُ إليه دليل، ولا يمنعُ ذلك بناءَ الإجماع عليه وردَّه إليهِ.

فصل
لا اعتبارَ بقولِ العامّةِ في الإجماع، ولا اعتدادَ بخلافِهم، هذا مقتضى الدليلِ عندي، وذكرَ شيخُنا (1) أنّه مذهبُ أحمدَ -رضيَ الله عنهُ- وذكرَ عنه ما ليسَ بمأخذٍ للمذهبِ؛ لأنه قال: رويَ عن أحمدَ أنه قال في روايةِ ابنِ القاسمِ، وذُكرَ له عن شريح وابنِ سيرينَ، فقال: هؤلاءِ لا يكونون حجّة على مَنْ كانَ مِثلَهم (2) مِن التّابعينَ، كيفَ مَن قبلَهم مِنْ أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟!
__________
(1) يعني أبا يعلى الفرَّاء، انظر "العدة" 4/ 1133.
(2) في الأصل: "قبلهم".

(5/176)


وهذا لا يعطي ما نريده في هذهِ المسألةِ؛ لأن ابنَ سيرينَ وشريحاً مجتهدان يُعتدُّ بإجماعِهم معَ أمثالِهم مِن التَّابعينَ، بلا خلافٍ على المذهبِ أنّه معتدٌّ بإجماعِهم وخلافِهم مع التّابعينَ، ومَن عاصرَ منهم الصّحابةَ، فالصحيحُ أنّه يُعتدُّ بخلافِهم، فلم يبقَ لقولِ أحمدَ في مسألتِنا عملٌ ولا أثرٌ، لم يبقَ إلاّ ما صرّحَ بِه مِنْ نفي الحجّة، ولَعَمْري إن قولَ التّابعي ليسَ بحجّةٍ في عصرِ الصّحابةِ على الصحابةِ، ولا حجّةً على مَن بعدهم، فنَفْيُ الحجّة عَنِ التّابعينَ، لا (1) يعطي نفيَ الاعتدادِ بقولِ العامة لا تصريحاً ولا تنبيهاً، فإذا لم يعط مذهباً كانَ المُعَوَّلُ (2) على الدليلِ، وبه قال الفقهاءُ خلافاً لبعض الأصوليينَ كأبي بكر بن الطيَب الأَشعَرِي.

فصِل
في أدلتنا
فمنها: أن العامِّيَّ لا اجتهادَ له، فنقولُ: ليسَ مِن أهلِ الاجتهادِ، ولا يُعتدُّ بخِلافه، كما لا تُعتبرُ موافقتُه في إجماع المجتهدينَ، كالصبيان.
ومنها: أن العامَّةَ حقُّهم التقليدُ لغيرِهم، وليسَ لهم رُتبةُ الفُتيا ولا رجوع غيرِهم إليهم، فلا يعتدُّ بوِفاقِهم للعلماءِ ولا بخلافِهم، كالمجانين والأطفالِ والفُسَّاقِ.
__________
(1) في الأصل: "فلا".
(2) في الأصل: "المعمول".

(5/177)


ومنها: أنّ الفسَّاقَ مِن العلماءِ المجتهدينَ لا يُعتدُّ بخلافِهم، معَ كونِهم مِن أهلِ الصناعةِ، لأجلِ التُّهمةِ في الدينِ، والعوامُّ العدولُ أوْلَى أن لا يعتدَّ بقولِهم لتحقُّقِنا أنّهم لا معرفةَ لهم بالحجّةِ مِن الشبهة، ولا بتراتيبِ الأدلةِ بعضِها على بعضٍ.
ومنها: أنّ في الاعتدادِ بقولِهم تعطيلٌ لأقوالِ أهلِ العلمِ، وإيقاف لحجّةِ الشّرع على قولِ أربابِ المِهنِ والصَّنائع الزَّرِيَّةِ، المصروفةِ فهومُهم إلى ما نَدَبوا إليهِ نفوسَهم مِن الأعمالِ، ولا يَشَمُّونَ رائحةَ العلمِ بحالٍ، فالمشاورةُ لهم في الآراءِ الدينيَّةِ والاجتهاداتِ الاعتقاديةِ استخفافٌ بحرمةِ أحكامِ الشَّرع، وهذا صحيحٌ؛ لأنّ كلَّ قومٍ يُرجَعُ إليهم فيما يعانونَه ويَخبرُونَه، ولذلك يُرجعُ إلى أهل الصَّنائع في صنائعِهم، وإلى أهلِ الأسواقِ في تقويمِ السلع بحَسَبِ تجارتِهم فيها وخُبْرِهم بأسواقِها، ولا يخلطُ أهلُ صناعةٍ بغيرِ أهلِها في الاعتدادِ بقولِهم فيها، فلا يرجعُ إلى أهلِ تجارةٍ في أعيانِ في تقويمِ ما لاخُبرَ لهم بِه ولا ممارسةَ، ولايُرضى إلاّ بالخُبْرِ العدولِ، ليجمَعَ بينَ الخبرةِ والثِّقةِ، فلا وجهَ لإهمالِ أحكامِ الشَّرع باتفاقِ قولِ الخبراءِ العلماءِ بها على قولِ مَن لا خبرةَ له بها.

فصل
في شُبههم
فمنها: قولُ النبيِّ في: "أمتي لا تَجتمعُ على الخطأِ، ولا تجتمعُ على

(5/178)


ضلالةٍ" (1)، والعامةُ ممَّن يقعُ عليهمُ اسمُ الأمةِ، فلا يُخرجونَ عن عمومِها إلا بدلالةٍ.
ومنها: أن العامّيَّ مكلّف، وهو مِن أهلِ النَّظرِ والاستدلالِ في الأصولِ، بحيث لا يجوزُ لهم التقليدُ فيها، ويأثمونَ بالخطأِ ويثابونَ على الإصابةِ، ويُبَدَّعون إذا اعتقدوا البدعَ، فلا وجه لإخراجِهم مِن الإجماع، ولا لإهمالِ خلافِهم في الأحكامِ.
ومنها: أنّ صاحبَكم أوجبَ عليهم الاجتهادَ في أعيان العلماء حتى اتّفقوا مع أهلِ العلمِ، فأهلُ العلمِ يجتهدونَ في الأحكامِ، والعوامُّ يجتهدونَ في أعيانِ العلماءِ، وذلك نوعُ ترجيح، واستدلال بدلائِلَ توجبُ تقديمَ أحدِهم في ألاتباع (2) دونَ الآخرِ.

فصلٌ
في أجوبتنا عن شُبههم
أمّا الخبرُ، فإنّه خاصٌّ في أهلِ العلمِ، ودلائلنا صارفةٌ لَهُ عنِ العمومِ، كما أخرجت الصبيانَ والمجانينَ والفُسَّاقَ حيثُ لم يكونوا أهلاً، والعوامُّ ليسوا أهلاً لذلكَ، وإنَّما لم يكُنِ العاميُّ أهلاً؛ لأنه إذا قالَ قولاً كانَ حازراً وخارصاً، لا عَنْ تحقيقٍ، ولا يستندُ قولُهُ إلى دليلٍ، فلا يؤنسُ إلى
__________
(1) تقدم تخريجه ص 106.
(2) تحرفت في الأصل إلى: "الايقاع".

(5/179)


قولِه لعدمِ الصناعةِ، كما لا يؤنسُ إلى الفاسق لعدمِ الثِّقةِ بالديانةِ، فالعمومُ مخصوصٌ بهذهِ الدلالةِ وما سبقَ مِن أدلتِنا.
وأمَّا قولُك: إنَّه مكلًفٌ، وله نطقٌ في الأُصولِ، فالفاسقُ مكلفٌ عاقلٌ له نظرٌ في الأصولِ، ولا يكونُ بِعلمهِ مِن أهلِ الفُتيا، ولا يُعْتدُّ باجتهادِه، ولأنَّ الأصولَ أداتُها العقلُ، والعقلُ موجودٌ بكمالِه في حقِّ العامَّةِ، ولا أداةَ للعلمِ الأصولَ سوى العقلِ، وأداةُ هذهِ العلومِ عللٌ مستنبطةٌ، وأدلَّةٌ مرتبةٌ بينّ خاصٍّ وعامٍّ، ومجملٍ ومفسَّر، ومطلق ومقيَّدٍ، ودليلِ خطابٍ، وفحوى خطابٍ، وظاهرٍ، وعمومٍ، واستصحابِ حالٍ.
والقياسُ مراتبُ، وأدواتُ الاجتهادِ كثيرةٌ متنوِّعةٌ لا يُهتَدى إليها إلا بعدَ التعليمِ والتفهيمِ، ومعاناتِها على وجهِ الإدمانِ فيها، والعاميُّ ليسَ مِنْ ذلكَ ولا إليهِ.
وأمَّا اجتهادُهم في أعيانِ العلماءِ، فإئما يعودُ إلى الأَفعالِ، فيتبعونَ الأورعَ والأَنسكَ ومَنْ شاعَ عنْهُ بأنَّهُ الأعلمُ، فأمَّا أَنْ يجتهدوا في طرقِ العلمِ وأدلتِه، فلا، وترجيحُ الأَشخاصِ ليسَ مِن بابِ الاجتهادِ والذي نحنُ فيهِ بشيء.

فصل
ولا يُعتدُّ بخلافِ علماء الأصول، وهم المتكلِّمون، ولا أصحابِ الحديثِ، والنحو، واللُّغة، والحساب، والهندسة، حتى يكونوا من أهل العلم بأصول الفقه وفروعه، قال أحمدُ: لايجوز الاختيار إلاَّ لرجلٍ عالمٍ بالكتاب والسُّنَّة ممَّن إذا وَرَدَ عليه أمرٌ نظرَ فيه الأمورَ وشبَّهها بالكتاب والسُّنًةِ

(5/180)


وذهبَ قوم من المتكلمين إلى أنَّه لا يتمُّ الإجماعُ إلا بالموافقة (1 من جميع أهل العلم 1).

فصِل
في أدلّتنا
فمنها: أنَّ هؤلاء عامَّةٌ في الفقه؛ لأنهم غيرُ عالين بطرقِ الاجتهاد، فلا يُعتدُّ بخلافهم كالعاميِّ.
ومنها: أنّا أجمعْنا على أنّ كلَّ علم مِن هذه العلومِ لا يُرجَعُ عندَ اعتراضِ الشُّبهةِ فيه والاختلافِ إلى غيرِ أهلِه، ولايُعتدُّ بقولِ فقيهٍ لا معرفةَ له باللّغةِ والحسابِ والنّحوِ في شيءٍ مِن ذلكَ، وكذلك أهلُ التقويمِ للسِّلع يرجعُ في تقويمِ كلِّ شيءٍ عندَ التغريمِ إلى أهلِ الخبرةِ بالبَزِّ، وإلى تقويمِ الأَقْواتِ إلى التّجارِ فيها، والخبراءِ بقِيمتِها، وإلى أمثالِ ذلكَ، فلا وجهَ لإدخالِ أربابِ العلومِ في علمِ الفقهِ، وكما لا يُرجعُ إلى الفقهاءِ في علومِ غيرهم على ما بيَّنا.
ومنها: أَنَّ المخالفَ في هذهِ المسألةِ جعلَ رضا أهلِ العلم بغيرِ الفقهِ وسكوتَهم، أو قولَهم: لا نجدُ عندَنا ما يخالفُ ما أجمع عليهِ الفقهاءُ، يكفي (2) ذلكَ في الاعتدادِ به إجماعاً مِن غيرِ إبداءِ دليلٍ، ولا تعلّقٍ بأمارةٍ،
__________
(1 - 1) مطموس في الأصل، واستدركناه من "العدة" 4/ 1136.
(2) في الأصل: "كفى".

(5/181)


وهذا ليسَ بمقامِ المجتهدينَ؛ لأَنَّ المجتهدَ لا يُقنعُ مِنهُ إلاَّ بأنْ يفتيَ بذلكَ، ويشيرَ إلى دليلِه فيهِ، فأمّا إنْ قالَ: لا أُخالفُ، ولا عندِي دليل للموافقةِ، فإنه لا يُقنعُ مِن الفقيهِ عندَهم بِمثلِ هذا، ويقنعُ مِن المتكلمينَ بمثل ذلكَ، فدلَّ على أنّهم كالعوامِّ.

فصل
في شبههم
فمنها: قولُه تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]، وهؤلاءِ مِن جملةِ المؤمنينَ فيلحق الوعيدُ بمُخالفِهم. بعمومِ الآيةِ.
ومنها: قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "أمتي لا تجتمعُ علي ضلالةٍ"، فَشَرطَ لنفي الضلالةِ إجماع أمتِه، فلا نحكمُ بنفي الضلالةِ معَ تخلّفِ هؤلاءِ العلماءِ، وهم مِنْ ساداتِ الأمَّةِ وخيارِهم.
ومنها: أنَّ لهم معرفةً بالأدلةِ والأماراتِ، ومراتبُ الأدلةِ صناعتُهم، ومعرفةُ ما بينَ الحجَّةِ والشُّبهةِ، وفي معرفةِ ذلكَ أُحوِجَ (1) المجتهدونَ إلى رأيِهم، واستخراج الصحيح مِن الفاسدِ، فلا يجوزُ أنْ يُجعَلَ قولُهم لغواً، ولذلكَ مَن عَرَفَ أصولَ الفرائضِ، ولم يعرفْ فروعَها، كانَ مِن أهلِ الفرائض معتدّاً بقولِه، كذلك مَن عرفَ أصولَ الدينِ والفقهِ ولم يعرفِ الفروعَ.
__________
(1) في الأصل: "وأحوج".

(5/182)


فصل
في الأجوبَةِ عنْ شبههم
أمّا الاَيةُ، فإنَّها ترجعُ إلى المؤمنينَ مِن علماَءِ الفروع، وهمُ الفقهاءُ، والدلالةُ على تخصيصِها ما ذكرْناهُ مِن الأدلّةِ.
وأمّا قولُه - صلى الله عليه وسلم -:"أمتي لا تجتمعُ على الخطأِ، ولا على ضلالةٍ"، فيَعُمُّ الأمَّةَ، لكن نحملُه على أهلِ الاجتهاد، وهمُ الفقهاءُ، وتخصيصاتُهم بأدلَّتِنا.
وأمّا قولُهم: إنَّ لهم نظراً، واجتهاداً، ومعرفةً بالأدلّةِ، وبناء الأدلَّةِ بعضِها على بعضٍ، فهو صحيحٌ، لكنْ في أصولِ الدينِ، وهي الكلاَمُ على الجوهرِ والعَرَضِ والاستطاعةِ وبناءِ العرضِ ومَثارِه، فأَمّا الفروعُ التي نحنُ فيها، التي مستندُها الأشباهُ، والسُّنَنُ، والمعاني من الآي، وتراجيح أدلَّة الحلالِ والحرامِ وهذا القبيل، فلا معرفةَ لهم بها، بل هم فيها بمنزلةِ العوامِّ، يوضحُ هذا، ويبيِّنُه: أنَّ الفُتيا لا تجوزُ أنْ تصرفَ إلى آحادِهم، فإذا لم يكنْ آحادُهم مِن أهل الاجتهادِ والأستنباطِ، لم تكنْ جملتُهم مِن أهلِ الإجماع، بخلافِ الفقهاءِ، فإنَّ آحادَهم يُرجعُ إليهِ في الفتوى، فَعُوِّلَ على جماعتِهم في الإجماع، وهؤلاءِ لما لم يُعَوَّل على آحادِهم في أَصلِ الفُتيا، لم يُعوَّلْ عليهم في الإجماع.